[الْفَهْمُ السَّدِيدُ مِنْ إنْزَالِ الْحَدِيدِ]
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي نَظَرْت يَوْمًا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ، فَقِيلَ نَزَلَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدِ الْكِلْبَتَانِ وَالسِّنْدَانِ وَالْمِطْرَقَةِ وَالْمِيقَعَةِ وَالْإِبْرَةِ؛ وَالْمِيقَعَةُ خَشَبَةُ الْقَصَّارِ الَّتِي يَدُقُّ عَلَيْهَا، وَعَنْ الْحَسَنِ {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] خَلَقْنَاهُ، كَقَوْلِهِ {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر: 6] وَذَلِكَ أَنَّ أَوَامِرَهُ تَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَقَضَايَاهُ وَأَحْكَامُهُ، فَاسْتَحْسَنْت هَذَا الْقَوْلَ، وَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْإِنْزَالِ عَنْ الْخَلْقِ وَالْعَلَّاقَةُ بَيْنَهُمَا مَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ الْأَوَامِرَ وَالْقَضَايَا وَالْأَحْكَامَ نَازِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِحَسَبِ تَسْمِيَةِ الْمَخْلُوقِ بِالْمُنْزَلِ لِذَلِكَ، لِأَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ الْقَضَايَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَضَايَا، ثُمَّ فَكَّرْت فِي كَوْنِ الْقَضَاءِ وَالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ نَازِلَةً مِنْ السَّمَاءِ فَوَقَعَ لِي أَنَّهَا جِهَةُ الْعُلُوِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ وَمَقْضِيٌّ عَلَيْهِ وَمَحْكُومٌ عَلَيْهِ. وَالْمُنَاسَبَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ مَحَلُّهُ التَّسَافُلُ وَالذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَالْأَوَامِرُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ مَحَلُّهَا الْعُلُوُّ وَالِاسْتِعْلَاءُ وَالْقَهْرُ، وَذَلِكَ عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ، وَالْعُلُوُّ الْمَعْنَوِيُّ يُنَاسِبُهُ الْعُلُوُّ الْحِسِّيُّ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأَوَامِرُ تَأْتِي مِنْ جِهَةِ الْعُلُوِّ؛ وَالسَّمَاءُ مُحِيطَةٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ فَجُعِلَتْ الْأَوَامِرُ مِنْهَا، وَالْمَأْمُورُ فِي الْحَضِيضِ مِنْهَا لِيَرَى نَفْسَهُ أَبَدًا سَافِلًا رُتْبَةً وَصُورَةً تَحْتَ الْأَوَامِرِ لِيَنْقَادَ إلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ، حَتَّى لَا تَتَكَبَّرَ نَفْسُهُ فَيَهْلَكُ، فَهَذِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي تَخْصِيصِ السَّمَاءِ بِمَجِيءِ الْأَوَامِرِ مِنْهَا، وَكَانَ فِي الْإِمْكَانِ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَعَلَّ لِأَجْلِ ذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ الْعَالَمَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَسْكَنَهَا مَلَائِكَتَهُ الَّذِينَ هُمْ سُفَرَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَحَمَلَةُ أَمْرِهِ وَأَحْكَامِهِ وَخَلَقَ فَوْقَ ذَلِكَ عَرْشَهُ وَكُرْسِيَّهُ لِيُرَكِّزَ فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ عَظَمَتَهُ وَاسْتِعْلَاءَ أَوَامِرِهِ عَلَيْهِمْ لِيَنْقَادُوا لَهَا. وَيُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] وَلَيْسَ ذَلِكَ لِتَحَيُّزِهِ تَعَالَى فِيهَا، وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ السَّمَاءِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَارْتَكَزَتْ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ فِي نُفُوسِ الْعِبَادِ رَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِي الدُّعَاءِ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ لِنُزُولِ الْقَضَاءِ لَا لِتَحَيُّزِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ تَدْبِيرٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَرِدُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأَوَامِرِ وَمَا يَصْلُحُهُمْ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْعُقُولُ، وَحَسْبُ الْعَبْدِ مَعْرِفَةُ نَفْسِهِ بِالذِّلَّةِ وَالْعَجْزِ وَالْجَهْلِ وَالتَّكْلِيفِ وَامْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَكُلِّفَ وَاجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَتَعْظِيمِ الرَّبِّ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا وَعَدَمُ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَالْعُقُولُ تَقْصُرُ دُونَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
الكتاب: فتاوى السبكي (الجزء1 -ص 120) المؤلف: أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفى: 756هـ)
_________________ مدد ياسيدى يارسول الله مدديااهل العباءة .. مدد يااهل بيت النبوة اللهم ارزقنا رؤية سيدنا رسول الله فى كل لمحة ونفس
|