موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 3 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: تفسير أول سورة النجم
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين إبريل 16, 2018 4:15 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2778
(في تفسير أول سورة النجم:

قال الله سبحانه وتعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم: 1: 18).


الكلام على هذه الآيات من وجوه:

الأول: في سبب نزولها:

النهر: «سببه قول المشركين إن محمدا يختلق القرآن» .



الثاني: في مناسبة هذه السورة لما قبلها:
قال الإمام الرازي والبرهان النسفي رحمهما الله، قد قيل: إن السّور التي تقدمت وهي التي أقسم الله تعالى فيها بالأسماء دون الحروف: الصّافّات والذاريات والطور وهذه السورة بعدها، فالقسم في الأولى لإثبات الوحدانية، كما قال: {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ} (الصافات: 4).
وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء، كما قال تعالى: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} (الذاريات: 5، 6).
وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} (الطور:7،8). وفي هذه السورة لبيان النبوة كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} (النجم: 1) إلخ. لتكمل الأصول الثلاثة: الوحدانية والحشر والنبوة» .


والوجه الآخر في المناسبة لما قبلها هو أن الكفرة بالغوا في المكابرة والمعاندة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا فيما نطق به من الكلام، كما مرّ بيانه في تلك السورة، فقال في هذه ما يدل على صدقه في دعواه، وصدق ما نطق به وأجراه مؤكّدا بالقسم.



وأما مناسبة أول هذه السورة إلى آخر ما قبلها فمن وجوه:
أحدها: أن اختتام تلك السورة بالنجم وافتتاح هذه السورة بالنجم مع القسم.

ثانيها: أنه تعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر في آخر تلك السورة، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} (الطور: 48) والصبر أمر صعب، فذكر في أول هذه السورة ما يدل على علو منزلته وعظم شأنه ليسهل عليه ذلك الأمر.

ثالثها: لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ} (الطور: 49) بيّن له أنه جزاه بخير، فقال: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم: 2] وزاد الشيخ رحمه الله تعالى، في مناسبته وجها آخر، وهو أن سورة الطور فيها ذكر ذرّية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم، وهذه فيها ذكر ذرّية اليهود في قوله تعالى: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم: 32] .
فقد روى ابن المنذر وابن حبان عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: «كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبيّ صغير هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقيّ أو سعيد» .
فانزل الله تعالى عند ذلك: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية. ولما قال الله تعالى هناك في المؤمنين: (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور: 21] أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين مع نفعهم بعمل آبائهم، قال هناك في الكفار أو في الكبار: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم: 39] ، خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار» . انتهى.


أبو حيان رحمه الله: «هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر، لأنه تعالى قال: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) [الطور: 33] أي اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشّعر، وقالوا هو كاهن، هو مجنون، فأقسم تعالى أنه صلى الله عليه وسلم ما ضلّ، وأن ما أتى به هو الوحي من الله. وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها في الحرم، والمشركون يسمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفي هذا» .
قلت: ذكر أبي لهب هنا غريب.

روى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: أول سورة نزلت فيها سجدة، النجم، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته قتل كافرا وهو أمية بن خلف.

وروى ابن مردويه وابن خلف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد من حضر من الجن والإنس والشجر، زاد ابن أبي شيبة إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة، وسمى أحد الرجلين المبهمين في الرواية السابقة، والثاني الوليد بن المغيرة كما عند ابن سعد.

وروى البخاري عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.



الثالث: في الكلام على القسم الواقع هنا:
الشيخ رحمه الله تعالى في الإتقان: وقد قيل ما معنى القسم منه تعالى؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن يصدّق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده، وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا.


وأجاب الأستاذ- بضم الهمزة وبالذال المعجمة- أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجّة فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران: 18] وقال: (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس:53]
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) [الذاريات: 22-23]، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟
ولا يكون القسم إلا باسم معظّم، وقد أقسم الله تعالى بنفسه، في القرآن في سبعة مواضع، بقوله:
(قُلْ إِي وَرَبِّي) [يونس: 53]، (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن: 7]، (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [مريم 68]، (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر: 92]، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [النساء: 65]، (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج: 40] ، والباقي كله قسم بمخلوقاته.
فإن قيل: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟ قلنا أجيب عنه بأوجه:
الأول أنه على حذف مضاف أي ورب النّجم. وكذا الباقي.
الثاني: أن العرب كانت تعظّم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه.
الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظّمه المقسم ويجلّه وهو فوقه. والله سبحانه وتعالى ليس فوقه شيء، فأقسم تارة بنفسه وتارة بموضوعاته لأنها تدل على بادئ وصانع.


ابن أبي الإصبع رحمه الله تعالى في كتابه أسرار الفواتح: «القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.

وروى ابن حاتم عن الحسن قال: «إن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى ...
والقسم إما ظاهر وإما مضمر وهو قسمان:
قسم دلّت عليه اللام نحو: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) [آل عمران: 186]
وقسم دلّ عليه المعنى نحو: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم: 71] تقديره: والله ...
وأكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ) [الأنعام: 109] (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) [النساء: 62] ولا تجد الباء مع حذف الفعل، ومن ثم أخطأ من جعل قسما بالله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] ، (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) [الأعراف: 134] . (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة: 116] .


الإمام الرازي رحمه الله تعالى: «أقسم تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى: (وَالذَّارِياتِ)، وفي بعضها بإفراد كقوله: (وَالطُّورِ)، ولم يقل والأطوار والبحار، والكلمة فيه أن أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات. والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حيث يقع القسم عليها، بل هي متبدّلة بأفرادها، مستمرة بأنواعها، والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدّل والتغيّر، فقال: وَالذَّارِياتِ إشارة إلى النوع المستمر لا إلى الفرد غير المستقر. وأما الجبل فهو ثابت غير متغيّر عادة، فالواحد من الجبال قائم زمانا ودهرا فأقسم في ذلك بالواحد.
وكذلك قوله: «وَالنَّجْمِ» ، ولو قال: والريح، لما علم المقسم به وفي الطور علم. والسّور التي افتتاحها القسم بالأسماء دون الحروف، كان القسم فيها لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي:
الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان.
ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي: الصّافَّات، حيث قال تعالى فيها: (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الصافات: 4]؛ وذلك لأنهم وإن كانوا يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا، على سبيل الإنكار فقد كانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرّحون بالتوحيد، وكانوا يقولون: (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الزمر: 3] وقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [العنكبوت: 61]. فلم يبالغوا في الحقيقة والإنكار المطلوب الأوّل، فاكتفي بالبرهان ولم يكثر من الأيمان في سورتين منها أقسم لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه رسولا في إحداهما بأمر، وهو قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم: 1، 2]. وفي الثانية بأمرين وهو قوله تبارك وتعالى: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى: 1، 2، 3]؛ وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن العظيم، كما في قوله تعالى: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس: 1، 2، 3].
وقد ذكرنا الحكم فيه أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأقسم به ليكون في القسم إشارة واقعة إلى البرهان. وفي باقي السّور كان المقسم عليه الحشر والجزاء، وما يتعلق به يكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد، وعدم استيفاء ذلك في سور القسم بالحروف.
وأقسم تعالى بمجموع السلامة المؤنثة في خمس سور، ولم يقسم بمجموع السلامة المذكرة في سورة أصلا. فقال: (وَالصَّافَّاتِ) [الصافات: 1] ، (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات: 1] ، ولم يقل «والصالحين من عبادي» ، ولا المقربين، إلى غير ذلك، مع أن الذكور أشرف وذلك لأن المجموع بالواو والنون في الأمر الغالب، لمن يعقل.

وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهر الأمر فيه، وحصل الاعتراف منهم، ولا للرسالة لحصول ذلك في سورة القسم بالحروف والقرآن، بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح وعقاب الطالح، ففائدة ذلك راجعة إلى من يعقل فيلزم أن يكون القسم بغيرهم.
والسّور التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال: (وَالصَّافَّاتِ) وفي السّور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات فقال: (وَالذَّارِياتِ)، (وَالْمُرْسَلاتِ)، (والنَّازِعاتِ)، (وَالْعادِياتِ)؛ وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق. وفي السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين، وهي التي تجمع وتفرّق، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تبارك وتعالى» .


وقال الإمام أيضا في موضع آخر: «اعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيرا؛ لأنه أقسم على الوحدانية في سورة الصافات، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة، وبأمرين في سورة «والضحى» ، وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به؛ فإن قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل: 1]، وقوله: (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس:1]، وقوله تعالى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج: 1]، إلى غير ذلك، كلها في الحشر وما يتعلق به؛ وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة، كلها عقلية كما قيل:
وفي كلّ شيء له آية ... تدل على أنه واحد

ودلائل النبوة أيضا كثيرة، وهي المعجزات المشهورة المتواترة، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل، وهذا أظهر، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع، فأكثر فيه القسم ليقطع به المكلّف ويعتقده اعتقادا جازما.


الرابع: في الكلام على النَّجْمِ:
صاحب القاموس: «في المطلع النّجم الكوكب الطالع والجمع أنجم وأنجام ونجوم ونجم، والنّجم أيضا الثريّا، والنّجم من النبات ما نجم على غير ساق، والنّجم الوقت المضروب» .


اللباب لابن عادل: «سمّي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجما» ، يقال: نجم السّنّ والقرن والنّبت إذا طلع، زاد القرطبي: «ونجم فلان ببلد كذا أي خرج على السلطان» .


قال الإمام الرازي: «ففي هذا القسم استدلال بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه، وهو كقوله تعالى: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس: 1، 2، 3] وقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية: يعني الثّريّا إذا سقطت وغابت، وهويّها مغيبها، وهو الرواية الأخرى عن مجاهد، والعرب إذا أطلقت النّجم تعني به الثريا، قال الشاعر:
إذا طلع النجم عشاء ... ابتغى الرّاعي كساء
وفي الحديث: «ما طلع نجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع» ، رواه الإمام أحمد، وأراد بالنجم الثريا. وهذا القول اختاره ابن جرير والزمخشري. وقال السمين إنه الصحيح، لأن هذا صار علما بالغلبة» ، وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النّجم في السماء الثريا ... والثّريا في الأرض زين النّساء


قال الإمام الرازي: «ومناسبة هذا القول إن الثريا أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا تلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد. والنبي صلى الله عليه وسلم يتميز عن الكل بآيات بيّنات، فأقسم به، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبلد حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت بالشتاء أو الخريف تقل الأمراض. والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر، قلّ الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية» .
وقال أبو حمزة، بالحاء المهملة والزاي: «والثمالي- بضم المثلثة وتخفيف الميم وباللام: يعني النجوم إذا انتثرت يوم القيامة. وقيل أراد به الشّعرى. وقال السدّي والثوري: «أراد به الزّهرة» . وقال الأخفش: «أراد به النّبت الذي لا ساق له، ومنه قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن: 6] وهويّه سقوطه.
قال الإمام الرازي: «لأنّ النّبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوة العقلية أولى بالإصلاح، وذلك بالرسل، وإصلاح السبل، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي في السماء لأنها أظهر عند السامع. وقوله تعالى: إِذا هَوى أدلّ عليه، ثم بعد ذلك القرآن لما فيه من الظهور، ثم الثريا.

وقال جعفر بن محمد- رضي الله عنهما-، كما نقله القاضي: «أراد به النبي- صلى الله عليه وسلم- إذ نزل ليلة المعراج والهويّ النزول» .

صاحب السراج: «ويعجبني هذا التفسير لملاءمته من وجوه، فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصا لما هدي إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلة الصلاة من الدين، ومنها أنه أضاء في السماء والأرض. ومنها التشبيه بسرعة السّير، ومنها أنه كان ليلا، وهو وقت ظهور النّجم، فهو لا يخفى على ذي بصر وأما أرباب البصائر فلا يمترون كأبي بكر الصديق- رضي الله عنه.»
. انتهى.

وقال مجاهد في رواية عنه: «نجوم السماء كلها» . وجزم أبو عبيدة وقال: ذهب إلى لفظ الواحد بمعنى الجمع، قال الشاعر:
فبانت تعدّ النّجم في مستحيرة
أي تعدّ النجوم.
قال ابن جرير: «وهذا القول له وجه، ولكن لا أعلم أحدا من أهل التأويل قاله» . انتهى.

قلت: قد تقدم نقله عن مجاهد، ونقله الماوردي عن الحسن أيضا.

وقال الإمام الرازي: «ومناسبة ذلك أن النجوم يهتدى بها فأقسم بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة» .

وقال ابن عباس في رواية عكرمة: أراد التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع. وهذا قول أبي الحسن الماوردي. وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورسولا، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن، كان يخبرهم بالحوادث، فسألوه عنها فقال: انظروا إلى البروج الاثني عشر فإن انقضّ منها شيء فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقضّ منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فانزل الله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)، هوى لهذه النبوة التي حدثت.

الإمام الرازي: «إن الرجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض.


الخامس: في الكلام على «هوى»:
السمين: «العامل في «إذا» إما فعل القسم المحذوف وتقديره: أقسم بالنجم وقت هويّة».
قال أبو البقاء وغيره: «وهو مشكل، فإن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال. و «إذا» لما يستقبل من الزمان، فكيف يتلاقيان؟.

الطيبي نقلا عن المقتبس: «الوجه أن «إذا» قد انسلخ عنها معنى الاستقبال، وصار للوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا احمرّ البسر، أي وقت احمراره، فقد عرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقت الغيبة عنه، بقوله: آتيك» .

قال الشيخ عبد القاهر: «إخبار الله تعالى بالمتوقع مقام الإخبار بالواقع، إذا لا تكلف فيه، فيجري المستقبل مجرى المحقّق الماضي» .

السمين: «وإما مقدّر على أنه حال من النّجم، إذ أقسم به حال كونه مستقرا في زمان هويّه.
وهو مشكل من وجهين:
أحدهما: أن النّجم جثّة والزمان لا يكون حالا عنها، كما لا يكون خبرا.
الثاني: «إذا» للمستقبل، فكيف تكون حالا؟.

وأجيب عن الأول: المراد بالنجم القطعة من القرآن، والقرآن، نزل منجّما في عشرين سنة. وهذا تفسير ابن عباس وغيره.
وعن الثاني: بأنها حال مقدّرة، وأما العامل فهو نفس النجم الذي أريد به القرآن، قاله أبو البقاء.
وفيه نظر؛ لأن القرآن لا يعمل في الظّرف، إذا أريد به أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص.
وقد يقال إن النّجم بمعنى المنجّم كأنه قيل: والقرآن المنجّم في هذا الوقت» .


المصباح: هوى يهوي من باب ضرب هويّا بضمّ الهاء وفتحها، وزاد ابن القوطية هواء بالمدّ، سقط من أعلى إلى أسفل قاله أبو زيد وغيره» . قال الشاعر:.
فشج بها الأماعز وهي تهوى ... هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء
يروى بالفتح والضّمّ.


الراغب: «الهوى سقوط من علو» . ثم قال: «والهويّ ذهاب في انحدار والهويّ ذهاب في ارتفاع».
وقيل: «هوى في اللغة مقصده السفل أو مصيره إليه وإن لم يقصده» .
وقال أهل اللغة: هوى بفتح الواو يهوي هويا سقط من علو، وهوى يهوى هوى أي صبا.

القرطبي: هوى وانهوى فيه لغتان بمعنى وقد جمعهما الشاعر في قوله:.
وكم منزل لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي
النيق بكسر النون المشدّدة أرفع موضع في الجبل.


الإمام الرازي: «الفائدة في تقييد القسم بالنجم بوقت هويّه أنه إذا كان في وسط السماء بعيدا عن الأرض لا يهتدي به السّاري، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال: فإذا زال تبين بزواله، وتميّز جانب عن جانب، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم خفض جناحه للمؤمنين، وكان على خلق عظيم وخصّ الهويّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا. أما الدنيوي فلما ذكر، وأما الديني فكما قال الخليل صلى الله عليه وسلم (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام: 76] وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه، وقد كان من المشركين من يعبده، فنبّه بهويّه على عدم صلاحيته للإلهية، وهويّه أفوله.


السادس: في الكلام على قوله: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى):

السمين: «هذا جواب القسم» .

الإمام الرازي والبرهان النسفي: أكثر المفسّرين قالوا: لا نفرّق بين الضلال والغيّ.
وقال بعضهم: إن الضلال في مقابله الهدى، والغيّ في مقابله الرّشد، قال تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) [الأعراف: 146] ، وتحقيق الفرق فيه أن الضلال أعمّ استعمالا في المواضع، تقول: ضلّ بعيري ورحلي ولا تقول: غوى، فالمراد من الضلال ألا يجد السالك إلى مقصده طريقا مستقيما. والغواية ألا يكون له إلى القصد طريق مستقيم، ويدل على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السّداد: إن سعيه غير رشيد، ولا تقول: إنه ضال. فالضّالّ كالكافر، والغاوي كالفاسق، فكأنه تعالى قال: (ما ضَلَّ) أي ما كفر، ولا أقل من ذلك، فما فسق، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6] الآية.
أو يقال: الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.

ويحتمل أن يكون معنى «ما ضلّ» أي ما جنّ، فإن المجنون ضالّ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى: (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 2] الآية.
فقوله: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) [القلم: 3] ، إشارة إلى أنه ما غوى بل هو رشيد مرشد إلى حضرة الله تعالى. وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4] ، إشارة إلى قوله هنا: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم: 3] ، فإن هذا خلق عظيم.
وقد أشار قوله تعالى: (ما ضَلَّ) إلى أنه على الطريق، (وَما غَوى) إشارة إلى أنه على الطريق المستقيم (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) إلى أنه مسلك الجادّة، ركب من الطريق، فإنه إذا ركب متنه كان أسرع وصولا إلى المقصد.
ويمكن أن يقال: إن قوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) دليل على أنه ما ضلّ وما غوى، وتقديره: كيف يضلّ أو يغوي وهو لا ينطق عن الهوى؟ وإنما يضل من يتبع هواه، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).


القرطبي: وقيل ما غوى ما خاب مما طلب قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس، ثم يجوز أن يكون إخبارا عما بعد الوحي، ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحّدا لله. وهو الصحيح.



السابع: في الكلام على قوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى):
قال [تعالى] أولا: «ما ضلّ» و «وما غوى» ، بصيغة الماضي، وعبّر هنا بصيغة المستقبل، وهو ترتيب في غاية الحسن، أي ما ضلّ حين اعتزلكم وما تعبدون حين اختلى بنفسه. وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل شاهدا عليكم، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا، والله سبحانه وتعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب، فقال تعالى: ما ضَلَّ في صغره لأنه لا ينطق عن الهوى.


ابن عادل: «فاعل ينطق إما ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر، وإما ضمير القرآن كقوله تعالى: (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) [الجاثية: 29] .


اللباب: قال النحاس: «قول قتادة أولى وتكون» «عن» على بابها أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله تعالى؛ لأن بعده (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم: 4] .
وقيل: هو بمعنى الباء، أي ما ينطق بالهوى، أي ما يتكلم بالباطل؛ وذلك أنهم قالوا: إن محمدا يقول من تلقاء نفسه» .


المصباح: الهوى مقصور مصدر هويته من باب تعب إذا أحببته وعلقت به، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها عن الشيء ثم استعمل في ميل مذموم فيقال اتّبع هواه» .


الإمام البيهقي: «وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنه المحبة، لكن من النفس، يقال هويته بمعنى أحببته. والحروف التي في هوي تدل على الدّنوّ والنزول والسقوط ومنه الهاوية، فالنفس إذا كانت دنيّة وتركت المعالي وتعلّقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمّارة بالسوء» .

الشعبي: «إنما سمّي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه» .


وقال بعض الحكماء: «الهوى إله معبود، له شيطان شديد، يخدمه شيطان مريد، فمن عبد أوثانه، وأطاع سلطانه، واتّبع شيطانه، ختم الله تعالى علي قلبه، وحرم الرّشاد من ربّه، فأصبح صريح غيّه، غريق ذنبه.
وقال عز من قائل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23]
وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فالمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والحكم بالعدل في الرضا والغضب، والاقتصاد في الفقر والغنى، والمهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء برأيه». رواه البرّار عن أنس.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله، أعظم عند الله من هوى متّبع». رواه الطبراني عن أبي أمامة.

وقال بعض الحكماء: «الهوى خادع الألباب، صادّ عن الصواب، يخرج صاحبه من الصّحيح إلى المعتلّ، ومن الصريح إلى المختلّ، فهو أعمى يبصر، أصم يسمع» . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حبّك الشيء يعمي ويصم».

وقال آخر: «على قدر بصيرة العقل يرى الإنسان الأشياء، فمن سلم عقله من الهوى يراها على حقيقتها، والنفس الكدرة المتبعة لهواها ترى الأشياء على طبعها.

وقيل كان على خاتم بعض الحكماء: «من غلب هواه على عقله افتضح» .

وقال ابن دريد في مقصورته:
وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا) اهـ


سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 22-34) باختصار

_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: تفسير أول سورة النجم
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين إبريل 16, 2018 6:53 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2778
(الثامن: في الكلام على قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى):

الإمام الرازي: «هذا تكملة للبيان، وذلك أن الله تعالى لما قال: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى كأَنّ قائلا يقول فعمّ ذا ينطق، أعن الدليل والاجتهاد؟ فقال: لا، إنما ينطق عن حضرته تعالى بالوحي، وهذا اللفظ أبلغ من أن لو قيل: هو وحي يوحى. وكلمة «إن» استعملت مكان «ما» للنّفي، كما استعملت «ما» للشرط مكان «إن» .

اللباب: «يوحى صفة لوحي، وفائدة المجيء لهذا الوصف أنه ينفي المجاز، أي هو وحي حقيقة لا مجرد تسمية كقولك: هذا قول يقال. وقيل تقديره: يوحى إليه، ففيه مزيد فائدة» .

ونقل القرطبي عن السجستاني أنه قال: «إن شئت أبدلت إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى من ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ قال ابن الأنباري: وهذا غلط لأن إن الخفيفة لا تكون مبدلة من «ما» بدليل أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد» .


وروى الداري عن يحيى بن أبي كثير قال: «كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن» .

وفي الصحيحين أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة بعد ما تضمّح بالخلوق؟ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت. فجاءه الوحي، ثم سري عنه، فقال: أين السائل؟ فجيء به فقال: انزع عنك الجبّة واغسل أثر الطّيب واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك.

وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الرضا والغضب. فأمسكت عن الكتابة حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: «اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج مني إلا حقا».

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أقول إلا حقاً» .

وقال بعض أصحابه: «إنك تداعبنا يا رسول الله، قال: إني لا أقول إلا حقاً».

وروى الإمام أحمد والطبراني والضياء في صحيحة عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليدخلنّ الجنّة بشفاعة رجل مثل الحيّين أو مثل أحد الحيّين ربيعة ومضر. فقال رجل: يا رسول الله وما ربيعة ومضر؟ قال: إني ما أقول إلا ما أقوّله»
- الثاني بضم الهمزة وفتح القاف والواو المشدّدة. أي ما يقوّله الله من الوحي، ولهذا مزيد بيان في أبواب عصمته.

الإمام الرازي، «هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور، فيه وجهان:
أشهرهما أنه ضمير معلوم، وهو القرآن، كأنه تعالى يقول: «ما القرآن إلا وحي» ، وهذا على قول من قال: ليس المراد بالنجم القرآن، وأما على قول من قال: هو الوحي فضمير مذكور.
والوجه الثاني: أنه عائد إلى مذكور ضمنا، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه؛ وذلك لأن قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى في ضمنه النطق وهو كلام وقول، فكأنه تعالى يقول: وما كلامه ولا نطقه إلا وحي.

وفيه وجه آخر، وهو أن قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم: 3] ردّ على الكفرة حيث قالوا: قوله قول كاهن، وقالوا: قوله قول شاعر، فقال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم: 4]، وليس بقول شاعر كما قال تعالى: (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة: 41، 42] .
وقوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)، أبلغ من قول القائل: هو وحي، وفيه فائدة غير المبالغة، وهي أنهم كانوا يقولون: هو قول كاهن، هو قول شاعر. والمراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال: ما هو كما تقولون، وزاد فقال: بل هو وحي.


أنوار التنزيل: «احتجّ بهذه الآية من لم ير الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم. وأجيب عنه بأنه إذا أوحي إليه أن يجتهد كان اجتهاده وما يسند إليه واجبا وفيه نظر لأن ذلك حينئذ بالوحي» .


الطيبي «هذه الآية واردة في أمر التنزيل وليس فيها لمستدلّ أن يستدلّ شيئاً من أمر الاجتهاد نفيا ولا إثباتا، لأن الضمير في «هو» للقرآن، بدليل من فسّر النجم بنجوم القرآن» .
وبسط الكلام على ذلك، ثم أورد حديث طلحة بن عبيد الله في تأبير النخل، وسيأتي مع الكلام عليه في أبواب عصمته صلى الله عليه وسلم.


وقال الإمام الرازي: «القول بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يجتهد خلاف الظاهر: فإنه في الحرب اجتهد وحرّم، قال الله تعالى: (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) [مريم: 1]، وأذن، قال الله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة: 43] .



التاسع: في الكلام على قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى):

التّبيان: «أخبر تعالى عن وصف من علّمه بالوحي أنه مضادّ لأوصاف الشيطان معلّم الضلالة والغواية، وهذا نظير قوله تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير: 20]

وفي وصفه بذلك تنبيه على أمور:
الأول: أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه وأن ينالوا منه شيئا أو يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه.

الثاني: أنه موال لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادّ له وناصر، كما قال تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم: 4] الآية. ومن كان هذا القويّ وليّه ومن أنصاره وأعوانه ومعلّمه. فهو المهديّ المنصور. والله هاديه وناصره.

الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليّه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك.

الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أمر به بقوته فلا يعجز عن ذلك مواد له كما أمر» .


السمين: «فاعل علّمه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو الظاهر.
قال الماوردي والقرطبي إنه قول الجميع إلا الحسن، فإنه، قال هو الباري تعالى لقوله عزّ وجلّ: (الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن: 1، 2] ويكون «ذو مرّة» تمام الكلام» .


اللباب: «يجوز أن تكون هذه الهاء للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر، فيكون المفعول الثاني محذوفا أي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الوحي أي الموحى، ويجوز أن يكون للقرآن والوحي، فيكون المفعول الأول محذوفا أي علمه النبي.


الإمام الرازي: «الأولى أن يقال الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، تقديره علّم محمدا شديدا القوى جبريل، ويكون عائدا إلى صاحبكم، تقديره: ما ضلّ صاحبكم، وشديد القوى هو جبريل، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ثم في قوله: شَدِيدُ الْقُوى فوائد:

الأولى: أن مدح المعلّم مدح للمتعلّم، فلو قال: علّمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي صلّى الله عليه وسلم فضيلة ظاهرة.

الثانية: أن فيه ردّا عليهم بحيث قالوا: أساطير الأوّلين، فقال: لم يعلّمه أحد من الناس علّمه شديد القوى.

الثالثة: فيه الوثوق بقول جبريل صلى الله عليه وسلم، ففي قوله تعالى: شَدِيدُ الْقُوى جميع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل على ما عرف، وكذلك قوة الحفظ، فقال: (شديد القوى) ليجمع هذه الشرائط، فيصير كقوله تعالى: (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير: 20، 21] .


اللباب: «شديد القوى من كافة الصفة المشبهة لمرفوعها فهي غير حقيقية، هذا ما جزم به الزمخشري وتابعوه» .
وقال صاحب الكفيل: «بل هي مضافة إلى مفعولها، وبسط الكلام على ذلك، والشديد البيّن القوة».


روى ابن عساكر عن معاوية بن قرّة- بضم القاف وتشديد الراء- رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما أحسن ما أثنى عليك ربك: «ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين» ما كانت قوّتك وما كانت أمانتك؟ قال: أما قوّتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهن فقلبتهن. وأما أمانتي فلم أؤمر بشيء فعدوته إلى غيره» .


وقال محمد بن السائب: «من قوة جبريل أنه اقطع مدائن قوم لوط من الماء الأسود فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء حتى أسمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم قلبها، ومن قوته أيضا أنه أبصر إبليس يكلم عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند. ومن قوته هبوطه من السماء على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، وصعوده إليها في أسرع من طرفة عين» .


العاشر: في الكلام على قوله تعالى: «ذُو مِرَّةٍ»:
القرطبي: قال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل ذو مرّة، قال الشاعر:
قد كنت قبل لقاكم ذا مرّة ... عندي لكلّ مخاصم ميزانه
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله.

الجوهري: «والمرّة القوّة وشدة العقل، ورجل مرير أي قوى ذو مرّة. قال:
ترى الرّجل النّحيف فتزدريه ... وحشو ثيابه أسدّ مرير

الإمام: «في قوله: «ذو مرة» وجوه:
الأول: ذو قوة، قلت ورواه الفريابي عن مجاهد ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سويّ» . رواه الإمام أحمد.

الثاني: ذو كمال في العقل وفي الدين جميعا.
الثالث: ذو منظر وهيبة عظيمة.
الرابع: ذو خلق حسن» .
قلت: زاد الماوردي خامسا: ذو غناء.


قلت: ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنه صلى الله عليه وسلم متصف بها.
فإن قيل: على قولنا ذو مرّة، قد تقدم بيان كونه شديد القوى، فكيف تقول قواه شديدة وله قوة؟ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك لا يحسن إذا كان وصفا بعد وصف، وأما إذا جاء بدلا فيجوز، كأنه قال: علّمه ذو قوة، ونزل شديد القوى فليس وصفا له وتقديره ذو قوة عظيمة أو كاملة.
الثاني: أن إفراد «مرّة» بالذكر ربما تكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصه الله تعالى بها.

على أنّا نقول المراد ذو شدة وهي غير القوة، وتقديره علّمه من قواه الشديدة، وفي ذاته أيضا شدّة، فإن الإنسان ربما يكون كثير القوة صغير الجثّة.
وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله: (شَدِيدُ الْقُوى)، أي قوة العلم، وبقوله: (ذُو مِرَّةٍ)، أي شدة في الجسم، قدّم العلميّة على الجسميّة، كما قال تعالى: (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة: 247] ، وتقدم الكلام على «ذو» في اسمه صلّى الله عليه وسلم: ذو الوسيلة فراجعه.



الحادي عشر: في الكلام على قوله تعالى: (فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى):
اللباب: «قال مكي: استوى يقع للواحد وأكثر ما يقع من إثنين ولذلك جعل الفرّاء الضمير لاثنين» .

الماوردي والقرطبي: «فاستوى» يعني جبريل أي ارتفع وعلا إلى مكانه في المساء، بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله ابن المسيب وابن جبير. وقال الإمام: «إنه المشهور» ، وقيل «فاستوى» أي ظهر في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لأنه كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي خلقه الله عليها، فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرّة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق، فسدّ الأرض إلى المغرب، فخرّ النبي صلى الله عليه وسلم مغشيّا عليه، فنزل إليه في صورة الآدميين وضمّه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما ظننت أن الله تعالى خلق أحدا على مثل هذه الصورة» . فقال: يا محمد، إنما نشرت جناحين من أجنحتي وأن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: «إن هذا العظيم». فقال له: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله تعالى إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح قدر أجنحتي، وإنه ليتضاءل أحيانا- يتضاءل بالضاد المعجمة والهمز- من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصع- بفتح الواو والصاد وبالعين المهملتين، يعني العصفور الصغير، قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير: 23] .
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم.

اللباب: «في الضمير وجهان: أحدهما: وهو الأظهر أنه مبتدأ، «وبالأفق» خبره، والضمير لجبريل أو للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم في هذه الجملة وجهان:
الأول: أنها حال من فاعل «فاستوى» قاله مكي. قال القرطبي: والمعنى فاستوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك رآه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا»، انتهى.

«الثاني: أنها مستأنفة، أخبر الله تعالى بذلك، ثانيهما: أن «وهو» معطوف على الضمير المستتر في استوى. وضمير استوى إما أن يكون لله تعالى وهو قول الحسن أو لجبريل أو لمحمد، وهذا ضعيف، لأنه يقال استوى هو وفلان ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر، والصحيح استوى جبريل وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية لأنه كان يتمثّل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم إن يراه على صورته الحقيقية فاستوى جبريل في أفق المشرق فملأ الأفق» .

وروى الإمام أحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي، وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق وتسقط من أجنحته التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس في الآية قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته، فقال: ادع ربّك، فدعا ربه عز وجل، فطلع عليه سواد من قبل المشرق، فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم صعق، فأتاه فقرب منه ومسح الغبار عن وجهه.

المصباح: «الأفق بضمتين الناحية من الأرض ومن السماء والجمع آفاق، زاد في الصحاح: والأفق بضمة فسكون مثل عشر وعشر» .

الماوردي: «في الأفق الأعلى ثلاثة أقوال:
أحدها: مطلع الشمس قاله مجاهد.
الثاني: هو بالأفق الذي يأتي منه النهار قاله قتادة يعني طلوع الفجر.
الثالث: هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها، قاله ابن زيد، ومنه قول الشاعر:
أخذنا بآفاق السّماء عليكم ... لنا قمراها والنّجوم الطّوالع



الثاني عشر: في الكلام على قوله تعالى: (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى):
الإمام الرازي: «فيه وجوه: الأول: وهو أشهرها أن جبريل دنا من النبي صلى الله عليه وسلم، أي بعد ما مدّ جناحه وهو بالأفق الأعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها، وقرب من النبي صلى الله عليه وسلم.


القرطبي: أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى «فتدلّى» على النبي صلى الله عليه وسلم، المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة جبريل ما رأى وهاله ذلك، ردّه الله تعالى إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي. هذا قول الجمهور، انتهى. وعليه ففي تدلّى ثلاثة أقوال:
الأول أن الدنوّ والتدلي بمعنى واحد كأنه قال: دنا فقرب.
اللباب: «ذهب الفرّاء إلى أن الفاء في «فتدلّى» بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى عليه الصلاة والسلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا قدّمت أيهما شئت، تقول دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الشتم والإساءة شيء واحد، وكذلك قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1] ، أي انشقّ القمر واقتربت الساعة.

القول الثاني: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: ثم تدلّى من الأفق فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم.

القول الثالث: أن دنا بمعنى قصد القرب من النبي صلى الله عليه وسلم وتحرك عن المكان الذي فيه فتدلّى فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن المراد دنا من ربه تبارك وتعالى، والمراد بالدنوّ هنا المنزلة كما في قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: «من تقرّب مني شبرا تقرّبت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»
وهذا إشارة إلى المعنى، ولهذا مزيد بيان في شرح القصة.

الوجه الثالث: دنا جبريل من ربه، قاله مجاهد.

الوجه الرابع: أنه النبي صلى الله عليه وسلم، دنا من ربه، ويحمل هو والذي قبله كما قال الإمام الرازي على القرب من المنزلة. والذي عليه الجمّ الغفير هو دنوّ جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم.



الثالث عشر: في الكلام على قوله تعالى: (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى):

الباب: «ها هنا مضافان محذوفان نضطر لتقديرهما، أي فكان مقدار مسافة قربه منه مقدار مسافة قاب» .

الإمام الرازي: «أي فكان بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين أو أقل، فهذا على استعمال العرب وعادتهم، فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاقدا خرجا بقوسيهما، جعل كل واحد منهما قوسه بطرف قوس صاحبه، ومن دونهما من الرعية يكون كفّه بكف صاحبه فيمدان باعيهما، لذلك فسمّي مبايعة. وعلى هذا ففيه مقدار قوسين أو كان جبريل سفيرا بين حضرة الله تعالى عنه ومحمد صلى الله عليه وسلم فكان كالتّبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، فصار كالمبايع الذي يمدّ الباع لا القوس» .

اللباب: القاب: القدر تقول: هذا قاب هذا، أي قدره ومثله: القيب والقاد والقيد والقيس.

الجوهري: «وقال بعضهم في الآية أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث الصحيح: لقاب قوس أحدكم [أو موضع قدّه] من الجنة خير من الدنيا وما فيها» . والقوس معروفة، وهي ما يرمى بها وهي مؤنثة وشذوا في تصغيرها، فقالوا قويس من غير تأنيث، وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بألقاب وإن لم يجر لها ذكر لعدم اللّبس» .

الواحدي: «المراد بالقوس التي يرمى بها عند الجمهور، قال: وقيل المراد الذراع لأنها يقاس بها» .

القرطبي: «وقال سعيد بن جبير، وعطاء، وأبو إسحاق الهمداني، وأبو وائل شقيق ابن سلمة «فكان قاب قوسين» أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض الحجازيين، وقيل هي لغة أزد شنوءة أيضا» . قلت: ورواه ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود أيضا.

قال الحافظ: وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد روى الطبراني وابن مردويه والضياء بسند صحيح عن ابن عباس قال: القاب والقيد والقوسان الذراعان.

اللباب: «أو» هنا كهي في قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ لأن المعنى بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما لا يشك الرائي في ذلك.


اللباب: «أدنى أفعل تفضيل، والمفضّل عليه محذوف أو أدنى من قاب قوسين، فمعنى الآية: ثم دنا جبريل بعد استوائه في الأفق الأعلى من الأرض، فتدلّى، فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان قاب قوسين أو أدنى بل أدنى.

تنبيه: هذا الذي قلناه من المقترب الدّاني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، إنما هو جبريل، نقله القاضي عن الجمهور.



الرابع عشر: في الكلام على قوله تعالى: (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى):
ابن عادل متابعا الإمام الرازي: «في فاعل أوحى وجهان:
الأول: أن الله تعالى أوحى، وعلى هذا ففي «عبده» وجهان:
أحدهما: أنه جبريل، أي أوحى الله تعالى إلى جبريل، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأخير وجهان:
أحدهما: أنه الله تبارك وتعالى أيضا. والمعنى حينئذ: فأوحى الله تعالى إلى جبريل الذي أوحاه الله تعالى أيهما أكثر تفخيما وتعظيما للموحي.
ثانيهما: فاعل أوحى الثاني جبريل، أي أوحى الله تبارك وتعالى إلى جبريل ما أوحى جبريل، وعلى هذا فالمراد من الذي أوحى إليه جبريل يحتمل وجهين:
أولهما: أن يكون مبيّنا، وهو الذي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ثانيهما: أن يكون عاما. أي أوحى الله تعالى إلى جبريل ما أوحى إلى كل رسول. وفيه بيان أن جبريل أمين لم يخن في شيء مما أوحى إليه، وهذا كقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء: 193] وقوله: (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير: 21] .

الوجه الثاني: في «عبده» ، على قولنا هو الله تعالى، إنه محمد صلى الله عليه وسلم، أي أوحى الله تعالى إلى محمد ما أوحى إلى كل رسول به أبهمه للتفخيم والتعظيم.

الوجه الثاني في فاعل أوحى الأول: هو أنه جبريل أوحى إلى عبده أي إلى عبد الله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ما أوحى إليه ربه عز وجل، قاله ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، والحسن، والربيع، وابن زيد. وعلى هذا ففي فاعل أوحى الثاني وجهان:
أحدهما: أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى جبريل للتفخيم.
وثانيهما: إن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إلى محمد ما أوحى الله تعالى إليه.

وفي (ما أَوْحى) وجوه:
الأول: فضل الصلاة.
الثاني: أنّ أحدا من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك ولا قبل أمّتك.
الثالث: أن «ما» للعموم، والمراد كل ما جاء به جبريل» .



الخامس عشر: في الكلام على قوله تعالى: (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى):
الماوردي: «في الفؤاد قولان: أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد، فعبّر عنه بالفؤاد، لأنه قطب الجسد وبه قوام الحياة. الثاني: أنه أراد نفس الفؤاد لأنه محل الاعتقاد» .

اللباب: «قرأ هشام وأبو جعفر بتشديد الذال من «كذب»، والباقون بتخفيفها. فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم بعينه صدّقه قلبه، ولم ينكر الداري «أل» لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: «إلى عبده» وفي قوله (وهو بالأفق الأعلى) وقوله (ما ضلّ صاحبكم) ، أي لم يقل إنه خيال لا حقيقة. و «ما» الثانية مفعول له موصولة، والعائد محذوف، ففاعل «رأى» ضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما قراءة التخفيف فقيل فيها كذلك. وكذب يتعدى بنفسه. وقيل هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه، قاله مكي وغيره. قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
لو كنت صادقة الّذي حدّثتني ... لنجوت منجا الحارث بن هشام
أي في الذي حدّثتني، وجوّز «ما» في وجهين: أحدهما: أن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى: ما كذب الفؤاد الذي رأى بعينه، والثاني: أن تكون مصدرية.


اللباب تبعا للإمام الرازي: «ويجوز أن يكون فاعل «رأى» ضميرا يعود على الفؤاد أي: لم يشك قلبه فيما رأى بعينه» .

قال الزمخشري: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي ما قال فؤاده، لما رآه: لم أعرفه ولو قال ذلك لكان كاذبا، لأنه عرفه، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق.
فما كذب الفؤاد، هذا على قراءة التخفيف، يقال كذبه إذا قال له الكذب، وأما على قراءة التشديد فمعناه: ما قال إن الذي رآه كان خفيا لا حقيقة له. وأما الرائي فقيل هو الفؤاد كأنه تعالى قال: ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد، أي لم يقل إنه جنّ أو شيطان، بل تيقّن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح. وقيل الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، ولم يتدارك أن ما رآه البصر خيال. ويحتمل أن تكون «أل» للجنس أي جنس الفؤاد، ويكون المعنى: ما كذب الفؤاد ما رأى محمد صلى الله عليه وسلم، أي شهدت القلوب بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم.

واختلفوا في المرئي ما هو؟ فقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلّتا رفرف أخضر قد ملآ ما بين السماء والأرض. رواه الفريابي والترمذي وصححه.

وقيل رأى الآيات العجيبة.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رأى ربّه بفؤاده مرّتين، رواه مسلم وغيره.
وسيأتي الكلام على رؤية الله تعالى في الباب الثالث.)اهـ


سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 34-46)باختصار

_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: تفسير أول سورة النجم
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين إبريل 16, 2018 7:44 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2011 10:41 am
مشاركات: 2778
(السادس عشر: في الكلام على قوله تعالى: (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى):
اللباب: «قرأ الأخوان: «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم، والباقون «تمارونه» ، وعبد الله بن مسعود والشعبي: «أفتمرونه» بضم التاء وسكون الميم. فأما الأولى ففيها وجهان:

أحدهما: أنه من مريته حقّه إذا غلبته عليه وجحدته إياه، وعدّي بعلى لتضمّنه معنى الغلبة، وأنشدوا:
لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا
لأنه إذا جحده حقّه فقد غلبه عليه. قال المبرّد: يقال مراه عن حقّه وعلى حقّه إذا منعه منه ودفعه عنه. قال ومثل «على» بمعنى «عن» قول بني كعب بن ربيعة رضي الله عليك أي رضي عنك».

الثاني: أنه من مراه كذا على كذا أي غلبه فهو من المراء وهو الجدال».

وأما الثانية: فهي من ماراه يماريه، جادله واشتقاقه من مرى الناقة، لأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه. وكان من حقه أن يتعدّى بفي كقولك: جادله في كذا. وإنما ضمّن الغلبة فعدّي تعديتها. وأما قراءة عبد الله فمن «ماراه» رباعيا، والمعنى: «أفتجادلونه» ، أي كيف تجادلونه على ما يرى مع أنه، ما رأى عين اليقين؟ ولا شك بعد الرؤية.

القرطبي: «والمعنيان متداخلان لأن مجادلتهم جحود، وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد» .


السابع عشر: في الكلام على قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى):
... وتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ويستشهد بهذه الآية، وتابعه جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة والتابعين» . قلت وسيأتي تحقيق ذلك في بابه.

اللباب: «الواو في «ولقد» يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال، أي كيف تجادلونه فيما رآه، وهو قد رآه على وجه لا شك فيه؟ والنّزلة فعلة من النزول كجلسة من الجلوس، وفي نصبها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها منصوبة على الظّرف الذي هو مرّة، لأن الفعلة اسم للمرّة من الفعل، فكانت في حكمها. قال الشهاب الحلبي: وهذا ليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب القرّاء، نقله عنه مكي.
الثاني: أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال، أي رآه نازلا نزلة أخرى، وإليه ذهب الحوفي وابن عطية.
الثالث: أنها منصوبة على المصدر المؤكد، فقدّره أبو البقاء مرة أخرى أو رؤية أخرى. قال الشهاب الحلبي: وفي تأويل نزلة برؤية، نظر، وأخرى تدل على سبق رؤية قبلها، وعند سدرة المنتهى ظرف مكان لرأى» .


الثامن عشر: في الكلام على السّدرة وإضافتها إلى المنتهى:
قال الإمام الرازي: «يحتمل وجوها:

أحدها: إضافة الشيء إلى مكانه كقولك: أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو روح من الأرواح. قال كعب الأحبار: هي في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينقضي علم الخلائق وما خلفها بحيث لا يعلمه إلا الله تعالى.

ثانيها: إضافة المحلّ إلى الحالّ فيه، كقولك: كتاب الفقه، وعلى هذا فالتقدير: سدرة عندها منتهى العلوم.

ثالثها: إضافة الملك إلى مالكه كقولك: دار زيد أو شجرة زيد، وحينئذ المنتهى إليه محذوف تقديره: سدرة المنتهى إليه. قال الله تعالى: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم: 43] . فالمنتهى إليه هو الله تعالى، وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيّنة للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح: يا غاية رغباه ويا منتهى أملاه» .


القرطبي: «اختلف لم سمّيت سدرة المنتهى على أقوال تسعة:
الأول لأنه ينتهي إليها ما نهبط من فوقها فيقبض منها وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض، رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود.

الثاني: علم الأنبياء ينتهي إليها ويعزب عما وراءها، قاله ابن عباس.

الثالث: أن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضّحّاك.

الرابع: لانتهاء الملائكة والأنبياء إليها ووقوفهم عندها.

الخامس: لأن أرواح الشهداء تنتهي إليها، قاله الربيع بن أنس.

السادس: لأنه تأوي إليها أرواح المؤمنين، قاله قتادة.

السابع: لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنّة محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، والربيع بن أنس أيضا.

الثامن: [هي شجرة على رؤوس حملة العرش] إليها ينتهي علم الخلائق.

التاسع: لأن من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة» .



الماوردي: «فإن قيل: لم اختيرت السّدرة دون غيرها؟ قيل لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظلّ مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكيّة، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا ونيّة وعملا، فظلّها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النّيّة لكمونه أي استتاره، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره» .


الصحاح: «السّدر شجر النبق الواحدة سدرة والجمع سدرات أي بكسر فسكون وسدرات بكسرتين، وسدرات بكسر ففتح، وسدر بكسر ففتح» ، وسيأتي في شرح القصّة الكلام على أصلها.


تنبيه: جاء في النّهي عن قطع السّدر أحاديث. فروى أبو داود والطبراني والبيهقي والضياء في صحيحه عن عبد الله بن حبشيّ بضم المهملة ثم موحّدة ساكنة، ثم معجمة بعدها ياء ثقيلة، ابن جنادة، بضم الجيم وبالنون والدال المهملة، السّلولي، بفتح السين المهملة ولامين، رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قطع سدرة صوّب الله رأسه في النار»، زاد الطبراني يعني من سدر الحرم. وقال أبو داود رحمه الله تعالى: يعني من قطع السّدر في فلاة يستظلّ بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها.

وروى البيهقي عن أبي ثور أنه سأل الشافعي عن قطع السّدر فقال: لا بأس به.

وقد روى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اغسلها بماء وسدر»، فيكون محمولا على ما حمله عليه أبو داود.

وقال البيهقي: وروينا عن عروة إنه كان يقطعه وهو أحد رواة النهي، فيشبه أن يكون النهي خاصا كما قال أبو داود.

وقال الخطّابي: سئل المزني عن هذا فقال: وجهه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمّن هجم على قطع سدر لقوم أو يتيم أو لمن حرم الله تعالى أن يقطع عليه، فتحامل عليه فقطعه فاستحق ما قاله، فتكون المسألة سبقت لسامع فسمع الجواب ولم يسمع المسألة وجعل نظيره حديث أسامة بن زيد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الربا في النسيئة»، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة
وقد قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد».
واحتج المزني بما احتج به الشافعي من إجازة النبي صلى الله عليه وسلم إن يغسل الميت بالسدر، ولو كان حراما لم يجز الانتفاع به وقال: والورق من السّدر كالغصن. قال: وقد سوّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما حرّم قطعه من شجر الحرم بين ورقه وغيره، فلما لم يمنع من ورق السّدر، دلّ على جواز قطع السّدر.


قال الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه: «والأولى عندي في تأويل الحديث أنه محمول على سدر الحرم، كما وقع في رواية الطبراني.

قال ابن الأثير في النهاية: «قيل أراد به سدر مكة لأنها حرم وقيل سدر المدينة، نهى عن قطعه ليكون أنسا وظلّا لمن يهاجر إليها، وقيل أراد السّدر الذي يكون في الفلاة يستظلّ به أبناء السبيل والحيوان أو في ملك إنسان، فيتحامل عليه ظالم فيقطعه بغير حق، ومع هذا فالحديث مضطرب الرواية فإن أكثر ما يروى عن عروة بن الزبير، وكان هو يقطع السدر ويتخذ منه أبوابا. قال هشام: وهذه أبواب من سدر قطعه أبي، وأهل العلم مجمعون على إباحة قطعه».

وروى أبو داود عن حسان بن إبراهيم قال: «سألت هشام بن عروة عن قطع السّدر، وهو مسند ظهره إلى قصر عروة، قال: ترى هذه الأبواب والمصاريع إنما هي من سدر قطعه أبي من أرضه» .


التاسع عشر: في الكلام على قوله تعالى: (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى):
قال القرطبي: هذا تعريف بموضع جنة المأوى وأنها عند سدرة المنتهى، وهي عن يمين العرش، وقيل أوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها.
وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى، وهي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها.
وقيل: لأن جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها.


اللباب: «جملة ابتدائية في موضع الحال، والأحسن أن يكون الحال الظرف، وجنة المأوى فاعل به. والعامة أن جنّة اسم مرفوع وقرأ أمير المؤمنين علي، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وابن الزبير، وأنس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وزرّ بن حبيش، ومحمد بن كعب من التابعين: جنّه فعلا ماضيا، والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم، والمأوى فاعل بمعنى سترة إيواء الله إياه. ويقال ضمّه البيت والليل، وقيل جنّة بظلاله ودخل فيه» .


قال الإمام الرازي: «ويحتمل أن يكون الضمير في «عندها» على هذه القراءة عائدا إلى النّزلة، أي عند النّزلة جنّ محمدا المأوى، أي ستره، والصحيح أنه عائد إلى، السّدرة» .


اللباب: «وهذا قول الجمهور، وقد أنكرت عائشة رضي الله تعالى عنها هذه القراءة، وتبعها جماعة وقالوا: «أجنّ الله من قرأها» . فإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل إلى ردها. ولكن استعمل إنما هو «أجنّه» رباعيا، فإن استعمل ثلاثيا تعدّى «بعلى» ، كقوله تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) الأنعام: 76] . وقال أبو البقاء: هو شاذّ والمستعمل: أجنّه» .



العشرون: في الكلام على قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى):
اللباب: «إذ» منصوب يراه.

الإمام: «العامل في «إذ» ما قبلها أو ما بعدها، فيه وجهان. فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان: أظهرهما رآه أي رأى وقت ما يغشى السّدرة الذي يغشى. والاحتمال الثاني العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلة أخرى، تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السّدرة وغشيها ما غشيها، فحينئذ نزل محمد نزلة، إشارة أنه لم يرجع من غير فائدة. وإن قلنا العامل فيه ما بعدها فالعامل: ما زاغ البصر، أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها.
واختلفوا فيما يغشى السدرة فقيل فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضّحّاك.
قال القرطبي: ورواه ابن مسعود وابن عباس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت السّدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا يسبح الله تعالى» .

قلت وقول الإمام: «إن هذا ضعيف، لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صحّ فيه خبر وإلا فلا وجه له قصور شديد، فإن الحديث في صحيح مسلم وغيره. ومثله لا يقال بالرأي.

وقيل: ملائكة يغشونها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوّقين متبرّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة، وقيل يغشاها أنوار الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى السّدرة تجلى لها ربه تبارك وتعالى كما تجلى للجبل، فظهرت الأنوار، ولكن السّدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكّا، ولم تتحرك الشجرة وخرّ موسى صعقاً، ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم» .

قلت: ولا منافاة بين هذه الأقوال، فقد ورد أن كلّا منها يغشاها كما سيأتي ذلك في القصة. وقيل أبهمه تعظيما له كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما الله أعلم به من دلائل ملكوته وعجائب قدرته.
الإمام: «يغشى يستر، ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان، يقال فلان يغشانا كل وقت أي يأتينا، الوجهان محتملان» .


الحادي والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: (ما زاغَ الْبَصَرُ):
الصحاح: «الزّيغ الميل، وقد زاغ يزيغ وزاغ البصر أي مال» .

اللباب تبعا للإمام الرازي: «اللام في البصر تحتمل وجهين:
أحدهما: المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلم، أي ما زاغ بصر محمد، وعلى هذا فعدم الزّيغ لوجوه: إن قلنا الغاشي للسّدرة هو الجراد أو الفراش، فمعناه لم يلتفت محمد إليه ولم يشتغل به، ولم يقطع نظره عن مقصوده.

وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء وامتحانا للنبي صلى الله عليه وسلم. وإن قلنا أنوار الله تعالى ففيه وجهان:
أحدهما: لم يلتفت يمنّة ويسرة، بل اشتغل بمطالعتها.

وثانيهما: ما زاغ البصر بضعفه، ففي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني بيان قوته.
الوجه الثاني في اللام: أنها لتعريف الجنس، أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع لعظم الهيبة. فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ما زاغ بصر، فإنه أدلّ على العموم لأن النّكرة في معرض النّفي تعمّ. فالجواب هو كقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام: 103] ولم يقل لم يدركه بصر.



الثاني والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: (وَما طَغى):
اللباب تبعا للإمام الرازي: «فيه وجهان:
أحدهما أنه عطف جملة مستقلة على جملة أخرى.
الثاني: أنه عطف جملة تقديره مقدّرة على جملة. فمثال المستقلة: خرج زيد ودخل عمرو، ومثال المقدّرة: خرج زيد ودخل، الوجهان جائزان هنا.
أما الأول فكأنه تعالى قال عند ظهور النور: ما زاغ بصر محمّد وما طغى محمد بسبب الالتفات، ولو التفت لكان طاغيا.
وأما الثاني فظاهر. فإن قيل بأن الغاشي للسّدرة جراد، فالمعنى لم يلتفت إليه وما طغى، أي ما التفت إلى غير الله تعالى، ولم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد، بل إلى الله سبحانه وتعالى. أما على قول من قال غشيها نور، فقوله تعالى: «ما زاغ» أي ما مال عن الأنوار. وما طغى، أي ما طلب شيئا وراءه. وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال: ما زاغ وما طغى ولم يقل ما مال وما جاوز، لأن الميل في ذلك الموضع والتجاوز مذمومان، فاستعمل الزّيغ والطغيان فيه.

وفيه وجه آخر، وهو أن يكون ذلك بيانا لوصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى شدة اليقين الذي لا يقين فوقه، ووجه ذلك أن بصره صلى الله عليه وسلم ما زاغ أي ما مال عن الطريق، فلم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلا، ثم ينظر إلى شيء أبيض فإنه يراه أصفر وأخضر، يزيغ بصره عن جادّة الإبصار. وقوله: (وَما طَغى) أي: ما تخيّل المعدوم موجودا، وقيل: «وما طغى» أي ما تخيّل المعدوم موجودا وقيل: «وَما طَغى» أي ما جاوز ما أمر به» .



الثالث والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى):
اللباب: «في الكبرى وجهان:
أظهر هما أنه مفعول رأى من آيات ربه حال مقدمه، والتقدير: لقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه.
والثاني أن «من آيات ربه» هو مفعول الرؤية، والكبرى صفة لآيات ربه. وهذا الجمع يجوز وصفه بوصف المؤنثة الواحدة، وحسنه هنا كونها فاصلة» .


الإمام الرازي: «في الكبرى وجهان:
أحدهما: أنهما صفة لمحذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه. ثانيهما: صفة لآيات ربه، فيكون مفعول رأى محذوفا تقديره: رأى من آيات ربه الكبرى آية أو شيئا.


القرطبي: «ويجوز أن تكون «من» زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى. وقال بعضهم: آيات ربه الكبرى هي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته» .


قال الإمام: «والظاهر أن هذه الآيات غير تلك لأن جبريل وإن كان عظيما لكن ورد في الأخبار إن لله ملائكة أعظم منه. والكبرى تأنيث الأكبر، فكأنه تعالى قال: رأى من آيات ربه آيات هي أكبر الآيات.
وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «رأى جبريل في حلّة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» .

قال الحافظ: «وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلّة، ويؤيده قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) [الرحمن: 76] . وأصل الرفرف ما كان من الديباج رقيقا حسن الصفة. ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء وعطف وثني فهو رفرف» .

القرطبي: «هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه وهذا أحسن» .

خاتمة: اشتملت هذه الآيات على قسمه تعالى على هداية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتنزيهه عن الهوى وصدقه فيما تلا، وأنه وحي يوحى، يوصّله إليه جبريل الشديد القوي عن الله تبارك وتعالى العليّ الأعلى، واحتوت أيضا على تزكية جملته صلى الله عليه وسلم وعصمته من الارتياب في هذا المسرى، ثم أخبر تعالى فيها عن فضيلته بقصة الإسراء وانتهائه إلى سدرة المنتهى، وتصديق بصره فيما روي أنه رأى من آيات ربه الكبرى.) اهـ

سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 46-54) باختصار

_________________
مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم

الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 3 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 4 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط