اشترك في: الاثنين ديسمبر 07, 2009 12:22 am مشاركات: 1888 مكان: سيدنا الحسين وسيدتنا زينب
|
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
البحر المحيط الذي لا يسمع لموجه غطيط، في معرفة الذات والصفات والأفعال أنكحتها بكر صهباء، في لجة عمياء (1)، وهي معرفة ذاته، جلت عن الإدراك الكوني، والعلم الإحاطي، غطس الغاطس ليخرج ياقوتها الأحمر، في صدفه الأزهر، فخرج إلينا من قعر ذلك البحر صفر اليدين، مكسور الجناحين، مكفوف العين، أخرس لا ينطق، مبهوتا لا يعقل، فسئل بعد ما رجع إليه النَّفَس، وخرج من سُدْفة الغَلَس (2)، فقيل له: ما رأيك وما هذا الأمر الذي أصابك؟ فقال: هيهات لما يطلبون، وبعد الماء يرومون، والله لا ناله أحد، ولا تضمن معرفته روح ولا جسد، هو العزيز الذي يُدْرِك ولا يُدْرَك، والموجود الذي يَمْلِك ولا يُمْلَك، إذ حارت العقول وطاشت الألباب في تلقي صفاته، فكيف لها بدرك ذاته، ألا ترى حكم تجليه في ربوبيته في الأزل، كيف خرّ الكليم صعقًا وتدكدك الجبل، فكيف لو تجلى في هذه الربوبية من غير واسطة الجبل لنبيه موسى، لكان صاحب موسى زمانه لا يوسى، بعد اندكاك وهلاك، وبعث في نشأة مثله وأملاك (3)، وإذا كان تجلي الربوبية على هذا الحد، فأين أنت من تجلي الألوهية من بعد! وإذا كان هذا حظ المتبوع الكليم، فكيف بحظ التابع الحليم؟ (4) فقد رمزنا في الصفات أمرًا يُعجز عنه، ولا يصل أحد إلا إلى ما قُدِّرَ له منه.
وأما معرفة الذات فمكتنفة بالنور الأضوأ في عمى (5)، محتجبة بحجاب العزة الأَحْمَى، مصونة بالصفات والأسماء، فغاية من غاب في الغيب، الوصول إلى أقرب ثوب، ونهاية الطلاب، الوقوف خلف ذلك الحجاب، هنا وفي الآخرة، وفي النشأة الدنيوية وفي الحافرة، فمن رام رفعه، أو تولى صدعه، في أي مقام كان عُدِمَ من حينه، وطويت أرضه وسماه بيمينه، ورجع خاسرًا، وبقي حائرًا، وكان قاسطًا جائرًا، ورُدّ إلى أسفل سافلين، وألحق بالطين، فمن كان من أهل البصائر والألباب، وتأدب بما يجب عليه من الآداب، وصل إلى ذلك الحجاب، الذي لا يرفعه سبحانه عن وجهه، وكان يوقف على كنهه، والوقوف على كنهه محال، فلا سبيل إلى رفع ذلك الحجاب بحال، فإذا وصل إليه العاقل اللبيب، والفطن المصيب، وأفرغ عليه رداء الغيرة، قال أغار عليه أن يعلمه غيره، فوقف خلف الحجاب، وناداه باسمه الوهاب، أيها البعيد، الأقرب إلينا من حبل الوريد، فيجيبه الحق بالمزيد، وحقائق الوجود، وتقدس وتنزه، وتملك وتشبه، ودخل حيث شاء من جنة الصفات، وارتاح في رياض الكلمات، وجال وصال، بالمتجلي المتعال، لا يرد له أمر، ولا يحجب عنه سر، ونادى الحق من عرش التنزيه، خلف حجاب عزة التنويه، هذا عبدي حقًا، وكلمتي صدقًا، عرف فأصاب، وتأدب فطاب، فليقبل جميع ما تضمنته هذه الحضرة إليه، ولينصب ذلك كله بين يديه، ليأخذ ما شاء مختارًا، ويترك ما شاء ادخارًا، فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وهو الحكيم الخبير. وهذا مقام الأدباء، ومنزل الأمناء، وحضرة اللقاء، وكل واحد من الواصلين إليه، على قدر علمه، وقوة عزمه، وإن شملهم المقام وعمّ، فمنهم التام ومنهم الأتمّ، ومن هذا المقام يرجع صاحب الجماعة، وفيه يبقى من قامت في حقه الساعة، فهو المنتهى والختام، ومقام الجلال والإكرام. وفي هذا المقام قلت:
مَوَاقِفُ الْحَقِّ أَدَّبَتْنِي ** وَإِنَّمَا يُوقَفُ الْأَدِيبُ أَشْهَدَنِي ذَاتَهُ كِفَاحًا ** فَلَمْ أَرَ شَمْسَهَا تَغِيبُ وَاتّخذت ذَاتنَا فَلَمَّا ** كُنْتُ أَنَا الْعَاشِقُ الْحَبِيبُ أَرْسَلَنِي بِالصِّفَاتِ كَيْمَا ** يَعْرِفُنِي الْعَاقِلُ الْمُصِيبُ فَيَأْخُذُ السِّرَّ مِنْ فُؤَادِي ** فَتَفْتَدِي بِاسْمِهِ الْقُلُوبُ
فإن قلت: فأين معرفة الياقوت الأحمر، المصون في الصدف الأزهر؟ فأقول: إن معرفة الياقوت الأحمر أن لا يُعرف، ولا يُحدُّ ولا يُوصف، فإذا علمت أن ثمَّ موجودًا ألا يعرف فقد عرفت، وإذا أقررتَ بالعجز عن الوصول إلى كُنهِهِ فقد وصلت، فقد صحت الحقيقة لديك، واتضحت الطريقة بين يديك، فإنه من لم يقف على هذا العلم، ولا قام به هذا الحكم، يدوم ما لا يحصل له، وذلك لما ذهل عنه وجهله، فكفاك أن تعلم أن لا يعلم، وهذا الحق قد انبلج صبحه فالزم،
واقتدِ بالنبيّ والصدّيق؛ إذ قال (صلى الله عليه وسلم): "لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك" (6)، وهذا غاية العجز، أو معرفة من وقف عند حجاب العز. وقال الصدّيق الأكبر: "العجز عن درك الإدراك إدراك"، فلا سبيل إلى الاشتراك، وليس بعد حجاب العزة الإلهية، إلا الكيفية والماهية، فسبحان من بعد وقرب، وتعالى ونزل، وعرفه العارفون على قدر ما وهب، وحَسْبُ كل عارف به ما كسب فكسب، وذلك من صفات السلب، فغاية معرفتنا أنه موجود، وأنه الخالق المعبود، وأنه السيد الصمد، المنزّه عن الصاحبة والولد، وهذا كله راجع إلى التنزيه، وسلب التشبيه، فتعالى أن تعرف منه صفات الإثبات، وجلّ أن تدرك كنهَ جلاله المحدثات، وإذا كانت صفات الجلال لا يحاط بها، فكيف من قامت به واتصف بها، فجلّ الكبير المتعال، العزيز الذي لا ينال، فبحر الياقوت الأحمر هو المسمى بـ "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (7)، و "سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿١٨٠﴾" (8)، فقد أشار إلى حجاب العزة الذي ذكرناه، والسر الذي وصفناه.
____________________ (1) الصهباء: الخمر، اللجة: معظم البحر وتردد أمواجه (2) السدفة: الظلمة، والغَلَس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح (3) بأخرى: في نشأة مثليه وأفلاك (4) بأخرى: الحكيم (5) بأخرى: فمتفقة بالنور الأضوائي في غمى / الأصوافي عمى (6) رواه مسلم في الصلاة 223، وأبو داود في الصلاة 148، وفي الوتر 5، والنسائي في قيام الليل 51، والترمذي في الدعوات 75، 112، وابن ماجه في الدعاء 3، وفي الإقامة 117، وغيرهم. (7) سورة الشورى، الآية 11 (8) سورة الصافات، الآية 180
|
|