مَسْأَلَة فِي التَّوْحِيد من عرف نَفسه عرف ربه
فَإِن قَالَ قَائِل أجمع أَن من عرف نَفسه عرف ربه لكِنهمْ اخْتلفُوا فِي وَجه الْمعرفَة فَقَالَت الثنوية لما عرف إشتمال نَفسه على الْخَيْر وَالشَّر عرف أَن لكل جِهَة مِنْهُ رَبًّا وَالْيَهُود صيرته وَاحِد جُزْء وَقَالَت المشبهة هُوَ جسم إِذْ فِي الشَّاهِد تكون معرفَة النَّفس للجسم وَقَالَ جهم إِذْ عرف أَنه كَانَ بعد أَن لم يكن وَهُوَ شَيْء جسم عَالم سميع بَصِير علم أَن كل مَا كَانَ لَهُ ذَلِك الإسم فَهُوَ حدث وربه الَّذِي أنشأه لَا يحْتَمل أَن يكون حَدثا وَعِنْدنَا أَن من عرف نَفسه عرف ربه لما يعرفهَا بِالْجَهْلِ مِمَّا احتملته هِيَ من السّمع وَالْبَصَر وَغَيرهمَا من الْأَعْرَاض وَكَذَلِكَ بإصلاح مَا فسد مِنْهَا وبقدر مَا تَأْخُذ هِيَ من الزَّمَان وَالْمَكَان وبأنواع حاجات ترد عَلَيْهَا لَا يعرف مأتاها وَلَا حَقِيقَة مَا بِهِ زَوَالهَا فَهَذَا شَأْنه مَعَ مَا يشْهد زَوَالهَا بِمَا شهد من نَفسه فَعلمه بِمَا مضى من أحوالها من أول مَا كَانَت إِلَى الْحَال الَّتِي هُوَ فِيهَا مَعَ الْعلم فِيمَا يخْتَلف عَلَيْهَا من الْأَحْوَال إِلَى وَقت قِيَامهَا مِنْهُ أبعد وَعَن تصور ذَلِك فِي وهمه أعْسر وَعَن إحتمال إحاطة عقله بِهِ أعجز علم بضرورة أَنه لم يدبر أَمر نَفسه على ماهي عَلَيْهَا بل لَو كَانَ الْأَمر إِلَيْهِ لدبرها على مَا يعلم جَمِيع ذَلِك إِذْ لَو كَانَت ثمَّة قدرَة على شَيْء من ذَلِك لم يكن ليدفع إِلَى الْجَهْل الَّذِي ثَبت ثمَّ إِلَى الْعَجز فِيمَا أخْبرت من دفع الْحَاجَات عَن نَفسه وَإِصْلَاح مَا فسد مِنْهَا فَيعلم عِنْد ذَلِك إِذْ هُوَ أملك الْخَلَائق تدبيرا فِيمَا يحس وَأَعْلَاهُمْ إدراكا لحقائق مَا يلقى وأسرعهم وقوفا على مَا يعلم وَيذكر من الْأُمُور فَيعلم خُرُوجه من تَدْبِير نَفسه فِي التكوين والإفناء والإبقاء ثمَّ من إبداء جَمِيع المحسوسين إِذْ هم تَحت تَدْبيره كالمتحيرين فِي حَوَائِجه وَيعلم بِأَن مثله على مَا عَلَيْهِ من الإحتمال وَالْوُقُوف على الْأُمُور والإدراك للأسباب لَا يكون إِلَّا بِمن هُوَ خَارج من جَمِيع الْمعَانِي الَّتِي عَلَيْهَا نَفسه وفيهَا تقلبها فَيعلم أَنه بِقَادِر لَا يعجز وعالم لَا يجهل وجبار لَا يُنَازع فِي تَدْبيره فَيعرف أَنه جلّ وَعلا لَا يُشبههُ شَيْء من ذَلِك وَلَا معنى إِذْ من الْوَجْه الَّذِي يُشبههُ يُوجب مَا أوجب فِيهِ من حدث أَو قدم أَو تَدْبِير غير فِيهِ وَكَذَلِكَ جَمِيع الْأَشْيَاء إِذْ بَينهَا مُوَافقَة فِي الْحَاجَات وأنواع الْعَجز والصنف ثمَّ فِي الحدثية من كل الْوُجُوه فَيجب بِهَذَا أَن يعرف أَنه خلاف لَهُ بِكُل الْجِهَات والجهات لَهُ لَا لمدبره فَيكون فِي ذَلِك تَعْرِيف الرب بِمَا هُوَ أَهله وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وعَلى هَذَا يبطل قَول جهم إِنَّه لم يكن عَالما قَادِرًا ثمَّ صَار كَذَلِك وَقَول من يَقُول لم يكن فَاعِلا متكلما ثمَّ صَار كَذَلِك إِذْ مكنوا فِيهِ تغير الْجِهَات وَالْأَحْوَال الَّتِي هِيَ سَبَب معرفَة العَبْد نَفسه خلقا وحدثا وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَبِمَا ذكرت من إِمْكَان قبُول الْأَحْوَال اخْتِيَارا وإحتماله الصِّفَات العليه من نَحْو الْعلم وَالْقُدْرَة والحياة والسمع وَالْبَصَر مَا يُوضح كَونه بالصانع الْعَلِيم لَا بالطبائع الَّتِي هِيَ عاجزة عَن الإختيار وجاهلة بالأحوال وَكَذَلِكَ جَمِيع الأغذية وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَكَذَلِكَ بإحتماله الْخَيْر وَالشَّر ومختلف الْأَحْوَال دَلِيل صرف تَدْبيره إِلَى من لَا يُوصف بالإحتمال وَلَا بمختلف الْأَحْوَال ليَكُون كل شَيْء على مَا عَلَيْهِ تَقْدِيره لَهُ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَقَالَ قوم من عرف نَفسه الْخفية عرف ربه وَنَفسه الْخفية هِيَ الكيان المجعول لصلاح الْأُمُور وإحتمال الْمَعَالِي وَملك تَدْبِير الْخَلَائق ودرك الخفيات من الْأُمُور بالفكر وَالنَّظَر فِي الْأَسْبَاب زما قَالُوهُ حسن وَقد يَقع بِمَا ذكرت فِي معرفَة الصَّانِع كِفَايَة عَن دَرك الْخَفي بِمَا وصل خفى من أَحْوَاله وَوصل الى الْعلم بِمَا استتر وَظهر بالأسباب وَبِه يعرف مَا خفى مِنْهُ سمى نفسا أَو لَا وَظهر وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
الكتاب: التوحيد المؤلف: محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (المتوفى: 333هـ)
_________________ مدد ياسيدى يارسول الله مدديااهل العباءة .. مدد يااهل بيت النبوة اللهم ارزقنا رؤية سيدنا رسول الله فى كل لمحة ونفس
|