موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 94 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3, 4, 5 ... 7  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يونيو 25, 2015 5:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
خلف الظلال كتب:
صورة
بارك الله في حضرتك يا سيدة ملهمة


حبيبتى الغالية جدا بشهادة عظيمة تستحقينها لأنك فعلا و الله غالية كلك ذوق و رقة ربنا يسعدك و جزاكى الله خيرا كثيرا الغالية خلف الظلال
وشرفنى مرورك الجميل مثلك

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يونيو 26, 2015 4:21 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
لطائف الإشارات = تفسير القشيري
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

[سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)


يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ أي: أجيبوه فيما دعاكم إليه، وَلِلرَّسُولِ فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان، إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم الدينية فإنها حياة القلب، كما أن الجهل موته، أو إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ الحياة الأبدية، في النعيم الدائم، من العقائد والأعمال، أو من الجهاد، فإنه سبب بقائكم إذ لو تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم، أو الشهادة، لقوله تعالى: أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، ووحد الضمير في قوله: إِذا دَعاكُمْ باعتبار ما ذكر، أو لأن دعوة الله تُسمع من الرسول.
وفي البخاري: أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا أبيّ بْنَ كَعْبٍ، وهو في الصَّلاة، فلم يجب، فلما فرغ أجاب، فقال له صلى الله عليه وسلّم:
«ما مَنَعَكَ أن تجيبني؟ فقال: كُنْتُ أُصلّي، فقال: ألم تسمع قوله: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ.» فاختلف فيه العلماء، فقيل لأن إجابته صلّى الله عليه وسلّم لا تقطع الصلاة، فيُجيب، ويبقى على صلاته، وقيل: إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، كإنقاذ أعمى وشبهه.
ثم قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فينقله من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن اليقين إلى الشك، ومن الشك إلى اليقين، ومن الصفاء إلى الكدر، ومن الكدر إلى الصفاء. قال البيضاوي: هو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير مقاصده، ويحول بينه وبين الكفر، إن أراد سعادته، وبينه وبين الإيمان، إن قضى شقاوته. هـ. وَاعلموا أيضاً أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم.
الإشارة: قد جعل الله، من فضله ورحمته، في كل زمان وعصر، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم، فهم خلفاء عن الله ورسوله، فمن استجاب لهم وصحبهم حيي قلبه، وتطهر سره ولُبه، ومن تنكب عنهم ماتت روحه في أودية الخواطر والأوهام

وقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حيلولة الحق تعالى بين المرء وقلبه هو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته، بالوقوف مع الحس، وشهود الفرق بلا جمع، ويعبر عنه أهل الفن بفَقْد القلب، فإذا قال أحدهم: فقدتُ قلبي، فمعناه: أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معاني أسرار الذات وأنوار الصفات، فيغيب عن نفسه وحسه، وعن سائر الأكوان الحسية، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب، وقد يكون بلا سبب اختباراً من الحق تعالى، هل يفزع إليه فى فقده أو يبقى مع حاله.
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال، في أول شرح عجائب القلب من الإحياء: إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب، وهو العالم بالله، والعامل لله، وهو الساعي إلى الله، والمتقرب إليه، المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع، والقلب هو المقبول عند الله، إذا سَلِمَ من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً في غير الله، وهو المطالب والمخاطب، وهو المعاتب والمعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. ثم قال: وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا جهله فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه، جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم:
نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ «1» الآية. هـ.

وقد أنشد من وجد قلبه، وعرف ربه، وغنى بما وجد، فقال:
أَنَا القُرآنُ والسَّبْعُ المَثَانِي ... وروحُ الرُّوح لا روح الأَوَاني
فؤادي عند معلوم مقيم ... تناجيه وعندكم لسانى
فلا تنظر بِطَرْفِكَ نَحْوَ جِسْمِي ... وعُدْ عن التنعم بالأوانى
فأَسْرارِي تراءت مبهمات ... مُسَتَّرَةً بأَنْوار المَعَاني
فَمَنْ فَهِمَ الإشَارَةَ فليَصُنْها ... وإلاّ سوف يقتل بالسنان
كحلاج المحبة إذ تبدت ... له شمس الحقيقة بالتدانى




البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

سورة الأنفال (8) : آية 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 24



أجاب واستجاب بمعنىّ مثل أوقد واستوقد، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية بأنها تكون طوعا لا كرها، وفرق بين من يجيب لخوف أو طمع وبين من يستجيب لا بعوض ولا على ملاحظة غرض. وحقّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أن تذر من المستطاع بقية.
والمستجيب لربه محو عن كلّه باستيلاء الحقيقة، والمستجيب للرسول- صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله- قائم بشريعته من غير إخلال بشىء من أحكامها. وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستجابة له- سبحانه، وبالاستجابة للرسول فالعبد المستجيب- على الحقيقة- من قام بالله سرّا، واتصف بالشرع جهرا، فيفرده الحقّ- سبحانه- بحقائق الجمع فى مشاهدة الفرق، فلا يكون للحدثان فى مشرب حقائقه تكدير، ولا لمطالبات الشرع على أحواله نكير.

قوله جل ذكره: لِما يُحْيِيكُمْ.
إذ لمّا أفناهم عنهم أحياهم به.
ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته، وأما العالمون فأحياهم بدلائل ربوبيته، بعد ما أفناهم عن الجهل وظلمته. وأمّا المؤمنون فأحياهم بنور موافقته بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم. وأمّا الموحّدون فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير، والملاحظة لكل حدثان.
قوله جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
يصون القلوب عن تقليب أربابها فيقلّبها كما يشاء هو، من بيان هداية وضلال، وغيبة ووصال، وحجبة وقربة، ويقين ومرية، وأنس ووحشة.
ويقال صان قلوب العبّاد عن الجنوح إلى الكسل، فجدّوا فى معاملاتهم، وصان قلوب المريدين عن التعريج فى أوطان الفشل فصدقوا فى منازلاتهم، وصان قلوب العارفين- على حدّ الاستقامة- عن الميل فتحققوا بدوام مواصلاتهم.
ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوع إلا إلى الله، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلى الأغيار سبيل، ولا على قلوبهم تعويل. وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدى إلى شىء إلا إلى ربّه! كما قيل:
لا يهتدى قلبى إلى غيركم ... لأنه سدّ عليه الطريق
ويقال العلماء هم الذين وجدوا قلوبهم، قال تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» .
والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم.





_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يونيو 27, 2015 2:30 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد


سورة التوبة (9) : الآيات 51 الى 53]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)

يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: لَنْ يُصِيبَنا من حسنة أو مصيبة، إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا في اللوح المحفوظ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، هُوَ مَوْلانا متولي أمرنا وناصرنا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم رضاَ بتدبيره لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على الله إذ لا فاعل سواه، قُلْ لهم: هَلْ تَرَبَّصُونَ أي: تنتظرون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي: إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى: إما النصر وإما الشهادة، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أيضاً إحدى العاقبتين السُوأتين: إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء، أَوْ بِأَيْدِينا أي: أو بعذاب بأيدينا، وهو القتل على الكفر، فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا، إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم.
الإشارة: ثلاثة أمور توجب للعبد الراحة من التعب، والسكون إلى رب الأرباب، وتذهب عنه حرارة التدبير والاختيار، وظلمة الأكدار والأغيار: أحدها: تحقيق العلم بسبقية القضاء والقدر، حتى يتحقق بأن ما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه. قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ «1» ، وليتأمل قول الشاعر:
ما لا يقدر لا يكون بحيلة ... أبدا، وما هو كائن سيكون
سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة متعب محزون
وقد ورد عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه- أنه قال: سبع آيات: من قرأها أو حملها معه لو انطبقت السماء على الأرض لجعل الله له فرجا ومخرجا من أمره، فذكر هذه الآية: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا، وآية في سورة يونس:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ... الآية «2» ، وآيتان في سورة هود: وَما مِنْ دَابَّةٍ..، الآية «3» ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ... الآية «4» ، وقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «5» ، مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «6» ووَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ... في الزمر إلى قوله: عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ «7» ، ونظمها بعضهم فقال:
عليك بقل، وإن، وما، إني، في هود ... وكأين، مَا يفتحْ، ولئن مكملا

وإنما أشار رضى الله عنه إلى معنى الآيات لا إلى لفظها لأنها كلها تدل على النظر لسابق القدر، والتوكل على الواحد القهار.
الأمر الثاني: تحقق العبد برأفته- تعالى- ورحمته، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب. وفي الحكم: «خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك، إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك، الفاقة أعياد المريدين» . إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى.
الأمر الثالث: تحققه بخالص التوحيد فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه رضي بفعل حبيبه، كيفما كان، كما قال ابن الفارض رضى الله عنه:
أحباي أَنتُم، أَحْسَنَ الدَّهرُ أم أَسا ... فَكُونُوا كما شِئتُمُ أنا ذلك الخل

وكما قال صاحب العينية:
تلدّ لِيَ الآلامُ إذْ كُنْتَ مُسقِمي ... وَإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني ... فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ
فهذه الأمور الثلاثة، إذا تفكر فيها العبد دام حبوره وسروره، وسهلت عليه شئونه وأموره.
وقوله تعالى: (قل هل تربصون بنا ... ) الآية، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين، إما حسن الخدام بالموت على غاية الإسلام، يموت المرء على ما عاش عليه، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده بسبب إذايتكم، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا. وبالله التوفيق.


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يونيو 28, 2015 2:16 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد


سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 64


يقول الحق جلّ جلاله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة، وهو يتولاهم بالكرامة لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات مأمول.
ثم فسَّرهم بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولي- أعني الولاية العامة- وسيأتي بقية الكلام في الإشارة إن شاء الله، هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما بشّر به المتقين في كتابه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم من الحفظ والعز والكفاية، والنصر في الدنيا وما يثيبهم به في الآخرة، أو ما يريهم من الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له. رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أو محبة الناس للرجل الصالح، أو ما يتحفهم به من المكاشفات، أو التوفيق لأنواع الطاعات، أو بشرى الملائكة عند النزع، أو رؤية المقعد قبل خروج الروح، فِي الْآخِرَةِ
هي الجنة أو تلقي الملائكة إياهم عند الحشر بالبشرى والكرامة.
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي: لا تغيير لأقواله ولا اختلاف لمواعيده، واستدل ابن عمر بالآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يغيره، لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الإشارة إلى كونهم مبشَّرين في الدارين، أو لانتفاء الخوف والحزن عنهم مع ما بُشروا به، والله تعالى أعلم.
الإشارة: الولاية على قسمين: ولاية عامة، وولاية عرفية خاصة، فالولاية العامة، هي التي ذكرها الحق تعالى، فكل من حقق الإيمان والتقوى فله من الولاية على قدر ما حصًّل منها، والولاية الخاصة خاصة بأهل الفناء والبقاء، الجامعين بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك، مع الزهد التام والمحبة الكاملة، وصحبة من
تحققت ولايته. فقد سئل- عليه الصلاة السلام- عن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقال: «الذينَ نَظَرُوا إلى بَاطِنِ الدنْيَا، حينَ نَظََرَ النَّاسُ إلى ظََاهِرهَا، واهْتَمُّوا بآجِلِ الدُّنيا حِين اهتَمَّ النَّاسُ بعَاجِلِها فأمَاتُوا منها ما خَشوا أن يُمِيتهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركُهُم، فما عارضهم من نائلها عارض إلا رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادعٍ إلا وضعوه، خلقتِ الدنيا في قلوبهم فما يجددونها وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدورهم فما يُحْيونها، بل يهدمُونها، فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، نظروا إلى أهلها صرْعى قد حلَّت بهم المَثُلات، فما يرون أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يجدون» .
وفي حديث آخر: قيل: يا رسول الله مَنْ أولياء الله؟ قال «المتحابَّون في الله» . وقال القشيري رضى الله عنه: علامة الولي ثلاث: شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. هـ وقال أبو سعيد الخراز رضى الله عنه: إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. هـ.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضى الله عنه، في تائيته بقوله:
فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيَّ فانياً ... ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صُورتي
وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا أي: إيمان الخصوص، وَكانُوا يَتَّقُونَ ما سوى الله فلا يطمئنون إلى شىء سواه، هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
حلاوة الذوق والوجدان، مع مقام الشهود والعيان، فِي الْآخِرَةِ

بإدراك ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر ببال من المعارف والأسرار، فمن أدرك هذا فليوطن نفسه على الإنكار.


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يونيو 28, 2015 2:33 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد ديسمبر 15, 2013 5:39 pm
مشاركات: 7973
خلف الظلال كتب:
صورة
بارك الله في حضرتك يا سيدة ملهمة



جميل جميل جميل تسلم ايديكي كل موضوعاتك جميلة
ربنا يمدك بمدد من حضرة النبي عليه الصلاة والسلام
اميييين

_________________
وابيض يستسقى الغمامُ بوجههِ...ُثمال اليتامى ِعصم الأراملِ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يونيو 29, 2015 6:33 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد


[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 87]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)


قلت: يا أسفي، ويا ويلتي، ويا حسرتي، مما عوض فيه الألف عن ياء المتكلم. والأسف: أشد الحزن. وقيل: شدة الحسرة. و (كظيم) : إما بمعنى مفعول، كقوله: (وهو مكظوم) أي: فهو مملوء غيظاً على أولاده، ممسك له في قلبه، تقول: كظم السقاء إذا شد على ملئِه. أو بمعنى فاعل كقوله: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «1» من كظم البعير جِرَّتَهُ إذا ردها في جوفه. و (تفتأ) : من النواقص اللازم للنفي، وحذفه هنا لعدم الإلباس لأنه لو كان مثبتاً لأكد باللام والنون. والحرض: المريض المشرف على الهلاك، وهو في الأصل مصدر، ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. والبث: أشد الحزن.
يقول الحق جلّ جلاله: وَتَوَلَّى يعقوب عن أولاده، أي: أعرض عَنْهُمْ لما لم يصدقهم، كراهةً إما صادف منهم، ورجع إلى تأسفه وَقالَ يا أَسَفى أي: يا شدة حزني عَلى يُوسُفَ. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه لأن محبته كانت أشد لإفراط محبته فيه، ولأن مصيبته سبقت عليهما. وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ من كثرة البكاء مِنَ الْحُزْنِ، كأَنَّ العَبْرَةَ محقت سوادها، وقيل: ضعف بصره، وقيل: عمي. وقد رُوي أنه:
«حَزِنَ يعقُوب حُزْن سبعين ثَكْلَى، وأُعطِي أَجر مائَة شَهيدٍ، وما ساءَ ظَنّه بالله قَطّ» .
وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع. ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف، فإنه قلَّ من يملك نفسه عند الشدائد، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «القلْبُ يَحْزَنُ، والعَيْنُ تَدمَعُ، ولا نَقُولُ إلاَّ ما يُرْضِي رَبَّنا، وإنَّا على فِراقِكَ يا إبراهِيمُ لَمَحْزُونون» .
فَهُوَ كَظِيمٌ أي: مملوء غيظاً على أولاده لما فعلوا. أو كاظم غيظه، ماسك له، لم يظهر منه شيئاً، ولم يشك لأحد


قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا: لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجعاً عليه، حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً: مشرفاً على الهلاك، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ: من الميتين. الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي
أي: شدة همي حُزْنِي
الذي لاصبر عليه، لَى اللَّهِ
لا إلى أحد منكم ولا غيركم فَخَلّوني وشِكَايتي، فلست مِمَّن يجزع ويَضْجَر فيستحق التعنيف، وإنما أشكو إلى الله، ولا تعنيف فيه لأن فيه إظهار الفقر، والعجز بين يديه، وهو محمود. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
أي: أعلم من لطف الله ورأفته ورحمته، ما يوجب حسن ظني وقوة رجائي، وأنه لا يخيب دعائي، ما لا تعلمون. أو: وأعلم من طريق الوحي من حياة يوسف ما لا تعلمون لأنه رأى ملك الموت فأخبره بحياته، كما تقدم. وقيل: علم من رؤيا يوسف أنه لا يموت حتى تخر له إخوته سُجّداً.
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم، فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي: تعرفوا من خبرهما، وتفحَّصوا عن حالهما. والتحسس: طلب الشيء بالحواس. وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختياراً، وفي ذكر يوسف دليل على أنه كان عالماً بحياته. وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ: لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه، أو من رحمته، وقرىء بضم الراء، أي: من رحمته التي يحيي بها العباد، أي: ولا تيأسوا من حي معه روح الله فكل من بقي روحه يرْجى، أي: ويوسف عندي، فمن معه روح الله فلا تيأسوا من رجوعه. إِنَّهُ أي:
الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ بالله وصفاته لأن العارف لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال. وإنما جعل اليأس من صفة الكافر لأن سببه تكذيبٌ بالربوبية، أو جهل بصفة الله وقدرته، والجهل بالصفة جهل بالموصوف، فالإياس من رحمة الله كفر.
وأما حديث الرجل الذي قال: (إذا متُّ فاحرقوني، ثم اذْروني في البحر والبر في يوم رائح، فلئِنِ قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد من الناس) ، حسبما في الصحيح «1» ، فليس فيه اليأس ولا تعجيز القدرة، لكن لما غلبه الخوف المفرط لم يتأمل ولم يضبط حاله إما لحقه من الخوف وغمره من الدهش والخشية، دون عقد ولا إصرار على نفي الرحمة واليأس منها. ويدل على ذلك قوله: (لما قال له الرب- تعالى-: ما حملك على هذا؟ قال:
مخافتك، فغفر له) . ولم يقل اليأس من رحمتك. انظر المحشي الفاسي.
الإشارة: لم يتأسف يعقوب عليه السلام على فقد صورة يوسف الحسية، إنما تأسف على فقد ما كان يشاهد فيه من جمال الحق وبهائه، في تجلي يوسف وحسن طلعته البهية، وفي ذلك يقول ابن الفارض:
عَينِي لِغَيرِ جَمَالِكُمُ لاَ تَنْظُرُ ... وسِوَاكمُ فِي خَاطِري لا يخطر

فلما فقد ذلك التجلي الجمالي حزن عليه، وإلا فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أولى بالغنى بالله عما سواه.
فإذا حصل للقلب الغنى بالله لم يتأسف على شيء، ولم يحزن على شيء لأنه حاز كل شيء، ولم يفته شيء.
«ماذا فقد من وجده، وما الذي وجد من فقده» . ولله در القائل:
أَنَا الفَقِيرُ إِليْكُمُ والْغَنِيُّ بِكُمُ ... وَلَيْس لِي بَعدَكُمُ حِرْصٌ عَلى أَحدِ
وهذا أمر محقق، مذوق عند العارفين أهل الغنى بالله. وقوله: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) : فيه رفع الهمة عن الخلق، والاكتفاء بالملك الحق، وعدم الشكوى فيما ينزل إلى الخلق.. وهو ركن من أركان طريق التصوف، بل هو عين التصوف. وبالله التوفيق

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يونيو 30, 2015 1:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

سورة الرعد (13) : آية 28
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ28))


يقول الحق جلّ جلاله، في وصف من سبقت له الهداية واتصف بالإنابة: هم الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله إيماناً تمكَّن من قلوبهم، واطمأنت إليه نفوسُهم فإذا حركتهم الخواطر والهواجم، أو فتن الزمان وأهواله تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وترتاح بذكر الله أُنساً به، واعتماداً عليه ورجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر آلائه ودلائله الدالة على وجوده ووحدانيته، أو بكلامه القرآن، الذي هو أقوى المعجزات. قاله البيضاوي. وقال في القوت: معنى تطمئن بذكر الله: تهش وتستأنس به. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرَّحمن الفاسي بعد كلام: والحاصل أن المراد من الطمأنينة: السكون إلى المذكور، والأنس به، ووجود الرَّوْحِ والفرح والانشراح، والغنى به. هـ.
قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لا بغيره، فلا تسكن إلا إليه، ولا تعتمد إلا عليه فإن سكنت إلى غيره ذهب نورها، وعظم قلقها. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ أي: لهم عيش طيب وحياة طيبة. أو الجنة، أو شجرة فيها، وَحُسْنُ مَآبٍ أي: مرجع يرجعون إليه بعد الموت.
الإشارة: الطمأنينة على قسمين: طمأنينة إيمان، وطمأنينة شهود وعيان. قوم اطمأنوا إلى غائب موجود، وقوم إلى آخر مشهود. قوم اطمأنوا بوجود الله من طريق الإيمان على نعت الدليل والبرهان، وقوم اطمأنوا بشهود الله من طريق العيان على نعت الذوق والوجدان. وهذه ثمرة الإكثار من ذكر الله.
قال الشيخ الشاذلى رضي الله عنه: حقيقة الذكر: ما اطمأن بمعناه القلب، وتجلّى في حقائق سحاب أنوار سمائه الرب. هـ. وقال الورتجبي: إنْ كان الإيمان من حيث الاعتقاد، فطمأنينة القلب بالذكر، وإن كان من حيث المشاهدة فطمأنينة القلوب بالله وكشف وجوده. هـ. فطمأنينة الإيمان لأهل التفكر والاعتبار من عامة أهل اليمين.
وطمأنينة العيان لأهل الشهود والاستبصار من خاصة المقربين. أهل الأولى يستدلون بالأشياء على الله، وأهل الثانية يستدلون بالله على الأشياء فلا يرون إلا مظهر الأشياء. وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه المستدل به عرف الحق لأهله، وأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه. وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه! ومتى بَعُدَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟!. كما في الحِكَم.
-وقال في المناجاة: «إلهي كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!. أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غِبْتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: «كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! أم كيف يُعرف بشيء مَنْ سَبَقَ وجودُه كلَّ شيء؟
أي: وظهر بكل شيء» . وفي ذلك يقول الشاعر:
-عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي عَلَيكَ شَهَادَةً ... وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد
وقال آخر:
-لَقَدْ ظهرتَ فَمَا تَخْفَى على أحدٍ ... إلا على أَكْمَهِ لا يُبْصِرُ القمرَا
لَكِنْ بَطَنْتَ بِما أَظْهَرْتَ مُحْتَجِبا ... وكيفَ يُبْصَرُ مَن بالْعِزَّةِ اسْتَتَرَا

وأهل طمأنينة الإيمان على قسمين باعتبار القرب والبُعد: فمنهم من يطمئن بوجود الحق على نعت القرب والأنس، وهم أهل المراقبة من الزهاد والصالحين، والعلماء العابدين المجتهدين، وهم متفاوتون في القرب على قدر تفرغهم من الشواغل والعلائق، وعلى قدر التخلية والتحلية. ومنهم من يطمئن إليه على نعت البعد من قلبه، وهم أهل الشواغل والشواغب، والعلائق والعوائق. -وعلامة القرب: وجود حلاوة المعاملة، كلذيذ المناجاة، والأنس به في الخلوات، ووجود حلاوة القرآن والتدبر في معانيه، حتى لا يشبع منه في كل أوان. وعلامة البعد: فقد الحلاوة المذكورة، وعدم الأنس به في الخلوة، وفقد حلاوة القرآن، ولو كان من أعظم علماء اللسان.
وأهل طمأنينة الشهود على قسمين أيضاً: فمنهم من تشرق عليه الأنوار، وتحيط به الأسرار، فيغرق في الأنوار وتطمس عنه الآثار، -فيسكر ويغيب عن الأثر في شهود المؤثر، ويسمى عندهم هذا المقام: مقام الفناء. ومنهم من يصحو من سكرته، ويفيق من صعقته، فيشهد المؤثر، لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقة عن جمعه، ولا يضره فناؤه عن بقائه، ولا بقاؤه عن فنائه، يعطي كل ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه، وهو مقام البقاء، ولا يصح وجوده إلا بعد وجود ما قبله، فلا بقاء إلا بعد الفناء، ولا صحو إلا بعد السكْر. ومن ترامى على هذا المقام- أعني مقام البقاء- من غير تحقيق مقام السكر والفناء فهو لم يبرح عن مقام أهل الحجاب.
-واعلمْ أن طمأنينة الإيمان تزيد وتنقص، وطمأنينة العيان، إن حصلت، تزيد ولا تنقص. فمواد أسباب زيادة طمأنينة الإيمان أشياء متعددة، فمنهم من تزيد طمأنينته بالتفكر والاعتبار، إما في عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات، فيطمئن إلى صانعٍ عظيم القدرة باهر الحكمة. وإما بالنظر في معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، وباهر علمه، وعجائب حكمه وأسراره، وإخباره بالأمور الغيبية السابقة والآتية، مع كونه نبياً أمّياً. فإذا تحقق بمعرفة الرسول فقد
تحقق بمعرفة الله، واطمأن به لأنه الواسطة العظمى، بين الله وبين عباده. ومنهم من تزيد طمأنينته بموالاة الطاعات وتكثير القربات، كالذكر وغيره.- ومنهم من تزيد طمأنينته بزيارة الأولياء أحياء أو ميتين. ومادة الأحياء أكثر، ونور طمأنينتهم أبهر، لا سيما العارفين، وفي الأثر: تعلموا اليقينَ بمجالسةِ أهل اليقين.

وأما طمأنينة أهل الشهود: فزيادتها باعتبار زيادة الكشف وحلاوة الشهود، والترقي في العلوم والأسرار، والاتساع في المقامات إلى ما لا نهاية له، في هذه الدار الفانية وفي الدار الباقية، ففي كل نَفَس يُجدد لهم كشوفات وترقيات ومواهب وتُحف، على قدر توجههم وتحققهم. حققنا الله بمقامهم، وأتحفنا بما أتحفهم. آمين.
ولا بد في تحصيل طمأنينة الشهود من صُحبة شيخ عارف طبيبٍ ماهر، يقدح عين البصيرة حتى تنفتح فما حجب الناس عن شهود الحق إلا طمسُ البصيرة، فإذا اتصل بشيخٍ عارفٍ كحل عين بصيرته أولا بإثمد علم اليقين، فيدرك شعاع نور الحق قريباً منه، ثم يكحل عينه ثانياً بإثمد عين اليقين، فيدرك عدمه لوجود الحق، أي:
يغيب عن حسه بشهود معناه القائم به. ثم يكحل عينه بإثمد حق اليقين فيدرك وجود الحق- بلا واسطة قدرة وحكمة، معنى وحساً، لا يتحجب بأحدهما عن الآخر. وإلى هذا أشار في الحِكَم بقوله: --«شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه» .





_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 01, 2015 2:21 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)


يقول الحق جلّ جلاله: أيها الرسول المحبوب، هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى العمل به، مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيقه وهدايته وتسهيله، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي: لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفي ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سائله، بل تحمد عاقبته.
ثم ذكر الموصوف بهما بقوله: اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي: الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما في السمواتِ وما في الأرض مُلكاً وعبيداً. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به،

فقال: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ بكتابه، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم، مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ، والويل: كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك، أي: هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل: وادٍ في جهنم.
ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يختارونها عَلَى الْآخِرَةِ، فإنَّ من أحب شيئاً اختاره وطلبه، وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويقهم عن الإيمان، وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: ويبغون لها زيغاً، ونُكُوباً عن الحق، ليتوصلوا للقدح فيها، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: في تلف بعيد عن الحق، بحيث ضلوا عن الحق، وبعدوا عنه بمراحل. والبُعد في الحقيقة: للضال، ووُصف به فعله للمبالغة.
---الإشارة: قد أخرج صلى الله عليه وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى أنوار متعددة، أولها: ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعِفة، ثم من ظلمة رؤية الأسباب، والوقوف مع العوائد، إلى نور شهود المسبب، وخرق العوائد، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون

---. وهذا آخر ظلمة تبقى في النفس، فتصير حينئذٍ روحاً، وسراً من أسرار الله، ويصير صاحبها روحانياً ربانياً عارفاً بالله، ولا يبقى حينئذٍ إلا الترقي في شهود الأسرار ابداً سرمداً. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية، ويصير ولياً محمدياً، يُخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار
---وأما من لم يبلغ هذا المقام، فإنما له الإخراج من أحد هذه الأشياء فالغزاة والمجاهدون يُخرجون من ظلمة الكفر إلى نورِ الإيمان، والعلماء يُخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم، والعُباد والزهاد يُخْرِجونَ من صَحِبَهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يُخْرج منها إلا الربانيون الروحانيون، أهل التربية النبوية، بإذن ربهم، يدلهم على صراط العزيز الحميد، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، واستحبَّ حياة دنياه على أخراه، أولئك في ضلال عن حضرة الحق بعيد. وبالله التوفيق.



البحر المديد في تفسير القرآن المجيد



[سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)


يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو أيها السامع، كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لأهل «لا إله إلا الله» ، وهم: أهل التوحيد، الذين رسخ التوحيد في قلوبهم، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها، ورسخ معناها في قلوبهم كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ: كالنخلة مثلاً، أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض، غائص بعروقه فيها، وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي: أعلاها. أو يريد الجنس، أي: فروعها وأفنانها في السماء، تُؤْتِي أُكُلَها:
تُعطى ما يؤكل من ثمرها كُلَّ حِينٍ وقَّته الله لإثمارها، فقيل: سنة، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء، واستدلوا بها على من حلف لا يُكلم أخاه حيناً لزمه سنة، وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وغيرهما:
كُلَّ حِينٍ أي: غدوة وعشية، ومتى أريد جناها. قلت: وهذا هو الظاهر.
واخْتُلف في هذه الشجرة الطيبة، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص، فقيل: غير معينة، وقيل: النخلة، وبه قال الجمهور. قال الشطيبي: وقيل: جوزة الهند، فإنها ثابتة الأصل، متصلة النفع، يكون طعمها أولاً لبناً، ثم عسلاً، ثم تنعقد طعاماً، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي، ثم يكون كالخل، ثم كالخمر، ثم كالزيت، كل هذا قبل عقد الطعم، وأما النخلة فهي: ستة أشهر طلع رخص، وستة أشهر رطب طيب، فنفعه متصل. وقال ابو حنيفة:
إنه ببلاد اليمن نوعٌ من التمر، يقال له: الباهين، يطعم السنة كلها. هـ. قلت: وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند، ووصفها كما قال الشطيبي، وقوله: «في النخلة ستة أشهر..» الخ، فيه نظر، وصوابه: ثلاثة، فإن المعاينة ترده.
---والمشبه بهذه الشجرة: المؤمن الكامل الدائم نفعه، المتصل علمه، أوقاته معمورة بذكر الله، أو تذكير عباد الله، وحركاته وسكناته في طاعة الله، حيث أراد بها وجه الله، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.
ثم قال تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير فإنه تصوير للمعاني وتقريبها من الحس، لتفهم سريعاً.
ثم ذكر ضدها فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ) كمثل شجرة خَبِيثَةٍ، كالحنظلة مثلاً، اجْتُثَّتْ: استؤصلت، وأُخذت جثتها، وقلعت بالكلية (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) ، أي: قطعت من فوق الأرض لأن عروقها قريبة منه، ما لَها مِنْ قَرارٍ: استقرار. وهذا في مقابلة قوله: أَصْلُها ثابِتٌ. قال البيضاوي:

واختُلف في الكلمة والشجرة ففُسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد- أي: (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) ، ودعوة الإسلام والقرآن، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى، والدعاء إلى الكفر، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك، فالكلمة الطيبة: ما أعرب عن حق، أو دعا الى صلاح، والكلمة الخبيثة: ما كان على خلاف ذلك. وفُسرت الشجرة الطيبة بالنخلة، ورُوي ذلك مرفوعاً، وبشجرة في الجنة،
---والخبيثة بالحنظلة، ولعل المراد بهما أيضاً ما يعم ذلك. هـ.
--يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وهو: لا إله إلا الله، أو كل ما يثبت في القلب، ويتمكن فيه من الحق، بالحجة الواضحة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا مدة حياتهم، فلا يزلون إذا افتتنوا في حياتهم، أو عند موتهم، وهي حسن الخاتمة، وَفِي الْآخِرَةِ عند السؤال، فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في القبر، وعند الموقف، فلا تدهشهم أهوال القيامة.
--- روى أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثُمَّ تُعَادُ رُوحه في جَسَدِهِ، فَيَأتيهِ مَلَكانِ، فيُجْلِسَانهِ فِي قَبْرهِ، ويَقُولاَنِ لَه: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ نَبِيكَ؟ فيقول: رَبي الله، ودِيني الإسْلاَمُ، ونبيى محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مُنَادٍ من السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبْدِي. فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» «1» . قلت: والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي: هو أشبه شيء بحال النائم.
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد، فلا يهتدون إلى الحق، ولا يثبتون في مواقف الفتن. وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض، وإضلال آخرين، من غير اعتراض عليه ولا تعقيب لحكمه.
--الإشارة: الكلمة الطيبة، هي كلمة التوحيد،
والشجرة الطيبة هي شجرة الإيمان، وأصلها هو: التوحيد الثابت في القلب، وفروعها: الفرائض والواجبات، وأغصانها: السنن المؤكدات، وأوراقها: المندوبات والمستحبات، وأزهارها:
الأحوال والمقامات، وأذواقها: الوجدان وحلاوة المعاملات، وانتهاء طيب أثمارها: العلوم وكشف أسرار الذات، الذي هو مقام الإحسان، وهي معرفة الشهود والعيان. فمَن لم يبلغ هذا المقام لم يجْن ثمرة شجرة إيمانه.

---ومن نقص شيئاً من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه، إما من فروعها، أو من أغصانها، أو من ورقها، أو من حلاوة أذواقها، أو مِنْ عَرْف أزهارها، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها في الخلاء، ولم تُلَقَّح كانت ذَكَّاره، تورق ولا تثمر، فهي شجرة إيمان

---مَن لا شيخ له يصلح للتربية، فإن الفروع والأوراق كثيرة، والثمار ضعيفة، أيُّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم في إشارة قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ «2» . وبالله التوفيق.


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 02, 2015 4:14 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

(سورة النحل)
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)


وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ، ولم تعاقبوا من أساء إليكم، لَهُوَ أي: الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فإن العقوبة مباحة، والصبر أفضل من الانتقام، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يريد المخاطبين، كأنه قال: فهو خير لكم.
ثم صرح بالأمر لرسوله به لأنه أولى الناس به لزيادة علمه بالله، فقال: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلا بتوفيقه وتثبيته. روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟» قالوا: نصبر كما ندبنا.. وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي: لا يضيق صدرك بمكرهم، ولا تهتم بشأنهم، فأنا ناصرك عليهم.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي،--- وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» .
فهو معهم بالمحبة والوداد «فإذا أحببته كنت له» . والله تعالى أعلم.

الإشارة: من شأن الصوفية: الأخذ بالعزائم، والتمسك بالأحسن فى كل شىء، ممتثلين لقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1» . ولذلك قالوا: الصوفي: دمه هدر، وماله مباح لأنه لا ينتصر لنفسه، بل يدفع بالتي هي أحسن السيئة. فالصبر دأبهم، والرضى والتسليم خُلقهم.
وحقيقة الصبر هي: حبس القلب على حكم الرب، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة: الطاعة، والمعصية، والنعمة، والبلية. فالصبر على الطاعة: بالمبادرة إليها، وعن المعصية: بتركها، وعلى النعمة: بشكرها، وأداء حق الله فيها، وعلى البلية: بالرضى وعدم الشكوى بها.
--وأقسام الصبر ستة: صبر في الله، وصبر لله، وصبر مع الله، وصبر بالله، وصبر على الله، وصبر عن الله.
أما الصبر في الله: فَهُوَ الصبر في طلب الوصول إلى الله، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله: فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله: فهو الصبر على حضور القلب مع الله، على سبيل الدوام مراقبة أو مشاهدة. فالأول: صبر المحبين، والثاني: صبر المحبوبين.
وأما الصبر بالله: فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير، لكنه بالله لا بنفسه، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله: فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله: فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب، فإذا كان العبد في مقام القرب واجدًا لحلاوة الأنس، مشاهدًا لأسرار المعاني، ثم فقد ذلك من قلبه، وأحس بالبعد والطرد- والعياذ بالله- فليصبر، وليلزم الباب حتى يَمن الكريم الوهاب، ولا يتزلزل، ولا يتضعضع، ولا يبرح عن مكانه، مبتهلاً، داعيًا إلى الله، راجيًا كرم مولاه، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر قيامًا بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون، الذين كملت عبوديتهم، فكانوا عبيدًا لله في جميع الحالات، قَرَّبهم أو أبعدهم.

---رُوِيَ أن رجلاً دخل على الشبلي رضي الله عنه، فقال: أي صبر أشد على الصابر؟ فقال له الشبلي: الصبر في الله، قال:
لا، قال: الصبر لله، قال: لا، قال: الصبر مع الله، قال: لا، فقال له: وأي شيء هو؟
--- فقال: الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة، كادت تتلف فيها روحه. هـ. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب، كما قال الشاعر:
إن شكوت الهوى، فما أنت منا ... احمل الصَّدَ والجفا، يا مُعَنَّا

وقال رجل لأبي محمد الحريري رضي الله عنه: كنت على بساط الأنس، وفتح على طريق البسط، فزللتُ زَلَّة، فحُجِبْتُ عن مقامي، فكيف السبيل إليه؟ دلني على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال: يا أخي، الكل في قهر هذه الخطة، لكني أنشدك أبياتًا لبعضهم، فأنشأ يقول:
قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفتُ بربعها مستخبرا ... عن أهله، أو سائلاً، أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقْتَ من تهوى فعز الملتقى
---ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي في الحرم أربعين سنة يقول: لبيك. فيقول له الهاتف: لا لبيك ولا سعديك، وحجك مردود عليك. فقيل له في ذلك، فقال: هذه بابه، وهل ثَمَّ باب أخرى أقصده منها؟ فقبله الحق تعالى، ولبى دعوته.
--- وكذلك قضية الرجل الذي قيل له، من قِبَلِ الوحي: إنك من أهل النار فزاد في العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته، وتحقق بمقام الفناء، فحينئذ قد يسهل عليه أمره لكمال عبوديته، كما قال القائل:

--وَكُنْتُ قَدِيمًا أَطْلُبُ الوَصْلَ مِنْهُمُ ... فلَمَّا أَتَانِي العِلْمُ وارْتَفَع الجَهْلُ
تيقنت أَنَّ العَبْدَ لا طَلَبٌ لَهُ ... فَإِنْ قَرُبُوا: فَضْلٌ، وإِنْ بَعُدُوا: عَدْلُ
وإنْ أَظْهَرُوا لَمْ يُظْهِرُوا غَيْرَ وَصْفِهِمْ ... وإِنْ سَتَرُوا فالستْرُ مِنْ أَجْلِهِمْ يَحْلُو
وأما من لم تكمل معرفته، فقد ينكره ويذمه، كالعباد والزهاد والعشاق، فإنهم لا يطيقونه، فإما أن يختل عقلهم، أو يرجعون إلى الانهماك في البطالة. والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.





_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يوليو 03, 2015 4:18 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

[سورة الإسراء (17) : آية 85]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)




قول الحق جلّ جلاله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ أي: عن حقيقة الروح، الذي هو مدبر البدن الإنساني، ومبدأ حياته. رُوي أن اليهود قالوا لقريش: سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح،

فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي. فبيَّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة، فقال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، أظهر في مقام الإضمار إظهارًا لكمال الاعتناء بشرفه، أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية، التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب، قال عليه الصلاة والسلام: «بل نحن وأنتم» . فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «1» ، وتارة تقول هذا، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي «2» الآية. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... «3» الآية.
وهذا من ركاكة عقولهم فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية، بل ما نيط به المعاش والمعاد، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه، قليل ينال به خير: كثير في نفسه.
وقال ابن حجر: أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف تُعذب الروح في الجسد وإنما الروح من الله؟. هـ. قلت: يُجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري: أرادوا أن يُغالطُوه فيما به يجيب، فأمَرَه أن ينطق بأمرٍ يُفْصِحُ عن أقسامِ الروح، لأنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظ «الرُّوحِ» يدخل تحت قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، ثم قال: وفي الجملة: الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد، ما دام الروح في جسده، والروح لطيفة تَقرب للكثافة في طهارتها ولطافتها. وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل: إن أدركها التكليف، كان للروح صفاء التسبيح، وضياء المواصلة، ويُمن التعريف بالحق. هـ. وقيل: المراد بالروح: خلق عظيم روحاني من أعظم الملائكة، وقيل: جبريل عليه السلام، وقيل:
القرآن. ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من وحيه وكلامه، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.

الإشارة: قد أكثر الناسُ الكلام في شأن الروح، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لم يجب عنها. وبيَّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهي لم يرد عن الخوض فيها صريحًا،

فقال بعضهم:--- حقيقة الروح: جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب، وقال صاحب (الرموز في فتح الكنوز) على حديث: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربّه» : قد ظهر
لي من سر هذا الحديث ما يجب كشفه ويستحسن وصفه، وهو: أن الله، سبحانه، وضع هذا الروح في هذه الجثة الجثمانية، لطيفة لاهوتية، في كثيفة ناسوتية، دالة على وحدانيته تعالى وربانيته، ووجه الاستدلال من عشرة أوجه: الأول: أن هذا الهيكل الإنساني لَمَّا كان مفتقرًا إلى محرك ومدبر، وهذا الروح هو الذي يدبره ويحركه، علمنا أن هذا العالم لا بد له من محرك ومدبر. الثاني: لَمَّا كان مدبر الجسد واحدًا علمنا أن مدبر هذا العالم واحد لا شريك له في تدبيره وتقديره. قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1» ، الثالث: لَمَّا كان لا يتحرك هذا الجسم إلا بتحريك الروح وإرادته علمنا أنه لا يتحرك بخير أو شر إلا بتحريك الله وقدرته وإرادته.
الرابع: لَمَّا كان لا يتحرك في الجسد شيء إلا بعلم الروح وشعورها، لا يخفي على الروح من حركة الجسد شيء، علمنا أنه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. الخامس: لَمَّا كان هذا الجسد لم يكن فيه شيء أقرب إلى الروح من شيء علمنا أنه تعالى قريب إلى كل شيء، ليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد إليه من شيء، لا بمعنى قرب المسافة لأنه منزه عن ذلك. السادس: لَمَّا كان الروح موجودًا قبل الجسد، ويكون موجودًا بعد عدمه علمنا أنه تعالى موجود قبل خلقه، ويكون موجودًا بعد عدمهم، ما زال، ولا يزال، وتقدس عن الزوال. السابع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية علمنا أنه تعالى مقدس عن الكيفية.
الثامن: لَمَّا كان الروح في الجسد لا تعرف له كيفية ولا أينية، بل الروح موجود في سائر الجسد، ما خلا منه شيء في الجسد. كذلك الحق سبحانه موجود في كل مكان، وتنزه عن المكان والزمان. التاسع: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يحس ولا يجس ولا يُمس، علمنا أنه تعالى منزه عن الحس والجس والمس. العاشر: لَمَّا كان الروح في الجسد لا يُدرك بالبصر، ولا يمثل بالصور، علمنا أنه تعالى لا تُدركه الأبصارُ، ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «2» . هـ. وحديث «من عرف نفسه ... »
الخ، قال النووي: غير ثابت، وقال السمعاني: هو من كلام يحيى ابن معاذ الرازي. والله تعالى أعلم.


---وسئل أبو سعيد الخراز عن الروح، أمخلوقة هي؟ قال: نعم. ولولا ذلك لما أقرت بالربوبية حتى قالت: «بلى» .
قلت: لما انفصلت عن الأصل كستها أردية العبودية، فأقرت بالربوبية. وقال الورتجبي: الروح: شعاع الحقيقة، يختلف آثارها في الأجساد. قال: ومن خاصيتها أنها تميل إلى كل حسن ومستحسن، وكل صوت طيب، وكل رائحة طيبة لحسن جوهرها وروح وجودها، ظاهرها غيب الله، وباطنها سر الله، مصورة بصورة آدم،--- فإذا أراد الله
خلق آدمي أحضر روحه، فصور صورته بصورة الروح فلذلك قال عليه الصلاة والسلام إشارة وإبهامًا: «خلق الله آدم على صورته» . هـ. قلت: يعني: أن إظهار الروح من بحر الجبروت، في التجلي الأول، كان على صورة آدم، ثم خلق آدم على صورة الروح الأعظم، وهو التجلي الأول من بحر المعاني، فكانت أول التجليات من ذات الرحمن،--- فقال في حديث آخر: «إنَّ الله خلق آدم على صورة الرحمن» . والله تعالى أعلم. وقيل: الصوت الطيب روحاني، ولتشاكله مع الروح، صار يهيج الروح ويحثها للرجوع لأصلها، إذا كان صاحبها له ذوق سليم، يسمع من صوت طيب كريم. سمع أبو يزيد نغمة، فقال: أجد النغم نداء منه تعالى. وقيل: إن الروح لم تدخل في جسد آدم إلا بالسماع، فصارت لا تخرج من سجنه إلا بالسماع. والله تعالى أعلم.

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يوليو 04, 2015 2:40 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 87]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً )87)


يقول الحق جلّ جلاله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ: نجمعهم إِلَى الرَّحْمنِ أي: إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة، وَفْداً: وافدين عليه، كما يفد الوفود على الملوك، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم.
----وعن عليّ كرّم الله وجهه: (لَمَّا نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول الله، إني قد رأيت الملوك ووفودهم، فلم أر وفدًا إلا راكبًا، فما وفد الله؟ قال: «يا عليّ إذا حان المنصَرَفُ من بين يدي الله، تلقت الملائكة المؤمنين بنُوقٍ بيض، رِحالُهَا وأزِمَّتُها الذَهَبُ، على كل مركب حُلة لا تُساويها الدنيا، فيلبس كل مؤمن حلّة، ثم يستوون على مراكبهم، فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» .
---وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تُساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً: عطاشًا، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش، أو كالدواب التي ترد الماء، أي: يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة، لما يقع فيه من الدواهي الطامة، أو الكرائم العامة، أو: اذكر يوم نحشر الفريقين، على طريق الترغيب والترهيب.
وقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ: استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله، وضمير الواو: إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها، أو إلى المتقين فقط، أو إلى المجرمين.
و (مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء، أو بدل من الواو، أي: لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا، فيشفع في مثله. فَمَن، على هذا الثالث، بدل من الواو فقط. والأول أحسن لعمومه.
---قال ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أما يَعْجزُ أَحدكُمْ أَنْ يتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَساءٍ عَهدًا عِند اللهِ، يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ ومَساءٍ: اللهمّ فاطر السموات والأرْض، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ، إنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هذهِ الحياةَ الدنيا، بأَنِي أشهد أن لا إله إِلاَّ أنتَ، وَحْدكَ لا شَرِيكَ لَكَ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولُكَ، فلا تكلني إلى نفسي، فإِنَكَ إنْ تَكلْنِي إلى نَفسْي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشرِّ وتُبَاعِدْنِي مِنَ الخَيْرِ، وإنّي لاَ أَثِقُ إلّا برحمتك، فاجعل لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيه يَوْمَ القِيامَةِ، إنَّكَ لا تُخْلفُ المِيعادَ. فإذا قالَ ذَلِكَ طُبعَ عَلَيْهِ طابَع ووُضِعَ تَحْتَ العَرْشِ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَىَ مُنَادٍ: أَيْنَ الذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الجنَّة» . هـ.
---الإشارة: ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية، ومن ورد من باب الطاعات

السرية- كالفكرة والنظرة في مقام المشاهدة- حمله الحق إلى الحضرة القدسية، فيكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
--- قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف في قوله تعالى: (وَفْداً) : قيل: ركبانًا على نجائب طاعتهم، وهم مختلفون، فمن راكب على صور الطاعات، ومن راكب على نجائب الهمم، ومن راكب على نجائب الأنوار، ومن محمول يحمله الحق في عقباه، كما يحمله اليوم في دنياه، وليس محمول الحق كمحمول الخلق. هـ.
وقوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ... ) الآية، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم، وهم أعظم من أهل المقام الأول، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم، وهم أعظم من القسمين، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم،

---وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة، أنَّ بعض الأولياء قال عند موته: يا رب شفِّعني في أهل زماني، فقال له الحق تعالى- من جهة الهاتف-: لم يبلغ قدرك هذا، فقال: يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا، فقال له: إني شفعتك في أهل عصرك. هـ. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم الله وجوده، ودخل من هذا الباب، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء. وبالله التوفيق.





_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 05, 2015 4:25 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى )8)


عن ابن عباس أن «طه» من أسماء الله تعالى، وقيل: معناه: طوبى لمن هدى، وقيل: يا طاهر يا هادي، فالطاء تشير إلى طهارته صلى الله عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.
ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لي عشرة أسماء..» فذكر أن منها «طه ويس» ،
--وقيل: معناه: طأ الأرض بقدمك لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده، فأبدل الهمزة ألفًا، والضمير للأرض، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل:
معناه: يا رجل. وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، وهو عندهم على اللغة النبطية، أو السريانية «2» . قيل: من جعل معنى «طه» يا رجل، لم يقف على طه، وكذا من جعله اسما للنبى صلى الله عليه وسلم لأن النداء تنبيه على ما بعده، ومن جعلها افتتاحًا، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة، وقف عليها، إلا في قول من جعلها قَسَمًا، فإنه لا يقف عليها لأن قوله: (ما أَنْزَلْنا ... ) الخ جواب قسم.

المتبادر من سبب نزولها ومن قوله: (ما أَنْزَلْنا) : إما القسم أو النداء، --فالقَسَم على أن ذلك من أسماء الله، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل، أو من أسمائه صلى الله عليه وسلم. وأمَّا غير ذلك فبعيد، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافًا بعد الوقف على «طه» . قاله في الحاشية.
و (إِلَّا تَذْكِرَةً) : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع، أي: ما أنزلناه لتتعب به، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ، و (تَنْزِيلًا) :
مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله، أي: أنزل تنزيلاً، والأصح: أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه، وفيه معنى التأكيد لما قبله، أو هو نص في معناه، وإنما تلون الكلام بالالتفات، أو منصوب على المدح والاختصاص، أو مفعول بيخشى، أو حال من «الْقُرْآنَ» ، و (الرَّحْمنُ) : رفع على المدح، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته. وقرئ بالجر صفةً للموصول، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي، أو (الرَّحْمنُ) : مبتدأ، و (عَلَى الْعَرْشِ) : خبره. و «عَلَى» : متعلقة باستوى، قُدمت للفواصل. و (إِنْ تَجْهَرْ) : شرط، والجواب محذوف دل عليه (فَإِنَّهُ ... ) الخ، أي: فالله غني عن جهرك، فإنه ... الخ.
يقول --الحق جلّ جلاله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو ترويحًا له من التعب: يا محمد ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى أي: لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة.
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام: «أبْق عَلى نَفْسِكَ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا» . أي: ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك «1» وحملها على الرياضَات الشاقة، والشدائد الفادحة، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة. أو: ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم، كقوله: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» ، بل للتبليغ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع، ومنه قولهم: أشقى من رائض مُهر، وقيل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول صلى الله عليه وسلم: إنك شقي، حيث تركت دين آباءك، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى، فردَّ اللهُ ذلك عليهم. والأول أظهر، والعموم أحسن، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة.
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي: ما أنزلناه لتتعب، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله- عزّ وجلّ- ليتأثر بالإنذار، لرقة قلبه ولين عريكته، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها.
تَنْزِيلًا أي: أنزل تنزيلاً، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً، أي: منزلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله: (ما أَنْزَلْنا) لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس، ووصف السموات بالعُلى، وهو جمع «عليا» لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله: (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، مسوق لتعظيم المنزل- عزّ وجلّ- المستتبع بتعظيم المنزَّل عليه، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان، واستمالتهم إلى الخشية، المفضية إلى التذكير والإيمان.
ثم قال تعالى: الرَّحْمنُ أي: هو الرحمن، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية للإيذان بأن ربوبيته تعالى، وقيامَه بالأشياء، من طريق الرحمة والإحسان، لا بالإيجاب،-- وفيه إشارة إلى أنَّ تنزيله القرآن أيضًا من رحمته- تعالى-، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل: الرَّحْمنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ «1» . أو: (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : مبتدأ وخبر، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه، غني عن الإخبار صريحًا. والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان، يقال: استوى فلان على سرير الملك مرادًا به مَلَك الملك والتصرف، وإن لم يقعد على سرير أصلاً، والمراد: تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء، فقال: استواء مَنْ غَلَبَ وقهر، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي- رضى الله عنهما- فقالا: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة، آمنوا بلا تشبيه، وصدّقوا بلا تمثيل، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك.

وقال الجنيد رضي الله عنه: خلق الله العرش---
فوق سبع سموات، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات، وقابله بقلب عبده المؤمن، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات. هـ. وقد تقدّم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا «2» .
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما، وَما بَيْنَهُما من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا، كالهواء والسحاب، أو أكثريًا كالطير، أي: له ذلك وحده دون غيره، لا شركةً ولا استقلالاً، كل ما ذكر هو له ملكًا وتصرفًا، وإحياء وإماتة، وإيجادًا وإعدامًا، وَما تَحْتَ الثَّرى:
وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب: أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدى:
الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة، وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادةِ التقرير. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ أي: وإن تجهر بذكره تعالى- أو دعائه، فاعلم أنه تعالى غَنِي عن جهرك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي: ما أسررته إلى غيرك، وشيئًا أخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، من غير أن تتفوه به أصلاً أو: السر: ما أسررته في نفسك، وأخفى منه: ما ستُسره في المستقبل. وهو إمّا نهي عن الحركة، كقوله تعالى:
--وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ «1» وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها، ومنعها من الاشتغال بغيره، وقطع الوسوسة عنها، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية: بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.

ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات، فقال: اللَّهُ أي: ما ذكر من صفات الكمال، موصوفها الله المعبود بالحق، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: لا معبود بحق إلا هو، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات، ومن الرحمانية والمالكية للكل، والعلم الشامل، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية، وقوله تعالى: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته، من غير تعدد في ذاته تعالى فالأسماء والصفات كثيرة، والمسمى والموصوف واحد. و (الْحُسْنى) : تأنيث الأحسن، فُعلى، يُوصف به الواحد المؤنث، والجمع المذكر والمؤنث، ك مَآرِبُ أُخْرى «2» ، وآياتِنَا الْكُبْرى «3» . والله تعالى أعلم.
الإشارة: من تأمل القرآن العظيم، وما جاء به الرسول- عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم- وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء، --لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان، وجنة ورضوان، أعني جنة العرفان.
-- ولذلك قال الشيخ أبو الحسن: «ليس شيخك من يدلك على تعبك، إنما شيخك من يريحك من تعبك» ، كما في لطائف المنن.
وقال شيخنا القطب ابن مشيش: وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا» فقال: دلوهم على الله، ولا تدلوهم على غيره، فإن مَن دَلَّك على الدنيا فقد غشك، ومَن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومَن دَلَّكَ على الله فقد
نصحك. هـ. فإذا دلك على الله غَيَّبك عن وجود نفسك بشهود ربك، وهي السعادة العظمى، كما تقدم في سورة هود. فمن اتخذ شيخًا ثم لم ينقله من مقام التعب، ولم يُرحله من مقام إلى مقام، فاعلم أنه غير صالح للتربية.
وقوله تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: قيل: أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها،
---فأنزل الله القرآن تأنيسًا لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق: أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين، ورحمة للمؤمنين، وأنسًا للمحبين. وايضًا: القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته، فهو مُذهب للغفلة. ثم قال: وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة، ووجدان الراحة بالطاعة، لكونه يصير محمولاً، وقد قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «1» ، أي: لشهودي فيها، وفي ذلك قرة عين، وراحةً، وأنس، وتشابه حال المصلي بحال موسى، بجامع النجوى، فلذلك ذكر في سياقه. والله أعلم. هـ.
وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله:
«يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، مَحَقْتَ الآثار بالآثار، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار» . وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات، والصفة لا تُفارق الموصوف، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار، ومحت كل شيء، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شَىْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.



_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 06, 2015 4:24 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد


[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)


يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي: على طرف من الدين لاثبات له فيه، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش، فإن أحس بظفر قرَّ، وإلا فر. وفي البخاري عن ابن عباس: «كان الرجل
يَقدمُ المدينة، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه، قال: هذا دينٌ صالح، وإن لم تَلِد امرأته، ولم تنتج خيلُه، قال:
هذا الدين سُوء» «1» . وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي، بدأ بالكافر المصمم، يجادل جدالاً مجملاً، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني: مقلد مجادل، من غير دليل ولا برهان، والثالث: كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم، بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ... الآية.
---ثم كمَّل حال المذبذب بقوله: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ أي: دنيوي من الصحة في البدن، والسعة في المعيشة، اطْمَأَنَّ بِهِ أي: ثبت على ما كان عليه ظاهرًا، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين، الذين لا يلويهم عنه صارف، ولا يثنيهم عنه عاطف. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ: بلاء في جسده، وضيق في معيشته، أو شيء يفتتن به، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله، انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي: ارتد ورجع إلى الكفر، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها.
وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة، مهاجرين، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا، وولدت امرأته غلامًا سويًا، وكَثُرَ مالُه وماشيته، قال: ما أصبتُ، مذ دخلت في ديني هذا، إلا خيرًا، واطمأن، وإن كان الأمر خلافه، قال: ما أصبتُ إلا شرًّا، وانقلب عن دينه. وعن أبى سعيد رضى الله عنه: أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ، فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَال: أَقِلْنِي، فقال: «إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ» ، فَنَزلت «2» .
خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ: فَقَدَهُما، وضيعهما بذهاب عصمته، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب: خاسر، على الحال. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الواضح، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله: يَدْعُوا أي: يعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: متجاوزًا عنه تعالى، ما لا يَضُرُّهُ إذا لم يعبده، وَما لا يَنْفَعُهُ إذا عبده. ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ أي: التلف البعيد عن الحق.
يَدْعُوا أي: يعبد لَمَنْ ضَرُّهُ أي: الصنم الجامد الذي ضرره أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ. وقرأ ابن مسعود:
«يدعو من ضره» ، بحذف اللام. أو: ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزي: وهنا إشكال: وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب: أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها، وهي لا تفعل شيئًا، والضر الثاني، الذي أثبته لها، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. هـ. لَبِئْسَ الْمَوْلى أي: الناصر، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أي: الصاحب. أو: يدعو ويصرخ يوم القيامة، حين يرى استضراره بالأصنام، ولا يرى لها أثر الشفاعة، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه: لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.
---الإشارة: ومن الناس مَن يعبد الله على حرف على طرف من الدين، غير متمكن فيه، فإنه أصابه خير، وهو ما تُسر به النفس من أنواع الجمال، اطمأن به، وإن أصابته فتنة، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال، انقلب على وجهه. أو: ومن الناس من يعبد الله على طمع في الجزاء الدنيوي أو الأخروي، فإن أصابه خير فرح واطمأن به، وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو: ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف، أي: حالة واحدة، فإن أصابه خير كقوة ونشاط وورود حال اطمأن به وفرح، وإن أصابته فتنة كضعف وكسل وذهاب حال، انقلب على وجهه، ورجع إلى العمومية، أو وقف عن السير، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا: ما يفوته من عزّ الله ونصره لأوليائه، وحلاوة برد الرضا والتسليم، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة: ما يفوته من درجة المقربين، ودوام شهود رب العالمين.
----فالواجب على العبد أن يكون عبدا لله في جميع الحالات، لا يختار لنفسه حالاً على حال، ولا يقف مع مقام ولا حال، بل يتبع رياح القضاء، ويدور معها حيث دارت، ويسير إلى الله في الضعف والقوة.
----قال بعضهم: سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير. وفي الحكم: «إلهي قد علمتُ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار، أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء، حتى لا أجهلك في شيء» . وقال أيضًا: «لا تطلبن بقاء الواردات، بعد أن بسطت أنوارها، وأودعت أسرارها، فلك في الله غنى عن كل شيء، وليس يغنيك عنه شيء» .

----فكن عبد المحوِّل، ولا تكن عبد الحال، فالحال تَحُولُ وتتغير، والله تعالى لا يحول ولا يزول، فكن عبدًا لله، ولا تكن عبدًا لغيره.
لِكَلِّ شَيء، إن فارقْتَهُ، عِوَضٌ ... وَلَيْسَ لله، إنْ فارقت من عوض

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 07, 2015 2:26 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)


يقول الحق جلّ جلاله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي: فازوا بكل مطلوب، ونالوا كل مرغوب، فالفلاح: الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام،
---- وقيل: البقاء في الخير على الأبد، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان في اللغة: التصديق بالقلب، والمؤمن: المصدِّق لِما جاء به الشرع، مع الإذعان بالقلب، وإلا.. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن، تكبُّراً وعمواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعا
-----، قال عليه الصلاة السلام: «لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ، قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون- ثلاثاً- أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي» «1» لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية، وليسر له أعمال صافية.
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات، فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ: خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح، وقيل: الخشوع في الصلاة: جمع الهمة، والإعراض عما سواها، وعلامته: ألا يجاوز بصرُه مصلاه، وألاّ يلتفت ولا يعبث. وعن أبي الدرداء: (هو إخلاص المقال، وإعظام المقام، واليقين التام، وجمع الاهتمام)
.
------وأضيفت الصلاة إلى المصلين لانتفاع المصلِّي بها وحده، وهي عُدَّته وذخيرته، وأما المُصلَّى له فَغَني عنها.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، اللغو: كل كلام ساقط، حقه أن يُلغَى، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق إن اللغو: كل ما لا يعني من الأقوال والأفعال، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار، بعد وصفه لهم بالخشوع ليجمع لهم بين الفعل والترك، الشاقّين على النفس، الّذين هما قاعدتا التكليف.ناداً، فكل من نطق بالشهادتين،الّذين هما قاعدتا التكليف

----وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المفروضة عليهم يُحافِظُونَ: يداومون عليها في أوقاتها. وأعاد الصلاة لأنها أهم، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها، وَوُحِّدَت أولاً ليُفاد أَن الخشوع في جنس الصلاة أيَّةَ صلاة كانت، وجُمعت ثانياً ليُفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل. قاله النسفي.
أُولئِكَ الجامعون لهذه الأوصاف هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن يُسَمَّوُا وارثين، دون غيرهم ممن ورث رغائِب الأموال والذخائر وكرائمها، وقيل: إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة، حيث فوَّتُوها على أنفسهم، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار،

--- ففي الحديث: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا ولَهُ مَنْزِلاَنِ:
مَنْزِلٌ في الجنة ومَنْزِلٌ في النَّارِ، فَإِن مَاتَ ودَخَلَ الجَنَّة، وَرٍثَ أَهْلُ النَّارِ مَنْزِله، وإِنْ مَات ودَخَلَ النَّارَ، وَرثَ أَهْلُ الجَنَّةَ مَنْزِلَهُ» «1» .
ثم ترجم الوارثين بقوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هو في لغة الروم والحبشة: البستان الواسع، الجامع لأصناف الثمر، والمراد: أعلى الجنان، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم، هُمْ فِيها خالِدُونَ، أنث الفردوس بتأويل الجنة، أو لأنه طبقة من طبقاتها، وهي العليا. والله تعالى أعلم.

الإشارة: قال القشيري: الفلاح: الفوزُ بالمطلوب، والظَّفَرُ بالمقصود. والإيمان: انتسامُ الحقِّ في السريرة، ومخامرة التصديق بخُلاصة القلب، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد «2» . والخشوع في الصلاة: إطراق السِّرِّ على بساط النَّجوى، باستكمال نَعْتِ الهيبة، والذوبانِ تحت سلطان الكشف، والانمحاءِ عند غلبات التَّجلِّي. هـ.
----قلت: كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن، فأول الفلاح: الدخول في حوز الإسلام بحصول الإيمان، وغايته: إشراق شمس العرفان، وأول الإيمان: تصديق القلب بوجود الرب، من طرق الاستدلال والبرهان، وغايته:
إشراق أسرار الذات على السريرة، فيصير الدليل محل العيان، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان، وأول الخشوع: تدبر القلب فيما يقول، وحضوره عند ما يفعل، وغايته: غيبته عن فعله في شهود معبوده، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب، فتكون صلاته شكراً لا قهراً، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً» .
ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو، وهو كل ما يشغل عن الله، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله، وإمساك الجوارح عن محارم الله، وحفظ الأنفاس والساعات، التي هي أمانات عند العبد من الله.
قال في القوت:
---- قال بعض العارفين: إن لله- عز وجل- إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ، أحدهما: إذا وُلِد وخرج من بطن أمه، يقول له: عبدي، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً، واستودعتك عُمرك، ائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك، وسرّ عند خروج روحه، يقول له: عبدي، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية، فالقاك بالوفاء والجزاء؟
أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ فهذا داخل في قوله عز وجل: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ، وفى قوله عز وجل: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1» ، فعُمْر العبد أمانة عنده، إن حفظه فقد أدى الأمانة، وإن ضيَّعه فقد خان، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ



لطائف الإشارات = تفسير القشيري


سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)

ظفر بالبغية وفاز بالطّلبة من آمن بالله.
و «الفلاح» : الفوز بالمطلوب والظّفر بالمقصود.
والإيمان انتسام الحقّ فى السريرة، ومخامرة التصديق خلاصة القلب، واستمكان التحقيق من تأمور الفؤاد «1» .
والخشوع فى الصلاة إطراق السّرّ على بساط النّجوى باستكمال نعت الهيبة، والذوبان تحت سلطان الكشف، والامتحاء عند غلبات التّجلّي.
ويقال أدرك ثمرات القرب وفاز بكمال الأنس من وقف على بساط النجوى بنعت الهيبة، ومراعاة آداب الحضرة.
---ولا يكمل الأنس بلقاء المحبوب إلا عند فقد الرقيب.
وأشدّ الرقباء وأكثرهم تنغيصا لأوان القرب النّفس فلا راحة للمصلّى مع حضور نفسه، (فإذا خنس عن نفسه) « وشاهده عدم إحساسه بآفات نفسه، وطاب له العيش، وتمّت له النّعمى، وتجلّت له البشرى، ووجد لذّة الحياة.
----وكل ما يشغل عن الله فهو سهو، وما ليس لله فهو حشو، وما ليس بمسموع من الله أو بمعقول مع الله فهو لغو، (وما هو غير الحق سبحانه فهو كفر، والتعريج على شىء من هذا بعد وهجر
ويقال ما ليس بتقريظ الله ومدحه من كلام خلقه فكل ذلك لغو.






_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: لطائف شفاء الصدور فى الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 08, 2015 4:24 pm 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35060
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
[سورة النور (24) : آية 35]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: منور أهلهما [بنور الإسلام والإيمان لأهل الإيمان] «2» ، وبنور الإحسان لأهل الإحسان، فحقيقة النور: هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا: المعنوية بدليل قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ، فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى: نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى: نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى: نور الإحسان. فالأول: يشبه نور النجوم، والثاني:
نور القمر، والثالث: نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية: نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان.
----ثم ضرب المثل لذلك النور، حين يقذفه في قلب المؤمن، فقال: مَثَلُ نُورِهِ أي: صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن- كما هي قراءة ابن مسعود- كَمِشْكاةٍ أي: كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً، فيكون أزهر وأنور، فِيها مِصْباحٌ أي: سراج ضخم ثاقب، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي: في قنديل من زجاج صافٍ أزهر، الزُّجاجَةُ من شدة صفائها كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ بضم الدال وتشديد الراء، منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمز: «أبو عمرو» على أنه يدْرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز: أبو بكر وحمزة، شبهه بأحد الكواكب الدراري، كالمشتري والزهرة ونحوهما.
تَوَقَدُ «1» بالتخفيف والتأنيث، أي: الزجاجة، أو يُوقَدُ بالتخفيف والغيب، أو: تَوَقَّدَ بالتشديد، أي:
المصباح مِنْ شَجَرَةٍ أي: من زيت شجرة الزيتون، أي: رويت فتيلته من زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة المنافع، أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل: بارك فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم عليه السلام.
زَيْتُونَةٍ: بدلٌ من شَجَرَةٍ، من نعتها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي: ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أنضر لها، وأجود لزيتونها. وقيل: ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً. نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قَلبِ المؤمن فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة. يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها. نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام،
يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لهذا النور الباهر مَنْ يَشاءُ من عباده إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها. وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريباً للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، معقولاً كان أو محسوساً، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.

---الإشارة: اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها: الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال: مَثَلُ نُورِهِ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ أي: كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ... .. إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
وقوله تعالى: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل: الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور ملكوته على نور جبروته،

--- يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، مَنْ يَشاءُ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحِكَم: «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته» ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله: (أو كظلمات..) إلخ.
وفي الحِكَم. «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار» «1» . فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه:
(مشكاة الأنوار) ، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى «النور» : يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم، ولذلك قال قائلهم:
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ ... وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ
وفي لطائف المنن: الله نور السموات والأرض نور سموات الأرواح بمشاهدته، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصاً، وهو الظاهر في كل شيء عموماً، ظهر فيهم بأنواره وأسراره، كما ظهر فيهم، وفيما عداهم بقدرته واقتداره. هـ.







_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 94 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3, 4, 5 ... 7  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 20 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط