ابن حجر كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , اللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين .
جاء في كتاب/لطائف المعارف لابن رجب :
المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان :
في الصحيحين عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله " . هذا لفظ البخاري .
ولفظ مسلم : " أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر " .
وفي رواية لمسلم عنها رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر فمنها: إحياء الليل ": فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله.
وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: "وأحيا الليل كله" وفي المسند من وجه آخر عنها قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر ـ يعني الأخير ـ شمر وشد المئزر " . وخرج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف عن أنس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا " .
ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه وقد روي عن بعض المتقدمين من بني هاشم ظنه الراوي أبا جعفر بن علي أنه فسر ذلك بإحياء نصف الليل وقال: من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل وقد سبق مثل هذا في قول عائشة رضي الله عنها: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا ".
ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: " ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح ".
وذكر بعض الشافعية في إحياء ليلتي العيدين أنه تحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل قال: وقيل: تحصل بساعة وقد نقل الشافعي في الأم عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده ونقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أن إحياءها يحصل بأن يصلي العشاء في جماعة ويعزم على أن يصلي الصبح في جماعة وقال مالك في الموطأ بلغني أن ابن المسيب قال: من شهد ليلة القدر ـ يعني في جماعة ـ فقد أخذ بحظه منها وكذا قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها وقد روي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعا: " من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر" خرجه أبو الشيخ الأصبهاني ومن طريقه أبو موسى المديني وذكر أنه روي من وجه آخر عن أبي هريرة نحوه ويروى من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا لكن إسناده ضعيف جدا ويروى من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عليه رمضان صحيحا مسلما صام نهاره وصلى وردا من ليله وغض بصره وحفظ فرجه ولسانه ويده وحافظ على صلاته في الجماعة وبكر إلى جمعة فقد صام الشهر واستكمل الأجر وأدرك ليلة القدر وفاز بجائزة الرب عز وجل" قال أبو جعفر: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء خرجه ابن أبي الدنيا.
ولو نذر قيام ليلة القدر لزمه أن يقوم من ليالي شهر رمضان ما يتيقن به قيامها فمن قال من العلماء: إنها في جميع الشهر يقول: يلزمه قيام جميع ليالي الشهر ومن قال: هي في النصف الآخر من الشهر قال: يلزمه قيام ليالي النصف الأخير منه ومن قال: هي في العشر الأواخر من الشهر قال: يلزمه قيام ليالي العشر كلها وهو قول أصحابنا وإن كان نذره كذلك وقد مضى بعض ليالي العشر فإن قلنا: إنها لا تنتقل في العشر أجزأه في نذره أن يقوم ما بقي من ليالي العشر ويقوم من عام قابل من أول العشر إلى وقت نذره وإن قلنا إنها تنتقل في العشر لم يخرج من نذره بدون قيام ليالي العشر كلها بعد عام نذره ولو نذر قيام ليلة غير معينة لزمه قيام ليلة تامة فإن قام نصف ليلة ثم نام أجزأه أن يقوم من ليلة أخرى نصفها قاله الأوزعي نقله عنه الوليد بن مسلم في كتاب النذور وهو شبيه بقول من قال من أصحابنا وغيرهم: أن الكفارة يجزىء فيها أن يعتق نصفي رقبتين.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين ذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين خاصة وهذا يدل على انه يتأكد إيقاظهم في أكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر وخرج الطبراني من حديث علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يطيق الصلاة .
قال سفيان الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعليا ليلا فيقول لهما "ألا تقومان فتصليان" وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة ونضح الماء في وجهه وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة يقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] الآية.
كانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد وزاد قليل وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
يا نائم الليل كم ترقد ... قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخذ من الليل وأوقاته ... وردا إذا ما هجع الرقد
من نام حتى ينقضي ليله ... لم يبلغ المنزل أو يجهد
قل لذوي الألباب أهل التقى ... قنطرة العرض لكم موعد
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر واختلفوا في تفسيره فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة كما يقال فلان يشد وسطه ويسعى في كذا وهذا فيه نظر فإنها قالت: جد وشد المئزر فعطفت شد المئزر على جده والصحيح: أن المراد: اعتزاله النساء وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون منهم: سفيان الثوري وقد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة وأنس وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان وفي حديث أنس وطوى فراشه واعتزل النساء وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غالبا يعتكف العشر الأواخر والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] إنه طلب ليلة القدر والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالإستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر فمن ههنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصيب من أهله في العشرين من رمضان ثم يعتزل نساءه ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
ومنها تأخيره للفطور إلى السحور وروي عنه من حديث عائشة وأنس أنه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا ولفظ حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسل بين الأذانين وجعل العشاء سحورا " . أخرجه ابن أبي عاصم وإسناده مقارب وحديث أنس خرجه الطبراني
ولفظه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا " . وفي إسناده حفص بن واقد قال ابن عدي: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له وروي أيضا نحوه من حديث جابر خرجه أبو بكر الخطيب وفي إسناده من لا يعرف حاله.
وفي الصحيحين ما يشهد لهذه الروايات ففيهما عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله؟ فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" فلما أبو أن ينتهو عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل لهم حين أبو أن ينتهو فهذا يدل على أنه واصل بالناس في آخر الشهر وروى عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة قال: ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم وصالكم قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحور وإسناده لا بأس به .
وخرج الإمام أحمد من حديث سيدنا علي رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السحر وخرجه الطبراني من حديث جابر أيضا وخرج ابن جرير الطبري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السحر ففعل ذلك بعض أصحابه فنهاه فقال: أنت تفعل ذلك؟ فقال: "إنكم لستم مثلي إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" وزعم ابن جرير: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواصل في صيامه إلا إلى السحر خاصة وإن ذلك يجوز لمن قوي عليه ويكره لغيره وأنكر أن يكون استدامة الصيام في الليل كله طاعة عند أحد من العلماء
وقال: إنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصيام إما ليكون أنشط له على العبادة أو إيثارا بطعامه على نفسه أو لخوف مقلق منعه طعامه أو نحو ذلك فمقتضى كلامه: أن من واصل ولم يفطر ليكون أنشط له على العبادة من غيره أن يعتقد أن إمساك الليل قربة أنه جائز وإن أمسك تعبدا بالمواصلة فإن كان إلى السحر وقوي عليه لم يكره وإلا كره ولذلك قال أحمد وإسحاق لا يكره الوصال إلى السحر .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: "إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني" . وظاهر هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يواصل الليل كله وقد يكون صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر ولم يكن ذلك مضعفا له عن العمل فإن الله كان يطعمه ويسقيه.
واختلف في معنى إطعامه فقيل: إنه كان يؤتى بطعام من الجنة يأكله وفي هذا نظر فإنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا وقد أقرهم على قولهم له إنك تواصل لكن روى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال قالوا: فإنك تواصل؟ قال: "وما يدريكم لعل ربي يطعمني ويسقيني" وهذا مرسل وفي رواية لمسلم من حديث أنس: "إني أظل يطعمني ربي ويسقيني" وإنما يقال: ظل يفعل كذا إذا كان نهارا ولو كان أكلا حقيقيا لكان منافيا للصيام والصحيح: أنه إشارة إلى ما كان الله يفتحه عليه في صيامه وخلوته بربه لمناجاته وذكره من مواد أنسه ونفحات قدسه فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذيه ويغنيه عن الطعام والشراب كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد