إعجاز القرآن:
قضية كبرى لا ترتبط بزمان أو مكان، وإنما لها امتدادها التاريخى فى الماضى، والحاضر، والمستقبل، ولها بعدها الدلالى بقدر ما يتضمن القرآن الكريم من عجائب وأسرار, ومعان إلهية، نقف على بعضها فيما هو محكم من الآيات، ويتوارى عنا بعضها الآخر إلى أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
وهى مسألة مستمرة متجددة، ولكل جيل إدراكه الخاص لمفهومها, وإن كان مفهومها اللغوي واضحاً، فالإعجاز كما فى كتب اللغة؛ يقصد به نسبة العجز إلى الغير, يقال أعجز الرجل أخاه، أى: أثبت عجزه عن شئ،وأعجز القرآن الناس,أى:أثبت عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
وقد اختلف العلماء حولها إلى ثلاثة آراء، وهى:
1- القول بالصرفة، ويقصد بها أن الله صرف الناس عن الإتيان بمثل كتابه، وهو رأى جماعة منهم: واصل بن عطاء البصرى (ت:131 ه)، وتلميذه إبراهيم بن سيار النظام.
2- نفى الإعجاز القرآنى مطلقاً، وهو رأى طائفة منهم ابن الراوندى, وعيسى بن صبيح؛ اللذان عاشا فى القرن الثالث الهجرى.
3- القول بالإعجاز، وذلك هو الذى عليه جمهور المسلمين ومفكروهم, وهو الميدان الفسيح الذى تتبارى فيه الفرق والجماعات؛ لإدراك بعض أسرار القرآن الكريم،وأهم ماذكروه من وجود الإعجاز ما يلى:
أ- الإعجاز اللغوى فى نظمه، وبلاغته, وسمو معانيه.
ب- الإخبار عن الماضيين من الأمم السابقة, بما لم يكن معروفاً.
ج- الإخبار عن أمور مستقبلية, ما وقع منها بعد ذلك كان كما أخبر.
د- الإعجاز التشريعى.
هـ- الإعجاز العددى.
و- الإعجاز العلمى[1].
وقد لاحظ العلماء أن فى هذه الوجوه جميعها مرونة, تجعلها تتسع لاحتمالات كثيرة على قدر اجتهاد المجتهدين فى كل زمان ومكان, سواء كان ذلك فى الحديث عن أخبار الماضيين من الأمم منذ خلق آدم عليه السلام, وعن أخبار أنبيائهم, والمصير الذى انتهوا إليه جميعاً، أم كان عن أحداث ستقع فى المستقبل، نحو الإخبار عن انتصار الروم وغلبتهم على الفرس، قال تعالى فى سورة الروم: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) ).
ومن ذلك أيضاً دخول النبى صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة محلقين رءوسهم ومقصرين، لا يخافون، وما سبقه من فتح قريب، قال تعالى فى سورة الفتح:( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27))
ومنه هزيمة المشركين العرب كما جاء فى سورة آل عمران:( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12))، وكما جاء في سورة القمر: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)).
وأما عن الإعجاز التشريعى؛ فالمنصفون من الباحثين والعلماء يؤكدون يوماً بعد يوم أن تشريعات الإسلام من الأهمية بمكان لحل مشكلات العالم الاقتصادية والاجتماعية، وقد يرى بعضهم أنه لم يساو بين الرجل والمرأة فى الميراث, ويتخذ من ذلك مطعناً على الإسلام، وتلك دعوى غير صحيحة في أساسها؛ فالإسلام لم يجعل النوع – ذكر وأنثى- سبباً يقوم عليه توزيع الميراث, ولكنه جعل مرد ذلك إلى شيئين, هما: درجة القرابة,ومدى ما يتحمله الوارث من مئونة فى الأسرة بعد المورث.
ودليل ذلك أن هناك حالات يتساوى فيها الذكر والأنثى، وأخرى تزيد فيها الأنثى على الذكر، وذلك للاعتبارين السابقين، وليس لاختلاف النوع كما يبدو فى ظاهر الأمر من بعض الحالات.
أما الحالات التى يتساوى فيها الذكر والأنثى؛ فمنها:
1- الأب والأم إن كان للميت ولد, قال تعالى:( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَد)
2- الأخ والأخت فى مسألة الكلالة, أى: الميت الذى ليس له فرع يرثه, أو أصل, قال تعالى:( وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)
3- الإخوة والأخوات حال الكلالة يتساوون ذكوراً وإناثاً,قال تعالى:( فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث)
وأما الحالات التى تزيد فيها الأنثى على الذكر؛ فهى كثيرة، ومنها:
1- إذا اجتمعت البنت أو البنات مع من هم أقل منهن فى درجة القرابة من الذكور, فللبنت النصف, والباقى يوزع على المستحقين بالتساوى فيكون نصيب الذكر أقل من البنت، وكذلك البنات لهن الثلثان, والباقى للذكور.
2- وإذا اجتمعت الأخت أو الأخوات مع من أقل منهن فى درجة القرابة من الذكور، فللأخت النصف، وكذلك الأخوات لهن الثلثان, والباقى للذكور.
3- وفى حالة الزوجة مع الأقارب من غير الأصول أو الفروع؛ للزوجة الربع، ويوزع الباقى على المستحقين, فيكون نصيب الواحد منهم أقل من نصيب الزوجة إذا كانوا ثلاثة فأكثر.
وهناك الإعجاز العددى، وكذلك الإعجاز العلمى الذى ذاع وانتشر هذه الأيام، وقد يتمثل الإعجاز فى تلك التعاليم السامية الرفيعة التى تنتظم بها الحياة، وتعمر بها دنيا الناس وآخرتهم، أو فى التأثير الروحى الذى شهد به الكثيرون من الأعداء قبل الأصدقاء، وغير ذلك مما أربكهم وجعلهم يحارون، فلا يدرون ما يقولون عنه، أشعر هو، أم سحر، أم كهانة، أم أنه فوق طاقة البشر، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وسوف نقف على شئ مما يتعلق بالإعجاز اللغوى باعتبار أنه الوجه الذى تحدى به العرب، فهم يعرفون من لغتهم الديوان، والقصيدة، والبيت، والقافية، فإذا بهم يجدون ما لم يسمعوه من قبل: القرآن, والسورة, والآية, والفاصلة, ثم دعاهم إلى محاكاته، أو محاكاة شئ منه، فعجزوا، وهم أرباب الفصاحة، وفرسان البلاغة.
لقد فاجأهم بما أدركوا جماله, وعجزهم عن الإتيان بمثله، مما يرجع إلى استعمال كلمات ذات دلالة خاصة، تبدأ بمعنى معروف عند جميع الناس، ثم تصبح من خلال استعمال القرآن ذات دلالات لا نهائية، لا يدرى أحد عن نهايتها شيئاً، أو يرجع إلى تركيب بديع، أو أسلوب عجيب؛ جاء مخالفاً لأساليبهم فى كلامهم؛ فقد تُفتتح السور بالحروف المقطعة، أو يوجه الخطاب بقوله: "يأيها الذين آمنوا"، أو "يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم"، مما لم يكن معروفا لديهم من قبل، أو تنتهى الآيات بالفواصل الموسيقية الرائعة، أو غير ذلك مما وقف علماء البلاغة أمامه طويلاً فى كل زمان ومكان.
وعلى سبيل المثال؛ إذا تأملنا كلمة (النار) فى نحو قوله تعالى فى سورة الواقعة: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71))، نجد أن الحديث عن النار المعروفة المتولدة من الزناد، أو الكبريت، والمتغذية من الحطب ونحوه، أما إذا تأملنا كلمة النار فى قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة)، فإن الخيال مهما حلق لا يستطيع أن يبلغ عمق دلالة هذه النار التى توقد من الناس والحجارة، والتى يحشر فيها الكافرون، وهى فى طبقات أو دركات، تتلون تارة، وتكاد تتميز من الغيظ أخرى.
وإذا تأملنا أنواعها زادت دهشتنا، فهى النار، وهى الجحيم، وهى الحطمة، وهى السعير، وهى سقر، وسوف نجد أن هذه الكلمة المعروفة لنا أصبحت ذات دلالة لا نهائية وأنها صارت كلمة مبهمة شديدة الإبهام، وهكذا ألفاظ القرآن، تبدأ من وضوح ظاهر، ثم يزحف هذا الوضوح إلى خفايا المجهول، وليس لأحد غير الله سبحانه وتعالى أن يصل إلى منتهاه أو يعلم حقيقة اللفظ كاملة.
وللتركيب القرآنى أيضا عجائبه التى لا يمكن إغفالها؛ ففى نحو قوله تعالى (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر)؛ تركيب بسيط معروف يتكون من مبتدأ وخبر، ولكنه يتضمن من الدلالات ما لا يعلمه إلا الله؛ فالخلق أزواج؛ لا يعرف حقيقتها سواه، قال تعالى فى بيان ذلك فى سورة يس:( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36))، وكذلك الأمر، يتجاوز قدرة البشر على تصوره، وفى التركيب حرف الاستفتاح (ألا) ، وفيه تقديم وتأخير يفيد القصر، لتتداخل هذه العناصر كلها ، ويقف العقل الإنسانى أمامها عاجزاً، لا يدرك إلا بعض ما ظهر منها.
ولذلك نجد أن اجتهادات المفسرين مهما بلغت تظل قاصرة عن إدراك حقيقة ما يريده الخالق سبحانه ، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه)، أى أن كلمات الله ومنها ألفاظ القرآن قد وسعت كل حقائق الكون المنظور والمستور.. عالم الغيب والشهادة ، فهى لا تنتهى، ولا تنفد ، وقد يكون ذلك هو سر الإعجاز ، الذى لا يحيط به على وجه الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى.
الهامش: [1]: إعجاز القرآن للبقلاني:259، والإتقان للسيوطي: 2/119.