الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا معنا اليوم الحكمة المائتان والثامن والثمانون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( فالعاقل من كان بما هو أبقى أفرح منه لما هو يفني )
لأن من علامات العقل : " التجافي عن دار الغرور , والأنابة إلى دار الخلود والتزود لسكني القبور , والتأهب ليوم النشور " كما قال عليه الصلاة والسلام .
فالعاقل هو الذي يميز بين الحق والباطل , والنافع والضار والحسن والقبيح , وكل ما يفنى وأن طال فهو قبيح وكل ما يبقى وأن غاب فهو مليح قال بعضهم : يا عجباً للمطمئن للدنيا والراكن إليها والحريص عليها وهو يرى سرعة زوالها , وكثرة تقلبها ومفاجأة نوائبها , وأنشدوا :
أين الملوك وأبناء الملوك ومن كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا
كأنهم قط ما كانوا ولا خلقوا ومات ذكرهم بين الوري ونسوا
حطوا الملابس لما ألبسوا حللا من التراب على أجسادهم وكسوا
قال مالك بن دينار : مررت بمقبرة فوجدت بهلول المجنون قاعداً بين القبور وهو عريان إلا ما يستر العورة , فأتيت نحوه لأستفيد من طرائفه , فوجدته تارة ينظر إلى السماء فيستهل , وتارة ينظر إلى الأرض فيعتبر , وتارة ينظر عن يمينه فيضحك , وتارة ينطر عن شماله فيبكي , فسلمت عليه فرد علىّ السلام فسألته عما رأيت من حاله ؟ فقال : يا مالك أرفع رأسي إلى السماء فأذكر قوله تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } فأستهل . وانظر إلى الأرض فأذكر قوله تعالى : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } فأعتبر . وأنظر عن يميني فأذكر قوله تعالى : { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } فأضحك . وأنظر عن شمالي فأذكر قوله تعالى : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } فأبكى . فقلت : يا بهلول أنك لحكيم , أتأذن لي أن أشتري لك قميص قطن ؟ قال افعل : فسارعت للسوق وأتيته بقميص قطن فنظر إليه وقلبه يميناً وشمالاً ورمى به إليّّ وقال : ليس مثل هذا أريد ؟ قلت : وكيف تريده ؟ قال : أريد قميصاً من الإخلاص محفوظاً من الدنس والانتقاض غرس قطنه بالحقائق , وحرس من جميع البوائق , سقاه جبريل بماء السلسبيل فأينع حسناً وأثمر قطناً , فلقطته أيدي الكرام البررة , التالين سورة الحمد والبقرة , ثم حلجته أكف الوفاء بعز وصفاء من غير جفاء , ثم نخلته الأوتار المتصلة بالأنوار , وغزلته مغازل الحمد والثناء بالمحبة والاعتناء , جعلت الجنة لناسجه ثواباً , وكان هو للابسه من النار حجاباً , فهل تقدر يا مالك على مثل هذا فقلت : إنما يقدر عليه من خصك بوصفه , وألهمك لمعاينته وكشفه , ثم قلت يا بهلول صف لي لابس هذا القميص فقال : نعم , إنما يلبسه من خصه الله بأنواره , وكتبه في ديوان أبراره , وأحياه بالسابقة , وقواه بالعزيمة الصادقة فجسمه بين الخلق يسعى , وقلبه في الملكوت يرعي فلا يتكلم بغير ذكر الله لفظة , ولا ينظر لغير الله لحظة ثم صاح صيحة عظيمة وقام وهو يقول : إليك فر الهاربون , ونحوك قصد الطالبون وببابك أناخ التائبون اهـ
اللهم إنا قد وقفنا ببابك فلا تطردنا ونحن انتسبنا لجنابك فلا تحرمنا يا أرحم الراحمين
ثم من فرح بالباقي وأعرض عن الفاني تشرق عليه الأنوار وتلوح له الأسرار
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً
|