الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا
معنا اليوم الحكمة السادسة و الثمانون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( إن أردت أن يكون لك عز لا يفني فلا تستعزن بعز يفني )
العز الذي لا يفني هو العز بالله والغنى بطاعة الله , أو بالقرب ممن تحقق عزه بالله فالعز بالله يكون بتعظيمه وأجلاله , وهيبته ومحبته ومعرفته وحسن الأدب معه في كل شيء وعلى كل حال , ويكون بالرضا بأحكامه والخضوع تحت قهر جلاله وكبريائه , وبالحياء والخوف منه , ويكون بالذل والإنكسار كما قال الشاعر:
تذلل لمن تهوي لتكسب عزة ... فكم عزة قد نالها المرء بالذل إذا كان من تهوى عزيزاً ولم تكن ... ذليلاً له فأقر السلام على الوصل
وسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول : قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : والله ما رأيت العز إلا في الذل .
وقال شيخ شيخنا مولاي العربي : وأنا أقول والله ما رأيت الذل إلا في الفقر , يعني أن الشيخ فسر الذل بالفقر إذ لا يتحقق ذل الإنسان إلا بالفقر فهو ذل الذل , لأن النفس تموت بالفقر ولا يبقي لها عرق أصلاً والله أعلم .
وأما العز بطاعة الله فهو بالمبادرة لإمتثال أمره وإجتناب نهيه والإكثار من ذكره وبذل المجهود في تحصيل بره .
وأما العز بالقرب ممن تحقق عزه بالله فيكون بصحبتهم وتعظيمهم وخدمتهم وحسن الأدب معهم , وهذا في التحقيق يرجع إلى التعزز بالله لكونه وسيلة إليه , فإذا تحقق عزه بالله أستغنى بعز الله عن عز غيره فمن حصل هذا العز وتحقق به فقد تعزز بعز لا يفني أبداً ينسحب عليه وعلى أولاده وأولاد أولاده إلى يوم القيامة قال تعالى : " من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً " وقال تعالى : " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " والمراد بالذين آمنوا هم الأولياء أهل الإيمان الكامل وقال تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون "
وقال سيدنا على كرم الله وجهه : من أراد الغنى بغير مال , والكثرة بغير عشيرة ,فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة اهـــــــــ فمن تحقق عزه بالله لم يقدر أحد أن يذله
وأنظر قضية الرجل الذي أمر هارون الرشيد بالمعروف فحنق عليه فقال : أربطوه مع بغلة سيئة الخلق لتقتله , فلم تقض فيه شيئاً ثم قال : اسحنوه وطينوا عليه البيت ففعلوا , فرؤى في بستان فأتى به فقال له : من أخرجك من السجن , فقال : الذي أدخلني البستان , فقال : ومن أدخلك البستان , فقال : الذي أخرجني من السجن , فعلم هارون أنه لم يقدر على ذله فأمر هارون أن يركب على دابة وينادي عليه : ألا أن هارون أراد أن يذل عبداً أعزه الله فلم يقدر اهــــ
وأما التعزز بالعز الذي يفني , فهو التعزز بالمخلوق : كتعزز ملوك الجور ومن أنتسب إليهم بكثرة الأتباع والأجناد وبالعصي والقهر وكالتعزز بالأموال والجاه في غير محله والرياسة , وغير ذلك مما ينقطع ويبيد , فمن تعزز بهذا مات عزه وأتصل ذله فإن التعزز بالمخلوق قطعاً يعقبه الذل عاجلاً وآجلاً وأنظر قضية الرجل الذي تكبر في الحرم , فصار بعد ذلك يتكفف الناس وقال , إني تكبرت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني في موضع ترتفع فيه الناس , ذكر القضيتين في التنبيه : ويقال لمن تعزز بالمخلوق : ( أنظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً )
ودخل عارف على رجل يبكي , فقال له : وما يبكيك فقال له : مات أستاذي , فقال له : ولم جعلت أستاذك من يموت ؟ فنبهه على رفع همته وإنفاذ بصيرته , وقد مات شيخه قبل أن يرشد والله تعالى أعلم
فإن أردت أيها المريد أن يكون لك عز لا يفني , فأستعز بالله وبطاعة الله وبالقرب من أولياء الله , ولا تسعزن بعز مخلوق يفنى , فإن من تعزز بمن يموت مات عزه , قال الله تعالى : ( أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً )
وقال أبو العباس المرسي رضي الله عنه : والله ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق
تنبيه وإرشاد : إعلم أن سبب العز الذي يعطيه الله لأوليائه هو حبه لهم فالعز نتيجة الحب , ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أحب الله عبداً نادي جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السموات أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء , ثم يوضع له القبول في الأرض فيحبه أهل الأرض " وفي رواية : يلقي له القبول في الماء فيشربه الناس فيحبونه جميعاً أو كما قال عليه السلام . وسبب حب الله للعبد هو هو زهده في الدنيا ففي حديث الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أزهد في الدنيا يحبك الله وأزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس "
ثم أعلم أن هذا العز الذي يعطيه الله لأوليائه لا يكون في بدايتهم ولا في أول أمرهم , لئلا يفتنهم الخلق عن الوصول إلى الحق بل من لطف الله بهم وإغارته عليهم , أن ينفر عنهم الخلق أو يسلط عليهم حتى يتخلصوا من رق الأشياء ويتحققوا بالوصول والتمكين فحينئذ أن شاء أظهر عزهم لينفع بهم عباده ويهدي بهم من شاء من خلقه , وإن شاء أخفاهم وأستأثر بعزهم حتى يقدموا عليه فينشر عزهم ويظهر مكانتهم في دار لا فناء لها .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيرا
|