موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 74 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3, 4, 5  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين نوفمبر 04, 2013 6:45 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة الرابعة

عذر الببغاء



أقبلت الببغاء وفمها مملوء سكراً أقبلت مرتدية حلة فستقية وطوقاً مذهباً ، حتى أصبح الباشق بعوضة أمام عظمتها وحيثما وجدت الخضرة فهي وليدة جناحها ، وإن فتحت فمها متحدثة تناثر السكر إذ أنها تستيقظ منذ السحر على أكل السكر ..

قالت : إن كل قاسي القلب عديم الإنسانية أقام لأمثالي قفصاً فولاذياً فظللت أسيرة هذا السجن الفولاذي أذوب شوقاً إلى ماء الحياة ، إنني خضر الطيور لذا تبدو حلتي خضراء فمتى أستطيع ارتشاف ماء الحياة ؟ لن أستطيع التحليق إلى السيمرغ بل يكفيني رشفة واحدة من ينبوع ماء الحياة ..

قال لها الهدهد : يا من عدمت السعادة ليس شهماً من لا يبذل الروح نثاراً لقد منحك الله الروح لتكون نثاراً ولكي تسنح لك لحظة مؤاتية مع الحبيب عليك بطلب ماء الحياة من روح الحبيب وإلا فامضي ، وما أنت إلا قشر عديم اللب ، أما إن شئت أن تفدي الحبيب بالروح فكوني كالرجال وفي طريق الأحبة انثري الروح ..

حكاية



كان هناك رجل مجذوب عالي المقام قال له الخضر : أيها الرجل الكامل هل لك أن تصاحبني ؟

قال : إن أمري لا يستقيم معك لقد شربت أنت من ماء الحياة كثيراً وذلك لتبقى روحك حية أبداً ، أما أنا فسأظل أقول ببذل الروح ولا أستطيع الحياة بلا أحبة لست مثلك أحافظ على الروح بل إنني أنثر في كل يوم روحي ، من الأفضل أن تفعل كما تفعل الطير مع الشباك بأن يبتعد بعضنا عن بعض والسلام ..

_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء نوفمبر 05, 2013 4:22 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة الخامسة

عذر الطاووس



بعد ذلك أقبل الطاووس في حلة ذهبية وازدان كل جناح بألف لون ، جاء كأنه عروس يوم الجلوة وكل ريشة منه مجلوة ..

قال : ما أن فرغ نقاش الغيب من نقشي حتى أمسك الصينيون بأقلام النقش ، وعلى الرغم من أنني جبريل الطير ولكن ألم بي أمر من القضاء ليس بالحسن ، فقد شاركني ذات المكان ثعبان قبيح حتى أخرجني ذليلاً من الجنة ، وما أن بدلوا مكان خلوتي حتى أصبحت قدماي كالجبيرتين قبحاً ، فاستقر عزمي في هذا المكان المظلم على أن أجد لي مرشداً إلى الخلد ، ولست ذلك الطائر الآمل في السلطان بل يكفيني أن أكون حارساً ، ولكن أنى للسيمرغ أن يحظى بمكانتي لقد كان الفردوس الأعلى مكاني ، لذا ليس لي من عمل آخر في الدنيا غير محاولة العودة إلى الجنة مرة أخرى .

قال له الهدهد : يا من ضللت الطريق بفعل نفسك ، إن كل ما تريده هو منزل ذلك السلطان ، فلتقل : تقدم قريباً منه فهذا أفضل من ذاك حيث تجمل الدار بحضرة السلطان ..

إن دار النفس جنة خلد مليئة بالرغبات والنزوات ، أما دار القلب فغاصة بالصدق ، وحضرة الحق بحر خضم عظيم وقطرة صغيرة منه تساوي جنات النعيم ، من يملك البحر يملك القطرة ، وكل ما عدا البحر هوس وخيال ، فإن تستطع سلوك الطريق إلى البحر فلم تلزم نفسك بالإسراع صوب قطرة ندى ؟ فمن يعرف كيف يناجي الشمس بالأسرار فأنى يعاود الاكتفاء بالبقاء في ظل ذرة من شعاع ؟ وكل من أصبح كلاً فأي صلة للجزء به ؟ ومن أصبح روحاً فأي صلة للأعضاء به ؟ فإن كنت رجل كل فتأمل الكل واطلب الكل وكن كلياً وصر إلى الكل وتخير الكل ..

حكاية



سأل طالب الأستاذ سؤالاً : لم خرج آدم من الجنة ؟

قال : كان آدم يحظى بسمو المنزلة وما أن هبط إلى الفردوس حتى ارتفع صوت الهاتف قائلاً : يا من خلقت جنتك من مئات القيود ، إن كل من وجد في هذين العالمين سوانا يسجد لشيء آخر ، أما نحن فنجلب الفناء للكائنات الأخرى حيث لا يمكن الضرب دون عون اليد ..

كيف تكون الروح أمام آلاف الأحبة ؟ وكيف يستقيم أمر الروح بلا أحبة ؟ وعدا الأحبة فكل من تعلقوا بالماديات سقطوا جميعاً حتى ولو كانوا كآدم في المنزلة ، وأنى لأهل الجنة أن يدركوا أن تحمل الهموم والآلام أول مهمة هناك ، فإن لم يكن أهل الجنة جديرين بالسر فسرعان ما يتراجعون عن تحمل الغصة والهم ..

_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة نوفمبر 15, 2013 1:42 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة السادسة

عذر البطة



خرجت البطة من الماء غاية في الطهر فكانت بين الجمع مرتدية خير الثياب ، قالت : لا يوجد في كلا العالمين من لديه الخبر عن وجود من هو أنصع مني وجهاً أو أطهر ، إنني أغتسل في كل لحظة بفائق العناية ثم أبسط على الماء سجادتي ، فمن ذا الذي يماثلني في الاستقرار على صفحة الماء ؟ لذا لم يعد أدنى شك في كراماتي ، إنني زاهدة الطير وصاحبة الرأي الطاهر كما أن لباسي طاهر وكذا مكاني طاهر ، لا يمكن أن أسعد في الدنيا بعيداً عن الماء حيث أن مولدي ووجودي متعلقان بالماء ، وإن اغتم قلبي في هذا العالم فسرعان ما أغتسل من هموم القلب حيث الماء متوفر لدي على الدوام ، الماء يجري في جدولي دواماً فكيف أجد رغبتي حيث القحط ؟ وإذا كان أمري متصلاً بالماء فكيف أتنحى جانباً عن الماء ؟ فمن يعش معتمداً على الماء لا يستطع أن ينفض يده من الماء ، وإن كنت أجهل قطع الطريق فإنني لا أجد المقدرة لدي للوصول إلى السيمرغ ، ومن يكن وعاء مائه مملوءاً فمتى تتولد لديه الرغبة في السيمرغ ؟

قال لها الهدهد : يا من تجدين في الماء سعادتك ، إن الماء يحيط بروحك كما تحيط بها النار ، كم يطيب لك النوم على الماء ولكن ستأتي قطرة ماء وتسلبك ماء حياتك ، لقد وجد الماء من أجل الوجوه الدنسة فإن كان وجهك دنساً فابحثي عن الماء ، ومهما كنت طاهرة نقية كالماء فطلعتك شبيهة بطلعة كل دنس ..

حكاية



سأل رجل مجذوباً سؤالاً : ما حقيقة هذين العالمين مع هذا الخيال ؟

قال : هذان العالمان العلوي منهما والسفلي قطرة ماء لا أكثر ولا أقل ، فعندما ظهرا في أول الأمر كانا كقطرة ماء وإن اتخذت صوراً عدة ، ثم خرب كل نقش علا صفحة الماء حتى لو كان من فولاذ ، ولا يوجد ما هو أصلب من الفولاذ ، ولكن أنظر إلى كل بناء أقيم على صفحة الماء ، إنه مجرد خيال حتى ولو كان من فولاذ ولن يرى شخص قط الماء مستقراً فكيف يقام على الماء أساس راسخ مستقر ؟

_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يناير 01, 2014 1:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة السابعة

عذر الحجلة



وصلت الحجلة تتهادى في مشيتها وقد خرجت مسرورة ثملة من جحرها ، جاءت في رداء بلون الشفق ومنقار أحمر قان ، جاءت ويكاد الدم يقفز من عينيها اضطراباً ، كانت تطير أحياناً على الجبل والسفح وتثني رأسها أحياناً أمام شعاع الشمس ..

قالت : إنني جد مولعة بالحجر وأطوف دواماً فوق الجوهر ، وكم أشعل عشق الجوهر النار في قلبي ، وكفاني ذلك من نصيب حسن ، وما أن يندلع أوار تلك النار حتى يتجمد الدم في عروقي ويصبح كحبات الحصى ، وإذا رأيت النار تؤتي فعلها فسرعان ما تحيل الجمر أحمر كالدم ..

هكذا بقيت دواماً بين الحجر والنار كما بقيت معطلة الفكر موشة الخاطر أطعم الحصباء ملتهبة محرقة وأتوسد الجمر وقلبي مفعم بالحرقة ، فافتحوا عيونكم يا أصحابي وانظروا في النهاية ماذا آكل وعلام أنام ، إنني أتوسد الجمر وأطعم الحجر فأنى لمن مثلي أن يحارب ؟! ما أكثر ما أدمت هذه الشدائد قلبي بمصائبها حيث أن عشق الجوهر ألزمني الجبل وكل من يعشق أي شيء سوى الجوهر يدرك أن امتلاكه يستمر لفترة ، أما امتلاك الجوهر فله نظام أبدي دائم فروح عاشقة تظل متعلقة بالجبل على الدوام ..

إنني جبلية شغوفة بالجواهر لذا لا أستطيع التخلي لحظة عن الجبل والسفح ، ولما كانت الجواهر تزين مفرق الجبل دائماً ، فأنا أبحث عن الجوهر في الجبل دائماً ، وما وجدت جوهراً يفوق الجواهر وما وجدت جوهراً أنفس من الجواهر ، ولما كان الطريق إلى السيمرغ شاقاً فستظل قدمي على الجمر والجواهر غاصة وسط الوحل ، وكيف أستطيع إدراك السيمرغ القوي القلب وأنا حيرتي وعجزي وقدمي غاصة في الوحل ؟؟ سأكون كالنار لا أشيح بوجهي بعيداً عن الجمر فإما أن أموت أو أنتزع الجواهر بمخلبي ، ومن الضروري أن يظهر الجوهر لي وإلا فكيف يرجى أي عمل من عديم الجواهر ؟؟

قال لها الهدهد : يا من تتلونين بالعديد من الألوان كالجواهر حتام تعرجين وتأتين بالمعاذير الواهية ، كثيراً ما تدمى قدماك ومنقارك ولكن لن تحظي إلا بالحجارة دون الجواهر ، وما أصل الجوهر إلا حجر اصطبغ بلون ، أما أنت فقد أحالك حب الأحجار حجرية القلب ، وإذا تلاشى لون الجوهر عاد حجراً وكل عديم القيمة ما اصطبغ بلون ، أما من يتمتع بعلو القيمة فليس به حاجة إلى لون لأن الرجل الأصيل الجوهر لا يبغي حجراً ..

حكاية



ليس لأي جوهرة تلك النفاثة التي كانت لجوهرة خاتم سليمان إذ أن فصها ذو شهرة وصيت ذائعين مع أنه من حجر لا يتعدى في الوزن نصف دانق ، وما أن أتم سليمان صنع هذا الجوهر فصاً لخاتمه حتى أصبح وجه الأرض كله تحت إمرته وحينما رأى سليمان ملكه هكذا رأى جميع الآفاق طوع بنانه وامتد قصره أربعين فرسخاً كما خضعت الريح لسلطانه ، ومع أن قصره كان يمتد أربعين فرسخاً إلا أنه كان نتاج فصه ذي النصف دانق في الوزن !!

قال : إذا كانت هذه المملكة وتلك المكانة وليدة ذلك الحجر القيم فأنا لا أريد أن يحظى إنسان قط في كلا العالمين بمثل هذا الملك ، حيث رأيت يا إلهي بعين الاعتبار آفة هذا الملك واضحة للأبصار ، إن الحياة قصيرة إذا قيست بالحياة الآخرة فلا تعط يا إلهي بعد ذلك لأي إنسان فصاً آخر ، فلا صلة لي بالملك والعسكر وإنما اختار نسج الزنابيل ..

مع أن سليمان أصبح بهذا الجوهر ملكاً إلا أن هذا الجوهر كان في طريقه عائقاً ، وإن كان الجوهر يفعل هذا مع سليمان فكيف يكون عوناً لك أيها الضال ؟ ولما كان الجوهر حجراً فلا تبحث عنه ولا تعش إلا من أجل الأحبة ولتخلص قلبك من الجوهر يا طالب الجوهر ، وكن جوهرياً دائماً في الطلب ..

_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 03, 2014 9:22 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة الثامنة

عذر الهما

جاءت الهما واهبة الظلال أمام الجمع ، ولأن ظلها بالنسبة للملوك هو سر ملكهم فقد جاءت تفوق الجميع في الهمة .

قالت : يا طير البحر والبر إنني لست كبقية الطير فلي همة عالية في مزاولة كل فعل وعزلتي عن الخلق واضحة لكل ذي عقل ، قد ألحقت الذلة بالنفس الشبيهة بالكلب ، أما أفريدون وجمشيد فقد استمدا عزتهما مني ، الملوك نتاج ظلي وأنى للمساكين أن يكونوا رجالي ؟ إنني ألقمت النفس الشبيهة بالكلب عظمة ، وهكذا وهبت الروح الأمان من هذا الكلب ، وطالما قدمت العظمة للنفس على الدوام فإن روحي قد أدركت بذلك علو المقام ، وذلك الذي ينصب الملوك من ظل جناحه ، كيف يمكن أن يتخلى عن الترفع والتعالي ؟ بل على الجميع أن يجلسوا تحت جناحه حتى يحظوا بذرة من ظله ، ومع مكانتي هذه أنى للسيمرغ أن يكون رفيقي ؟ فكفاني أن عملي تنصيب الملوك .

قال لها الهدهد : يا من استبد بك الغرور لتطوي ظلك ولا تخادعي نفسك أكثر من هذا ، ما عاد لك تنصيب الملوك في هذا الزمان ، وما أنت إلا ككلب يمسك بعظمة في هذا الأوان ، فليتك لا تنصبين الملوك وإنما تخلصين نفسك من تلك العظمة ، وإن أسلم لك جدلاً بأن ملوك الأرض يجدون عروشهم بفضل ظلك فسرعان ما يزول ملكهم مهما امتد بهم العمر ، ولكن إن لا ير ظلك ملك فأي بلاء تعيشين فيه حتى يوم الحساب ؟!

حكاية

كان هناك رجل طاهر الرأي يسلك طريق الصواب ، وذات يوم رأى محموداً ( الغزنوي ) في المنام ، فقال : يا سلطان الزمان المعظم كيف حالك في دار القرار ؟

قال : صه ولا تسفك دماء روحي ولا تنطق بحرف وأي مكان للسلطان هنا ، فانهض ، لقد كان سلطاني خيالاً ووهماً إذ كيف تكون السلطنة لحفنة من السقط ؟ الحق هو السلطان مالك الدنيا وهو الجدير بهذه السلطنة ، وما أن رأيت عجزي وحيرتي حتى شعرت بالعرة من سلطنتي ، وإن ترغب في مناداتي فاسمي العاجز إذ هو السلطان الأوحد فلا تدعني سلطاناً ، السلطنة لله وأنا المنتفع من ورائه حتى ولو كنت في الدنيا شحاذاً ، وليت طريقي اعترضته مئات المشاكل وليس به هذا الجاه ، وليتني كنت أجمع السنابل ولست ملكاً ، فليضمر ريش تلك الهما وجناحها حيث أظلتني بظلها .


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يناير 08, 2014 12:54 am 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة التاسعة

عذر الصقر

أقبل الصقر أمام الجمع مرفوع الرأس ، جاء وكأنه قد كشف النقاب عن عالم الأسرار ، جاء منتفخ الصدر معتزاً بقوته جاء متفاخراً بجبروته ، وقال : لشدة شوقي إلى يد السلطان أغلقت عيني عن النظر إلى خلق الزمان لذا فقد أخفيت عيني تحت القلنسوة حتى تصل قدمي إلى يد السلطان ، وقد أكثرت من تأديب نفسي كما أكثرت من التريض كالمرتاضين حتى إذا ما حملت ذات يوم إلى يد السلطان أكون برسوم الخدمة على علم وبيان ، وأنى لي أن أرى السيمرغ في المنام ؟ وأنى لي أن أسرع إليه عبثاً ؟ فكفاني ما أنعم به من حظ من يد السلطان وكفاني هذه المنزلة في عالم العيان ، إن كنت لا آمل في أن أكون سلطاناً فكفاني أن أقف مرفوع الرأس على يد السلطان فكل من يليق بالسلطان نافذ كل ما ينطق به أمام السلطان ، وإن أصبح جديراً بالسلطان فهذا أفضل من السير في واد بلا نهاية ، وكم أرغب في أن أبذل عمري في مواجهة السلطان بكل سرور فإنني أحياناً انتظر السلطان وأحياناً من شوقي إليه أشاركه رحلات الصيد .

قال له الهدهد : يا أسير المجاز ، لقد بعدت عن الصفة وتعلقت بالصورة ، إن كان للسلطان ند في ملكه فكيف يزدان الملك به ؟ لا جدير بالسلطنة غير السيمرغ فهو بلا شبيه لذا فهو الخليق بها وحده ، وليس سلطاناً من تكون أفعاله غير نافذة في كل الأقاليم ، والسلطان هو من لا شبيه له ، ومن لا يتصف إلا بالوفاء والمدارة ، أما السلطان الدنيوي إذا اتصف لحظة بالوفاء ففي لحظة أخرى يظهر الجفاء ، وكل من يزداد منه قرباً يكون عمله دون شك أكثر رقة ، حيث يكون على الدوام حذراً من السلطان وتكون روحه محاطة بالخطر في كل أوان ، فسلطان الدنيا شبيه بالنار المحرقة فابتعد عنه لأن البعد عنه غنيمة ، لذا يجب ألا تقترب من السلاطين ولتسارع بالابتعاد يا من تقربت من السلاطين .

حكاية

كان هناك سلطان عالي المنزلة وقع في عشق غلام جميل الطلعة ، وبعد أن اشتد به العشق لم يعد في مقدوره أن يجلس أو يستريح لحظة بعيداً عن معشوقه وقد خصه بالتزين من بين غلمانه كما كان يجلسه على الدوام أمام عينيه ، وعندما كان السلطان يرمي السهام في القصر اضطرب ذلك الغلام خوفاً من الضر ، حيث جعل السلطان هدفه تفاحة وضعها على مفرق الغلام فما أن شق التفاحة بسهمه حتى امتقع لون الغلام ، فسأله رجل جهول : لم أصبحت حمرة ورد خدك في صفرة الذهب ؟ لتشرح لم يتسم وجهك بالإصفرار مع ما لك من علو المكانة لدى السلطان ؟

قال : عندما يضع تفاحة على رأسي ويصيبني أذى من السهم فسرعان ما يقول : لم يكن يعترف بالتبعية كما أنه بلا شبيه في العيوب بين جندي وحشمي ، وإن يصب السهم الهدف ، يقل الجميع له : إن هذا من يمن طالع السلطان ، أما أنا فمهموم بين هذين الغمين وروحي عرضة للهلاك بلا جريرة .


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يناير 13, 2014 11:08 am 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة العاشرة

عذر مالك الحزين

ثم أقبل مالك الحزين أمام الجمع على عجل ، وقال : يا طيري ويا من بهم أهتم ، إن أفضل مكان لي على ضفاف البحر حتى لا يسمع أحد نواحي ونحيبي ، إنني لا أسبب أذى لأحد قط كما لا يتأذى أحد في الدنيا مني قط ، إنما أجلس على شاطيء البحر مهموماً أجلس دائماً حزيناً مغموماً .

إن قلبي ينفطر شوقاً إلى الماء ، وماذا أفعل إذا ما احتوتني الحسرة ؟ وما لم أكن ويا للعجب من أهل البحر فإنني أموت صادي الشفتين على شاطيء البحر ، ومهما أرغى البحر وأزبد فإنني لا أستطيع ارتشاف قطرة منه ، أما إذا تناقصت مياه البحر قطرة فيا لحرقة قلبي غيرة ، فكفى أمثالي عشق البحر حيث وصل هذا العشق في قلبي مرحلة الاكتفاء ، وليس لي في الدنيا إلا تحمل هموم البحر ، لذا لا أستطيع تحمل مشقة السيمرغ ولو للحظة ، فمن يكون أساسه قطرة ماء أنى له إدراك الوصل مع السيمرغ ؟
قال الهدهد : أيها الجاهل بخبايا البحر ، إنه غاص بالتماسيح وذوات الروح ما ؤه مر أحياناً ومالح أحياناً يسوده الهدوء أحياناً ويعتريه الاضطراب أحياناً ، والشيء المضطرب غير المستقر تارة إلى الأمام يندفع وتارة إلى الوراء ينحسر ، ما أكثر السفن التي تحطمت فيه بالعظماء وما أكثر من سقطوا في دوامته وماتوا ، وكل من يسلك فيه طريقاً كما يفعل الغواص يحبس أنفاسه فلا يصرح بشيء من همومه لأنه لو تحدث شخص في قاع البحر مات وسقط كالعشب في قاعه ، ولا يمكن عقد الأمل مع مثل هذا الشخص العديم الوفاء ..

إن لم تتجنب البحر فنهايتك الغرق في خضمه ، وهو في اضطراب شوقاً للحبيب لذا تتلاطم أمواجه أحياناً ويهدر أحياناً ، فإذا كان لا يدرك بغية قلبه فلن تجد بغية قلبك كذلك لديه ، وما البحر إلا نبع من محيط عالمه فلم تقنع أنت بالتخلي عن وجهه ؟

حكاية

غاص رجل ذو بصيرة في بحر فقال : لم تبدو أزرق اللون أيها البحر ؟ ولم ترتدي لباس الحداد ؟ ولم تفور وتغلي ولست بالنار شبيهاً ؟

أجاب البحر على طيب القلب قائلاً : إنني مضطرب لفراق الحبيب ، كما أنني ضعيف الشأن ولست نداً له لذا نسجت لباس المأتم الأزرق حزناً عليه ، وجلست صادي الشفتين مشتت الفكر ، فقد جعلتني نار عشقه مضطرباً ، فإن أحظ بقطرة من ماء كوثره أعش إلى الأبد على أعتابه ، وإلا فأمثالي من العطشى كثيرون وهم في طريقه طوال الليل والنهار يموتون ..


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 24, 2014 4:39 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة الحادية عشرة

عذر البومة

جاءت البومة أمام الجمع كالمجنونة ، وقالت : لقد اخترت لنفسي سكنى الخرابات ، حيث ولدت في الخرابة عاجزة وأعيش فيها من الخمر محرومة ، فإن وجدت مئات الأماكن المعمورة جميلة فإنما أجدها مخالفة لطبعي وبالحلبة مملوءة ومن يرغب في مجالستي عليه بالمضي ثملاً نحو الخرابة ، إنني أتحمل الحياة الصعبة بالخرابة حيث يوجد الكنز دائماً بالخرابة ، فعشق كنزي طريقة الخرابات ولا طريق لكنزي إلا حيث الخرابات ، ومجافاتي الجميع تؤلمني ولكن بذلك أجد كنزي بلا طلسم ، فإن تطأ قدمي الكنز تدب الحياة مرة أخرى في قلبي الكسير ، ووقف العشق على السيمرغ خرافة لأن عشقه عمل كل مخرف ولن أكون بعشقه جديرة وإنما علي أن أعشق الكنز والخرابة ..

قال لها الهدهد : يا من ثملت بعشق الكنز حتى لو سلمت بأنك وصلت إلى الكنز فأفني نفسك على رأس هذا الكنز ، ولكن سيفنى عمرك دون أن تحققي بغيتك ، فعشق الكنز وعشق الذهب ضرب من الكفر ، وآزري كل من يقيم من الذهب صنماً وعبادة الذهب دليل الكفر فلا تكوني من قوم السامري ، وكل قلب يصاب بالخلل من عشق الذهب ستمسخ صورته يوم القيامة .

حكاية

امتلك أحد الجهال حقاً مملوءاً بالذهب ثم مات وخلف هذا الحق المملوء بالذهب ، وبعد عام رأى ابنه في المنام صورته على شكل فأر وعيناه تفيض دمعاً ، ثم دار حول المكان الذي أخفى فيه الذهب دوران الفأر ، فوجه ابنه إليه هذا السؤال : لم أتيت هنا على هذه الحال ؟

قال : لقد وضعت الذهب في هذا المكان ولا أعلم هل توصل إليه إنسان ؟

قال له الإبن : ولم اتخذت شكل الفأر آخر الأمر ؟

قال : كل قلب خفق بحب الذهب يكون يوم الحشر على صورة الفأر ، وتزيده الحسرة اضطراباً في كل لحظة ، وهكذا بدوت فأمعن النظر وخذ العبرة وتخل يا بني عن الذهب .


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يناير 25, 2014 3:14 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة الثانية عشرة

عذر الصعوة

أقبلت الصعوة ضعيفة الجسد هزيلة الروح ، أقبلت كالنار لا يقر لها قرار ، قالت : جئت حائرة وأقبلت واهنة خائرة ، إنني كشعرة لا حول لي ولا قوة ومن شدة ضعفي لا أتمتع بمقدرة نملة ، إن كنت قد عدمت الريش والجناح فمتى أصل إلى مجال السيمرغ أيها العزيز ؟ وكيف يمثل الطائر العاجز أمامه ؟ فمحال أن تصل الصعوة إلى السيمرغ .

إذا كان طالبوه كثيرين في الدنيا فلا يليق بمن مثلي أن يصل إليه ، وإذا كنت لا أستطيع وصاله فمن المحال أن أتمكن من قطع الطريق إليه ، وإذا وليت وجهي شطر أعتابه فعلي أن أبحث عن يوسف في البئر حيث افتقدت يوسفي في البئر ، وسأجده ثانية في هذا الزمان ، فإن أجد يوسفي في البئر أطر معه من الماء إلى السماء .

قال لها الهدهد : يا من بملاحتك وحسنك قد صلت وجلت في مسكنتك ، أنا لا أهتم بحيلك وخدعك فمتى كنت حماراً أتأثر بخدعك ؟ فلا تخطي خطوة ولا تنطقي بحرف وأغلقي فمك فإن يحترق هؤلاء جميعاً فلتحترقي أنت أيضاً ، فإنت كنت يعقوب كما جاء في المثل فلن يردوا عليك يوسفك فكفي عن الحيل ولا تشعلي نار الغيرة دواماً حيث أصبح عشق يوسف على العالم حراماً .

حكاية

ما أن افترق يوسف عن أبيه حتى ابيضت عينا يعقوب لفراقه وتلاطمت أمواج الدماء في عينيه وظل اسم يوسف يتردد على لسانه ، فجاءه جبريل قائلاً : إن يرد اسم يوسف على لسانك مرة أخرى فسنمحو اسمك من قائمة الرسل والأنبياء ، وما أن جاءه الأمر من الحق في ذاك الزمان حتى كف عن ترديد اسم يوسف على اللسان ، ولكن على الرغم من امتناعه عن ترديد الاسم مما به من خشية إلا أن الاسم ظل في الروح مقيماً .

وذات ليلة رأى يوسف في منامه فرغب في أن يدعوه إليه ، ولكن سرعان ما تذكر أمر الحق فلزم الصمت في لهفة واضطراب وعلى الرغم منه انطلقت زفرة تنم عن جزعه ، وما أن نهض من رقاده الهنيء حتى جاءه جبريل قائلاً : إن الله يقول ( ما معناه ) مع أنك لم تورد اسم يوسف على اللسان فإنك اطلقت زفرة في ذاك الزمان ، وأنت تعرف ما تنطوي عليه الزفرة لذا فقد نقضت في الحقيقة توبتك فأي جدوى ؟!
هكذا تقضي المحبة على العقل بهذا التصرف ، فانظر ماذا يفعل العشق بنا ..


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء فبراير 12, 2014 9:16 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

المقالة الثالثة عشر

ذكر الطير جميعاً

بعد ذلك توالت الطير واحداً واحداً ، تقدم أعذاراً واهية ، قال كل طائر عذراً يقطر جهلاً ، وما قال أحد عذراً لائقاً ، بل قال الكل هراء وهزلاً ولن أسرد عليك أعذارهم عذراً عذراً ، لأن الحديث يطول فالتمس لي عذراً ، ومن كان عذره واهياً أنى له الوصول إلى السيمرغ ؟ أما من يفضل السيمرغ على روحه فإنه يخاطر بالروح كالرجال من أجله ، ومن لا يملك في عشه ثلاثين حبة ، جاز له ألا يكون للسيمرغ رفيقاً ، لأنه لو عدمت حوصلتك الحبة ، فكيف تداوم الصوم مع السيمرغ أربعين يوماً ؟ وإن كنت قد ثملت من قطرة خمر واحدة فكيف تستطيع منادمة الأبطال في معاقرة الصهباء ؟ وإن كنت عاجزاً عن تحمل ذرة فكيف تستطيع أن تدرك وصال الشمس ؟ وإن كنت تغرق في قطرة فكيف تجتاز البحر من البداية إلى النهاية ؟ إن ما تبحث عنه ليس هذا الشيء وفعل كل قبيح ليس هذا الشيء .

ما أن سمع جميع الطير هذه الحال حتى وجهوا جميعاً للهدهد هذا السؤال : يا من لك السبق في سلوك الطريق ويا من بلغ أوج العظمة والتوفيق ، نحن حفنة من الضعاف والعجزة قد عدمنا الريش والجناح والجسد والمقدرة ، أنى لنا أن نصل إلى السيمرغ ذي القدر الرفيع ؟ لو جاز أن وصل واحد منا لكان هذا هو الأمر البديع ، فأخبرنا ثانية أي صلة تربطنا به ؟ إذ لا يمكن التخبط بحثاً عن الأسرار ، فإن كانت هناك صلة بيننا وبينه تولدت الرغبة لدى كل منا للمسير صوبه ، إنه سليمان ونحن مجرد نمل مسكين ، فتمعن من أين هو ومن أين نحن ، إذا كانت النملة أسيرة في قاع البئر فكيف تصل إلى محيط السيمرغ المرتفع ؟ وكيف يكون الملك قرين الشحاذ ؟ وكيف يكون هذا الأمر في مقدور أمثالنا ؟

هنا قال الهدهد : أيها الجهلة متى كان العشق مستساغاً من سيء الطوية ؟ أيها المساكين إلام هذا الجهل ؟ حقاً لا يستقيم العشق وسوء النية ، كل من له في طريق العشق عين مبصرة ، قد أقبل فرحاً وللروح ناثراً ، ولتعلم أنه عندما رفع السيمرغ النقاب ، بدا وجهه كالشمس مشرقاً ، وألقى بمئات الألوف من ظلاله على الأرض ، وهنا أدرك البصر ظلاً طاهراً ، وما أن نثر ظله على العالم ، حتى كانت تلك الطيور العديدة التي تبدو كل لحظة ، فصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظله ، فاعلم هذا أيها الجاهل ..

اعلم هذا كله ، فإن علمت به في البداية ، اتصلت اتصالاً وثيقاً بتلك الحضرة ، وإن علمته فلتدرك الحقيقة ولتكن حذراً وإن أدركتها فلا تكن مفشياً سراً ، وكل من صار هكذا صار مستغرقاً ، فحاشى لله أن تقول أنا الحق ، ومع أنك صرت كما قلت أنا ولست الحق لكنك في الحق دائماً مستغرق ، وكيف يكون المستغرق حلولياً ؟ وكيف يكون هذا الكلام من شأن الفضولي ؟ فإن أدركت ظل من أنت فرغت من الكل سواء حييت أو مت ..

وإن لم يظهر أي سيمرغ مطلقاً لما كان السيمرغ صاحب ظل مطلقاً ، وإذا كان السيمرغ خفياً دواماً لانعدم الظل من الدنيا دائماً ، وكل ما ظهر له ظل هنا كان نتيجة ظهور ذلك الشيء هناك أولاً ، فإن لم تكن لك عين مبصرة تدرك السيمرغ ، فلن يكون لك قلب كالمرآة المجلوة ، وإن لم يكن لأحد عين هذا الجمال فصبرنا أمام جماله ضرب من المحال ، ومع جماله الآخاذ كيف لا يمارس العشق معه وقد صنع مرآة من كمال لطفه ، هذه المرآة هي القلب فأمعن النظر إلى القلب ، ولكي ترى وجهه أمعن النظر إلى القلب ..

حكاية

كان هناك ملك وسيم غاية في الجمال وحسنه بلا مثيل في الدنيا ولا مثال ، وما الصبح الصادق إلا إشراقة من وجهه وما الروح القدسية إلا نفحة من طيب مسكه ، وملك العالم مصحف أسراره وغاية الحسن آية طلعته ، ولا أعلم هل تمكن شخص قط أن يجد نصيباً من جماله وبسببه غص العالم بالاضطراب وحبه فاق كل حد لدى الخلق .

ذات ليلة ساق جواده الأسود خارج المدينة ، وأسدل برقعاً داكناً على وجهه ، فكان كل من يوجه نظره إلى هذا البرقع تفصل رأسه عن جسده دون ذنب ، ومن كان يورد اسمه على اللسان كان لسانه يقطع في ذلك الزمان ، وإذا فكر شخص في وصاله أصاب الفناء روحه وعقله ، وذات يوم مات ألف فرد بسبب عشقه فما أجمل هذا العشق وما أبهى هذا الأمر إذ ليس لإنسان أن يصبر على فراقه وليس لإنسان مقدرة على رؤيته ، فكل من رأى جماله عياناً أسلم الروح ومات متأوهاً ، فالموت في سبيل عشق ذلك الوجه الساحر أفضل من مائة عمر مديد ، لقد مات خلق عديدون على الدوام من هذا الطلب إذ لا يمكن الصبر معه ولا الصبر بدونه ، ويا للعجب لو قدر وتوفرت لشخص القدرة لحظة لظهر وجه السلطان له عياناً ، ولكن إذا انعدم الشخص القادر على رؤيته فما استطاع أحد محادثته ومرافقته ، ولما لم يظهر من الخلق من هو جدير به فقد مات الجميع وقلوبهم مفعمة بالآلام منه .

في هذا الوقت أمر السلطان بإحضار مرآة حتى يستطيعوا النظر في تلك المرآة ، فشيدوا للسلطان قصراً جميلاً ووضعوا المرآة في مواجهته ، ثم صعد السلطان على سطح ذلك القصر ونظر في التو إلى المرآة ، وما أن أطل وجهه مشرقاً من المرآة حتى أدرك كل شخص منه علامة .

إن ترغب في رؤية جمال الحبيب ، فاعلم أن القلب هو مرآة طلعته ، ليكن قلبك على كفك ثم انظر جماله ، ولتكن روحك مرآة له ثم انظر جلاله ، إن مليكك في قصر الجلال والقصر مضيء بشمس ذلك الجمال ، وللمليك طريق صوب كل قلب ولكن لا طريق للقلب الضال صوبه .

انظر إلهك في قلبك وانظر العرش فيما هو كائن حولك ، وكل رداء قد بدا في الصحراء قد من ظل السيمرغ الحسن الرواء ، وإن بدت لك الثلاثون طائراً غاية في الجمال فإنك ترى بلا شك ظل السيمرغ بلا جدال ، وسواء أكان الكل أربعين طائراً أو ثلاثين فكل ما رأيت ما هو إلا ظل السيمرغ وظل السيمرغ لا ينفصل عنه ، أما إذا انفصل فليس من اللائق الحديث عنه ، وكلاهما متلازمان فابحث عنهما معاً ولكن اعبر الظل ثم ابحث عن السر ، وإن يبد لك فتح باب فسترى الشمس وسط الظلال ، ولكن إن تضل الطريق وسط الظل فأنى لك أن تدرك السيمرغ ؟ وإن ترى الظل يتلاشى في الشمس على الدوام فسترى أنك أنت الشمس والسلام .

حكاية

قيل عندما كان الإسكندر صاحب القبول يريد أن يرسل إلى مكان ما أي رسول ، كان يرتدي بنفسه وهو سلطان الدنيا لباس الرسل ويذهب متخفياً وكان ينطق بما لم يسمع به أحد ثم يقول : هكذا أمر الإسكندر ، وما علم أي شخص في كل العالم أن هذا الرسول هو اسكندر الروم ، ولما لم يكن قد أتيح لأي شخص منهم أن رأى الإسكندر لما صدقوه لو قال : أنا الإسكندر ، فإذا كان السلطان مجهولاً خارج دياره فلا تغتم فهكذا الحال أيضاً داخل دياره .

حكاية

عندما اصابت إياز نظرة سوء بالضرر بعد عن عين السلطان آخر الأمر ، وخر عاجزاً على فراش المرض وسقط أسير البلاء والألم والضعف ، وما أن أخبر السلطان بمرضه حتى استدعى السلطان الحصيف خادماً له وقال : اذهب في التو صوب إياز وقل له : يا من احتجبت عن السلطان إنني أعيش في عزلة لأنني بعيد عنك وكم أتألم بسبب غمك وألمك ، وما دمت مريضاً فإنني دائم التفكير ولا أدري أأنت العليل أم أنا ؟ إن كنت بعيداً بجسدي عنك فإن روحي المشتاقة ترفرف حولك وهذا حسبي ، فيا من أصبحت روحي إليك مشتاقة إنني لست غائباً عنك دقيقة ، وما أكثر ما ارتكبته عين السوء من سوء إذ أصابت محبوباً مثلك بالسوء .

قال هذا ثم أردف قائلاً : لتسرع في الطريق واذهب كالدخان مسرعاً ولتعد كالنار مستطيراً وحذار من التوقف في الطريق بل اذهب أسرع من الرعد وكن كالبرق ، فإن تتأخر في الطريق ساعة فسأجعل كلا العالمين يضيقان بك .

أسرع الخادم ملهوفاً في الطريق حتى جاء إياز في سرعة الريح فوجد السلطان جالساً أمامه ، اضطرب عقله وتبدد فكره وأصابت الرجفة أطراف الخادم وكأن ألماً عضالاً قد دهمه فقال : كيف أستطيع المثول أمام السلطان إذ سيسفك دمي في هذا الزمان ، ثم أقسم قائلاً : إنني لم أتوقف لحظة في أي مكان كما لم أجلس في أي أوان ولا أعلم مطلقاً كيف استطاع السلطان أن يصل مبكراً عني إلى هذا المكان سواء يصدقني السلطان أم لا ، فإنني أكون مذنباً لو أنني قصرت في هذا الأمر .

قال له السلطان : إنك لم تقصر في هذا الأمر ولكن كيف قطعت الطريق إليه ؟ أما أنا فلي طريق خفي صوبه إذ لا صبر لحظة دون رؤية وجهه ، وفي كل وقت أحضر إليه خفية من هذا الطريق حتى لا يعرف أحد أي شيء عن ذلك ، والطرق الخفية بيننا كثيرة كما أن الأسرار بين روحينا عديدة ، وإن أستفسر عنه من الخارج فإنني به عليم من الداخل ، وإن أخف سري عن الشيخ والشاب فإن روحي في ذهاب بيننا وإياب .


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 09, 2014 5:20 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

[size=50]المقالة الرابعة عشرة

سؤال الطيور للهدهد في قطع الطريق

ما أن سمعت الطيور جميعاً الكلام ، حتى أدرك الكل الأسرار القديمة ، ووجد الجميع نسباً يربطهم بالسيمرغ ، فلا جرم أن تولدت لديهم الرغبة في السير ، ولذا عادوا جميعاً إلى الطريق ، عادوا متحابين وبدا بينهم الوفاق ، ثم تحدثوا طويلاً مع الهدهد إذ لم يكن بينهم من أعلم منه بالطريق ، سألوه : أيها المتفقه في الأمر ، كيف يتأتى لنا الإقبال على المسير ؟ إن الأمر جد عظيم ، فكيف يكون السلوك من الضعاف مقبولاً ؟

تكلم الهدهد الهادي في ذلك الزمان وكأنه عاشق لا يقيم للروح أي حسبان ، فقال : إن تقل بترك الروح تصبح عاشقاً سواء كنت زاهداً أو فاسقاً ، وإن يعاد قلبك روحك فانثر الروح يأتيك الطريق حتى نهايته ، الروح سد في الطريق فكن للروح ناثراً واطرح الحجاب بعد ذلك وأحسن النظر ، وإن يقل لك عن الإيمان تخل وإن يقل لك عن الروح تخل فانثر هذا وذاك ، وقل بترك الإيمان وكذا عن الروح تخل .

إن يقل منكر إن هذا أمر منكر ، فقل : إن العشق أعلى مكانة من الإيمان والكفر ، وأي شأن للعشق مع الكفر والإيمان ؟ وأي شأن للعاشقين مع الجسد والروح ؟ إن العاشق يشعل النار في كل بيدر ويوضع المنشار على رأسه وهو لائذ بالصمت ، لابد للعشق من الألم والغصة ولابد للعشق من المشاكل والصعوبات ، فيا أيها الساقي إملأ الكأس بدم الكبد فإن عدمته فلتستعره من آلامنا إذ لابد للعشق من آلام تمزق الحجب ، فمزق حجاب الروح أحياناً وخطه أحياناً ، وذرة عشق تفوق جميع الآفاق ، وذرة ألم تفضل جميع العشاق ، والعشق لب الكائنات على الدوام ولكن لا يكون العشق تاماً بلا إيلام .

كل من له قدم في العشق راسخة ، قد تخطى الكفر والإسلام معاً ، العشق يفتح لك باباً نحو الفقر ، والفقر يظهر لك طريقاً صوب الكفر ، وللعشق قرابة بكفرك ، وكفرك هو لب فقرك ، وإن ضاع منك الكفر والإيمان ، فمعنى هذا أن جسدك قد فنى وأن روحك قد فاضت ، بعد ذلك تكون خليقاً بهذا العمل ، إذ لابد لهذه الأسرار من رجل فسر في الطريق كالرجال ، ولا تخف وتخل عن الكفر والإيمان ولا تخف ، كثيراً ما يعتريك الخوف فتشجع وتخل عن عالم الأطفال وكن كأشجع الرجال أمام الأعمال ، فإن اعترضت طريقك فجأة مئات العقبات فلا خوف من التعثر في الطريق .

[/size]

_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت يوليو 12, 2014 8:11 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

حكاية الشيخ صنعان وعقده الزنار لعشقه الفتاة المسيحية

كان الشيخ صنعان شيخ زمانه كما كان في الكمال يفوق ما سأذكره عنه ، اعتكف هذا الشيخ في الحرم خمسين عاماً ، ومعه أربعمائة مريد من أصحاب الكمال ، وما كان أحد من مريديه ويا للعجب يستريح من الرياضة ليلاً أو نهاراً ، واجتمع لدى الشيخ العلم والعمل معاً كما أمسك بزمام الكشف والسر معاً ، وحج زهاء خمسين حجة وقضى عمراً مديداً في أداء العمرة ، وصومه وصلاته دائبان بلا توقف ، وما توانى عن سنة مطلقاً ، ومن سبقوه من أئمة ، مثلوا بين يديه اعترافاً بسبقه ، وقد استطاع أن يقد الشعرة ، حيث كان عالي المنزلة في المقامات والكرامات ، وكل من شكا إليه ضعفاً أو علة ، وجد من أنفاسه عافية وصحة ، وكان للجميع قدوة في مجال العلم سواء في القبض أو البسط .

ومع إدراكه أنه قدوة الأصحاب ، فقد رأى نفسه ليالي متوالية على هذه الحال ، رأى أنه رحل عن الحرم ، واستقر ببلاد الروم ، ورأى أنه للأصنام دائم السجود .

وذات ليلة تيقظ عند رؤية هذا الحلم وقال : واحسرتاه في هذا الزمان سقط يوسف الموفق في البئر ، واعترضت عقبة كئود طريقه ، فلا أعلم متى أحرر روحي من هذا الغم ، وقد قلت بترك الروح عندما يكتمل إيماني ، ولكن لا وجود لإنسان على ظهر الأرض لم تعترض طريقه عقبة كهذه فإن يتغلب على عقبته ينكشف الطريق أمامه إلى نهايته ، وإذا ظل يقف خلف تلك العقبة فعاقبته أن يصبح طريقه بلا نهاية .

آخر الأمر ، قال المتبحر في العلم لمريديه : الآن وجب علينا العمل إذ يجب الإسراع إلى بلاد الروم لندرك تفسير هذا المقام ، سافر معه أربعمائة مريد معتبر مقتدين به في السفر ، ساروا من الكعبة إلى أقصى بلاد الروم ثم طوفوا بجميع أرجائها ، وفجأة وقعت عيونهم على بناء شاهق ، وقد جلست على سطحه فتاة .

كانت الفتاة المسيحية ذات روح ملائكية ، بل كأنها نفحة من روح الله ، أشرقت كالشمس في فلك الحسن ، واستقرت في برج الجمال المنزه عن النقصان ، فعلا الاصفرار وجه الشمس كمداً وحسداً لكثرة العشاق بمحراب تلك الفتاة .

كل قلب ارتبط بغدائر تلك الفاتنة ، عقد الزنار لجمال غدائرها ، ومن وقفت روحه على شفة تلك المعشوقة ، سار على رأسه في الطريق لا على قدميه ، وعندما تعطرت ريح الصبا برائحة غدائرها غزت التجاعيد وجه الروم كالعبيد بسببها ، عيناها فتنة للعشاق وحاجباها في الحسن كالطاق وإذا ألقت نظرة على أرواح العشاق ، سلبتهم الأرواح بغمزة من حاجبيها ، وانحنى حاجبها على عين في طلعة البدر ، واستقر وسطها إنسان العين وما أكثر ما فعل إنسان العين حيث صاد أرواح آلاف الآدميين ، أما وجهها فيبدو تحت غدائرها اللامعة كأنه شرارة وهاجة متأججة ، وكم أظمأ سراب ثغرها العالمين ، وحول نرجستها الناعسة أشرعت الخناجر فمن مضى ظامئاً إلى عينها أصيب قلبه بخناجر أهدابها ، وقد انعدم الطريق إلى فمها ، حتى أن كل من تكلم عنه ثبت أنه عديم الخبرة بهذا الفم ، إن فمها شبيه بسم الخياط ولها زنار كالغديرة حول وسطها ولها نونة فضية في ذقنها ، وكلامها ككلمات عيسى يعيد الروح لأصحابها وكم سقط العديدون كيوسف غرقى دمائهم في بئر نونتها ، وقد وضعت في شعرها جوهرة لها بريق الشمس ، أما شعرها الأسود فبرقع انسدل على وجهها .

ما أن رفعت النقاب بنت النصارى حتى اشتعلت أوصال الشيخ ناراً ، وعندما بدا وجهها من تحت النقاب ، عقد الشيخ مائة زنار من شعرها ، وكلما تطلع الشيخ أمامه كلما جعل عشق الفتاة المسيحية شغله ، حتى فقد قلبه وسقط على الأرض وبدا وكأنه وسط نار متأججة .

وأخيراً ضاع منه كل ما كان يملكه وأفعم قلبه بالدخان من نار عشقه وهكذا استولى عشق الفتاة على قلبه كما سفك كفر غدائرها دم إيمانه ، فتخلى الشيخ عن الإيمان واختار المسيحية ، كما باع العافية واشترى المسكنة ، وسيطر العشق على قلبه وروحه حتى سئم قلبه ومل روحه ، ثم قال عندما فقد دينه : أين القلب ؟ إن عشق الفتاة المسيحية أمر مشكل صعب .

وعندما رآه مريدوه متأوهاً أدركوا أن الواقعة قد وقعت وتحيروا جميعاً في أمره وتملكهم الاضطراب والهم بسببه فأكثروا في نصحه ولكن دون جدوى ، فلما وقع ما هو واقع لم يكن له دافع ، وكل من نصحه لم يطعه ، وذلك لأن ألمه لا علاج له ، وكيف يطيع العاشق الولهان الأمر ؟ والداء العضال كيف يستجيب لأي دواء ؟


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 13, 2014 4:16 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام

هكذا قضى الشيخ نهاره الطويل حتى المساء ، شاخصاً بصره حيرة وفاغراً فاه حسرة ، وكل مصباح أضاء تلك الليلة ، استمد الشرارة من قلب ذلك الشيخ المهموم ، وقد تضاعف عشقه مائة مرة تلك الليلة ، فلا جرم إن فقد نفسه مرة واحدة ، ونفض قلبه من نفسه ومن العالم ، كما نثر التراب على رأسه ، وظل في حزن دائم ، وما كان ينام أو يقر له قرار لحظة ، وارتجفت أوصاله من العشق وكان يتأوه ويقول :

يا رب ألا لليلتي من نهار ؟ ألا لشمع الفلك من اشتعال ؟ قد قضيت الليالي الطوال في رياضة ، وما رأى أحد قط ليالي مثلها ، ومن الاحتراق كالشمع فقدت كل قوة ، وما عاد بكبدي من ماء غير دماء القلب ، وأصبحت كالشمعة أقتل بالإشعال والإحراق ، لذا أحرق بالليل وأقتل بالنهار ، لقد قضيت الليلة أقاسي أهوال القتال ، وغرقت من رأسي إلى قدمي في خضم الدماء ، وفي كل لحظة تعرض لي مئات الأهوال ولا أعلم متى يشرق صبحي ؟ وكل من منى بمثل تلك الليلة ذات مرة أصبح شغله الشاغل في ليله ونهاره إحراق كبده ، وكثيراً ما قضيت النهار والليل في لوعة ، ولكن تلك الليلة كأنها يوم هلاكي ، بل كأنني كنت قد خلقت ذات يوم من أجل تلك الليلة ، فيا إلهي ألا لليلتي هذه من نهار ؟ ألا لشمع الفلك من اشتعال ؟

يا رب ، أهذه سمات هذه الليلة ؟ أو أن الليلة يوم القيامة ؟ أو أن شمع الفلك قد انطفأ بزفرتي ؟ أو أن حبيبي توارى من الخجل خلف الحجب ؟
الليل طويل حالك الظلمة كشعرها ، ولولا ذلك لسلكت الطريق مائة مرة إلى محلتها ، إنني احترق الليلة من جوى العشق ولم تعد لي طاقة لتحمل إيلام العشق ، أين العمر لأصف ذلتي أو لأتأوه بكامل إرادتي ؟ أين الصبر حتى أكف عن المسير أو أن أعاقر الكئوس كالرجال ؟ وأين الحظ حتى تصحو عزيمتي أو أن تعينني في عشقها ؟ وأين العقل حتى يكون العلم قدوتي أو بحيلة العقل أمثل أمامها ؟ وأين اليد حتى أضع تراب الطريق على مفرقي أو أن أرفع رأسي من تحت التراب والدم ؟ وأين القدم حتى أعاود البحث عن محلة الحبيب ؟ وأين العين حتى أعاود رؤية وجه الحبيب ؟ وأين الرفيق حتى يساعدني في غمي ؟ وأين الصديق حتى يأخذ لحظة بيدي ؟ وأين القوة حتى أستطيع البكاء والنواح ؟ وأين الفطنة حتى أتصرف بحكمة ؟

ذهب العقل وانقضى الصبر وولى الحبيب فأي عشق هذا ؟ وأي ألم ؟ وأي فعل ؟


_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 13, 2014 7:56 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء أكتوبر 30, 2007 4:26 pm
مشاركات: 3907
مكان: في حضن الكرام
رقت قلوب الجميع لحاله واجتمعوا تلك الليلة على أثر نواحه ، وقال له أحد جلسائه : يا شيخ الشيوخ انهض واغتسل من هذا الوسواس .

قال الشيخ : أيها الجاهل ، لقد اغتسلت الليلة بدماء كبدي مائة مرة .

وقال له آخر : أين مسبحتك ؟ وكيف يستقيم بلا تسبيح أمرك ؟

فقال الشيخ : لقد طرحت المسبحة من يدي حتى أستطيع عقد الزنار حول وسطي .

وقال آخر : أيها الشيخ المسن لتسارع بالتوبة إن كان قد حدث خطأ .

فقال الشيخ : لقد تبت عن الناموس والحال حتى أتخلص من المشيخة ومن القيل والقال .

وقال آخر : أيها العالم بالأسرار انهض واجمعنا في الصلاة .

فقال الشيخ : أين محراب تلك الفاتنة حتى لا أشغل بغير الصلاة ؟

وقال آخر : إلى متى هذا الجدل انهض واسجد لله في الخلوة .

فقال الشيخ : إذا كانت حبيبتي هنا لطاب لي السجود أمامها .

وقال آخر : ألا تندم على هذه الفعلة ؟ ألم يؤلمك ضياع إسلامك في لحظة ؟

فقال الشيخ : لا يمكن أن يندم إنسان أكثر من ذلك إذ لم أكن عاشقاً قبل ذلك .

وقال آخر : لقد قطع الشيطان عليك طريقك وألقى فجأة بسهام الخذلان على قلبك .

فقال الشيخ : لتقل للشيطان الذي قطع الطريق علينا ، اقطع فما أجمله من قطع .

وقال له آخر : إن كل خبير يقول : كيف ضل هذا الشيخ القدير ؟

فقال الشيخ : لقد فرغت تماماً من الاسم والسمعة ، وحطمت قارورة النفاق بحجر .

وقال له آخر : إن الأصدقاء السابقين قد تألموا وانفطرت قلوبهم أجمعين .

فقال الشيخ : إن كانت الفتاة المسيحية مسرورة ، فالقلب غافل عن ألم هذا وذاك .

وقال له آخر : لتوافق الأصدقاء حتى نعود الليلة صوب الكعبة مرة أخرى .

فقال الشيخ : إذا لم توجد الكعبة فالدير موجود ، وقد كنت مفيقاً في الكعبة ولكني ثمل في الدير .

وقال له آخر : كن عزوماً على قطع الطريق في تلك الآونة ثم اجلس في الحرم واطلب الصفح والمعذرة .

فقال الشيخ : لقد وضعت على أعتاب المعشوقة رأسي طالباً الصفح فكف يدك عني .

وقال له آخر : إن جهنم في الطريق مقيمة وليس رجل جهنم من يكون على علم وبصيرة .

فقال الشيخ : لو قدر وأصبحت جهنم في الطريق رفيقتي فإن سبعاً منها تحترق بزفرتي .

وقال له آخر : أملاً في الجنة عد وتب عن هذه الفعلة القبيحة وعد .

فقال الشيخ : إن لي حبيباً وجهه كالجنة ، فإن كان لابد لي من جنة فهذه جنتي .

وقال له آخر : لتخجل من الحق ولتعظم الله تعالى بصدق .

فقال الشيخ : إن كان الله حباني بتلك النار ، فلن أستطيع التخلي عنها بمحض إرادتي .

وقال له آخر : لتمض ولتلزم الصمت وعد للإيمان ثانية وبالإيمان تمسك .

فقال الشيخ : لا تطلب مني أنا الحائر غير الكفر ولا تطلب الإيمان ممن أصبح متردياً في الكفر .

عندما لم يجد القول معه أي نفع ، لزم الجميع الصمت وماجت قلوبهم وهاجت ، وغصت بالدماء ، حتى طفحت الدماء خارج هذه القلوب ، ولما حمل تركي النهار ترسه وقطع رأس زنجي الليل بسيفه ، وأصبحت الدنيا في اليوم التالي زاخرة بالغرور ، وشبيهة بالبحر الغريق في النور النابع من عين الشمس ، جعل الشيخ محلة الحبيب خلوته ، وأصبح شغله الشاغل مع كلاب محلتها واعتكف على تراب طريقها حتى أصبح كشعرة تنسدل على بدر وجهها ، وظل قرابة شهر صباح مساء في محلتها صابراً ليحظى برؤية شمس وجهها ، ولكن دهمه المرض في النهاية دون الظفر بالحبيب ، فما أطل أحد برأسه من تلك الأعتاب ، فكان مرقده تراب محلتها ووسادته عتبة بابها .

_________________
( بسم الله الرحمن الرحيم ) قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد .
قل أعوذ برب الفلق . من شر ما خلق . ومن شر غاسق إذا وقب . ومن شر النفاثات في العقد . ومن شر حاسد إذا حسد .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 14, 2014 1:19 am 
متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 03, 2010 12:20 am
مشاركات: 7602
نتابع كل ماتنشره لكن لانريد المقاطعة
جزاك الله خيرا
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

_________________
صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 74 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2, 3, 4, 5  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: [AhrefsBot] و 23 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط