موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 7, 8, 9, 10, 11, 12  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين سبتمبر 04, 2006 7:08 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب ذم الغرور
وهو الكتاب العاشر من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]

الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور، وبقدرته مفاتيح الخيرات والشرور، مخرج أوليائه من الظلمات إلى النور، ومورد أعدائه ورطات الغرور، والصلاة على محمد مخرج الخلائق من الديجور، وعلى آله وأصحابه الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور، صلاة تتوالى على ممر الدهور ومكر الساعات والشهور.

أما بعد: فمفتاح السعادة التيقظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة، ولا وسيلة سوى انشراح الصدر بنور البصيرة، ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية، ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة، فالأكياس وأرباب البصائر قلوبهم "كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور" والمغترون قلوبهم "كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" فالأكياس هم الذين أراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام والهدى، والمغترون هم الذين أراد الله أن يضلهم فجعل صدرهم ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء. والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلاً وبقي في العمى فاتخذ الهوى قائداً والشيطان دليلاً "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" وإذا عرف أن الغرور هو أم الشقاوات ومنبع المهلكات فلا بد من شرح مداخله ومجاريه وتفصيل ما يكثر من وقوع الغرور فيه، ليحذره المريد بعد معرفته فيتقيه، فالموفق من العباد من عرف مداخل الآفات والفساد فأخذ منها حذره وبنى على الحزم والبصيرة أمره.
ونحن نشرح أجناس مجاري الغرور وأصناف المغترين من القضاة والعلماء والصالحين الذين اغتروا بمبادئ الأمور، الجميلة ظواهرها القبيحة سرائرها، ونشير إلى وجه اغترارهم بها وغفلتهم عنها، فإن ذلك وإن كان أكثر مما يحصى ولكن يمكن التنبيه على أمثلة تغني عن الاستقصاء، وفرق المغرين كثيرة، ولكن يجمعهم أربعة أصناف الصنف الأول من العلماء الصنف الثاني من العباد الصنف الثالث من المتصوفة الصنف الرابع من أرباب الأموال. والمغتر من كل صنف فرق كثيرة وجهات غرورهم مختلفة، فمنهم من رأى المنكر معروفاً كالذي يتخذ المسجد ويزخرفها من المال الحرام، ومنهم من لم يميز بين ما يسعى فيه لنفسه وبين ما يسعى فيه لله تعالى كالواعظ الذي غرضه القبول والجاه، ومنهم من يترك الأهم ويشتغل بغيره، ومنهم من يترك الفرض ويشتغل بالنافلة، ومنهم من يترك اللباب ويشتغل بالقشر، كالذي يكون همه في الصلاة مقصوراً على تصحيح مخارج الحروف إلى غير ذلك من مداخل لا تتضح إلا بتفصيل الفرق وضرب الأمثلة. ولنبدأ أولاً بذكر غرور العلماء ولكن بعد بيان ذم الغرور وبيان حقيقته وحده.


[align=center]بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته[/align]

اعلم أن قوله تعالى "فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" وقوله تعالى "ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربضتم وارتبتم وغرتكم الأماني" الآية. كاف في ذم الغرور، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملئ الأرض من المغترين وقال صلى الله عليه وسلم"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل على ذم الغرور، لأن الغرور عبارة عن بعض أنواع الجهل، إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به، والغرور هو جهل إلا أن لك جهل ليس بغرور، بل يستدعي الغرور: مغروراً فيه مخصوصاً ومغروراً به وهو الذي يغره. فمهما كان المجهدل المعتقد شيئاً يوافق الهوى وكان السبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة فاسدة يظن أنها دليل ولا تكون دليلاً سمي الجهل الحاصل به غروراً. فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذن مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم، حتى كان غرور بعضهم أظهر وأشد من بعض، وأظهرها وأشدها غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فنورد لهما أمثلة لحقيقة الغرور.
المثال الأول غرور الكفار، فمنهم من غرته الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور، أما الذين غرتهم الحياة الدنيا: فهم الذين قالوا: النقد خير من النسيئة والدنيا نقد والآخرة نيسئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها، وقالوا: اليقين خير من الشك ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا تترك اليقين بالشك. وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى "أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون" وعلاج هذا الغرور إما بتصديق الإيمان وإما بالبرهان؛ أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله "ما عندكم ينفد وما عند الله باق" وفي قوله عز وجل "وما عند الله خير" وقوله "والآخرة خير وأبقى" وقوله "وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" وقوله "فلا تغرنكم الحياة الدنيا" وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم يطالبوه بالبرهان ، ومنهم من قال: نشدتك الله أبعثك الله رسولاً؟ فكان يقول "نعم" فيصدق وهذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور، وينزل هذا منزله تصديق الصبي والده في أن حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيراً. وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه الشيطان، فإن كل مغرور فلغروره سبب، وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع في النفس ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ولا يقدر على نظمه بألفاظ العلماء. فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان "أحدهما" أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة وهذا صحيح "والآخر" قوله: إن النقاد خير من النسيئة، وهذا محل التلبيس فليس الأمر كذلك، بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير، فإن الكافر المغرور يبذل في تجارته درهماً ليأخذ عشرة نسيئة ولا يقول النقد خير من النسيئة فلا أتركه، وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفاً من ألم المرض في المستقبل؛ فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة. والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقداً لأجل الراحة والربح نسيئة، فإن كان عشرة في ثاني الحال خيراً من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة، فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء ألف ألف جزء من الآخرة. فكأنه ترك واحداً ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد وإن نظر من حيث النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة، فإذن قد غلط في قوله: النقد خير من النسيئة، فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور أطلق وأريد به خاص، فغفل به المغرور عن خصوص معناه. فإن من قال: النقد خير من النسيئة، أراد به خيراً من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به.وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو: أن اليقين خير من الشك إذاً الآخرة شك وهذا القياس أكثر فساداً من الأول لأن كلا أصليه باطل، إذ اليقين خير من الشك إذا كان مثله، وإلا فالتاجر في تعبه على يقين وربحه على شك "والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في تردد في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك، وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق وكل ذلك ترك اليقين بالشك، ولكن التاجر يقول: إن لم أتجر بقيت جائعاً وعظم ضرري، وإن اتجرت كان تعبي قليلاً وربحي كثيراً؛ وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين، ولكن يقول: ضرر مرارة الدواء قليل بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت، فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم الحزم أن يقول: أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر الآخرة، فإن كان ما قيل فيه كذباً؛ فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم، فأحسب أني بقيت في العدم. وإن كان ما قيل صدقاً، فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق. ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين: إن كان ما قلته حقاً فقد تخصلت وتخلصنا، وإن كان ما قلناه حقاً فقد تخلصنا وهلكت: وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقناً فهو مغرور.
وأما الأصل الثاني من كلامه: وهو أن الآخرة شك، فهو أيضاً خطأ بل ذلك يقين عند المؤمنين وليقينه مدركان.
أحدهما: الإيمان والتصديق تقليداً للأنبياء والعلماء، وذلك أيضاً يزيل الغرور وهو مدرك يقين العوام وأكثر الخواص، ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علته، وقد اتفق الأطباء وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك البراهين الطبية، بل يثق بقولهم ويعلم به، ولو بقي سوادي أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منة عدداً وأغزر منه فضلاً وأعلم منه بالطب، بل لا علم له بالطب، فيعلم كذبه بقولهم ولا يعتقد كذبهم بقوله، ولا يغتر في علمهم بسببه، ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوهاً مغروراً، فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها، وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة في البصيرة والمعرفة والعقل، وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وابتعهم عليه الخلق على أصنافهم، وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم إلى التمتع، فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا الآخرة وكذبوا الأنبياء، فكما أن قول الصبي وقول السوادي لا يزيل طمأنينة القلب إلى ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة أقوالها الأنبياء والأولياء والعلماء. وهذا القدر من الإيمان كاف لجمله الخلق وهو يقين جازم يستحق على العمل لا محالة والغرور يزول به.
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء، ولا تظنن أن معرفة النبي عليه السلام لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه السلام بالسماع منه، كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون معرفتك مثل معرفته، وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات! فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر، فيخبرون عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد. وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من أمر الله الأمر الذي يقابل النهي؟ لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام، وليس المراد بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع المخلوقاتبل العالم عالمان: عالم الأمر وعالم الخلق، ولله الخلق والأمر، فالأجسام ذوات الكمية والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان، وكل موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح، ولا رخصة في ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه. فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وإذا عرف نفسه وربه عرف أنه أمر رباني بطبعه وفطرته، وأنه في العالم الجسماني غريب وأن هبوطه إليه لم يكن بمقتضى طبعه في ذاته بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بالمعصية وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى، وأنه أمر رباني وحنينه إلى جواب الرب تعالى له طبعي ذاتي، إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته فينسى عند ذلك نفسه وربه. ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه إذ قيل له "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم. يقال: فسقت الرطبة عن كمامها؛ إذا خرجت عن معدنها الفطري. وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها القاصرون فإنهم تضر بهم كما تضر رياح الورد بالجعل، وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر الشمس أبصار الخفافيش. وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية، ويسمى صاحبه ولياً وعارفاً، وهي مبادئ مقامات الأنبياء. وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء.
ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود أن غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي، وأما ببصيرة ومشاهدة من جهة الباطن، والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال الصالحة ولابسوا الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور من النار ولو بعد حين، ولكنهم أيضاً من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة خير من الدنيا ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها، ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز قال تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" وقال تعالى "إن رحمت الله قريب من المحسنين" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وقال تعالى "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل الصالح جميعاً لا بالإيمان وحده، فهؤلاء أيضاً مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا الفرحين بها المترفين بنعيمها المحبين لها. الكارهين للموت خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعاً.
ولنذكر للغرور بالله مثالين من غرور الكافرين والعاصين. فأما غرور الكفار بالله: فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم: إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظاً فيه وأسعد حالاً، كما أخبر الله تعالى عنه من قول الرجلين المتجاورين إذ قال "وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً" وجملة أمرهما كما نقل في التفسير: أن الكافر منهما بنى قصراً بألف دينار واشترى بستاناً بألف دينار وخدماً بألف دينار وتزوج امرأة على ألف دينار، وفي ذلك كله يعظه المؤمن ويقول: اشتريت قصراً يفنى ويخرب ألا اشتريت قصراً في الجنة لا يفنى! واشتريت بستاناً يخرب ويفنى ألا اشتريت بستاناً في الجنة لا يفنى وخدماً لا يفنون ولا يموتون وزوجة من الحور العين لا تموت! وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ويقول: ما هناك شيء وما قيل من ذلك فهو أكاذيب! وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا. وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول "لأوتين مالاً وولداً" فقال الله تعالى رداً عليه "أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً كلا" وروي عن خباب بن الأرت أنه قال: كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت: إني آخذه في الآخرة؛ فقال لي: إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالاً وولداً أقضيك منه. فأنزل الله تعالى قوله "أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولداً وقال الله تعالى "ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عند للحسنى" وهذا كله من الغرور بالله.
وسببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه، وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا فيقيسون عليهم نعمة الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم فيقيسون عليه عذاب الآخرة كما قال تعالى "ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول" فقال تعالى جواباً لقولهم "حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير" ومرة ينظرون إلى المؤمنين؛ وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم، فيقولون "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" ويقولون "لو كان خيراً ما سبقونا إليه" وترتيب القياس الذي نظمه في قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن أيضاً في المستقبل كما قال الشاعر:



[poet font="Andalus,4,purple,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,purple" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقـي
[/poet]


وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب إذ يقول: لولا أني كريم عند الله ومحبوب لما أحسن إلي. والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب، لا بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان، فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة بل عند ذوي البصائر يدل على الهوان. ومثاله: إن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر، فالذي يحبه يمنعه من اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب، ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره، ويسقيه الأدوية التي تنفعه. والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل ما يشتهي، فيظن هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه، وذلك محض الغرور، وهكذا نعيم الدنيا ولذتها فإنها مهلكات ومبعدات من الله "فإن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه هكذا ورد في الخبر عن سيد البشر.
وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا: ذنب عجلت عقوبته ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال، وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا: مرحباً بشعار الصالحين. والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله، وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان، كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن" فأجاب الله عن ذلك "كلا" أي ليس كما قال إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله التثبيت، فبين أن ذلك غرور. قال الحسن كذبهما جميعاً بقوله "كلا" يقول ليس هذا بإكرامي ولا هذا بهواني، ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنياً كان أو فقيراً، والمهان من أهنته بمعصيتي غنياً كان أو فقيراً.
وهذا الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان إما بالبصيرة أو بالتقليد أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعد عن الله ووجه كون التباعد عنها مقرباً إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء، وشرحه من جملة علوم المكاشفة ولا يليق بعلم المعاملة "وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق" فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد قال تعالى "أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون" وقال تعالى "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" وقال تعالى "فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" وفي تفسير قوله تعالى "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" أنهم كلما أحدثوا ذنباً أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً" وقال تعالى "ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار" إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور والجهل بالله وبصفاته، فإن من عرفه لا يأمن مكره ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة، وينظر إلى فرعون وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم تدميرا! فقال تعالى "هل تحس منهم من أحد" الآية. وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه فقال "فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون" وقال تعالى "ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون" وقال عز وجل "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين" وقال تعالى "إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً" فكما لا يجوز للعبد المهمل أن يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد، بل ينبغي أن يحذر أن يكون ذلك مكراً منه وكيداً مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه، فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى مع تحذيره استدراجه أولى، فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر، ومنشأ هذا الغرور أنه استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم، واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى، فالشيطان بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما يرافقه وهو التصديق بدلالته على الكرامة وهذا هو حد الغرور.
المثال الثاني غرور العصاة من المؤمنين بقولهم: إن الله كريم وإنا نرجو عفوه، واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنهم واغترارهم رجاء، وظنهم أن الرجاء مقام محمود في الدين وأن نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم، وأين معاصي العباد في بحار رحمته وإنا موحدون ومؤمنون؟ فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان مستند رجائهم التمسك بصلاح الآباء وعلو رتبتهم، كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع، وظنهم أنهم أكرم على من آبائهم إذ آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين، وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون، وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى. فقياس الشيطان للعلوية. أن من أحب إنساناً أحب أولاده وأن الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعة، وينسى المغرور أن نوحاً عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة فلم يرد فكان من المغرقين "فقال رب إن ابني من أهلي" فقال تعالى "يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح" وإن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه. وأن نبيناً صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار، فجلس يبكي على قبر أمه لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله فهذا أيضاً اغترار بالله تعالى وهذا لأن الله تعالى يحب المطيع ويبغض العاصي، فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع، ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك أن يسري البغض أيضاً بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى. ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه، ويصير عالماً بتعلم أبيه ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه. فالتقوى فرض عين فلا يجزه فيه والد عن ولده شيئاً وكذا العكس، وعند الله جزاء التقوى "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه" إلا على سبيل الشفاعة لمن لم يشتد غضب الله عليه فيأذن في الشفاعة له - كما سبق في كتاب الكبر والعجب.
فإن قلت: فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته، وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيراً، فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب؟ فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ذلك فقال "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه: رجاء، حتى خدع به الجهال. وقد شرح الله الرجاء فقال "إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله" يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال قال الله تعالى "جزاء بما كانوا يعملون" وقال تعالى "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة" أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريماً يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد، فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم، أفيراه العقلاء في انتظاره متمنياً مغروراً أو راجياً؟ وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة. قيل للحسن: قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال: هيهات هيهات! تلك أمانيهم يترجحون فيها، من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. وقال مسلم بن يسار: لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي! فقال له رجل: إنا لنرجو الله! فقال مسلم: هيهات هيهات؟ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. وكما أن الذي يرجوا في الدنيا ولداً وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم ينزل! فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن لم يعمل صالحاً أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور. فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي متردداً في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس، فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات وترك السيئات وبقي متردداً بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا يدوم عليه وأن يختم له بالسوء، ويرجوا من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد، ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس، ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله "وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل-ولتعلمن نبأه بعد حين" وعند ذلك يقولون كما أخبر الله عنهم "ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون" أي علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر، فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحاً فقد علمنا الآن صدقك في قولك "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى -كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير" أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده وأنه "توفى كل نفس ما كسبت" وأن "كل نفس بما كسبت رهينة" فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم؟ "قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير".
فإن قلت: فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود؟ فاعلم أنه محمود في موضعين:
أحدهما: في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان: وأنى تقبل توبتك فيقنطه من رحمة الله تعالى "فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر "إن الله يغفر الذنوب جميعاً" وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال الله تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم" أمرهم بالإنابة وقال تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور، كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان: إنك لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو راج، وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور.
الثاني: أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر قوله تعالى "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" إلى قوله "أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" فالرجاء الأول: يقمع القنوط المانع من التوبة. الرجاء الثاني: يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر، فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء، وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرة، كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان: مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم؟ فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة فهو غرة، وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ويقول: إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد، مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها، فمن هذه سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله تعالى وإهمالهم السعي للآخرة، فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه وسلم وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة وقد كان ما وعد به صلى الله عليه وسلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات. وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم؟ وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه معقل بن يسار "يأتى على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعاً لا خوف معه، إن أحسن أحدهم قال: يتقبل مني، وإن أساء قال: يغفر لي فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه. وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا" ومعناه أنهم "ورثوا الكتاب" أي هم علماء "ويأخذون عرض هذا الأدنى" أي شهواتهم من الدنيا حراماً كان أو حلالاً. وقد قال تعالى "ولمن خاف مقام ربه جنتان - ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعبد" والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف، لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه. وترى الناس يهذونه هذا، يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا؟ فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق وبين الرجاء والغرور، ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر، وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر، وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه، ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين! وهو يتكل عليه ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال، وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله. نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد، ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة، وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال "وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" فهذا أبداً يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين، يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان. وذلك محض الغرور. ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يتكبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة منن مهماته، وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته، حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه! فيا عجباً لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفاً على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفاً من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه! ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها! لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين! فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان، وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور وعلى القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالاً على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى، والله أعلم.


[align=center]بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف وهم أربعة أصناف[/align]

[b]الصنف الأول: أهل العلم والمغترون منهم فرق: "ففرقة" أحكموا العلوم الشرعية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم، بل يقبل في الخلق شفاعتهم، وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون، فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان: علم معاملة، وعلم مكاشفة؛ وهو العلم بالله وبصفاته، المسمى بالعادة: علم المعرفة.
فأما العلم بالمعاملة: كمعرفة الحلال والحرام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها، فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة، وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل. فمثال هذا: كمريض به عله لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء، فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب، وعلمه كيفية دق كل واحد منها وكيفية خلطه وعجنه، فتعلم ذلك وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن ورجع إلى بيته وهو يكررها ويعلمها المرضى ولم يشتغل بشربها واستعمالها. أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئاً؟ هيهات هيهات! لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئاً، إلا أن يزن الذهب ويشترى الدواء ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلاً؟ فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره. وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم على الأخلاق المحمودة ولم يتصف بها فهو مغرور، إذ قال تعالى "قد افلح من زكاها" ولم يقل قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها وكتب علم ذلك وعلمه الناس! وعند هذا يقول له الشيطان: لا يغرنك هذا المثال فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض، وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه والعلم يجلب الثواب، ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم. فإن كان المسكين معتوهاً مغروراً وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن إليه وأهمل العمل، وإن كان كيساً فيقول للشيطان: أتذكرني فضائل العالم وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى "فمثله كمثل الكلب" وكقوله تعالى "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم "من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً وقال أيضاً "يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار في الرحى وكقوله عليه الصلاة والسلام "شر الناس العلماء السوء وقول أبي الدرداء: ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات،أي أن العلم حجة عليه إذ يقال له: ماذا عملت فيما علمت وكيف قضيت شكر الله
وقال صلى الله عليه وسلم "أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فهذا وأمثاله مما أرودناه في كتاب العلم في باب علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى، إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر، وما ورد في فضل العلم يوافقه فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه وذلك عين الغرور، ف إنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما ذكرناه، وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء وأن حالهم عند الله أشد من حال الجهال. فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور.
وأما الذي يدعي علوم المكاشفة: كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يعمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده فغروره أشد، ومثاله مثال من أراد خدمة ملك فعرف الملك وعرف أخلاقه وأوصافه ولونه وشكله وطوله وعرضه وعادته ومجلسه ولم يتعرف ما يحبه ويكرهه وما يغضب عليه وما يرضى به، أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته وهو ملابس لجميع ما يغضب به عليه، وعاطل عن جميع ما يحبه من زي وهيئة وكلام وحركة وسكون، فورد على الملك وهو يريد التقرب منه والاختصاص به متلطخاً بجميع ما يكرهه الملك، عاطلاً عن جميع ما يحبه، متوسلاً إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده وصورته وشكله وعادته في سياسة غلمانه ومعاملة رعيته. فهذا مغرور جداً إذ لو ترك جميع ما عرفه واشتغل بمعرفته فقط ومعرفة ما يكرهه ويحبه لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربة والاختصاص به، بل تقصيره في التقوى واتباعه للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني، إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه واتقاه. فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ثم لا يتقيه ولا يخافه، وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: خفني كما تخاف السبع الضاري. نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد، فمن عرف الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي، ويعلم أنه مسخر في قدرة من لو أهلك مثله آلافاً مؤلفة وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثراً ولم تأخذه عليه رقة ولا اعتراه عليه جزع. ولذلك قال تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وفاتحة الزبور "رأس الحكمة خشية الله" وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً. واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له: إن فقهاءنا لا يقولون ذلك، فقال: وهل رأيت فقيهاً قط؟ الفقيه القائم ليلة الصائم نهاره الزاهد في الدنيا. وقال مرة: الفقيه لا يداري ولا يماري ينشر حكمة الله فإن قبلت منه حمد الله وإن ردت عليه حمد الله. فإذن الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه وعلم من صفاته ما أحبه وما كرهه وهو العالم "ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين" وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين.
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي، إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاء والعباد، وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها ولا يلتفت إلى قوله صلى الله عليه وسلم "أدنى الرياء شرك وإلى قوله عليه السلام "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر" وإلى قوله عليه الصلاة والسلام" الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وإلى قوله عليه الصلاة والسلام "حب الشرف والمال ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل إلى غير ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة. فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فتعهدوا الأعمال وما تعهدوا القلوب - والقلب هو الأصل - إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. ومثال هؤلاء كبئر الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، أو كقبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها جيفة، أو كبيت مظلم باطنه وضع سراج على سطحه فاستنار ظاهره وباطنه مظلم، أو كرجل قصد الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره وترك المزابل في صدر داره، ولا يخفى أن ذلك غرور، بل أقرب مثالي إليه: رجل زرع زرعاً فنبت ونبت معه حشيش يفسده، فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه من أصله، فأخذ يجز رؤوس وأطرافه فلا تزال تقوى أصوله فتنبت، لأن مغارس المعاصي هي الأخلاق الذميمة في القلب، فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له الطاعات الظاهرة إلا مع الآفات الكثيرة. بل هو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء، فالطلاء ليزيل ما على ظاهره والدواء ليقطع مادته من باطنه، فقنع بالطلاء وترك الدواء، وبقي يتناول ما يزيد في المادة، فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجر من المادة التي في الباطنوفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع، إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك، وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم، فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم، ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطل بالعلو والشرف قالوا: ما هذا كبر وإنما هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من المبتدعين! وإني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء الدين وفرحوا بذلك، وكان ذلي ذلاً على الإسلام ونسي المغرور أن عدوه الذي ضده منه مولاه هو الشيطان، وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به، وينسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين؟ ونسي ما روي عن الصحابة من التواضع والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة، حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند قدومه إلى الشام فقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العز في غيره. ثم هذا المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرقيقة من القصب والديبقي والإبريسم - المحرم - والخيول والمراكب ويزعم أنه يطلب به عز العلم وشرف الدين! كذلك مهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئاً من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ولكن قال: إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عدوانه وظلمه، ولم يظن بنفسه الحسد، حتى يعتقد أنه لو طعن في غيره من أهل العلم أو منع غيره من رياسة وزوحم فيها هل كان غضبه وعداوته مثل غضبه الآن فيكون غضبه لله؟ أم لا يغضب مهما طعن في عالم آخر ومنع؟ بل ربما يفرح به فيكون غضبه لنفسه وحسده لأقرانه من خبث باطنه، وهكذا يرأئي بأعماله وعلومه وإذا خطر له خاطر الرياء قال: هيهات! إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله تعالى فيتخلصوا من عقاب الله تعالى، ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الخلق بغيره كما يفرح باقتدائه به، فلو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان - كمن له عبيد مرضى يريد معالجتهم فإنه لا يفرق بين أن يحصل شفاؤهم على يده أو على يد طبيب آخر وربما يذكر هذا له فلا يخيله الشيطان أيضاً ويقول: إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر لي والثواب لي فإنما فرحي بثواب الله لا بقبول الخلق قولي! هذا ما يظنه بنفسه والله مطلع من ضميره على أنه لو أخبره نبي بأن ثوابه في الخمول وإخفاء العلم أكثر من ثوابه في الإظهار، وحبس مع ذلك في سجن وقيد بالسلاسل لاحتال في هدم السجن وحل السلاسل حتى يرجع إلى موضعه الذي به تظهر رياسته من تدريس أو وعظ أو غيره، وكذلك يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثني عليه ويتواضع له، وإذا خطر له أن التواضع للسلاطين الظلمة حرام قال له الشيطان: هيهات! إنما ذلك عند الطمع في مالهم فأما أنت فغرضك أن تشفع للمسلمين وتدفع الضرر عنهم وتدفع شر أعدائك عن نفسك! والله يعلم من باطنه أنه لو ظهر لبعض أقرانه قبول عند ذلك السلطان فصار يشفعه في كل مسلم حتى دفع الضرر عن جميع المسلمين ثقل ذلك عليه، ولو قدر على أن يقبح حاله عند السلطان بالطعن فيه والكذب عليه لفعل وكذلك قد ينتهي غرور بعضهم إلى أن يأخذ من مالهم وإذا خطر له أنه حرام قال له الشيطان: هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك قوام الدين! أفلا يحل لك أن تأخذ قدر حاجتكفيغتر بهذا التلبيس في ثلاثة أمور أحدها في أنه مال لا مالك له فإنه يعرف أنه يأخذ الخراج من المسلمين وأهل السواد، والذين أخذ منهم أحياء وأولادهم وورثتهم أحياء، وغاية الأمر وقوع الخلط في أموالهم، ومن غصب مائة دينار من عشرة أنفس وخالطها فلا خلاف في أنه مال حرام، ولا يقال هو مال لا مالك له، ويجب أن يقسم بين العشرة ويرد إلى كل واحد عشرة، وإن كان مال كل واحد قد اختلط بالآخر الثاني والثالث في قوله إنك من مصالح المسلمين وبك قوام الدين؛ ولعل الذين فسد دينهم واستحلوا أموال السلاطين ورغبوا في طلب الدنيا والإقبال على الرياسة والإعراض عن الآخرة بسببه أكثر من الذين زهدوا في الدنيا ورفضوها وأقبلوا على الله فهو على التحقيق دجال الدين وقوام مذهب الشياطين لا إمام الدين. إذ الإمام: هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله كالأنبياء عليهم السلام والصحابة وعلماء السلف. والدجال: هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الله والإقبال على الدنيا. فلعل موت هذا أنفع للمسلمين من حياته وهو يزعم أنه قوام الدين. ومثله كما قال المسيح عليه السلام للعالم السوء: إنه كصخرة وقعت في فم الوادي فلا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع. وأصناف غرور أهل العلم في هذه الأعصار المتأخرة خارجة عن الحصر وفيما ذكرناه تنبيه بالقليل على الكثيروفرقة أخرى أحكموا العلم وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات واجتنبوا ظواهر المعاصي، وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والحقد والكبر وطلب العلو، وجاهدوا أنفسهم في التبري منها وقلعوا من القلوب منابتها الجلية القوية، ولكنهم بعد مغرورون؛ إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخبايا خداع النفس مادق وغمض مدركه فلم يفطنوا لها وأهملوها، وإنما مثاله من يريد تنقية الزرع من الحشيش، فدار عليه وفتش عن كل حشيش رآه فقلعه، إلا أنه لم يفتش على ما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز، وكان قد نبت من أصول الحشيش شعب لطاف فانبسطت تحت التراب فأهملها وهو يظن أنه قد اقتلعها، فإذا هو بها في غفلته وقد نبتت وقويت وأفسدت أصول الزرع من حيث لا يدري. فكذلك العالم قد يفعل جميع ذلك ويذهل عن المراقبة للخفايا والتفقد للدفائن فتراه يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها وجمع التصانيف فيها، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته. ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف، وكثرة الرحلة إليه من الآفاق، وانطلاق الألسنة عليه بالثناء، والمدح بالزهد والورع والعلم، والتقديم له في المهمات وإيثاره في الأغراض، والاجتماع حوله للاستفادة والتلذذ بحسن الإصغاء عند حسن اللفظ والإيراد، والتمتع بتحريك الرؤوس إلى كلامه والبكاء عليه والتعجب منه، والفرح بكثرة الأصحاب والأتباع والمستفيدين، والسرور بالتخصص بهذه الخاصية من بين سائر الأقران والأشكال للجمع بين العلم والورع وظاهر الزهد والتمكن به من إطلاق لسان الطعن في الكافة المقبلين على الدنيا، لا عن تفجع بمصيبة الدين ولكن عن إدلال بالتمييز واعتداد بالتخصيص. ولعل هذا المسكين المغرور حياته في الباطن بما انتظم له من أمر وإمارة وعز وانقياد وتوقير وحسن ثناء، فلو تغيرت عليه القلوب واعتقدوا فيه خلاف الزهد بما يظهر من أعماله فعساه يتشوش عليه قلبه وتختلط أوراده ووظائفه. وعساه يعتذر بكل حيلة لنفسه، وربما يحتاج إلى أن يكذب في تغطية عيبه. وعساه يؤثر بالكرامة والمراعاة من اعتقد فيه الزهد والورع وإن كان قد اعتقد فيه فوق قدره، وينبوا قلبه عمن عرف حد فضله وورعه وإن كان ذلك على وفق حاله وعساه يؤثر بعض أصحابه على بعض وهو يرى أنه يؤثره لتقدمه في الفضل والورع، وإنما ذلك لأنه أطوع له وأتبع لمراده وأكثر ثناء عليه وأشد إصغاء إليه وأحرص على خدمته ولعلهم يستفيدون منه ويرغبون في العلم وهو يظن أن قبولهم له لإخلاصه وصدقه وقيامه بحق علمه فيحمد الله تعالى على ما يسر على لسانه من منافع خلقه، ويرى أن ذكر ذلك مكفر لذنوبه ولم يتفقد مع نفسه تصحيح النية فيه. وعساه لو وعد بمثل ذلك الثواب في إيثاره الخمول والعزل وإخفاء العلم لم يرغب فيه لفقده في العزلة ولاختفاء لذة القبول وعزة الرياسة ولعل مثل هذا هو المراد بقول الشيطان: من زعم من بني آدم أنه بعلمه امتنع مني فنجهله وقع في حبائلي. وعساه يصنف ويجتهد فيه ظاناً أنه يجمع علم الله لينتفع به وإنما يريد به استطارة اسمه بحسن التصنيف، فلو ادعى مدع تصنيفه ومحا عنه اسمه ونسبه إلى نفسه ثقل عليه ذلك مع علمه بأن ثواب الاستفادة من التصنيف إنما يرجع إلى المصنف والله يعلم بأنه هو المصنف لا من ادعاه، ولعله في تصنيفه لا يخلو من الثناء على نفسه إما صريحاً بالدعاوي الطويلة العريضة وإما ضمناً بالطعن في غيره، ولعله يحكي من الكلام المزيف ما يزيد تزييفه فيعزيه إلى قائله وما يستحسنه فعله لا يعزيه إليه ليظن أنه من كلامه، فينقله بعينه كالسارق له أو يغيره أدنى تغيير كالذي يسرق قميصاً فيتخذه قباء حتى لا يعرف أنه مسروق، ولعله يجتهد في تزيين ألفاظه وتسجيعه وتحسين نظمه كيلا ينسب إلى الركاكة ويرى أن غرضه ترويج الحكمة وتحسينها وتزيينها ليكون أقرب إلى نفع الناس. وعساه غافلاً عما روي أن بعض الحكماء وضع ثلثمائة مصحف في الحكمة فأوحى الله إلى بني زمانه قل له قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً. ولعل جماعة من هذا الصنف من المغترين إذا اجتمعوا ظن كل واحد بنفسه السلامة عن عيوب القبل وخفاياه فلو افترقوا واتبع كل واحد منهم فرقة من أصحابه نظر كل واحد إلى كثرة من يتبعه وأنه أكثر تبعاًأو غيره فيفرح إن كان أتباعه أكثر وإن علم أن غيره أحق بكثرة الأتباع منه، ثم إذا تفرقوا واشتغلوا بالإفادة تغايروا وتحاسدوا ولعل من يختلف إلى واحد منهم إذا انقطع عنه إلى غيره ثقل على قلبه ووجد في نفسه نفرة منه فبعد ذلك لا يهتز باطنه لإكرامه ولا يتشمر لقضاء حوائجه كما كان يتشمر من قبل، ولا يحرص على الثناء عليه كما أثنى مع علمه بأنه مشغول بالاستفادة، ولعل التحيز منه إلى فئة أخرى كان أنفع له في دينه لآفة من الآفات كانت تلحقه في هذه الفئة وسلامته عنها في تلك الفئة، ومع ذلك لا تزول النفرة عن قلبه، ولعل واحداً منهم إذا تحركت فيه مبادئ الحسد لم يقدر على إظهاره فيتعلل بالطعن في دينه وفي ورعه ليحمل غضبه على ذلك، ويقول إنما غضبت لدين الله لا لنفسي. ومهما ذكرت عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه، وربما قطب وجهه إلا ذكرت عيوبه - يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين- وسر قلبه راض به ومريد له، والله مطلع عليه في ذلك. فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء، ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء، إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه ويسوءه ذلك ويكرهه ويحرص على إصلاحه، فإذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مرجو الحال، وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه الممتن على الله بعمله وعلمه الظان أنه من خيار خلقه، فنعوذ بالله من الغفلة والاغترار ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال. هذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم.
ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لم يهمهم وتركوا المهم وهم به مغترون إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم وإما لاقتصارهم عليه. فمنهم فرقة اقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح العباد، وخصصوا اسم الفقه بها وسموه الفقه وعلم المذاهب، وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة فلم يتفقدوا الجوارح ولم يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين وكذا سائر الجوارح، ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وسائر المهلكات. فهؤلاء مغرورون من وجهين أحدهما من حيث العمل والآخر من حيث العلم أما العمل: فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسحة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه، لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف على الهلاك ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله فاشتغل بتعلم دواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلاً ونهاراً مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحاض، ولكن يقول: ربما تقع على الاستحاضة لامرأة وتسألني عن ذلك، وذلك غاية الغرور. فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة، وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان، فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم والإجارة والظهار واللعان والجراحات والديات والدعاوي والبينات وبكتاب الحيض وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره لنفسه، وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما فيه من الجاه والرياسة والمال، وقد دهاه الشيطان وما يشعر، إذ يظن المغرور بنفسه أنه مشغول بفرض دينه وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية. هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى، وإن قصد وجه الله فهو باشتغاله له معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره من حيث العمل.
وأما غروره من حيث العلم: فحيث اقتصر على علم الفتاوى وظن أنه علم الدين وترك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما طعن في المحدثين وقال: إنهم نقلة أخبار وحملة أسفار لا يفقهون، وترك أيضاً علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه عن الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على التقوى، فتراه آمناً من الله مغتراً به متكلاً على أنه لا بد وأن يرحمه فإنه قوم دينه، وأنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام فقد ترك العلوم التي هي أهم وهو غافل مغرور، وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أن ذلك الفقه هو الفقه عن الله ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى، إذ قال تعالى "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلم يحذرون" والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم، فإن مقصود هذا العلم: حفظ الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع القتل والجراحات، والمال في طريق الله آلة والبدن مركب. وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى، وإذا مات ملوثاً بتلك الصفات كان محجوباً عن الله. فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز الراوية والخف، ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج، ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في شيء ولا بسبيله - وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم - ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصوم ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة، فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية، وهؤلاء هم سباع الإنس طبعهم الإيذاء وهمهم السفه، ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران، فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب وعلم سلوك الطريق إلى الله تعالى بمحو الصفات المذمومة وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرون ويسمونه التزويق وكلام الوعاظ، وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في الجدل. وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوى لكن زادوا إذ اشتغلوا بما ليس من فروض الكفايات أيضاً، بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف، وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما. وأما حيل الجدل من الكسر والقلب وفساد الوضع والتركيب والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيراً وأقبح من غرور من قبلهم وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم، واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة أولئك وإفحامهم، وافترقوا في ذلك فرقاً كثيرة، واعتقدوا أنه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم، وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم، ودعت كل فرقة منهم إلى نفسها.
ثم هم فرقتان: ضالة ومحقة؛ فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة، والمحقة هي التي تدعو إلى السنة والغرور شامل لجميعهم. فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة، وهم فرق كثير يكفر بعضهم بعضاً، وإنما أتيت من حي إنها لم تتهم رأيها ولم تحكم أولاً شروط الأدلة ومناهجها، فرأى أحدهم الشبهة دليلاً والدليل شبهة. وأما الفرقة المحقة: فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور وأفضل القرابات في دين الله وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث، وأن من صدق الله ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ولا مقرب عند الله.
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة ومناقضاتهم، وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة، وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل، ولكنه لالتذاذه بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى عميت بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من أهل البدع والهوى فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضاً للخصومات والمجادلات وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم، بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته، وإذا رأوا مصراً على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر، بل قالوا: إن الحق هو الدعوة إلى السنة ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة. إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحابه وهم يتجادلون ويختصمون فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الزمان - حمرة من الغضب - فقال "ألهذا بعثتم أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا وما نهيتم عنه فانتهوا" فقد زجرهم عن ذلك وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدال. ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة ودفع سؤال وإيراد إلزام، فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب ويستخرج منها الإشكالات والشبه ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم، وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأفيسة وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام، ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا وقالوا لو نجا أهل الأرض وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم ولو نجونا وهلكوا لم يضرنا هلاكهم، وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل، وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا؟ ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله؟ ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيد التعصب والخصومة تشدداً في بدعته، فاشتغالي بمخاصمة نفسي ومجادلتها ومجاهدتها لتترك الدنيا للآخرة أولى، هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة فكيف وقد نهيت عنه؟ وكيف أدعو إلى السنة بترك السنة؟ فالأولى أتفقد نفسي وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله تعالى وما يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير، وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره، وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله، وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون، وما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون: ولولا أنه مقرب عند الله لما عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله وكيفية قطع المنازل في طريق الله! فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين وهو آمن من الله تعالى، ويرى أنه من الراجين وهو المغترين المضيعين، ويرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين، ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب، ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين. بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف، ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء، ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن. ويذكر بالله تعالى وهو له ناس، ويقرب إلى الله وهو منه متباعد، ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص، ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف، ويصرف الناس عن الخلق وهو الخلق أشد حرصاً - لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت - ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه لمات غماً وحسداً، ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه. فهؤلاء أعظم الناس غرة وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد، لأن المرغب في الأخلاق المحمود والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها، وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به. فبعد ذلك بماذا يعالج وكيف سبيل تخويفه؟ وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون وهو ليس بخائف نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة، وهو أن يدعي مثلاً حب الله فما الذي تركه من محاب نفسه لأجله؟ ويدعي الخوف فما الذي امتنع منه بالخوف؟ ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى؟ ويدعى الأنس بالله فمتى طابت له الخلوة! ومتى استوحش من مشاهدة الخلق لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش إلا خلا بالله تعالى فهل رأيت محباً يستوحش من محبوبه ويستروح منه إلى غيره فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ولا يقنعون منها بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى كما ورد به الخبر لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه وينهون عن الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئاً ضعيفاً من أصول هذه المعاني وهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية في هذه المعاني فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصافهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام والكلام للمعرفة وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ذلك غير الاتصاف بالصفة فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف بل في القدرة على الوصف، بل ربما زاد أمنه وقل خوفه وظهر إلى الخلق ميله وضعف في قلبه حب الله تعالى؛ وإنما مثاله مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته، ويصف الصحة والشفاء، وغيره من المرضى لا يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه، فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب، فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل، فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها. ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن والأخبار ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم.
وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله، على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه، فاشتغلوا بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب. وطائفة شغفوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها فأكثر هممهم بالأسجاع والاستشهار بأشعار الوصال والفراق، وغرضهم أن تكثر في مجالستهم الزعقات والتواجد ولو على أغراض فاسدة، فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، فإن الأولين وإن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم. وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصي ورغبة في الدنيا، لا سيما إذا كان الواعظ متزيناً بالثياب والخيل والمراكب فإنه تشهد هيئته من فرقه إلى قدمه بشدة حرصه على الدنيا فما يفسده هذا المغرور أكثر مما يصلحه بل لا يصلح أصلاً ويضل خلقاً كثيراً ولا يخفى وجه كونه مغروراً.
وفرقة أخرى منهم قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر، وبعضهم في المحاريب، وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه إذا تميز بهذا القدر عن السوقة والجندية، إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم فقد أفلح ونال الغرض، وصار مغفوراً له وأمن عقاب الله من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام، ولكنه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه، وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم.
وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول: أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلاناً ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري. وغرورهم من وجوه: منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني السنة فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم يفهموا معانيها ولا يعملون بها وقد يفهمون بعضها أيضاً ولا يعملون به. ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين وهو معرفة علاج القلب ويشتغلون بتكثير الأسانيد وطلب العالي منها ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك ومنها وهو الذي أكب عليه أهل الزمان أنهم أيضاً لا يقيمون بشرط السماع فإن السماع بمجرده وإن لم تكن له فائدة ولكنه مهم في نفسه للوصول إلى إثبات الحديث إذ التفهم بعد الإثبات والعمل بعد التفهم، فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع، فترى الصبي يحضر في مجلس الشيخ والحديث يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب، ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع منه والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو نسخ، والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ولم يعرفه، وكل ذلك جهل وغرور. إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظه كما سمعه، ويرويه كما حفظه، فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع. فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من الصحابة أو التابعين وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن تصغي لتسمع فتحفظ وتروي كما حفظت، وتحفظ كما سمعت بحيث لا تغير منه حرفاً ولو غير غيرك منه حرفاً أو أخطأ علمت خطأه وللحفظ طريقان أحدهما أن تحفظ بالقلب وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في مجاري الأحوال. والثاني أن تكتب كما تسمع وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره، ويكون حفظك للكتاب معك وفي خزانتك، فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره، فإذا لم تحفظه لم تشعر بتغييره فيكون محفوظاً بقلبك أو بكتابك فيكون كتابك مذكراً لما سمعته وتأمن فيه من التغيير والتحريف.
فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس، ثم رأيت نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيراً أو يفارق حرف منه للنسخة التي سمعتها لم يجز لك أن تقول: سمعت هذا الكتاب، فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه بل سمعت شيئاً يخالف ما فيه ولو في كلمة. فإذا لم يكن معك حفظ بقلبك ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك؟ وقد قال الله تعالى "ولا تقف ما ليس لك به علم" وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح. وأقل شروط السماع أن يجري الجميع على السمع مع نوع من الحفظ ويشعر معه بالتغيير ولو جاز أن يكتب سماع الصبي والغافل والنائم والذي ينسخ لجاز أن يكتب سماع المجنون الصبي في المهد، ثم إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون يسمع عليه ولا خلاف في عدم جوازه، ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الجنين في البطن فإن كان لا يكتب سماع الصبي في المهد لأنه لا يفهم ولا يحفظ، فالصبي الذي لا يلعب والغافل والمشغول بالنسخ عن السماع ليس بينهم ولا يحفظ، وإن استجرأ جاهل فقال: يكتب سماع الصبي في المهد فليكتب سماع الجنين في البطن، فإن فرق بينهما بأن الجنين لا يسمع الصوت وهذا يسمع الصوت فما ينفع هذا وهو إنما ينقل الحديث دون الصوت، فليقتصر إذا صار شيخاً على أن يقول: سمعت بعد بلوغي أني في صباي حضرت مجلساً يروى فيه حديث كان يقرع سمعي صوته ولا أدري ما هو؟ فلا خلاف في أن الرواية كذلك لا تصح وما زاد عليه فهو كذب صريح ولو جاز إثبات سماع التركي الذي لا يفهم العربية لأنه سمع صوتاً غفلاً لجاز إثبات سماع صبي في المهد وذلك غاية الجهل. ومن أين يأخذ هذا؟ وهل للسماع مستند إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداه كما سمعها وكيف يؤدي كما سمع من لا يدري ما سمع فهذا أفحش أنواع الغرور. وقد بلي بهذا أهل الزمان ولو اختلط أهل الزمان لم يجدوا شيوخاً إلا الذين سمعوه في الصبا على هذا الوجه مع الغفلة، إلا أن للمحدثين في ذلك جاهاً وقبولاً، فخاف المساكين أن يشترطوا ذلك فيقل من يجتمع لذلك في حلقهم فينقص جاههم، وتقل أيضاً أحاديثهم التي قد سمعوها بهذا الشرط بل ربما عدموا ذلك وافتضحوا، فاصطلحوا على أنه ليس يشترط إلا أن يقرع سمعه دمدمة وإن كان لا يدري ما يجري؟ وصحة السماع لا تعرف من قول المحدثين لأنه ليس من علمهم بل من علم علماء الأصول بالفقه وما ذكرناه مقطوع به في قوانين أصول الفقه فهذا غرور هؤلاء، ولو سمعوا على الشرط لكانوا أيضاً مغرورين في اقتصارهم على النقل وإفناء أعمارهم في جمع الروايات والأسانيد وإعراضهم عن مهمات الدين ومعرفة الأخبار، بل الذي يقصد من الحديث سلوك طريق الآخرة وسالك طريقها ربما يكفيه الحديث الواحد عمره، كما روي عن بعض الشيوخ أنه حضر مجلس السماع فكان أول حديث روي قوله عليه الصلاة والسلام "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فقام وقال: يكفيني هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره. فهكذا يكون سماع الأكياس الذين يحذرون الغرور وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة، إذ قوام الدين بالكتاب والسنة، وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب اللغة، ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلا بد من تعلمها وتصحيحها، ولو عقل لعلم أنه يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زيادة على الكفاية، وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك والمضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك والهند، وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها، فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب، ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه، ثم لو اقتصر عليه وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضاً مغرور، بل مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه وهو غرور، إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات، ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين، فذلك غرور أهل النحو والأدب والقراءات والتدقيق في مخارج الحروف مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها - أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين - فاللب الأقصى هو العمل والذي فوقه هو معرفة العمل، وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه هو سماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية، وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى ما فوقه، وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف، والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذه هذه الدرجات منازل فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته، فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات. فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه، فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه، وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب أو في المنزل البعيد. وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها. فأما علم الطلب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم فكان الغرور بها أقل من الغرور بعلوم الشرع، لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمود كما يشارك القشر اللب في كونه محموداً ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى. والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى فمن اتخذ القشر مقصوداً وعرج عليه فقد اغتر به وفرقة أخرى عظم غرورهم في فن الفقه فظنوا أن حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه في مجلس القضاء فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المهمة واغتروا بالظواهر وأخطئوا فيها. وهذا من قبيل الخطأ في الفتوى والغرور فيه والخطأ في الفتاوى مما يكثر. ولكن هذا نوع عم الكافة إلا الأكياس منهم فنشير إلى أمثلة: فمن ذلك فتواهم بأن المرأة متى أبرأت من الصدق برئ الزوج بينه وبين الله تعالى، وذلك خطأ بل الزوج قد يسيء إلى الزوجة بحيث يضيق عليها الأمور بسوء الخلق فتضطر إلى طلب الخلاص فتبرئ الزوج لتتخلص منه فهو إبراء لا على طيبة نفس وقد قال تعالى "فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً" وطيبة النفس غير طيبة القلب، فقد يريد الإنسان بقلبه ما لا تطيب به نفسه فإنه يريد الحجامة بقلبه ولكن تكرهها نفسه، وإنما طيبة النفس أن تسمح نفسها بالإبراء لا عن ضرورة تقابله حتى إذا رددت بين ضررين اختارت أهونهما فهذه مصادرة على التحقيق بإكراه الباطن. نعم القاضي في الدنيا لا يطلع على القلوب والأغراض، فينظر إلى الإبراء الظاهر وأنها لم تكره بسبب ظاهر والإكراه الباطن ليس يطلع الخلق عليه، ولكن مهما تصدى القاضي الأكبر في صعيد القيامة للقضاء لم يكن هذا محسوباً ولا مقيداً في تحصيل الإبراء، ولذلك لا يحل أن يؤخذ مال إنسان إلا بطيب نفس منه، فلو طلب من الإنسان مالا على ملأ من الناس فاستحيا من الناس أن لا يعطيه وكان يود أن يكون سؤاله في خلوة حتى لا يعطيه، ولكن خاف ألم مذمة الناس وخاف ألم تسليم المال، وردد نفسه بينهما فاختار أهون الألمين وهو ألم التسليم فسلمه، فلا فرق بين هذا وبين المصادرة إذ معنى المصادرة إيلام البدن بالسوط حتى يصير ذلك أقوى من ألم القلب ببذل المال فيختار أهون الألمين، والسؤال في مظنة الحياء والرياء ضرب للقلب بالسوط، ولا فرق بين ضرب الباطن وضرب الظاهر عند الله تعالى فإن الباطن عند الله تعالى ظاهر، وإنما حاكم الدنيا هو الذي يحكم بالملك بظاهر قوله وهبت لأنه لا يمكنه الوقوف على ما القلب، وكذلك من يعطى اتقاء لشر لسانه أو لشر سعايته فهو حرام عليه، وكذلك كل مال يؤخذ على هذا الوجه فهو حرام. ألا ترى ما جاء في قصة داود عليه السلام حيث قال - بعد أن غفر له- يا رب كيف لي بخصمي؟ فأمر بالاستحلال منه وكان ميتاً فأمر بندائه في صخرة بيت المقدس، فنادى: يا أوريا، فأجابه: لبيك يا نبي الله أخرجتني من الجنة فما تريد؟ فقال: إني أسأت إليك في أمر فهبه لي، قال: قد فعلت ذلك يا نبي الله، فانصرف وقد ركن إلى ذلك فقال له جبريل عليه السلام: هل ذكرت له ما

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 05, 2006 7:55 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
ما فعلت؟ قال: ألم أهبه لك؟ قال: ألا تسألني ما ذلك الذنب؟ قال: ما هو يا نبي الله؟ قال: كذا وكذا، وذكر شأن المرأة فانقطع الجواب، فقال يا أوريا ألا تجيبني؟ قال: يا نبي الله ما هكذا يفعل الأنبياء حتى أقف معك بين يدي الله، فاستقبل داود البكاء والصراخ من الرأس حتى وعده الله أن يستوهبه منه في الآخرة. فهكذا ينبهك أن الهبة من غير طيبة قلب لا تفيد، وأن طيبة القلب لا تحصل إلا بالمعرفة، فكذلك طيبة القلب لا تكون في الإبراء والهبة وغيرهما إلا إذا خلى الإنسان واختياره، حتى تنبعث الدواعي من ذات نفسه لا أن تضطر بواعثه إلى الحركة بالحيل والإلزام. ومن ذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول من زوجته واتهابه مالها لإسقاط الزكاة، فالفقيه يقول: سقطت الزكاة، فإن أراد به أن مطالبة السلطان والساعي سقطت عنه فقد صدق فإن مطمح نظرهم ظاهر الملك وقد زال، وإن ظن أنه يسلم في القيامة ويكون كمن لم يملك المال، أو كمن باع لحاجته إلى المبيع لا على هذا القصد فما أعظم جهله بفقه الدين وسر الزكاة، فإن سر الزكاة تطهير القلب عن رذيلة البخل فإن البخل مهلك قال صلى الله عليه وسلم "ثلاث مهلكات شح مطاع وإنما صار شحه مطاعاً بما فعله وقبله لم يكن مطاعاً. فقد تم هلاكه بما يظن أن فيه خلاصه فإن الله مطلع على قلبه وحبه المال وحرصه عليه، وأنه بلغ من حرصه على المال أن استنبط الحيل حتى يسد على نفسه طريق الخلاص من البخل بالجهل والغرور، ومن ذلك إباحة الله مال المصالح للفقيه وغيره بقدر الحاجة، والفقهاء المغرورون لا يميزون بين الأماني والفضول والشهوات وبين الحاجات، بل كل ما لا تتم رعونتهم إلا به يرونه حاجة وهو محض الغرور، بل الدنيا خلقت لحاجة العباد إليها في العبادة وسلوك طريق الآخرة، فكل ما تناوله العبد للاستعانة به على الدين والعبادة فهو حاجته وما عدا ذلك فهو فضوله وشهوته، ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء في أمثال هذا لملأنا فيه مجلدات والغرض من ذلك التنبيه على أمثلة تعرف الأجناس دون الاستيعاب فإن ذلك يطول.
الصنف الثاني: أرباب العبادة والعمل والمغرورون منهم فرق كثيرة فمنهم من غروره في الصلاة.ومنهم من غروره في تلاوة القرآن. ومنهم في الحج. ومنهم في الغزو. ومنهم في الزهد وكذلك كل مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خالياً عن غرور إلا الأكياس وقليل ما هم.
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل وربما تعمقوا في الفضائل حتى خرجوا إلى العدوان والسرف، كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته في فتوى الشرع، ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة، وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض، ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة، إذ توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة وكان مع هذا يدع أبواباً من الحلال مخافة من الوقوع في الحرام. ثم من هؤلاء من يخرج إلى الإسراف في صب الماء وذلك منهي عنه وقد يطول الأمر حتى يضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها، وإن لم يخرجها أيضاً عن وقتها فهو مغرور لما فاته من فضيلة أول الوقت، وإن لم يفته فهو مغرور لإسرافه في الماء، وإن لم يسرف فهو مغرور لتضييعه العمر الذي هو أعز الأشياء فيما له مندوحة عنه، إلا الشيطان يصد الخلق عن الله بطريق سني، ولا يقدر على صد العباد إلا بما يخيل إليهم أنه عبادة فيبعدهم عن الله بمثل ذلك.
وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة في نية الصلاة فلا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة ويخرج الصلاة عن الوقت، وإن تم تكبيره فيكون في قلبه بعد تردد في صحة نيته، وقد يوسوسون في التكبير حتى قد يغيرون صيغة التكبير لشدة الاحتياط فيه، يفعلون ذلك في أول الصلاة ثم يغفلون في جميع الصلاة فلا يحضرون قلوبهم، ويغترون بذلك ويظنون أنهم إذا أتعبوا أنفسهم في تصحيح النية في أول الصلاة وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خير عند ربهم.
وفرقة أخرى تغلب عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء وتصحيح مخارج الحروف في جميع صلاته، لا يهمه غيره ولا يتفكر فيما سواء ذاهلاً معنى القرآن والاتعاظ به وصرف الفهم إلى أسراره. وهذا من أقبح أنواع الغرور فإنه لم يكلف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام.
ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى مجلس سلطان وأمر أن يؤديها على وجهها، فأخذ يؤدي الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو في ذلك غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فما أحراه بأن تقام عليه السياسة ويرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل.
"وفرقة أخرى" اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليلة مرة، ولسان أحدهم يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه إلى غير ذلك مما ذكرناه في كتاب تلاوة القرآن من مقاصد التلاوة فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه ومثاله: مثال عبد كتب إليه مولاه ومالكه كتاباً وأشار إليه فيه بالأوامر والنواهي، فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما أمره به مولاه، إلا أنه يكرر الكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق للعقوبة، ومهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور. نعم تلاوته إنما تراد لكيلا ينسى بعد لحفظه وحفظه يراد لمعناه ومعناه يراد للعمل به والانتفاع بمعانيه، وقد يكون له صوت طيب فهو يقرؤه ويلتذ به ويغتر باستلذاذه ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله تعالى وسماع كلامه وإنما هي لذته في صوته، ولو ردد ألحانه بشعر أو كلام آخر لالتذ به ذلك الالتذاذ، فهو مغرور إذ لم يتفقد قلبه فيعرفه أن لذته بكلام الله تعالى من حيث حسن نظمه ومعانيه أو بصوته.
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإفطار وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار، وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل الفرائض ويطلب النقل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور.
وفرقة أخرى اغتروا بالحج فيخرجون إلى الحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجة الإسلام ويضيعون في الطريق الصلاة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة حتى يؤخذ منهم، ولا يحذرون في الطريق من الرفث والخصام، وربما جمع بعضهم الحرام وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرياء فيعصي الله تعالى في كسب الحرام أولاً وفي إنفاقه بالرياء ثانياً فلا هو أخذه من حله ولا وضعه في حقه، ثم يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذميم الصفات لم يقدم تطهيره على حضوره وهو مع ذلك يظن أنه على خير من ربه فهو مغرور.
وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكر على الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه، وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر منكراً ورد عليه غضب وقال: أنا المحتسب فكيف تنكر علي؟ وقد يجمع الناس إلى مسجده ومن تأخر عنه أغلظ القول عليه وإنما غرضه الرياء والرياسة، ولو قام بتعهد المسجد غيره لحرد عليه، بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله ولو جاء غيره وأذن في وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال: لم آخذ حقي وزوحمت على مرتبتي، وكذلك قد يتقلد إمامة مسجد ويظن أنه على خير وإنما غرضه أن يقال إنه إمام مسجد فلو تقدم غيره وإن كان أورع وأعلم منه ثقل عليه.
وفرقة أخرى جاوروا بمكة أو المدينة واغتروا بمكة ولم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا ظاهرهم وباطنهم فقلوبهم معلقة ببلادهم ملتفتة إلى قول من يعرفه أن فلاناً مجاور بذلك، وتراه يتحدى ويقول: قد جاورت بمكة كذا وكذا سنة، وإذا سمع أن ذلك قبيح ترك صريح التحدي وأحب أن يعرفه الناس بذلك ثم إنه قد يجاور ويمد عين طمعه إلى أوساخ أموال الناس وإذا جمع من ذلك شيئاً شح به وأمسكه لم تسمع نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير فيظهر فيه الرياء والبخل والطمع وجملة من المهلكات كان عنها بمعزل لو ترك المحاورة، ولكن حب المحمدة وأن يقال إنه من المجاورين ألزمه المجاورة مع التضمخ بهذه الرذائل فهو أيضاً مغرور، ولا يعرف شرح ذلك إلا من جملة كتب إحياء علوم الدين، فيعرف مداخل الغرور في الصلاة من كتاب الصلاة، وفي الحج من كتاب الحج، والزكاة والتلاوة وسائر القربات من الكتب التي رتبناها فيها، وإنما الغرض الآن الإشارة إلى مجامع ما سبق في الكتب.
وفرقة أخرى زهدت في المال وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد، فقد ترك أهون الأمرين وباء بأعظم المهلكين، فإن الجاه أعظم من المال ولو ترك الجاه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا مغرور إذ ظن أنه من الزهاد في الدنيا وهو لم يفهم معنى الدنيا، ولم يدر أن منتهى لذاتها لرياسة وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقاً وحسوداً ومتكبراً ومرائياً متصفاً بجميع خبائث الأخلاق. نعم وقد يترك الرياسة ويؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطول بذلك على الأغنياء ويخشن معهم الكلام وينظر إليهم بعين الاستحقار ويرجوا لنفسه أكثر مما يرجو لهم ويعجب بعمله ويتصف بجملة من خبائث القلوب وهو لا يدري، وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده، ولو قيل له إنه حلال فخذه في الظاهر ورده في الخفية لم تسمح به نفسه خوفاً من ذم الناس، فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب الدنيا، ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا وهو مغرور ومع ذلك فربما لا يخلو من توقير الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن المائلين إلى غيره من الزهاد، وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه. وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلاً ألف ركعة ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات فلا يدري أن ذلك مهلك، وإن علم ذلك فلا يظن بنفسه ذلك، وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير مؤاخذ بأحوال القلب، وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته وهيهات! وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملاً بالجوارح، ثم لا يخلو لهذا المغرور - مع سوء خلقه مع الناس وخشونته وتلوث باطنه - عن الرياء وحب الثناء، فإذا قيل له أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك وصدق به وزاده ذلك غروراً، وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضياً عند الله ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه.
وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه "ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور. بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته. فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغروراً. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض، كتقديم الفرائض كلها على النوافل، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية، وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه، وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت، وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: من أبر يا رسول الله؟ قال "أمك" قال: ثم من؟ قال "أمك" قال ثم من؟ قال "أمك" قال: ثم من؟ قال "أباك" قال: ثم من؟ قال "أدناك فأدناك فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج، فإن استويا فبالأتقى والأورع. وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج فربما يحج وهو مغرور بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج، وهذا من تقديم فرض أهم على فرض هو دونه. وكذلك إذا كان على العبد ميعاد ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوق والاشتغال بالوفاء بالوعد معصية وإن كان هو طاعة في نفسه. وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك فالنجاسة محذورة وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة. وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر. ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور. وهذا غرور في غاية الغموض لأن المغرور فيه في طاعة إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها. ومن جملته الاشتغال بالمذهب والخلاف من الفقه في حق من بقي عليه شغل من الطاعات والمعاصي الظاهرة والباطنة المتعلقة بالجوارح والمتعلقة بالقلب لأن مقصود الفقه معرفة ما يحتاج إليه غيره في حوائجه. فمعرفة ما يحتاج هو إليه في قلبه أولى به إلا أن حب الرياسة والجاه ولذة المباهاة وقهر الأقران والتقدم عليه يعمي عليه حتى يغتر به مع نفسه ويظن أنه مشغول بهم دينه.
الصنف الثالث: المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة
ففرق منهم وهم المتصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق، فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم واصطلاحاتهم، وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات، فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيها ظنوا أنهم أيضاً صوفية ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب، وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية، وكل ذلك من أوائل منازل التصوف، ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية؟ كيف ولم يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئاً منها؟ بل يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير ويمزق بعضهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه. وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين ثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة، فتاقت نفسها إلى أن يقطع لها مملكة فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية تبخترهم في الميدان وكيف تحريكهم الأيدي وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق والحركات والسكنات، ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت إلى المعسكر أنفذت إلى ديوان العرض وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة، فلما جردت عن المغفر والدرع فإذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر؟ فقيل لها أجئت للاستهزاء بالملك وللاستخفاف بأهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها فألقوها قدام الفيل لسخفها فألقيت إلى الفيل. فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا على القاضي الأكبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع بل إلى القلب.
وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور إذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة الثياب والرضا بالدون، فأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بداً من التزين بزيهم فتركوا الحرير والإبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة ولبسوا من الثياب ما هو أرفع قيمة من الحرير والإبريسم، وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف بمجرد لون الثوب وكونه مرقعاً، ونسي أنهم إنما لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها كل ساعة لإزالة الوسخ، وإنما لبسوا المرقعات إذ كانت ثيابهم مخرقة فكانوا يرقعونها ولا يلبسون الجديد فأما تقطيع الفوط الرقيقة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها فمن أين يشبه ما اعتادوه؟ فهؤلاء أظهر حماقة من كافة المغرورين، فإنهم يتنعمون بنفيس الثياب ولذيذ الأطعمة ويطلبون رغد العيش ويأكلون أموال السلاطين ولا يجتنبون المعاصي الظاهرة فضلاً عن الباطنة وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق إذ يهلك من يقتدي بهم، ومن لا يقتدي بهم تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة ويظن أن يجمعهم كانوا من جنسه فيطول اللسان في الصادقين منهم وكل ذلك من شؤم المتشبهين وشرهم.
وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في عين الشهود والوصول إلى القرب، ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ لأنه تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الإزراء فضلاً عن العوام، حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم أياماً معدودة ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار، ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء، فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون، ويقول في العلماء إنهم بالحديث عن الله محجوبون؛ ويدعى لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين لم يحكم قط علماً ولم يهذب خلقاً ولم يرتب عملاً ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وتلقف الهذيان وحفظه.
وفرقة أخرى وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال والحرام فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي؟ وبعضهم يقول: قد كلف الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال فقد كلفوا ما لا يمكن، وإنما يغتر به من لم يجرب، وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال. ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما بل إنما كلفوا قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع. وبعضهم يقول: الأعمال بالجوارح لا وزن لها، وإنما النظر إلى القلوب وقلوبنا والهة بحب الله وواصلة إلى معرفة الله وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في حضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب، ويزعمون إنهم قد ترقوا عن رتبة العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله لقوتهم فيها، ويرفعون درجة أنفسهم على درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية، وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى، وكل ذلك بناء على أغاليط ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ومن غير اقتداء بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به وإحصاء أصنافهم يطول.
وفرقة أخرى جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلقت الحلال واشتغلت بتفقد القلب وصار أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها. فمنهم من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم أنه واله بالله ولعله قد تخيل في الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل معرفته، ثم إنه لا يخلو عن مقارفة ما يكره الله عز وجل وعن إيثار هوى نفسه على أمر الله وعن ترك بعض الأمور حياء من الخلق، ولو خلا لما تركه حياء من الله تعالى. وليس يدري أكل ذلك يناقض الحب وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح دعوى التوكل، وليس يدري أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحابة وقد كانوا أعرف بالتوكل منه، فما فهموا أن التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون على الله تعالى لا على الزاد، وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب واثق به، وما من مقام من المقامات المنجيات إلا وفيه غرور وقد اغتر به قوم قد ذكرنا مداخل الآفات في ربع المنجيات من الكتاب فلا يمكن إعادتها.
وفرقة أخرى ضيقت على نفسها في أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص وأهملوا تفقد القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة ومنهم من أهمل الحلال في مطعمه وملبسه ومسكنه وأخذ يتعمق في غير ذلك، وليس يدري المسكين أن الله تعالى لم يرض من عبد بطلب الحلال فقط ولا يرضى بسائر الأعمال دون طلب الحلال، بل لا يرضيه إلا تفقد جميع الطاعات والمعاصي. فمن ظن أن بعض هذه الأمور يكفيه وينجيه فهو مغرور وفرقة أخرى ادعوا حسن الخلق والتواضع والمساحة فتصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا قوماً وتكلفوا بتخدمتهم واتخذوا ذلك للرياسة وجمع المال، وإنما غرضهم التكبر، وهم يظهرون الخدمة والتواضع وغرضهم الارتفاع، وهم يظهرون أن غرضهم الإرفاق وغرضهم الاستتباع، وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات وينفقون عليهم لتكثر أتباعهم وينشر بالخدمة اسمهم، وبعضهم يأخذ أموال السلاطين ينفق عليهم، وبعضهم يأخذها لينفق في طريق الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والإنفاق، وباعث جميعهم الرياء والسمعة، وآية ذلك إهمالهم لجميع أوامر الله تعالى عليهم ظاهراً وباطناً ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه. ومثال من ينفق الحرام في طريق الحج لإرادة الخير كمن يعمر مساجد الله فيطينها بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة.
وفرقة أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها وصاروا يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علماً وحرفة، فهم في جميع أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس واستنباط دقيق الكلام في آفاتها. فيقولون هذا في النفس عيب والغفلة عن كونه عيباً عيب، والالتفات إلى كونه عيباً عيب، ويشغفون فيه بكلمات مسلسلة تضيع الأوقات في تلفيقها ومن جعل طول عمره في التفتيش عن عيوب النفس وتحريم علم علاجها كان كمن اشتغل بالتفتيش عن عوائق الحج وآفاته ولم يسلك طريق الحج فذلك لا يغنيه.
وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتح لهم أبواب المعرفة، فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبتهم غرابتها فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها، وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده على غيرهم، وكل ذلك غرور لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية، فلو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها قصرت خطاه وحرم الوصول إلى المقصد وكان مثاله مثال من قصد ملكاً فرأى على باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار لم يكن قد رأى قبل ذلك مثلها، فوقف ينظر إليها ويتعجب حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك.
"وفرقة أخرى" جاوزوا هؤلاء ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ولا إلا ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى، فظنوا أنهم قد وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا فإن لله تعالى سبعين حجاباً من نور لا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا ويظن أنه قد وصل. وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام إذ قال الله تعالى إخباراً عنه "فلما جن الليل رأى كوكباً قال هذا ربي" وليس المعنى به هذه الأجسام المضيئة فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة وهي كثيرة وليست واحداً، والجهال يعلمون أن الكوكب ليس بإله فمثل إبراهيم عليه السلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر السوادية. ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز وجل وهي على طريق السالكين، ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب، وهي حجب من نور بعضها أكبر من بعض وأصغر النيرات الكوكب فاستعير له لفظه وأعظمها الشمس وبينهما رتبة القمر، فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات حيث قال تعالى "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض" ويصل إلى نور بعد نور ويتخيل إليه في أول ما كان يلقاه أنه قد وصل، ثم كان يكشف له أن وراءه أمراً فيترقى إليه ويقول: قد وصلت فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده، فقال "هذا أكبر" فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال "قال لا أحب الآفلين - إلى أن قال - إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الأول، وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه فإنه أيضاً أمر رباني وهو نور من أنوار الله تعالى؛ أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل، وعند ذلك يشرق نوره إشراقاً عظيماً إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له فإذا تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه ربما التفت صاحب القلب إلى القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول: أنا الحق فإن لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف عليه وهلك، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية ولم يصل بعد إلى القمر فضلاً عن الشمس فهو مغرور وهذا محل الالتباس، إذ المتجلي يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة فيظن أنه لون المرآة، وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل:


[poet font="Andalus,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="groove,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]

رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكـل الأمـر
فكأنهما خمـر ولا قـدح وكأنما قدح ولا خـمـر
[/poet]


وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه كمن يرى كوكباً في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء فيمد يده إليه ليأخذه وهو مغرور، وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في مجلدات ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع علوم المكاشفة، وذلك مما لا رخصة في ذكره، ولعل القدر الذي ذكرناه أيضاً كان الأولى تكره إذ المسالك لهذا الطريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من غيره، والذي لم يسلكه لا ينتفع بسماعه بل ربما يستضر به إذ يورثه ذلك دهشة من حيث يسمع ما لا يفهم، ولكن فيه فائدة وهو إخراجه من الغرور الذي هو فيه بل ربما يصدق بأن الأمر أعظم مما يظنه ومما يتخيله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله المزخرف ويصدق أيضاً بما يحكى له من المكاشفات التي أخبر عنها أولياء الله، ومن عظم غروره ربما أصر مكذباً بما يسمعه الآن كما يكذب بما سمعه من قبل.
الصنف الرابع: أرباب الأموال؛ والمغترون منهم فرق: ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك. وقد اغتروا فيه من وجهين:
أحدهما: أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها وتعرضوا لسخطه في إنفاقها وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها، فإذن قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله وردها إلى ملاكها إما بأعيانها وإما برد بدلها عند العجز، فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب ردها إلى الورثة فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح، وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين، وهم لا يفعلون ذلك خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس فيبنون الأبنية بالآجر وغرضهم من بنائها الرياء وجلب الثناء وحرصهم على بقاءها لبقاء أسماءهم المكتوبة فيها لا لبقاء الخير.
والوجه الثاني: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية ولو كلف واحد منهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه ذلك ولم تسمح به نفسه، والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب، ولولا أنه يريد به وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك.
وفرقة أخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد وهي أيضاً مغرورة من وجهين: أحدهما: الرياء وطلب الثناء فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم وأفضل وأولى من الصرف إلى بناء المساجد وزينتها، وإنما يخف عليهم الصرف إلى المساجد ليظهر ذلك بين الناس.
والثاني: أنه يصرف إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلين ومختطفة أبصارهم والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب، وذلك يفسد قلوب المصلين ويحبط ثوابهم بذلك، ووبال ذلك كله يرجع إليه وهو مع ذلك يغتر به ويرى أنه من الخيرات ويعد ذلك وسيلة إلى الله تعالى، وهو مع ذلك قد تعرض لسخط الله تعالى وهو يظن أنه مطيع له وممتثل لأمره، وقد شوش قلوب عباد الله بما زخرفه من المسجد وربما شوقهم به إلى زخارف الدنيا، فيشتهون مثل ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه ووبال ذلك كله في رقبته؛ إذ المسجد للتواضع ولحضور القلب مع الله تعالى. قال مالك بن دينار: أتى رجلان مسجداً فوقف أحدهما على الباب وقال: مثلي لا يدخل بيت الله، فكتبه الملكان عند الله صديقاً. فهكذا ينبغي أن تعظم المساجد وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام أو بزخرف الدنيا منة على الله تعالى. وقال الحواريون للمسيح عليه السلام: انظر إلى هذا المسجد ما أحسنه! فقال: أمتي أمتي بحق أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله إن الله لا يعبأ بالذهب والفضة ولا بهذه الحجارة التي تعجبكم شيئاً، وإن أحب الأشياء إلى الله تعالى القلوب الصالحة بها يعمر الله الأرض وبها يخرب إذا كانت على غير ذلك وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا زخفرتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم وقال الحسن "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه جبريل عليه السلام فقال له: ابنه سبعة أذرع طولاً في السماء لا تزخرفه ولا تنقشه فغرور هذا من حيث أنه رأى المنكر واتكل عليه.
وفرقة أخرى ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل الجامعة، ومن الفقراء من عادته الشكر والإنشاء للمعروف ويكرهون التصدق في السر، ويرون إخفاء الفقير لما يأخذ منهم جناية عليهم وكفراناً، وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعاً ولذلك قال ابن مسعود: في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه. وقال أبو نصر التمار: إن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم. قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهداً أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله، قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطراً فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين.
وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة، كصيام النهار وقيام الليل وختم القرآن، وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها، ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء، ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى السكنجبين؟ ولذلك قيل لبشر: إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء.
وفرقة أخرى غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط، ثم إنهم يخرجون من المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في حاجاتهم، ومن يحتاجون إليه في المستقبل للاستسخار في خدمة أو من لهم فيه على الجملة غرض، أو يسلمون ذلك إلى من يعينه واحد من الأكابر ممن يستظهر بحشمة لينال بذلك عنده منزلة فيقوم بحاجاته. وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل وصاحبه مغرور، ويظن أنه مطيع لله تعالى وهو فاجر إذ طلب بعبادة الله عوضاً من غيره، فهذا وأمثاله من غرور أصحاب الأموال أيضاً لا يحصى وإنما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على أجناس الغرور.
وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة، ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ أجراً، وهم مغرورون لأن فضل مجلس الذكر لكونه مرغباً في الخير فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه، والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل فإن ضعفت عن الحمل على فلا خير فيها، وما يراد لغيره فإذا قصر عن الأداء إلى ذلك الغير فلا قيمة له، وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء وربما تدخله رقة كرقة النساء فيبكي ولا عزم، وربما يسمع كلاماً مخوفاً فلا يزيد على أن يصفق بيديه ويقول: يا سلام سلم! أو نعوذ بالله أو سبحان الله! ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور. وإنما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فيسمع ما يجري، أو الجائع الذي يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف، وذلك لا يغني عنه من مرضه وجوعه شيئاً. فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئاً. فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييراً يغير أفعالك حتى تقبل على الله تعالى إقبالاً قوياً أو ضعيفاً وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك، فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغروراً.
فإن قلت: فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ولا يمكن الاحتراز منه، وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات؟ فأقول: الإنسان إذا افترقت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق، وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى الغرض، حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه، وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه، وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها، وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الدرياق من أجوافها، وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه، وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخراج بدقيق الهندسة ذلك وهو مستقر على الأرض، وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات. فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي لاقتناص الطيور وهيأ الشبكة لاصطياد السمك، إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي. كل ذلك لأن همه أمر دنياه وذلك معين له على دنياه، فلو همه أمر آخرته فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل، وقال هذا محال ومن الذي يقدر عليه؟ وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد بل هو كما يقال لو صح منك الهوى أرشدت للحيل فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان. فلا يعجز عنه أيضاً من صدقت إرادته وقويت همته، بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا ونظم أسبابها. فإن قلت: قد قربت الأمر فيه مع أنك أكثرت في ذكر مداخل الغرور فبم ينجو العبد من الغرور؟ فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور: بالفعل والعلم والمعرفة. فهذه ثلاثة أمور لا بد منها. أما العقل: فأعني به الفطرة الغريزية والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق الأشياء فالفطنة والكيس فطرة، والحمق والبلادة فطرة والبليد لا يقدر على التحفظ عن الغرور، فصفاء العقل وذكاء الفهم لا بد منه في أصل الفطرة، فهذا إن لم يفطر عليه الإنسان فاكتسابه غير ممكن. نعم إذا حصل أصله أمكن تقويته بالممارسة فأساس السعادات كلها العقل والكياسة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبارك الله الذي قسم العقل بين عباده أشتاناً إن الرجلين ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل كالذرة في جنب أحد، وما قسم الله لخلقه حظاً هو أفضل من العقل واليقين. وعن أبي الدرداء أنه قيل: يا رسول الله أرأيت الرجل يصوم النهار ويقول الليل ويحج ويعتمر ويتصدق ويغزو في سبيل الله ويعود المريض ويشيع الجنائز ويعين الضعيف ولا يعلم منزلته عند الله يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما يجزى على قدر عقله وقال أنس: أثني على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا خيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف عقله؟" قالوا: يا رسول الله نقول من عبادته وفضله وخلقه فقال "كيف عقله فإن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر. وإنما يقرب الناس يوم القيامة على قدر عقولهم وقال أبو الدرداء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل عن عقله فإذا قالوا حسن قال "أرجوه" وإن قالوا غير ذلك قال "لن يبلغ وذكر له شدة عبادة رجل فقال "كيف عقله" قالوا: ليس بشيء قال "لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون" فالذكاء صحيح وغريزة العقل نعمة من الله تعالى في أصل الفطر فإن فاتت ببلادة وحماقة فلا تدارك لها.
الثاني: المعرفة؛ وأعني بالمعرفة أن يعرف أربع أمور: يعرف نفسه، ويعرف ربه، ويعرف الدنيا، ويعرف الآخرة: فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه غريباً في هذا العالم وأجنبياً من هذه الشهوات البهيمية، وإنما الموافق له طبعاً هو معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه فقط، فلا يتصور أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب الشكر، إذ فيها إشارات إلى وصف النفس وإلى وصف جلال الله، ويحصل به التنبيه على الجملة وكمال المعرفة وراءه، فإن هذا من علوم المكاشفة، ولم نطنب في هذا الكتاب إلا في علوم المعاملة. وأما معرفة الدنيا والآخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا وكتاب ذكر الموت ليتبين له أن لا نسبة للدنيا إلى الآخرة، فإذا عرف نفسه وربه وعرف الدنيا والآخرة ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله، وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها، وبمعرفة الدنيا الرغبة عنها ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة، وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها، فإن أكل مثلاً أو اشتغل بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة. وصحت نيته واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه والمال فإن ذلك هو المفسد للنية. وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب إليه من رضا الله تعالى فلا يمكنه الخلاص من الغرور فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى المعنى الثالث وهو العلم: أعني العلم بمعرفة كيفية سلوك الطريق إلى الله، والعلم بما يقربه من الله وما يبعده عنه، والعلم بآفات الطريق وعقباته وغوائله "وجميع ذلك قد أودعناه كتب إحياء علوم الدين، فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها فيتقيها، ومن ربع العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع وما هو مستغن عنه فيعرض عنه، ومن ربع المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله فإن المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم ويعلم طريق علاجه، ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفاً عن المذمومة بعد محوها" فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور، وأصل ذلك كله أن يغلب حب الله على القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة وتصح به النية، ولا يحصل ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها.فإن قلت: فإذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه؟ فأقول يخاف عليه أن يخدعه الشيطان ويدعوه إلى نصح الخلق أو نشر العلم ودعوته الناس إلى ما عرفه من دين الله، فإن المريد المخلص إذا فرغ من تهذيب نفسه وأخلاقه وراقب القلب حتى صفاه من جميع المكدرات واستوى على الصراط المستقيم وصغرت الدنيا في عينه فتركها، وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم، ولم يبق إلا هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق إلى لقائه، وقد عجز الشيطان عن إغرائه إذ يأتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا يطيعه فيأتيه من جهة الدين ويدعوه إلى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم والنصح لهم والدعاء إلى الله، فينظر العبد برحمته إلى العبيد فيراهم حيارى في أمرهم سكارى في دينهم صماً عمياً قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون وفقدوا الطبيب وأشرفوا على العطب، فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده حقيقة المعرفة بما يهديهم ويبين لهم ضلالهم ويرشدهم إلى سعادتهم وهو يقدر على ذكرها من غير تعب ومؤنة ولزوم غرامة، فكان مثله كمثل رجل كان به داء عظيم لا يطاق ألمه، وقد كان لذلك يسهر ليله ويقلق نهاره لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الألم فوجد له دواء عفواً صفواً من غير ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب نومه بالليل بعد طول سهره وهدأ بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر وأصاب لذة العافية بعد طول السقام، ثم نظر إلى عدد كثير من المسلمين وإذا به تلك العلة بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع إلى السماء أنينهم فتذكر أن دواءهم هو الذي يعرفه ويقدر على شفائهم بأسهل ما يكون وفي أرجى زمان، فأخذته الرحمة والرأفة ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال بعلاجهم فكذلك العبد المخلص بعد أن اهتدى إلى الطريق وشفي من أمراض القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم وأعضل داؤهم وقرب هلاكهم وإشفاؤهم، وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في الاشتغال بنصحهم وحرضه الشيطان على ذلك رجاء أن يجد مجالاً للفتنة، فلما اشتغل بذلك وجد الشيطان مجالاً للفتنة فدعاه إلى الرياسة دعاء خفياً أخفى من دبيب النمل لا يشعر به المريد، فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق بتحسين الألفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة، فأقبل الناس إليه يعظمونه ويبجلونه ويوقرونه توقيراً يزيد على توقير الملوك إذ رأوه شافياً لأدوائهم بمحض الشفقة والرحمة من غير طمع فصار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم، فآثروه بأبدانهم وأموالهم وصاروا له خولاً كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه على الملوك والسلاطين، فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة أصابت من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة، فكان قد ترك الدنيا فوقع في أعظم لذاتها، فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت إلى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما يحفظ عليه تلك اللذة، وأمارة انتشار الطبع وركون النفس إلى الشيطان أنه لو أخطأ فرد عليه بين يدي الخلق غضب، فإذا أنكر على نفسه ما وجده من الغضب بادر الشيطان فخيل إليه أن ذلك غضب لله لأنه إذا لم يحسن اعتقاد المريدين فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور، فربما أخرجه ذلك إلى الوقيعة فيمن رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال المتسع، ووقع في الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد أن يحذر من طوارق الخطرات، وكذلك إلى سبقه الضحك أو فتر عن بعض الأوراد جزعت النفس أن يطلع عليه فيسقط قبوله فأتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء، وربما زاد في الأعمال والأوراد لأجل ذلك والشيطان يخيل إليه إنك إنما تفعل ذلك كيلا يفتر رأيهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه، وإنما ذلك خدعة وغرور بل هو جزع من النفس خيفة فوت الرياسة، ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على مثل ذلك من أقرانه، بل ربما يحب ذلك ويستبشر به، ولو ظهر من أقرانه من مالت القلوب إلى قبوله وزاد أثر كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا أن النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة لكان يغتنم ذلك، إذ مثاله أن يرى الرجل جماعة من إخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى رأس البئر بحجر كبير فعجزوا عن المرقى من البئر بسببه
فرق قلبه لإخوانه فجاء ليرفع الحجر من رأس البئر فشق عليه فجاءه من أعانه على ذلك حتى تيسر عليه أو كفاه ذلك ونحاه بنفسه، فيعظم بذلك فرحه لا محالة إذ غرضه خلاص إخوانه من البئر، فإن كان غرض الناصح خلاص إخوانه المسلمين من النار فإذا ظهر من أعانه أو كفاه ذلك لم يثقل عليه، أرأيت لو اهتدوا جميعهم من أنفسهم أكان ينبغي أنه يثقل ذلك عليه إن كان غرضه هدايتهم؟ فإذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه؟ ومهما وجد ذلك في نفسه دعاه الشيطان إلى جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح وأهلكه فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن اعوجاج النفس بعد الاستواء.
فإن قلت: فمتى يصح له أن يشتغل بنصح الناس؟ فأقول إذا لم يكن له قصد إلا هدايتهم لله تعالى وكان يود لو وجد من يعينه، أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن ثنائهم وعن أموالهم، فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم إذا كان الله يحمده ولم يفرح بحمدهم إذا لم يقترن به حمد الله تعالى، ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات وإلى البهائم. أما إلى السادات: فمن حيث إنه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيراً منه لجهله بالخاتمة. وأما إلى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فإنه لا يبالي كيف تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع! بل راعي الماشية إنما غرضه رعاية الماشية ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية إليه. فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت إلى نظرها ولا يبالي بها لا يسلم من الاشتغال بإصلاحهم. نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه بإصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره ويحترق في نفسه.
فإن قلت: فلو ترك الوعاظ الوعظ إلا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن الوعظ خربت القلوب؟ فأقول قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حب الدنيا رأس كل خطيئة ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش وهلكت القلوب والأبدان جميعاً، إلا أنه صلى الله عليه وسلم علم أن حب الدنيا مهلك وأن ذكر كونه مهلكاً لا ينزع الحب من قلوب الأكثرين لا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم، فلم يترك النصح وذكر ما في حب الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفاً من أن يترك نفسه بالشهوات المهلكة التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنم تصديقاً لقوله تعالى "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" فكذلك لا تزال ألسنة الوعاظ مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول: إن الوعظ لحب الرياسة حرام، كما لا يدع الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم وسائر المعاصي بقول الله تعالى ورسوله إن ذلك حرام، فانظر لنفسك وكن فارغ القلب من حديث الناس، فإن الله تعالى يصلح خلقاً كثيراً بإفساد شخص واحد وأشخاص "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" وإن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، فإنما يخشى أن يفسد طريق الاتعاظ، فأما تخرس ألسنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب الدنيا فلا يكون ذلك أبداً.
فإن قلت: فإن علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك النصح أو نصح وراعى شرط الصدق والإخلاص فيه فما الذي يخالف عليه وما الذي بقي بين يديه من الأخطار وحبائل الاغترار؟ فاعلم أنه بقي عليه أعظمه وهو أن الشيطان يقول له: قد أعجزتني وأفلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت على جملة من الأولياء والكبراء وما قدرت عليك فما أصبرك! وما أعظم عند الله قدرك ومحلك إذ قواك على قهري ومكنك من التفطن لجميع مداخل غروري! فيصغي إليه ويصدقه ويعجب بنفسه في فراره من الغرور كله، فيكون إعجابه بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الأكبر، فالعجب أعظم من كل ذنب ولذلك قال الشيطان: يا ابن آدم إذا ظننت أنك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي.
فإن قلت: فلو لم يعجب بنفسه إذ علم أن ذلك من الله تعالى لا منه وإن مثله لا يقوى على دفع الشيطان إلا بتوفيق الله ومعونته، ومن عرف ضعف نفسه وعجزه عن أقل القليل فإذا قدر على مثل هذا الأمر العظيم علم أنه لم يقو عليه بنفسه بل بالله تعالى فما الذي يخاف عليه بعد نفي العجب؟ فأقول: يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والأمن من مكره حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة والانقلاب، فيكون حاله الاتكال على فضل الله فقط دون أن يقارنه الخوف من مكره، ومن أمن مكر الله فهو خاسر جداً، بل سبيله أن يكون مشاهداً جملة ذلك من فضل الله ثم خائفاً على نفسه أن يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء وسوء خلق والتفات إلى عز وهو غافل عنه، ويكون خائفاً أن يسلب حاله في كل طرفة عين غير آمن من مكر الله ولا غافل عن خطر الخاتمة. وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه إلا بعد مجاوزة الصراط. ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس فقال: أفلت مني يا فلان؟ فقال: لا، بعد. ولذلك قيل: الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. فإذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف والحذر قلوب أولياء الله أبداً.


فنسأل الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة، فإن الأمور بخواتيمها.

[align=center]تم كتاب ذم الغرور، وبه تم ربع المهلكات،
ويتلوه في أول ربع المنجيات "كتاب التوبة"
والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده
وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
[/align]

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء سبتمبر 06, 2006 7:04 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب التوبة
وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]


الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب، وبذكره يصدر كل خطاب، وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الثواب، وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخي دونهم الحجاب، وضرب بينهم وبين السعداء بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ونتوب إليه توبة من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب، ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم الغفور التواب، ونمزج الخوف برجائنا مزج من لا يرتاب، أنه مع كونه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب.
ونصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه صلاة تنقذنا من هول المطلع يوم العرض والحساب. وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب


أما بعد؛ فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب، مبدأ طريق السالكين، ورأس مال الفائزين، وأول أقدام المريدين، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الاصطفاء والاجتباه للمقربين، ولأبينا آدم عليه الصلاة السلام وعلى سائر الأنبياء أجمعين، وما أجدر بالأولاد، الإقتداء بالآباء والأجداد، فلا غرو إن أذنب الآدمي واجترم، فهي شنشنة نعرفها من أخزم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ولكن الأب إذا جبر بعد ما كسر وعمر بعد أن هدم، فليكن النزوع إليه في كلا طرفي النفي والإثبات والوجود والعدم، ولقد قرع آدم سن الندم، وتندم على ما سبق منه وتقدم. فمن اتخذه قدوة في الذنب دون التوبة فقد زلت به القدم، بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين، والتجرد للشر دون التلافي سجية الشياطين، والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين؛ فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان، والمتجرد للشر شيطان، والمتلافي للشر بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان؛ فقد ازدوج في طينة الإنسان شائبتان، واصطحب فيه سجيتان. وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك آو إلى آدم أو إلى الشيطان، فالتائب قد أقام البرهان، على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان، والمصر على الطغيان مسجل على نفسه بنسب الشيطان، فإما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد لمحض الخير فخارج عن حيز الإمكان، فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجناً محكماً لا يخلصه إلا إحدى النارين: نار الندم أو نار جهنم، فالإحراق بالنار ضروري في تخليص جوهر الإنسان من خبائث الشيطان وإليك الآن اختيار أهون النارين، والمبادرة إلى أخف الشرين قبل أن يطوى بساط الاختيار، ويساق إلى دار الاضطرار. إما إلى الجنة وإما إلى النار. وإذا كانت التوبة موقعها من الدين هذا الموقع وجب تقديمها في صدر ربع المنجيات بشرح حقيقتها وشروطها وسببها وعلامتها وثمرتها والآفات المانعة منها والأدوية الميسرة لها، ويتضح ذلك بذكر أربعة أركان: الركن الأول: في نفس التوبة وبيان حدها وحقيقتها وأنها واجبة على الفور وعلى جميع الأشخاص وفي جميع الأحوال، وأنها إذا صحت كانت مقبولة.
الركن الثاني: فيما عنه التوبة وهو الذنوب وبيان انقسامها إلى صغائر وكبائر وما يتعلق بالعباد وما يتعلق بحق الله تعالى وبيان كيفية توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات وبيان الأسباب التي بها تعظم الصغائر.
الركن الثالث: في بيان شروط التوبة ودوامها وكيفية تدارك ما مضى من المظالم وكيفية تكفير الذنوب وبيان أقسام التائبين في دوام التوبة.
الركن الرابع: في السبب الباعث على التوبة وكيفية العلاج في حل عقدة الإصرار من المذنبين.
ويتم المقصود بهذه الأركان الأربعة إن شاء الله عز وجل.

[align=center]الركن الأول
في نفس التوبة
بيان حقيقة التوبة وحدها
[/align]

اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة: علم، وحال، وفعل. فالعلم الأول والحال الثاني، والفعل الثالث. والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك والملكوت. أما العلم، فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وبين كل محبوب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثمار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات محبوبه تألم، فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت، فيسمى تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندماً، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال والماضي وبالاستقبال، أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابساً، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر، فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين، فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه، كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك، فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مرتبة في الحصول، فيطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر، وبهذا الاعتبار قال عليه الصلاة والسلام: " الندم توبة" إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره، وعن عزم يتبعه ويتلوه، فيكون الندم محفوفاً بطرفيه أعني ثمرته ومثمره، وبهذا الاعتبار قيل في حد التوبة إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ؛ فإن هذا يعرض لمجرد الألم، ولذلك قيل: هو نار في القلب تلتهب، وصدع في الكبد لا ينشعب، وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء. وقال سهل ابن عبد الله التستري: التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة، ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة، والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر، وإذا فهمت هذه المعاني الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها، وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة.

[align=center]بيان وجوب التوبة[/align]

اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات، وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنياً عن قائد يقوده في كل خطوة، فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوه، وإما بصير يهدى إلى أول الطريق ثم يهتدي بنفسه، وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام، فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله، وربما يعوزه ذلك فيتحير؛ فيسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر وخطاه قاصرة. ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان، وهو لشدة نور باطنه يجتزئ بأدنى بيان، فكأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار؛ فإذا مسته نار فهو نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء، وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة، فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولاً بنور البصيرة إلى التوبة ما هي، ثم إلى الوجوب ما معناه، ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة فلا يشك في ثبوته لها، وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك الأبد، فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجباً معنى، وقول القائل: صار واجباً بالإيجاب، حديث محض فإن ما لا غرض لنا آجلاً وعاجلاً في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه؟ فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد، وعلم أن لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى، وأن كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق ونار الجحيم، وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا إتباع الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعاً، وعلم أنه لا مقترب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال بالكلية على الله طلباً للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته، وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله وإتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوباً مبعداً عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب، وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم، فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد، وما لم يتوجع فلا يرجع، ومعنى الرجوع الترك والعزم، فلا يشك في أن المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول إلى المحبوب وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق، ففي التقليد والإتباع له بحال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك، فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون " وهذا أمر على العموم، وقال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً . . . " الآية. ومعنى النصوح: الخالص لله تعالى خالياً عن الشوائب مأخوذ من النصح، ويدل على فضل التوبة قوله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " وقال عليه السلام: " التائب حبيب الله والتائب من الذنوب كمن لا ذنب له" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته"، وفي بعض الألفاظ " قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله: أنا ربك وأنت عبدي "، ويروى عن الحسن قال: لما تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا: يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك، فقال آدم عليه السلام: يا جبريل فإن كان بع هذه التوبة سؤال فأين مقامي؟ فأوحى الله إليه: يا آدم ورثت ذويك التعب والنصب وورثتهم التوبة، فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك، ومن سألني المغفرة لم أبخل عليه لأني قريب مجيب يا آدم وأحشر التائبين من القبور مستبشرين ضاحكين، ودعاؤهم مستجاب.
والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى، والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها، إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصي مهلكات ومبعدات من الله تعالى، وهذا داخل في وجوب الإيمان، ولكن قد تدهش الغفلة عنه، فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة، ولا خلاف في وجوبها. ومن معانيها: ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال، وذلك لا يشك في وجوبه. وأما التندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب، وهو روح التوبة، وبه تمام التلافي، فكيف لا يكون واجباً، بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة بما فات من العمر وضاع في سخط الله.
فإن قلت: تألم القلب أمر ضروري لا يدخل تحت الاختيار، فكيف يوصف بالوجوب؟ فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه، وبمثل هذا المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال، بل العلم والندم والإرادة والقدرة والقادر الكل من خلق الله وفعله " والله خلقكم وما تعلمون " هذا هو الحق عند ذوي الأبصار وما سوى هذا ضلال.
فإن قلت: أفليس للعبد اختيار في الفعل والترك؟ قلنا: نعم وذلك لا يناقض قولنا: إن الكل من خلق الله تعالى، بل الاختيار أيضاً من خلق الله تعالى، والعبد مضطر في الاختيار الذي له، فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة وخلق العلم في القلب بأن هذا الطعام يسكن الشهوة، وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة، وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا، ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول؛ فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمة اختياراً، ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه، فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة، إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضرورياً، فتحصل الحركة، فتكون الحركة بخلق الله بعد حصوله القدرة وانجزام الإرادة، وهما أيضاً من خلق الله، وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع، وهما أيضاً من خلق الله تعالى، ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيباً جرت به سنة الله تعالى في خلقه: " ولن تجد لسنة الله تبديلاً " فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة وما لم يخلق فيها حياة وما لم يخلق إرادة مجزومة، ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلاً في النفس، ولا ينبعث هذا الميل انبعاثاً تاماً ما لم يخلق علماً بأنه موافق للنفس إما في الحال أو في المآل، ولا يخلق العلم أيضاً إلا بالأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم؛ فالعلم والميل الطبيعي أبداً يستتبع الإرادة الجازمة، والقدرة والإرادة أبداً تستردف الحركة، وهكذا الترتيب في كل فعل، والكل من اختراع الله تعالى، ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض، فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض، كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم، ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة، ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم، فيكون خلق الجسم شرطاً لحدوث الحياة لا أن الحياة تتولد من الجسم، ويكون خلق الحياة شرطاً لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة، ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حياً ويكون خلق العلم شرطاً لجزم الإرادة لا أن العلم يولد الإرادة، ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم، ولا يدخل في الوجود إلا ممكن، والإمكان ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال، فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد، ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب، والعبد مجري هذه الحوادث المرتبة؛ وهي مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيباً كلياً لا يتغير، وظهرها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى: " إنا كل شيء خلقناه بقدر " وعن القضاء الكلي الأزلي العبارة بقوله تعالى: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجاري القضاء والقدر، ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة، وبعد خلق ميل قوى جازم في نفسه يسمى القصد، وبعد علم بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة، فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت، وقالوا يا أيها الرجل قد تحركت ورميت وكتبت، ونودي من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وما قتلت إذ قتلت. ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم. وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة؛ فمن قائل إنه جبر محض، ومن قائل إنه اختراع صرف، ومن متوسط مائل إلى أنه كسب، ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه، وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه، وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب، وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول. وقد يطلع على الشهادة من لم يدخلفي حيز الارتضاء، ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات وعلم كيفية تسلسلها ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علماً يقيناً أن لا خالق إلا الله ولا مبدع سواه.
فإن قلت: قد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض، فكيف يمكن فهم ذلك؟ وهل يمكن إيصال ذلك إلى الإفهام بمثال؟ فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه، فقالوا لا بد لنا من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه، فطلبوه، فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على أذنه، فقالوا قد عرفنا. انصرفوا سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم، فقال الذي لمس الرجل: إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها، وقال الذي لمس الناب: ليس كما يقول بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس في غلظ الأسطوانة أصلاً بل هو مثل عمود، وقال الذي لمس الأذن: لعمري هو لين وفيه خشونة، فصدق أحدهما فيه ولكن قال: ما هو مثل عمود ولا هو مثل أسطوانة وإنما هو مثل جلد عريض غليظ، فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل، ولكنهم بجملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل، فاستبصر بهذا المثال واعتبر به فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه، وإن كان هذا كلاماً يناطح علوم المكاشفة ويحرك أمواجها وليس ذلك من غرضنا، فلنرجع إلى ما كنا بصدده وهو بيان أن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاثة: العلم والندم والترك، وأن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعاً في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها، وما هذا وصفه فاسم الوجوب يشمله.

[align=center]بيان أن وجوب التوبة على الفور[/align]

أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور المتقصي عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل المكروه، فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التي لا تتعلق بفعل، بل هي من علوم المعاملة وكل علم يراد ليكون باعثاً على عمل فلا يقع التقصي عن عهدته ما لم يصر باعثاً عليه؛ فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثاً لتركها، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان، وهو المراد بقوله عليه السلام: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وما أراد به نفي الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله، فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصي، وإنما أراد به نفي الإيمان لكون الزنا مبعداً عن الله تعالى موجباً للمقت، كما إذا قال الطبيب: هذا سم فلا تتناوله، فإذا تناوله يقال: تناول وهو غير مؤمن بوجود الطبيب وكونه طبيباً وغير مصدق به، بل المراد أنه غير مصدق بقوله إنه سم مهلك، فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلاً، فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان وليس الإيمان باباً واحداً بل هو نيف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ومثاله قول القائل: ليس الإنسان موجوداً واحداً بل هو نيف وسبعون موجوداً أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظافر نقي البشرة عن الخبث حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأروائها المستكرهة بطول مخالبها وأظلافها، وهذا مثال مطابق، فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان بالكلية كفقد الروح، والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة لا أصل الروح، وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التي تخلف عنها الأعضاء التي تمدها وتقويها؛ فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة ملك الموت ووروده؛ فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ولم تنتشر في الأعمال فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة لا ما يسقى بالطاعات على توالي الأيام والساعات حتى رسخ وثبت، وقول العاصي للمطيع إني مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر: أنا شجرة وأنت شجرة، وما أحسن جواب شجرة الصنوبر إذ قالت: ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف. فعند ذلك تنقطع أصولك وتتناثر أوراقك وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبوت الأشجار: سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حـمـار
وهذا أمر يظهر عند الخاتمة، وإنما انقطع نياط العارفين خوفاً من دواعي الموت ومقدماته الهائلة التي لا يثبت عليها إلا الأقلون؛ فالعاصي إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته وأن الموت غالباً لا يقع فجأة، فيقال له: الصحيح يخاف المرض ثم إذا مرض خاف الموت، وكذلك العاصي يخاف سوء الخاتمة ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب الخلود في النار؛ فالمعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان، فلا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها، إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة، فكذلك المعاصي، فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور، فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك، وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة تلافياً لبدنه المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية، فمتناول سموم الدين وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن مادام يبقى للتدارك مهلة وهو العمر، فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التي فيها النعيم المقيم والملك العظيم، وفي فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذي تنصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عشير مدته، إذ ليس لمدته آخر البتة؛ فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا ينفع بعده الاحتماء فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين، ويدخل تحت عموم قوله تعالى: " إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقحمون. وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون. وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " ولا يغرنك لفظ الإيمان، فنقول: المراد بالآية الكافر، إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون باباً وأن الزاني لا يزني وهو مؤمن، فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل، كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي حروف وفروع سيساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل؛ فلا بقاء للأصل دون الفرع، ولا وجود للفرع دون الأصل، ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد: وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعاً يستدعي وجود الأصل، وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع، فبقاء الأصل بالفرع، ووجود الفرع بالأصل، فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل فلا يستغني أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع، وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها، فإن هي لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها، ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر، كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم.

[align=center]بيان أن وجوب التوبة عام
في الأشخاص والأحوال فلا ينفك عنه أحد البتة[/align]


اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون " فعمم الخطاب. ونور البصيرة أيضاً يرشد إليه، إذ معنى التوبة الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان، ولا يتصور ذلك إلا من عاقل، ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة التي هي وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان. إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة الأربعين، وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ، ومباديه تظهر بعد سبع سنين، والشهوات جنود الشيطان، والعقول جنود الملائكة، فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة، إذ لا يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان، فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور والظلمة، ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة، وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه، ثم يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئاً فشيئاً على التدريج، فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال: " لأحتنكن ذريته إلا قليلاً " وإن كمل العقل وقوي كان أول شغله قمع جنود الشيطان بكسر الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات، ولا معنى للتوبة إلا هذا، وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان، إلى طريق الله تعالى، وليس في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التي هي عدة الشيطان متقدمة على غريزته التي هي عدة الملائكة، فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضرورياً في حق كل إنسان نبياً كان أو غبياً، فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام، وقد قيل: فلا تحسبن هنداً لها الغدر وحدها سجية نفس، كل غانية هـنـد
بل هو حكم أزلي مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية التي لا مطمع في تبديلها، فإذن كل من بلغ كافراً جاهلاً فعليه التوبة من جهله وكفره، فإذا بلغ مسلماً تبعاً لأبويه غافلاً عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم معنى الإسلام، فإنه لا يغني عنه إسلام أبويه شيئاً ما لم يسلم بنفسه. فإن فهم ذلك فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب حدود الله في المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال، وهو من أشق أبواب التوبة، وفيه هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه، وكل هذا رجوع وتوبة، فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل شخص يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم، فخلقة الولد لا تتسع لما لم يتسع له خلقة الوالد أصلاً، وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه، إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب؟ فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده والمراد بالتوبة الرجوع، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير، فأما الأصل فلا بد منه، ولهذا قال عليه السلام: " إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" الحديث، ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال: " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيرهفإن قلت: لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص، وأن الكمال في الخلو عنه، وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص، وإنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال، وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع، والرجوع توبة، ولكن هذه فضائل لا فرائض، وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال، والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة، إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع: فما المراد بقولك: التوبة واجبة في كل حال؟ فاعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته من إتباع الشهوات أصلاً، وليس معنى التوبة تركها فقط، بل تمام التوبة بتدارك ما مضى، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجهه المرآة عند تراكمه خبثاً، كما قال تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " فإذا تراكم الرين صار طبعاً فيطبع على قلبه، كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاض في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده وصار كالمطبوع من الخبث، ولا يكفي في تدارك إتباع الشهوات تركها في المستقبل، بل لا بد من محو تلك الأريان التي انطبعت في القلب، كما لا يكفي في ظهور الصور في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحوها ما انطبع فيها من الأريان، وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات، فتنمحى ظلمة المعصية بنور الطاعة، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: " أتبع السيئة الحسنة تمحها" فإذن لا يستغني العبد في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات، هذا في قلب حصل أولاً صفاؤه وجلاؤه ثم أظلم بأسباب عارضة، فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل؛ إذ ليس شغل الصقل في إزالة الصدأ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة؛ فهذه أشغال طويلة لا تنقطع أصلاً، وكل ذلك يرجع إلى التوبة، فأما قولك: إن هذا لا يسمى واجباً بل هو فضل وطلب وكمال، فاعلم أن الواجب له معنيان: أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك فيه كافة الخلق وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم، فلو كلف الناس كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية، ثم يؤدي ذلك إلى بطلان التقوى بالكلية، فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى، بل شغل الحياكة والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه، فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار، والواجب الثاني هو الذي لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين، والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبة في الوصول إليه كما يقال: الطهارة واجبة في صلاة التطوع أي لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليه إلا بها. فأما من رضي بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبة عليه لأجلها، كما يقال: العين والأذن واليد والرجل شرط في وجود الإنسان، يعني أنه شرط لمن يريد أن يكون إنساناً كاملاً ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا، فأما من قنع بأصل الحياة ورضي أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل، فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة، وأصل النجاة كأصل الحياة، وما وراء أصل النجاة من السعادات التي بها تنتهي الحياة يجري مجرى الأعضاء والآلات التي بها تتهيأ الحياة وفيه سعي الأنبياء والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل، وعليه كان حرصهم، وحواليه كان تطوافهم، ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية، حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجراً في منامه، فجاء إليه الشيطان وقال أما كنت تركت الدنيا للآخرة؛ فقال: نعم، وما الذي حدث فقال: توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض؟ فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ووضع رأسه على الأرض، وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم، أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجباً في فتاوي العامة؟ أفترى أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم في صلاته حتى نزعهوشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلقلم يعلم أن ذلك ليس واجباً في شرعه الذي شرعه لكافة عباده، فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثراً في قلبه أثراً يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به؟ أفترى أن الصديق رضي الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل إصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر؟ وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه؟ فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخلية المعدة عنه؟ وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر، وأن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون، فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله وبمكر الله وبمكامن الغرور بالله، وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا، وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور، فهذه أسرار من استنشق مبادئ روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر نوح، وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة، ولقد صدق أبو سليمان الداراني حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير الطاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟ وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة، وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد، وكل ساعة من العمر بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها، فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد وتنقذك من شقاوة الأبد، وأي جواهر أنفس من هذا؟ فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسراناً مبيناً، وإن صرفتها إلى معصية فقد هلكت هلاكاً فاحشاً، فإن كنت لا تبكي على هذه المعصية فذلك لجهلك، ومصيبتك بجهلك أعظم من كل مصيبة، لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة، فإن نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته. والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فعند ذلك ينكشف لكل مفلس إفلاسه ولكل مصاب مصيبته، وقد رفع الناس عن التدارك.
قال بعض العارفين: إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين، فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلاً، وهو أول ما يظهر من معاني قوله تعالى: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " وإليه الإشارة بقوله تعالى: " من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين. ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها " فقيل: الأجل القريب الذي يطلبه: معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد: يا ملك الموت أخرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي وأتوب وأتزود صالحاً لنفسي، فيقول: فنيت الأيام فلا يوم، فيقول: فأخرني ساعة فيقول: فنيت الساعات فلا ساعة، فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه، ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر، فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال، فإذا زهقت نفسه فإن كان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة، وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة، ولمثل هذا يقال: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " وقوله: " إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " ومعناه عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أتبع السيئة الحسنة تمحها "، ولذلك قال لقمان لابنه: يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو، الثاني أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ولذلك ورد في الخبر " إن أكثر صياح أهل النار من التسويف" فما هلك من هلك إلا بالتسويف، فيكون تسويده القلب نقداً وجلاؤه بالطاعة نسيئة إلى أن يختطفه الموت فيأتي الله بقلب غير سليم، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم، فالقلب أمانة الله تعالى عند عبده والعمر أمانة الله عنده وكذا سائر أسباب الطاعة، فمن خان في الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر.
قال بعض العارفين: إن الله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام: أحدهما إذا خرج من بطن أمه يقول له: عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إلى كيف تلقاني. والثاني عند خروج روحه يقول: عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء، أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب. وإليه الإشارة بقوله تعالى: " أوفوا بعهدي أوف بعهدكم " وبقوله تعالى: " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " .

[align=center]بيان أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة
لا محالة [/align]


اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة فهي مقبولة، فالناظرون بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله ومتنعم في الآخرة في حوار الله تعالى ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله تعالى، وعلموا ان القلب خلق سليماً في الأصل، وكل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها وعلموا أن نار الندم تحرق تلك الغبرة، وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة، وأنه لا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار بل كما لا طاقة لكدورة الوسخ مع بياض الصابون، وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه فالقلب المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره، وكما أن استعمال الثوب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة، فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب، وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه، وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول، كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول، فإنما عليك التزكية والتطهير، وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له، وهو المسمى فلاحاً في قوله: " قد أفلح من زكاها " ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصي والطاعات تأثراً متضاداً يستعار لأحدهما لفظة الظلمة كما يستعار للجهل، ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم، وأن بين النور والظلمة تضاداً ضرورياً لا يتصور الجمع بينهما، فكأنه لم يتلق من الدين إلا قشوره ولم يعلق به إلا أسماؤه وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين بل عن حقيقة نفسه وصفات نفسه، ومن جهل نفسه فهو بغيره أجهل وأعني به قلبه، إذ بقلبه يعرف غير قلبه، فكيف يعرف غيره وهو لا يعرف قلبه، فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول، والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب وخلله فلا يقوى الصابون على قلعه، فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى تصير طبعاً وريناً على القلب فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب، نعم قد يقول باللسان تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب وذلك لا ينظف الثوب أصلاً ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به، فهذا حال امتناع أصل التوبة، وهو غير بعيد بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله بالكلية، فهذا البيان كاف عند ذوي البصائر في قبول التوبة، ولكنا نعضد جناحه بنقل الآيات والأخبار والآثار فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به، وقد قال تعالى: " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات " وقال تعالى: " غافر الذنب وقابل التوب " إلى غير ذلك من الآيات. وقال صلى الله عليه وسلم: " لله أفرح بتوبة أحدكم . . . الحديث " والفرح وراء القبول، فهو دليل على القبول وزيادة. وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" وبسط اليد كناية عن طلب التوبة والطالب وراء القابل، فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل، وقال صلى الله عليه وسلم: " لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم" وقال أيضاً: " إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة " ، فقيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يكون نصب عينه تائباً منه فاراً حتى يدخل الجنة"، وقال صلى الله عليه وسلم: " كفارة الذنب الندامة" وقال صلى الله عليه وسلم: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له ".
ويروى أن حبشياً قال: يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة؟ قال: " نعم "، فولى ثم رجع فقال: يا رسول الله أكان يراني وأنا أعملها؟ قال: " نعم " فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه.
ويروى أن الله عز وجل لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة، فقال: وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالتي لا حجبت عنه التوبة ما دام الروح فيه وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهبن الماء الوسخ"، والأخبار في هذا لا تحصى. وأما الآثار: فقد قال سعيد بن المسيب أنزل قوله تعالى: " إنه كان للأوابين غفوراً " في الرجل يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.
وقال الفضيل: قال الله تعالى: بشر المذنبين إن تابوا قبلت منهم، وحذر الصديقين أني إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم.
وقال طارق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العبد ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من ذكر خطيئة ألم بها فوجل منها قلبه محيت عنه في أم الكتاب.
ويروى أن نبياً من أنبياء إسرائيل أذنب فأوحى الله تعالى إليه: وعزتي لئن عدت لأعذبنك، فقال: يا رب أنت أنت وأنا أنا وعزتك إن لم تعصمني لأعودن، فعصمه الله تعالى.
وقال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب.
وقال حبيب بن ثابت: تعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول. أما إني قد كنت مشفقاً منه، فيغفر له.
ويروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان؛ فقال له: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكاً موكلاً به لا يغلق فاعمل ولا تيأس.
وقال عبد الرحمن بن أبي قاسم: تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر وقول الله تعالى: " إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " فقال إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالاً، ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام.
وقال عبد الله بن سلام: لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل إن العبد إذا عمل ذنباً ثم ندم عليه طرفة عين سقط عنه أسرع من طرفة عين.
قال عمر رضي الله عنه: اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة.
وقال بعضهم: أنا أعلم متى يغفر الله لي. قيل: ومتى؟ قال: إذا تاب علي.
وقال آخر: أنا من أحرم التوبة أخوف من أن أحرم المغفرة، أي المغفرة من لوازم التوبة وتوابعها لا محالة.
ويروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: إلهي إني أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فسمع قائلاً يقول ولا يرى شخصاً: أحببتنا فأحببناك، وتركتنا فتركناك، وعصيتنا فأهملناك وإن رجعت إلينا قبلناك.
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: إن لله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب، وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً، فجنوا من غير جنون وتبلدوا من غير عي ولا بكم، وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم وقرؤوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة، فهذا القدر كاف في بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة.
فإن قلت: أفتقول ما قالته المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله؟ فأقول: لا أعني بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله إلا ما يريده القائل بقوله: إن الثوب إذا غسل بالصابون وجب زوال الوسخ، وإن العطشان إذا شرب الماء وجب زوال العطش، وانه إذا منع الماء مدة وجب العطش، وأنه إذا دام العطش وجب الموت، وليس في شيء من ذلك ما يريده المعتزلة بالإيجاب على الله تعالى، بل أقول: خلق الله تعالى الطاعة مكفرة للمعصية، والحسنة ماحية للسيئة، كما خلق الماء مزيلاً للعطش، والقدرة متسعة بخلافه لو سبقت به المشيئة، فلا واجب على الله تعالى، ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب كونه لا محالة فإن قلت: فما تائب إلا وهو شاك في قبول توبته، والشارب للماء لا يشك في زوال عطشه فلم يشك فيه؟ فأقول شكه في القبول كشكه في وجود شرائط الصحة، فإن للتوبة أركاناً وشروطاً دقيقة كما سيأتي، وليس يتحقق وجود جميع شروطها كالذي يشك في دواء شربه للإسهال فإنه هل يسهل وذلك لشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال والوقت وكيفية خلط الدواء وطبخه وجودة عقاقيره وأدويته، فهذا وأمثاله موجب للخوف بعد التوبة وموجب للشك في قبولها لا محالة على ما سيأتي في شروطها إن شاء الله تعالى.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]
[size=12]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 07, 2006 7:05 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الركن الثاني
فيما عنه التوبة وهي الذنوب صغائرها وكبائرها
[/align]


اعلم أن التوبة ترك الذنب، ولا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته، وإذا كانت التوبة واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً، فمعرفة الذنوب إذن واجبة، ولا ذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل وتفصيل ذلك يستدعي شرح التكليفات من أولها إلى آخرها، وليس ذلك من غرضنا، ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها، والله الموفق للصواب برحمته.

[align=center]بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد[/align]

اعلم أن للإنسان أوصافاً وأخلاقاً كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب وغوائله، ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات: صفات ربوبية، وصفات شيطانية، وصفات بهيمية، وصفات سبعية. وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة، فاقتضى كل واحد من الأخلاط في المعجون منه أثراً من الآثار كما يقتضي السكر والخل والزعفران في السكنجين آثاراً مختلفة، فأما ما يقتضي النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول: أنا ربكم الأعلى، وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها ذنوباً وهي المهلكات العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات.
الثانية هي الصفة الشيطانية التي منها يتشعب الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وفيه يدخل الغش والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال.
الثالثة الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره والكلب والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنه يتشعب الزنا واللواط والسرقة وأكل مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات.
الرابعة الصفة السبعية ومنها يتشعب الغضب والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال، ويتفرع عنها جمل من الذنوب.
وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة، فالصفة البهيمية هي التي تغلب أولاً ثم تتلوها الصفة السبعية ثانياً، ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة وهي الصفة الشيطانية، ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهي الفخر والعز وطلب الكبرياء وقصد الاستيلاء على جميع الخلق. فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر من هذه المنابع على الجوارح، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس، وبعضها على العين والسمع، وبعضها على اللسان، وبعضها على البطن والفرج، وبعضها على اليدين والرجلين وبعضها على جميع البدن ولا حاجة إلى بيان تفصيل ذلك فإنه واضح.
قسمة ثانية: اعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق بحقوق العباد. فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل متناول من حق الغير، فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه، وتناول الدين بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصي وتهييج أسباب الجراءة على الله تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف وما يتعلق بالعباد فالأمر فيه أغلظ، وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركاً فالعفو فيه أرجى وأقرب، وقد جاء في الخبر، الدواوين ثلاثة: ديوان يغفر، وديوان لا يغفر، وديوان لا يتركك: فالديوان الذي يغفر: ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى.
وأما الديوان الذي لا يغفر: فالشرك بالله تعالى.
وأما الديوان الذي لا يترك: فمظالم العباد، أي لا بد وأن يطالب بها حتى يعفى عنها
قسمة ثالثة: اعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد كثر اختلاف الناس فيها، فقال قائلون: لا صغيرة ولا كبيرة، بل كل مخالفة لله فهي كبيرة، وهذا ضعيف، إذا قال تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً "، وقال تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم "، وقال صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس والجمع إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر" وفي لفظ آخر " كفارات لما بينهن إلا الكبائر " وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص" الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس" واختلف الصحابة والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك، فقال ابن مسعود: هن أربع. وقال ابن عمر: هن سبع. وقال عبد الله بن عمرو: هن تسع. وكان ابن عباس إذا بلغه قول ابن عمر: الكبائر سبع، يقول: هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع، وقال مرة: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقال غيره: كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر، وقال بعض السلف: كل ما أوجب عليه الحد في الدنيا فهو كبيرة، وقيل: إنها مبهمة لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة. وقال ابن مسعود لما سئل عنها: اقرأ من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " فكل ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة. وقال أبو طالب المكي: الكبائر سبع عشر جمعها من جملة الأخبار، وجملة ما اجتمع من قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم: أربعة في القلب وهي الشرك بالله، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره. وأربع في اللسان وهي: شهادة الزور، وقذف المحصن، ويمين الغموس - وهي التي يحق بها باطلاً أو يبطل بها حقاً وقيل هي التي يقتطع بها مال امرئ مسلم باطلاً ولو سواكاً من أراك- وسميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في النار. والسحر: وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة. وثلاث في البطن: وهي شرب الخمر والسكر من كل شراب، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا وهو يعلم. واثنتان في الفرج وهي الزنا واللواط. واثنتان في اليدين وهما القتل والسرقة. وواحدة في الرجلين وهي الفرار من الزحف الواحد من اثنتين والعشرة من العشرين. وواحدة في جميع الحسد وهي عقوق الوالدين. قال: وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما، وإن سألاه حاجة فلا يعطيهما، وأن يسباه فيضربهما، ويجوعان فلا يطعمهما، هذا ما قاله وهو قريب، ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء، إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه، فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر، وهي جناية على الأموال، ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل، فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له، وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله، كيف وفي الخبر "من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم" وهذا زائد على قذف المحصن، وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر. وقالت طائفة كل عمد وكل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهي كبيرة أم لا: لا يصح، ما لم يفهم معنى الكبيرة، والمراد بها كقول القائل: السرقة حرام أم لا؟ ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام ثم البحث عن وجوده في السرقة؛ فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع، وذلك لأن الكبير والصغير من الإضافات، وما ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه، وصغير بالإضافة إلى ما فوقه، فالمضاجعة مع الأجنبية كبيرة بالإضافة إلى النظرة، صغيرة بالإضافة إلى الزنا. وقطع يد المسلم كبيرة بالإضافة إلى ضربه، صغيرة بالإضافة إلى قتله نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة، ونعني بوصفه بالكبيرة: أن العقوبة بالنار عظيمة، وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيراً إلى أن ما عجل في الدنيا عقوبة واجبة عظيم، وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهي عنه فيقول: تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه، ثم يكون عظيماً وكبيرة لا محالة بالإضافة، إذ منصوصات القرآن أيضاً تتفاوت درجاتها، فهذه الإطلاقات لا حرج فيها، وما نقل من ألفاظ الصحابة يتردد بين هذه الجهات، ولا يبعد تنزيلها على شيء من هذه الاحتمالات، نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم "، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر "، فإن هذا إثبات حكم الكبائر، والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها، وإلى ما يعلم إنها معدودة في الصغائر، وإلى ما يشك فيه، فلا يدري حكمه، فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: إني أردت بالكبائر عشراً أو خمساً ويفصلها فإن لم يرد هذا - بل ورد في بعض الألفاظ، " ثلاث من الكبائر" وفي بعضها " سبع من الكبائر"، ثم ورد " أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر " وهو خارج عن السبع والثلاث: علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر، فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع؟ وربما قصد الشرع إبهامه ليكون العباد منه على وجل، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها، نعم لنا سبيل كلي يمكننا أن نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق، وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب، ونعرف أيضاً أكبر الكبائر، فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته. وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعاً أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه، وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " أي ليكونوا عبيد لي، ولا يكون العبد عبداً ما لم يعرف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية ولا بد أن يعرف نفسه وربه، فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء، ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام " الدنيا مزرعة الآخرة" فصار حفظ الدنيا أيضاً مقصوداً تابعاً للدين لأنه وسيلة إليه. والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان: النفوس والأموال، فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويليه باب ما يسد المعايش التي بها حياة الناس، فهذه ثلاث مراتب، فحفظ المعرفة على القلوب، والحياة على الأبدان، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها، وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل، فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبياً يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال، فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب: الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر، فلا كبيرة فوق الكفر، إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل، والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة، وقربه بقدر معرفته، وبعده بقدر جهله، ويتلو الجهل الذي يسمى كفراً الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته، فإن هذا أيضاً عين الجهل، فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمناً ولا أن يكون آيساً، ويتلو هذه الرتبة: البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض، وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه، ومراتب ذلك لا تنحصر، وهي تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن، وإلى ما يعلم أنه لا يدخل؛ وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع
المرتبة الثانية النفوس؛ إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله، فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر، لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود، إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى، ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضي إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض، ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط، لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل، ودفع الموجود قريب من قطع الوجود. وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التي لا ينتظم العيش إلا بها. بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول، ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحاً في أصل شرع قصد به الإصلاح، وينبغي أن يكون الزنا في الرتبة دون القتل، لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضي إلى التقاتل، وينبغي أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته
المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجور تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما، بل ينبغي أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس، إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها. نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغي أن يكون ذلك من الكبائر، وذلك بأربع طرق: أحدها الخفية، وهي السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالباً كيف يتدارك. والثاني: أكل مال اليتيم، وهذا أيضاً من الخفية وأعني به في حق الولي والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم المر فيه واجب، بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف، وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه. الثالث: تفويتها بشهادة الزور. الرابع: أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلاً، وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس: وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها، ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها. وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضي مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع في مثله، وإذا لم يجعل الغضب الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه وبغير الشرع من الكبائر فأكل الربا أكل برضا المالك ولكن دون الرضا الشرع، وإن عظم الشرع الزنا بالزجر عنه فقد عظم أيضاً الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة، والمصير إلى أن أكل دانق الخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر، وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى أنه غير داخل تحت الكبائر، بل ينبغي أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه ليكون ضرورياً في الدين، فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار من الزحف وحقوق الوالدين. أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر، وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضاً، لأن العقل محظوظ كما أن النفس محفوظة، بل لا خير في النفس دون العقل، فإزالة العقل من الكبائر ولكن هذا لا يجري في قطرة الخمر، فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر، لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو شرب ماء نجس، والقطرة وحدها في محل الشك، وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره، فيعد ذلك من الكبائر بالشرع، وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع، فإن ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع، وإلا فللتوقف فيه مجال. وأما القذف فليس فيه إلا تناول الأعراض، والأعراض دون الأموال في الريبة، ولتناولها مراتب، وأعظمها التناول بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا، وقد عظم الشرع أمره، وأظن ظنه غالباً أن الصحابة كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة، فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس، وهو الذي نريده بالكبيرة الآن، ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس بمجرده لا يدل على كبره وعظمته، بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى إنساناً يزني فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته، فإن لم تقبل شهادته فحده ليس ضرورياً في مصالح الدنيا وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في رتبة الحاجات، فإذن هذا أيضاً يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع، فأما من ظن أن له أن يشهد وحده، أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغي أن يجعل في حقه من الكبائر. وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة، وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه من هلاك نفس أو مرض أو غيره وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين فهذا أيضاً ينبغي أن يكون من حيث القياس في محل التوقف، وإذا قطع بأن سب الناس بكل شيء سوى الزنا، وضربهم، والظلم لهم بغصب أموالهم، وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم، وإجلائهم من أوطانهم ليس من الكبائر - إذا لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه - فالتوقف في هذا أيضاً غير بعيد، ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليلحق بالكبائر. فإذا رجع حاصل الأمر إلى أنا نعني بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع. وذلك مما انقسم إلى ما علم أنه لا تكفره قطعاً وإلى ما ينبغي أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه، والمتوقف فيه بعضه مظنون للنفي والإثبات وبعضه مشكوك فيه وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة، وإذن لا مطمع فيه - فطلب رفع الشك فيه محال.
فإن قلت: فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها، فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حده؟ فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام، لأن دار التكليف هي دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها كبيرة، بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما، وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها، وهذا أمر يتعلق بالآخرة، والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرؤون على الصغائر اعتماداً على الصلوات الخمس، وكذلك اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة و الإرادة، كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس، فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيراً في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه؛ فهذا معنى تكفيره، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادراً ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلاً، وكل من يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي مقدماته كسماع الملاهي والأوتار، نعم من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع، فكل هذه أحكام أخروية، ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بعد ولا حد جامع، بل ورد بألفاظ مختلفات، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصلاة إلى الصلاة كفارة، ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث: إشراك بالله، وترك السنة، ونكث الصفقة" قيل ما ترك السنة؟ قيل الخروج عن الجماعة. ونكث الصفقة: أن يبايع رجلاً ثم يخرج عليه بالسيف يقاتله، فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على حد جامع فيبقى لا محالة مبهماً.
فإن قلت: الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر، والورع عن الصغائر ليس شرطاً في قبول الشهادة، وهذا من أحكام الدنيا??????! فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر، فلا خلاف في أن من يسمع الملاهي ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أواني الذهب والفضة لا تقبل شهادته، ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر. وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا شرب الحنفي النبيذ حددته ولم أرد شهادته، فقد جعله كبيرة بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة، فدل على أن الشهادة نفياً وإثباتاً لا تدور على الصغائر والكبائر، بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالباً بضرورة مجاري العادات. كالغيبة، والتجسس، وسوء الظن، والكذب في بعض الأقوال، وسماع الغيبة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكل الشبهات، وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائداً على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة، ومصادقة الفجار، والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين، فهذه ذنوب لا يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقي على سمعته مع المخالطة بعد ذلك، ولو لم يقبل إلا قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات. وليس لبس الحرير وسماع الملاهي واللعب بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من هذا القبيل، فإلى مثل هذا المنهاج ينبغي أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى الكبيرة والصغيرة، ثم آحاد هذه الصغائر التي لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة، وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم، والصغيرة تكبر بالمواظبة كما أن المباح يصير صغيرة بالمواظبة، كاللعب بالشطرنج والترنم بالغناء على الدوام وغيره فهذا بيان حكم الصغائر والكبائر.


[align=center]بيان كيفية توزع الدرجات والدركات
في الآخرة على الحسنات والسيئات في الدنيا
[/align]

اعلم أن الدنيا من عالم الملك والشهادة، والآخرة من عالم الغيب والملكوت، وأعني بالدنيا حالتك قبل الموت، وبالآخرة حالتك بعد الموت، فدنياك وآخرتك صفاتك وأحوالك، يسمى القريب الداني منها دنيا، والمتأخر آخرة. ونحن الآن نتكلم من الدنيا في الآخرة، فإنا الآن نتكلم في الدنيا وهو عالم الملك وغرضنا شرح الآخرة وهي عالم الملكوت، ولا يتصور شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال، ولذلك قال تعالى: " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " وهذا لأن عالم الملك نوم بالإضافة إلى عالم الملكوت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" وما سيكون في اليقظة لا يتبين لك في النوم إلا الأمثال المحوجة إلى التعبير، فكذلك ما سيكون في يقظة الآخرة لا يتبين في نوم الدنيا إلا في كثرة الأمثال، وأعني بكثرة الأمثال ما نعرفه من علم التعبير، ويكفيك منه إن كنت فطناً ثلاثة أمثلة
فقد جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت كأن في يدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء. فقال: إنك مؤذن تؤذن في رمضان قبل طلوع الفجر، قال: صدقت. وجاء آخر فقال: رأيت كأني أصب الزيت في الزيتون، فقال: إن كان تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإن أمك سبيت في صغرك، لأن الزيتون أصل الزيت فهو يرد إلى الأصل، فنظر فإذا الجارية كانت أمه وقد سبيت في صغره، وقال له آخر: رأيت كأني أقلد الدر في أعناق الخنازير، فقال: إنك تعلم الحكمة غير أهلها فكان ما قال، والتعبير من أوله إلى آخره أمثال تعرفك طريق ضرب المثال، وإنما نعني بالمثل أداء المعنى في صورة إن نظر إلى معناه وجده صادقاً، وإن نظر إلى صورته وجده كاذباً، فالمؤذن إن نظر إلى الصورة الخاتم والختم به على الفروج رآه كاذباً، فإنه لم يختم به قط، وإن نظر إلى معناه وجده صادقاً إذ صدر منه روح الختم ومعناه الذي يراد الختم له، وليس للأنبياء أن يتكلموا مع الخلق إلا بضرب الأمثال، لأنهم كلفوا أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، وقدر عقولهم أنهم في النوم، والنائم لا يكشف له عن شيء إلا بمثل، فإذا ماتوا انتبهوا، وعرفوا أن المثل صادق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" وهو من المثال الذي لا يعقله إلا العالمون، فأما الجاهل فلا يجاوز قدره ظاهر المثال لجهله بالتفسير الذي يسمى تأويلاً، كما يسمى تفسير ما يرى من الأمثلة في النوم تعبيراً فيثبت لله تعالى يداً وإصبعاً - تعالى الله عن قوله علواً كبيراً. وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته" فإنه لا يفهم من الصورة إلا اللون والشكل والهيئة فيثبت لله تعالى مثل ذلك - تعالى الله عن قوله علواً كبيراً. من ههنا زل من زل في صفات إلهية حتى في الكلام وجعلوه صوتاً وحرفاً إلى غير ذلك من الصفات، والقول فيه يطول، وكذلك قد يرد في أمر الآخرة ضرب أمثلة يكذب بها الملحد بحمود نظره على ظاهر المثال وتناقضه عنده، كقوله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح" فيثور الملحد الأحمق ويكذب ويستدل به على كذب الأنبياء ويقول: يا سبحان الله. الموت عرض والكبش جسم فكيف ينقلب العرض جسماً؟ وهل هذا إلا محال، ولكن الله تعالى عزل هؤلاء الحمقى عن معرفة أسراره فقال: "وما يعقلها إلا العالمون " ولا يدري المسكين أن من قال رأيت في منامي أنه جيء بكبش وقيل هذا هو الوباء الذي في البلد وذبح فقال العبر: صدقت والأمر كما رأيت وهذا يدل على أن هذا الوباء ينقطع ولا يعود قط، لأن المذبوح وقع اليأس منه، فإذن المعبر صادق في تصديقه وهو صادق في رؤيته، وترجع حقيقة ذلك إلى أن الموكل بالرؤيا وهو الذي يطلع الأرواح عند النوم على ما في اللوح المحفوظ عرفه بما اللوح المحفوظ بمثال ضربه له، لأن النائم إنما يحتمل المثال فكان مثاله صادقاً وكان معناه صحيحاً، فالرسل أيضاً إنما يكلمون الناس في الدنيا وهي بالإضافة إلى الآخرة نوم، فيوصلون المعاني إلى أفهامهم بالأمثلة حكمة من الله ولطفاً بعباده وتيسيراً لإدراك ما يعجزون عن إدراكه دون ضرب المثل، فقوله: " يؤتى بالموت في صورة كبش أملح " مثال ضربه ليوصل إلى الأفهام حصول اليأس من الموت، وقد جبلت القلوب على التأثر بالأمثلة وثبوت المعاني فيها بواسطتها، ولذلك عبر القرآن بقوله: " كن فيكون " عن نهاية القدرة، وعبر صلى الله عليه وسلم بقوله: " قلب المؤمن بي إصبعين من أصابع الرحمن " عن سرعة التقليب. وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في كتاب قواعد العقائد، من ربع العبادات فلنرجع الآن إلى الغرض، فالمقصود أن تعريف توزع الدرجات والدركات على الحسنات والسيئات لا يمكن إلا بضرب المثال فلنفهم من المثل الذي نضربه معناه لا صورته. فنقول: الناس في الآخرة ينقسمون أصنافاً وتتفاوت درجاتهم ودركاتهم في السعادة والشقاوة تفاوتاً لا يدخل تحت الحصر كما تفاوتوا في سعادة الدنيا وشقاوتها ولا تفارق الآخرة في هذا المعنى أصلاً البتة، فإن مدبر الملك والملكوت واحد لا شريك له. وسنته الصادرة عن إرادته الأزلية مطردة لا تبديل لها، إلا أنا إن عجزنا عن إحصاء آحاد الدرجات فلا نعجز عن إحصاء الأجناس. فنقول: الناس ينقسمون في الآخرة بالضرورة إلى أربعة أقسام: هالكين، ومعذبين، وناجين وفائزين. ومثاله في الدنيا أن يستولي ملك من الملوك على إقليم فيقتل بعضهم فهم الهالكون، ويعذب بعضهم مدة ولا يقتلهم فهم المعذبون، ويخلى بعضهم فهم الناجون، ويخلع على بعضهم فهم الفائزون. فإن كان الملك عادلاً لم يقسمهم كذلك إلا باستحقاق فلا يقتل إلا جاحداً لاستحقاق الملك معانداً له في أصل الدولة، ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف بملكه وعلو درجته، ولا يخلي إلا معترفاً له برتبة الملك لكنه لم يقصر ليعذب ولم يخدم ليخلع عليه، ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة، ثم ينبغي أن تكون خلع الفائزين متفاوتة الدرجات بحسب درجاتهم في الخدمة، وإهلاك الهالكين إما تحقيقاً بحز الرقبة أو تنكيلاً بالمثلة بحسب درجاتهم في المعاندة، وتعذيب المعذبين في الخفة والشدة وطول المدة وقصرها واتحاد أنواعها واختلاقها بحسب درجات تقصيرهم، فتقسم كل رتبة من هذه الرتب إلى درجات لا تحصى ولا تنحصر، فكذلك فافهم أن الناس في الآخرة هكذا يتفاوتون، فمن هالك، ومن معذب مدة، ومن ناج يحل في دار السلامة ومن فائز. والفائزون ينقسمون إلى من يحلون في جنات عدن أو جنات المأوى أو جنات الفردوس، والمعذبون ينقسمون إلى من يعذب قليلاً وإلى من يعذب ألف سنة إلى سبعة آلاف سنة، وذلك آخر من يخرج من النار كما ورد في الخبر، وكذلك الهالكون الآيسون من رحمة الله تتفاوت دركاتهم، وهذه الدرجات بحسب اختلاف الطاعات والمعاصي، فلنذكر كيفية توزعها عليها الرتبة الأولى: وهي رتبة الهالكين ونعني بالهالكين الآيسين من رحمة الله تعالى، إذ الذي قتله الملك في المثال الذي ضربناه آيس من رضا الملك وإكرامه فلا تغفل عن معاني المثال، وهذه الدرجة لا تكون إلا للجاحدين والمعرضين المتجردين للدنيا المكذبين بالله ورسله وكتبه، فإن السعادة الأخروية في القرب من الله والنظر إلى وجهه وذلك لا ينال أصلاً إلا بالمعرفة التي يعبر عنها بالإيمان والتصديق، والجاحدون هم المنكرون، والمكذبون هم الآيسون من رحمة الله تعالى أبد الآباد وهم الذين يكذبون برب العالمين وبأنبيائه المرسلين، إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون لا محالة وكل محجوب من محبوبه فمحول بينه وبين ما يشتهيه لا محالة فهو لا محالة يكون محترقاً نار جهنم بنار الفراق، ولذلك قال العارفون: ليس خوفنا من نار جهنم ولا رجاؤنا للحور العين وإنما مطالبنا اللقاء ومهربنا من الحجاب فقط، وقالوا من يعبد الله بعوض فهو لئيم كأن يعبده طلب جنته أو لخوف ناره، بل العارف يعبده لذاته فلا يطلب إلا ذاته فقط، فأما الحور العين والفواكه فقد لا يشتهيها وأما النار فقد لا يتقيها، إذ نار الفراق إذا استولت على قلبه ربما غلبت النار المحرقة للأجسام، فإن نار الفراق نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، ونار جهنم لا شغل لها إلا مع الأجسام، وألم الأجسام يستحقر مع ألم الفؤاد، ولذلك قيل:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وفي فؤاد المحب نار جوى أحر نار الجحيم أبردهـا
[/poet]

ولا ينبغي أن تنكر هذا في عالم الآخرة إذ له نظير مشاهد في عالم الدنيا، فقد رؤي من غلب عليه الوجد فغدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة القدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما في قلبه ، وترى الغضبان يستولي عليه الغضب في القتال فتصيبه جراحات وهو لا يشعر بها في الحال لأن الغضب نار في القلب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الغضب قطعة من النار" واحتراق الفؤاد أشد من احتراق الأجساد، والأشد يبطل الإحساس بالأضعف كما تراه فليس الهلاك من النار والسيف إلا من حيث إنه يفرق بين جزأين يرتبط أحدهما بالآخر برابطة التأليف الممكن في الأجسام، فالذي يفرق بين القلب وبين محبوبه الذي يرتبط به برابطه تأليف أشد إحكاماً من تأليف الأجسام فهو أشد إيلاماً إن كنت من أرباب البصائر وأرباب القلوب ولا يبعد أن لا يدرك من لا قلب له شدة هذا الألم ويستحقره بالإضافة إلى ألم الجسم، فالصبي لو خير بين ألم الحرمان على الكرة والصولجان وبين ألم الحرمان عن رتبة السلطان لم يحس بألم الحرمان عن رتبة السلطان أصلاً ولم يعد ذلك ألماً وقال: العدو في الميدان مع الصولجان أحب إلي من ألف سرير للسلطان مع الجلوس عليه، بل من تغلبه شهوة البطن لو خير بين الهريسة والحلواء وبين فعل جميل يقهر به الأعداء ويفرح به الأصدقاء لآثر الهريسة والحلواء، وهذا كله لفقد المعنى الذي بوجوده يصير الجاه محبوباً. ووجود المعنى الذي بوجوده يصير الطعام لذيذاً، وذلك لمن استرقته صفات البهائم والسباع ولم تظهر فيه صفات الملائكة التي لا يناسبها ولا يلذها إلا القرب من رب العالمين ولا يؤلمها إلا البعد والحجاب، وكما لا يكون الذوق إلا في اللسان والسمع إلا في الآذان، فلا تكون هذه الصفة إلا في القلب، فمن لا قلب له ليس له هذا الحس، كمن لا سمع له ولا بصر ليس له لذة الألحان وحسن الصور والألوان، وليس لكل إنسان قلب؛ ولو كان لما صح قوله تعالى: " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " فجعل من لم يتذكر بالقرآن مفلساً من القلب، ولست أعني بالقلب هذا الذي تكتنفه عظام الصدر بل أعني به السر الذي هو من عالم الأمر، واللحم الذي هو من عالم الخلق عرشه والصدر كرسيه، وسائر الأعضاء عالمه ومملكته، ولله الخلق والأمر جميعاً، ولكن ذلك السر الذي قال الله تعالى فيه: " قل الروح من أمر ربي " هو الأمير والملك لأن بين عالم الأمر وعالم الخلق ترتيباً، وعالم الأمر أمير على عالم الخلق، وهو اللطيفة التي إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، من عرفها فقد عرف نفسه، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، وعند ذلك يشم العبد مبادئ روائح المعنى المطوي تحت قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم على صورته " ونظر بعين الرحمة إلى الحاملين له على ظاهر لفظه وإلى المتعسفين في طريق تأويله؛ وإن كانت رحمته للحاملين على اللفظ أكثر من رحمته للمتعسفين في التأويل، لأن الرحمة على قدر المصيبة ومصيبة أولئك أكثر وإن اشتركوا في مصيبة الحرمان من حقيقة الأمر، فالحقيقة فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحكمته يختص بها من يشاء: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " ولنعد إلى الغرض فقد أرخينا الطول وطولنا النفس في أمر هو أعلى من علوم المعاملات التي نقصدها في هذا الكتاب، فقد ظهر أن رتبة الهلاك ليس إلا للجهال المكذبين، وشهادة ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تدخل تحت الحصر فلذلك لم نوردها.
الرتبة الثانية : رتبة المعذبين وهذه رتبة من تحلى بأصل الإيمان ولكن قصر في الوفاء بمقتضاه، فإن رأس الإيمان هو التوحيد: وهو أن لا يعبد إلا الله، ومن اتبع هواه فقد اتخذ إلهه هواه، فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة، بل معنى قولك لا إله إلا الله معنى قوله تعالى: " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " وهو أن تذر بالكلية غير الله، ومعنى قوله تعالى: " الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " ولما كان الصراط المستقيم الذي لا يكل التوحيد إلا بالاستقامة عليه أدق من الشعر وأحد من السيف مثل الصراط الموصوف في الآخرة، فلا ينفك بشر عن ميل عن الاستقامة ولو في أمر يسير، إذ لا يخلو عن اتباع الهوى ولو في فعل قليل، وذلك قادح في كمال التوحيد بقدر ميله عن الصراط المستقيم، فذلك يقتضي لا محالة نقصاناً في درجات القرب، ومع كل نقصان ناران: نار الفراق لذلك الكمال الفائت بالنقصان، ونار جهنم كما وصفها القرآن، فيكون كل مائل عن الصراط المستقيم معذباً مرتين من وجهين، ولكن شدة ذلك العذاب وخفته وتفاوته بحسب طول المدة إنما يكون بسبب أمرين، أحدهما: قوة الإيمان وضعفه، والثاني: كثرة اتباع الهوى وقلته، وإذ لا يخلو بشر في غالب الأمر عن واحد من الأمرين، قال الله تعالى: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " ولذل قال الخائفون من السلف: إنما خوفنا لأنا تيقنا أنا على النار واردون وشككنا في النجاة، ولما روى الحسن الخبر الوارد فيمن يخرج من النار بعد ألف عام وأنه ينادي يا حنان يا منانقال الحسن: يا ليتني كنت ذلك الرجل، واعلم أن في الأخبار ما يدل على أن آخر من يخرج من النار بعد سبعة آلاف سنة، وأن الاختلاف في المدة بين اللحظة وبين سبعة آلاف حتى قد يجوز بعضهم على النار كبرق خاطف ولا يكون له فيها لبث، بين اللحظة وبين سبعة آلاف سنة درجات متفاوتة من اليوم والأسبوع والشهر وسائر المدد وأن الاختلاف بالشدة لا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط، وقد يعذب بنوع آخر من العذاب، ويتطرق إلى العذاب اختلاف ثالث في غير المدة والشدة وهو اختلاف الأنواع، إذ ليس من يعذب بمصادرة المال فقط كمن يعذب بأخذ المال وقتل الولد واستباحة الحريم وتعذيب الأقارب والضرب وقطع اللسان واليد والأنف والأذن وغيره؛ فهذه الاختلافات ثابتة في عذاب الآخرة دل عليها قواطع الشرع، وهي بحسب اختلاف قوة الإيمان وضعفه وكثرة الطاعات وقلتها وكثرة السيئات وقلتها. أما شدة العذاب فبشدة قبح السيئات وكثرتها وأما كثرته فبكثرتها، وأما اختلاف أنواع السيئات؛ وقد انكشف هذا لأرباب القلوب مع شواهد القرآن بنور الإيمان وهو المعني بقوله تعالى: " وما ربك بظلام للعبيد "، وقوله تعالى: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت "، وبقوله تعالى: " وان ليس للإنسان إلا ما سعى "، وبقوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "، إلى غير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة من كون العقاب والثواب جزاء على الأعمال، وكل ذلك بعدل لا ظلم فيه، وجانب العفو والرحمة أرجح، إذ قال تعالى فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم: " سبقت رحمت غضبي" وقال تعالى: " وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " فإذن هذه الأمور الكلية من ارتباط الدرجات والدركات بالحسنات والسيئات معلومة بقواطع الشرع ونور المعرفة، فأما التفصيل فلا يعرف إلا ظناً ومستنده ظواهر الأخبار ونوع حدس يستمد من أنوار الاستبصار بعين الاعتبار، فنقول: كل من أحكم أصل الإيمان واجتنب جميع الكبائر وأحسن جميع الفرائض - أعني الأركان الخمسة- ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لم يصر عليها، فيشبه أن يكون عذابه المناقشة في الحساب فقط، فإنه إذا حوسب رجحت حسناته على سيئاته، إذ ورد في الأخبار أن الصلوات الخمسة والجمعة وصوم رمضان كفارات لما بينهن، وكذلك اجتناب الكبائر بحكم نص القرآن مكفراً للصغائر، وأقل درجات التكفير أن يدفع العذاب إن لم يدف الحساب، وكل من هذا حاله فقد ثقلت موازينه، فينبغي أن يكون بعد ظهور الرجحان في الميزان وبعد الفراغ من الحساب في عيشة راضية، نعم التحاقه باصحاب اليمين أو المقربين ونزوله في جنات عدن أو في الفردوس الأعلى، فكذلك يتبع أصناف الإيمان، لأن الإيمان إيمانان: تقليدي كإيمان العوام يصدقون بما يستمعون ويستمرون عليه، وإيمان كشفي يحصل بانشراح الصدر بنور الله حتى ينكشف فيه الوجود كله على ما هو عليه، فيتضح أن الكل إلى الله مرجعه ومصيره، إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وصفاته وأفعاله، فهذا الصنف هم المقربون النازلون في الفردوس الأعلى، وهم على غاية القرب من الملأ الأعلى، وهم أيضاً على أصناف: فمنهم السابقون ومنهم من دونهم، وتفاوتهم بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى، ودرجات العارفين في المعرفة بالله تعالى لا تنحصر، إذ الإحاطة بكنه جلال الله غير ممكنة وبحر المعرفة ليس له ساحل وعمق وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم وبقدر ما سبق لهم من الله تعالى في الأزل، فالطريق إلى الله تعالى لا نهاية لمنازله، فالسالكون سبيل الله لا نهاية لدرجاتهم، وأما المؤمن إيماناً تقليدياً فمن أصحاب اليمين ودرجته دون درجة المقربنين، وهم أيضاً على درجات؛ فالأعلى من درجات أصحاب اليمين تقارب رتبته رتبة الأدنى من درجات المقربين، وهذا حال من اجتنب الكبائر وأدى الفرائض كلها - أعني الأركان الخمسة التي هي النطق بالشهادة باللسان والصلاة والزكاة والصوم والحج، غأما من ارتكب كبيرة أو كبائر أو أهمل بعض أركان الإسلام، فإن تاب توبةً نصوحاً قبل قرب الأجل التحق بمن لم يرتكب، ولأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والثوب المغسول كالذي لم يتوسخ أصلاً، وإن مات قبل فهذا أمر مخطر عند الموت، إذ ربما يكون موته على الإصرار سبباً لتزلزل إيمانه فيختم له بسوء الخاتمة، لا سيما إذا كان إيمانه تقليدياً، فإن التقليد وإن كان جازماً فهو قابل للانحلال بادنى شك وخيال، والعارف البصير أبعد أن يخاف عليه سوء الخاتمة وكلاهما إن ماتا على الإيمان يعذبان إلا أن يعفو الله عذاباً يزيد على عذاب المناقشة في الحساب، وتكون كثرة العقاب من حيث المدة بحسب كثرة مدة الإصرار، ومن حيث الشدة بحسب قبح الكبائر، ومن حيث اختلاف أصناف السيئات، وعند انقضاء مدة العذاب ينزل البله المقلدون في درجات أصحاب اليمين، والعارفون المستبصرون في أعلى عليين، ففي الخبر من يخرج من النار يعطى مثل الدنيا كلها عشرة أضعاف، فلا تظن أن المراد به تقديره بالمساحة لأطراف الأجسام، كان يقابل فرسخ بفرسخين أو عشرة بعشرين، فإن هذا جهل بطريق ضرب الأمثال، بل هذا كقول القائل: أخذ منه جملاً واعطاه عشرة أمثاله، وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فأعطاه مائة دينار، فإن لم يفهم من المثل إلا المثل في الوزن والثقل فلا تكون مائة دينار ولو وضعت في كفة الميزان والجمل في الكفة الأخرى عشر عشيره، بل هو موازنة معاني الأجسام وارواحها دون أشخاصها وهياكلها، فإن الجمل لا يقصد لثقله وطوله وعرضه ومساحته بل لماليته، فروحه المالية وجسمه اللحم والدم ومائة دينار عشرة أمثاله بالموازنة الروحانية لا بالموازنة الجسمانية، وهذا صادق عند من يعرف روح المالية من الذهب والفضة، بل لو أعطاه جوهرة وزنها مثقال وقيمتها مائة دينار، وقال: أعطيته عشرة امثاله، كان صادقاً، ولكن لا يدرك صدقه إلا الالجوهريون، فإن روح الجوهرية لا تدرك بمجرد البصر بل بفطنة أخرى وراء البصثر، فلذلك يكذبر به الصبي بل القروي والبدوي ويقول: ما هذه الجوهرة إلا حجر وزنه مثقال، ووزن الجمل ألف ألف مثقال فقد كذب في قوله: إني أعطيته عشرة امثاله، والكاذب بالتحقيق هو الصبي ولكن لا سبيل إلى تحقيق ذلك عنده إلا بأن ينتظر به البلوغ والكمال وأن يحصل في قلبه النور الذي سيدرك به أرواح الجواهر وسائر الأموال، فعند ذلك ينكشف له الصدق، والعارف عاجز عن تفهيم المقلد القاصر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الموازنة؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم: " الجنة في السموات" كما ورد في الأخبار والسموات من الدنيا فكيف يكون عشرة أمثال الدنيا في الدنيا، وهذا كما يعجز البالغ عن تفهيم الصبي تلك الموازنة، وكذلك نفهيم البدوي وكما أن الجوهري مرحوم إذا بلي بالبدوي والقروي في تفهيم تلك الموازنة، فالعارف مرحوم إذا بلي بالبليد في تفهيم هذه الموازنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " ارحموا ثلاثة: عالماً بين الجهال، وغني قوم افتقر، وعزيز قول ذل" والأنبياء مرحومون بين الأمة بهذا السبب ومقاساتهم لقصور عقول الأمة فتنة لهم وامتحان وابتلاء من الله وبلاء موكل بهم سبق بتوكيله القضاء الأزلي، وهو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: " البلاء موكل بالأنبياء ثم الولياء ثم الأمثل فالأمثل" فلا تظنن أن البلاء بلاء أيوب عليه السلام وهو الذي ينزل بالبدن؛ فغن بلاء نوح عليه السلام أيضاً من البلاء العظيم، إذ بلي بجماعة كان لا يزيدهم دعاؤه إلى الله إلا فرارً ولذلك لما تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام بعض الناس قال: " رحم الله اخي موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر" فإذن لا تخلو الأنبياءعن الابتلاء بالجاحدين، ولا تخلو الأولياء والعلماء عن الابتلاء بالجاهلين، ولذلك قلما ينفك الأولياء عن ضروب من الإيذاء وأنواع بالإخراج من البلاد والسعاية بهم إلى السلاطين والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين وواجب أن يكون أهل المعرفة عند أهل الجهل من الكافرين، كما يجب أن يكون المعتاض عن الجمل الكبير جوهرة صغيرة عند الجاهلين من المبذرين المضيعين، فإذا عرفت هذه الدقائق فآمن بقوله عليه الصلاة والسلام: " إنه يعطى آخر من يخرج من النار مثل الدنيا عشر مرات " وإياك أن تقتصر بتصديقك على ما يدركه البصر والحواس فقط فتكون حماراً برجلين، لأن الحمار يشاركك في الحواس الخمس وغنما أنت مفارق للحمار بسر إلهي عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه، فإدراك ما يخرج عن عالم الحواس الخمس لا يصادف إلا في عالم ذلك السر الذي فارقت به الحمار وسائر البهائم؛ فمن ذهل عن ذلك وعطله وأهمله وقنع بدرجة البهائم ولم يجاوز المحسوسات فهو الذي أهلك نفسه بتعطيلها ونسبها بالإعراض عنها، فلا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فكل من لم يعرف إلا المدرك بالحواس فقد نسى الله، إذ ليس ذات الله مدركاً في هذا العالم بالحواس الخمس، وكل من نسي الله أنساه الله لامحالة نفسه ونزل إلى رتبة البهائم وترك الترقي إلى الأفق الأعلى وخان في الأمانة التي أودعه الله تعالى وانعم عليه كافراً لأنعمه ومتعرضاً لنقمته إلا أنه أسوأ حالاً من البهيمة فإن البهيمة تتخلص بالموت، وأما هذا فعنده أمانة سترجع لا محالة إلى مودعها، فإليه مرجع الأمانة ومصيرها وتلك الأمانة كالشمس الزاهرة وإنما هبطت إلى هذه القالب الفاني وغربت فيه، وستطلع هذه الشمس عند خراب هذا القالب من مغربها وتعود إلى بارئها وخالقها إما مظلمة منكسفة وإما زاهرة مشرقة، والزاهرة المشرقة غير محجوبة عن حضرة الربوبية، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة، إذ المرجع والمصير للكل إليه إلا أنها ناكسة رأسها عن جهة أعلى عليين إلى جهة أسفل سافلين، ولذلك قال تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم " فبين أنهم عند ربهم إلا أنهم منكوسون قد انقلبت وجوههم إلى أقفيتهم وانتكست رؤوسهم عهن جهة فوق إلى جهة أسفل، وذلك حكم الله فيمن حرمه توفيقه ولم يهده طريقه، فنعوذ بالله من الضلال والنزول إلى منازل الجهال؛ فهذا حكم انقسام من يخرج من النار ويعطى مثل عشرة أمثال الدنيا أو أكثر، ولا يخرج من النار إلا موحد، ولست أعني بالتوحيد ان يقول بلسانه لا إله إلا الله، فإن اللسان من عالم الملك والشهادة فلا ينفع إلا في عالم الملك فيدفع السيف عن رقبته وأيدي الغانمين عن ماله، ومدة الرقبة والمال مدة الحياة، فحيث لا تبقى رقبة ولا مال لا ينفع القول باللسان، وإنما ينفع الصدق في التوحيد وكمال التوحيد أن لا يرى الأمور كلها إلا من الله، وعلامته أن لا يغضب على أحد من الخلق بما يجري عليه، إذ لا يرى الوسائط وإنما يرى مسبب الأسباب كما سيأتي تحقيقه في التوكل، وهذا التوحيد متفاوت، فمن الناس من له التوحيد مثل الجبال، ومنهم من له مثقال ومنهم من له مقدار خردلة وذرة، فمن في قلبه مثقال دينار من إيمان فهو أول من يخرج من النار، وفي الخبر يقال: " أخرجوا من النار من في قلبه مثقال دينار من إيمان" وآخر من يخرج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وما بين المثقال والذرة على قدر تفاوت درجاتهم بين طبقة المثقال وبين طبقة الذرة، والموازنة بالمثقال والذرة على سبيل ضرب المثل كما ذكرنا في الموازنة بين أعيان الأموال وبين النقود، وأكثر ما يدخل الموحدين النار مظالم العباد، فديوان العباد هو الديوان الذي لا يترك، فأما بقية السيئات فيتسارع العفو والتكفير إليها، ففي الأثر " إن العبد ليوقف بين يدي الله تعالى، وله من الحسنات أمثال الجبال لو سلمت له لكان من أهل الجنة، فيقوم أصحاب المظالم فيكون قد سب ععرض هذا وأخذ مال هذا وضرب هذا فيقضى من حسناته حتى لا تبقى له حسنة، فتقول الملائكة يا ربنا هذا قد فنيت حسناته وبقي طالبون كثر، فيقول الله تعالى: ألقوا من سيئاتهم على سيئاته وصكوا له صكاً إلى النار " وكما يهلك هو بسيئة غيره بطريق القصاص فكذلك ينجو المظلوم بحسنة الظالم، إذ ينقل إليه عوضاً عما ظلم به وقد حكي عن ابن الجلاء أن بعض إخوانه اغتابه ثم أرسل إليه يستحله فقال: لا أفعل، ليس في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها. وقال هو وغيره: ذنوب إخواني من حسناتي أريد أن أزين بها صحيفتي، فهذا ما أردنا أن نذكره من اختلاف العباد في المعاد في درجات السعادة والشقاوة، وكل ذلك حكم بظاهر أسباب يضاهي حكم الطبيب على مريض بانه يموت لا محالة ولا يقبل العلاج، وعلى مريض آخر بأن عارضه خفيف وعلاجه هين، فإن ذلك يظن يصيب في أكثر الأحوال، ولكن تثوب إلى المشرف على الهلاك نفسه من حيث لا يشعر الطبيب، وقد يساق إلى ذي العارض الخفيف أجله من حيث لا يطلع عليه، وذلك من أسرار الله تعالى الخفية في أرواح الأحياء وغموض الأسباب التي رتبها مسبب الأسباب بقدر معلوم، إذ ليس في قوة البشر الوقوف على كنهها، فكذلك النجاة والفوز في الآخرة لهما أسباب خفية ليس في قوة البشر الاطلاع عليها، يعبر عن ذلك السبب الخفي المفضي إلى النجاة بالعفو والرضا وعما يفضي إلى الهلاك بالغضب والانتقام، ووراء ذلك سر المشيئة الإلهية الزلية التي لا يطلع الخلق عليها، فلذلك يجب علينا أن نجوز العفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة والغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى في القلب، وهو أغمض من أن يطلع عليه صاحبه فكيف غيره، ولكن قد انكشف لأرباب القلوب أنه لا عفو عن عبد إلا بسبب خفي يقتضي العفو، ولا غضب إلا بسبب باطن يقتضي البعد عن الله تعالى، ولولا ذلك لم يكن العفو والغضب جزاء على الأعمال والأوصاف، ولو لم يكن جزاء لم يكن عدلاً، ولو لم يكن عدلاً لم يصح قوله تعالى: " وما ربك بظلامٍ للعبيد " ولا قوله تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " وكل ذلك صحيح، فليس للإنسان إلا ما سعى، وسعيه هو الذي يرى، وكل نفس بما كسبت رهينه، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، ولما غيروا ما بانفسهم غير الله ما بهم، تحقيقاً لقوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وهذا كله قد انكشف لأرباب القلوب انكشافاً اوضح من المشاهدة بالبصر، إذ للبصر يمكن الغلط فيه، إذ قد يرى البعيد قريباً و الكبير صغيراً. ومشاهدة القلب لا يمكن الغلط فيها، وإنما للشأن في انفتاح بصيرة القلب، وإلا فما يرىبها بعد الانفتاح فلا يتصور فيه الكذب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " ما كذب الفؤاد ما رأى ".
الرتبة الثالثة رتبة الناجين، وأعني بالنجاة السلامة فقط دون السعادة والفوز، وهم قوم لم يخدموا فيخلع عليهم ولم يقصروا فيعذبوا، ويشبه أن يكون هذا حال المجانين والصبيان من الكفار والمعتوهين والذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا على البله وعدم المعرفة فلم يكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية فلا وسيلة تقربهم ولا جناية تبعدهم، فما هم من أهل الجنة ولا من أهل النار، بل ينزلون في منزلة بين المنزلتين ومقام بين المقامين عبر الشرععنه بالأعراف، وحلول طائفة من الخلقفيه معلوم يقيناً من الآيات والأخبار ومن أنوار الاعتبار؛ فأما الحكم على العين كالحكم مثلاً بان الصبيان منهم؛ فهذا مظنون وليس بمستيقن؛ والاطلاع عليه تحقيقاً في عالم النبوة: ويبعد أن ترتقى إليه رتبة الأولياء والعلماء، والأخبار في حق الصبيان أيضاً متعارضة، حتى قالت عائشة رضي الله عنها لما مات بعض الصبيان: عصفور من عصافير الجنة، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "وما يدريك "فإذن الإشكال والاشتباه أغلب في هذا المقام.
الرتبة الرابعة رتبة الفائزين، وهم العارفون دون المقلدين، وهم المقربون الساتبقون؛ فإن المقلد وغن كان له فوز على الجملة بمقام في الجنة فهو من أصحاب اليمين وهؤلاء هم المقربون وما يلقى هؤلاء يجاوز حد البيان، والقدر الممكن ذكره ما فصله القرى،، فليس بعد بيان الله بيان، والذي لا يمكن التعبير عنه في هذا العالم فهو الذي أحمله قوله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " وقوله عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سنعت ولا خطر على قلب بشر "، والعارفون مطلبهم تلك الحالة التي لا يتصور أن تخطر على قلب بشر في هذا العالم وأما الحور والقصور والفاكهة واللبن والعسل والخمر والحلي والأساور فإنهم لا يحرصون عليها ولو أعطوها لم يقنعوا بها، ولا يطلبون إلا لذة النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فهي غاية السعادات ونهاية اللذات ولذلك قيل لرابعة العدوية رحمة الله عليها: كيف رغبتك في الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار، فهؤلاء قوم شغلهم حب رب الدار عن الدار وزينتها، بل عن كل شيء سواه حتى عن أنفسهم، ومثال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه، فإنه في حال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه، ويعبر على هذه الحالة بأنه فنى عن نفسه، ومعناه أنه صار مستغرقاً بغيره وصارت همومه هماً واحداً وهو محبوبه، ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لا نفسه ولا غير نفسه، وهذه الحالة هي التي توصل في الآخرة إلى قرة عين لا يتصور أن تخطر في هذا العالم على قلب بشر، كمالا يتصور أن تخطر صورة الألوان واللحان على قلب الأصم والأكمه، إلا أن يرفع الحجاب عن سمعه وبصره، فعند ذلك يدرك حاله ويعلم قطعاً أنه لم يتصور أن تخطر بباله قبل ذلك صورته فالدنيا حجاب على التحقيق، وبرفعه ينكشف الغطاء، فعند ذلك يدرك ذوق الحياة الطيبة: " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " فهذا القدر كاف في بيان توزع الدرجات على الحسنات، والله الموفق بلطفه.

[align=center]بيان ما تعظم به الصغائر من الذنوب[/align]

اعلم ان الصغيرة تكبر بأسباب: منها الإصرار والمواظبة، ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار، فكبيرة واحدة تنصرم ولا يتبعها مثلها لو تصور ذلك كان العفو عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها ومثال ذلك قطرات من الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه، وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة واحدة لم ؤثر، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الأعمال أدومها وغن قل" والأشياء تستبان بأضدادها وإن كان النافع من العمل هو الدائم وإن قل فالكثير المنصرم قليل النفع في تنوير القلب وتطهيره، فكذلك القليل من السيئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب، إلا أن الكبيرة قلما يتصور الهجوم عليها بغتة من غير سوابق ولواحق من جملة الصغائر، فقلما يزني الزاني بغتة من غير مراودة ومقدمات، وقلما يقتل بغتة من غير مشاحنة سابقة ومعاداة، فكل كبيرة تكتنفها صغائر سابقة ولا حقة، ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق إليها عود ربما كان العفو فيها أرجى من صغيرة واظب الإنسان عليها عمره، ومنها أن يستصغر الذنب فإن الذنب كلما اسنعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهيته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به، واستصغاره يصدر عن الألف به وذلك يوجب سشدة الأثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات، والمحذور تسويده بالسيئات، ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة فإن القلب لا يتأثر بما يجري في الغفلة، وقد جاء في الخبر: " المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فأطاره" وقال بعضهم الذنب الذي لا يغفر قول العبد: ليت كل ذنب عملته مثل هذا، وإنما يعظمالذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله، فإذا نظر إلى عظم من عصى به رأى الصغيرة كبيرة، وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها، وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين: لا صغيرة، بل كل مخالفة فهي كبيرة، وكذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم للتابعين: وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم، فكانت الصغائر عندهم بافضافة إلى جلال الله تعالى من الكبائر، وبهذا السبب يعظم من العالم ما لا يعظم من الجاهل، ويتجاوز عن العامي في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف، لأن الذنب والمخالفة يكبر بقدر معرفة المخالف. ومنها السرور بالصغيرة والفرح والتبجح بها واعتداد التمكن من ذلك نعمة والغفلة عن كونه سبب الشقاوة، فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت الصغيرة وعظم أثرها في تسويد قلبه، حتى إن من المذنبين من يتمدح بذنبه ويتبجح به لشدة فرحه بمقارفته إياه، كما يقول: أما رأيتني كيف مزقت عرضه، ويقول المناظر في مناظرته: أما رأيتني كيف فضحته وكيف ذكرت مساويه حتى أخجلته وكيف استخففت به وكيف لبست عليه؟ ويقول المعامل في التجارة: أما رأيت كيف روجت عليه الزائف وكيف خدعته وكيف خدعته وكيف غبنته في ماله وكيف استحمقته؟ فهذا وأمثاله تكبر به الصغائر فإن الذنوب مهلكات، وإذا دفع العبد إليها وظفر الشيطان به في الحمل عليها فينبغي أن يكون في مصيبة وتأسف بسبب غلبة العدو عليه وبسبب بعده من الله تعالى، فالمريض الذي يفرح بأن ينكسر إناؤه الذي فيه دواؤه حتى يتخلص من ألم شربه لا يرجى شفاؤه، ومنها أن يتهاون بستر الله عليه وحلمه عنه وإمهاله إياه ولا يدري أنه إنما يمهل مقتاً ليزداد بالإمهال إثماً، فيظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله تعالى به، فيكون ذلك لأمنه من مطكر الله وجهله بمكامن الغرور بالله، كما قال تعالى: " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما تقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير "، ومنها ان ياتي الذنب وظهره بان يذكره بعد إتيانه أو يأتيه في مشهد غيره فإن ذلك جناية منه على ستر الله الذي سدله عليه وتحريك لرغبة الشر فيمن أسمعه ذنبه او أشهده فعله، فهما جنايتان انضمتا إلى جنايته فغلظت به، فإن انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت جناية رابغة وتفاحش الأمر، وفي الخبر كل الناس معافى إلا المجاهرين يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه"، وهذا لأن من صفات الله ونعمه أنه يظهر الجميل ولا يهتك الستر؟ فالإظهار كفران لهذه النعمة، وقال بعضهم: لا تذنب فإن ولا بد فلا ترغب غيرك فيه فتذنب ذنبين ولذلك قال تعالى: " المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يامرون بالمنكر وينهون عن المعروف " وقال بعض السلف: ما انتهك المرء من أخيه حرمة أعظم من أن يساعده على معصية ثم يهونها عليه، ومنها أن يكون المذنب عالماً يقتدى به فإذا فعله بحيث يرى ذلك منه كبر ذنبه كلبس العالم الإبريسم وركوبه مراكب الذهب، وأخذه مال الشبهة من أموال السلاطين، ودخوله على السلاطين وتردده عليهم ومساعدتهم إياهم بترك الإنكار عليهم وغطلاق اللسان في الأعراض وتعديه باللسان في المناظرة وقصد الاستخفاف واشتغاله من العلوم بما لا يقصد منه إلا الجاه كعلم الجدل والمناظرة، فهذه ذنوب يتبع العالم عليها فيموت ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة، فطوبى لمن إذا مات ماتت ذنوبه معه، وفي الخبر " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً" قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " والآثار ما يلحق من الأعمال بعد انقضاء العمل والعامل وقال ابن عباس: ويل للعالم من الأنباع يزل زلة فيرجع عنها ويحملها الناس فيذهبون بها في الآفاق، وقال بعضهم: مثل زلة العالم مثل انكسار السفينة تغرق ويغرق أهلها، وفي الإسرائيليات: أن عالماً كان يضل الناس بالبدعة ثم أدركته توبة فعمل في الإصلاح دهراً، فأوحى الله تعالى إلى نبيهم: قل له إن ذنبك لو كان فيما بيني وبينك لغفرته لك ولكن كيف بمن أضللت من عبادي فأدخلتهم النار، فبهذا يتضح أن أمر العلماء مخطر فعليهم وظيفتان: إحداهما ترك الذنب، والأخرى إخفاؤه، وكما تتضاعف أوزارهم على الذنوب فكذلك يتضاعف ثوابهم على الحسنات إذا اتبعوا، فإذا ترك التجمل والميل إلى الدنيا وقنع منها باليسير ومن الطعام ومن الكسوة بالخلق فيتبع عليه ويقتدي به العلماء فيكون له مثل ثوابه، وإن مال إلى التجمل مالت طباع من دونه إلى التشبه به، ولا يقدرون على التجمل إلا بخدمة السلاطين وجمع الحطام من الحرام ويكون هو السبب في جميع ذلك، فحركات العلماء في طورى الزيادة والنقصان تتضاعف آثارها إما بالربح وإما بالخسران، وهذا القدر كاف في تفصيل الذنوب إلى التوبة توبة عنها .



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد سبتمبر 10, 2006 3:08 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الركن الثالث
في تمام التوبة وشروطها ودوامها إلى آخر العمر
[/align]

قد ذكرنا أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزماً وقصداً، وذلك الندم أورثه العلم بكون المعاصي حائلاً بينه وبين محبوبه، ولكل واحد من العلم والندم دوام وتمام، ولتمامها علامة، ولدوامها شرط فلا بد من بيانها: أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب التوبة وسيأتي، وأما الندم فهو توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب وعلامته طول الحسرة والحزن وانسكاب الدمع وطول البكاء والفكر، فمن استشعر عقوبة نازلة بولده أو ببعض أعزته طال عليه مصيبته وبكاؤه، وأي عزيز عليه من نفسه وأي عقوبة أشد من النار وأي شيء أدل على نزول العقوبة من المعاصي واي مخبر أصدق من الله ورسوله؟ ولو حدثه إنسان واحد يسمى طبيباً: أن مرض ولده المريض لا يبرأ وأنه سيموت منه، لطال في الحال حزنه، فليس ولده باعز من نفسه ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله ورسوله ولا الموت بأشد من النار ولا المرض بأدل على الموت من المعاصي على سخط الله تعالى والتعرض بها للنار، فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى، فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع وفي الخبر "جالسوا التوابين فإنهم أرق أفئدة" ومن علامته أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في قلبه بدلاً عن حلاوتها فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة. وفي الإسرائيليات: إن الله سبحانه وتعالى قال لبعض أنبيائه - وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم ير قبول توبته فقال - وعزتي وجلالتي لو شفع فيه أهل السموات والأرض ما قبلت توبته وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه.
فإن قلت: فالذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع فكيف يجد مرارتها؟ فأقول: من تناول عسلاً كان فيه سم ولم يدركه بالذوق واستلذه ثم مرض وطال مرضه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة فهل تنفر نفسه عن ذلك العسل أم لا؟ فإن قلت: لا، فهو جحد للمشاهدة والضرورة، بل ربما تنفر عن العسل الذي ليس فيه سم أيضاً لشبهه به، فوجدان التائب مرارة الذنب كذلك يكون، وذلك يكون كل ذنب فذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم، ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان، ولما عز مثل هذا الإيمان عزت التوبة والتائبون، فلا ترى إلا معرضاً عن الله تعالى متهاوناً بالذنوب مصراً عليها، فهذا شرط تمام الندم وينبغي أن يدوم إلى الموت وينبغي ان يجد ههذ المرارة في جميع الذنوب وإن لم يجد هذه المرارة في جميع الذنوب وإن لم يكن قد ارتكبها من قل، كما يجد متناول السم في العسل النفرة من الماء البارد مهما علم ان فيه مثل ذلك السم، غذ لم يكن ضرره من العسل بل مما فيه، ولم يكن ضرر التائب من سرقته وزناه من حيث إنه سرقة وزنا بل من حيث إنه من مخالفة أمر الله تعالى وذلك جار في كل ذنب. وأما القصد الذي ينبعث منه وهو غرادة التدارك فله تعلق بالحال؛ وهو يوجب ترك كل محظور هو ملابس له وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال. وله تعلق بالماضي، وهو تدارك ما فرط. وبالمستقبل؛ وهو دوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت.
وشرط صحتها فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه بالسن او الاحتلام ويفتش عما مضى من عمره سنة سنة وشهراً شهراً وسوماً يوماً ونفساً نفساً، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها؟ وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها؟ فإن كان قد ترك صلاة او صلاها في ثوب نجس أو صلاها بنية غير صحيحة لجهلة بشرط النية فيقضيها عن آخرها، فإن شك في عدد ما فاته منها حسب من مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن أنه داء ويقضي الباقي وله أن ياخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد.
وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يقضه أو أفطر عمداً أو نسي النية بالليل ولم يقض؛ فيتعرف مجموع ذلك بالتحرى والاجتهاد ويشتغل بقضائه وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه - لا من زمان البلوغ فإن الزكاة واجبة في مال الصبي - فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته، فإن أداه لا على وجه يوافق مذهبه بان لم يصرف إلى الأصناف الثمانية أو أخرج البدل وهو على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى فيقضي جميع ذلك، فإن ذلك لا يجزيه اصلاً، وحساب الزكاة ومعرفة ذلك يطول ويحتاج فيه إلى تأمل شاف ويلزمه أن يسأل عن كيفية الخروج عنه من العلماء.
وأما الحج فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يتفق له بالخروج والآن قد أفلس فعليه الخروج، فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد، فإن لم يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف إليه من الزكاة او الصدقات ما يحج به، فغنه إن مات قبل الحج مات عاصياً. قال عليه السلام: " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وغن شاء نصرانياً" والعجز الطارئ بعد القدرة لا يسقط عنه الحج. فهذا طريق تفتيشه عن الطاعات وتداركها.
وأما المعاصي فيجب أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصثره ولسانه وبطنه ويده ورجله وفرجه وسائر جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلع علىجميعها صغائرها وكبائرها ثم ينظر فيها فما كان من ذلك بينه وبين الله تعالى من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد، كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ومس المصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاه وغيره ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد، فالتوبة عنها بالندم والتحسر عليها وبأن يحسب من حيث الكبر ومن حيث المدة ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: " اتق الله حيث كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها، بل من قوله تعالى: " إن الحسنات يذهبن السيئات " فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر، ويكفر القعود في المسجد جنباً القعود في المسجد جنباً بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة، ويكفر مس المصحف محدثاً بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفاً ويجعله وقفاً، ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه، وعد جميع المعاصي وغنما المقصود سلوك الطريق المضادة فإن المرض فإن المرض يعالج بضده، فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تضادها، فإن البياض يزال ابلسواد لا بالحرارة والبرودة، وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضاً مؤثراً في المحو فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والحنين إليها فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له، إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم قال صلى الله عليه وسلم: " من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم" وفي لفظ أخر: " إلا الهم بطب المعيشة " وفي حديث عائشة رضي الله عنها: إذا كثرت ذذنوب العبد لم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه" ويقال إن الهم الذي يدخل على القلب والعبد لا يعرف هو ظلمة الذنوب والهم بها، وشعور القلب بوقفة الحساب وهو المطلع.
فإن قلت: هم الإنسان غالباً بماله وولده وجاهه وهو خطيئة فكيف يكون كفارة؟ فاعلم أن الحب له خطيئة والحرمان عنه كفارة ولو تمتع به لتمت الخطيئة فقد روي أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فقال له: كيف تركت الشيخ الكئيب؟ فقال: قد حزن عليك حزن مائة ثكلى، قال: فما له عند الله؟ قال: أجر مائة شهيد. فإذن الهموم ايضاً مكفرات حقوق الله فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى وأما مظالم العباد ففيها أيضاً معصية وجناية على حق الله تعالى فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد أيضاً، فما يتعلق منه بحق الله تعالى تداركه بالندم والتحسر وترك مثله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها، فيقابل إيذاءه الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب أموالهم بالتصدق بملكه الحلال، ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح فيهم بالثناء على أهل الدين وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله، ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب لأن تلك إحياء إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده والإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه فيقابل الإعدام بالإيجاد وبهذا تعرف أن ما ذكرناه من سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع حيث كفر القتل بإعتاق رقبة، ثم إذا فعل ذلك كله لم يكفه ما لم يخرج عن مظالم العباد ،ومظالم العباد إما في النفوس أو الأحوال أو الأعراض أو القلوب أعني به الإيذاء المحض.
أما النفوس فإن جرى عليه قتل خطأ فتوبته بتسليم الدية ووصولها إلى المستحق إما منه او من عائلته وهو في عهدة ذلك قبل الوصول. وغن كان عمداً موجباً للقصاص فبالقصاص، فإن لم يعرف فيجب عليه أن يتعرف عند ولي الدم ويحكمه في روحه فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله ولا تسقط عهدته إلا بهذا، ولا يجوز له الإخفاء وليس هذا كما لو زنى أو شرب او سرق أو قطع الطريق أو باشر ما يجب عليه فيه حد الله تعالى فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالي استيفاء حف الله تعالى، بل عليه أن يتستر بستر الله تعالى ويقيم حد الله على نفسه بانواع المجاهدة والتعذيب، فالعفو في محض حقوق الله تعالى قريب من التائبين النادمين، فإن أمر هذه إلى الوالي حتى أقام عليه الحد وقع موقعه وتكون توبته صححية مقبولة عند الله تعالى دليل ما روي أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وغني أريد أن تطهرني! فرده فلما كان من الغدأتاه فقال: يا رسول الله إني قد زنيت! فرده الثانية، فلما كان في الثالثة أمر به فحفر له حفرة ثم أمر به فرجم، فكان الناس فيه فريقين: فقائل يقول لقد هلك وأحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أصدق من توبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم" وجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني! فردها فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله لم تردني لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني لحبلى. فقال صلى الله عليه وسلم: " أما الآن فاذهبي حتى تضعي " فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة فقالت: هذا قد ولدته قال: " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " فلما فطمته أتت بالصبي وفي يده كسرة خبز فقالت: يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام! فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجهه فسبها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها فقال: " مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت وأما القصاص وحد القذف: فلا بد من تحليل صاحبه المستحق فيه، وإن كان المتناول ما لا تناول بغصب أو خيانة أو غبن في معاملة بنوع تلبيس كترويج زائف أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو منع أجرته فكل ذلك يجب أن يفتش عنه لا من حد بلوغه بل من أول مدة وجوده، فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولي قد قصر فيه فإن لم يفعل كان ظالماً مطالباً به، إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ، وليحاسب نفسه على الجبات والدوانق من أول يوم حياته إلى يوم توبته قبل أن يحاسب في القيامة، وليناقش قبل أن يناقش فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه، فإن حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه أسامي أصحاب المظالم واحداً واحداً وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستحلهم أو ليؤد حقوقهم، وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم ولا على طلب ورثتهم ولكن على كل واحد منهم أن يفعل ما يقدر عليه فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات حتى تفيض عنه يوم القيامة فتؤخذ حسناته وتوضع في موازين أرباب المظالم، ولكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئات أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره. فهذا طريق كل تائب في رد المظالم وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب طول مدة الظلم فكيف وذلك مما لا يعرف؟ وربما يكون الأجل قريباً؟ فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات. هذا حكم المظالم الثابتة في ذمته.
أما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكاً معيناً وما لا يعرف له مالكاً فعليه أن يتصدق به، فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار كما سبق تفصيله في كتاب الحلال والحرام.
وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوءهم أو يعيبهم في الغيبة فيطلب كل من تعرض له بلسان أو آذى قلبه بفعل من أفعاله وليستحل واحداً واحداً منهم ومن مات أو غاب فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات لتؤخذ منه عوضاً في القيامة، وأما من وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته وعليه أن يعرفه قدر جنايته وتعرض له فالاستحلال المبهم لا يكفي، وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال وادخر ذلك في القيامة ذخيرة يأخذها من حسناته أو يحمله من سيئاته، فإن كان في جملة جنايته على الغير ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو نسبته باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم آذاه مهما شوفه به فقد انسد عليه طريق الاستحلال، فليس له إلا أن يستحل منها ثم تبقى له مظلمة فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب وأما الذكر والتعريف فهو سيئة جديدة يجب الاستحلال منها، ومهما ذكر جنايته وعرفه المجني عليه فلم تسمح نفسه بالاستحلال بقيت المظلمة عليه فإن هذا حقه، فعليه أن يتلطف به ويسعى في مهماته وأغراضه ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه، فإن الإنسان عبد الإحسان، وكل من نفر بسيئة مال بحسنة فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال، فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة جنايته، وليكن قدر سعيه في فرحه وسرور قلبه بتودده وتلطفه كقدر سعيه في أذاه، حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ منه ذلك عوضاً في القيامة بحكم الله به عليه، كمن أتلف في الدنيا مالاً فجاء بمثله فامتنع من له المال من القبول وعن الإبراء فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى، فكذلك يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين، وفي المتفق عليه من الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ قال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة" وفي رواية " فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجعل من أهلها " وفي رواية " فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له " فبهذا تعرف أنه لا خلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال ذرة فلا بد للتائب من تكثير الحسنات هذا حكم القصد المتعلق بالماضي وأما العزم المرتبط بالاستقبال فهو أن يعقد مع الله عقداً مؤكداً ويعاهده بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها، كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة تضره مثلاً فيعزم عزماً جزماً أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه، فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال، ولكن لا يكون تائباً ما لم يتأكد عزمه في الحال، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال، فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر عليه، فإن رأس المعاصي أكل الحرام فكيف يكون تائباً مع الإصرار عليه ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات؟ وقد قال بعضهم من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع مرات لم يبتل بها. وقال آخر: من تاب من ذنب واستقام سبع سنين، لم يعد إليه أبداً، ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالماً أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة، وإن لم يؤثر العزلة لم تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن بعض الذنوب، كالذي يتوب عن الشرب والزنا والغصب مثلاً، وليست هذه توبة مطلقة وقد قال بعض الناس إن هذه التوبة لا تصح، وقال قائلون تصح، ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل، بل نقول لمن قال لا تصح: إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلاً بلا وجوده كعدمه فما أعظم خطأك! فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب قلته، ونقول لمن قال تصح إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولاً يوصل إلى النجاة أو الفوز فهذا أيضاً خطأ! بل النجاة والفوز بترك الجميع، هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله فإن قال من ذهب إلى أنها لا تصح إني أردت به أن التوبة عبارة عن الندم. وإنما يندم على السرقة مثلاً لكونها معصية لا لكونها سرقة، ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه لأجل المعصية فإن العلة شاملة لهما إذ من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين لأن توجعه بفوات محبوبه سواء كان بالسيف أو بالسكين، فكذلك توجع العبد بفوات محبوبه وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو الزنا فكيف يتوجع على البعض دون البعض؟ فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون البعض، ولو جاز هذا لجاز أن يتوب من شرب الخمر من أحد الدنين دون الآخر فإن استحال ذلك من حيث إن المعصية في الخمرين واحد وإنما الدنان ظروف فكذلك أعيان المعاصي آلات للمعصية والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحدة، فإذن معنى عدم الصحة أن الله تعالى وعد التائبين رتبة وتلك الرتبة لا تنال إلا بالندم ولا يتصور الندم على بعض المتماثلات، فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول فإنه إذا لم يتم الإيجاب والقبول نقول إن العقد لا يصح أي لم تترتب عليه الثمرة وهو الملك، وتحقيق هذا أن ثمرة مجرد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه وثمرة الندم تكفير ما سبق، فترك السرقة لا يكفر السرقة بل الندم عليها ولا يتصور الندم إلا لكونها معصية وذلك يعم جميع المعاصي، وهو كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء.
فنقول: التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر، أو عن الصغائر دون الكبائر، أو عن كبيرة دون كبيرة، أما التوبة عن الكبائر دون الصغائر فأمر ممكن لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله وأجلب لسخط الله ومقته، والصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه، كالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني على دابته فيكون خائفاً من الجناية على الأهل مستحقراً للجناية على الدابة، والندم بحسب استعظام الذنب واعتقاد كونه مبعداً عن الله تعالى. وهذا ممكن وجوده في الشرع فقد كثر التائبون في الأعصار الخالية ولم يكن أحد منهم معصوماً فلا تستدعي التوبة العصمة. والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيراً شديداً، ويحذره السكر تحذيراً أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلاً، فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر فهذا غير محال وجوده وإن أكلهما جميعاً بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر الثاني: أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض وهذا أيضاً ممكن لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند الله، كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد لعلمه أن ديوان العباد لا يترك وما بينه وبين الله يتسارع العفو إليه، فهذا أيضاً ممكن كما في تفاوت الكبائر والصغائر، لأن الكبائر أيضاً متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد مرتكبها، ولذلك قد يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً، إذ يتضح له أن الخمر مفتاح الشرور وأنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي وهو لا يدري فبحسب رجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركه في المستقبل وندماً على الماضي.
الثالث: أن يتوب عن صغيرة أو صغائر وهو مصر على كبيرة يعلم أنها كبيرة، كالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم أو ما يجري مجراه وهو مصر على شرب الخمر، فهو أيضاً ممكن، ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف من معاصيه ونادم على فعله ندماً إما ضعيفاً وإما قوياً، ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعصية أقوى من ألم قلبه في الخوف منها لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهالة والغفلة، وأسباب توجب قوة الشهوة فيكون الندم موجوداً ولكن لا يكون ملياً بتحريك العزم ولا قوياً عليه، فإن سلم عن شهوة أقوى منه بأن لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف الشهوة وغلبها وأوجب ذلك ترك المعصية، وقد تشتد ضراوة الفاسق بالخمر فلا يقدر على الصبر عنه، وتكون له ضراوة إما بالغيبة وثلب الناس والنظر إلى غير المحرم، وخوفه من الله قد بلغ مبلغاً يقمع هذه الشهوة الضعيفة دون القوية فيوجب عليه جند الخوف انبعاث العزم للترك؟ بل يقول هذا الفاسق في نفسه: إن قهر الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية بل أجاهده في بعض المعاصي، فعساني أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي، ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم، ولقيل له إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح، وإن كانت لله فاترك الفسق لله فإن أمر الله فيه واحد، فلا يتصور أن تقصد بصلاتك التقرب إلى الله تعالى ما لم تتقرب إليه بترك الفسق، وهذا محال بأن يقول لله تعالى على أمران ولي على المخالفة فيهما عقوبتان، وأناملي في أحدهما بقهر الشيطان عاجز عنه في الآخر، فأنا أقهره فيما أقدر عليه، وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عن بعض ما عجزت عنه بفرط شهوتي فكيف لا يتصور هذا وهو حال كل مسلم؟ إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله ومعصيته ولا سبب له إلا هذا، وإذا فهم هذا فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجودها، وما الخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم والندم يورث العزم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " ولم يشترط الندم على كل ذنب وقال: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ولم يقل التائب من الذنوب كلها، وبهذه المعاني تبين سقوط قول القائل إن التوبة عن بعض الذنوب غير ممكنة لأنها متماثلة في حق الشهوة وفي حق التعرض إلى سخط الله تعالى، نعم يجوز أن يتوب عن شرب الخمر دون النبيذ لتفاوتهما في اقتضاء السخط، ويتوب عن الكثير دون القليل لأن لكثرة الذنوب تأثيراً في كثرة العقوبة فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى، كالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول قليلها ولكن لا يستكثر منها، فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ولا يتوب عن مثله بل لا بد وأن يكون ما تاب عنه مخالفاً لما بقي عليه إما في شدة المعصية وإما في غلبة الشهوة، وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم، فيتصور اختلاف حاله في الترك فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب وإن لم يكن قد أطاع الله في جميع الأوامر والنواهي فإن قلت هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة؟ فأقول: لا، لأن التوبة عبارة عن ندم يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله، وما لا يقدر على فعله فقد انعدم بنفسه لا بتركه إياه، ولكني أقول لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه وثار منه احتراق وتحسر وندم بحيث لو كانت شهوة الوقاع به باقية لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها فإني أرجو أن يكون ذلك مكفراً لذنبه وما حيا عنه سيئته، إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وإن لم يطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة، ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغاً أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده، فإذن يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه، فإن كل من لا يشتهي شيئاً يقدر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف، والله تعالى مطلع على ضميره وعلى مقدار ندمه فعساه يقبله منه، بل الظاهر أنه يقبله.
والحقيقة في هذا كله يرجع إلى ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين، أحدهما: حرقة الندم، والآخر: شدة المجاهدة بالترك في المستقبل، وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة ولكن ليس محالاً أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة، ولولا هذا لقلنا إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة، وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلاً.
فإن قلت: إذا فرضنا تائبين أحدهما سكنت نفسه عن النزوع إلى الذنب والآخر بقي في نفسه نزوع إليه وهو يجاهدها ويمنعها فأيهما أفضل؟ فاعلم أن هذا مما اختلف العلماء فيه، فقال أحمد بن أبي الحواري وأصحاب أبي سليمان الداراني: إن المجاهد أفضل لأن له مع التوبة فضل الجهاد. وقال علماء البصرة: ذلك الآخر أفضل لأنه لو فتر في توبته كان أقرب إلى السلامة من المجاهد الذي هو في عرضة الفتور عن المجاهدة، وما قاله كل واحد من الفريقين لا يخلو عن حق وعن قصور عن كمال الحقيقة.
والحق فيه أن الذي انقطع نزوع نفسه له حالتان: إحداهما أن يكون انقطاع نزوعه إليها بفتور في نفس الشهوة فقط، فالمجاهد أفضل من هذا إذ تركه بالمجاهدة قد دل على قوة نفسه واستيلاء دينه على شهوته فهو دليل قاطع على قوة اليقين وعلى قوة الدين، وأعني بقوة الدين قوة الإرادة التي تنبعث بإشارة اليقين وتقمع الشهوة المنبعثة بإشارة الشياطين، فهاتان قوتان تدل المجاهدة عليهما قطعاً. وقول القائل إن هذا أسلم إذ لو فتر لا يعود إلى الذنب فهذا صحيح، ولكن استعمال لفظ الأفضل فيه خطأ. وهو كقول القائل: العنين أفضل من الفحل لأنه في أمن من خطر الشهوة، والصبي أفضل من البالغ لأنه أسلم، والمفلس أفضل من الملك القاهر القامع لأعدائه لأن المفلس لا عدو له والملك ربما يغلب مرة وإن غلب مرات، وهذا كلام رجل سليم القلب قاصر النظر على الظواهر غير عالم بأن العز في الأخطار وأن العلو شرطه اقتحام الأغرار، بل كقول القائل: الصياد الذي ليس له فرس ولا كلب أفضل في صناعة الاصطياد وأعلى رتبة من صاحب الكلب والفرس، لأنه آمن من أن يجمح به فرسه فتنكسر أعضاؤه عند السقوط على الأرض وآمن من أن يعضه الكلب ويعتدي عليه، وهذا خطأ بل صاحب الفرس والكلب إذا كان قوياً عالماً بطريق تأديبهما أعلى رتبة وأحرى بدرك سعادة الصيد الحالة الثانية أن يكون بطلان النزوع بسبب قوة اليقين وصدق المجاهدة السابقة إذ بلغ مبلغاً قمع هيجان الشهوة حتى تأدبت بأدب الشرع، فلا تهيج إلا بالإشارة من الدين وقد سكت بسبب استيلاء الدين عليها، فهذا أعلى رتبة من المجاهد المقاسي لهيجان الشهوة وقمعها، وقول القائل: ليس لذلك فضل الجهاد قصور عن الإحاطة بمقصود الجهاد فإن الجهاد كان مقصوداً لعينه، بل المقصود قطع ضراوة العدو حتى لا يستجرك إلى شهواته وإن عجز عن استجرارك فلا يصدك عن سلوك طريق الدين، فإذا قهرته وحصلت المقصود فقد ظفرت وما دمت في المجاهدة فأنت بعد في طلب الظفر. ومثاله كمثال من قهر العدو واسترقه بالإضافة إلى من هو مشغول بالجهاد في صف القتال ولا يدري كيف يسلم. ومثاله أيضاً مثال من علم كلب الصيد وراض الفرس فهما نائمان عنده بعد ترك الكلب الضراوة والفرس الجماح بالإضافة إلى من هو مشغول بمقاساة التأديب بعد، ولقد نزل في هذا فريق فظنوا أن الجهاد هو المقصود الأقصى ولم يعلموا أن ذلك طلب للخلاص من عوائق الطريق. وظن آخرون أن قمع الشهوات وإماطتها بالكلية مقصود حتى جرب بعضهم نفسه فعجن عنه فقال: هذا محال، فكذب بالشرع وسلك سبيل الإباحة واسترسل في إتباع الشهوات. وكل ذلك جهل وضلال وقد قررنا ذلك في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات.
فإن قلت: فما قولك في تائبين أحدهما نسي الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه والآخر جعله نصب عينه ولا يزال بتفكر فيه ويحترق ندماً عليه فأيهما أفضل؟ فاعلم أن هذا أيضاً قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وكل واحد من المذنبين عندنا على حق ولكن بالإضافة إلى حالين.
وكلام المتصوفة أبداً يكون قاصراً، فإن كل واحد منهم أن يخبر عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال، وهذا نقصان بالإضافة إلى الهمة والإرادة والجد حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره، إذ طريقه إلى الله نفسه ومنازله وأحواله. وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم فالطرق إلى الله تعالى كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والبعد، والله أعلم بمن هو أهدى سبيلاً مع الاشتراك في أصل الهداية؟ فأقول: تصور الذنب وذكره والتضجع عليه كمال في حق المبتدئ، لأنه إذا نسيه لم يكثر احتراقه فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق، لأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف الوازع عن الرجوع إلى مثله، فهو بالإضافة إلى الغافل كمال ولكنه بالإضافة إلى سالك الطريق نقصان فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق. بل سالك الطريق ينبغي أن لا يعرج على غير السلوك، فإن ظهر له مبادئ الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولوامع الغيب استغرقه ذلك ولم يبق فيه متسع للالتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال، بل لو عاق المسافر عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر حاجز طال تعب المسافر في عبوره مدة من حيث إنه كان قد خرب جسره من قبل، ولو جلس على شاطئ البحر بعد عبوره يبكي متأسفاً على تخريبه الجسر كان هذا مانعاً آخر اشتغل به بعد الفراغ من ذلك المانع، نعم إن لم يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلاً فتعذر السلوك أو كان على طريق أنهار وهو يخاف على نفسه أن يمر بها فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر ليتأكد بطول الحزن عزمه على أن لا يعود إلى مثله، فإن حصل له من التلبية ما وثق بنفسه أنه لا يعود إلى مثله فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه، وهذا لا يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك - وقد أشرنا إلى تلويحات منه في كتاب العلم وفي ربع المهلكات - بل نقول شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر في النعيم في الآخرة لتزيد رغبته، ولكن إن كان شاباً فلا ينبغي أن يطيل فكره في كل ماله نظير في الدنيا كالحور والقصور فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة، بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط فذلك لا نظير له في الدنيا. فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركاً للشهوة فالمبتدئ أيضاً قد يستضر به فيكون النسيان أفضل له عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام، فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم، فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته وإن كان ذلك نازلاً عن ذروة مقامهم، فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها وقد كان مستغنياً عنها لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلاً للأمر على المريد. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أما إني لا أنسى ولكني لأشرع" وفي لفظ " إنما أسهو لأسن ". ولا تعجب من هذا فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء، وكالمواشي في كنف الرعاة. أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي كما قال صلى الله عليه وسلم للحسن: " كخ كخ" لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه؟ وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول ارم هذه التمرة فإنها حرام، ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقة ترك الفصاحة ونزل إلى لكنته. بل الذي يعلم شاة أو طائراً يصوت به رغاءً أو صفيراً تشبهاً بالبهيمة والطائر تلطفاً في تعليمه. فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق فإنها مزلة أقدام العارفين فضلاً عن الغافلين. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه.

[align=center]بيان أقسام العباد في دوام التوبة[/align]

اعلم أن التائبين في التوبة على أربع طبقات: الطبقة الأولى أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره، فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلا الزلات التي لا ينفك البشر عنها في العادات مهما لم يكن في رتبة النبوة، فهذا هو الاستقامة على التوبة، وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة: التوبة النصوح. واسم هذه النفس الساكنة: النفس المطمئنة، التي ترجع إلى ربها راضية مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : "سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً" فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم. وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات. فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها، وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملي بمجاهدتها وردها. ثم تتفاوت درجات النزاع أيضاً بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع. وكذلك يختلفون من حيث طول العمر، فمن مختطف يموت قريباً من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة. ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته. وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء: إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفاً من الله تعالى، واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض. ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف، فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن اختياره فيقدم على المعصية وينقص توبته. بل طريقها الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى يسد طرقها على نفسه، ويسعى مع ذلك في كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته في الابتداء الطبقة الثانية تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وترك كبائر الفواحش كلها، إلا أنه ليس ينفك عن ذنوبه تعتريه لا عن عمد وتجريد قصد ولكن يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يقدم عزماً على الإقدام عليها، ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعرضه لها. وهذه النفس جديرة بأن تكون هي النفس اللوامة، إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد، وهذه أيضاً رتبة عالية وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهي أغلب أحوال للتائبين لأن الشر معجون بطينة الآدمي قلما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الحسنات، فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك في غاية البعد. وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى إذ قال تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللهم إن ربك واسع المغفرة " فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه. قال تعالى: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علي كرم الله وجهه: " خياركم كل مفتن تواب" وفي خبر آخر: " المؤمن كالسنبلة يفيء أحياناً ويميل أحياناً" وفي الخبر: " لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة" أي الحين بعد الحين فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقض التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين.
ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه والأطعمة الحارة مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار، وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة، وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه. بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون المستغفرون" وقال تعالى: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة " فما وصفهم بعدم السيئة أصلاً الطبقة الثالثة أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها، هذا أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول ليتني لم أفعله وسأتوب عنه وأجاهد نفسي في قهرها لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوماً بعد يوم، فهذه النفس هي التي تسمى النفس المسولة، وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئاً " فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه، وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره، فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين، وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل، لأنه مهما تعذر على المتفقه مثلاً الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه، وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين. فكذلك ارتباط سعادات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية، وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العليا في الدنيا بترك الكسل والمواظبة على تفقيه النفس، فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم العلم إلا نفس صارت فقهية بطول التفقيه فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهراً بطول التزكية والتطهير، هكذا سبق في الأزل بتدبير رب الأرباب. ولذلك قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقداً والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان. قال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس إنه من أهلها ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" فإذن الخوف من الخاتمة قبل التوبة، وكل نفس فهو خاتمة ما قبله إذ يمكن أن يكون الموت متصلاً به، فليراقب الأنفاس وإلا وقع في المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر الطبقة الرابعة أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله، بل ينهمك انهماك الغافل في إتباع شهواته فهذا من جملة المصرين، وهذه النفس هي: النفس الأمارة بالسوء، الفرارة من الخير، ويخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره في مشيئة الله، فإن ختم بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا تطلع عليه، كما لا يستحل أن يدخل الإنسان خراباً ليجد كنزاً فيتفق أن يجده، وأن يجلس في البيت ليجعله الله عالماً بالعلوم من غير تعلم كما كان الأنبياء صلوات الله عليهم. فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار، وطلب المال بالتجارة وركوب البحار وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنوز في المواضع الخربة وطلب العلوم من تعليم الملائكة، وليت من اجتهد تعلم وليت من اتجر استغنى وليت من صام وصلى غفر له، فالناس كلهم محرومون إلا العالمون، والعالمون كلهم محرومون إلا العاملون، والعاملون كلهم محرومون إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. وكما أن من خرب بيته وضيع ماله وترك نفسه وعياله جياعاً يزعم أنه ينتظر فضل الله بأن يرزقه كنزاً يجده تحت الأرض في بيته الخرب يعد عنه ذوي البصائر من الحمقى والمغرورين - وإن كان ما ينتظره غير مستحيل في قدرة الله تعالى وفضله - فكذلك من ينتظر المغفرة من فضل الله تعالى وهو مقصر عن الطاعة مصر على الذنوب غير سالك سبيل المغفرة يمد عند أرباب القلوب من المعتوهين. والعجب من عقل هذا المعتوه وترويجه حماقته في صيغة حسنة إذ يقول: إن الله كريم وجنته ليست تضيق على مثلي ومعصيتي ليست تضره، ثم تراه يركب البحار ويقتحم الوعار في طلب الدينار وإذا قيل له إن الله كريم ودنانير خزائنه ليست تقصر على فقرك، وكسلك بترك التجارة ليس يضرك فاجلس في بيتك فعساه يرزقك من حيث لا تحتسب فيستحمق قائل هذا الكلام ويستهزئ به ويقول: ما هذا الهوس! السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وإنما ينال ذلك بالكسب، هكذا قدره مسبب الأسباب وأجرى به سنته ولا تبديل لسنة الله، ولا يعلم المغرور أن رب الآخرة ورب الدنيا واحد وأن سنته لا تبديل لها فيهما جميعاً، وأنه قد أخبر إذ قال: " وان ليس للإنسان إلا ما سعى " فكيف يعتقد أنه كريم في الآخرة وليس بكريم في الدنيا؟ وكيف يقول ليس مقتضى الكرم الفتور عن كسب المال ومقتضاه الفتور عن العمل لذلك المقيم والنعيم الدائم، وأن ذلك بحكم الكرم يعطيه من غير جهد في الآخرة وهذا يمنعه مع شدة الاجتهاد في غالب الأمر في الدنيا؟ وينسى قوله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " فنعوذ بالله من العمى والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس في ظلمات الجهل وصاحب هذا جدير بأن يكون داخلاً تحت قوله تعالى: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عن ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً " أي أبصرنا أنك صدقت إذ قلت: " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " فأرجعنا نسعى وعند ذلك لا يمكن من الانقلاب ويحق عليه العذاب فنعوذ بالله من دواعي الجهل والشك والارتياب السائق بالضرورة إلى سوء المنقلب والمآب.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين سبتمبر 11, 2006 7:03 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان ما ينبغي أن يبادر إليه التائب
إن جرى عليه ذنب إما عن قصد وشهوة غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق
[/align]

اعلم أن الواجب عليه التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضاده كما ذكرنا طريقه، فإن لم تساعده النفس على العزم على الترك لغلبة الشهوة فقد عجز عن أحد الواجبين فلا ينبغي أن يترك الواجب الثاني وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة ليمحوها فيكون ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فالحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح، ولتكن الحسنة في محل السيئة وفيما يتعلق بأسبابها.
فأما بالقلب فليكفره بالتضرع إلى الله تعالى في سؤال المغفرة والعفو، ويتذلل تذلل العبد الآبق، ويكون ذله بحيث يظهر لسائر العباد وذلك بنقصان كبره فيما بينهم، فما للعبد الآبق المذنب وجه للتكبر على سائر العباد، وكذلك يضمر بقلبه الخيرات للمسلمين والعزم على الطاعات
وأما باللسان فبالاعتراف بلظلم والاستغفار فيقول: رب ظلمت نفسي وعملت سوءاً فاغفر لي ذنوبي، وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار - كما أوردنا في كتاب الدعوات والأذكار.
وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات، وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا اتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجواً؛ أربعة من أعمال القلوب وهي: التوبة أو العزم على التوبة، وحب الإقلاع عن الذنب وتخوف العقاب عليه، ورجاء المغفرة له. وأربعة من أعمال الجوارح وهي: أن تصلي عقيب الذنب ركعتين ثم تستغفر الله تعالى بعدهم سبعين مرة وتقول: سبحان الله العظيم وبحمده، مائة مرة ثم تتصدق بصدقة ثم تصوم يوماً، وفي بعض الآثار: تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلي ركعتينوفي بعض الأخبار: تصلي أربع ركعاتوفي الخبر " إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها، السر بالسر والعلانية بالعلانية" ولذلك قيل صدقة السر تكفر ذنوب الليل وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار. وفي الخبر الصحيح: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شيءإلا المسيس فاقض علي بحكم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم: " أو ما صليت معنا صلاة الغداة " قال: بلى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الحسنات يذهبن السيئات" وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ جعل الصلاة كفارة له بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إلا الكبائر "، فعلى الأحوال كلها ينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم ويجمع سيئاته ويجتهد في دفعها بالحسنات.
فإن قلت: فكيف يكون الاستغفار نافعاً من غير حل عقدة الإصرار، وفي الخبر " المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله" وكان بعضهم يقول: أستغفر من قولي أستغفر الله، وقيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين، وقالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير! فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر - ذكرناها في كتاب الأذكار والدعوات - حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " فكان بعض الصحابة يقول: كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا وبقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا، فنقول: الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة، كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة أستغفر الله، وكما يقول إذا سمع صفة النار نعوذ بالله منها من غير أن يتأثر به قلبه، وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان ولا جدوى له، فأما إذا انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نية ورغبة فهذه حسنة في نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيئة، وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار حتى قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب. وللتوب والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك قال سهل: لا بد للعبد في كل حال من مولاه، فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء فإن عصى قال يا رب استر علي، فإذا فرغ من المعصية قال يا رب تب علي، فإذا تاب قال يا رب ارزقني العصمة، وإذا عمل قال يا رب تقبل مني . وسئل أيضاً عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال: أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة، فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر، فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم التنقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم الفكر ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلة. ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتوكل صاحبه، ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش، وسئل أيضاً عن قوله صلى الله عليه وسلم: " التائب حبيب الله " فقال: إنما يكون حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله تعالى: " التائبون العابدون " الآية. وقال: الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه والمقصود أن للتوبة ثمرتين: إحداهما تكفير السيئات حتى يصير كم لا ذنب له. الثانية نيل الدرجات حتى يصير حبيباً. وللتكفير أيضاً درجات: فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية وبعضه تخفيف له، ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة، فالاستغفار بالقلب والتدارك بالحسنات - وإن خلا عن حل عقدة الإصرار. من أوائل الدرجات فليس يخلو عن الفائدة أصلاً، فلا ينبغي أن تظن أن وجودها كعدمها. بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى: " فمن يعمل مثاقل ذرة خيراً يره " صدق وأنه لا تخلو ذرة من الخير عن أثر، كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر، ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات وذلك بالضرورة محال، بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع كفة السيئات، فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللاً بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد وتقول: أي غني يحصل بخيط وما وقع ذلك في الثياب؟ ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطاً وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة ذرة. فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله أصلاً. بل أقول: الاستغفار باللسان أيضاً حسنة إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب. ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي: إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل. فقال: اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير وعوده الذكر ولم يستعمله في الشر ولم يعوده الفضول. وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي. فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذباً، سبق لسانه إلى ما تعود فقال: أستغفر الله. ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول ما أحمقك وما أقبح كذبك! ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادئ الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان: نعوذ بالله، وإذا تعود الفضول قال: لعنه الله، فيعصي في إحدى الكلمتين ويسلم في الأخرى، وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير وهو من جملة معاني قوله تعالى: " إن الله لا يضيع أجر المحسنين " ومعاني قوله تعالى: " وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان، حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول، هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات، وتضعيف الآخرة "أكبر لو كانوا يعلمون " فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات فتفتر رغبتك عن العبادات، فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم أنهم أرباب البصائر وأهل التفطن للخفايا والسرائر، فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب؟ فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاث أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، أما السابق فقال صدقت يا ملعون ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلاً. فلا جرم أعذبك مرتين وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب، فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه، وأما الظالم المغرور: فاستشعر في نفسه خيلاء الفطنة لهذه الدقيقة ثم عجز عن الإخلاص بالقلب مع ذلك تعويد اللسان بالذكر فأسعف الشيطان وتدلى بحبل غروره فتمت بينهما المشاركة والموافقة كما قيل: وافق شن طبقه وافقه فاعتنقه، وأما المقتصد: فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب في العمل وتفطن لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب، ولكن اهتدى إلى كماله بالإضافة إلى السكوت والفضول فاستمر عليه وسأل الله تعالى أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير. فكان السابق كالحائك الذي ذمت حياكته فتركها وأصبح كاتباً. والظالم المتخلف كالذي ترك الحياكة أصلاً وأصبح كناساً، والمقتصد كالذي عجز عن الكتابة فقال: لا أنكر مقدمة الحياكة ولكن الحياكة مذموم بالإضافة إلى الكاتب لا بالإضافة إلى الكناس فإذا عجزت عن الكتابة فلا أترك الحياكة. ولذلك قالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. فلا تظن أنها تذم حركة اللسان من حيث إنه ذكر الله، بل تذم غفلة القلب فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه، فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضاً احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد فهكذا ينبغي أن تفهم ذم ما يذم وحمد ما يحمد وإلا جهلت معنى ما قال القائل الصادق: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن هذه أمور تثبت بالإضافة فلا ينبغي أن تؤخذ من غير إضافة، بل ينبغي أن لا تستحقر ذرات الطاعات والمعاصي. ولذلك قال جعفر الصادق: إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث: رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه، وغضبه في معاصيه فلا تحقروا منها شيئاً فلعل غضبه فيه، وخبأ ولايته في عباده فلا تحقروا منهم أحداً فلعله ولي الله تعالى. وزاد: وخبأ إجابته في دعائه فلا تتركوا الدعاء فربما كانت الإجابة فيه.

[align=center]الركن الرابع
في دواء التوبة
وطريق العلاج لحل عقدة الإصرار [/align]


اعلم أن الناس قسمان: شاب لا صبوة له نشأ على الخير واجتناب الشر وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعجب ربك من شاب ليست له صبوة" وهذا عزيز نادر. والقسم الثاني: هو الذي لا يخلو عن مقارفة الذنوب، ثم هم ينقسمون إلى مصرين وإلى تائبين، وغرضنا أن نبين العلاج في حل عقدة الإصرار ونذكر الدواء فيه. فاعلم أن شفاء التوبة لا يحصل إلا بالدواء ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء فكل داء حصل من سبب فدواؤه ذلك السبب ورفعه وإبطاله. ولا يبطل الشيء لا بضده. ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة ولا يضاد الغفلة إلا العلم ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة والغفلة رأس الخطايا قال الله تعالى: " وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون " فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، كما يجمع السكنجين بين حلاوة السكر وحموضة الخل ويقصد بكل منهما غرض آخر في العلاج بمجموعهما فيقع الأسباب المهيجة للصفراء فهكذا ينبغي أن تفهم علاج القلب مما به من مرض الإصرار، فإن لهذا الدواء أصلان: أحدهما العلم والآخر الصبر ولا بد من بيانهما.
فإن قلت: أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص؟ فاعلم أن العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب ولكن لكل مرض علم يخصه، كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار. فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان ليكون أقرب إلى الفهم فنقول: يحتاج المريض إلى التصديق بأمور: الأول أن يصدق على الجملة بأن للمرضوالصحة أسباباً يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب، وهذا هو الإيمان بأصل الطب فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك. وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع وهو أن للسعادة في الآخرة سبباً هو الطاعة وللشقاوة سبباً هو المعصية وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع، وهذا لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد وكلاهما من جملة الإيمان.
الثاني أنه لا بد من أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبد عنه لا يلبس ولا يكذب، فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان. وزانه مما نحن فيه: العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق ولا كذب فيه ولا خلف الثالث أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له على الاحتماء، ووزانه من الدين: الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى، والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج.
الرابع: أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه وفيما يلزمه في نفسه الاحتماء عنه ليعرفه أولاً تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ومأكوله ومشروبه، فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء ولا ينفعه كل دواء بل لكل علة خاصة علم خاص وعلاج خاص، ووزانه من الدين: أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة وارتكاب ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص أو ذنوب مخصوصة؟ وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب، ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها، ثم العلوم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها، ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها.
فهذه علوم يختض بها أطباء الدين وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فالعاصي إن علم عصيانه فعليه طلب العلاج ومن الطبيب وهو العالم، وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب فعلى العالم أن يعرفه ذلك، وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسأل عنه، بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم ورثة الأنبياء، والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ويطلبون واحداً واحداً فيرشدونهم، فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن الذي ظهر على وجهه برص ولا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره، وهذا فرض عين على العلماء كافة. وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية وفي كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم فإن الخلق لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع. والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم. ومرضى القلوب أكثر من مرضى الأبدان. والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى. فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس.
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل؛ إحداهما: أن المريض به لا يدري أنه مريض.
والثانية: أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه، وما بعد الموت غير مشاهد. وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم فقلت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها، فلذلك تراه يشكل على فضل الله في مرض القلب ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال.
الثالثة: وهو الداء العضال؛ فقد الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً عجزوا عن علاجه، وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم، فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضاً، لأن الداء المهلك هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافاً من أن يقال لهم: فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم؟ فبهذا السبب عم على الخلق الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء، بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذا لم ينصحوا لم يغشوا وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا، وليتهم سكتوا وما نطقوا فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم، ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع، فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلاً أو خائباً أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه. فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين متضادي العلة. أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على الذنوب بالكلية: فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال. وكذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه التي سبقت: يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب. فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلباً للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء. فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلاً.
فإن قلت: فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق؟ فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه. نعم نشير إلى الأنواع النافعة في حمل عقدة الإصرار وحمل الناس على ترك الذنوب وهي أربعة أنواع: الأول: أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين، وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار مثل قوله صلى الله عليه وسلم: " ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا! ويقول الآخر: يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا! فيقول الآخر: يا ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا" وفي بعض الروايات: " ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا! ويقول الآخر: يا ليتهم إذ لم يعلموا بما علموا تابوا مما عملوا " وقال لبعض السلف إذا أذنب العبد أمر صاحب اليمين صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها عليه وإن لم يستغفر كتبها. وقال بعض السلف: ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفاً؛ فيقول الله تعالى للأرض والسماء كفا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاه ولو خلقتماه لرحمتماه ولعله يتوب إلي فأغفر له ولعله يستبدل صالحاً فأبدله له حسنات فذلك معنى قوله تعالى: " إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده " وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله الطابع فيطبع على القلوب بما فيها، وفي حديث مجاهد: القلب مثل الكف المفتوحة كلما أذنب العبد ذنباً انقبضت إصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فيسد على القلب فذلك هو الطبع، وقال الحسن: إن بين العبد وبين الله حداً من المعاصي معلوماً إذا بلغه العبد طبع الله على قلبه فلم يوفقه بعدها لخير.
والأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين لا تحصى فينبغي أن يستكثر الواعظ منها إن كان وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ما خلف ديناراً ولا درهماً إنما خلف العلم والحكمة وورثه كل عالم بقدر ما أصابه النوع الثاني: حكايات الأنبياء والسلف الصالحين وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم فلذلك شديد الوقع ظاهر النفع في قلوب الخلق، مثل أحوال آدم صلى الله عليه وسلم في عصيانه وما لقيه من الإخراج من الجنة، حتى روى أنه لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته، فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل الإكليل عن جبينه، ونودي من فوق العرش: اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني. قال: فالتفت آدم إلى حواء باكياً وقال: هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب. وروى أن سليمان بن داود عليهما السلام لما عوقب على خطيئته لأجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يوماً، وقيل: لأن المرأة سألته أن يحكم لأبيها فقال: نعم، ولم يفعل، وقيل: بل أحب بقلبه أن يكون الحكم لأبيها على خصمه لمكانها منه فسلب ملكه أربعين يوماً فهرب تائهاً على وجهه فكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال أطعموني فإني سليمان بن داود فشج وطرد وضرب. وحكى أنه استطعم من بيت لامرأته فطردته وبصقت في وجهه. وفي رواية: أخرجت عجوز جرة فيها بول فصبته على رأسه إلى أن أخرج الله الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء الأربعين - أيام العقوبة - قال: فجاءت الطيور فعكفت على رأسه وجاءت الجن والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله فاعتذر إليه بعض من كان جنى عليه فقال: لا ألومكم فيما فعلتم من قبل ولا أحمدكم في عذركم الآن إن هذا أمر كان من السماء ولا بد منه. وروي في الإسرائيليات: أن رجلاً تزوج امرأة من بلدة أخرى فأرسل عبده ليحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها، فجاهدها واستعصم، قال: فنبأه الله ببركة تقواه فكان نبياً في بني إسرائيل. وفي قصص موسى عليه السلام أنه قال للخضر عليه السلام: بم أطلعك الله على علم الغيب؟ قال: بتركي المعاصي لأجل الله تعالى. وروي أن الريح كانت تسير بسليمان عليه السلام فنظر إلى قميصه نظرة وكان جديداً فكان أعجبه! قال: فوضعته الريح، فقال: لم فعلت هذا ولم آمرك؟ قالت: إنما نطيعك إذا أطعت الله.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه السلام: أتدري لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف؟ قال: لا، قال: لقولك لأخوته: " أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون " لم خفت عليه الذئب ولم ترجني، ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له؟ وتدري لم رددته عليك؟ قال: لا، قال: لأنك رجوتني وقلت: " عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً " وبما قلت: " اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا " وكذلك لما قال يوسف لصاحب الملك: " اذكرني عند ربك "، قال الله تعالى: " فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ".
وأمثال هذه الحكايات لا تنحصر ولم يرد بها القرآن والأخبار ورود الأسمار، بل الغرض بها الاعتبار والاستبصار لتعلم أن الأنبياء عليهم السلام لم يتجاوز عنهم في الذنوب الصغار فكيف يتجاوز عن غيرهم في الذنوب الكبار؟ نعم كانت سعادتهم في أن عوجلوا بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثماً ولأن عذاب الآخرة أشد وأكبر. فهذا أيضاً مما ينبغي أن يكثر جنسه على أسماع المصرين فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة النوع الثالث: أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته، فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله، فينبغي أن يخوف به فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر، كما حكي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه وقد تسقط منزلته من القلوب ويستولي عليه أعداؤه، قال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" وقال ابن مسعود: إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه؛ وهو معنى قوله عليه السلام: " من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبداً" وقال بعض السلف: ليست اللعنة سواداً في الوجه ونقصاً في المال إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه، وهو كما قال لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد فإذا لم يوفق للخير ويسر له الشر فقد أبعد، والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان، وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب ومن مجالسة الصالحين بل يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون، وحكي عن بعض العارفين أنه كان يمشي في الوحل جامعاً ثيابه محرزاً عن زلقة رجله حتى زلقت رجله وسقط، فقام وهو يمشي في وسط الوحل ويبكي ويقول: هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب أو ذنبين فعندها يخوض في الذنوب خوضاً. وهو إشارة إلى أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار إلى ذنب آخر. ولذلك قال الفضيل: ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك. وقال بعضهم إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري. وقال آخر: أعرف العقوبة حتى في فأر بيتي. وقال بعض صوفية الشام: نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فاستحييت منه فقلت: يا أبا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار! فغمز يدي وقال: لتجدن عقوبتها بعد حين، قال: فعوقبت بها بعد ثلاثين سنة. وقال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة. وقال: لا يفوت أحداً صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه. وفي الخبر: " ما أنكرتم من زمانكم فيما غيرتم من أعمالكم" وفي الخبر " يقول الله تعالى: إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي. وحكي عن أبي عمرو بن علوان - في قصة يطول ذكرها - قال فيها: كنت قائماً ذات يوم أصلى فخامر قلبي هوى طاولته بفكرتي حتى تولد منه شهوة الرجال، فوقعت إلى الأرض واسود جسدي كله فاستترت في البيت فلم أخرج ثلاثة أيام، وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون فلا يزداد إلا سواداً حتى انكشفت بعد ثلاث، فلقيت الجنيد وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة، فلما أتيته قال لي: أما استحييت من الله تعالى كنت قائماً بين يديه فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة وأخرجتك من بين يدي الله تعالى فلولا أني دعوت الله لك وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون، قال فعجبت كيف علم بذلك وهو ببغداد وأنا بالرقة؟ واعلم انه لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان سعيداً أظهر السواد على ظاهره لينزجر، وإن كان شقياً أخفى عنه حتى ينهمك ويستوجب النار. والأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا من الفقر والمرض وغيره. بل من شؤم الذنب في الدنيا على الجملة أن يكسب ما بعده صفته، فإن ابتلي بشيء كان عقوبة له ويحرم جميل الرزق حتى يتضاعف شقاؤه، وإن أصابته نعمة كانت استدراجاً له ويحرم جميل الشكر حتى يعاقب على كفرانه. وأما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة في حقه جزاء على طاعته ويوفق لشكرها وكل بلية كفارة لذنوبه وزيادة في درجاته النوع الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة والقتل والغيبة والكبر والحسد، وكل ذلك مما لا يمكن حصره، وذكره مع غير أهله وضع الدواء في غير موضعه، بل ينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق فيستدل أولاً بالنبض والسحنة ووجود الحركات على العلل الباطنة ويشتغل بعلاجها، فيستدل بقرائن الأحوال على خفايا الصفات وليتعرض لما وقف عليه اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له واحد: أوصني يا رسول الله ولا تكثر علي، قال: " لا تغضب"، وقال له آخر: أوصني يا رسول الله، فقال عليه السلام: " عليك باليأس مما في أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاة مودع، وإياك وما يعتذر منه".
وقال رجل لمحمد بن واسع: أوصني، فقال: أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة، قال: وكيف لي بذلك؟ قال: الزم الزهد في الدنيا. فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم في السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه، وفي السائل الآخر مخايل الطمع في الناس وطول الأمل.
وتخيل محمد بن واسع في السائل مخايل الحرص على الدنيا.
وقال رجل لمعاذ: أوصني، فقال: كن رحيماً أكن لك بالجنة زعيماً. فكأنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة.
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم: أوصني، فقال: إياك والناس وعليك بالناس ولا بد من الناس فإن الناس هم الناس وليس كل الناس بالناس ذهب الناس وبقي النسناس وما أراهم بالناس بل غمسوا في ماء الياس. فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة وأخبر عما كان هو الغالب على حاله في وقته، وكان الغالب أذاه بالناس.
والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل. وكتب معاوية رحمه الله إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه: من عائشة إلى معاوية سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس سخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس" والسلام عليك. فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التي تكون الولاة بصددها. وهي مراعاة الناس وطلب مرضاتهم. وكتبت إليه مرة أخرى: أما بعد، فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً والسلام.
فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن التوعظ فيه تضييع زمان.
فإن قلت: فإن كان الواعظ يتكلم في جمع أو سأله من لا يدرى باطن حاله فكيف يفعل؟ فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق في الحاجة إليه على العموم وإلا على الأكثر، فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية فالأغذية للكافة والأدوية لأرباب العلل.
ومثاله ما روي أن رجلاً قال لأبي سعيد الخدري: أوصني، قال: عليك بتقوى الله عز وجل فإنها رأس كل خير وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء، وعليك بالصمت إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان. وقال رجل للحسن: أوصني، فقال: أعز أمر الله يعزك الله.
وقال لقمان لابنه: يا بني زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك، وخذ من الدنيا بلاغك، وأنفق فضول كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالاً وعلى أعناق الرجال كلاً، وصم صوماً يكسر شهوتك ولا تصم صوماً يضر بصلاتك فإن الصلاة أفضل من الصوم، ولا تجالس السفيه ولا تخالط ذا الوجهين، وقال أيضاً لابنه: يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تمش في غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت، يا بني إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ومن يقل الشر يأثم ومن لا يملك لسانه يندم.
وقال رجل لأبي حازم: أوصني، فقال: كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه وقال موسى للخضر عليهما السلام: أوصني، فقال: كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
وقال رجل لمحمد بن كرام: أوصني، فقال: اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك.
وقال رجل لحامد اللفاف: أوصني، فقال: اجعل لدينك غلافاً كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات، قال: وما غلاف الدين؟ قال: ترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه.
وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى: أما بعد، فخف مما خوفك الله واحذر مما حذرك الله وخذ مما في يديك لما بين يديك، فعند الموت يأتيك الخبر اليقين والسلام.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه فكتب إليه: أما بعد، فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك ولا بد لك من مشاهدة ذلك إما بالنجاة وإما بالعطب، واعلم أن من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن نظر في العواقب نجا ومن أطاع هواه ضل ومن حلم غنم ومن خاف أمن ومن أمن اعتبر ومن اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم ومن فهم علم، فإذا زللت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك.
وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر عبد العزيزرحمه الله: أما بعد، فإن الدنيا دار عقوبة ولها يجمع من لا عقل له وبها يغتر من لا علم عنده فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء.
وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله فأما أولياؤه فغمتهم وأما أعداؤه فغرتهم.
وكتب أيضاً إلى بعض عماله: أما بعد، فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك، واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئاً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك، واعلم أن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين والسلام.
فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته فهذه المواعظ مثل الأغذية التي يشترك الكافة في الانتفاع بها. ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصي واستسرى الفساد، وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعاً وينشدون أبياتاً ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة علمهم ويتشبهون بحال غيرهم فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادراً من القلب ليصل إلى القلب، بل القائل متصلف والمستمع متكلف وكل واحد منهما مدبر ومتخلف.
فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى، وطلب العلماء أول علاج العاصين. فهذا أحد أركان العلاج وأصوله الأصل الثاني الصبر: ووجه الحاجة إليه أن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره، وإنما يتناول ذلك: إما لغفلته عن مضرته، وإما لشدة غلبة شهوته، فله سببان فما ذكرناه هو علاج الغفلة. فيبقى علاج الشهوة - وطريق علاجها قد ذكرناه في كتاب رياضة النفس - وحاصله أن المريض إذا اشتدت ضراوته لمأكول مضر فطريقه أن يستشعر عظم ضرره ثم يغيب ذلك عن عينه فلا يحضره ثم يتسلى عنه بما يقرب منه في صورته ولا يكثر ضرره ثم يصبر بقوة الخوف على الألم الذي يناله في تركه، فلا بد على كل حال من مرارة الصبر فكذلك يعالج الشهوة في المعاصي، كالشاب مثلاً إذا غلبته الشهوة فصار لا يقدر على حفظ عينه ولا حفظ قلبه أو حفظ جوارحه في السعي وراء شهوته فينبغي أن يستشعر ضرر ذنبه بأن يستقري المخلوقات التي جاءت فيه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اشتد خوفه تباعد من الأسباب المهيجة لشهوته، ومهيج الشهوة من خارج. هو حضور المشتهى والنظر إليه. وعلاجه الهرب والعزلة. ومن داخل: تناول لذائذ الأطعمة، وعلاجه الجوع والصوم الدائم. وكل ذلك لا يتم إلا بصبر ولا يصبر إلا عن خوف ولا يخاف إلا عن علم ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد، فأول الأمر حضور مجالس الذكر ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع ثم التفكر فيه لتمام الفهم، وينبعث من تمامه لا محالة خوفه، وإذا قوي الخوف تيسر بمعونته الصبر وانبعثت الدواعي لطلب العلاج، وتوفيق الله وتيسيره من وراء ذلك. فمن أعطى من قلبه حسن الإصغاء واستشعر الخوف فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره الله تعالى لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره الله للعسرى فلا يغني عنه ما اشتغل به من ملاذ الدنيا مهما هلك وتردى. وما على الأنبياء إلا شرح طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى.
فإن قلت: فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب إلا بالصبر عنه والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف، والخوف لا يكون إلا بالعلم والعلم لا يحصل إلا بالتصديق بعظم ضرر الذنوب، والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو الإيمان، فكأن من أصر عليه إلا لأنه غير مؤمن؟ فاعلم أن هذا لا يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان، إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة، ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور.
أحدها أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر، والنفس جبلت متأثرة بالحاضر، فتأثرها بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر.
الثاني: أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة وهي في الحال آخذة بالمخنق وقد قوي ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد والإلف - والعادة طبيعة خامسة - والنزوع عن العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ولذلك قال تعالى: " كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة " وقال عز وجل: " بل تؤثرون الحياة الدنيا " وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وقول صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام: اذهب فانظر إليها، فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها! فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها، فنظر فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها. وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام: اذهب فانظر إليها، فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحداً إلا دخلها، فحفها بالمكاره ثم قال: اذهب فانظر إليها، فنظر إليها فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد" فإذاً كون الشهوة مرهقة في الحال وكون العقاب متأخراً إلى المآل سببان ظاهران في الاسترسال مع حصول أصل الإيمان فليس كل من يشرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذباً بأصل الطب ولا مكذباً بأن ذلك مضر في حقه ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر.
الثالث: أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات بالحسنات، وقد وعد بأن ذلك يجبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف التوبة والتكفير، فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان الرابع: أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجاباً لا يمكن العفو عنها، فهو يذنب وينتظر العفو عنها اتكالاً على فضل الله تعالى. فهذه أسباب أربعة موجبة للإصرار على الذنب مع بقاء أصل الإيمان.
نعم قد يقدم المذنب بسبب خامس يقدح في أصل إيمانه وهو كونه شاكاً في صدق الرسل وهذا هو الكفر، كالذي يحذره الطبيب عن تناول ما يضره في المرض فإن كان المحذر ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب فيكذبه أو يشك فيه فلا يبالي به فهذا هو الكفر.
فإن قلت فما علاج الأسباب الخمسة؟ فأقول هو الفكر، وذلك بأن يقرر على نفسه في السبب الأول وهو تأخر العقاب، أن كل ما هو آت آت وأن غداً للناظرين قريب وأن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله فما يدريه لعل الساعة قريب، والمتأخر إذا وقع صار ناجزاً ويذكر نفسه أنه أبداً في دنياه يتعب في الحال لخوف أمر في الاستقبال، إذا يركب البحار ويقاسي الأسفار لأجل الربح الذي يظن أنه قد يحتاج إليه في ثاني الحال بل لو مرض فأخبره طبيب نصراني بأن شرب الماء البارد يضره ويسوقه إلى الموت وكان الماء البارد ألذ الأشياء عنده تركه، مع أن الموت آلمه لحظة إذا لم يخف ما بعده، ومفارقته للدنيا لا بد منها، فكم نسبة وجوده في الدنيا إلى عدمه أولاً وأبداً؟ فلينظر كيف يبادر إلى ترك ملاذه بقول ذمي لم تقم معجزة على طبه فيقول: كيف يليق بعقلي أن يكون قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات عندي دون قول نصراني يدعي الطب لنفسه بلا معجزة على طبه ولا يشهد له إلا عوام الخلق؟ وكيف يكون عذاب النار عندي أخف من عذاب المرض وكل يوم في الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا؟ وبهذا التفكر بعينه يعالج اللذة الغالبة عليه ويكلف نفسه تركها ويقول: إذا كنت لا أقدر على ترك لذاتي أيام العمر وهي أيام قلائل فكيف أقدر على ذلك أبد الآباد؟ وإذا كنت لا أطيق ألم الصبر فكيف أطيق ألم النار؟ وإذا كنت لا أصبر عن زخارف الدنيا مع كدوراتها وتنغصها وامتزاج صفوها بكدرها فكيف أصبر عن نعيم الآخرة؟ وأما تسويف التوبة فيعالجه بالفكر في أن أكثر صياح أهل النار من التسويف، لأن المسوف يبني الأمر على ما ليس إليه وهو البقاء فلعله لا يبقى وإن بقي فلا يقدر على الترك غدا كما لا يقدر عليه اليوم، فليت شعري هل عجز في الحال إلا لغلبة الشهوة والشهوة ليست تفارقه غداً بل تتضاعف إذ تتأكد بالاعتياد! فليست الشهوة التي أكدها الإنسان بالعادة كالتي لم يؤكدها، وعن هذا هلك المسوفون لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين ولا يظنون أن الأيام متشابهة في أن ترك الشهوات فيها أبداً شاق. وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها، وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف.
وأما المعنى الرابع: وهو انتظار عفو الله، فعلاجه ما سبق وهو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظراً من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة، فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان، وهو مثل من يتوقع النهب من الظلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره، وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل، وقال: أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا يتفرغ إلى داري أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار! فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة! وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله. فمنتظر هذا منتظر أمر ممكن ولكنه في غاية الحماقة والجهل، إذ قد لا يمكن ولا يكون وأما الخامس وهو شك فهذا كفر، وعلاجه الأسباب التي تعرفه صدق الرسل وذلك يطول. ولكن يمكن أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله، فيقال له: ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات هل صدقه ممكن أو تقول أعلم أنه محال كما أعلم استحالة شخص واحد في مكانين في حالة واحدة؟ فإن قال: أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه وكأنه لا وجود لمثل هذا في العقلاء، وإن قال: أنا شاك فيه، فيقال: لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامه في البيت لحظة أنه ولغت فيه حية وألقت سمها فيه وجوزت صدقه فهل تأكله أو تتركه وإن كان ألذ الأطعمة؟ فيقول: أتركه لا محالة لأني أقول إن كذب فلا يفوتني إلا هذا الطعام ، والصبر عنه وإن كان شديداً فهو قريب، وإن صدق فتفوتني الحياة، والموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام وإضاعته شديد. فيقال له: يا سبحان الله كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء بل جميع أصناف العقلاء - ولست أعني بهم جهال العوام بل ذوي الألباب - عن صدق رجل واحد مجهول لعل له غرضاً فيما يقول؟ فليس في العقلاء إلا من صدق باليوم الآخر وأثبت ثواباً وعقاباً وإن اختلفوا في كيفيته، فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد، وإن كذبوا فلا يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة. فلا يبقى له توقف إن كان عاقلاً مع هذا الفكر إذ لا نسبة لمدة العمر إلا أبد الآباد، بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة وقدرنا طائراً يلتقط كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ولم ينقص أبد الآباد شيئاً، فكيف يفتر رأي العاقل في الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلاً لأجل سعادة تبقى أبد الآباد؟ ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعري: قال المنجم والطبيب كلاهمـا لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
لذلك قال علي رضي الله عنه لبعض من قصر عقله عن فهم تحقيق الأمور وكان شاكاً: إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعاً وإلا فقد تخلصت وهلكت! أي العاقل يسلك طريق الأمن في جميع الأحوال.
فإن قلت: هذه الأمور جلية ولكنها ليست تنال إلا بالفكر فما بال القلوب هجرت الفكر فيها واستثقلته؟ وما علاج القلوب لردها إلى الفكر لا سيما من آمن بأصل الشرع وتفصيله؟ فاعلم أن المانع أمران: أحدهما: أن الفكر النافع هو الفكر في عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم، وهذا فكر لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ويتلذذ بالفكر في أمور الدنيا على سبيل التفرج والاستراحة.
والثاني: أن الفكر شغل في الحال مانع من لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات، وما من إنسان إلا وله في كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه واسترقته فصار عقله مسخراً لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته، وصارت لذته في طلب الحيلة فيه أو في مباشرة قضاء الشهوة والفكر يمنعه من ذلك.
أما علاج هذين المانعين: فهو أن يقول لقلبه ما أشد غباوتك في الاحتراز من الفكر في الموت وما بعده تألماً بذكره مع استحقار ألم مواقعته، فكيف تصبر على مقاساته إذا وقع وأنت عاجز عن الصبر على تقدير الموت وما بعده ومتألم به؟ وأما الثاني وهو كون الفكر مفوتاً للذات الدنيا؛ فهو أن يتحقق أن فوات لذات الآخرة أشد وأعظم فإنها لا آخر لها ولا كدورة فيها، ولذات الدنيا سريعة الدثور وهي مشوبة بالمكدرات فما فيها لذة صافية عن كدر. وكيف وفي التوبة عن المعاصي والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى واستراحة بمعرفته وطاعته وطول الأنس به؟ ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة وروح الأنس بمناجاة الله تعالى لكان ذلك كافياً، فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة؟ نعم هذه اللذة لا تكون في ابتداء التوبة ولكنها بعد ما يصبر عليها مدة مديدة وقد صار الخير ديدناً كما كان الشر ديدناً، فالنفس قابلة - ما عودتها تتعود والخير عادة والشر لجاجة فإذن هذه الأفكار هي المهيجة للخوف لقوة الصبر عن اللذات، ومهيج هذه الأفكار وعظ الوعاظ وتنبيهات تقع للقلب بأسباب تتفق لا تدخل في الحصر، فيصير الفكر موافقاً للطبع فيميل القلب إليه، ويعبر عن السبب الذي أوقع الموافقة بين الطبع والفكر الذي هو سبب الخير بالتوفيق، إذ التوفيق هو التأليف بين الإرادة وبين المعنى الذي هو طاعة نافعة في الآخرة، وقد روي في حديث طويل: أنه قام عمار بن ياسر فقال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ماذا بني؟ فقال علي رضي الله عنه: بني على أربع دعائم: على الجفاء والعمى والغفلة والشك، فمن جفا احتقر الحق وجهل بالباطل ومقت العلماء، ومن عمي نسي الذكر، ومن غفل حاد عن الرشد، ومن شك غرته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب. فما ذكرناه بيان لبعض آفات الغفلة عن التفكر وهذا القدر في التوبة كاف، وإذا كان الصبر ركناً من أركان دوام التوبة فلا بد من بيان الصبر فنذكره في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 12, 2006 9:01 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب الصبر والشكر
وهو الكتاب الثاني من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]

الحمد لله أهل الحمد والثناء، المنفرد برداء الكبرياء، المتوحد بصفات المجد والعلاء، المؤيد صفوة الأولياء بقوة الصبر على السراء والضراء والشكر على البلاء والنعماء، والصلاة على محمد سيد الأنبياء وعلى أصحابه سادة الأصفياء وعلى آله قادة البررة الأتقياء صلاة محروسة بالدوام عن الفناء: ومصونة بالتعاقب عن التصرم والانقضاء.

أما بعد: فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكركما وردت به الآثار وشهدت له الأخبار. وهما أيضاً وصفان من أوصاف الله تعالى واسمان من أسمائه الحسنى إذ سمى نفسه صبوراً و شكوراً، فالجهل بحقيقة الصبر والشكر جهل بكلا شطري الإيمان ثم هو غفلة عن وصفين من أوصاف الرحمن ولا سبيل إلى الوصول إلى القرب من الله تعالى إلا بالإيمان، وكيف يتصور سلوك سبيل الإيمان دون معرفة ما به الإيمان ومن به الإيمان؟ والتقاعد عن معرفة الصبر والشكر تقاعد عن معرفة من به الإيمان وعن إدراك ما به الإيمان، فما أحوج كلا الشطرين إلى الإيضاح والبيان. ونحن نوضح كلا الشطرين في كتاب واحد لارتباط أحدهما بالآخر إن شاء الله تعالى.

[align=center]الشطر الأول
في الصبر
[/align]

وفيه بيان فضيلة الصبر، وبيان حده وحقيقته، وبيان كونه نصف الإيمان وبيان اختلاف أساميه باختلاف متعلقاته، وبيان أقسامه بحسب اختلاف القوة والضعف، وبيان مظان الحاجة إلى الصبر، وبيان دواء الصبر وما يستعان به عليه. فهي سبعة فصول تشتمل على جميع مقاصده إن شاء الله تعالى.

[align=center]بيان فضيلة الصبر[/align]

وقد وصف الله تعالى الصابرين بأوصاف وذكر الصبر في القرآن في نيف وسبعين موضعاً، وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له فقال عز من قائل: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " وقال تعالى: " ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " وقال تعالى: " أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " وقال تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر وأنه نصف الصبر قال الله تعالى: " الصوم لي وأنا أجزي به " فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات ووعد الصابرين بأنه معهم فقال تعالى: " واصبروا إن الله مع الصابرين " وعلق النصرة على الصبر فقال تعالى: " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى: " أولئك عليه صلوات من ربهم ورحمة أولئك هم المهتدون " فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين. واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم: " الصبر نصف الإيمان" على ما سيأتي وجه كونه نصفاً وقال صلى الله عليه وسلم: " من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ومن أعطي حظه منهما لم يبال بما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولأن تصبروا على ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ولكني أخاف أن تفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ثم قرأ قوله تعالى: " ما عندكم ينفد وما عنده الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم" الآية، وروى جابر أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: " الصبر والسماحة" وقال أيضاً: " الصبر كنز من كنوز الجنة" وسئل مرة: ما الإيمان؟ فقال: " الصبر" وهذا يشبه قوله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة" معناه معظم الحج عرفة وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس" وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي وأن من أخلاقي أني أنا الصبور.
وفي حديث عطاء عن ابن عباس: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار فقال: " أمؤمنون أنتم " فسكتوا، فقال عمر: نعم يا رسول الله، قال: " وما علامة إيمانكم؟" قالوا: نشكر على الرخاء ونصبر على البلاء ونرضى بالقضاء، فقال صلى الله عليه وسلم: "مؤمنون ورب الكعبة" وقال صلى الله عليه وسلم: " في الصبر على ما تكره خير كثير" وقال المسيح عليه السلام: إنكم لا تدركون ما تحبون إلا بصبركم على ما تكرهون.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لو كان الصبر رجلاً لكان كريماً والله يحب الصابرين" والأخبار في هذا لا تحصى.
وأما الآثار، فقد وجد في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران أحدهما أفضل من الآخر، الصبر في المصيبات حسن وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى. واعلم أن الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر وقال علي كرم الله وجهه: بني الإيمان على أربع دعائم: اليقين والصبر والجهاد والعدل. وقال أيضاً: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا جسد لمن لا رأس له ولا إيمان لمن لا صبر له.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين؛ يعني بالعدلين الصلاة والرحمة، وبالعلاوة ما يحمل فوق العدلين على البعير وأشاربه إلى قوله تعالى: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " وكان حبيب بن أبي حبيب إذا قرأ هذه الآية: " إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب " بكى وقال: واعجباه أعطى وأثنى أي هو المعطي للصبر وهو المثني.
وقال أبو الدرداء: ذروة الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر.
هذا بيان فضيلة الصبر من حيث النقل، وأما من حيث النظر بعين الاعتبار فلا تفهمه إلا بعد فهم حقيقة الصبر ومعناه، إذ معرفة الفضيلة والرتبة معرفة صفة فلا تحصل قبل معرفة الموصوف فلنذكر حقيقته ومعناه وبالله التوفيق.


[align=center]بيان حقيقة الصبر ومعناه[/align]

اعلم أن الصبر مقام من مقامات الدين ومنزل من منازل السالكين، وجميع مقامات الدين إنما تنتظم من ثلاثة أمور. معارف وأحوال وأعمال. فالمعارف هي الأصول وهي تورث الأحوال والأحوال تثمر الأعمال، فالمعارف كالأشجار والأحوال كالأغصان، والأعمال كالثمار. وهذا مطرد في جميع منازل السالكين إلى الله تعالى. واسم الإيمان تارة يختص بالمعارف وتارة يطلق على الكل - كما ذكرناه في اختلاف اسم الإيمان والإسلام في كتاب قواعد العقائد - وكذلك الصبر لا يتم إلا بمعرفة سابقة وبحالة قائمة. فالصبر على التحقيق عبارة عنها والعمل هو كالثمرة يصدر عنها، ولا يعرف هذا إلا بمعرفة كيفية الترتيب بين الملائكة والإنس والبهائم. فإن الصبر خاصية الإنس ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة. أما في البهائم فلنقصانها. وأما في الملائكة فلكمالها.
وبيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات وصارت مسخرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً وأما الملائكة عليهم السلام فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية بدرجة القرب منها ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.
وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم شهوة النكاح، على الترتيب، وليس له قوة الصبر البتة؛ إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما، وليس في الصبي إلا جند الهوى كما في البهائم، ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم فوكل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين؛ أحدهما يهديه، والآخر يقويه، فتميز بمعونة الملكين عن البهائم. واختص بصفتين: إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله، ومعرفة الصالح المتعلقة بالعواقب وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية والتعريف. فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب بل إلى مقتضى شهواتها في الحال فقط، فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ. وأما الدواء النافع مع كونه مضراً في الحال فلا تطلبه ولا تعرفه، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر، فكم من مضر يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه؟ فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع بها في نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه، فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند وتارة يقوي ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد، كما أن نور الهداية أيضاً يختلف في الخلق اختلافاً لا ينحصر.
فلنسم هذه الصفة التي بها فارق الإنسان البهائم في قمع الشهوات وقهرها: باعثاً دينياً، ولنسم مطالبة الشهوات بمقتضياتها: باعث الهوى. وليفهم أن القتال قائم بين باعث الدين وباعث الهوى والحرب بينهما سجال ومعركة هذا القتال قلب العبد. ومدد باعث الدين من الملائكة الناصرين لحزب الله تعالى، ومدد باعث الشهوة من الشياطين الناصرين لأعداء الله تعالى. فالصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة. فإن ثبت حتى قهره واستمر على مخالفة الشهوة فقد نصر حزب الله والتحق بالصابرين، وإن تخاذل وضعف حتى غلبته الشهوة ولم يصبر في دفعها التحق بأتباع الشياطين.
فإن ترك الأفعال المشتهاة عمل يثمره حال يسمى: الصبر، وهو ثبات باعث الدين الذي هو في مقابلة باعث الشهوة. وثبات باعث الدين حال تثمرها المعرفة بعداوة الشهوات ومضاداتها لأسباب السعادات في الدنيا والآخرة. فإذا قوي يقينه - أعني المعرفة التي تسمى إيماناً وهو اليقين بكون الشهوة عدواً قاطعاً لطريق الله تعالى - قوي ثبات باعث الدين، وإذا قوي ثباته تمت الأفعال على خلاف ما تتقاضاه الشهوة، فلا يتم ترك الشهوة إلا بقوة باعث الدين المضاد لباعث الشهوة. وقوة المعرفة والإيمان تقبح مغبة الشهوات وسوء عاقبتها. وهذان الملكان هما المتكفلان بهذين الجندين بإذن الله تعالى وتسخيره إياهما وهما من الكرام الكاتبين وهما الملكان الموكلان بكل شخص من الآدميين. وإذا عرفت أن رتبة الملك الهادي أعلى من رتبة الملك المقوي لم يخف عليك أن جانب اليمين هو أشراف الجانبين من جنبتي الدست، الذي ينبغي أن يكون مسلماً له. فهو إذن صاحب اليمين والآخر صاحب الشمال.
وللعبد طوران في الغفلة والفكر وفي الاسترسال والمجاهدة. فهو بالغفلة معرض عن صاحب اليمين ومسيء إليه فيكتب أعراضه سيئة، وبالفكر مقبل عليه ليستفيد منه الهداية فهو به محسن فيكتب إقباله له حسنة. وكذا بالاسترسال هو معرض عن صاحب اليسار تارك للاستمداد منه فهو به مسيء إليه فيثبت عليه سيئة، وبالمجاهدة مستمد من جنوده فيثبت له به حسنة. وإنما ثبتت هذه الحسنات والسيئات بإثباتهما فلذلك سمياً كراماً كاتبين أما الكرام فلانتفاع العبد بكرمهما ولأن الملائكة كلهم كرام بررة، وأما الكاتبون فإثباتهما الحسنات والسيئات وإنما يكتبان في صحائف مطوية في سر القلب، ومطوية عن سر القلب حتى لا يطلع عليه في هذا العالم، فإنهما وكتبتهما وخطهما وصحائفهما وجملة ما تعلق بهما من جملة عالم الغيب و الملكوت لا من عالم الشهادة، وكل شيء من عالم الملكوت لا تدركه الأبصار في هذا العالم، ثم تنشر هذه الصحائف المطوية عنه مرتين: مرة في القيامة الصغرى ومرة في القيامة الكبرى. وأعني بالقيامة الصغرى حالة الموت، إذ قال صلى الله عليه وسلم: " من مات فقد قامت قيامته" وفي هذه القيامة يكون العبد وحده وعندها يقال: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " وفيها يقال: " كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " أما في القيامة الكبرى الجامعة لكافة الخلائق فلا يكون وحده بل ربما يحاسب على ملأ من الخلق، وفيها يساق المتقون إلى الجنة والمجرمون إلى النار زمراً لا آحاداً، والهول الأول هو هول القيامة الصغرى. ولجميع أهوال القيامة الكبرى نظير في القيامة الصغرى مثل زلزلة الأرض مثلاً فإن أرضك الخاصة بك تزلزل في الموت، فإنك تعلم أن الزلزلة إذا نزلت ببلدة صدق أن يقال قد زلزلت أرضهم وإن لم تزلزل البلاد المحيطة بها، بل لو زلزل مسكن الإنسان وحده فقد حصلت الزلزلة في حقه، لأنه إنما يتضرر عند زلزلة جميع الأرض بزلزلة مسكنه لا بزلزلة مسكن غيره، فحصته من الزلزلة قد توفرت من غير نقصان، واعلم أنك أرضى مخلوق من التراب. وحظك الخاص من التراب بدنك فقط، فأما بدن غيرك فليس بحظك. والأرض التي أنت جالس عليها بالإضافة إلى بدنك ظرف ومكان وإنما تخاف من تزلزله أن يتزلزل بدنك بسببه، وإلا فالهواء أبداً متزلزل وأنت لا تخشاه إذ ليس يتزلزل به بدنك، فحظك من زلزلة الأرض كلها زلزلة بدنك فقط، فهي أرضك وترابك الخاص بك، وعظامك جبال أرضك، ورأسك سماء أرضك، وقلبك شمس أرضك، وسمعك وبصرك وسائر خواصك نجوم سمائك، ومفيض العرق من بدنك بحر أرضك، وشعورك نبات أرضك، وأطرافك أشجار أرضك، وهكذا إلى جميع أجزائك، فإذا انهدم بالموت أركان بدنك فقد زلزلت الأرض زلزالها، فإذا انفصلت العظام من اللحوم فقد حملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة، فإذا رمت العظام فقد نسفت الجبال نسفاً، فإذا أظلم قلبك عند الموت فقد كورت الشمس تكويراً، فإذا بطل سمعك وبصرك وسائر حواسك فقد انكدرت النجوم انكداراً فإذا انشق دماغك فقد انشقت السماء انشقاقاً، فإذا انفجرت من هول الموت عرق جبينك فقد فجرت البحار تفجيراً، فإذا التفت إحدى ساقيك بالأخرى وهما مطيتاك فقد عطلت العشار تعطيلاً، فإذا فارقت الروح الجسد فقد حملت الأرض فمدت حتى ألقت ما فيها وتخلت، ولست أطول بجميع موازنة الأحوال والأهوال ولكني أقول بمجرد الموت تقوم عليك هذه القيامة الصغرى، ولا يفوتك من القيامة الكبرى شيء مما يخصك بل ما يخص غيرك، فإن بقاء الكواكب في حق غيرك ماذا ينفعك وقد انتثرت حواسك التي بها تنتفع بالنظر إلى الكواكب، والأعمى يستوي عند الليل والنهار وكسوف الشمس وانجلاؤها لأنها قد كسفت في حقه دفعة واحدة، وهو حصته منها فالانجلاء بعد ذلك حصة غيره، من انشق رأسه فقد انشقت سماؤه إذ السماء عبارة عما بلى جهة الرأس فمن لا رأس له لا سماء له فمن أين ينفعه بقاء السماء لغيره؟ فهذه هي القيامة الصغرى. والخوف بعد أسفل والهول بعد مؤخر وذلك إذا جاءت الطامة الكبرى وارتفع الخصوص وبطلت السموات والأرض ونسفت الجبال ونمت الأهوال واعلم أن هذه الصغرى وإن طولنا في وصفها فإنا لم نذكر عشير أوصافها وهي بالنسبة إلى القيامة الكبرى كالولادة الصغرى بالنسبة إلى الولادة الكبرى؛ فإن للإنسان ولادتين: إحداهما الخروج من الصلب والترائب إلى مستودع الأرحام فهو في الرحم في قرار مكين إلى قدر معلوم، وله في سلوكه إلى الكمال منازل وأطوار من نطفة وعلقة ومضغة وغيرها إلى أن يخرج من مضيق الرحم إلى فضاء العالم، فنسبة عموم القيامة الكبرى إلى خصوص القيامة الصغرى كنسبة سعة فضاء العالم إلى سعة فضاء الرحم، ونسبة سعة العالم الذي يقدم عليه العبد بالموت إلى سعة فضاء الدنيا كنسبة فضاء الدنيا أيضاً إلى الرحم، بل أوسع وأعظم، فقس الآخرة بالأولى فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. وما النشأة الثانية إلا على قياس النشأة الأولى بل أعداد النشآت ليست محصورة في اثنتين. وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وننشئكم فيما لا تعلمون " فالمقر بالقيامتين مؤمن بعالم الغيب والشهادة وموقن بالملك والملكوت. والمقر بالقيامة الصغرى دون الكبرى ناظر بالعين العوراء إلى أحد العالمين وذلك هو الجهل والضلال والإقتداء بالأعور الدجال.
فما أعظم غفلتك يا مسكين - وكلنا ذلك المسكين - وبين يديك هذه الأهوال فإن كنت لا تؤمن بالقيامة الكبرى بالجهل والضلال أفلا تكفيك دلالة القيامة الصغرى؟ أو ما سمعت قول سيد الأنبياء: " كفى بالموت واعظاً" أو ما سمعت بكربه عليه السلام عند الموت حتى قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم هون على محمد سكرات الموت" أو ما تستحي من استبطائك هجوم الموت اقتداءً برعاع الغافلين الذين لا ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون؟ فيأتيهم المرض نذيراً من الموت فلا ينزجرون ويأتيهم الشيب رسولاً منه فما يعتبرون فيا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون، أفيظنون أنهم في الدنيا خالدون؟ " أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون " أم يحسبون أن الموتى سافروا من عندهم فهم معدومون كلا " وإن كل لما جميع لدينا محضرون "، ولكن " ما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين "، وذلك لأنا " جعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ".
ولنرجع إلى الغرض فإن هذه تلويحات تشير إلى أمور هي أعلى من علوم المعاملة فنقول: ظهر أن الصبر عبارة عن ثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى، وهذه المقاومة من خاصة الآدميين لما وكل بهم من الكرام الكاتبين ولا يكتبان شيئاً عن الصبيان والمجانين، إذ قد ذكرنا أن الحسنة في الإقبال على الاستفادة منهما والسيئة في الإعراض عنهما، وما للصبيان والمجانين سبيل إلى الاستفادة فلا يتصور منهما إقبال وإعراض، وهما لا يكتبان إلا الإقبال والإعراض من القادرين على الإقبال والإعراض، ولعمري إنه قد تظهر مبادئ إشراق نور الهداية عند سن التمييز وتنمو على التدريج إلى سن البلوغ كما يبدو نور الصبح إلى أن يطلع قرص الشمس، ولكنها هداية قاصرة لا ترشد إلى مضار الآخرة بل إلى مضار الدنيا، فلذلك يضرب على ترك الصلاة ناجزاً ولا يعاقب على تركها في الآخرة، ولا يكتب عليه من الصحائف ما ينشر في الآخرة. بل على القيم العدل والولي البر الشفيق إن كان من الأبرار وكان على سمت الكرام الكاتبين البررة الأخيار - أن يكتب على الصبي سيئته وحسنته على صحيفة قلبه، فيكتب عليه بالحفاظ ثم ينشره عليه بالتعريف ثم يعذبه عليه بالضرب. فكل ولي هذا سمته في حق الصبي فقد ورث أخلاق الملائكة، واستعملها في حق الصبي. فينال بها درجة القرب من رب العالمين كما نالته الملائكة فيكون مع النبيين والمقربين والصديقين. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة" وأشار إلى إصبعيه الكريمتين صلى الله عليه وسلم.


[align=center]بيان كون الصبر نصف الإيمان[/align]

اعلم أن الإيمان تارة يختص في إطلاقه بالتصديقات بأصول الدين وتارة يختص بالأعمال الصالحة الصادرة منها وتارة يطلق عليهما جميعاً، وللمعارف أبواب وللأعمال أبواب، ولاشتمال لفظ الإيمان على جميعها كان الإيمان نيفاً وسبعين باباً، واختلاف هذه الإطلاقات ذكرناه في كتاب قواعد العقائد من ربع العبادات. ولكن الصبر نصف الإيمان باعتبارين وعلى مقتضى إطلاقين.
أحدهما: أن يطلق على التصديقات والأعمال جميعاً. فيكون للإيمان ركنان: أحدهما اليقين والآخر الصبر. والمراد باليقين المعارف القطعية الحاصلة بهداية الله تعالى عبده إلى أصول الدين. والمراد بالصبر: العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفه أن المعصية ضارة والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل، فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار، ولهذا جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فقال: " من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر . . " الحديث إلى آخره.
الاعتبار الثاني: أن يطلق على الأحوال المثمرة للأعمال لا على المعارف، وعند ذلك ينقسم جميع ما يلاقيه العبد إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة أو يضره فيهما، وله بالإضافة إلى ما يضره حال الصبر، وبالإضافة إلى ما ينفعه حال الشكر، فيكون الشكر أحد شطري الإيمان بهذا الاعتبار كما أن اليقين أحد الشطرين بالاعتبار الأول.
وبهذا النظر قال ابن مسعود رضي الله عنه: الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر، وقد يرفع أيضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الصبر صبراً عن باعث الهوى بثبات باعث الدين وكان باعث الهوى قسمين، باعث من جهة الشهوة، وباعث من جهة الغضب؛ فالشهوة لطلب اللذيذ والغضب للهرب من المؤلم، وكان الصوم صبراً عن مقتضى الشهوة فقط وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب، قال صلى الله عليه وسلم بهذا الاعتبار: " الصوم نصف الصبر " لأن كمال الصبر بالصبر عن دواعي الشهوة ودواعي الغضب جميعاً، فيكون الصوم بهذا الاعتبار ربع الإيمان، فهكذا ينبغي أن تفهم تقديرات الشرع بحدود الأعمال والأحوال ونسبتها إلى الإيمان: والأصل فيه أن تعرف كثرة أبواب الإيمان فإن اسم الإيمان يطلق على وجوه مختلفة.


[align=center]بيان الأسامي التي تتجدد للصبر
بالإضافة إلى ما عنه الصبر [/align]


اعلم أن الصبر ضربان أحدهما ضرب بدني، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها. وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة إما من العبادات أو من غيرها، وإما بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والمرض العظيم والجراحات الهائلة. وذلك قد يكون محموداً إذا وافق الشرع ولكن المحمود التام هو الضرب الآخر، وهو الصبر النفسي عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى. ثم هذا الضرب إن كان صبراً على شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر. فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر، وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت وضرب الخدود ورشق الجيوب وغيرهما، وإن كان في احتمال الغنى سمي ضبط النفس، وتضاده حالة تسمى البطر، وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً ويضاده التذمر. وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي سعة الصدر ويضاده الضجر والتبرم وضيق الصدر. وإن كان في إخفاء كلام سمي كتمان السر وسمي صاحبه كتوماً. وإن كان عن فضول العيش سمي زاهداً ويضاده الحرص. وإن كان صبراً على قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده الشره فأكثر أخلاق الإيمان داخل في الصبر. ولذلك لما سئل عليه السلام مرة عن الإيمان قال: " هو الصبر " لأنه أكثر أعماله وأعزها كما قال: " الحج عرفة" وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبراً فقال تعالى: " والصابرين في البأساء " أي المصيبة "والضراء " أي الفقر " وحين البأس " أي المحاربة " أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " فإذن هذه أقسام الصبر باختلاف متعلقاتها، ومن يأخذ المعاني من الأسامي يظن أن هذه الأحوال مختلفة في ذواتها وحقائقها من حيث رأى الأسامي مختلفة، والذي يسلك الطريق المستقيم وينظر بنور الله تعالى يلحظ المعاني أولاً فيطلع على حقائقها ثم يلاحظ الأسامي فإنها وضعت دالة على المعاني. فالمعاني هي الأصول والألفاظ هي التوابع. ومن يطلب الأصول من التوابع لا بد وأن يزل. وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى: " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم " فإن الكفار لم يغلطوا فيما غلطوا فيه إلا بمثل هذه الانعكاسات، نسأل الله حسن التوفيق بكرمه ولطفه.

[align=center]بيان أقسام الصبر بحسب اختلاف القوة والضعف[/align]

اعلم أن باعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال: إحداها: أن يقهر داعي الهوى فلا تبقى له قوة المنازعة ويتوصل إليه بدوام الصبر، وعند هذا يقال من صبر ظفر. والواصلون إلى هذه الرتبة هم الأقلون فلا جرم هم الصديقون المقربون "الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " فهؤلاء لازموا الطريق المستقيم واستووا على الصراط القويم واطمأنت نفوسهم على مقتضى باعث الدين، وإياهم ينادي المنادي " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية "
الحالة الثانية: أن تغلب دواعي الهوى وتسقط بالكلية منازعة باعث الدين فيسلم نفسه إلى جند الشياطين، ولا يجاهد ليأسه من المجاهدة، وهؤلاء هم الغافلون وهم الأكثرون، وهم الذين استرقتهم شهواتهم وغلبت عليهم شقوتهم فحكموا أعداء الله في قلوبهم التي هي سر من أسرار الله تعالى وأمر من أمور الله. وإليهم الإشارة بقوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفسٍ هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم، وقيل لمن قصد إرشادهم: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " وهذه الحالة علامتها اليأس والقنوط والغرور بالأماني وهو غاية الحمق كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله" وصاحب هذه الحالة إذا وعظ قال: أنا مشتاق إلى التوبة ولكنها قد تعذرت علي فلست أطمع فيها، أو لم يكن مشتاقاً إلى التوبة ولكن قال: إن الله غفور رحيم كريم فلا حاجة به إلى توبتي. وهذا المسكين قد صار عقله رقيقاً لشهوته، فلا يستعمل عقله إلا في استنباط دقائق الحيل التي بها يتوصل إلى قضاء شهوته. فقد صار عقله في يد شهواته كمسلم أسير في أيدي الكفار فهم يستسخرونه في رعاية الخنازير وحفظ الخمور وحملها. ومحله عند الله تعالى محل من يقهر مسلماً ويسلمه إلى الكفار ويجعله أسيراً عندهم، لأنه بفاحش جنايته يشبه أنه سخر ما كان حقه أن لا يستسخر، وسلط ما حقه أن لا يتسلط عليه، وإنما استحق المسلم أن يكون متسلطاً لما فيه من معرفة الله وباعث الدين وإنما استحق الكافر أن يكون مسلطاً عليه لما فيه من الجهل بالدين وباعث الشياطين وحق المسلم على نفسه أوجب من حق غيره عليه. فمهما سخر المعنى الشريف الذي هو من حزب الله وجند الملائكة للمعنى الخسيس الذي هو من حزب الشياطين المبعدين عن الله تعالى كان كمن أرق مسلماً لكافر، بل هو كمن قصد الملك المنعم عليه فأخذ أعز أولاده وسلمه إلى أبغض أعدائه، فانظر كيف يكون كفرانه لنعمته واستيجابه لنقمته! لأن الهوى أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى. والعقل أعز موجود خلق على وجه الأرض.
الحالة الثالثة: أن يكون الحرب سجالاً بين الجندين فتارة له اليد عليها وتارة لها عليه، وهذا من المجاهدين يعد مثله لا من الظافرين، وأهل هذه الحالة هم الذين: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم " هذا باعتبار القوة والضعف. ويتطرق إليه أيضاً ثلاثة أحوال باعتبار عدد ما يصبر عنه: فإنه إما أن يغلب جميع الشهوات أو لا يغلب شيئاً منها، أو يغلب بعضها دون بعض. وتنزيل قوله تعالى: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً " على من عجز عن بعض الشهوات دون بعض أولى. والتاركون للمجاهدة مع الشهوات مطلقاً يشبهون بالأنعام بل هم أضل سبيلاً، إذ البهيمة لم تخلق لها المعرفة والقدرة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات، وهذا قد خلق ذلك له وعطله فهو الناقص حقاً المدبر يقيناً، ولذلك قيل: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
وينقسم الصبر أيضاً باعتبار اليسر والعسر إلى ما يشق على النفس فلا يمكن الدوام عليه إلا بجهد جهيد وتعب شديد ويسمى ذلك تصبراً، وإلى ما يكون من غير شدة تعب بل يحصل بأدنى تحامل على النفس ويخص ذلك باسم الصبر. وإذا دامت التقوى وقوى التصديق بما في العاقبة من الحسنى تيسر الصبر ولذلك قال تعالى: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى " ومثال هذه القسمة قدرة المصارع على غيره، فإن الرجل القوي يقدر على أن يصرع الضعيف بأدنى حملة وأيسر قوة بحيث لا يلقاه في مصارعته إعياء ولا لغوب ولا تضطرب في نفسه ولا ينبهر. ولا يقوى على أن يصرع الشديد إلا بتعب ومزيد جهد وعرق جبين. فهكذا تكون المصارعة بين باعث الدين وباعث الهوى فإنه على التحقيق صراع بين جنود الملائكة وجنود الشياطين. ومهما أذعنت الشهوات وانقمعت وتسلط باعث الدين واستولى وتيسر الصبر بطول المواظبة أورث ذلك مقام الرضا - كما سيأتي في كتاب الرضا - فالرضا أعلى من الصبر، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير"
وقال بعض العارفين: أهل الصبر على ثلاثة مقامات: أولها ترك الشهوة وهذه درجة التائبين، وثانيها الرضا بالمقدور وهذه درجة الزاهدين، وثالثها المحبة لما يصنع به مولاه وهذه درجة الصديقين.
وسنبين في كتاب المحبة أن مقام المحبة أعلى من الرضا، كما أن مقام الرضا أعلى من مقام الصبر، وكأن هذا الانقسام يجري في صبر خاص وهو الصبر على المصائب والبلايا.
واعلم أن الصبر أيضاً ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ونفل ومكروه ومحرم. فالصبر عن المحظورات فرض. وعلى المكاره نفل، والصبر على الأذى المحظور محظور كمن تقطع يده أو يد ولده وهو يصبر عليه ساكناً، وكمن يقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن إظهار الغيرة ويسكت على ما يجري على أهله فهذا الصبر محرم. والصبر المكروه هو الصبر على أذى يناله بجهة مكروهة في الشرع فليكن الشرع محك الصبر. فكون الصبر نصف الإيمان لا ينبغي أن يخيل إليك أن جميعه محمود بل المراد به أنواع من الصبر مخصوصة.


[align=center]بيان مظان الحاجة إلى الصبر
وأن العبد لا يستغني عنه في حال من الأحوال [/align]


اعلم أن جميع ما يلقى العبد في هذه الحياة لا يخلو من نوعين: أحدهما هو الذي يوافق هواه. والآخر هو الذي لا يوافقه بل يكرهه. وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما وهو في جميع الأحوال لا يخلو عن أحد هذين النوعين أو عن كليهما. فهو إذن لا يستغني قط عن الصبر.
النوع الأول: ما يوافق الهوى: وهو الصحة والسلامة والمال والجاه وكثرة العشيرة واتساع الأسباب وكثرة الأتباع والأنصار وجميع ملاذ الدنيا. وما أحوج العبد إلى الصبر على هذه الأمور فإنه إن لم يضبط نفسه عن الاسترسال والركون إليها والانهماك في ملاذها المباحة منها أخرجه ذلك إلى البطر والطغيان، فإن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى حتى قال بعض العارفين: البلاء يصبر عليه المؤمن، والعوافي لا يصبر عليها إلا صديق. وقال سهل: الصبر على العافية أشد من الصبر على البلاء ولما فتحت أبواب الدنيا على الصحابة رضي الله عنهم قالوا ابتلينا بفتنة الضراء فصبرنا وابتلينا بفتنة السراء فلم نصبر، ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال. والزوج والولد فقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله " وقال عز وجل: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " وقال صلى الله عليه وسلم: " الولد مبخلة مجبنة محزنة" ولما نظر عليه السلام إلى ولده الحسن رضي الله عنه يتعثر في قميصه نزل عن المنبر واحتضنه ثم قال: صدق الله " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " إني لما رأيت ابني يتعثر لم أملك نفسي أن أخذته. ففي ذلك عبرة لأولي الأبصار.
فالرجل كل الرجل من يصبر على العافية، ومعنى الصبر عليها أن لا يركن إليها ويعلم أن كل ذلك مستودع عنده وعسى أن يسترجع على القرب وأن لا يرسل نفسه في الفرح بها ولا ينهمك في التنعيم واللذة واللهو واللعب، وأن يرعى حقوق الله في ماله بالإنفاق وفي بدنه ببذل المعونة للخلق وفي لسانه ببذل الصدق، وكذلك في سائر ما أنعم الله به عليه وهذا الصبر متصل بالشكر فلا يتم إلا بالقيام بحق الشكر - كما سيأتي - وإنما كان الصبر على السراء أشد لأنه مقرون بالقدرة ومن العصمة أن لا تقدر، والصبر على الحجامة والفصد إذا تولاه غيرك أيسر من الصبر على فصدك نفسك وحجامتك نفسك، والجائع عند غيبة الطعام أقدر على الصبر منه إذا حضرته الأطعمة الطيبة اللذيذة وقدر عليها، فلهذا عظمت فتنة السراء.
النوع الثاني: ما لا يوافق الهوى والطبع، وذلك لا يخلو إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي، أو لا يرتبط باختياره كالمصائب والنوائب. أو لا يرتبط باختياره ولكن له اختيار في إزالته كالتشفي من المؤذي بالانتقام منه فهذه ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يرتبط باختياره وهو سائر أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية وهما ضربان: الضرب الأول الطاعة، والعبد يحتاج إلى الصبر عليها، فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية، ولذلك قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهر فرعون من قوله: " أنا ربكم الأعلى " ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استخف قومه فأطاعوه، وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته، وإن كان ممتنعاً من إظهاره فإن استشاطته وغيظه عند تقصيرهم في خدمته واستبعاده ذلك ليس يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء. فإذن العبودية شاقة على النفس مطلقاً. ثم من العبادات ما يكره بسبب الكسل كالصلاة ومنها ما يكره بسبب البخل كالزكاة. ومنها ما يكره بسببهما جميعاً كالحج والجهاد. فالصبر على الطاعة صبر على الشدائد.
ويحتاج المطيع إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال: الأولى قبل الطاعة، وذلك في تصحيح النية والإخلاص والصبر عن شوائب الرياء ودواعي الآفات وعقد العزم على الإخلاص والوفاء. وذلك من الصبر الشديد عند من يعرف حقيقة النية والإخلاص وآفات الرياء ومكايد النفس. وقد نبه عليه صلوات الله عليه إذ قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى"وقال تعالى: " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " ولهذا قدم الله تعالى الصبر على العمل فقال تعالى: " إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ".
الحالة الثانية: حالة العمل، كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه ويدوم على شرط الأدب إلى آخر العمل الأخير فيلازم الصبر عن دواعي الفتور إلى الفراغ، وهذا أيضاً من شدائد الصبر ولعله المراد بقوله تعالى: " نعم أجر العاملين الذين صبروا " أي اصبروا إلى تمام العمل.
الحالة الثالثة: بعد الفرغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للسمعة والرياء والصبر عن النظر إليه بعين العجب وعن كل ما يبطل عمله ويحبط أثره كما قال تعالى: " ولا تبطلوا أعمالكم " وكما قال تعالى: " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " فمن لا يصبر بعد الصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله.
والطاعات تنقسم إلى فرض ونفل وهو محتاج إلى الصبر عليهما جميعاً وقد جمعهما الله تعالى في قوله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى " فالعدل هو الفرض، والإحسان هو النفل، وإيتاء ذي القربى هو المروءة وصلة الرحم. وكل ذلك يحتاج إلى صبر.
الضرب الثاني المعاصي، فما أحوج العبد إلى الصبر عنها، وقد جمع الله تعالى أنواع المعاصي في قوله تعالى: " وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي " وقال صلى الله عليه وسلم: " المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه" والمعاصي مقتضى باعث الهوى.
وأشد أنواع الصبر: الصبر عن المعاصي التي صارت مألوفة بالعادة فإن العادة طيبة خامسة، فإذا انضافت العادة إلى الشهوة تظاهر جندان من جنود الشيطان على جند الله تعالى فلا يقوى باعث الدين على قمعها، ثم إن كان ذلك الفعل مما تيسر فعله كان الصبر عنه أثقل على النفس، كالصبر عن معاصي اللسان من الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضاً وتصريحاً، وأنواع المزح المؤذي للقلوب وضروب الكلمات التي يقصد بها الإزراء والاستحقار وذكر الموتى والقدح فيهم وفي علومهم وسيرهم ومناصبهم؛ فإن ذلك في ظاهره غيبة وفي باطنه ثناء على النفس، فللنفس فيه شهوتان: إحداهما نفي الغير والأخرى إثبات نفسه. وبها تتم له الربوبية التي هي في طبعه، وهي ضد ما أمر به من العبودية. ولاجتماع الشهوتين وتيسر تحريك اللسان ومصير ذلك معتاداً في المحاورات يعسر الصبر عنها، وهي أكبر الموبقات حتى بطل استنكارها واستقباحها من القلوب لكثرة تكريرها وعموم الأنس بها، فترى الإنسان يلبس حريراً مثلاً فيستبعد غاية الاستبعاد ويطلق لسانه طول النهار في أعراض الناس ولا يستنكر ذلك مع ما ورد في الخبر من أن الغيبة أشد الزناومن لم يملك لسانه في المحاورات ولم يقدر على الصبر عن ذلك فيجب عليه العزلة والانفراد فلا ينجيه غيره، فالصبر على الانفراد أهون من الصبر على السكوت مع المخالطة.وتختلف شدة الصبر في آحاد المعاصي باختلاف داعية تلك المعصية في قوتها وضعفها، وأيسر من حركة اللسان حركة الخواطر باختلاف الوساوس، فلا جرم يبقى حديث النفس في العزلة ولا يمكن الصبر عنه أصلاً إلا بأن يغلب على القلب هم آخر في الدين يستغرقه، كمن أصبح وهمومه هم واحد، وإلا فإن لم يستعمل الفكر في شيء معين لم يتصور فتور الوسواس عنه.
القسم الثاني: ما لا يرتبط هجومه باختياره في دفعه، كما لو أوذي بفعل أو قول وجني عليه في نفسه أو ماله فالصبر على ذلك بترك المكافأة تارة يكون واجباً وتارة يكون فضيلة. قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم: ما كنا نعد إيمان الرجل إيماناً إذا لم يصبر على الأذى. وقال تعالى: " ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون " وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مالاً، فقالت بعض الأعراب من المسلمين: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمرت وجنتاه ثم قال: " يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وقال تعالى: " ودع أذاهم وتوكل على الله " وقال تعالى: " واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً " وقال تعالى: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك " الآية. وقال تعالى: " ولتسمعن من الذي أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذي أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " أي تصبروا عن المكافأة. ولذلك مدح الله تعالى العافين عن حقوقهم في القصاص وغيره فقال تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير الصابرين " وقال صلى الله عليه وسلم: " صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك" ورأيت في الإنجيل: قال عيسى بن مريم عليه السلام: لقد قيل لكم من قبل إن السن بالسن والأنف بالأنف، وأنا أقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من ضرب خدك الأيمن فحول إليه الخد الأيسر ومن أخذ رداءك فأعطه إزارك ومن سخرك لتسير معه ميلاً فسر معه ميلين. وكل ذلك أمر بالصبر على الأذى. فالصبر على أذى الناس من أعلى مراتب الصبر لأنه يتعاون فيه باعث الدين وباعث الشهوة والغضب جميعاً.
القسم الثالث: ما لا يدخل تحت حصر الاختيار أوله وآخره؛ كالمصائب: مثل موت الأعزة وهلاك الأموال وزوال الصحة بالمرض وعمى العين وفساد الأعضاء. وبالجملة سائر أنواع البلاء، فالصبر على ذلك من أعلى مقامات الصبر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه؛ صبر على أداء فرائض الله تعالى فله ثلثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى فله ستمائة درجة، وصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى فله تسعمائة درجة. وإنما فضلت هذه الرتبة مع أنها من الفضائل على ما قبلها وهي من الفرائض لأن كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم.
فأما الصبر على بلاء الله تعالى فلا يقدر عليه إلا الأنبياء لأنه بضاعة الصديقين فإن ذلك شديد على النفس. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أسألك من اليقين ما تهون علي به مصائب الدنيا" فهذا صبر مستنده حسن اليقين.
وقال أبو سليمان: والله ما نصبر على ما نحب فكيف نصبر على ما نكره؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله وولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً"، وقال صلى الله عليه وسلم: " انتظار الفرج بالصبر عبادة" وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد مؤمن أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله تعالى " إنا لله وإنا إليه راجعون " اللهم اؤجرني بمصيبتي وأعقبني خيراً منها إلا فعل الله به ذلك".
وقال أنس: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل قال: يا جبريل ما جزاء من سلبت كريمتيه؟ قال: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، قال الله تعالى: جزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي".
وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل إذا ابتليت عبدي ببلاءٍ فصبر ولم يشكني إلى عواده أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خير من دمه فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له وإن توفيته فإلى رحمتي".
وقال داود عليه السلام: يا رب ما جزاء الحزين الذي يصبر على المصائب ابتغاء مرضاتك؟ قال: جزاؤه أن ألبسه لباس الإيمان فلا أنزعه عنه أبداً.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه وعوضه منها الصبر إلا كان ما عوضه منها أفضل مما انتزع، وقرأ " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ".
وسئل الفضيل عن الصبر فقال: هو الرضا بقضاء الله، قيل: وكيف ذلك؟ قال: الراضي لا يتمنى فوق منزلته.
وقيل حبس الشبلي رحمه الله في المارستان فدخل عليه جماعة فقال: من أنتم؟ قالوا: أحباؤك جاؤوك زائرين، فأخذ يرميهم بالحجارة فأخذوا يهربون فقال: لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي.
وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة ويطالعها وكان فيها " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ".
ويقال إن امرأة فتح الموصلي عثرت فانقطع ظفرها فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
وقال داود لسليمان عليهما السلام: يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات.
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: " من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك".
ويروى عن بعض الصالحين أنه خرج يوماً وفي كمه صرة فافتقدها فإذا هي قد أخذت من كمه فقال: بارك الله له فيها لعله أحوج إليها مني.
وروي عن بعضهم أنه قال: مررت على سالم مولى أبي حذيفة في القتلى وبه رمق فقلت له: أسقيك ماء؟ فقال: جرني قليلاً إلى العدو واجعل الماء في الترس فإني صائم فإن عشت إلى الليل شربته.
فهكذا كان صبر سالكي طريق الآخرة على بلاء الله تعالى.
فإن قلت: فبماذا تنال درجة الصبر في المصائب وليس الأمر إلى اختياره، فهو مضطر شاء أم أبى، فإن كان المراد به أن لا تكون في نفسه كراهية المصيبة فذلك غير داخل في اختيار؟ فاعلم أنه إنما يخرج عن مقام الصابرين بالجزع وشق الجيوب وضرب الخدود والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم. وهذه الأمور داخلة تحت اختياره فينبغي أن يجتنب جميعها ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ويبقى مستمراً على عادته، ويعتقد أن ذلك كان وديعة فاسترجعت. كما روي عن الرميصاء أم سليم رحمها الله، أنها قالت: توفي ابن لي وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت فقدم أبو طلحة فقمت فهيأت له إفطاره فجعل يأكل، فقال: كيف الصبي؟ قلت: بأحسن حال بحمد الله ومنه فإنه لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة، ثم تصنعت له أحسن ما كنت أتصنع له قبل ذلك حتى أصاب مني حاجته، ثم قلت: ألا تعجب من جيراننا! قال: ما لهم؟ قلت: أعيروا عارية فلما طلبت منهم واسترجعت جزعوا، فقال: بئس ما صنعوا! فقلت: هذا ابنك كان عارية من الله تعالى وإن الله قد قبضه إليه، فحمد الله واسترجع ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: " اللهم بارك لهما في ليلتهما" قال الراوي: فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة أفراد كلهم قد قرؤوا القرآن.
وروى جابر أنه عليه السلام قال: " رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة ".
وقد قيل: الصبر الجميل هو الذي لا يعرف صاحب المصيبة غيره، ولا يخرجه عن حد الصابرين توجع القلب ولا فيضان العين بالدمع، إذ يكون من جميع الحاضرين لأجل الموت سواء، ولأن البكاء توجع القلب على الميت فإن ذلك مقتضى البشرية ولا يفارق الإنسان إلى الموت ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه فقيل له: أما نهيتنا عن هذا؟ فقال: " إن هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحما" بل ذلك أيضاً لا يخرج عن مقام الرضا، فالمقدم على الحجامة والفصد راض به وهو متألم بسببه لا محالة وقد تفيض عيناه إذا عظم ألمه - وسيأتي ذلك في كتاب الرضا إن شاء الله تعالى -.
وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء: إن أحق من عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده فيما أبقاه له، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك والباقي بعدك هو المأجور فيك. واعلم أن أجر الصابرين به فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه
فإذن مهما دفع الكراهة بالتفكر في نعمة الله تعالى عليه بالثواب نال درجة الصابرين. نعم من كمال الصبر كتمان المرض والفقر وسائر المصائب. وقد قيل: من كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقة. فقد ظهر لك بهذه التقسيمات أن وجوب الصبر عام في جميع الأحوال والأفعال، فإن الذي كفى الشهوات كلها واعتزل وحده لا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهراً، وعن الصبر عن وساوس الشيطان باطناً. فإن اختلاج الخواطر لا يسكن. وأكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر، فهو كيفما كان تضييع زمان. وآلة العبد قلبه وبضاعته عمره فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنساً بالله تعالى أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى فهو مغبون، هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصوراً عليه، ولا يكون ذلك غالباً، بل يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات، إذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره، أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه، بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده، ويتوهم مخالفتهم له ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته، ولا يزال في شغل دائم، فللشيطان جندان: جند يطير وجند يسير، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار، وهذا لأن الشيطان خلق من النار وخلق الإنسان من صلصال كالفخار، والفخار قد اجتمع فيه مع النار طين، والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة، فلا يتصور نار مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها. وقد كلف الملعون المخلوق من النار أن يطمئن عن حركته ساجداً لما خلق الله من الطين فأبى واستكبر واستعصى وعبر عن سبب استعصائه بأن قال: " خلقتني من نار وخلقته من طين ".
فإذن حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده. ومهما كف عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه. وانقياده بالإذعان سجود منه - فهو روح السجود - وإنما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالة عليه بالاصطلاح. ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصور ذلك، كما أن الانبطاح بين يدي المعظم المحترم يرى استخفافاً بالعادة، فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر وقالب الروح عن الروح وقشر اللب عن اللب! فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب وتحقق أن الشيطان من المنظرين فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد، فتشغل قلبك بالله وحده فلا يجد الملعون مجالاً فيك، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين
ولا تظنن أنه يخلو عنه فقلب فارغ بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم، وسيلانه مثل الهواء في القدح فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة، فكذلك القلب المشغول بفكر مهم في الدين لا يخلو عن جولان الشيطان، وإلا فمن غفل عن الله تعالى ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان. ولذلك قال تعالى: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين " وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ" وهذا لأن الشاب إذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغاً ولم يبق قلبه فارغاً، بل يعشش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ، ثم تزدوج أفراخه أيضاً وتبيض مرة أخرى وتفرخ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالداً أسرع من توالد سائر الحيوانات لأن طبعه من النار، وإذا وجد الحلفاء اليابسة كثر توالده، فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة بل تسري شيئاً فشيئاً على الاتصال. فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار. وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة، فإذن إذا تأملت علمت أن أعدى عدوك شهوتك وهي صفة نفسك. ولذلك قال الحسين بن منصور الحلاج - حين كان يصلب - وقد سئل عن التصوف ما هو؟ فقال: هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك.
فإذن حقيقة الصبر وكماله: الصبر عن كل حركة مذمومة، وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك، وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت. نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه.


[align=center]بيان دواء الصبر وما يستعان به عليه[/align]

اعلم أن الذي أنزل الداء وعد الشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً أو ممتنعاً فتحصيله ممكن بمعجون العلم والعمل. فالعلم والعمل هما الأخلاط التي منها تركب الأدوية لأمراض القلوب كلها، ولكن يحتاج كل مرض إلى علم آخر وعمل آخر، وكما أن أقسام الصبر مختلفة فأقسام العلل المانعة منه مختلفة. وإذا اختلفت العلل اختلف العلاج إذ معنى العلاج مضادة العلة وقمعها. واستيفاء ذلك مما يطول ولكنا نعرف الطريق في بعض الأمثلة.
فنقول: إذا افتقر إلى الصبر عن شهوة الوقاع مثلاً وقد غلبت عليه الشهوة بحيث ليس يملك معها فرجه، أو يملك فرجه ولكن ليس يملك عينه، أو يملك عينه ولكن ليس يملك قلبه ونفسه إذ لا تزال تحدثه بمقتضيات الشهوات ويصرفه ذلك عن المواظبة على الذكر والفكر والأعمال الصالحة، فنقول: قد قدمنا أن الصبر عبارة عن مصارعة باعث الدين مع باعث الهوى، وكل متصارعين أردنا أن يغلب أحدهما الآخر فلا طريق لنا فيه إلا تقوية من أردنا أن تكون له اليد العليا وتضعيف الآخر، فلزمنا ههنا تقوية باعث الدين وتضعيف باعث الشهوة.
فأما باعث الشهوة فسبيل تضعيفه ثلاثة أمور: أحدها أن ننظر إلى مادة قوتها وهي الأغذية الطيبة المحركة للشهوة - من حيث نوعها ومن حيث كثرتها - فلا بد من قطعها بالصوم الدائم مع الاقتصاد عند الإفطار على طعام قليل في نفسه ضعيف في جنسه، فيحترز عن اللحم والأطعمة المهيجة للشهوة.
الثاني: قطع أسبابه المهيجة في الحال فإنه إنما يهيج بالنظر إلى مظان الشهوة، إذ النظر يحرك القلب والقلب يحرك الشهوة، وهذا يحصل بالعزلة والاحتراز ووقوع البصر على الصور المشتهاة والفرار منها بالكلية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " النظرة سهم من سهام إبليس" وهو سهم يسدده الملعون ولا ترس يمنع منه إلا تغميض الأجفان أو الهرب من صوب رميه، فإنه إنما يرمي هذا السهم عن قوس الصور فإذا انقلبت عن صواب الصور لم يصبك سهمه.
الثالث: تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي تشتهيه وذلك بالنكاح، فإن كل ما يشتهيه الطبع ففي المباحات من جنسه ما يغني عن المحظورات منه: وهذا هو العلاج الأنفع في حق الأكثر، فإن قطع الغذاء يضعف عن سائر الأعمال، ثم قد لا يقمع الشهوة في حق أكثر الرجال ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء"
فهذه ثلاثة أسباب، فالعلاج الأول وهو قطع الطعام: يضاهي قطع العلف عن البهيمة الجموح وعن الكلب الضاري ليضعف من فتسقط قوته. الثاني: يضاهي تغييب اللحم عن الكلب وتغييب الشعير عن البهيمة حتى لا تتحرك بواطنها بسبب مشاهدتها. والثالث: يضاهي تسليتها بشيء قليل مما يميل إليه طبعها حتى يبقى معها من القوة ما تصبر به على التأديب.
وأما تقوية باعث الدين فإنما تكون بطريقين: أحدهما: إطماعه في فوائد المجاهدة وثمراتها في الدين والدنيا، وذلك بأن يكثر فكره في الأخبار التي أوردناها في فضل الصبر وفي حسن عواقبه في الدنيا والآخرة - وفي الأثر - إن ثواب الصبر على المصيبة أكثر مما فات وإن بسبب ذلك مغبوط بالمصيبة، إذ فاته ما لا يبقى معه إلا مدة الحياة وحصل له ما يبقى بعد موته أبد الدهر. ومن أسلم خسيساً في نفيس فلا ينبغي أن يحزن لفوات الخسيس في الحال. وهذا من باب المعارف وهو من الإيمان فتارة يضعف وتارة يقوى. فإن قوي قوى باعث الدين وهيجه تهييجاً شديداً وإن ضعف ضعفه. وإنما قوة الإيمان يعبر عنها باليقين وهو المحرك لعزيمة الصبر، وأقل ما أوتي الناس اليقين وعزيمة الصبر.
والثاني: أن يعود هذا الباعث مصارعة باعث الهوى تدريجاً قليلاً قليلاً حتى يدرك لذة الظفر بها فيستجري عليها وتقوى منته في مصارعتها، فإن الاعتياد والممارسة للأعمال الشاقة تؤكد القوى التي تصدر منها تلك الأعمال، ولذلك تزيد قوة الحمالين والفلاحين والمقاتلين. وبالجملة فقوة الممارسين للأعمال الشاقة تزيد على قوة الخياطين والعطارين والفقهاء والصالحين، وذلك لأن قواهم لم تتأكد بالممارسة.
فالعلاج الأول: يضاهي إطماع المصارع بالخلعة عند الغلبة ووعده بأنواع الكرامة كما وعد فرعون سحرته عند إغرائه إياهم بموسى حيث قال: " وإنكم إذاً لمن المقربين ".
والثاني: يضاهي تعويد الصبي الذي يراد منه المصارعة والمقاتلة بمباشرة أسباب ذلك منذ الصبا حتى يأنس به ويستجرئ عليه وتقوى فيه منته. فمن ترك بالكلية المجاهدة بالصبر ضعف فيه باعث الدين ولا يقوى على الشهوة وإن ضعفت، ومن عود نفسه مخالفة الهوى غلبها مهما أراد.
فهذا منهاج العلاج في جميع أنواع الصبر ولا يمكن استيفاؤه، وإنما أشدها كف الباطن عن حديث النفس، وإنما يشتد ذلك على من تفرغ له بأن قمع الشهوات الظاهرة وآثر العزلة وجلس المراقبة والذكر والفكر، فإن الوسواس لا يزال يجاذبه من جانب إلى جانب. وهذا لا علاج له البتة إلا قطع العلائق كلها ظاهراً وباطناً بالفرار عن الأهل والولد والمال والجاه والرفقاء والأصدقاء، ثم الاعتزال إلى زاوية بعد إحراز قدر يسير من القدر وبعد القناعة به، ثم كل ذلك لا يكفي ما لم تصر الهموم هماً واحداً وهو الله تعالى. ثم إذا غلب ذلك على القلب فلا يكفي ذلك ما لم يكن له مجال في الفكر وسير بالباطن في ملكوت السموات والأرض وعجائب صنع الله تعالى وسائر أبواب معرفة الله تعالى، حتى إذا استولى ذلك على قلبه دفع اشتغاله بذلك مجاذبة الشيطان ووسواسه وإن لم يكن له سير بالباطن فلا ينجيه إلا الأوراد المتواصلة المترتبة في كل لحظة: من القراءة والأذكار والصلوات، ويحتاج مع ذلك إلى تكليف القلب الحضور فإن الفكر بالباطن هو الذي يستغرق القلب دون الأوراد الظاهرة، ثم إذا فعل ذلك كله لم يسلم له من الأوقات إلا بعضها، إذ لا يخلو في جميع أوقاته عن حوادث تتجدد فتشغله عن الفكر والذكر من مرض وخوف وإيذاء من إنسان وطغيان من مخالط، إذ لا يستغني عن مخالطة من يعينه في بعض أسباب المعيشة. فهذا أحد الأنواع الشاغلة وأما النوع الثاني: فهو ضروري أشد ضرورة من الأول وهو اشتغاله بالمطعم والملبس وأسباب المعاش، فإن تهيئة ذلك أيضاً تحوج إلى شغل إن تولاه بنفسه، وإن تولاه غيره فلا يخلو عن شغل قلب بمن يتولاه، ولكن بعد قطع العلائق كلها يسلم له أكثر الأوقات إن لم تهجم به ملمة أو واقعة، وفي تلك الأوقات يصفو القلب ويتيسر له الفكر، وينكشف فيه من أسرار الله تعالى في ملكوت السموات والأرض ما لا يقدر على عشر عشيره في زمان طويل لو كان مشغول القلب بالعلائق، والانتهاء إلى هذا هو أقصى المقامات التي يمكن أن تنال بالاكتساب والجهد فأما مقادير ما ينكشف مبالغ ما يرد من لطف الله تعالى في الأحوال والأعمال فذلك يجري مجرى الصيد وهو بحسب الرزق. فقد يقل الجهد ويجل الصيد وقد يطول الجهد ويقل الحظ. والمعول وراء هذا الاجتهاد على جذبة من جذبات الرحمن فإنها توازي أعمال الثقلين وليس ذلك باختيار العبد. نعم اختيار العبد في أن يتعرض لتلك الجذبة بأن يقطع عن قلبه جواذب الدنيا، فإن المجذوب إلى أسفل سافلين لا ينجذب إلى أعلى عليين، وكل مهموم بالدنيا فهو منجذب إليها، فقطع العلائق الجاذبة هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " وذلك لأن تلك النفحات والجذبات لها أسباب سماوية إذ قال الله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " وهذا من أعلى أنواع الرزق. والأمور السماوية غائبة عنا فلا ندري متي ييسر الله تعالى أسباب الرزق. فما علينا إلا تفريغ المحل والانتظار لنزول الرحمة وبلوغ الكتاب أجله كالذي يصلح الأرض وينقيها من الحشيش ويبث البذر فيها، وكل ذلك لا ينفعه إلا بمطر ولا يدري متى يقدر الله أسباب المطر، إلا أنه يثق بفضل الله تعالى ورحمته أنه لا يخلي سنة عن مطر، فكذلك فلما تجلو سنة وشهر ويوم عن جذبة من الجذبات ونفحة من النفحات، فينبغي أن يكون العبد قد طهر القلب عن حشيش الشهوات وبذر فيه بذر الإرادة والإخلاص وعرضه لمهاب رياح الرحمة، وكما يقوى انتظار الأمطار في أوقات الربيع وعند ظهور الغيم فيقوى انتظار تلك النفحات في الأوقات الشريفة وعند اجتماع الهمم وتساعد القلوب كما في يوم عرفة ويوم الجمعة وأيام رمضان، فإن الهمم والأنفاس أسباب. بحكم تقدير الله تعالى لاستدرار رحمته حتى تستدر بها الأمطار في أوقات الاستسقاء، وهي لاستدرار أمطار المكاشفات ولطائف المعارف من خزائن الملكوت أشد مناسبة منها لاستدرار قطرات الماء واستجرار الغيوم من أقطار الجبال والبحار، بل الأحوال والمكاشفات حاضرة معك في قلبك، وإنما أنت مشغول عنها بعلائقك وشهواتك فصار ذلك حجاباً بينك وبينها، فلا تحتاج إلا إلى أن تنكسر الشهوة ويرفع الحجاب فتشرق أنوار المعارف من باطن القلب. وإظهار ماء الأرض بحفر القنى أسهل وأقرب من الاسترسال إليها من مكان بعيد منخفض عنها. ولكونه حاضراً في القلب ومنسياً بالشغل عنه سمى الله تعالى جميع معارف الإيمان تذكراً، فقال تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وقال تعالى: "وليتذكر أولو الألباب " وقال تعالى: " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " فهذا هو علاج الصبر عن الوساوس والشواغل وهو آخر درجات الصبر وإنما الصبر عن العلائق كلها مقدم على الصبر عن الخواطر.
قال الجنيد رحمه الله: السير من الدنيا إلى الآخرة سهل على المؤمن وهجران الخلق في حب الحق شديد، والسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد والصبر مع الله أشد فذكر شدة الصبر عن شواغل القلب ثم شدة هجران الخلق.
وأشد العلائق على النفس علاقة الخلق وحب الجاه. فإن لذة الرياسة والغلبة والاستعلاء والاستتباع أغلب اللذات في الدنيا على نفوس العقلاء. وكيف لا تكون أغلب اللذات ومطلوبها صفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية؟ والربوبية محبوبة ومطلوبة بالطبع للقلب لما فيه من المناسبة لأمور الربوبية، وعنه العبارة بقوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي " وليس القلب مذموماً على حبه ذلك وإنما هو مذموم على غلط وقع له بسبب تغرير الشيطان اللعين المبعد عن عالم الأمر إذ حسده على كونه من عالم الأمر. فأضله وأغواه، وكيف يكون مذموماً عليه وهو يطلب سعادة الآخرة؟ فليس يطلب إلا بقاء لا فناء فيه. وعزاً لا ذل فيه وأمناً لا خوف فيه وغنى ولا فقر فيه وكمالاً لا نقصان فيه؟ وهذه كلها من أوصاف الربوبية. وليس مذموماً على طلب ذلك، بل حق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له. وطالب الملك طالب للعلو والعز والكمال لا محالة. ولكن الملك ملكان: ملك مشوب بأنواع الآلام وملحوق بسرعة الانصرام ولكنه عاجل وهو في الدنيا، وملك مخلد دائم لا يشوبه كدر ولا ألم ولا يقطعه قاطع ولكنه آجل وقد خلق الإنسان عجولاً راغباً في العجلة فجاء الشيطان وتوسل إليه بواسطة العجلة - التي في طبعه - فاستغواه بالعاجلة وزين له الحاضرة، وتوسل إليه بواسطة الحمق فوعده بالغرور في الآخرة ومناه مع ملك الدنيا وملك الآخرة كما قال صلى الله عليه وسلم: "والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " فانخدع المخذول بغروره واشتغل بطلب عز الدنيا وملكها على قدر إمكانه. ولم يتدل الموفق بحبل غروره إذ علم مداخل مكره فأعرض عن العاجلة. فعبر عن المخذولين بقوله تعالى: " كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة " وقال تعالى: " إن هؤلاء يحبون العاجله ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً " وقال تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ".
ولما استطار مكر الشيطان في كافة الخلق أرسل الله الملائكة إلى الرسل وأوحوا إليهم ما تم على الخلق من إهلاك العدو وإغوائه، فاشتغلوا بدعوة الخلق إلى الملك الحقيقي عن الملك المجازى الذي لا أصل له إن سلم ولا دوام له أصلاً فنادوا فيهم: " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ".
فالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وصحف موسى وإبراهيم وكل كتاب منزل ما أنزل إلا لدعوة الخلق إلى الملك الدائم المخلد، والمراد منهم أن يكونوا ملوكاً في الدنيا ملوكاً في الآخرة، أما ملك الدنيا: فالزهد فيها والقناعة باليسير منها. وأما ملك الآخرة: فبالقرب من الله تعالى يدرك بقاء لا فناء فيه وعزاً لا ذل فيه وقرة عين أخفيت في هذا العالم لا تعلمها نفس من النفوس.
والشيطان يدعوهم إلى ملك الدنيا لعلمه بأن ملك الآخرة يفوت به إذ الدنيا والآخرة ضرتان، ولعلمه بأن الدنيا لا تسلم له أيضاً ولو كانت تسلم له لكان يحسده أيضاً، ولكن ملك الدنيا لا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات وكذا سائر أسباب الجاه، ثم مهما تسلم وتتم الأسباب ينقضي العمر " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس " فضرب الله تعالى لها مثلاً فقال تعالى: "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح " والزهد في الدنيا لما أن كان ملكاً حاضراً حسده الشيطان عليه فصده عنه
ومعنى الزهد أن يملك العبد شهوته وغضبه فينقادان لباعث الدين وإشارة الإيمان، وهذا ملك بالاستحقاق إذ به يصير صاحبه حراً، وباستيلاء الشهوة عليه يصير عبداً لفرجه وبطنه وسائر أغراضه، فيكون مسخراً مثل البهيمة مملوكاً يستجره زمام الشهوة آخذاً بمختنقه إلى حيث يريد ويهوى. فما أعظم اغترار الإنسان إذ ظن أنه ينال الملك بأنه يصير مملوكاً! وينال الربوبية بأن يصير عبداً! ومثل هذا هل يكون إلا معكوساً في الدنيا منكوساً في الآخرة؟ ولهذا قال بعض الملوك لبعض الزهاد: هل من حاجة؟ قال: كيف أطلب منك حاجة وملكي أعظم من ملكك؟ فقال: كيف؟ قال: من أنت عبده فهو عبد لي! فقال: كيف ذلك؟ قال: أنت عبد شهوتك وغضبك وفرجك وبطنك، وقد ملكت هؤلاء كلهم فهم عبيد لي. فهذا إذن هو الملك في الدنيا وهو الذي يسوق إلى الملك في الآخرة. فالمخدوعون بغرور الشيطان خسروا الدنيا والآخرة جميعاً، والذين وفقوا للاشتداد على الصراط المستقيم فازوا بالدنيا والآخرة جميعاً.
فإذا عرفت الآن معنى الملك والربوبية ومعنى التسخير والعبودية ومدخل الغلط في ذلك وكيفية تعمية الشيطان وتلبيسه يسهل عليك النزوع عن الملك والجاه والإعراض عنه والصبر عند فواته؛ إذ تصير بتركه ملكاً في الحال وترجو به ملكاً في الآخرة.
ومن كوشف بهذه الأمور بعد أن ألف الجاه وأنس به ورسخت فيه بالعادة مباشرة أسبابه فلا يكفيه في العلاج مجرد العلم والكشف؛ بل لا بد وأن يضيف إليه العمل. وعمله في ثلاثة أمور: أحدها أن يهرب عن موضع الجاه كي لا يشاهد أسبابه فيعسر عليه الصبر مع الأسباب كما يهرب من غلبته الشهوة من مشاهدة الصور المحركة ومن لم يفعل هذا فقد كفر نعمة الله في سعة الأرض إذ قال تعالى: " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ".
الثاني أن يكلف نفسه في أعماله أفعالاً تخالف ما اعتاده، فيبدل التكلف بالتبذل وزي الحشمة بزي التواضع، وكذلك كل هيئة وحال وفعل: في مسكن وملبس ومطعم وقيام وقعود كان يعتاده وفاء بمقتضى جاهه، فينبغي أن يبدلها بنقائضها حتى يرسخ باعتياد ذلك ضد ما رسخ فيه من قبل باعتياد ضده. فلا معنى للمعالجة إلا المضادة.
الثالث: أن يراعى في ذلك التلطف والتدريج فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبذل، فإن الطبع نفور ولا يمكن نقله عن أخلاقه إلا بالتدريج، فيترك البعض ويسلي نفسه بالبعض، ثم إذا قنعت نفسه بذلك البعض ابتدأ بترك البعض من ذلك البعض، إلى أن يقنع بالبقية. وهكذا يفعل شيئاً فشيئاً إلى أن يقمع تلك الصفات التي رسخت فيه. وإلى هذا التدريج الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: "ولا تشادوا هذا الدين فإن من يشاده يغلبه".
فإذن ما ذكرناه من علاج الصبر عن الوسواس وعن الشهوة وعن الجاه أضفه إلى ما ذكرناه من قوانين طرق المجاهدة في كتاب رياض النفس من ربع المهلكات، فاتخذه دستورك لتعرف به علاج الصبر في جميع الأقسام التي فصلناها من قبل، فإن تفصيل الآحاد يطول. ومن راعى التدريج ترقى به الصبر إلى حال يشق عليه الصبر دونه كما كان يشق عليه الصبر معه، فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً وما كان مكروهاً عنده مشرباً هنيئاً لا يصبر عنه. وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات، فإن الصبي يحمل على التعلم في الابتداء قهراً. فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم، حتى إذا انفتحت بصيرته وأنس بالعلم انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم والصبر على اللعب، وإلى هذا يشير ما حكي عن بعض العارفين أنه سأل الشبلي عن الصبر أيه أشد؟ فقال: الصبر في الله تعالى؛ فقال: لا، فقال: الصبر لله، فقال: لا، فقال: الصبر مع الله، فقال: لا، فقال: فأيش؟ قال: الصبر عن الله؛ فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف. وقد قيل في معنى قوله تعالى " اصبروا وصابروا ورابطوا " اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله. وقيل الصبر لله غناء والصبر بالله بقاء والصبر مع الله وفاء والصبر عن الله جفاء. وقد قيل في معناه:


[poet font="Andalus,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
والصبر عنك فمذموم عواقـبـه والصبر في سائر الأشياء محمود
[/poet]

وقيل أيضاً:

[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/16.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
الصبر يجمل في المواطن كلها إلا عليك فـإنـه لا يجـمـل
[/poet]

هذا آخر ما أردنا شرحه من علوم الصبر وأسراره.

[saa]يتبع بإذن المولى عز وجل[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد سبتمبر 17, 2006 8:20 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الشطر الثاني
في الشكر
[/align]


وله ثلاثة أركان: الأول في فضيلة الشكر وحقيقته وأقسامه وأحكامه، الثاني في حقيقة النعمة وأقسامها الخاصة والعامة، الثالث في بيان الأفضل من الشكر والصبر.

[align=center]الركن الأول
في نفس الشكر
[/align]


بيان فضيلة الشكر اعلم أن الله تعالى قرن الشكر بالذكر في كتابه مع أنه قال: " ولذكر الله أكبر " فقال تعالى: "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون "، وقال تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم "، وقال تعالى: " وسنجزي الشاكرين "، وقال عز وجل إخباراً عن إبليس اللعين: "لأقعدن لهم صراطك المستقيم " قيل هو طريق الشكر، ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في الخلق فقال: ولا تجد أكثرهم شاكرين. وقال تعالى: " وقليل من عبادي الشكور " وقد قطع الله تعالى بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فقال تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم " واستثنى في خمسة أشياء في الإغناء والإجابة والرزق والمغفرة والتوبة فقال تعالى: " فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء " وقال: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " وقال: " يرزق من يشاء بغير حساب" وقال: " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقال: " ويتوب الله على من يشاء " وهو خلق من أخلاق الربوبية إذ قال تعالى: " والله شكور حليم " وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة فقال تعالى: " وقالوا الحمد لله الذي صدقناه وعده " وقال: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين".
وأما الأخبار فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر".
وروى عن عطاء أنه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت وقالت: وأي شأنه لم يكن عجباً؟ أتاني ليلة فدخل معي في فراشي - أو قالت في لحافي - حتى مس جلدي جلده ثم قال: " يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي " فقالت: قلت إني أحب قربك لكني أؤثر هواك فأذنت له، فقام إلى قربة ماء فتوضأ فلم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك يبكي حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً ولم لا أفعل ذلك وقد أنزل الله تعالى علي " إن في خلق السموات والأرض " الآية، وهذا يدل على أن البكاء ينبغي أن لا ينقطع أبداً.
وإلى هذا السر يشير ما روي أنه مر بعض الأنبياء بحجر صغير يخرج من ماء كثير فتعجب منه فأنطقه الله تعالى فقال: منذ سمعت قوله تعالى: " وقودها الناس والحجارة " فأنا أبكي من خوفه، فسأله أن يجيره من النار فأجاره، ثم رآه بعد مدة على مثل ذلك فقال: لم تبكي الآن؟ فقال: ذاك بكاء الخوف وهذا بكاء الشكر والسرور! وقلب العبد كالحجارة أو أشد قسوة ولا تزول قسوته إلا بالبكاء في حال الخوف والشكر جميعاً.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينادى يوم القيامة ليقم الحمادون فتقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة " قيل: ومن الحمادون؟ قال: " الذين يشكرون الله تعالى على كل حال" وفي لفظ آخر " الذين يشكرون الله على السراء والضراء ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " الحمد رداء الرحمن".
وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام: إني رضيت بالشكر مكافأة من أوليائي - في كلام طويل -.
وأوحى الله تعالى إليه أيضاً في صفة الصابرين: أن دارهم دار السلام إذا دخلوها ألهمتهم الشكر وهو خير الكلام، وعند الشكر أستزيدهم، وبالنظر إلي أزيدهم.
ولما نزل في الكنوز ما نزل؛ قال عمر رضي الله عنه: أي المال نتخذ؟ فقال عليه السلام: "ليتخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً" فأمر باقتناء القلب الشاكر بدلاً عن المال.
وقال ابن مسعود: الشكر نصف الإيمان.


[align=center]بيان حد الشكر وحقيقته[/align]

اعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين، وهو أيضاً ينتظم من علم وحال وعمل، فالعلم هو الأصل فيورث الحال والحال يورث العمل فهو معرفة النعمة من المنعم، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه، والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه. ويتعلق ذلك بالعمل بالقلب وبالجوارح وباللسان ولا بد من بيان جميع ذلك ليحصل بمجموعه الإحاطة بحقيقة الشكر فإن كل ما قيل في حد الشكر قاصر عن الإحاطة بكمال معانيه.
فالأصل الأول العلم: وهو علم بثلاثة أمور؛ بعين النعمة، ووجه كونها نعمة في حقه، وبذات المنعم ووجود صفاته التي بها يتم الإنعام ويصدر الإنعام منه عليه. فإنه لا بد من: نعمة، ومنعم، ومنعم عليه تصل إليه النعمة من المنعم بقصد وإرادة، فهذه الأمور لا بد من معرفتها، هذا في حق غير الله تعالى فأما في حق الله تعالى فلا يتم إلا بأن يعرف أن النعم كلها من الله وهو المنعم، والوسائط مسخرون من جهته.
وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس إذ دخل التقديس والتوحيد فيها. بل الرتبة الأولى في معارف الإيمان: التقديس. ثم إذا عرف ذاتاً مقدسة فيعرف أنه لا مقدس إلا واحد وما عداه غير مقدس: وهو التوحيد. ثم يعلم أن كل ما في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط، فالكل نعمة منه، فتقع هذه المعرفة في الرتبة الثالثة، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد: كمال القدرة والانفراد بالفعل. وعن هذا عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " من قال سبحان الله فله عشر حسنات ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون حسنة ومن قال الحمد لله فله ثلاثون حسنة".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
وقال: " ليس شيء من الأذكار يضاعف ما يضاعف الحمد لله".
ولا تظنن أن هذه الحسنات بإزاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير حصول معانيها في القلب، فسبحان الله كلمة تدل على التقديس، ولا إله إلا الله كلمة تدل على التوحيد، والحمد لله كلمة تدل على النعمة من الواحد الحق. فالحسنات بإزاء هذه المعارف التي هي من أبواب الإيمان واليقين.
واعلم أن تمام هذه المعرفة ينفي الشرك في الأفعال، فمن أنعم عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزيره أو وكيله دخلاً في تيسير ذلك وإيصاله إليه فهو إشراك به في النعمة، فلا يرى النعمة من الملك من كل وجه، بل منه بوجه ومن غيره بوجه، فيتوزع فرحه عليهما فلا يكون موحداً في حق الملك. نعم لا يغض من توحيده في حق الملك وكمال شكره أن يرى النعمة الواصلة إليه بتوقيعه الذي كتبه بقلمه وبالكاغد الذي كتبه عليه، فإنه لا يفرح بالقلم والكاغد ولا يشكرهما، لأنه لا يثبت لهما دخلاً من حيث هما موجودان بأنفسهما بل من حيث هما مسخران تحت قدرة الملك. وقد يعلم أن الوكيل الموصل والخازن أيضاً مضطران من جهة الملك في الإيصال، وأنه لو رد الأمر إليه ولم يكن من جهة الملك إرهاق وأمر جازم يخاف عاقبته لما سلم إليه شيئاً، فإذا عرف ذلك كان نظره إلى الخازن الموصل كنظره إلى القلم والكاغد، فلا يورث ذلك شركاً في توحيده من إضافة النعمة إلى الملك.
وكذلك من الكاتب وأن الحيوانات التي لها اختيار مسخرات في نفس اختيارها، فإن الله تعالى هو المسلط للدواعي عليها لتفعل - شاءت أم أبت - كالخازن المضطر الذي لا يجد سبيلاً إلى مخالفة الملك ولو خلي ونفسه لما أعطاك ذرة مما في يده. فكل من وصل إليك نعمة من الله تعالى على يده فهو مضطر إذ سلط الله عليه الإرادة وهيج عليه الدواعي! وألقى في نفسه أن خيره في الدنيا والآخرة أن يعطيك ما أعطاك، وأن غرضه المقصود عنده في الحال والمآل لا يحصل إلا به. وبعد أن خلق الله له هذا الاعتقاد لا يجد سبيلاً إلى تركه، فهو إذن إنما يعطيك لغرض نفسه لا لغرضك ولو لم يكن غرضه في العطاء لما أعطاك، ولو لم يعلم أن منفعته في منفعتك لما نفعك فهو إذن إنما يطلب نفع نفسه فليس منعماً عليك بل اتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى وهو يرجوها، وإنما الذي أنعم عليك هو الذي سخره لك وألقى في قلبه من الاعتقادات والإرادات ما صار به مضطراً إلى الإيصال إليك. فإن عرفت الأمور كذلك فقد عرفت الله تعالى وعرفت فعله، وكنت موحداً وقدرت على شكره، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكراً ولذلك قال موسى عليه السلام في مناجاته إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت فكيف شكرك؟ فقال الله عز وجل: علم أن كل ذلك مني فكانت معرفته شكراً.
فإذن لا تشكر إلا بأن تعرف أن الكل منه، فإن خالجك ريب في هذا لم تكن عارفاً لا بالنعمة ولا بالمنعم، فلا تفرح بالمنعم وحده بل وبغيره، فبنقصان معرفتك ينقص حالك من الفرح وبنقصان فرحك ينقص عملك، فهذا بيان هذا الأصل.
الأصل الثاني الحال المستمدة من أصل المعرفة: وهو الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع والتواضع، وهو أيضاً في نفسه شكر على تجرده كما أن المعرفة شكر ولكن إنما يكون شكراً إذا كان حاوياً شرطه، وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة ولا بالإنعام، ولعل هذا يتعذر عليك فهمه فنضرب لك مثلاً فنقول: الملك الذي يريد الخروج إلى سفره بفرس على إنسان يتصور أن يفرح المنعم عليه بالفرس من ثلاثة أوجه: أحدها أن يفرح بالفرس من حيث أنه فرس وإنه مال ينتفع به ومركوب يوافق غرضه وإنه جواد نفيس، وهذا فرح من لاحظ له في الملك بل غرضه الفرس فقط ولو وجده في صحراء فأخذه لكان فرحه مثل ذلك الفرح.
الوجه الثاني أن يفرح به لا من حيث إنه فرس بل من حيث تستدل به على عناية الملك به وشفقته عليه واهتمامه بجانبه، لو وجد هذا الفرس في صحراء أو أعطاه غير الملك لكان لا يفرح به أصلاً لاستغنائه عن الفرس أصلاً أو استحقاره له بالإضافة إلى خلوه من نيل المحل في قلب الملك.
الوجه الثالث أن يفرح به ليركبه ليخرج في خدمة الملك ويتحمل مشقة السفر لينال بخدمته القرب منه، وربما يرتقي إلى درجة الوزارة من حيث إنه ليس يقنع بأن يكون محله في قلب الملك أن يعطيه فرساً ويعتني به هذا القدر من العناية، بل هو طالب لأن لا ينعم الملك بشيء من ماله على أحد إلا بواسطته، ثم إنه ليس يريد من الوزارة الوزارة بل يريد مشاهدة الملك والقرب منه، حتى لو خير بين القرب منه دون الوزارة وبين الوزارة دون القرب لاختار القرب، فهذه ثلاث درجات، فالأولى لا يدخل فيها معنى الشكر أصلاً لأن نظر صاحبها مقصور على الفرس ففرحه بالفرس لا بالمعطى، وهذا حال كل من فرح بنعمة من حيث إنها لذيذة وموافقة لغرضه فهو بعيد عن معنى الشكر، والثانية داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم ولكن لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل، وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه، وإنما الشكر التام في الفرح الثالث، وهو أن يكون فرح العبد بنعمة الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره والنظر إلى وجهه على الدوام، فهذا هو الرتبة العليا، وأمارته أن لا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة ويعينه عليها ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله تعالى وتصده عن سبيله، لأنه ليس يريد النعمة لأنها لذيذة كما يريد صاحب الفرس الفرس أنه جواد ومهملج بل من حيث إنه يحمله في صحبة الملك حتى تدوم مشاهدته له وقربه منه، ولذلك قال الشبلي رحمه الله: الشكر رؤية المنعم لا رؤية وقال الخواص رحمه الله: شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب. وشكر الخاصة على واردات القلوب، وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في البطن والفرج ومدركات الحواس من الألوان والأصوات وخلا عن لذة القلب، فإن القلب لا يلتذ في حال الصحة إلا بذكر الله تعالى ومعرفته ولقائه، وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات كما يلتذ بعض الناس بأكل الطين وكما يستبشع بعض المرضى الأشياء الحلوة ويستحلي الأشياء المرة، كما قيل: ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا
فإذن هذا شرط الفرح بنعمة الله تعالى، فإن لم تكن إبل فمعزى، فإن لم يكن هذا فالدرجة الثانية، أما الأولى فخارجة عن كل حساب، فكم من فرق بين من يريد الملك للفرس ومن يريد الفرس للملك، وكم من فرق بين من يريد الله لينعم عليه وبين من يريد نعم الله ليصل بها إليه الأصل الثالث: العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم، وهذا العمل يتعلق بالقلب وباللسان وبالجوارح أما بالقلب فقصد الخير وإضماره لكافة الخلق. وأما باللسان فإظهار الشكر لله تعالى بالتحميدات الدالة عليه، وأما بالجوارح: فاستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقي من الاستعانة بها على معصيته، حتى إن شكر العينين: أن تستر كل عيب تراه لمسلم، وشكر الأذنين: أن تستر كل عيب تسمعه فيه، فيدخل هذا في جملة شكر نعم الله تعالى بهذه الأعضاء والشكر باللسان: لإظهار الرضا عن الله تعالى وهو مأمور به؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: " كيف أصبحت؟" قال بخير، فأعاد صلى الله عليه وسلم السؤال حتى قال في الثالثة: بخير أحمد الله وأشكره، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " هذا الذي أرد منك" وكان السلف يتساءلون ونيتهم استخراج الشكر لله تعالى ليكون الشاكر مطيعاً والمستنطق له به مطيعاً وما كان قصدهم الرياء بإظهار الشوق، وكل عبد سئل عن حال فهو بين أن يشكر أو يشكو أو يسكت؛ فالشكر طاعة والشكوى معصية قبيحة من أهل الدين، وكيف لا تقبح الشكوى من ملك الملوك وبيده كل شيء إلى عبد مملوك لا يقدر على شيء؛ فالأحرى بالعبد إن لم يحسن الصبر على البلاء والقضاء وأفضى به الضعف إلى الشكوى أن تكون شكواه إلى الله تعالى، فهو المبلي والقادر على إزالة البلاء. وذل العبد لمولاه عز، والشكوى إلى غيره ذل؛ وإظهار الذل للعبد مع كونه عبداً مثله ذل قبيح.
قال الله تعالى: " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له " وقال تعالى: " إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " فالشكر باللسان من جملة الشكر.
وقد روي أن وفداً قدموا على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقام شاب ليتكلم، فقال عمر: الكبر الكبر! فقال: يا أمير المؤمنين لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسن منك! فقال: تكلم، فقال: لسنا وفد الرغبة ولا وفد الرهبة، أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك، وإنما نحن وفد الشكر جئناك نشكرك باللسان وننصرف. فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته.
فأما قول من قال إن الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع فهو نظر إلى فعل اللسان مع بعض أحوال القلب. وقول من قال إن الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه نظر إلى مجرد عمل اللسان، وقول القائل: إن الشكر هو الاعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة، جامع لأكثر معاني الشكر لا يشذ منه إلا عمل اللسان. وقول حمدون القصار شكر النعمة: أن ترى نفسك في الشكر طفيلياً، إشارة إلى أن معنى المعرفة من معاني الشكر فقط وقول الجنيد الشكر: أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة، إشارة إلى حال من أحوال القلب على الخصوص وهؤلاء أقوالهم تعرب على أحوالهم؛ فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق، ثم قد يختلف جواب كل واحد في حالتين لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم اشتغالاً بما يهمهم عما لا يهمهم، أو يتكلمون بما يرونه لائقاً بحالة السائل، اقتصاراً على ذكر القدر الذي يحتاج إليه، وإعراضاً عما لا يحتاج إليه؛ فلا ينبغي أن تظن أن ما ذكرناه طعن عليهم وأنه لو عرض عليهم جميع المعاني التي شرحناها كانوا ينكرونها، بل لا يظن ذلك بعاقل أصلاً إلا أن تعرض منازعة من حيث اللفظ في أن اسم الشكر في وضع اللسان هل يشمل جميع المعاني، أم يتناول بعضها مقصوداً وبقية المعاني تكون من توابعه ولوازمه؟ ولسنا نقصد في هذا الكتاب شرح موضوعات اللغات فليس ذلك من علم طريق الآخرة في شيء، والله الموفق برحمته.


[align=center]بيان طريق كشف الغطاء عن الشكر[/align]

في حق الله تعالى لعلك يخطر ببالك أن الشكر إنما يفعل في حق منعم هو صاحب حظ في الشكر، فإنا نشكر الملوك إما بالثناء ليزيد محلهم في القلوب ويظهر كرمهم عند الناس فيزيد به صيتهم وجاههم، أو بالخدمة التي هي إعانة لهم على بعض أغراضهم أو بالمثول بين أيديهم في صورة الخدم، وذلك تكثير لسوادهم وسبب لزيادة جاههم، فلا يكون شاكرين لهم إلا بشيء من ذلك، وهذا محال في حق الله تعالى من وجهين:
أحدهما أن الله تعالى منزه عن الحظوظ والأغراض، مقدس عن الحاجة إلى الخدمة والإعانة، وعن نشر الجاه والحشمة بالثناء والإطراء، وعن تكثير سواد الخدم بالمثول بين يديه ركعاً سجداً؛ فشكرنا إياه بما لا حظ فيه يضاهي شكرنا الملك المنعم علينا بأن ننام في بيوتنا أو نسجد أو نركع، إذ لا حظ للملك فيه وهو غائب لا علم له، ولا حظ لله تعالى في أفعالنا كلها.
الوجه الثاني: أن كل ما نتعاطاه باختيارنا فهو نعمة أخرى من نعم الله علينا، إذ جوارحنا وقدرتنا وإرادتنا وداعيتنا وسائر الأمور التي هي أسباب حركتنا ونفس حركتنا من خلق الله تعالى ونعمته فكيف نشكر نعمة بنعمة، ولو أعطانا الملك مركوباً فأخذنا مركوباً آخر له وركبناه، أو أعطانا الملك مركوباً آخر لم يكن الثاني شكر للأول منا بل كان الثاني يحتاج إلى شكر كما يحتاج الأول، ثم لا يمكن شكر الشكر إلا بنعمة أخرى فيؤدي إلى أن يكون الشكر محالاً في حق الله تعالى من هذين الوجهين. ولسنا نشك في الأمر جميعاً، والشرع قد ورد به فكيف السبيل إلى الجمع؟ فاعلم أن هذا الخاطر لداود عليه السلام، وكذلك لموسى عليه السلام فقال: يا رب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك؟ وفي لفظ آخر: وشكري لك نعمة أخرى منك توجب على الشكر لك؟ فأوحى الله تعالى إليه: إذا عرفت هذا فقد شكرتني وفي خبر آخر: إذا عرفت أن النعمة مني رضيت منك بذلك شكراً.
فإن قلت: فقد فهمت السؤال وفهمي قاصر عن إدراك معنى ما أوحى إليهم؛ فإني أعلم استحالة الشكر لله تعالى، فأما كون العلم باستحالة الشكر شكراً فلا أفهمه، فإن هذا العلم أيضاً نعمة منه فكيف صار شكراً؟ وكأن الحاصل يرجع إلى أن من لم يشكر فقد شكر، وأن قبول الخلعة الثانية من الملك شكر للخلعة الأولى، والفهم قاصر عن درك السر فيه فإن أمكن تعريف ذلك بمثال فهو مهم في نفسه. فاعلم أن هذا قرع باب من المعارف وهي أعلى من علوم المعاملة، ولكنا نشير منها إلى ملامح ونقول: ههنا نظران: نظر بعين التوحيد المحض وهذا النظر يعرفك قطعاً أنه الشاكر وأنه المشكور وأنه المحب وأنه المحبوب، وهذا نظر أنه ليس في الوجود غيره وأن كل شيء هالك إلا وجهه وأن ذلك صدق في كل أزلاً وأبداً، لأن الغير هو الذي يتصور أن يكون له بنفسه قوام، ومثل هذا الغير لا وجود له بل هو محال أن يوجد، إذ الموجود المحقق هو القائم بنفسه، وما ليس له بنفسه قوام فليس له بنفسه وجود بل هو قائم بغيره فهو موجود بغيره؛ فإن اعتبر ذاته ولم يلتفت إلى غيره لم يكن له وجود البتة، وإنما الموجود هو القائم بنفسه والقائم بنفسه هو الذي لو قدر عدم غيره بقي موجوداً فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده وجود غيره فهو قيوم، ولا قيوم إلا واحد، ولا يتصور أن يكون غير ذلك، فإذن ليس في الوجود غير الحي القيوم وهو الواحد الصمد؛ فإذا نظرت من هذا المقام عرفت أن الكل منه مصدره وإليه مرجعه، فهو الشاكر وهو المشكور، وهو المحب وهو المحبوب، ومن ههنا نظر حبيب بن أبي حبيب حيث قرأ " إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب " فقال: واعجباه أعطى وأثنى. إشارة إلى أنه إذا أثنى على إعطائه فعلى نفسه أثنى، فهو المثني وهو المثني عليه، ومن ههنا نظر الشيخ أبو سعيد الميهني حيث قرئ بين يديه " يحبهم ويحبونه " فقال: لعمري يحبهم ودعه يحبهم فبحق يحبهم لأنه إنما يحب نفسه، أشار به إلى أنه المحب وأنه المحبوب، وهذه رتبة عالية لا تفهمها إلا بمثال على حد عقلك، فلا يخفى عليك أن المصنف إذا أحب تصنيفه لقد أحب نفسه، والصانع إذا أحب صنعته فقد أحب نفسه، والوالد إذا أحب ولده من حيث إنه ولده فقد أحب نفسه، وكل ما في الوجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وصنعته؛ فإن أحبه فما أحب إلا نفسه، وإذا لم يحب إلا نفسه فبحق أحب ما أحب؛ وهذا كله نظر بعين التوحيد، وتعبر الصوفية عن هذه الحالة بفناء النفس أي فني عن نفسه وعن غير الله فلم ير إلا الله تعالى، فمن لم يفهم هذا ينكر عليهم ويقول: كيف فني وطول ظله أربعة أذرع ولعله يأكل في كل يوم أرطالاً من الخبز، فيضحك عليهم الجهال لجهلهم بمعاني كلامهم، وضرورة قول العارفين أن يكونوا ضحكة للجاهلين، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذ رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون، وما أرسلوا عليهم حافظين " ثم بين أن ضحك العارفين عليهم غدا أعظم، إذ قال تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون " وكذلك أمة نوح عليه السلام كانوا يضحكون عليه عند اشتغاله بعمل السفينة قال: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون " فهذا أحد النظرين. النظر الثاني: نظر من لم يبلغ إلى مقام الفناء عن نفسه وهؤلاء قسمان: قسم لم يثبتوا إلا وجود أنفسهم وأنكروا أن يكون لهم رب يعبد وهؤلاء هم العميان المنكوسون وعماهم في كلتا العينين لأنهم نفوا ما هو الثابت تحقيقاً وهو القيوم الذي هو القائم بنفسه وقائم على كل نفس بما كسبت وكل قائم فقائم به، ولم يقتصروا على هذا حتى أثبتوا أنفسهم، ولو عرفوا لعلموا أنهم من حيث هم هم لا ثبات لهم ولا وجود لهم، وإنما وجودهم من حيث أوجدوا لا من حيث وجدوا، وفرق بين الموجود وبين الموجد، وليس في الوجود إلا موجود واحد وموجد، فالموجود حق والموجد باطل من حيث هو هو، والموجود قائم وقيوم والموجد هالك وفان، وإذا كان كل من عليها فان، فلا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال والإكرام. الفريق الثاني: ليس بهم عمى ولكن بهم عور، لأنهم يبصرون بإحدى العينين وجود الموجود الحق فلا ينكرونه، والعين الأخرى إن تم عماها لم يبصر بها فناء غير الموجود الحق؛ فأثبت موجوداً آخر مع الله تعالى وهذا مشرك تحقيقاً كما أن الذي قبله جاحد تحقيقاً: فإن جاوز حد العمى إلى العمش أدرك تفاوتاً بين الموجودين، فأثبت عبداً ورباً، فبهذا القدر من إثبات التفاوت والنقص من الموجود الآخر دخل في حد التوحيد، ثم إن كحل بصره بما يزيد في أنواره فيقل عمشه وبقدر ما يزيد في بصره يظهر له نقصان ما أثبته سوى الله تعالى؛ فإن بقي في سلوكه كذلك فلا يزال يفضي به النقصان إلى المحو، فينمحي عن رؤية ما سوى الله فلا يرى إلا الله، ليكون قد بلغ كمال التوحيد، وحيث أدرك نقصاً في وجود ما سوى الله تعالى دخل في أوائل التوحيد، وبينهما درجات لا تحصى، فبهذا تتفاوت درجات الموحدين، وكتب الله المنزلة على ألسنة رسله هي الكحل الذي يحصل أنوار الأبصار، والأنبياء هم الكحالون، وقد جاؤوا داعين إلى التوحيد المحض، وترجمته قول: " لا إله إلا الله" ومعناه أن لا يرى إلا الواحد الحق، والواصلون إلى كمال التوحيد هم الأقلون، والجاحدون والمشركون أيضاً قليلون، وهم على الطرف الأقصى المقابل لطرف التوحيد، إذ عبدة الأوثان قالوا: " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " فكانوا داخلين في أوائل أبواب التوحيد دخولاً ضعيفاً، والمتوسطون هم الأكثرون، وفيهم من تنفتح بصيرته في بعض الأحوال فتلوح له حقائق التوحيد ولكن كالبرق الخاطف لا يثبت، وفيهم من يلوح له ذلك ويثبت زماناً ولكن لا يدوم والدوام فيه عزيز.
لكل إلى شأو العلا حركـات ولكن عزيز في الرجال ثبات
ولما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب القرب فقيل له: " واسجد واقترب " قال في سجوده: " أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فقوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بعفوك من عقابك " كلام عن مشاهدة فعل الله فقط، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله، فاستعاذ بفعله من فعله " ثم اقترب ففني عن مشاهدة الأفعال " وترقى إلى مصادر الأفعال وهي الصفات فقال: " أعوذ برضاك من سخطك " وهما صفتان، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب ورقي من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات فقال: " وأعوذ بك منك " وهذا فرار منه إليه من غير رؤية فعل وصفة، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ومستعيذاً ومثنياً، ففني عن مشاهدة نفسه وإذ رأى ذلك نقصاناً واقترب فقال: " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا أحصي " خبر عن فناء نفسه وخروج عن مشاهدته، وقوله: " أنت كما أثنيت على نفسك " بيان أنه المثني والمثني عليه وأن الكل منه بدأ وإليه يعود وأن كل شيء هالك إلا وجهه، فكان أول مقاماته نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله تعالى وأفعاله، فيستعيذ بفعل من فعل: فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق، ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من رتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية، فكان يستغفر الله من الأولى ويرى ذلك نقصاً في سلوكه وتقصيراً في مقامه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" فكان ذلك لترقيه إلى سبعين مقاماً بعضها فوق البعض: أولها وإن كان مجاوزاً أقصى غايات الخلق ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى آخرها، فكان استغفاره لذلك. ولما قالت عائشة رضي الله عنها: أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً" معناه. أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات. فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى: " لئن شكرتم لأزيدنكم ".
وإذا تغلغلنا في بحار المكاشفة فلنقبض العنان، ولنرجع إلى ما يليق بعلوم المعاملة: فنقول الأنبياء عليهم السلام بعثوا لدعوة الحق إلى كمال التوحيد الذي وصفناه، ولكن بينهم وبين الوصول إليه مسافة بعيدة وعقبات شديدة، وإنما الشرع كله تعريف طريق سلوك تلك المسافة وقطع تلك العقبات وعند ذلك يكون النظر عن مشاهدة أخرى ومقام آخر فيظهر في ذلك المقام بإضافة إلى تلك المشاهدة الشكر والشاكر والمشكور، ولا يعرف ذلك إلا بمثال فأقول: يمكنك أن تفهم أن ملكاً من الملوك أرسل عبد قد بعد منه مركوباً وملبوساً ونقداً لأجل زاده في الطريق حتى يقطع به مسافة البعد ويقرب من حضرة الملك، ثم يكون له حالتان: إحداهما أن يكون قصده من وصول العبد إلى حضرته أن يقوم ببعض مهماته ويكون له عناية في خدمته.
والثانية: أن لا يكون للملك حظ في العبد ولا حاجة به إليه، بل حضوره لا يزيد في ملكه لأنه لا يقوى على القيام بخدمة تغني فيه غناء، وغيبته لا تنقص من ملكه، فيكون قصد من الإنعام عليه بالمركوب والزاد أن يحظى العبد بالقرب منه وينال سعادة حضرته لينتفع هو في نفسه لا لينتفع الملك به وبانتفاعه، فمنزل العباد من الله تعالى في المنزلة الثانية لا في المنزلة الأولى فإن الأولى محال على الله تعالى. والثانية غير محال. ثم اعلم أن العبد لا يكون شاكراً في الحالة الأولى بمجرد الركوب والوصول إلى حضرته ما لم يقم بخدمته التي أرادها الملك منه، وأما في الحالة الثانية فلا يحتاج إلى الخدمة أصلاً، ومع ذلك يتصور أن يكون شاكراً وكافراً ويكون شكره بأن يستعمل ما أنفذه إليه مولاه فيما أحبه لأجله لا لأجل نفسه، وكفره أن لا يستعمل ذلك فيه بأن يعطله أو يستعمله فيما يزيد في بعده منه؛ فمهما لبس العبد الثوب وركب الفرس ولم ينفق الزاد إلا في الطريق فقد شكره مولاه إذ استعمل نعمته في محبته، أي فيما أحبه لعبده لا لنفسه، وإن ركبه واستدبر حضرته وأخذ يبعد منه فقد كفر نعمته، أي استعملها فيما كرهه مولاه لعبده لا لنفسه، وإن جلس ولم يركب لا في طلب القرب ولا في طلب البعد فقد كفر أيضاً نعمته إذا أهملها وعطلها، وإن كان هذا دون ما لو بعد منه، فكذلك خلق الله سبحانه الخلق وهم في ابتداء فطرتهم يحتاجون إلى استعمال الشهوات لتكمل بها أبدانهم فيبعدون بها عن حضرته، وإنما سعادتهم في القرب منه فأعد لهم من النعم ما يقدرون على استعماله في نيل درجة القرب، وعن بعدهم وقربهم عبر الله تعالى إذ قال: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددنا أسفل السافلين، إلا الذين آمنوا " الآية، فإذن نعم الله تعالى آلات يترقى العبد بها عن أسفل السافلين، خلقها الله تعالى لأجل العبد حتى ينال بها سعادة القرب، والله تعالى غني عنه قرب أم بعد، والعبد فيها بين أن يستعملها في الطاعة فيكون قد شكر لموافقة محبة مولاه وبين أن يستعملها في معصيته فقد كفر لاقتحامه ما يكرهه مولاه ولا يرضاه له؛ فإن الله لا يرضى لعباده الكفر والمعصية، وإن عطلها ولم يستعملها في طاعة ولا معصية فهو أيضاً كفران للنعمة بالتضييع، وكل ما خلق في الدنيا إنما خلق آلة للعبد ليتوصل به إلى سعادة الآخرة ونيل القرب من الله تعالى؛ فكل مطيع فهو بقدر طاعته شاكر نعمة الله في الأسباب التي استعملها في الطاعة، وكل كسلان ترك أو عاص استعملها في طريق البعد فهو كافر جار في غير محبة الله تعالى؛ فالمعصية والطاعة تشملهما المشيئة ولكن لا تشملها المحبة والكراهة، بل رب مراد محبوب ورب مراد مكروه، ووراء بيان هذه الدقيقة سر القدر الذي منع من إفشائه، وقد انحل بهذا الإشكال الأول: وهو أنه إذا لم يكن للمشكور حظ فكيف يكون الشكر؛ وبهذا أيضاً ينحل الثاني؛ فإنا لم نعن بالشكر إلا انصراف نعمة الله في جهة محبة الله فإذا انصرفت النعمة في جهة المحبة بفعل الله فقد حصل المراد، وفعلك عطاء من الله تعالى، ومن حيث أنت محله فقد أثنى عليك، وثناؤه نعمة أخرى منه إليك، فهو الذي أعطى وهو الذي أثنى وصار أحد فعليه سبباً لانصراف فعله الثاني إلى جهة محبته، فله الشكر على كل حال، وأنت موصوف بأنك شاكر بمعنى أنك محل المعنى الذي الشكر عبارة عنه لا بمعنى أنك موجب له، كما أنك موصوف بأنك عارف وعالم لا بمعنى أنك خالق للعلم وموجده، ولكن بمعنى أنك محل له، وقد وجد بالقدرة الأزلية فيك؛ فوصفك بأنك شاكر إثبات شيئية لك وأنت شيء، إذ جعلك خالق الأشياء شيئاً وإنما أنت لا شيء إذا كنت أنت ظالماً لنفسك شيئاً من ذاتك، فأما باعتبار النظر إلى الذي جعل الأشياء شيئاً فأنت شيء إذ جعلك شيئاً؛ فإن قطع النظر عن جعله كنت لا شيء تحقيقياً، وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم حيث قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ولما قيل له: يا رسول الله ففيم العمل إذا كانت الأشياء قد فرغ منها من قبل؟ فتبين أن الخلق مجاري قدرة الله تعالى ومحل أفعاله وإن كانوا هم أيضاً من أفعاله ولكن بعض أفعاله محل للبعض، وقوله: " اعملوا " وإن كان جارياً على لسان الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهو فعل من أفعاله، وهو سبب لعلم الخلق أن العمل نافع، وعلمهم فعل من أفعال الله تعالى، والعلم
سبب لانبعاث داعية جازمة إلى الحركة والطاعة، وانبعاث الداعية أيضاً من أفعال الله تعالى، وهو سبب لحركة الأعضاء وهي أيضاً من أفعال الله تعالى، ولكن بعض أفعاله سبب للبعض أي الأول شرط للثاني كما كان خلق الجسم سبباً لخلق العرض إذ لا يخلق العرض قبله، وخلق الحياة شرط لخلق العلم وخلق العلم شرط لخلق الإرادة والكل من أفعال الله تعالى وبعضها سبب للبعض، أي هو شرط، ومعنى كونه شرطاً أنه لا يستعد لقبول فعل الحياة إلا جوهر ولا يستعد لقبول العلم إلا ذو حياة ولا لقبول الإرادة إلا ذو علم، فيكون بعض أفعاله سبباً للبعض بهذا المعنى لا بمعنى أن بعض أفعاله موجد لغيره بل ممهد شرط الحصول لغيره، وهذا إذا حقق ارتقى إلى درجة التوحيد الذي ذكرناه.
فإن قلت: فلم قال الله تعالى اعملوا وإلا فأنتم معاقبون مذمومون على العصيان، وما إلينا شيء فكيف نذم وإنما الكل إلى الله تعالى؟ فاعلم أن هذا القول من الله تعالى سبب لحصول اعتقاد فينا، والاعتقاد سبب لهيجان الخوف، وهيجان الخوف سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور، وذلك سبب للوصول إلى جوار الله، والله تعالى مسبب الأسباب ومرتبها، فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له هذه الأسباب حتى يقوده بسلسلتها إلى الجنة، ويعبر عن مثله بأن كلاً ميسر لما خلق له، ومن لم يسبق له من الله الحسنى بعد عن سماع كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء؛ فإذا لم يسمع لم يعلم، وإذا لم يعلم لم يخف، وإذا لم يخف لم يترك الركون إلى الدنيا، وإذا لم يترك الركون إلى الدنيا بقي في حزب الشيطان، وإن جهنم لموعدهم أجمعين، فإذا عرفت هذا تعجبت من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، فما من أحد إلا وهو مقود إلى الجنة سلاسل الأسباب، وهو تسليط العلم والخوف عليه. وما من مخذول إلا وهو مقو إلى النار بالسلاسل وهو تسليط الغفلة والأمن والغرور عليه، فالمتقون يساقون إلى الجنة قهراً، والمجرمون يساقون إلى النار قهراً، ولا قاهر إلا الله الواحد القهار، ولا قادر إلا الملك الجبار، وإذا انكشف الغطاء عن أعين الغافلين فشاهدوا الأمر كذلك سمعوا عند ذلك نداء المنادي " لمن الملك اليوم الواحد القهار " ولقد كان الملك لله الواحد القهار كل يوم لا ذلك اليوم على الخصوص، ولكن الغافلين لا يسمعون هذا النداء إلا ذلك اليوم، فهو نبأ عما يتجدد للغافلين من كشف الأحوال حيث لا ينفعهم الكشف؛ فنعوذ بالله الحليم الكريم من الجهل والعمى فإنه أصل أسباب الهلاك.


[align=center]بيان تمييز ما يحبه الله تعالى عما يكرهه[/align]

اعلم أن فعل الشكر وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله تعالى عما يكرهه، إذ معنى الشكر استعمال نعمه تعالى في محابه، ومعنى الكفر نقيض ذلك إما بترك الاستعمال أو باستعمالها في مكارهه. ولتمييز ما يحبه الله تعالى مما يكرهه مدركان أحدهما السمع، ومستنده الآيات والأخبار، والثاني بصيرة القلب. وهو النظر بعين الاعتبار، وهذا الأخير عسير، وهو لأجل ذلك عزيز، فلذلك أرسل الله تعالى الرسل وسهل بهم الطريق على الخلق، ومعرفة ذلك تنبني على معرفة جميع أحكام الشرع في أفعال العباد، فمن لا يطلع على أحكام الشرع في جميع أفعاله لم يمكنه القيام بحق الشكر أصلاً، وأما الثاني وهو النظر بعين الاعتبار فهو إدراك حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه، إذ ما خلق شيئاً في العالم إلا وفيه حكمة وتحت الحكمة مقصود وذلك المقصود هو المحبوب، وتلك الحكمة منقسمة إلى جلية وخفية. أما الجلية فكالعلم بأن الحكمة في خلق الشمس أن يحصل بها الفرق بين الليل والنهار، فيكون النهار معاشاً والليل لباساً فتتيسر الحركة عند الإبصار، والسكون عند الاستتار، فهذا من جملة حكم الشمس لا كل الحكم فيها بل فيها حكم أخرى كثيرة دقيقة، وكذلك معرفة الحكمة في الغيم ونزول الأمطار وذلك لانشقاق الأرض بأنواع النبات مطعماً للخلق ومرعى للأنعام، وقد انطوى القرآن على جملة من الحكم الجلية التي تحتملها أفهام الخلق دون الدقيق الذي يقصرون عن فهمه، إذ قال تعالى " أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً " الآية. وأما الحكمة في سائر الكواكب السيارة منها والثوابت فخفية لا يطلع عليها كافة الخلق، والقدر الذي يحتمله فهم الخلق أنها زينة للسماء لتستلذ العين بالنظر إليها، وأشار إليه قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب " فجميع أجزاء العالم سماؤه وكواكبه ورياحه وبحاره وجباله ومعادنه ونباته وحيواناته وأعضاء حيواناته لا تخلو ذرة من ذراته عن حكم كثيرة من حكمه واحدة إلى عشرة إلى ألف إلى عشرة آلاف، وكذا أعضاء الحيوان تنقسم إلا ما يعرف حكمتها كالعلم بأن العين للإبصار لا للبطش، واليد للبطش لا للمشي، والرجل للمشي لا للشم، فأما الأعضاء الباطنة من الأمعاء والمرارة والكبد والكلية وآحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظ وسائر الصفات فلا يعرف الحكمة فيها سائر الناس، والذين يعرفونها لا يعرفون منها إلا قدراً يسيراً بالإضافة إلى ما في علم الله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً " فإذن كل من استعمل شيئاً في جهة غير الجهة التي خلق لها ولا على الوجه الذي أريد به فقد كفر فيه نعمة الله تعالى، فمن ضرب غيره بيده فقد كفر نعمة اليد إذ خلقت له اليد ليدفع بها عن نفسه ما يهلكه ويأخذ ما ينفعه لا ليهلك بها غيره، ومن نظر إلى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين ونعمة الشمس، إذ الإبصار يتم بهما، وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه ويتقي بهما ما يضره فيهما، فقد استعملها في غير ما أريدتا به، وهذا لأن المراد من خلق الخلق وخلق الدنيا وأسبابها أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا والتجافي عن غرور الدنيا، ولا أنس إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالغذاء، ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء، ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض وخلق سائر الأعضاء ظاهراً وباطناً، فكل ذلك لأجل البدن والبدن مطية النفس، والراجح إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة، فلذلك قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق " الآية، فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لإقدامه على تلك المعصية، ولنذكر مثالاً واحداً للحكم الخفية التي ليست في غاية الخفاء حتى تعتبر بها وتعلم طريقة الشكر والكفران على النعم فنقول: من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا وهما حجران لا منفعة في أعيانهما ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلاً وهو محتاج إلى جمل يركبه، ومن يملك الجمل ربما يستغنى عنه ويحتاج إلى الزعفران، فلا بد بينهما من معاوضة ولا بد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبدل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة، وكذا من يشتري داراً بثياب أو عبداً بخف أو دقيقاً بحمار فهذه الأشياء لا تناسب فيها، فلا يدرى أن الجمل كم يسوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جداً، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها يحكم بينهما بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب على بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال: هذا الجمل يسوي مائة دينار وهذا القدر من الزعفران يسوي مائة، فهما من حيث إنهما مساويان بشيء واحد إذن متساويان، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحاً ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك شيء لا كمن ملك ثوباً فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلاً فاحتيج إلى شيء وهو في صورته كأنه ليس بشيء وهو معناه كأنه كل الأشياء، والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها، كالمرآة لا لون لها، وتحكي كل لون فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض، وكالحرف لا معنى له نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية، وفيهما أيضاً حكم يطول ذكرها فكل من عمل فيهما عملاً لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما، فإذن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه. لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمر خاصة إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولها الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للمراتب، فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة في صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة - أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسوله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت المعنى الذي عجزوا عن إدراكه، فقال تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاً ممن كنز لأن مثال هذا مثال من استخسر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس، والحبس أهون منه، وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد، وإنما الأواني لحفظ المائعات، ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود فمن لم ينكشف له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية وقيل له: " من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنة نار جهنم" وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً على خلاف وضع الحكمة، إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاماً ودابة، إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب، فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما، وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام، كما قال النحويون: إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره، وكموقع المرآة من الألوان؛ فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيداً عنده وينزل منزلة المكنوز، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم، كما أن حبسه ظلم، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصوداً للادخار وهو ظلم فإن قلت فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر، ولما جاز بيع الدرهم بمثله؟ فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلاً قليلاً، ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به؛ وهو تيسر التوصل به إلى غيره: وأما بيع الدرهم بدرهم يماثله فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه، ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه، فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر، وذلك أيضاً لا يتصور جريانه؛ إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد؛ وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء، لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه، وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلا مضافات دقيقة في صفاته، وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد. وأما إذا باع درهماً بدرهم مثله نسيئة فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في القرض وهو مكرمة مندوحة عنه لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر، والمعاوضة لا حمد فيها ولا أجر، فهو أيضاً ظلم لأنه إضاعة خصوص المساحة وإخراجها في معرض المعارضة، وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له، فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغنٍ عنها؛ إذ من معه طعام فلم لا يأكله إن كان محتاجاً ولم يجعله بضاعة تجارة، وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجاً إليه، فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضاً مستغنٍ عنه، ولهذا ورد في الشرع لعن المحتكر، وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب، نعم بائع البر بالتمر معذور، إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند تفاوت في الجودة، ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد وأما جيد برديئين فقد يقصد، ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام، فهذه حكمة الشرع في تحريم الربا، وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أوي من جميع ما أوردناه في الخلافيات، وبهذا يتضح رجحان مذهب الشافعي رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات، إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالنخول، ولولا الملح لكان مذهب مالك رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات، ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد وتحديد هذا كان ممكناً بالقوت وكان ممكناً بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أخرى لكل ما هو ضرورة البقاء؛ وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم، ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في أتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص، فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضرورياً، فلذلك قال الله تعالى: " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع وإنما تختلف في وجوه التحديد، كما يحد شرع عيسى بن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر، وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر، لأن قليله يدعو إلى كثير، والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية، فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين، فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها، ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين، بل لا يتذكر إلا أولوا الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" وإذ عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك، وكل فعل صادر منك فإنه إما شكر وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما، وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر، فأقول مثلاً: لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين، إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى، فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل، وتفضيل الناقص عدول عن العدل، والله لا يأمر بالعدل، ثم أحوجك من أعطاك اليدين إلى أعمال: بعضها شريف كأخذ المصحف، وبعضها خسيس كإزالة النجاسة، فإذا أخذت المصحف باليسار وأزلت النجاسة باليمين فقد خصصت الشريف بما هو خسيس فغضضت من حقه وظلمته وعدلت عن العدل، وكذلك إذا بصقت مثلاً في جهة القبلة أو استقبلتها في قضاء الحاجة فقد كفرت نعمة الله في خلق الجهات وخلق سعة العالم لأنه خلق الجهات لتكون متسعك في حركتك وقسم الجهات إلى ما لم يشرفها وإلى ما شرفها بأن وضع فيها بيتاً أضافه إلى نفسه استمالةً لقلبك إليه ليتقيد به قلبك فيتقيد بسببه في تلك الجهة على هيئة الثبات والوقار إذا عبدت ربك، وكذلك انقسمت أفعالك إلى ما هي شريفة كالطاعات وإلى ما هي خسيسة كقضاء الحاجة ورمي البصاق، فإذا رميت بصاقك إلى جهة القبلة فقد ظلمتها وكفرت نعمة الله تعالى عليك بوضع القبلة التي بوضعها كمال عبادتك، وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت؛ لأن الخف وقاية للرجل، فللرجل فيه حظ، والبداءة في الحظوظ ينبغي أن تكون بالأشرف فهو العدل والوفاء بالحكمة، ونقيضه ظلم وكفران لنعمة الخف والرجل، وهذا عند العارفين كبيرة وإن سماه الفقيه مكروهاً، حتى إن بعضهم كان قد جمع إكراراً من الحنطة وكان يتصدق بها، فسئل عن سببه فقال: لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهواً فأريد أن أكفره بالصدقة، نعم الفقيه لا يقدر على تفخيم الأمر في هذه الأمور لأنه مسكين، بل بإصلاح العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الإنعام وهم مغموسون في ظلمات أطم وأعظم من أن تظهر أمثال هذه الظلمات بالإضافة إليها؛ فقبيح أن يقال: الذي شرب الخمر وأخذ القدح بيساره قد تعدى من وجهين: أحدهما الشرب والآخر الآخذ باليسار، ومن باع خمراً في وقت النداء يوم الجمعة فقبيح أن يقال خان من وجهين أحدهما بيع الخمر والآخر في وقت النداء، ومن قضى حاجته في محراب المسجد مستدبر القبلة فقبيح أن يذكر تركه الأدب في قضاء الحاجة من حيث إنه لم يجعل القبلة عن يمينه فالمعاصي كلها ظلمات بعضها فوق بعض فيمنحق بعضها في جنب البعض، فالسيد قد يعاقب عبده إذا استعمل سكينه بغير إذنه، ولكن لو قتل بتلك السكين أعز أولاده لم يبق لاستعمال بغير إذنه حكم ونكاية في نفسه، فكل ما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب وتسامحنا فيه في الفقه مع العوام فسببه هذه الضرورة، وإلا فكل هذه المكاره عدول عن العدل وكفران للنعمة ونقصان عن الدرجة المبلغة للعبد إلى درجات القرب، بعضها يؤثر في العبد بنقصان القرب وانحطاط المنزلة يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو مستقر الشياطين، وكذلك من كسر غصناً من شجرة من غير حاجة ناجزة مهمة ومن غير حاجة غرض صحيح فقد كفر نعمة الله تعالى في خلق الأشجار وخلق اليد أما اليد فإنها لم تخلق للعبث بل الطاعة والأعمال المعينة على الطاعة. وأما الشجر فإنه خلقه الله تعالى وخلق له العروق وساق إليه الماء وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده، فكسره قبل نشوة لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدل، فإن كان له غرض صحيح فله ذلك، إذ الشجر والحيوان جعلا فداءً لأغراض الإنسان، فإنهما جميعاً فانيان هالكان، فإفناء الأخس في بقاء الأشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعاً وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاًمنه " نعم إذا كسر ذلك من ملك غيره فهو ظالم أيضاً وإن كان محتاجاً، لأن كل شجرة بعينها لا تفي بحاجات عباد الله كلهم بل تفي بحاجة واحدة، ولو خصص واحد بها من غير رجحان واختصاص كان ظلماً، فصاحب الاختصاص هو الذي حصل البذر ووضعه في الأرض وساق إليه الماء وقام بالتعهد فهو أولى به غيره فيرجع جانبه بذلك، فإن نبت ذلك في موات الأرض لا بسعي آدمي اختص بمغرسه أو بغرسه، فلا بد من طلب اختصاص آخر وهو السبق إلى فللسابق خاصية السبق، فالعدل هو أن يكون أولى به وعبر الفقراء عن هذا الترجيح بالملك، وهو مجاز محض، إذ لا ملك إلا لملك الملوك الذي له ما في السموات والأرض، وكيف يكون العبد مالكاً وهو في نفسه ليس يملك نفسه بل هو ملك غيره، نعم الخلق عباد الله والأرض مائدة الله وقد أذن لهم في الأكل من مائدته بقدر حاجتهم، كالملك ينصب مائدة لعبيده، فمن أخذ لقمة بيمينه واحتوت عليها براجمه فجاء عبد آخر وأراد انتزاعها من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكاً له بالأخذ باليد - فإن اليد وصاحب اليد أيضاً مملوك - ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفي بحاجة كل العبيد فالعدل في التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص، والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلي بذلك الاختصاص عن مزاحمته، فهكذا ينبغي أن تفهم أمر الله في عباده، ولذلك نقول: من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفي عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم، وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق في طاعته أموال الدنيا، إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم، نعم لا يدخل هذا في حد فتاوى الفقه لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس في استشعار الفقر في الاستقبال مختلفة، وأواخر الأعمار غير معلومة، فتكليف العوام ذلك يجري مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم، وهو بحكم نقصانهم لا يطيقونه، فتركنا الاعتراض عليهم في اللعب واللهو وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق، فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار في الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه، إذ قال تعالى: " إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا " بل الحق الذي لا كدورة فيه والعدل الذي لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب، فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان، فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التي بها عرف أن ما سوى زاد الراكب وبال عليه في الدنيا والآخرة فمن فهم حكم الله تعالى في جميع أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر، واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفي إلا بالقليل، وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق في قوله تعالى: " وقليل من عبادي الشكور " وفرح إبليس لعنه الله بقوله: " ولا تجد أكثرهم شاكرين " فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف هذا كله وأموراً أخر وراء ذلك تنقضي الأعمار دون استقصاء مباديها؛ فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة، وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير.
فإن قلت: فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى في كل شيء، وأنه جعل بعض أفعال العباد سبباً لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعاً من تمام الحكمة، فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شاكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران، وهذا كله مفهوم، ولكن الإشكال باق: وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضاً من فعل الله تعالى، فأين العبد في البين حتى يكون شاكراً مرة وكافراً أخرى؟ فاعلم أن تمام التحقيق في هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات، وقد رمزنا إلى تلويحات بمباديها، ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع في السير فضلاً عن أن يجول في جو الملكوت جولان الطير فنقول: إن الله عز وجل في جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها، فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس، لا لغموض في نور الشمس ولكن لضعف في أبصار الخفافيش، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادي حقائقها شيئاً ضعيفاً جداً، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا لله تعالى صفة هي القدرة عنها يصدر الخلق والاختراع، ثم الخلق ينقسم في الوجود إلى أقسام وخصوص صفات، ومصدر انقسام هذه الأقسام واختصاصها بخصوص صفاتها صفة أخرى استعير لها بمثل الضرورة التي سبقت عبارة المشيئة، فهي توهم منها أمراً محملاً عند المتناطقين باللغات التي هي حروف وأصوات متفاهمين بها، وقصور لفظ المشيئة عن الدلالة على كنه تلك الصفة وحقيقتها كقصور لفظ القدر ثم انقسمت الفعال الصادرة من القدرة إلى ما ينساق إلى المنتهى الذي هو غاية حكمتها وإلى ما يقف دون الغاية، وكان لكل واحد نسبة إلى صفة المشيئة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها تتم القسمة والاختلافات، فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبة، واستعير لنسبة الواقف دون غايته عبارة الكراهة، وقيل: إنهما جميعاً داخلان في وصف المشيئة، ولكن لكل واحد خاصية أخرى في النسبة يوهم لفظ المحبة والكراهة، منهما أمراً مجملاً عند طالبي الفهم من الألفاظ واللغات، ثم انقسم عباده الذين هم أيضاً من خلقه واختراعه إلى من سبقت له المشيئة الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها، ويكون ذلك قهراً في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته إلى غايتها في بعض الأمور، فكان لكل واحد من الفريقين نسبة إلى المشيئة خاصة، فاستعير لنسبة المستعملين في إتمام الحكمة بهم عبارة الرضا، واستعير للذين استوقف بهم أسباب الحكمة دون غايتها عبارة الغضب، فظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها، فاستعير له الكفران، وأردف ذلك بنقمة اللعن والمذمة زيادة في النكال، وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت بسببه الحكمة إلى غايتها، فاستعير له عبارة الشكر وأردف بخلعة الثناء والإطراء زيادة في الرضا والقبول والإقبال فكان الحاصل أنه تعالى أعطى الجمال ثم أثنى، وأعطى النكال ثم قبح وأردى، وكان مثاله أن ينظف الملك عبده الوسخ عن أوساخه ثم يلبسه من محاسن ثيابه، فإذا تمم زينته قال يا جميل ما أجملك وأجمل ثيابك وأنظف وجهك، فيكون بالحقيقة هو المجمل وهو المثني على الجمال فهو المثني عليه بكل حال، وكأنه لم يثني من حيث المعنى إلا على نفسه، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر والصورة، فهكذا كانت الأمور في الأزل، وهكذا تتسلسل الأسباب والمسببات بتقدير رب الأرباب ومسبب الأسباب، ولم يكن ذلك على اتفاق وبحث بل عن إرادة وحكمة وحكم حق وأمر جزم استعير له لفظ القضاء، وقيل إنه كلمح بالبصر أو هو أقرب، لفاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء الجزم بما سبق به التقدير، فاستعير لترتب آحاد المقدورات بعضها على بعض لفظ القدر فكان لفظ القضاء بإزاء الآمر الواحد الكلي، ولفظ القدر بإزاء التفصيل المتمادي إلى غير نهاية.
وقيل: إن شيئاً من ذل ليس خارجاً عن القضاء والقدر، فخطر لبعض العباد أن القسمة لماذا اقتضت هذا التفصيل، وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت والتفضيل، وكان بعضهم لقصوره ولا يطيق ملاحظة كنه هذا الأمر والاحتواء على مجامعه، فألجموا عما لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع وقيل لهم اسكنوا فما لهذا خلقتم " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " وامتلأت مشكاة بعضهم نوراً مقتبساً من نور الله تعالى في السموات والأرض وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسته نار فاشتعل نوراً على نور، فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربها فأدركوا الأمور كلها كما هي عليه فقيل لهم: تأدبوا بآداب الله تعالى واسكنوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوافإن للحيطان آذاناً وحواليكم ضعفاء الأبصار، فسيروا بسير أضعفكم ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش فيكون ذلك بسبب هلاكهم، فتخلقوا بأخلاق الله تعالى وانزلوا إلى سماء الدنيا من منتهى علوكم ليأنس بكم الضعفاء ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرقة من وراء حجابكم كما يقتبس الخفافيش من بقايا نور الشمس والكواكب في جنح الليل، فيحيا به حياة يحتملها شخصه وحاله وإن كان لا يحيا به حياة المترددين في كمال نور الشمس، وكونوا كمن قيل
فيهم
:

[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وشربنا شراباً طيباً عـنـد طـيب كذاك شراب الطـيبـين يطـيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضله وللأرض من كأس الكرام نصيب
[/poet]

فهكذا كان أول هذا الأمر وآخره، ولا تفهمه إلا إذا كنت أهلاً له، وإذا كنت أهلاً له فتحت العين وأبصرت فلا تحتاج إلى قائد يقودك، والأعمى يمكن أن يقاد ولكن إلى حدٍ ما؛ فإذا ضاق الطريق وصار أحد من السيف وأدق من الشعر قدر الطائر على أن يطير عليه ولم يقدر على أن يستجر وراءه أعمى، وإذا دق المجال ولطف لطف الماء مثلاً ولم يكن العبور إلا بالسباحة، فقد يقدر الماهر بصنعة السباحة أن يعبر بنفسه وربما لم يقدر على أن يستجر وراءه آخر، فهذه أمور نسبة السير عليها إلى السير على ما هو مجال جماهير الخلق كنسبة المشي على الماء إلى المشي على الأرض، والسباحة يمكن أن تتعلم؛ فأما المشي على الماء فلا يكتسب بالتعليم بل بقوة اليقين؛ ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عيسى عليه السلام يقال أنه مشى على الماء! فقال صلى الله عليه وسلم: " لو ازداد يقيناً لمشى على الهواء" فهذه رموز وإشارات إلى معنى الكراهة والمحبة والرضا والغضب والشكر والكفران، لا يليق بعلم المعاملة أكثر منها، وقد ضرب الله تعالى مثلاً لذلك تقريباً إلى أفهام الخلق إذ عرف أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، فكانت عبادتهم غاية الحكمة في حقهم، ثم أخبر أن له عبدين يحب أحدهما واسمه جبريل وروح القدس والأمين، وهو عنده محبوب مطاع أمين مكين، ويبغض الآخر واسمه إبليس وهو اللعين المنظر إلى يوم الدين، ثم أحال الإرشاد إلى جبريل فقال تعالى: " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقال تعالى: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده " وأحال الإغواء على إبليس فقال تعالى: " ليضل عن سبيله " والإغواء هو استيقاف العباد دون بلوغ غاية الحكمة، فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي غضب عليه، والإرشاد سياقه لهم إلى الغاية فانظر كيف نسبه إلى العبد الذي أحبه، وعندك في العادة له مثال، فالملك إذا كان محتاجاً إلى من يسقيه الشراب وإلى من يحجمه وينظف فناء منزله عن القاذورات وكان له عبدان فلا يعين للحجامة والتنظيف إلا أقبحهما وأخسهما ولا يفوض حمل الشراب والطيب إلا إلى أحسنهما وأكملهما وأحبهما إليه ولا ينبغي أن تقول هذا فعلي، ولم يكون فعله دون فعلي؟ فإنك أخطات إذ أضفت ذلك إلى نفسك، بل هو الذي صرف داعيتك لتخصيص الفعل المكروه بالشخص المكروه والفعل المحبوب إتماماً للعدل، فإن عدله تارة يتم بأمور لا مدخل لك فيها، وتارة يتم فيك فإنك أيضاً من أفعاله، فداعيتك وقدرتك وعلمك وعملك وسائر أسباب حركاتك في التعبير هو فعله الذي رتبه بالعدل ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة، إلا أنك لا ترى إلا نفسك فتظن أن ما يظهر عليك في عالم الشهادة ليس له سبب من عالم الغيب والملكوت، فلذلك تضيفه إلى نفسك، وإنما أنت مثل الصبي الذي ينظر ليلاً إلى لعب المشعبذ الذي يخرج صوراً من وراء حجاب ترقص وتزعق وتقوم وتقعد وهي مؤلفة من خرق لا تتحرك بأنفسها وإنما تحركها خيوط شعرية دقيقة لا تظهر في ظلام الليل ورؤوسها في يد المشعبذ وهو محتجب عن أبصار الصبيان، فيفرحون ويتعجبون لظنهم أن تلك الخرق ترقص وتلعب وتقوم وتقعد. وأما العقلاء فإنهم يعلمون أن ذلك تحريك وليس بتحرك، ولكنهم ربما لا يعلمون كيف تفصيله، والذي يعلم بعض تفصيله لا يعلمه كما يعلمه المشعبذ الذي الأمر إليه والجاذبة بيده، فكذلك صبيان أهل الدنيا والخلق كلهم صبيان بالنسبة إلى العلماء، ينظرون إلى هذه الأشخاص فيظنون أنها متحركة فيحيلون عليها، والعلماء يعلمون أنهم محركون إلا أنهم لا يعرفون كيفية التحريك وهم الأكثرون، إلا العارفون والعلماء الراسخون فإنهم أدركوا بحدة أبصارهم خيوطاً دقيقة عنكبوتية بل أدق منها بكثير معلقة من السماء متشبثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض لا تدرك تلك الخيوط لدقتها بهذه الأبصار الظاهرة، ثم شاهدوا رؤوس تلك الخيوط في مناطات لها هي معلقة بها، وشاهدوا لتلك المناطات مقابض هي في أيدي الملائكة المحركين للسموات، وشاهدوا أيضاً ملائكة السموات مصروفة إلى حملة العرش ينتظرون منهم ما ينزل عليهم من الأمر من حضرة الربوبية كي لا يعصوا الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وعبر عن هذه المشاهدات في القرآن وقيل: " وفي السماء رزقكم وما توعدون " وعبر عن انتظار ملائكة السموات لما ينزل إليهم من القدر والأمر فقيل: " خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكل شيءٍ علماً " وهذه أمور لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم. وعبر ابن عباس رضي الله عنهما عن اختصاص الراسخين في العلم بعلوم لا تحتملها أفهام الخلق حيث قرأ قوله تعالى " يتنزل الأمر بينهن " فقال: لو ذكرت ما أعرفه من معنى هذه الآية لرجمتموني، وفي لفظ آخر: لقلتم إنه كافر.
ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار وامتزج بعلم المعاملة ما ليس منه، فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول: إذا رجع حقيقة الشكر إلى كون العبد مستعملاً في إتمام حكمة الله تعالى، فأشكر العباد أحبهم إلى الله وأقربهم إليه وأقربهم إلى الله الملائكة ولهم أيضاً ترتيب، وما منهم إلا وله مقام معلوم، وأعلاهم في رتبة القرب ملك اسمه إسرافيل عليه السلام، وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة، وقد أصلح الله تعالى بهم الأنبياء عليهم السلام، وهم أشرف مخلوق على وجه الأرض، ويلي درجتهم درجة الأنبياء فإنهم في أنفسهم أخيار، وقد هدى الله بهم سائر الخلق وتمم بهم حكمته، وأعلاهم رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم، إذ أكمل الله به الدين وختم به النبيين ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم في أنفسهم صالحون، وقد أصلح الله بهم سائر الخلق، ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه ومن غيره، ثم يليهم السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء دينهم، ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل من سائر الأنبياء فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم ولم يكن السيف والملك لغيره من الأنبياء، ثم يلي العلماء والسلاطين الصالحون الذين أصلحوا دينهم ونفوسهم فقط، فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم، ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع.
واعلم أن السلطان به قوام الدين فلا ينبغي أن يستحقر وإن كان ظالماً فاسقاً. قال عمرو بن العاص رحمه الله: إمام غشوم خير من فتنة تدوم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، ويفسدون وما يصلح الله بهم أكثر، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساؤوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر".
وقال سهل: من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق، ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع، ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل. وسئل: أي الناس خير؟ فقال: السلطان، فقيل: كنا نرى أن شر الناس السلطان! فقال: مهلاً، إن الله تعالى له كل يوم نظرتين: نظرة إلى سلامة أموال المسلمين، ونظرة إلى سلامة أبدانهم، فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنبه، وكان يقول: الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من سبعين قاصاً يقصون.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]








_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين سبتمبر 18, 2006 7:19 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الركن الثاني من أركان الشكر
ما عليه الشكر
[/align]


وهو النعمة فلنذكر فيه حقيقة النعمة وأقسامها ودرجاتها وأصنافها ومجامعها فيما يخص ويعم فإن إحصاء نعم الله على عباده خارج عن مقدور البشر، كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فنقدم أموراً كلية تجري مجرى القوانين في معرفة النعم، ثم نشتغل بذكر الآحاد، والله الموفق للصواب.

[align=center]بيان حقيقة النعمة وأقسامها[/align]

اعلم أن كل خير ولذة وسعادة بل كل مطلوب ومؤثر فإنه يسمى نعمة، ولكن النعمة بالحقيقة هي السعادة الأخروية، وتسمية ما سواها نعمة وسعادة إما غلط وإما مجاز، كتسمية السعادة الدنيوية التي لا تعين على الآخرة نعمة فإن ذلك غلط محض، وقد يكون اسم النعمة للشيء صدقاً ولكن يكون إطلاقه على السعادة الأخروية أصدق فكل سبب يوصل إلى سعادة الآخرة ويعين عليها إما بواسطة واحدة أو بوسائط فإن تسميته نعمة صحيحة وصدق لأجل أنه يفضي إلى النعمة الحقيقية. والأسباب المعينة واللذات المسماة نعمة نشرحها بتقسيمات:
القسمة الأولى: أن الأمور كلها بالإضافة إلينا تنقسم إلى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً، كالعلم وحسن الخلق وإلى ما هو ضار فيهما جميعاً كالجهل وسوء الخلق، وإلى ما ينفع في الحال ويضر في المآل، كالتلذذ باتباع الشهوة، وإلى ما يضر في الحال ويؤلم ولكن ينفع في المآل كقمع الشهوات ومخالفة النفس، فالنافع في الحال والمآل هو النعمة تحقيقاً كالعلم وحسن الخلق والضار فيهما هو البلاء تحقيقاً وهو ضدهما والنافع في الحال المضر في المآل بلاء محض عند ذوي البصائر وتظنه الجهال نعمة ومثاله الجائع إذا وجد عسلاً فيه سم فإنه يعده نعمة إن كان جاهلاً، وإذا علمه علم أن ذلك بلاء سيق إليه. والضار في الحال النافع في المآل نعمة عند ذوي الألباب بلاء عند الجهال ومثاله الدواء البشع في الحال مذاقه إلا أنه شاف من الأمراض والأسقام وجالب للصحة والسلامة، فالصبي الجاهل إذا كلف شربه ظنه بلاء والعاقل يعده نعمة ويتقلد المنة ممن يهديه إليه ويقربه منه ويهيئ له أسبابه، فلذلك تمنع الأم ولدها من الحجامة والأب يدعوه إليها، فإن الأب لكمال عقله يلمح العاقبة، والأم لفرط حبها وقصورها تلحظ الحال، والصبي لجهله يتقلد منة من أمه دون أبيه ويأنس إليها وإلى شفقتها ويقدر الأب عدواً له؛ ولو عقل لعلم أن الأم عدواً باطناً في صورة صديق، لأن منعها إياه من الحجامة يسوقه إلى أمراض وآلام أشد من الحجامة، ولكن الصديق الجاهل شر من العدو العاقل، وكل إنسان فإنه صديق نفسه ولكنه صديق جاهل، فلذلك تعمل به ما لا يعمل به العدو.
قسمة ثانية: اعلم أن الأسباب الدنيوية مختلطة قد امتزج خيرها بشرها، فقلما يصفو خيرها كالمال والأهل والولد والأقارب والجاه وسائر الأسباب، ولكن تنقسم إلى ما نفعه أكثر من ضره كقدر الكفاية من المال والجاه وسائر الأسباب، وإلى ما ضره أكثر من نفعه في حق أكثر الأشخاص كالمال الكثير والجاه الواسع، وإلى ما يكافئ ضرور نفعه وهذه أمور تختلف بالأشخاص؛ فرب إنسان صالح ينتفع بالمال الصالح وإن كثر فينفقه في سبيل الله ويصرفه إلى الخيرات، فهو مع هذه التوفيق نعمة في حقه، ورب إنسان يستضر بالقليل أيضاً إذ لا يزال مستصغراً له شاكياً من ربه طالباً للزيادة عليه، فيكون ذلك مع هذا الخذلان بلاء في حقه.
قسمة ثالثة: اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى ما هو مؤثر لذاته لا لغيره، وإلى مؤثر لغيره، وإلى مؤثر لذاته ولغيره: فالأول ما يؤثر لذاته لا لغيره: كلذة النظر إلى وجه الله تعالى وسعادة لقائه، وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها فإنها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية أخرى مقصودة وراءها، بل تطلب لذاتها.
الثاني ما يقصد لغيره ولا غرض أصلاً في ذاته: كالدراهم والدنانير فإن الحاجة لو كانت لا تنقضي بها لكانت هي والحصباء بمثابة واحدة، ولكن لما كانت وسيلة إلى اللذات سريعة الإيصال إليها صارت عند الجهال محبوبة في نفسها حتى يجمعوها ويكنزوها ويتصارفوا عليها بالربا ويظنون أنها مقصودة؛ ومثال هؤلاء مثال من يحب شخصاً فيحب بسببه رسوله الذي يجمع بينه وبينه ثم ينسى في محبة الرسول محبة الأصل فيعرض عنه طول عمره ولا يزال مشغولاً بتعهد الرسول ومراعاته وتفقده، وهو غاية الجهل والضلال.
الثالث ما يقصد لذاته ولغيره: كالصحة والسلامة فإنها تقصد ليقدر بسببها على الذكر والفكر الموصلين إلى لقاء الله تعالى، أو ليتوصل بها إلى استيفاء لذات الدنيا، وتقصد أيضاً لذاتها فإن الإنسان وإن استغنى عن الشيء الذي تراد سلامة الرجل لأجله فيريد أيضاً سلامة الرجل من حيث إنها سلامة، فإذن المؤثر لذاته فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً، وما يؤثر لذاته ولغيره أيضاً فهو نعمة ولكن دون الأول، فأما ما لا يؤثر إلا لغيره كالنقدين فلا يوصفان أنفسهما من حيث إنهما جوهران بأنهما نعمة، بل من حيث هما وسيلتان فيكونان نعمة في حق من يقصد أمر ليس يمكنه أن يتوصل إليه إلا بهما، فلو كان مقصده العلم والعبادة ومعه الكفاية التي هي ضرورة حياته، استوى عند الذهب والمدر، فكان وجودهما وعدمهما عنده بمثابة واحدة، بل ربما شغله وجودهما عن الفكر والعبادة فيكونان بلاء في حقه ولا يكونان نعمة
قسمة رابعة: اعلم أن الخيرات باعتبار آخر تنقسم إلى نافع ولذيذ وجميل، فاللذيذ هو الذي تدرك راحته في الحال، والنافع هو الذي يفيد في المآل، والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال، والشرور أيضاً تنقسم إلى ضار وقبيح ومؤلم، وكل واحد من القسمين ضربان: مطلق ومقيد، فالمطلق هو الذي اجتمع فيه الأوصاف الثلاثة أما في الخير فكالعلم والحكمة فإنها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة، وأما في الشر فكالجهل فإنه ضار وقبيح ومؤلم، وإنما يحس الجاهل بألم جهله إذا عرف أنه جاهل، وذلك بأن يرى غيره عالماً ويرى نفسه جاهلاً فيدرك ألم النقص فتنبعث منه شهوة العلم اللذيذة، ثم قد يمنع الحسد والكبر والشهوات البدنية عن التعلم فيتجاذبه متضادان فيعظم ألمه، فإنه إن ترك التعلم تألم بالجهل ودرك النقصان، وإن اشتغل بالتعلم تألم بترك الشهوات أو بترك الكبر وذل التعلم، ومثل هذا الشخص لا يزال في عذاب دائم لا محالة. الضرب الثاني: المقيد، وهو الذي جمع بعض هذه الأوصاف دون بعض، فرب نافع مؤلم كقطع الإصبع المتآكلة والسلعة الخارجة من البدن، ورب نافع قبيح كالحمق فإنه بالإضافة إلى بعض الأحوال نافع، فقد قيل: استراح من لا عقل له فإنه لا يتهم بالعاقبة فيستريح في الحال إلى أن يحين وقت هلاكه، ورب نافع من وجه ضار من وجه: كإلقاء المال في البحر عند خوف الغرق، فإنه ضار للمال نافع للنفس في نجاتها. والنافع قسمان: ضروري كالإيمان وحسن الخلق في الإيصال إلى سعادة الآخرة وأعني بهما العلم والعمل إذ لا يقوم مقامهما البتة غيرها، وإلى ما لا يكون ضرورياً كالسكنجين مثلاً في تسكين الصفراء، فإنه قد يمكن تسكينها أيضاً بما يقوم مقامه.
قسمة خامسة: اعلم أن النعمة يعبر بها عن كل لذيذ، واللذات بالإضافة إلى الإنسان من حيث اختصاصه بها أو مشاركته لغيره ثلاثة أنواع: عقلية، وبدنية مشتركة مع بعض الحيوانات، وبدنية مشتركة مع جميع الحيوانات
أما العقلية فكلذة العلم والحكمة، إذ ليس يستلذها السمع والبصر والشم والذوق ولا البطن ولا الفرج، وإنما يستلذها القلب لاختصاصه بصفة يعبر عنها بالعقل، وهذه أقل اللذات وجوداً وهي أشرفها، أما قلتها فلأن العلم لا يستلذه إلا عالم، والحكمة لا يستلذها إلا حكيم، وما أقل أهل العلم والحكمة، وما أكثر المتسمين باسمهم والمترسمين برسومهم. وأما شرفها فلأنها لازمة لا تزول أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة، ودائمة لا تمل، فالطعام يشبع منه فيمل، وشهوة الوقاع يفرغ منها فتستثقل، والعلم والحكمة قط لا يتصور أن تمل وتستثقل، ومن قدر على الشريف الباقي أبد الآباد إذا رضي بالخسيس الفاني في أقرب الآماد فهو مصاب في عقله محروم لشقاوته وإدباره وأقل أمر فيه: أن العلم والعقل لا يحتاج إلى أعوان وحفظة بخلاف المال، إذ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزيد بالإنفاق والمال ينقص بالإنفاق، والمال يسرق والولاية يعزل عنها، والعلم لا تمتد إليه أيدي السراق بالأخذ ولا أيدي السلاطين بالعزل، فيكون صاحبه في روح الأمن أبداً، وصاحب المال والجاه في كرب الخوف أبداً، ثم العلم نافع ولذيذ وجميل في كل حال أبداً، والمال تارة يجذب إلى الهلاك وتارة يجذب إلى النجاة، ولذلك ذم الله تعالى المال في القرآن في مواضع وإن سماه خيراً في مواضع. وأما قصور أكثر الخلق عن إدراك لذة العلم، فإما لعدم الذوق فمن لم يعرف ولم يشتق، إذ الشوق تبع الذوق، وإما الفساد أمزجتهم ومرض قلوبهم بسبب إتباع الشهوات، كالمريض الذي لا يدرك حلاوة العسل ويراه مراً، وإما لقصور فطنتهم، إذ لم تخلق لهم بعد الصفة التي بها يستلذ العلم، كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل والطيور السمان ولا يستلذ إلا اللبن، وذلك لا يدل على أنها ليست لذيذة، ولا استطابه اللبن تدل على أنه ألذ الأشياء، فالقاصرون عن درك لذة العلم والحكمة ثلاثة، إما من لم يحي باطنه كالطفل، وإما من مات بعد الحياة بإتباع الشهوات، وإما من مرض بسبب إتباع الشهوات، وقوله تعالى: " في قلوبهم مرض " إشارة إلى مرض العقول. وقوله عز وجل " لينذر من كان حياً " إشارة إلى من لم يحيى حياة باطنة، وكل حي بالبدن ميت بالقلب فهو عند الله من الموتى وإن كان عند الجهال من الأحياء، ولذلك كان الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وإن كانوا موتى بالأبدان.
الثانية: لذة يشارك الإنسان فيها بعض الحيوانات كلذة الرياسة والغلبة والاستيلاء، وذلك موجود في الأسد والنمر وبعض الحيوانات الثالثة: ما يشارك فيها سائر الحيوانات كلذة البطن والفرج، وهذه أكثرها وجوداً وهي أخسها، ولذلك اشترك فيها كل ما دب ودرج حتى الديدان والحشرات، ومن جاوز هذه الرتبة تشبثت به لذة الغلبة، وهو أشدها التصاقاً بالمتغافلين، فإن جاوز ذلك ارتقى إلى الثالثة فصار أغلب اللذات عليه لذة العلم والحكمة، لا سيما لذة معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأفعاله، وهذه رتبة الصديقين، ولا ينال تمامها إلا بخروج استيلاء حب الرياسة من القلب، وآخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة، وأما شره البطن والفرج فكسره مما يقوى عليه الصالحون وشهوة الرياسة لا يقوى على كسرها إلا الصديقون، فأما قمعها بالكلية - حتى لا يقع بها الإحساس على الدوام وفي اختلاف الأحوال فيشبه أن يكون خارجاً عن مقدور البشر. نعم تغلب لذة معرفة الله تعالى في أحوال لا يقع معها الإحساس بلذة الرياسة والغلبة، ولكن ذلك لا يدوم طول العمر بل تعتريه الفترات فتعود إلى الصفات البشرية فتكون موجودة ولكن تكون مقهورة لا تقوى على حمل النفس على العدول عن العدل، وعند هذا تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام: قلب لا يحب إلا الله تعالى ولا يستريح إلا بزيادة المعرفة والفكر به، وقلب لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله بالجاه والرياسة والمال وسائر الشهوات البدنية وقلب أغلب أحواله الأنس بالله سبحانه والتلذذ بمعرفته والفكر فيه ولكن قد يعتريه في بعض الأحوال الرجوع إلى أوصاف البشرية، وقلب أغلب أحواله التلذذ بالصفات البشرية ويعتريه في بعض الأحوال تلذذ بالعلم والمعرفة. أما الأول فإن كان ممكناً في الوجود فهو في غاية البعد. وأما الثاني فالدنيا طافحة به، وأما الثالث والرابع فموجودان ولكن على غاية الندور، ولا يتصور أن يكون ذلك نادراً شاذاً، وهو مع الندور يتفاوت في القلة والكثرة، وإنما تكون كثرته في الأعصار القريبة من أعصار الأنبياء عليهم السلام، فلا يزال يزداد العهد طولاً وتزداد مثل هذه القلوب قلة، إلى أن تقرب الساعة ويقضي الله أمراً كان مفعولا، وإنما وجب أن يكون هذا نادراً لأنه مبادي ملك الآخرة والملك عزيز والملوك لا يكثرون، فكما لا يكون الفائق في الملك والجمال إلا نادراً وأكثر الناس من دونهم، فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة، فإنها عبارة عن عالم الشهادة، والآخرة عبارة عن عالم الغيب، وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة، والصورة في المرآة وإن كانت هي الثانية في رتبة الوجود فإنها أولى في حق رؤيتك، فإنك لا ترى نفسك، وترى صورتك في المرآة أولاً فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة، فالقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة والقلب المتأخر متقدماً؛ وهذا نوع من الانعكاس ولكن الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العلم، فكذلك عالم الملك والشهادة محاكٍ لعالم الغيب والملكوت، فمن الناس من يسر له نظر الاعتبار فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت فيسمى عبوره عبرة، وقد أمر الحق به فقال: " فاعتبروا يا أولي الأبصار" ومنهم من عميت بصيرته فلم يعتبر فاحتبس في عالم الملك والشهادة وستنفتح إلى حبسه أبواب جهنم وهذا الحبس مملوء ناراً من شأنها أن تطلع على الأفئدة، إلا أن بينه وبين إدراك المها حجاباً، فإذا رفع ذلك الحجاب بالموت أدرك، وعن هذا أظهر الله تعالى الحق على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا الجنة والنار مخلوقتان، ولكن الجحيم تدرك مرة بإدراك يسمى علم اليقين، ومرة بإدراك آخر يسمى عين اليقين، وعين اليقين لا يكون إلا في الآخرة، وعلم اليقين قد يكون في الدنيا ولك للذين قد وفوا حظهم من نور اليقين، فلذلك قال الله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم "، أي في الدنيا " ثم لترونها عين اليقين " أي في الآخرة، فإذن قد ظهر أن القلب الصالح لملك الآخرة لا يكون إلا عزيزاً كالشخص الصالح لملك الدنيا قسمة سادسة حاوية لمجامع التعلم: اعلم أن النعم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها وإلى ما هي مطلوبة لأجل الغاية؛ فإنها سعادة الآخرة ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاء لا فناء له، وسرور لا غم فيه، وعلم لا جهل معه، وغنى لا فقر بعده، وهي النعمة الحقيقية، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عيش إلا عيش الآخرة" وقال ذلك مرة في الشدة تسلية للنفس، وذلك في وقت حفر الخندق في شدة الضر، وقال ذلك مرة في السرور منعاً للنفس من الركون إلى سرور الدنيا؛ وذلك عند إحداق الناس به في حجة الوداع.
وقال رجل: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وهل تعلم ما تمام النعمة؟" قال: لا، قال: " تمام النعمة دخول الجنة".
وأما الوسائل فتنقسم إلى الأقرب الأخص كفضائل النفس؛ وإلى ما يليه في القرب كفضائل البدن وهو الثاني، وإلى ما يليه في القرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة، وإلى ما يجمع بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة للنفس كالتوفيق والهداية، فهي إذن أربعة أنواع: النوع الأول وهو الأخص: الفضائل النفسية ويرجع حاصلها مع انشعاب أطرافها إلى الإيمان وحسن الخلق، وينقسم الإيمان إلى علم المكاشفة وهو العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته ورسله، وإلى علوم المعاملة. وحسن الخلق ينقسم إلى قسمين: ترك مقتضى الشهوات والغضب واسمه العفة ومراعاة العدل في الكف عن مقتضى الشهوات والإقدام حتى لا يمتنع أصلاً ولا يقدم كيف شاء، بل يكون إقدامه وإحجامه بالميزان العدل الذي أنزله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ قال تعالى: " أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " فمن خصي نفسه ليزيل شهوة النكاح، أو ترك النكاح مع القدرة والأمن من الآفات، أو ترك الأكل حتى ضعف عن العبادة والذكر والفكر فقد أخسر الميزان. ومن انهمك في شهوة البطن والفرج فقد طغى في الميزان، وإنما العدل أن يخلو وزنه وتقديره عن الطغيان والخسران فتعتدل به كفتا الميزان، فإذن الفضائل الخاصة بالنفس المقربة إلى الله تعالى أربعة: علم مكاشفة، وعلم معاملة، وعفة، وعدالة. ولا يتم هذا في غالب الأمر إلا بالنوع الثاني وهو الفضائل البدنية وهي أربعة: الصحة، والقوة، والجمال، وطول العمر. ولا تتهيأ هذه الأمور الأربعة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة: المال، والأهل، والجاه، وكرم العشيرة. ولا ينتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة والبدنية إلا بالنوع الرابع وهي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة وهي أربعة: هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده. فمجموع هذه النعم ستة عشر إذا قسمناها إلى أربعة وقسمنا كل واحدة من الأربعة إلى أربعة، وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى البعض إما حاجة ضرورية أو نافعة. أما الحاجة الضرورية فكحاجة سعادة الآخرة إلى الإيمان وحسن الخلق إذ لا سبيل إلى الوصول إلى سعادة الآخرة البتة إلا بهما، فليس للإنسان إلا ما سعى وليس لأحد في الآخرة إلا ما تزود من الدنيا، فكذلك حاجة الفضائل النفسية التي تكسب هذه العلوم وتهذيب الأخلاق إلى صحة البدن ضروري: وأما الحاجة النافعة على الجملة فكحاجة هذه النعم النفسية والبدنية إلى النعم الخارجة مثل المال والعز والأهل، فإن ذلك لو عدم ربما تطرق الخلل وإلى بعض النعم الداخلة.
فإن قلت: فما وجه الحاجة لطريق الآخرة إلى النعم الخارجة من المال والأهل والجاه والعشيرة؟ فاعلم أن هذه الأسباب جارية مجرى الجناح المبلغ والآلة المسهلة للمقصود. أما المال فالفقير في طلب العلم والكمال وليس له كفاية: كساع إلى الهيجا بغير سلاح، وكبازي يروم الصيد بلا جناح، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وقال صلى الله عليه وسلم: " نعم العون على تقوى الله المال" وكيف لا ومن عدم المال صار مستغرق الأوقات في طلب الأقوات وفي تهيئة اللباس والمسكن وضرورات المعيشة، ثم يتعرض لأنواع من الأذى تشغله عن الذكر والفكر ولا تندفع إلا بسلاح المال، ثم مع ذلك يحرم عن فضيلة الحج والزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات
وقال بعض الحكماء - وقد قيل له ما النعيم؟ فقال: الغنى فإني رأيت الفقير لا عيش له. قيل: زدنا! قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا عيش له. قيل: زدنا! قال: العافية، فإني رأيت المريض لا عيش له. قيل: زدنا! قال الشباب، فإني رأيت الهرم لا عيش له.
وكأن ما ذكره إشارة إلى نعيم الدنيا ولكن من حيث إنه معين على الآخرة فهو نعمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" وأما الأهل والولد الصالح فلا يخفى وجه الحاجة إليهما، إذ قال صلى الله عليه وسلم: " نعم العون على الدين المرأة الصالحة" وقال صلى الله عليه وسلم في الولد: " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له . . . الحديث"وقد ذكرنا فوائد الأهل والولد في كتاب النكاح.
وأما الأقارب فمهما كثر أولاد الرجل وأقاربه كانوا له مثل الأعين والأيدي فيتيسر له بسببهم من الأمور الدنيوية المهمة في دينه ما لو انفرد به لطال شغله، وكل ما يفرغ قلبك من ضرورات الدنيا فهو معين لك على الدين، فهو إذن نعمة.
وأما العز والجاه فبه يدفع الإنسان عن نفسه الذل والضيم، ولا يستغني عنه مسلم فإنه لا ينفك عن عدو يؤذيه وظالم يشوش عليه علمه وعمله وفراغه ويشغل قلبه، وقلبه رأس ماله، وإنما تندفع هذه الشواغل بالعز والجاه، ولذلك قيل: الدين والسلطان توأمان. قال تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ولامعنى للجاه إلا ملك القلوب، كما لا معنى للغنى إلا ملك الدراهم، ومن ملك الدراهم تسخرت له أرباب القلوب لدفع الأذى عنه، فكما يحتاج إلى سقف يدفع عنه المطر، وجبة تدفع عنه البرد، وكلب يدفع عنه الذئب، فيحتاج أيضاً إلى من يدفع الشر به عن نفسه، وعلى هذا القصد كان الأنبياء الذين لا ملك لهم ولا سلطنة يراعون السلاطين ويطلبون عندهم الجاه، وكذلك علماء الدين لا على قصد التناول من خزائنهم والاستئثار والاستكثار في الدنيا بمتابعتهم، ولا تظن أن نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث نصره وأكمل دينه وأظهره على جميع أعدائه ومكن في القلوب حبه حتى اتسع به عزه وجاهه كانت أقل من نعمته عليه حيث كان يؤذي ويضرب حتى افتقر إلى الهرب والهجرة.
فإن قلت: كرم العشيرة وشرف الأهل هو من النعم أم لا؟ فأقول: نعم، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأئمة من قريش" ولذلك كان صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس أرومة في نسب آدم عليه السلاموقال صلى الله عليه وسلم: " تخيروا لنطفكم الأكفاء" وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " فقيل: وما خضراء الدمن؟ قال: " المرأة الحسناء في المنبت السوء" فهذا أيضاً من النعم ولست أعني به الانتساب إلى الظلمة وأرباب الدنيا، بل الانتساب إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أئمة العلماء وإلى الصالحين والأبرار المتوسمين بالعلم والعمل.
فإن قلت: فما معنى الفضائل البدنية؟ فأقول: لا خفاء بشدة الحاجة إلى الصحة والقوة وإلى طول العمر إذ لا يتم علم وعمل إلا بهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى" وإنما يستحقر من جملته أمر الجمال، فيقال يكفي أن يكون البدن سليماً من الأمراض الشاغلة عن تحري الخيرات، ولعمري الجمال قليل الغناء ولكنه من الخيرات أيضاً: أما في الدنيا فلا يخفى نفعه فيها، وأما في الآخرة فمن وجهين: أحدهما أن القبيح مذموم والطباع عنه نافرة وحاجات الجميل إلى الإجابة أقرب وجاهه في الصدور أوسع، فكأنه من هذا الوجه جناح مبلغ كالمال والجاه، إذ هو نوع قدرة، إذ يقدر الجميل الوجه على تنجيز حاجات لا يقدر عليها القبيح، وكل معين على قضاء حاجات الدنيا فمعين على الآخرة بواسطتها والثاني: أن الجمال في الأكثر يدل على فضيلة النفس؛ لأن نور النفس إذا تم إشراقه تأدى إلى البدن، فالمنظر والمخبر كثيراً ما يتلازمان، ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيهات البدن فقالوا: الوجه والعين مرآة الباطن. ولذلك يظهر فيه أثر الغضب والسرور والغم، ولذلك قيل: طلاقة الوجه عنوان ما في النفس. وقيل: ما في الأرض قبيح إلا ووجهه أحسن ما فيه. واستعرض المأمون جيشاً فعرض عليه رجل قبيح، فاستنطقه فإذا هو ألكن، فأسقط اسمه في الديوان وقال: الروح إذا أشرقت على الظاهر فصباحة، أو على الباطن ففصاحة، وهذا ليس له ظاهر ولا باطن. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " اطلبوا الخير عند صباح الوجوه" وقال عمر رضي الله تعالى عنه: " إذا بعثتم رسولاً فاطلبوه حسن الوجه حسن الاسم. وقال الفقهاء: إذا تساوت درجات المصلين فأحسنهم وجهاً أولاهم بالإمامة، وقال تعالى ممتناً بذلك: " وزاده بسطة في العلم والجسم " ولسنا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة فإن ذلك أنوثة، وإنما نعني به ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وتناصف خلقة الوجه بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه
فإن قلت: فقد أدخلت المال والجاه والنسب والأهل والولد في حيز النعم، وقد ذم الله تعالى المال والجاه، وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا العلماء. قال تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم "، وقال عز وجل: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " وقال علي كرم الله وجهه في ذم النسب: الناس أبناء ما يحسنون وقيمة كل امرئ ما يحسنه، وقيل: المرء بنفسه لا بأبيه. فما معنى كونها نعمة مذمومة شرعاً؟ فاعلم أن من يأخذ العلوم من الألفاظ المنقولة المؤولة والعمومات المخصصة كان الضلال عليه أغلب ما لم يهتد بنور الله تعالى إلى إدراك العلوم على ما هي عليه، ثم ينزل النقل على وفق ما ظهر له منها بالتأويل مرة وبالتخصيص أخرى؛ فهذه نعم معينة على أمر الآخرة لا سبيل إلى جسدها، إلا أن فيها فتنة ومخاوف؛ فمثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز عن سمها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة، وإن أصابها السوادي الغر فهي عليه بلاء وهلاك، وهو مثل البحر الذي تحته أصناف الجواهر واللآلئ، فمن ظفر بالبحر فإن كان عالماً بالسباحة وطريق الغوص وطريق الاحتراز عن مهلكات البحر فقد ظفر بنعمه، وإن خاضه جاهلاً بذلك فقد هلك، فلذلك مدح الله تعالى المال وسماه خيراً، ومدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " نعم العون على تقوى الله تعالى المال " وكذلك مدح الجاه والعز، إذ منّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أظهره على الدين كله وحببه في قلوب الخلق، وهو المعني بالجاه، ولكن المنقول في مدحهما قليل، والمنقول في ذم المال والجاه كثير، وحيث ذم الرياء فهو ذم الجاه، إذ الرياء مقصوده اجتلاب القلوب. ومعنى الجاه ملك القلوب، وإنما كثر هذا وقل ذاك لأن الناس أكثرهم جهال بطريق الرقية لحية المال وطريق الغوص في بحر الجاه، فوجب تحذيرهم فإنهم يهلكون بسم المال قبل الوصول إلى ترياقه، ويهلكهم تمساح بحر الجاه قبل العثور على جواهره، ولو كانا في أعيانهما مذمومين بالإضافة إلى كل أحد لما تصور أن ينضاف إلى النبوة الملك كما كان لرسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا أن ينضاف إليها الغنى كما كان لسليمان عليه السلام، فالناس كلهم صبيان والأموال حيات والأنبياء والعارفون معزمون، فقد يضر الصبي ما لا يضر المعزم. نعم المعزم لو كان له ولد يريد بقاءه وصلاحه وقد وجد حية وعلم أنه لو أخذها لأجل ترياقها لاقتدى به ولده وأخذ الحية إذا رآها ليلعب بها فيهلك، فله غرض في الترياق وله غرض في حفظ الولد، فواجب عليه أن يزن غرضه في الترياق بغرضه في حفظ الولد، فإذا كان يقدر على الصبر عن الترياق ولا يستضر به ضرراً كثيراً، ولو أخذها لأخذها الصبي ويعظم ضرره بهلاكه فواجب عليه أن يهرب عن الحية إذا رآها ويشير على الصبي بالهرب ويقبح صورتها في عينه ويعرفه أن فيها سماً قاتلاً لا ينجو منه أحد ولا يحدثه أصلاً بما فيها من نفع الترياق، فإن ذلك ربما يغره فيقدم عليه من غير تمام المعرفة، وكذلك الغواص إذا علم أنه لو غاص في البحر بمرأى من ولده لاتبعه وهلك فواجب عليه أن يحذر الصبي ساحل البحر والنهر. فإن كان لا ينزجر الصبي بمجرد الزجر مهما رأى والده يحوم حول الساحل، فواجب عليه أن يبعد من الساحل مع الصبي ولا يقرب منه بين يديه، فكذلك الأمة في حجر الأنبياء عليهم السلام كالصبيان الأغبياء. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" وقال صلى الله عليه وسلم: " إنما تتهافتون على النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم" وحظهم الأوفر في حفظ أولادهم عن المهالك، فإنهم لم يبعثوا إلا لذلك، وليس لهم في المال حظ إلا بقدر القوت، فلا جرم اقتصروا على قدر القوت وما فضل فلم يمسكوه بل أنفقوه، فإن الإنفاق فيه الترياق، وفي الإمساك السم، ولو فتح للناس باب كسب المال ورغبوا فيه لمالوا إلى سم الإمساك ورغبوا عن ترياق الإنفاق، فلذلك قبحت الأموال، والمعنى به تقبيح إمساكها والحرص عليها للاستكثار منها والتوسع في نعيمها بما يوجب الركون إلى الدنيا ولذتها؛ فأما أخذها بقدر الكفاية وصرف الفاضل إلى الخيرات فليس بمذموم، وحق كل مسافر أن لا يحمل إلا بقدر زاده في السفر إذا صمم العزم على أن يختص بما يحمله؛ فأما إذا سمحت نفسه بإطعام الطعام وتوسيع الزاد على الرفقاء فلا بأس بالاستكثار. وقوله عليه الصلاة والسلام: " ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب" معناه لأنفسكم خاصة ولا فقد كان فيمن يروي هذا الحديث ويعمل به من يأخذ ألف درهم في موضع واحد ويفرقها في موضعه وإلا يمسك منها حبة. ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأغنياء يدخلون الجنة بشدة استأذنه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أن يخرج عن جميع ما يملكه، فأذن له فنزل جبريل عليه السلام وقال: مره بأن يطعم المسكين ويكسو العاري ويقري الضيف . . . الحديث فإذن النعم الدنيوية مشوبة قد امتزج دواؤها بدائها ومرجوها بمخوفها ونفعها بضرها؛ فمن وثق ببصيرته وكمال معرفته فله أن يقرب منها متقياً داءها ومستخرجاً دواءها ومن لا يثق بها فالبعد البعد والفرار الفرار عن مظان الأخطار، فلا تعدل بالسلامة شيئاً في حق هؤلاء وهم الخلق كلهم إلا من عصمه الله تعالى وهداه لطريقه.
فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية الراجعة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد؟ فاعلم أن التوفيق لا يستغني عنه أحد، وهو عبارة عن التأليف والتلفيق بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدره، وهذا يشمل الخير والشر وما هو سعادة وما هو شقاوة، ولكن جرت العادة بتخصيص اسم التوفيق بما يوافق السعادة من جملة قضاء الله تعالى وقدره، كما أن الإلحاد عبارة عن الميل فخصص بمن مال إلى الباطل عن الحق، وكذا الارتداد، ولا خفاء بالحاجة إلى التوفيق ولذلك قيل:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/12.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
[/poet]

فأما الهداية فلا سبيل لأحد إلى طلب السعادة إلا بها، لأن داعية الإنسان قد تكون مائلة إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا لم يعلم ما فيه صلاح آخرته حتى يظن الفساد صلاحاً فمن أين ينفعه مجرد الإرادة؟ فلا فائدة في الإرادة والقدرة والأسباب إلا بعد الهداية، ولذلك قال تعالى: " ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى " وقال تعالى: " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء " وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى " أي بهدايته، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا".
وللهداية ثلاثة منازل:
الأولى معرفة طريق الخير والشر المشار إليه بقوله تعالى: " وهديناه النجدين " وقد أنعم الله تعالى به على كافة عباده بعضه بالعقل وبعضه على لسان الرسل، ولذلك قال تعالى: " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " فأسباب الهدى هي الكتاب والرسل وبصائر العقول، وهي مبذولة ولا يمنع منها إلا الحسد والكبر وحب الدنيا، والأسباب التي تعمي القلوب وإن كانت لا تعمي البصر، قال تعالى: " فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور " ومن جملة المعميات: الإلف والعادة وحب استصحابهما، وعنه العبارة بقوله تعالى: " إنا وجدنا آباءنا على أمة " الآية. وعن الكبر والحسد العبارة بقوله تعالى: "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " وقوله تعالى: " أبشرا منا واحداً نتبعه " فهذه المعميات هي التي منعت الاهتداء.
والهداية الثانية وراء هذه الهداية العامة وهي التي يمد الله تعالى بها العبد حالاً بعد حال، وهي ثمرة المجاهدة حيث قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " وهو المراد بقوله تعالى: "والذين اهتدوا زادهم هدى ".
والهداية الثالثة وراء الثانية: وهو النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدي بها إلا ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف وإمكان تعلم العلوم وهو الهوى المطلق وما عداه حجاب له ومقدمات؛ وهو الذي شرفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه وإن كان الكل من جهته تعالى، فقال تعالى: " قل إنّ هدى الله هو الهدى " وهو المسمى حياة في قوله تعالى: " أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس " والمعنى بقوله تعالى: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه " وأما الرشد فنعني به العناية الإلهية التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده فتقويه على ما فيه صلاحه وتفتره عما فيه فساده، ويكون ذلك من الباطن كما قال تعالى: " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين " فالرشد عبارة عن هداية باعثة إلى جهة السعادة محركة إليها، فالصبي إذا بلغ خبيراً بحفظ المال وطرق التجارة والاستنماء ولكنه مع ذلك يبذر ولا يريد الاستنماء لا يسمى رشيداً لا لعدم هدايته بل لقصور هدايته عن تحريك داعيته، فكم من شخص يقدم على ما يعلم أنه يضره فقد أعطي الهداية وميز بها عن الجاهل الذي لا يدري أنه يضره ولكن ما أعطى الرشد، فالرشد بهذا الاعتبار أكمل من مجرد الهداية إلى وجوه الأعمال وهي نعمة عظيمة. وأما التسديد فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه ليشتد في صوب الصواب في أسرع وقت، فإن الهداية بمجردها لا تكفي، بل لا بد من هداية محركة للداعية وهي الرشد والرشد لا يكفي، بل لا بد من تيسر الحركات بمساعدة الأعضاء والآلات حتى يتم المراد مما انبعثت الداعية إليه كالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبيه الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد، وأما التأييد فكأنه جامع للكل، وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج، وهو المراد بقوله عز وجل: " إذ أيدتك بروح القدس " وتقرب منه العصمة، وهي عبارة عن وجود إلهي يسبح في الباطن يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر يصير كمانع من باطنه غير محسوس، وإياه عنى بقوله تعالى: " ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه " فهذه هي مجامع النعم، ولن تثبت إلا بما يخوله الله من الفهم الصافي الثاقب والسمع الواعي والقلب البصير المراعي المتواضع والمعلم الناصح والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلته القاصر عما يشغل عن الدين بكثرته والعز الذي يصونه عن سفه السفهاء وظلم الأعداء، ويستدعي كل واحد من هذه الأسباب الستة عشر أسباباً، وتستدعي تلك الأسباب أسباباً إلى أن تنتهي بالآخرة إلى دليل المتحيرين وملجأ المضطرين وذلك رب الأرباب ومسبب الأسباب، وإذا كانت تلك الأسباب طويلة لا يحتمل مثل هذا الكتاب استقصاءها فلنذكر منها أنموذجاً ليعلم به معنى قوله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" وبالله التوفيق.


[align=center]بيان وجه الأنموذج في كثرة نعم الله تعالى
وتسلسلها وخروجها عن الحصر والإحصاء [/align]


اعلم أنّا جمعنا النعم في ستة عشر ضرباً، وجعلنا صحة البدن نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخرة، فهذه النعمة الواحدة لو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها، ولكن الأكل أحد أسباب الصحة فلنذكر نبذة من جملة الأسباب التي بها تتم نعمة الأكل فلا يخفى أن الأكل فعل، وكل فعل من هذا النوع فهو حركة، وكل حركة لا بد لها من جسم متحرك هو آلتها، ولا بد لها من قدرة على الحركة، ولا بد من إرادة للحركة، ولا بد من علم بالمراد وإدراك له، ولا بد للأكل من مأكول، ولا بد للمأكول من أصل منه يحصل، ولا بد له من صانع يصلحه؛ فلنذكر أسباب الإدراك، ثم أسباب الإرادات، ثم أسباب القدرة، ثم أسباب المأكول على سبيل التلويح لا على سبيل الاستقصاء.

[align=center]الطرف الأول
في نعم الله تعالى في خلق أسباب الإدراك[/align]


اعلم أن الله تعالى خلق النبات وهو أكمل وجوداً من الحجر والمدر والحديد والنحاس وسائر الجواهر التي لا تنمى ولا تغذى؛ فإن النبات خلق فيه قوة بها يجتذب الغذاء إلى نفسه من جهة أصله وعروقه التي في الأرض، وهي له آلات، فبها يجتذب الغذاء وهي العروق الدقيقة التي تراها في كل ورقة، ثم تغلظ أصولها، ثم تتشعب، ولا تزال تستدق وتتشعب إلى عروق شعرية تنبسط في أجزاء الورقة حتى تغيب عن البصر، إلا أن النبات مع هذا الكمال ناقص، فإنه إذا أعوزه غذاء يساق إليه ويماس أصله جف ويبس ولم يمكنه طلب الغذاء من وضع آخر، فإن الطلب إنما يكون بمعرفة المطلوب وبالانتقال إليه والنبات عاجز عن ذلك، فمن نعمة الله تعالى عليك أن خلق لك آلات الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في خلق الحواس الخمس التي هي آلة الإدراك، فأولها حاسة اللمس وإنما خلقت لك حتى إذا مستك نار محرقة أو سيف جارح تحس به فتهرب منه، وهذا أول حس يخلق للحيوان ولا يتصور حيوان إلا ويكون له هذا الحس، لأنه إذا لم يحس أصلاً فليس بحيوان، وأنقص درجات الحس أن يحس بما لا يلاصقه ويماسه، فإن الإحساس مما يبعد منه إحساس أتم لا محالة، وهذا الحس موجود لكل حيوان، حتى الدودة التي في الطين فإنه إذا غرز فيها إبرة انقبضت للهرب، لا كالنبات فإن النبات يقطع فلا ينقبض إذ لا يحس بالقطع، إلا أنك لو لم يخلق لك إلا هذا الحس لكنت ناقصاً كالدودة لا تقدر على طلب الغذاء من حيث يبعد عنك بل ما يمس بدنك فتحس به فتجذبه إلى نفسك فقط، فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك، فخلق لك الشم إلا أنك تدرك به الرائحة ولا تدري أنها جاءت من أي ناحية، فتحتاج إلى أن تطوف كثيراً من الجوانب فربما تعثر على الغذاء الذي شممت ريحه، وربما لم تعثر فتكون في غاية النقصان لو لم يخلق لك إلا هذا، فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصد تلك الجهة بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصاً، إذ لا تدرك بهذا ما وراء الجدران والحجب، فتبصر غذاء ليس بينك وبينه حجاب وتبصر عدواً لا حجاب بينك وبينه، وأما بينك وبينه حجاب فلا تبصره. وقد لا ينكشف الحجاب إلا بعد قرب العدو فتعجز عن الهرب، فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من وراء الجدران والحجب عند جريان الحركات، لأنك لا تدرك بالبصر إلا شيئاً حاضراً، وأما الغائب فلا يمكنك معرفته إلا بكلام ينتظم من حروف وأصوات تدرك بحس السمع، فاشتدت إليه حاجتك فخلق لك ذلك، وميزت بفهم الكلام عن سائر الحيوانات، وكل ذلك ما كان يغنيك لو لم يكن يغنيك لو لم يكن لك حس الذوق، إذ يصل الغذاء إليك فلا تدرك أنه موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، كالشجرة يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه، وربما يكون ذلك سبب جفافها، ثم كل ذلك لا يكفيك لو لم يخلق في مقدمة دماغك إدراك آخر يسمى حساً مشتركاً تتأدى إليه هذه المحسوسات الخمس وتجتمع فيه، ولولاه لطال الأمر عليك، فإنك إذا أكلت شيئاً أصفر مثلاً فوجدته مراً مخالفاً لك فتركته، فإذا رأيته مرة أخرى فلا تعرف أنه مر مضر ما لم تذقه ثانياً لولا الحس المشترك، إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة فكيف تمتنع والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة، فلا بد من حاكم تجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعاً، حتى إذا أردت الصفرة حكم أنه مر فيمتنع عن تناوله ثانياً، وهذا كله تشاركك فيه الحيوانات، إذ للشاة هذه الحواس كلها؛ فلو لم يكن لك إلا هذا لكنت ناقصاً، فإن البهيمة يحتال عليها فتؤخذ فلا تدري كيف تدفع الحيلة عن نفسها وكيف تتخلص إذا قيدت، وقد تلقي نفسها في بئر ولا تدري أن ذلك يهلكها، ولذلك قد تأكل البهيمة ما تستلذه في الحال ويضرها في ثاني الحال فتمرض وتموت، إذ ليس لها إلا الإحساس بالحاضر، فأما إدراك العواقب فلا، فميزك الله تعالى وأكرمك بصفة أخرى وهي أشرف من الكل وهو العقل، فبه تدرك مضرة الأطعمة ومنفعتها في الحال والمآل، وبه تدرك كيفية طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها، فتنتفع بعقلك في الأكل الذي هو سبب صحتك وهو أحسن فوائد العقل، وأقل الحكم فيه بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى ومعرفة أفعاله ومعرفة الحكمة في عالمه، وعند ذلك تنقلب فائدة الحواس الخمس في حقك، فتكون الحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار الموكلين بنواحي المملكة، وقد وكلت كل واحدة منها بأمر تختص به، فواحدة منها بأخبار الألوان، والأخرى بأخبار الأصوات، والأخرى بأخبار الروائح، والأخرى بأخبار الطعوم، والأخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة وغيرها، وهذه البرد والجواسيس يقتنصون الأخبار من أقطار المملكة ويسلمونها إلى الحس المشترك، والحس المشترك قاعد في مقدمة الدماغ، مثل صاحب القصص والكتب على باب الملك يجمع القصص والكتب الواردة من نواحي العالم فيأخذها وهي مختومة ويسلمها، إذ ليس له إلا أخذها وجمعها وحفظها؛ فأما معرفة حقائق ما فيها فلا، ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الأمير والملك سلم الإنهاءات إليه مختومة، فيفتشها الملك ويطلع منها على أسرار المملكة ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام وبحسب ما يلوح له من الأحكام والمصالح يحرك الجنود وهي الأعضاء: مرة في الطلب ومرة في الهرب ومرة في إتمام التدبيرات التي تعن له، فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات، ولا تظنن أنا استوفيناها؛ فإن الحواس الظاهرة هي بعض الإدراكات، والبصر واحد من جملة الحواس، والعين آلة واحدة له، وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية، وبعض الأغشية كأنها نسج العنكبوت وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كأنه بياض البيض وبعضها كأنه الجمد، ولكل واحدة من هذه الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وعرض وتدوير وتركيب، ولو اختلت طبقة واحدة من جملة العشر أو صفة واحدة من صفات كل طبقة لاختل البصر وعجز عنه الأطباء والكحالون كلهم، فهذا في حس واحد، فقس به حاسة السمع وسائر الحواس؛ بل لا يمكن أن تستوفي حكم الله تعالى وأنواع نعمه في جسم البصر وطبقاته في مجلدات كثيرة، مع أن جملته لا تزيد على جوزة صغيرة؛ فكيف ظنك بجميع البدن وسائر أعضائه وعجائبه، فهذه مرامز إلى نعم الله تعالى بخلق الإدراكات.

[align=center]الطرف الثاني
في أصناف النعم في خلق الإرادات[/align]


اعلم أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الغذاء من بعد ولم يخلق لك ميل في الطبع وشوق إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البشر معطلاً، فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له وقد سقطت شهوته فلا يتناوله، فيبقى البصر والإدراك معطلاً في حقه، فاضطررت إلى أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك تسمى كراهة لتطلب بالشهوة وتهرب بالكراهة، فخلق الله تعالى فيك شهوة الطعام وسلطها عليك ووكلها بك كالمتقاضي الذي يضطرك إلى التناول حتى تتناول وتغتذي فتبقى بالغذاء، وهذا مما يشاركك فيه الحيوانات دون النبات، ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك، فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، لا كالزرع فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب في أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة، فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى، وكما خلقت لك هذه الشهوة حتى تأكل فيبقى به بدنك خلق لك شهوة الجماع حتى تجامع فيبقى به نسلك، ولو قصصنا عليك عجائب صنع الله تعالى في خلق الرحم وخلق دم الحيض، وتأليف الجنين من المني ودم الحيض، وكيفية خلق الأنثيين والعروق السالكة إليها من الفقار الذي هو مستقر النطفة، وكيفية انصباب ماء المرأة من الترائب بواسطة العروق وكيفية انقسام مقعر الرحم إلى قوالب تقع النطفة في بعضها فتتشكل بشكل الذكور وتقع في بعضها فتتشكل بشكل الإناث، وكيفية إدارتها في أطوار خلقها مضغة وعلقة ثم عظماً ولحماً ودماً، وكيفية قسمة أجزائها إلى رأس ويد ورجل وبطن وظهر وسائر الأعضاء، لقضيت من أنواع نعم الله تعالى عليك في مبدأ خلقك كل العجب، فضلاً عما تراه الآن، ولكنا لسنا نريد أن نتعرض إلا لنعم الله تعالى في الأكل وحده كي لا يطول الكلام؛ فإذن شهوة الطعام أحد ضروب الإرادات، وذلك لا يكفيك. فإنه تأتيك المهلكات من الجوانب، فلو لم يخلق فيك الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك، لبقيت عرضة للآفات ولأخذ منك كل ما حصلته من الغذاء، فإن كل واحد يشتهي ما في يديك فتحتاج إلى داعية في دفعه ومقاتلته وهي داعية الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك، ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلى إلا ما يضر وينفع في الحال، وأما في المآل فلا تكفي فيه هذه الإرادة، فخلق الله تعالى لك إرادة أخرى مسخرة تحت إشارة العقل المعرف للعواقب، كما خلق الشهوة والغضب مسخرة تحت إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بها انتفاعك بالعقل، إذ كان مجرد المعرفة بأن هذه الشهوة مثلاً تضرك لا يغنيك في الاحتراز عنها ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب المعرفة، وهذه الإرادة أفردت بها عن البهائم إكراماً لبني آدم كما أفردت بمعرفة العواقب، وقد سمينا هذه الإرادة باعثاً دينياً، وفصلناه في كتاب الصبر تفصيلاً أوفى من هذا.

[align=center]الطرف الثالث
في نعم الله تعالى في خلق القدرة وآلات الحركة[/align]


اعلم أن الحس لا يفيد إلا الإدراك، والإرادة لا معنى لها إلا الميل إلى الطلب والهرب وهذا لا كفاية فيه ما لم تكن فيك آلة الطلب والهرب، فكم من مريض مشتاق إلى شيء بعيد عنه مدرك له ولكنه لا يمكنه أن يمشي إليه لفقد رجله، أو لا يمكنه أن يتناوله لفقد يده أو الفلج وخدر فيهما، فلا بد من آلات للحركة وقدرة في تلك الآلات على الحركة لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلباً وبمقتضى الشهوة وبمقتضى الكراهية هرباً، فلذلك خلق الله تعالى لك الأعضاء التي تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف أسرارها؛ فمنها ما هو للطلب والهرب كالرجل للإنسان والجناح للطير والقوائم للدواب، ومنها ما هو للدفع كالأسلحة للإنسان والقرون للحيوان، وفي هذا تختلف الحيوانات اختلافاً كثيراً، فمنها ما يكثر أعداؤه ويبعد غذاؤه فيحتاج إلى سرعة الحركة فخلق له الجناح ليطير بسرعة، ومنها ما خلق له أربع قوائم، ومنها ما له رجلان، ومنها ما يدب وذكر ذلك يطول فلنذكر الأعضاء التي بها يتم الأكل فقط ليقاس عليها غيرها فنقول: رؤيتك الطعام من بعد وحركتك إليه لا تكفي ما لم تتمكن من أن تأخذه؛ فافتقرت إلى آلة باطشة، فأنعم الله تعالى عليك بخلق اليدين وهما طويلتان ممتدتان إلى الأشياء ومشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات فتمتد وننثني إليك فلا تكون كخشبة منصوبة، ثم جعل رأس اليد عريضاً بخلق الكف، ثم قسم رأس الكف بخمسة أقسام هي الأصابع وجعلها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور على الأربعة الباقية، ولو كانت مجتمعة أو متراكمة لم يحصل بها تمام غرضك فوضعها وضعاً إن بسطتها كانت لك مجرفة وإن ضممتها كانت لك معرفة، وإن جمعتها كانت لك آلة للضرب، وإن نشرتها ثم قبضتها كانت لك آلة القبض، ثم خلق لها أظفاراً وأسند إليها رؤوس الأصابع حتى لا تتفتت وحتى تلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها الأصابع فتأخذها برؤوس أظفارك، ثم هب أنك أخذت الطعام باليدين فمن أين يكفيك هذا ما لم يصل إلى المعدة وهي في الباطن، فلا بد وأن يكون من الظاهر دهليز إليها حتى يدخل الطعام منه، فجعل الفم منفذاً إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة سوى كونه منفذاً للطعام إلى المعدة، ثم إن وضعت الطعام في الفم وهو قطعة واحدة فلا يتيسر ابتلاعه فتحتاج إلى طاحونة تطحن بها الطعام، فخلق لك اللحيين من عظمتين وركب فيهما الأسنان وطبق الأضراس العليا على السفلى لتطحن بهما الطعام طحناً، ثم الطعام تارة يحتاج إلى الكسر وتارة إلى القطع ثم يحتاج إلى طحن بعد ذلك، فقسم الأسنان إلى عريضة طواحين كالأضراس، وإلى حادة قواطع كالرباعيات وإلى ما يصلح للكسر كالأنياب، ثم جعل مفصل اللحيين متخلخلاً بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر حتى يدور على الفك الأعلى دوران الرحى، ولولا ذلك لما تيسر إلا ضرب أحدهما على الآخر مثل تصفيق اليدين مثلاً، وبذلك لا يتم الطحن، فجعل اللحي الأسفل متحركاً حركة دورية، واللحي الأعلى ثابتاً لا يتحرك فانظر إلى عجيب صنع الله تعالى فإن كل رحى صنعه الخلق فيثبت منه الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذا الرحى الذي صنعه الله تعالى، إذ يدور منه الأسفل على الأعلى، فسبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه وأتم برهانه وأوسع امتنانه ثم هب أنك وضعت الطعام في فضاء الفم فكيف يتحرك الطعام إلى ما تحت الأسنان، أو كيف تستجزء الأسنان إلى نفسها، وكيف يتصرف باليد في داخل الفم؟ فانظر كيف أنعم الله عليك بخلق اللسان، فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى، هذا مع ما فيه من فائدة الذوق وعجائب قوة النطق والحكم التي لسنا نطنب بذكرها، ثم هب أنك قطعت الطعام وطحنته وهو يابس فلا تقدر على الابتلاع إلا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة، فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عيناً يفيض اللعاب منها وينصب بقدر الحاجة حتى يتعجن به الطعام، فانظر كيف سخرها لهذا الأمر فإنك ترى الطعام من بعد فيثور الحنكان للخدمة وينصب اللعاب حتى تتحلب أشداقك والطعام بعد بعيد عنك، ثم هذا الطعام المطحون المتعجن من يوصله إلى المعدة وهو في الفم ولا تقدر على أن تدفعه باليد ولا يد في المعدة حتى تمتد فتجذب الطعام، فانظر كيف هيأ الله تعالى المريء والحنجرة وجعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثم تنطبق وتنضغط حتى يتقلب الطعام بضغطه فيهوي إلى المعدة في دهليز المريء، فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح لأن يصير لحماً وعظماً ودماً على هذه الهيئة بل لا بد وأن يطبخ طبخاً تاماً حتى تتشابه أجزاؤه، فخلق الله تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب، فلا يزال لابثاً فيها حتى يتم الهضم والنضج بالحرارة التي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة، إذ من جانبها الأيمن الكبد ومن الأيسر الطحال، ومن قدام الترائب، ومن خلف لحم الصلب فتتعدى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء من الجوانب حتى ينطبخ الطعام ويصير مائعاً متشابهاً يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، وعند ذلك يشبه ماء الشعير في تشابه أجزائه ورقته، وهو بعد لا يصلح للتغذية، فخلق الله تعالى بينها وبين الكبد مجاري من العروق وجعل لها فوهات كثيرة حتى ينصب الطعام فيها فينتهي إلى الكبد، والكبد معجون من طينة الدم حتى كأنه دم، وفيه عروق كثيرة شعرية منتشرة في أجزاء الكبد فينصب الطعام الرقيق النافذ فيها وينتشر في أجزائها حتى تستولي عليه قوة الكبد فتصبغه بلون الدم، فيستقر فيها ريثما يحصل له نضج آخر ويحصل له هيئة الدم الصافي الصالح لغذاء الأعضاء، إلا أن حرارة الكبد هي التي تنضج هذا الدم فيتولد من هذا الدم فضلتان كما يتولد في جميع ما يطبخ: إحداهما شبيهة بالدردي والعكر وهو الخلط السوداوي، والأخرى شبيهة بالرغوة وهي الصفراء، ولو لم تفصل عنها الفضلتان فسد مزاج الأعضاء، فخلق الله تعالى المرارة والطحال وجعل لكل واحد منهما عنقاً ممدوداً إلى الكبد داخلاً في تجويفه، فتجذب المرارة الفضلة الصفراوية ويجذب الطحال العكر السوداوي، فيبقى الدم صافياً ليس فيه إلا زيادة رقة ورطوبة لما فيه من المائية، ولولاها لما انتشر في تلك العروق الشعرية ولا خرج منها متصاعداً إلى الأعضاء، فخلق الله سبحانه الكليتين وأخرج من كل واحدة منهما عنقاً طويلاً إلى الكبد، ومن عجائب حكمة الله تعالى أن عنقهما ليس داخلاً في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدقيقة التي في الكبد، إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ ولم يخرج من العروق، فإذا انفصلت منه المائية فقد صار الدم صافياً من الفضلات الثلاث نقياً من كل ما يفسد الغذاء، ثم إن الله تعالى أطلع من الكبد عروقاً، ثم قسمها بعد الطلوع أقساماً، وشعب كل قسم بشعب، وانتشر ذلك في البدن كله من الفرق إلى القدم ظاهراً وباطناً، فيجري الدم الصافي فيها ويصل إلى سائر الأعضاء حتى تصير العروق المنقسمة شعرية كعروق الأوراق والأشجار بحيث لا تدرك بالأبصار، فيصل منها الغذاء بالرشح إلى سائر الأعضاء، ولو حلت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصفراوية فسد الدم وحصل منه الأمراض الصفراوية كاليرقان والبثور والحمرة، وإن حلت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السوداوي حدثت الأمراض السوداوية كالبهق والجذام والماليخوليا وغيرها، وإن لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء وغيره. ثم انظر إلى حكمة الفاطر الحكيم كيف رتب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة: أما المرارة فإنها تجذب بأحد عنقيها وتقذف بالعنق الآخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة مزلقة ويحدث في الأمعاء لذع يحركها للدفع، فتنضغط حتى يندفع الثفل وينزلق وتكون صفرته لذلك.
وأما الطحال فإنه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة وقبض، ثم يرسل منها كل يوم شيئاً إلى فم المعدة فيحرك الشهوة بحموضته وينبهها ويثيرها ويخرج الباقي مع الثفل، وأما الكلية فإنها تغتذي بما في تلك المائية من دم وترسل الباقي إلى المثانة ولنقتصر على هذا القدر من بيان نعم الله تعالى في الأسباب التي أعدت للأكل. ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب والدماغ واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسية إلى صاحبه وكيفية انشعاب العروق إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الحس وكيفية انشعاب العروق السواكن من الكبد إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الغذاء، ثم كيفية تركب الأعضاء وعدد عظامها وعضلاتها وعروقها وأوتارها ورباطاتها وغضاريفها ورطوباتها - لطال الكلام، وكل ذلك محتاج إليه للأكل ولأمور أخر سواه، بل في الآدمي آلاف من العضلات والعروق والأعصاب مختلفة بالصغر والكبر والدقة والغلظ وكثرة الانقسام وقلته، ولا شيء منها إلا وفيه حكمة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع إلى عشر وزيادة وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن، لهلكت يا مسكين، فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أولاً لتقوى بعدها على الشكر، فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها، ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل، والحمار أيضاً يعلم أنه يجوع فيأكل ويتعب فينام ويشتهي فيجامع ويستنهض فينهض ويرمح، فإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك؟ وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط، فقس على الإجمال ما أهملناه من جملة ما عرفناه حذراً من التطويل، وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى أقل من قطرة من بحر، إلا أن من علم شيئاً من هذا أدرك شمة من معاني قوله تعالى " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء وقوام منافعها وإدراكاتها وقواها ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة ومستقره القلب، ويسري في جميع البدن بواسطة العروق الضوارب فلا ينتهي إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله في تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة وغيرها، كالسراج الذي يدار في أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه، ولكنه جعل السراج سبباً له بحكمته، وهذا البخار اللطيف هو الذي تسميه الأطباء الروح؛ ومحله القلب، ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة، والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة، والغذاء له كالزيت، والحياة الظاهرة في سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت وكما أن السراج إذا انقطع زيته انطفأ فسراج الروح أيضاً ينطفئ مهما انقطع غذاؤه، وكما أن الفتيلة قد تحترق فتصير رماداً بحيث لا تقبل الزيت فينطفئ السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترقبفرط حرارة القلب فينطفئ مع وجود الغذاء؛ فإنه لا يقبل الغذاء الذي يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولاً ولا تتشبث النار به، وكما أن السراج تارة ينطفئ بسبب من داخل كما ذكرناه وتارة بسبب من خارج كريح عاصف فكذلك الروح تارة تنطفئ بسبب من داخل وتارة بسبب من خارج وهو القتل، وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء إنسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة في علم الله مرتبة ويكون كل ذلك بقدر؛ فكذلك انطفاء الروح، وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب، فكذلك انطفاء الروح؛ وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم البدن كله وفارقته أنواره التي كان يستفيدها من الروح وهي أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما يجمعها معنى لفظ الحياة، فهذا أيضاً رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ليعلم أنه " لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " عز وجل: فتعساً لمن كفر بالله تعساً؛ وسحقاً لمن كفر نعمته سحقاً فإن قلت: فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال: " قل الروح من أمر ربي" فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح، فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن إنما وصفنا من جملتها جسماً لطيفاً تسميه الأطباء روحاً، وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به، حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة، فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل. وأما الروح التي هي الأصل وهي التي إذا فسدت فسد لها سائر البدن، فذلك سر من أسرار الله تعالى لم نصفه، ولا رخصة في وصفة إلا بأن يقال: هو أمر رباني كما قال تعالى: " قل الروح من أمر ربي " والأمور الربانية لا تحتمل العقول وصفها بل تتحير فيها عقول أكثر الخلق، وأما الأوهام والخبالات فقاصرة عنها بالضرورة قصور البصر عن إدراك الأصوات، وتتزلزل في ذكر مبادئ وصفها معاقد العقول المقيدة بالجوهر والعرض المحبوسة في مضيقها، فلا يدرك بالعقل شيء من وصفه بل بنور آخر أعلى وأشرف من العقل يشرق ذلك النور في عالم النبوة والولاية، نسبته إلى العقل نسبة العقل إلى الوهم والخيال، وقد خلق الله تعالى الخلق أطواراً، فكما يدرك الصبي المحسوسات ولا يدرك المعقولات لأن ذلك طور لم يبلغه بعد، فكذلك يدرك البالغ المعقولات ولا يدرك ما وراءها، لأن ذلك طور لم يبلغه بعد، وإنه لمقام شريف ومشرب عذب ورتبة عالية، فيها يلحظ جناب الحق بنور الإيمان واليقين، وذلك المشرب أعز من أن يكون شريعة لكل وارد، بل لا يطلع عليه إلا واحداً بعد واحد، ولجناب الحق صدر وفي مقدمة الصدر مجال وميدان رحب، وعلى أول الميدان عتبة هي مستقر ذلك الأمر الرباني، فمن لم يكن له على هذه العتبة جواز ولا لحافظ العتبة مشاهدة واستحال أن يصل الميدان، فكيف بالانتهاء إلى ما وراءه من المشاهدات العالية، ولذلك قيل: من لم يعرف نفسه لم يعرف ربه. وأنى يصادف هذا خزانة الأطباء؟ ومن أين للطبيب أن يلاحظه؟ بل المعنى المسمى روحاً عند الطبيب بالإضافة إلى هذا الأمر الرباني كالكرة التي يحركها صولجان الملك بالإضافة إلى الملك فمن عرف الروح الطبي فظن أنه أدرك الأمر الرباني كان كمن رأى الكرة التي يحركها صولجان الملك فظن أنه رأى الملك، ولا يشك في أن خطأه فاحش، وهذا الخطأ أفحش منه جداً، ولما كانت العقول التي بها يحصل التكليف وبها تدرك مصالح الدنيا عقولاً قاصرة عن ملاحظة كنه هذا الأمر لم يأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عنه، بل أمره أن يكلم الناس على قدر عقولهم، ولم يذكر الله تعالى في كتابه من حقيقة هذا الأمر شيئاً، ولكن ذكر نسبته وفعله ولم يذكر ذاته، أما نسبته ففي قوله تعالى " من أمر ربي " وأما فعله فقد ذكر في قوله تعالى " يا أيها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " ولنرجع الآن إلى الغرض، فإن المقصود ذكر نعم الله تعالى في الأكل، فقد ذكرنا بعض نعم الله تعالى في آلات الأكل.


[align=center]الطرف الرابع
في نعم الله تعالى في الأصول التي يحصل منها الأطعمة وتصير صالحة لأن يصلحها الآدمي بعد ذلك بصنعته[/align]


اعلم أن الأطعمة كثيرة، ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى وأسباب متوالية لا تتناهى، وذكر ذلك في كل طعام مما يطول، فإن الأطعمة إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية، فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل، ولنأخذ من جملتها حبة من البر ولندع سائر الأغذية فنقول: إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعاً، فما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها وتزيد وتتضاعف حتى تفي بتمام حاجتك! فخلق الله تعالى في حبة الحنطة من القوى ما يغتذى به كل خلق فيك، فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة ولا يخالفك في الاغتذاء لأنه يغتذي بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق كما تغتذى أنت وتجتذب، ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه، ولكن نشير إلى غذائه فنقول: كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص، فكذلك الحبة لا تغتذي بكل شيء بل تحتاج إلى شيء مخصوص، بدليل أنك لو تركتها في البيت لم تزد لأنه ليس يحيط بها إلا هواء، ومجرد الهواء لا يصلح لغذائها، ولو تركتها في الماء لم تزد، ولو تركتها في أرض لا ماء فيها لم تزد، بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طيناً، وإليه الإشارة بقوله تعالى " فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً، ثم شققنا الأرض شقاً، فأنبتنا فيها حباً، وعنباً وقضباً، وزيتوناً ونخلاً . . . " الآية؛ ثم لا يكفي الماء والتراب، إذ لو تركت في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء، فيحتاج إلى تركها في أرض رخوة متخلخلة يتغلغل الهواء إليها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى ينفذ فيها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وأرسلنا الرياح لواقح " وإنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض، ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان في برد مفرط وشتاء شات، فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف، فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة، فانظر إلى ماذا يحتاج كل واحد، إذ يحتاج الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي، فانظر كيف خلق الله البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار، ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار الأرض وهي سحب ثاقل حوامل بالماء، ثم انظر كيف يرسله مدراراً على الأراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة، وانظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجاً، فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد وهلك الزرع والمواشي، ونعم الله في الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن إحصاؤها، وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان، فانظر كيف سخر الشمس وكيف خلقهما مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت، ليحصل البرد عند الحاجة إلى البرد، والحر عند الحاجة إلى الحر! فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها أكثر من أن تحصى، ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة فتفتقر إلى رطوبة تنضجها، فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب كما جعل من خاصية الشمس التسخين، فهو ينضج الفواكه ويصبغها بتقدير الفاطر الحكيم! ولذلك لو كانت الأشجار في ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها لكانت فاسدة ناقصة، حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا ظللتها شجرة كبيرة، وتعرف ترطيب القمر، بأن تكشف رأسك له بالليل فتغلب على رأسك الرطوبة التي يعبر عنها بالزكام فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضاً، ولا نطول فيما لا مطمع في استقصائه، بل نقول: كل كوكب في السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين والقمر للترطيب، فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها، ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثاً وباطلاً ولم يصح قوله تعالى "ربنا ما خلقت هذا باطلاً " وقوله عز وجل " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين " وكما أنه ليس في أعضاء بدنك عضو إلا لفائدة فليس في أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة، والعالم كله كشخص واحد، وآحاد أجسامه كالأعضاء له وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك، وشرح ذلك يطول، ولا ينبغي أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله سبحانه في أمور جعلت أسباباً لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ورد فيه من النهي عن تصديق المنجمين وعن علم النجوم، بل المنهي عنه في النجوم أمران: أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها وهذا كفر، والثاني تصديق المنجمين في تفصيل ما يخبرون عنه من الآثار التي لا يشترك كافة الخلق في دركها، لأنهم يقولون ذلك عن جهل، فإن علم أحكام النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء عليهم السلام ثم اندرس ذلك العلم فلم يبق إلا ما هو مختلط فيه الصواب عن الخطأ؛ فاعتقاد كون الكواكب أسباباً لآثار تحصل بخلق الله تعالى في الأرض وفي النبات وفي الحيوان ليس قادحاً في الدين بل هو حق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل قادح في الدين، ولذلك إذا كان معك ثوب غسلته وتريد تجفيفه فقال لك غيرك: أخرج الثوب وابسطه فإن الشمس قد طلعت وحمي النهار والهواء لا يلزمك تكذيبه ولا يلزمك الإنكار عليه بحوالته حمي الهواء على طلوع الشمس، وإذا سألت عن تغيير وجه الإنسان فقال: قرعتني الشمس في الطريق فاسود وجهي لم يلزمك تكذيبه بذلك، وقس بهذا سائر الآثار، إلا أن الآثار بعضها معلوم وبعضها مجهول. فالمجهول لا يجوز دعوى العلم فيه، والمعلوم بعضه معلوم للناس كافة كحصول الضياء والحرارة بطلوع الشمس، وبعضه لبعض الناس كحصول الزكام بشروق القمر، فإذن الكواكب ما خلقت عبثاً، بل فيها حكم كثيرة لا تحصى، ولهذا نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء وقرأ قوله تعالى " ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته" ومعناه أن يقرأ ويترك التأمل، ويقتصر من فهم ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب وذلك مما تعرفه البهائم أيضاً، فمن قنع منه بمعرفة ذلك فهو الذي مسح بها سبلته، فلله تعالى في ملكوت السموات والآفاق والأنفس والحيوانات عجائب يطلب معرفتها المحبون لله تعالى، فإن من أحب عالماً فلا يزال مشغولاً بطلب تصانيفه ليزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه حباً له، فكذلك الأمر في عجائب صنع الله تعالى، فإن العالم كله من تصنيفه بل تصنيف المصنفين من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده، فإن تعجبت من تصنيف فلا تتعجب من المصنف، بل من الذي سخر المصنف لتصنيفه بما أنعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه، كما إذا رأيت لعب المشعوذ ترقص وتتحرك حركات موزونة متناسبة فلا تعجب من اللعب فإنها خرق محركة لا متحركة، ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة خفية عن الأبصار، فإذن المقصود أن غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب، ولا يتم ذلك إلا بالأفلاك التي هي مركوزة فيها، ولا تتم الأفلاك إلا بحركاتها، ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها، وكذلك يتمادى ذلك إلى أسباب بعيدة تركنا ذكرها تنبيهاً بما ذكرناه على ما أهملناه، ولنقتصر على هذا من ذكر أسباب غذاء النبات الطرف الخامس
في نعم الله في الأسباب الموصلة للأطعمة إليك
اعلم أن هذه الأطعمة كلها لا توجد في كل مكان بل لها شروط مخصوصة لأجلها في بعض الأماكن دون بعض، والناس منتشرون على وجه الأرض وقد تبعد عنهم الأطعمة ويحول بينهم وبينها البحار والبراري، فانظر كيف سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم حرص حب المال وشهوة الربح مع أنهم لا يغنيهم في غالب الأمر شيء، بل يجمعون فإما أن تغرق بها السفن أو تنهبها قطاع الطريق أو يموتوا في بعض البلاد فيأخذها السلاطين، وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا، فانظر كيف سلط الله الجهل والغفلة عليهم حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح ويركبوا الأخطار ويغرروا بالأرواح في ركوب البحر فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك! وانظر كيف علمهم الله تعالى صناعة السفن وكيفية الركوب فيها! وانظر كيف خلق الحيوانات وسخرها للركوب والحمل في البراري، وانظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى الفرس كيف أمدت بسرعة الحركة، وإلى الحمار كيف جعل صبوراً على التعب، وإلى الجمال كيف تقطع البراري وتطوي المراحل تحت الأعباء الثقيلة على الجوع والعطش، وانظر كيف سيرهم الله تعالى بواسطة السفن والحيوانات في البر والبحر ليحملوا إليك الأطعمة وسائر الحوائج! وتأمل ما يحتاج إليه الحيوانات من أسبابها وأدواتها وعللفها وما تحتاج إليه السفن فقد خلق الله تعالى جميع ذلك إلى حد الحاجة وفوق الحاجة وإحصاء ذلك غير ممكن، ويتمادى ذلك إلى أمور خارجة عن الحصر نرى تركها طلباً للإيجاز.


[align=center]الطرف السادس
في إصلاح الأطعمة[/align]


اعلم أن الذي ينبت في الأرض من النبات وما يخلق من الحيوانات لا يمكن أن يقضم ويؤكل وهو كذلك، بل لا بد في كل واحد من إصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء البعض وإبقاء البعض إلى أمور أخر لا تحصى، واستقصاء ذلك في كل طعام يطول، فلنعين رغيفاً واحداً، ولننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد إلقاء البذر في الأرض، فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض، ثم الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه، ثم بعد ذلك التعهد بسقي الماء مدة، ثم تنقية الأرض من الحشيش، ثم الحصاد، ثم الفرك والتنقية، ثم الطحن، ثم العجين، ثم الخير، فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره، وعدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره، وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار، وحداد وغيرهما! وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس! وانظر كيف خلق الله تعالى الجبال والأحجار والمعادن! وكيف جعل الأرض قطعاً متجاورات مختلفة! فإن فتشت علمت أن رغيفاً واحداً لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، فابتدئ من الملك الذي يزجي السحاب لينزل الماء إلى آخر الأعمال من جهة الملائكة حتى تنتهي التوبة إلى عمل الإنسان فإذا استدار طلبه قريب من سبعة آلاف صانع كل صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتم مصلحة الخلق، ثم تأمل كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات، حتى إن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على الإبري خمساً وعشرين مرة ويتعاطى في كل مرة منها عملاً فلو لم يجمع الله تعالى البلاد ولم يسخر العباد وافتقرت إلى عمل المنجل الذي تحصد به البر مثلاً بعد نباته لنفذ عمرك وعجزت عنه أفلا ترى كيف هدى الله عبده الذي خلقه من نطفة قذرة لأن يعمل هذه الأعمال العجيبة والصنائع الغريبة! فانظر إلى المقراض مثلاً وهما جلمان متطابقان ينطبق أحدهما على الآخر فيتناولان الشيء معاً ويقطعانه بسرعة، ولو لم يكشف الله تعالى طريق اتخاذه بفضله وكرمه لمن قبلنا وافتقرنا إلى استنباط الطريق فيه بفكرنا ثم إلى استخراج الحديد من الحجر وإلى تحصيل الآلات التي بها يعمل المقراض وعمر الواحد منا عمر نوح وأوتي أكمل العقول لقصر عمره عن استنباط الطريق في إصلاح هذه الآلة وحدها فضلاً عن غيرها، فسبحان من الحق ذوي الأبصار بالعميان وسبحان من منع النبيين مع هذا البيان، فانظر الآن لو خلا بلدك عن الطحان مثلاً، أو عن الحداد، أو عن الحجام الذي هو أخس العمال، أو عن الحائك، أو عن واحد من جملة الصناع ماذا يصيبك من الأذى وكيف تضطرب عليك أمورك كلها! فسبحان من سخر بعض العباد لبعض حتى نفذت به مشيئته وتمت به حكمته ولنوجز القول في هذه الطبقة أيضاً فإن الغرض التنبيه على النعم دون الاستقصاء.

[align=center]الطرف السابع
في إصلاح المصلحين[/align]


اعلم أن هؤلاء الصناع المصلحين للأطعمة وغيرها لو تفرقت آراؤهم وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحش لتبددوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم ببعض بل كانوا كالوحوش لا يحويهم مكان واحد ولا يجمعهم غرض واحد فانظر كيف ألف الله تعالى بين قلوبهم وسلط الأنس والمحبة عليهم " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " فلأجل الإلف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا وبنوا المدن والبلاد ورتبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة ورتبوا الأسواق والخانات وسائر أصناف البقاع مما يطول إحصاؤه، ثم هذه المحبة تزول بأغراض يتزاحمون عليها ويتنافسون فيها، ففي جبلة الإنسان الغيظ والحسد والمنافسة، وذلك مما يؤدي إلى التقاتل والتنافر، فانظر كيف سلط الله تعالى السلاطين وأمدهم بالقوة والعدة والأسباب وألقى رعبهم في قلوب الرعايا حتى أذعنوا لهم طوعاً وكرهاً، وكيف هدى السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد حتى رتبوا أجزاء البلاد كأنها أجزاء شخص واحد تتعاون على غرض واحد ينتفع البعض منها بالبعض، فرتبوا الرؤساء والقضاة والسجن وزعماء الأسواق، واضطروا الخلق إلى قانون العدل وألزموهم التساعد والتعاون حتى صار الحداد ينتفع بالقصاب والخباز وسائر أهل البلد وكلهم ينتفعون بالحداد، وصار الحجام ينتفع بالحراث، والحراث بالحجام، وينتفع كل واحد بكل واحد بسبب ترتيبهم واجتماعهم وانضباطهم تحت ترتيب السلطان وجمعه، كما يتعاون جميع أعضاء البدن، وينتفع بعضها ببعض. وانظر كيف بعث الأنبياء عليهم السلام حتى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا وعرفوهم قوانين الشرع في حفظ العدل بين الخلق وقوانين السياسة في ضبطهم وكشفوا من أحكام الإمامة والسلطنة وأحكام الفقه ما اهتدوا به إلى إصلاح الدنيا فضلاً عما أرشدهم إليه من إصلاح الدين! وانظر كيف أصلح الله تعالى الأنبياء بالملائكة وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض إلى أن ينتهي إلى الملك المقرب الذي لا واسطة بينه وبين الله تعالى فالخباز يخبز العجين والطحان يصلح الحب بالطحن والحراث يصلحه بالحصاد، والحداد يصلح آلات الحراثة والنجار يصلح آلات الحداد وكذا جميع أرباب الصناعات المصلحين لآلات الأطعمة، والسلطان يصلح الصناع، والأنبياء يصلحون العلماء الذين هم ورثتهم، والعلماء يصلحون السلاطين، والملائكة يصلحون الأنبياء إلى أن ينتهي إلى حضرة الربوبية التي هي ينبوع كل نظام ومطلع كل حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف، وكل ذلك نعم من رب الأرباب ومسبب الأسباب، ولولا فضله وكرمه إذ قال تعالى " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " لما اهتدينا إلى هذه النبذة اليسيرة من نعم الله تعالى، ولولا عزله إيانا عن أن نطمح بعين الطمع إلى الإحاطة بكنه نعمه لتشوفنا إلى طلب الإحاطة والاستقصاء، ولكنه تعالى عزلنا بحكم القهر والقدرة فقال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " فإن تكلمنا فبإذنه انبسطنا، وإن سكنا فبقهره انقبضنا، إذ لا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى، لأنا في كل لحظة من لحظات العمر قبل الموت نسمع بسمع القلوب نداء الملك الجبار " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " فالحمد لله الذي ميزنا عن الكفار وأسمعنا هذا النداء قبل انقضاء الأعمار.

[align=center]الطرف الثامن
في بيان نعمة الله تعالى في خلق الملائكة
عليهم السلام[/align]


[b]ليس يخفى عليك ما سبق من نعمة الله في خلق الملائكة بإصلاح الأنبياء عليهم السلام وهدايتهم وتبليغ الوحي إليهم، ولا تظنن أنهم مقتصرون في أفعالهم على ذلك القدر بل طبقات الملائكة مع كثرتها وترتيب مراتبها تنحصر بالجملة في ثلاث طبقات: الملائكة الأرضية والسماوية وحملة العرش، فانظر كيف وكلهم الله تعالى بك فيما يرجع إلى الأكل والغذاء الذي ذكرناه دون ما يجاوز ذلك من الهداية والإرشاد وغيرهما، واعلم أن كل جزء من أجزاء بدنك بل من أجزاء النبات لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة هو أقله إلى عشرة إلى مائة إلى ما وراء ذلك وبيانه أن معنى الغذاء لأن يقوم جزء من الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء وقد تلف، وذلك الغذاء يصير دماً في آخر الأمر، ثم يصير لحماً وعظماً تم اغتذاؤك، والدم واللحم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار، فهي لا تتحرك بأنفسها ولا تتغير بأنفسها، ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها كما أن البر بنفسه لا يصير طحيناً ثم عجيناً ثم خبزاً مستديراً مخبوزاً إلا بصناع، فكذلك الدم بنفسه لا يصير لحماً وعظماً وعروقاً وعصباً إلا بصناع والصناع في الباطن هم الملائكة كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد، وقد أسبغ الله تعالى عليك نعمه ظاهرة وباطنة فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة، فأقول: لا بد من ملك يجذب الغذاء إلى جوار اللحم والعظم، فإن الغذاء لا يتحرك بنفسه، ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره، ولا بد من ثالث يخلع عليه صورة الدم، ولا بد من رابع يكسو صورة اللحم والعروق أو العظم، ولا بد من خامس يدفع الفضل والفاضل عن حاجة الغذاء، ولا بد من سادس يلصق ما اكتسب صفة العظم بالعظم وما اكتسب صفة اللحم باللحم حتى لا يكون منفصلاً، ولا بد من سابع يرعى المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته وبالعريض ما لا يزيل عرضه وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه، ويحفظ على كل واحد قدر حاجته، فإنه لو جمع مثلاً من الغذاء على أنف الصبي ما يجمع على فخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه وتشوهت صورته وخلقته، بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها وإلى الحدقة مع صفائها وإلى الأفخاذ مع

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 19, 2006 10:08 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
مع غلظها وإلى العظم مع صلابته ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل وإلا بطلت الصورة وربا بعض المواضع وضعف بعض المواضع، بل لو لم يراع هذا الملك العادل في القسمة والتقسيط فساق إلى رأس الصبي وسائر بدنه من الغذاء ما ينمو به إلا إحدى الرجلين مثلاً لبقيت تلك الرجل كما كانت في حد الصغر وكبر جميع البدن، فكنت ترى شخصاً في ضخامة رجل وله رجل واحدة كأنها رجل صبي فلا ينتفع بنفسه البتة، فمراعاة هذه الهندسة في هذه القسمة مفوضة إلى ملك من الملائكة، ولا تظنن أن الدم بطبعه يهندس شكل نفسه فإن محيل هذه الأمور على الطبع جاهل لا يدري ما يقول، فهذه هي الملائكة الأرضية وقد شغلوا بك وأنت في النوم تستريح وفي الغفلة تتردد، وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم وذلك في كل جزء من أجزائك الذي لا يتجزأ حتى يفتقر بعض الأجزاء كالعين والقلب إلى أكثر من مائة ملك، تركنا تفصيل ذلك للإيجاز، والملائكة الأرضية مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم لا يحيط بكنهه إلا الله تعالى، ومدد الملائكة السماوية من حملة العرش والمنعم على جملتهم بالتأييد والهداية والتسديد المهيمن القدوس المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت جبار السموات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام، والأخبار الواردة في الملائكة الموكلين بالسموات والأرض وأجزاء النبات والحيوانات حتى كل قطرة من المطر وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانبأكثر من أن تحصى فلذلك تركنا الاستشهاد به فإن قلت: فهلا فوضت هذه الأفعال إلى ملك واحد ولم أفتقر إلى سبعة أملاك، والحنطة أيضاً تحتاج إلى من يطحن أولاً ثم إلى من يميز عنه النخالة ويدفع الفضلة ثانياً، ثم إلى من يصب الماء عليه ثالثاً، ثم إلى من يعجن رابعاً، ثم إلى من يقطعه كرات مدورة خامساً، ثم إلى من يرقها رغفاناً عريضة سادساً، ثم إلى من يلصقها بالتنور سابعاً، ولكن قد يتولى جميع ذلك رجل واحد يستقل به فهلا كانت أعمال الملائكة باطناً كأعمال الإنس ظاهراً؟ فاعلم أن خلقة الملائكة تخالف خلقة الإنس، وما من واحد منهم إلا وهو وحداني الصفة ليس فيه خلط وتركيب البتة، فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد. وإليه الإشارة بقوله تعالى: " وما منا إلا وله مقام معلوم " فلذلك ليس بينهم تنافس وتقاتل، بل مثالهم في تعين مرتبة كل واحد منهم وفعله مثال الحواس الخمس، فإن البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمها ولا هما يتنازعان الشم؛ وليس كاليد والرجل فإنك قد تبطش بأصابع الرجل بطشاً ضعيفاً فتزاحم به اليد، وقد تضرب غيرك برأسك فتزاحم اليد التي هي آلة الضرب ولا كالإنسان الواحد الذي يتولى بنفسه الطحن والعجن والخبز، فإن هذا نوع من الاعوجاج والعدول عن العدل سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه، فإنه ليس وحداني الصفة فلم يكن وحداني الفعل، ولذلك نرى الإنسان يطيع الله مرة ويعصيه أخرى لاختلاف دواعيه وصفاته، وذلك غير ممكن في طباع الملائكة، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقهم، فلا جرم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، والراكع منهم راكع أبداً، والساجد منهم ساجد أبداً، والقائم قائم أبداً لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور، ولكل واحد مقام معلوم لا يتعداه، وطاعتهم لله تعالى من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن تشبه بطاعة أطرافك لك، فإنك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردد واختلاف في طاعتك مرة ومعصيتك أخرى، بل كأنه منتظر لأمرك ونهيك ينفتح وينطبق متصلاً بإشارتك، فهذا يشبهه من وجه ولكن يخالفه من وجه، إذ الجفن لا علم له بما يصدر منه من الحركة فتحاً وإطباقاً والملائكة أحياء عالمون بما يعملون؛ فإذن هذه نعمة الله عليك في الملائكة الأرضية والسماوية وحاجتك إليهما في غرض الأكل فقط دون ما عداها من الحركات والحاجات كلها؛ فإنا لم نطول بذكرها؛ فهذه طبقة أخرى من طبقات النعم ومجامع الطبقات لا يمكن إحصاؤها، فكيف آحاد ما يدخل تحت مجامع الطبقات، فإذن قد أسبغ الله تعالى نعمه عليك ظاهرة وباطنة، ثم قال: " وذروا ظاهر الإثم وباطنه " فترك باطن الإثم مما لا يعرفه الخلق من الحسد وسوء الظن والبدعة وإضمار الشر للناس إلى غير ذلك من آثام القلوب هو الشكر للنعم الباطنة، وترك الإثم الظاهر بالجوارح شكر للنعمة الظاهرة بل أقول: كل من عصى الله تعالى ولو في تطريفه واحدة بأن فتح جفنه مثلاً يجب غض البصر فقد كفر كل نعمة لله تعالى عليه في السموات والأرض وما بينهما، فإن كل ما خلقه الله تعالى حتى الملائكة والسموات والأرض والحيوانات والنبات بجملته نعمة على كل واحد من العباد قد تم به انتفاعه وإن انتفع غيره أيضاً به فإن لله تعالى في كل تطريفة بالجفن نعمتين في نفس الجفن، إذ خلق تحت كل جفن عضلات ولها أوتار ورباطات متصلة بأعصاب الدماغ بها يتم انخفاض الجفن الأعلى وارتفاع الجفن الأسفل وعلى كل جفن شعور سود، ونعمة الله تعالى في سوادها أنها تجمع ضوء العين، إذ البياض يفرق الضوء والسواد يجمعه، ونعمة الله تعالى في ترتيبها صفاً واحداً أن يكون مانعاً للهوام من الدبيب إلى باطن العين ومتشبثاً للأقذاء التي تتناثر في الهواء، وله في كل شعرة منها نعمتان من حيث لين أصلها ومع اللين قوام نصبها، وله في اشتباك الأهداب نعمة أعظم من الكل: وهو أن غبار الهواء قد يمنح من فتح العين ولو طبق لم يبصر، فيجمع الأجفان مقدار ما تتشابك الأهداب فينظر من وراء شباك الشعر، فيكون شباك الشعر مانعاً من وصول القذى من خارج وغير مانع من امتداد البصر من داخل، ثم إن أصاب الحدقة غبار فقد خلق أطراف الأجفان خادمة منطبقة على الحدقة كالمصقلة للمرآة فيطبقها مرة أو مرتين وقد انصقلت الحدقة من الغبار وخرجت الأقذاء إلى زوايا العين والأجفان، والذباب لما لم يكن لحدقته جفن خلق له يدين، فتراه على الدوام يمسح بهما حدقتيه ليصقلهما من الغبار وإذ تركنا الاستقصاء لتفاصيل النعم لافتقاره إلى تطويل يزيد على أصل هذا الكتاب، ولعلنا نستأنف له كتاباً مقصوداً فيه إن أمهل الزمان وساعد التوفيق نسميه عجائب صنع الله تعالى، فلنرجع إلى غرضنا فنقول: من نظر إلى غير محرم فقد كفر بفتح العين بنعمة الله تعالى في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا بعين، ولا العين إلا برأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن، ولا البدن إلا بالغذاء، ولا الغذاء إلا بالماء والأرض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسموات، ولا السموات إلا بالملائكة، فإن الكل كالشيء الواحد يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط أعضاء البدن بعضها ببعض، فإذن قد كفر كل نعمة في الوجود من منتهى الثريا إلى منتهى الثرى فلم يبق فلك ولا ملك ولا حيوان ولا نبات ولا جماد إلا ويلعنه، ولذا ورد في الأخبار أن البقعة التي يجتمع فيها الناس إما أن تلعنهم إذا تفرقوا أو تستغفر لهموكذلك ورد أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحروأن الملائكة يلعنون العصاة في ألفاظ كثيرة لا يمكن إحصاؤها، وكل ذلك إشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت، وقد أهلك نفسه إلا أن يتبع السيئة بحسنة تمحوها، فيتبدل اللعن بالاستغفار، فعسى الله أن يتوب عليه ويتجاوز عنه، وأوحى الله تعالى إلى أيوب عليه السلام: يا أيوب ما من عبد لي من الآدميين إلا ومعه ملكان، فإذا شكرني على نعمائي فقال الملكان: اللهم زده نعماً على نعم، فإنك أهمل الحمد والشكر، فكن من الشاكرين قريباً فكفى بالشاكرين علو رتبة، وعندي أني أشكر شكرهم وملائكتي يدعون لهم البقاع تحبهم والآثار تبكي عليهم وكما عرفت أن في كل طرفة عين نعماً كثيرة، فاعلم أن في كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين، إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب ولو لم يخرج لهلك، وبانقباضه يجمع روح الهواء إلى القلب ولو سد متنفسه لاحترق قلبه بانقطاع روح الهواء وبرودته عنه وهلك، بل اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وفي كل ساعة قريب من ألف نفس وكل نفس قريب من عشر لحظات، فعليك في كل لحظة آلاف آلاف نعمة في كل جزء من أجزاء بدنك، بل في كل جزء من أجزاء العالم، فانظر هل يتصور إحصاء ذلك أم لا؟ ولما انكشف لموسى عليه السلام حقيقة قوله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " قال: إلهي كيف أشكرك ولك في كل شعرة من جسدي نعمتان: أن لينت أصلها، وأن طمست رأسها؟ وكذا ورد في الأثر: أن من لم يعرف نعم الله في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه.
وجميع ما ذكرناه يرجع إلى المطعم والمشرب فاعتبر ما سواه من النعم به، فإن البصير لا تقع عينه في العالم على شيء ولا يلم خاطره بموجود إلا ويتحقق أن لله فيه نعمة عليه، فلنترك الاستقصاء والتفصيل فإنه طمع في غير مطمع.
بيان السبب الصارف للخلق عن الشكر اعلم أنه لم يقصر بالخلق عن شكر إلا الجهل والغفلة، فإنهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها، ثم إنهم عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه: الحمد لله، الشكر لله. ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن يستعمل النعمة في إتمام الحكمة التي أريدت بها وهي طاعة الله عز وجل فلا يمنع من الشكر بعد حصول هاتين المعرفتين إلا غلبة الشهوة واستيلاء الشيطان.
أما الغفلة عن النعم فلها أسباب، وأحد أسبابها أن الناس بجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق ويسلم في جميع أحوالهم نعمة، فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكرناه من النعم لأنها عامة للخلق مبذولة لهم في جميع أحوالهم، فلا يرى كل واحد لنفسه منهم اختصاصاً به فلا يعده نعمة، ولا تراهم يشكرون الله على روح الهواء، ولو أخذ بمختنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا في بيت حمام فيه هواء حار أو في بئر فيه هواء ثقل برطوبة الماء ماتوا غماً؛ فإن ابتلى واحد منهم بشيء من ذلك ثم نجا ربما قدر ذلك نعمة وشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفاً على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال، والنعمة في جميع الأحوال أولى بأن تشكر في بعضها، فلا ترى البصير يشكر صحة بصره إلا أن تعمى عينيه، فعند ذلك لو أعيد عليه بصره أحس به وشكره وعده نعمة، ولما كانت رحمة الله واسعة عمم الخلق وبذل لهم في جميع الأحوال فلم يعده الجاهل نعمة، وهذا الجاهل مثل العبد السوء حقه أن يضرب دائماً، حتى إذا ترك ضربه ساعة تقلد به منة، فإن ترك ضربه على الدوام غلبه البطر وترك الشكر، فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله تعالى عليهم، كما شكا بعضهم أرباب البصائر وأظهر شدة اغتمامه به فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال: لا، فقال: أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال: لا، فقال: أيسرك أن أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفاً؟ فقال: لا، فقال: أيسرك أنك مجنون ولك عشرة آلاف درهم؟ فقال: لا، فقال: أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفاً! وحكي أن بعض القراء اشتد به الفقر حتى ضاق ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: تود أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألف دينار؟ قال: لا، قال: فسورة هود؟ قال: لا، قال: فسورة يوسف؟ قال: لا، فعدد عليه سوراً ثم قال: فمعك قيمة مائة ألف دينار وأنت تشكو، فأصبح وقد سري عنه.
ودخل ابن السماك على بعض الخلفاء وبيده كوز ماء يشربه، فقال له: عظني! فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشاناً فهل كنت تعطيه؟ قال: نعم، فقال: لو لم تعط إلا بملكك فهل كنت تتركه؟ قال: نعم. قال: فلا تفرح بملك لا يساوي شربة ماء. فبهذا تبين أن نعمة الله على العبد في شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض كلها، وإذا كانت الطباع مائلة إلى اعتداد النعمة الخاصة دون العامة - وقد ذكرنا النعم عامة - فلنذكر إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة فنقول: ما من عبد إلا ولو أمعن النظر في أحواله رأى من الله نعمة أو نعماً كثيرة تخصه لا يشاركه فيها الناس كافة بل يشاركه عدد يسير من الناس وربما لا يشاركه فيها أحد، وذلك يعترف به كل عبد في ثلاثة أمور: في العقل والخلق والعلم.
أما العقل: فما من عبد لله تعالى إلا وهو راض عن الله في عقله يعتقد أنه أعقل الناس، وقل من يسأل الله العقل، وإن من شرف العقل أن يفرح به الخالي عنه كما يفرح به المتصف به، فإذا كان اعتقاده أنه أعقل الناس فواجب عليه أن يشكره، لأنه إذا كان كذلك فالشكر واجب عليه، وإن لم يكن ولكنه يعتقد أنه كذلك فهو نعمة في حقه، فمن وضع كنزاً تحت الأرض فهو يفرح به ويشكره عليه، فإن أخذ الكنز من حيث لا يدري فيبقى فرحه بحسب اعتقاده ويبقى شكره لأنه في حقه كالباقي.
وأما الخلق فما من عبد إلا ويرى من غيره عيوباً يكرهها وأخلاقاً يذمها، وإنما يذمها من حيث يرى نفسه بريئاً عنها، فإذا لم يشتغل بذم الغير فينبغي أن يشتغل بشكر الله تعالى إذ حسن خلقه وابتلى غيره بالخلق السيئ.
وأما العلم فما من أحد إلا ويعرف بواطن أمور نفسه وخفايا أفكاره وما هو منفرد به، ولو كشف الغطاء حتى اطلع عليه أحد من الخلق لافتضح، فكيف لو اطلع الناس كافة! فإذن لكل عبد علم بأمر خاص لا يشاركه فيه أحد من عباد الله، فلم لا يشكر الله الجميل الذي أرسله على وجه مساويه فأظهر الجميل وستر القبيح وأخفى ذلك عن أعين الناس وخصص علمه به حتى لا يطلع عليه أحد، فهذه ثلاثة من النعم خاصة يعترف بها كل عبد إما مطلقاً . وأما في بعض الأمور فلننزل عن هذه الطبقة إلى طبقة أخرى أعم منها قليلاً، فنقول: ما من عبد إلا وقد رزقه الله تعالى في صورته أو شخصه أو أخلاقه أو صفاته أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو رفيقه أو أقاربه أو عزه أو جاهه أو في سائر محابه أموراً لو سلب ذلك منه وأعطي ما خصص به غيره لكان لا يرضى به، وذلك مثل أن جعله مؤمناً لا كافراً وحياً لا جماداً وإنساناً لا بهيمة وذكراً لا أنثى وصحيحاً لا مريضاً وسليماً لا معيباً، فإن كل هذه خصائص، وإن كان فيها عموم أيضاً فإن هذه الأحوال لو بدلت بأضدادها لم يرض بها، بل له أمور لا يبدلها بأحوال الآدميين أيضاً، وذلك إما أن يكون بحيث لا يبد له بما خص به أحد من الخلق أو لا يبدله بما خص به الأكثر، فإذا كان لا يبدل حال نفسه بحال غيره فإذن حاله أحسن من حال غيره وإذا كان لا يعرف شخص يرتضي لنفسه حالة بدلاً عن حال نفسه إما على الجملة وإما في أمر خاص، فإذن لله تعالى عليه نعم ليست له على أحد من عباده سواه، وإن كان يبدل حال نفسه بحال بعضهم دون البعض فلينظر إلى عدد المغبوطين عنده لا محالة يراهم بالإضافة إلى غيرهم، فيكون من دونه في الحال أكثر بكثير مما هو فوقه، فما باله ينظر إلى من فوقه ليزدري نعم الله تعالى على نفسه، ولا ينظر إلى من دونه ليستعظم نعم الله عليه، وما باله لا يسوي دنياه بدينه، أليس إذا لامته نفسه على سيئة يقارفها يعتذر إليها بأن في الفساق كثرة! فينظر أبداً في الدين إلى من دونه لا إلى من فوقه، فلم لا يكون نظره في الدنيا كذلك؟ فإذا كان حال أكثر الخلق في الدين خير منه، وحاله في الدنيا خير من حال أكثر الخلق، فكيف لا يلزمه الشكر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " من نظر في الدنيا إلى من هو دونه ونظر في الدين إلى من هو فوقه كتبه الله صابراً وشاكراً. ومن نظر في الدنيا إلى من هو فوقه وفي الدين إلى من هو دونه لم يكتبه الله صابراً ولا شاكراً" فإذن كل من اعتبر حال نفسه وفتش عما خص به وجد لله تعالى على نفسه نعماً كثيرة لا سيما من خص بالسنة والإيمان والعلم والقرآن ثم الفراغ والصحة والأمن وغير ذلك، ولذلك قيل:


[poet font="Andalus,4,sienna,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,sienna" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
من شاء عيشاً رحيباً يستطيل به في دينه ثم في دنياه إقـبـالا
فلينظرن إلى من فوقه ورعـاً ولينظرن إلى من دونه مـالا
[/poet]

وقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يستغن بآيات الله فلا أغناه الله" وهذا إشارة إلى نعمة العلم. وقال عليه السلام: إن القرآن هو الغنى الذي لا غنى بعده ولا فقر معه" وقال عليه السلام: " من أتاه الله القرآن فظن أن أحداً أغنى منه فقد استهزأ بآيات الله" وقال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقال عليه السلام: " كفى باليقين غنى" وقال بعض السلف: يقول الله تعالى في بعض الكتب المنزلة: " إن عبداً أغنيته عن ثلاثة لقد أتممت عليه نعمتي: عن سلطان يأتيه، وطبيب يداويه، وعما في يد أخيه، وعبر الشاعر عن هذا فقال:

[poet font="Tahoma,3,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إذا ما القوت يأتيك كذا الصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن
[/poet]

بل أرشق العبارات وأفصح الكلمات كلام أفصح من نطق بالضاد حيث عبر صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى فقال: " من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث؛ مع أنها وبال عليهم ولا يشكرون نعمة الله في هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم في الإيمان الذي به وصولهم إلى النعيم المقيم والملك العظيم، بل البصير ينبغي أن لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان، بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى الغرب من أموال وأتباع وأنصار وقيل له خذها عوضاً عن علمك بل عن عشر عشير علمك: لم يأخذه، وذلك لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله تعالى في الآخرة، بل لو قيل له لك في الآخرة ما ترجوه بكماله، فخذ هذه اللذات في الدنيا بدلاً عن التذاذك بالعلم في الدنيا وفرحك به لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع وباقية لا تسرق ولا تغضب ولا ينافس فيها وأنها صافية لا كدورة فيها، ولذات الدنيا كلها ناقصة مكدرة مشوشة لا يفي مرجوها بمخوفها ولا لذتها بألمها ولا فرحها بغمها، هكذا كانت إلى الآن، وهكذا تكون ما بقي من الزمان إذ ما خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع، حتى إذا انخدعت وتقيدت بها أبت عليها واستعصت، كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق الغني، حتى إذا تقيد بها قلبه استعصت عليه واحتجبت عنه فلا يزال معها في تعب قائم وعناء دائم، وكل ذلك باغتراره بلذة النظر إليها في لحظة، ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع عمره، فهكذا وقعت أرباب الدنيا في شباك الدنيا وحبائلها، ولا ينبغي أن نقول إن المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها، فإن المقبل عليها أيضاً متألم بالصبر عليها وحفظها وتحصيلها ودفع اللصوص عنها، وتألم المعرض يفضي إلى لذة في الآخرة وتألم المقبل يفضي إلى الألم في الآخرة، فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى: " ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " فإذن إنما انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة والباطنة والخاصة والعامة فإن قلت: فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر؟ فأقول: أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى العامة. وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصتها أو شعرت بالبلاء معها، فسبيله أن ينظر أبداً إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض الصوفية، إذ كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر التي تقام فيها الحدود، فكان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض ويشكر الله تعالى، ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من الجنايات ومن تلك العقوبات ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن، ويحضر المقابر فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوماً واحداً، أما من عصى الله تعالى فليتدارك، وأما من أطاع فليزدني في طاعته، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فالمطيع مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول: كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبني إذ ضيعت بعض الأوقات في المباحات، وأم العاصي فغبنه ظاهر، فإذا شاهد المقابر وعلم أن أحب الأشياء إليهم أن يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له، فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي أهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر، بل في الإمهال في كل نفس من الأنفاس، وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله وهو التزود من الدنيا للآخرة، فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر. وقد كان الربيع بن خثيم مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيداً للمعرفة، فكان قد حفر في داره قبراً فكان يضع في عنقه وينام في لحده ثم يقول: " رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً " ثم يقوم ويقول: يا ربيع قد أعطيت ما سألت، فاعمل قبل أن تسأل الرجوع فلا ترد.
ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر: أن تعرف أن النعمة إذا لم تشكر زالت ولم تعد، ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: عليكم بملازمة الشكر على النعم فقل نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم. وقال بعض السلف: النعم وحشية فقيدوها بالشكر. وفي الخبر " ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه فمن تهاون عرض تلك النعمة للزوال" وقال الله سبحانه: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " فهذا تمام هذا الركن.



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 19, 2006 10:24 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الركن الثالث من كتاب الصبر والشكر
فيما يشترك فيه الصبر والشكر
ويرتبط أحدهما بالآخر
[/align]


بيان وجه اجتماع الصبر والشكر على شيء واحد لعلك تقول: ما ذكرته في النعم إشارة إلى أن لله تعالى في كل موجود نعمة، وهذا يشير إلى أن البلاء لا وجود له أصلاً، فما معنى الصبر إذن. وإن كان البلاء موجوداً فما معنى الشكر على البلاء. وقد ادعى مدعون أنا نشكر على البلاء فضلاً عن الشكر على النعمة، فكيف يتصور الشكر على البلاء. وكيف يشكر على ما يصبر عليه والصبر على البلاء يستدعي ألماً والشكر يستدعي فرحاً وهما يتضادان، وما معنى ما ذكرتموه من أن الله تعالى في كل ما أوجده نعمة على عباده؟ فاعلم أن البلاء موجود كما أن النعمة موجودة، والقول بإثبات النعمة يوجب القول بإثبات البلاء لأنهما متضادان، ففقد البلاء وفقد النعمة بلاء، ولكن قد سبق أن النعمة تنقسم إلى نعمة مطلقة من كل وجه: أما في الآخرة فكسعادة العبد بالنزول في جوار الله تعالى، وأما في الدنيا فكالإيمان وحسن الخلق وما يعين عليهما، وإلى نعمة مقيدة من وجه دون وجه: كالمال الذي يصلح الدين من وجه ويفسده من وجه، فكذلك البلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد: أما المطلق في الآخرة فالبعد من الله تعالى إما مدة وإما أبداً
وأما في الدنيا فالكفر والمعصية فالكفر وسوء الخلق وهي التي تفضي إلى البلاء المطلق، وأما المفيد فكالفقر والمرض والخوف وسائر أنواع البلاء التي لا تكون بلاء في الدين بل في الدنيا، فالشكر المطلق للنعمة المطلقة. وأما البلاء المطلق في الدنيا فقد لا يؤمر بالصبر عليه لأن الكفر بلاء ولا معنى للصبر عليه وكذا المعصية، بل حق الكافر أن يترك كفره وكذا حق العاصي، نعم الكافر قد لا يعرف أنه كافر فيكون كمن به علة وهو لا يتألم بسبب غشية أو غيرها فلا صبر عليه، والعاصي يعرف أنه عاصٍ فعليه ترك المعصية، بل كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يؤمر بالصبر عليه، فلو ترك الإنسان الماء مع طول العطش حتى عظم تألمه فلا يؤمر بالصبر عليه بل يؤمر بإزالة الألم، وإنما الصبر على ألم ليس إلى العبد إزالته، فإذن يرجع الصبر في الدنيا إلى ما ليس ببلاء مطلق، بل يجوز أن يكون نعمة من وجه فلذلك يتصور أن يجتمع عليه وظيفة الصبر والشكر؛ فإن الغنى مثلاً يجوز أن يكون سبباً لهلاك الإنسان حتى يقصد بسبب ماله فيقتل وتقتل أولاده، والصحة أيضاً كذلك؛ فما من نعمة من هذه النعم الدنيوية إلا ويجوز أن تصير بلاء ولكن بالإضافة إليه، فكذلك ما من بلاء إلا ويجوز أن يصير نعمة ولكن بالإضافة إلى حالة؛ فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى، قال الله تعالى: " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض "، وقال تعالى " كلا إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى " وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه" وكذلك الزوجة والولد والقريب، وكل ما ذكرناه في الأقسام الستة عشر من النعم سوى الإيمان وحسن الخلق فإنها يتصور أن تكون بلاء في حق بعض الناس فتكون أضدادها إذن نعماً في حقهم، إذ سبق أن المعرفة كمال ونعمة فإنها صفة من صفات الله تعالى، ولكن قد تكون على العبد في بعض الأمور بلاء ويكون فقدها نعمة، مثاله: جهل الإنسان بأجله فإنه نعمة عليه، إذ لو عرفه ربما تنغص عليه العيش وطال بذلك غمه؛ وكذلك جهله بما يضمره الناس عليه من معارفه وأقاربه نعمة عليه، إذ لو رفع الستر واطلع عليه لطال ألمه وحقده وحسده واشتغاله بالانتقام، وكذلك جهله بالصفات المذمومة من غيره نعمة عليه، إذ لو عرفها أبغضه وآذاه وكان ذلك وبالاً عليه في الدنيا والآخرة، بل جهله بالصفات المحمودة في غيره قد يكون نعمة عليه فإنه ربما يكون ولياً لله تعالى وهو يضطر إلى إيذائه وإهانته، ولو عرف ذلك وآذى كان إثمه لا محالة أعظم، فليس من آذى نبياً أو ولياً وهو يعرف كمن آذى وهو لا يعرف. ومنها: إبهام الله تعالى أمر القيامة، وإبهامه ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وإبهامه بعض الكبائر، فكل ذلك نعمة لأن هذا الجهل يوفر دواعيك على الطلب والاجتهاد، فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل فكيف في العلم. وحيث قلنا إن لله تعالى في كل موجود نعمة فهو حق، وذلك مطرد في حق كل أحد، ولا يستثنى عنه بالظن إلا الآلام التي يخلقها في بعض الناس، وهي أيضاً قد تكون نعمة في حق المتألم بها، فإن لم تكن نعمة في حقه كالألم الحاصل من المعصية كقطعه يد نفسه ووشمه بشرته فإنه يتألم به وهو عاص به، وألم الكفار في النار فهو أيضاً نعمة ولكن في حق غيرهم من العباد لا في حقهم، لأن مصائب قوم عند قوم فوائد. ولولا أن الله تعالى خلق العذاب وعذب به طائفة لما عرف المتنعمون قدر نعمه ولو كثر فرحهم بها، ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار. أما ترى أهل الدنيا ليس يشتد فرحهم بنور الشمس مع شدة حاجتهم إليه من حيث إنها عامة مبذولة، ولا يشتد فرحهم بالنظر إلى زينة السماء وهي أحسن من كل بستان لهم في الأرض يجتهدون في عمارته، ولكن زينة السماء لما عمت لم يشعروا بها ولم يفرحوا بسببها، فإذن قد صح ما ذكرناه من أن الله تعالى لم يخلق شيئاً إلا وفيه حكمة، ولا خلق شيئاً إلا وفيه نعمة إما على جميع عباده أو على بعضهم، فإذن في خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضاً إما على المبتلي أو على غير المبتلي، فإذن كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق ولا نعمة مطلقة، فيجتمع فيها على العبد وظيفتان: الصبر والشكر جميعاً فإن قلت: فهما متضادان فكيف يجتمعان؟ إذ لا صبر إلا على غم، ولا شكر إلا على فرح؟ فاعلم أن الشيء الوحيد قد يغتم به من وجه ويفرح به من وجه آخر، فيكون الصبر من حيث الاغتمام والشكر من حيث الفرح. وفي كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح الغافل بها ويشكر عليها: أحدها أن كل مصيبة ومرض فيتصور أن يكون أكبر منها، إذ مقدورات الله تعالى لا تتناهى فلو ضعفها الله تعالى وزادها ماذا كان يرده ويحجزه، فليشكر إذ لم تكن أعظم منها في الدنيا.
الثاني: أنه كان يمكن أن تكون مصيبته في دينه.
قال رجل لسهل رضي الله تعالى عنه: دخل اللص بيتي وأخذ متاعي! فقال: اشكر الله تعالى، لو دخل الشيطان قلبك فأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع؟ ولذلك استعاذ عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه إذ قال: اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذ لم يكن أعظم منه، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه. وكان لبعض أرباب القلوب صديق فحبسه السلطان، فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه، فقال له: اشكر الله، فضربه فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه، فقال: اشكر الله، فجيء بمجوسي فحبس عنده وكان مبطوناً فقيد وجعل حلقة من قيده في رجله وحلقة في رجل المجوسي، فأرسل إليه فقال: اشكر الله، فكان المجوسي يحتاج إلى أن يقوم مرات وهو محتاج إلى أن يقوم معه ويقف على رأسه حتى يقضي حاجته، فكتب إليه بذلك، فقال: اشكر الله، فقال: إلى متى هذا، وأي بلاء أعظم من هذا؟ فقال: لو جعل الزنار الذي في وسطه على وسطك ماذا كنت تصنع؟ فإذن ما من إنسان ببلاء إلا ولو تأمل حق التأمل في سوء أدبه ظاهراً وباطناً في حق مولاه لكان يرى أنه يستحق أكثر مما أصيب به عاجلاً أو آجلاً، ومن استحق عليك أن يضربك مائة سوط فاقتصر على عشرة فهو مستحق للشكر، ومن استحق عليك أن يقطع يديك فترك إحداهما فهو مستحق للشكر. ولذلك مر بعض الشيوخ في شارع فصب على رأسه طشت من رماد، فسجد لله تعالى سجدة الشكر، فقيل له: ما هذه السجدة؟ فقال: كنت أنتظر أن تصب علي النار، فالاقتصار على الرماد نعمة.
وقيل لبعضهم: لا تخرج إلى الاستسقاء فقد احتبست الأمطار! فقال: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطئ الحجر.
فإن قلت: كيف أفرح وأرى جماعة ممن زادت معصيته على معصيتي ولم يصابوا بما أصبت به حتى الكفار؟ فاعلم أن الكافر قد خبئ له ما هو أكثر، وإنما أمهل حتى يستكثر من الإثم ويطول عليه العقاب، كما قال تعالى: " إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً " وأما المعاصي فمن أين تعلم أن في العالم من هو أعصى منه، ورب خاطر بسوء أدب في حق الله تعالى وصفاته أعظم وأطم من شرب الخمر والزنا وسائر المعاصي بالجوارح، ولذلك قال تعالى في مثله: "وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " فمن أين تعلم أن غيرك أعصى منك، ثم لعله قد أخرت عقوبته إلى الآخرة وعجلت عقوبتك في الدنيا فلم لا تشكر الله تعالى على ذلك. وهذا هو الوجه الثالث في الشكر: وهو أنه ما من عقوبة إلا وكان يتصور أن يؤخر إلى الآخرة ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخر تهون المصيبة فيخف وقعها، ومصيبة الآخرة تدوم، وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلي، إذ أسباب التسلي مقطوعة بالكلية في الآخرة عن المعذبين، ومن عجلت عقوبته في الدنيا فلا يعاقب ثانياً، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد إذا أذنب ذنباً فأصابته شدة أو بلاء فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً".
الرابع: أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب وكان لا بد من وصولها إليه وقد وصلت ووقع الفراغ واستراح من بعضها أو من جميعها، فهذه نعمة الخامس: أن ثوابها أكثر منها فإن مصائب الدنيا طرق إلى الآخرة من وجهين، أحدهما: الوجه الذي يكون به الدواء الكريه نعمة في حق المريض ويكون المنع من أسباب اللعب نعمة حق الصبي، فإنه لو خلي واللعب كان يمنعه ذلك عن العلم والأدب، فكان يخسر جميع عمره، فكذلك المال والأهل والأقارب والأعضاء حتى العين التي هي أعز الأشياء قد تكون سبباً لهلاك الإنسان في بعض الأحوال، بل العقل الذي هو أعز الأمور قد يكون سبباً لهلاكه، فالملحدة غداً يتمنون لو كانوا مجانين أو صبياناً ولم يتصرفوا بعقولهم في دين الله تعالى، فما من شيء من هذه الأسباب يوجد من العبد إلا ويتصور أن يكون له فيه خيرة دينية، فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويقدر فيه الخيرة ويشكره عليه، فإن حكمة الله واسعة وهو بمصالح العباد أعلم من العباد، وغداً يشكره العباد على البلايا إذا رأوا ثواب الله على البلايا، كما يشكر الصبي بعد العقل والبلوغ أستاذه وأباه على ضربه وتأديبه، إذ يدرك ثمرة ما استفاده من التأديب، والبلاء من الله تعالى تأديب وعنايته بعباده أتم وأوفر من عناية الآباء بالأولاد، فقد روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تتهم الله في شيء قضاء عليك".
ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فضحك، فسئل فقال: " عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن، إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً له وإن قضى له بالضراء رضي وكان خيراً له".
الوجه الثاني: أن رأس الخطايا المهلكة حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة التجافي بالقلب عن دار الغرور، ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنية القلب إلى الدنيا وأسبابها وأنسه بها حتى تصير كالجنة في حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته، وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يسكن إليها ولم يأنس بها وصارت سجناً عليه، وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" والكافر كل من أعرض عن الله تعالى ولم يرد إلا الحياة الدنيا ورضي بها واطمأن إليها، والمؤمن كل منقطع بقلبه عن الدنيا شديد الحنين إلى الخروج منها، والكفر بعضه ظاهر وبعضه خفي، وبقدر حب الدنيا في القلب يسري فيه الشرك الخفي، بل الموحد المطلق هو الذي لا يحب إلا الواحد الحق؛ فإذن في البلاء نعم من هذا الوجه فيجب الفرح به، وأما التألم فهو ضروري، وذلك يضاهي فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجاناً، أو يسقيك دواءً نافعاً بشعاً مجاناً، فإنك تتألم وتفرح فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح فكل بلاء في الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذي يؤلم في الحال وينفع في المآل، بل من دخل دار ملك للنضارة وعلم أنه يخرج منها لا محالة، فرأى وجهاً حسناً لا يخرج معه من الدار كان ذلك وبالاً وبلاءً عليه لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه ولو كان عليه في المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه، والدنيا منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم وهم خارجون عنها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنفسهم بالمنزل فهو بلاء، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة؛ فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر، لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة، ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة، وحكي أن أعرابياً عزى ابن عباس على أبيه فقال:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,purple" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
اصبر نكن بك صابرين فإنمـا صبر الرعية بعد صبر الراس
خير من العباس أجرك بعـده والله خير منك لـلـعـبـاس
[/poet]

فقال ابن عباس: ما عزاني أحد أحسن من تعزيته.
والأخبار الواردة في الصبر على المصائب كثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من يرد الله به خيراً يصب منه" وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " قال الله تعالى: إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً " وقال عليه السلام: " ما من عبد أصيب بمصيبة فقال كما أمره الله تعالى " إنا لله وإنا إليه راجعون " اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيراً منها إلا فعل الله ذلك به ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: من سلبته كريمتيه فجزاؤه الخلود في داري والنظر إلى وجهي ".
وروي أن رجلاً قال يا رسول الله ذهب مالي وسقم جسمي، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في عبد لا يذهب ماله ولا يسقم جسمه، إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه وإذا ابتلاه صبره" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل لتكون له الدرجة عند الله تعالى لا يبلغها بعمل حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك".
وعن خباب بن الأرت قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردائه في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا: يا رسول الله، ألا تدعو الله تستنصره لنا؟ فجلس محمراً لونه ثم قال: " إن من كان قبلكم ليؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض حفيرة ويجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه".
وعن علي كرم الله وجهه قال: " أيما رجل حبسه السلطان ظلماً فمات فهو شهيد، وإن ضربه فمات فهو شهيد.
وقال عليه السلام: " من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك".
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: تولدون للموت وتعمرون للخراب وتحرصون على ما يفنى وتذرون ما يبقى، ألا حبذا المكروهات الثلاث: الفقر والمرض والموت.
وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً وأراد أن يصافيه صب عليه البلاء صباً وثجه عليه ثجاً، فإذا دعاه قالت الملائكة: صوت معروف وإن دعاه ثانياً فقال يا رب، قال الله تعالى: لبيك عبدي وسعديك لا تسألني شيئاً إلا أعطيتك أو دفعت عنك ما هو خيراً وادخرت لك عندي ما هو أفضل منه، فإذا كان يوم القيامة جيء بأهل الأعمال فوفوا أعمالهم بالميزان: أهل الصلاة والصيام والصدقة والحج. ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، يصب عليهم الآجر صباً كما كان يصب عليهم البلاء صباً فيود أهل العافية في الدنيا لو أنهم كانت تقرض أجسادهم بالمقاريض لما يرون ما يذهب به أهل البلاء من الثواب" فذلك قوله تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ".
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: شكا نبي من الأنبياء عليهم السلام إلى ربه فقال: يا رب، العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوي عنه الدنيا وتعرض له البلاء، ويكون الكافر لا يطيعك ويجترئ عليك وعلى معاصيك تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا، فأوحى الله تعالى إليه: " إن العباد لي والبلاء لي وكل يسبح بحمدي، فيكون المؤمن عليه من الذنوب، فأزوي عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه، حتى يلقاني فأجزيه بحسناته. ويكون الكافر له الحسنات فأبسط له في الرزق وأزوي عنه البلاء فأجزيه بحسناته في الدنيا، حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته.
وروي أنه لما نزل قوله تعالى: " من يعمل سوءاً يجز به " قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: كيف الفرح بعد هذه الآية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست يصيبك الأذى؟ ألست تحزن؟ فهذا مما تجزون به" يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك.
وعن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: " إذا رأيتم الرجل يعطيه الله ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلموا أن ذلك استدراج " ثم قرأ قوله تعالى: " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء "، يعني لما تركوا ما أمروا به فتحنا عليهم أبواب الخير " حتى إذا فرحوا بما أوتوا " أي بما أعطوا من الخير أخذناهم بغتة.
وعن الحسن البصري رحمه الله: أن رجلاً من الصحابة رضي الله عنهم رأى امرأة كان يعرفها في الجاهلية، فكلمها ثم تركها، فجعل الرجل يلتفت إليها وهو يمشي فصدمه حائط فأثر في وجهه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا". وقال علي كرم الله وجهه: ألا أخبركم بأرجى آية في القرآن؟ قالوا: بلى، فقرأ عليهم: " وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " فالمصائب في الدنيا بكسب الأوزار، فإذا عاقبه الله في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه ثانياً، وإن عفا عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعذبه يوم القيامة.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ما تجرع عبد قط جرعتين أحب إلى الله من جرعة غيظ ردها بحلم، وجرعة مصيبة يصبر الرجل لها، ولا قطرة أحب إلى الله من قطرة دم أهريقت في سبيل الله، أو قطرة دمع في سواد الليل وهو ساجد ولا يراه إلا الله، وما خطا عبد خطوتين أحب إلى الله تعالى من خطوة إلى صلاة الفريضة، وخطوة إلى صلة الرحم".
وعن أبي الدرداء قال: توفي ابن لسليمان بن داود عليهما السلام فوجد عليه وجداً شديداً فأتاه ملكان فجيئا بين يديه في زي الخصوم، فقال أحدهما: بذرت بذراً فلما استحصد مر به هذا فأفسده، فقال للآخر: ما تقول؟ فقال: أخذت الجادة فأتيت على زرع فنظرت يميناً وشمالاً فإذا الطريق عليه. فقال سليمان عليه السلام: ولم بذرت على الطريق أما علمت أن لا بد للناس من الطريق؟ قال: فلم تحزن على ولدك، أما علمت أن الموت سبيل للآخرة؟ فتاب سليمان إلى ربه ولم يجزع على ولد بعد ذلك.
ودخل عمر بن عبد العزيز على ابن له مريض، فقال: يا بني، لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبت، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعي إليه ابنة له، فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله وأجر قد ساقه الله تعالى، ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال: قد صنعنا ما أمر الله تعالى، قال تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة ".
وعن ابن المبارك أنه مات له ابن، فعزاه مجوسي يعرفه؛ فقال له: ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام، فقال ابن المبارك: اكتبوا عنه هذه.
وقال بعض العلماء إن الله ليبتلي العبد بالبلاء بعد البلاء حتى يمشي على الأرض وما له ذنب.
وقال الفضيل إن الله عز وجل ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير.
وقال حاتم الأصم إن الله عز وجل يحتج يوم القيامة على الخلق بأربعة أنفس على أربعة أجناس: على الأغنياء بسليمان، وعلى الفقراء بالمسيح، وعلى العبيد بيوسف، وعلى المرضى بأيوب صلوات الله عليهم.
وروي أن زكريا عليه السلام لما هرب من الكفار من بني إسرائيل واختفى في الشجرة فعرفوا ذلك، فجيء بالمنشار فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار إلى رأس زكريا، فأن منه أنة، فأوحى الله تعالى إليه: يا زكريا لئن صعدت منك أنة ثانية لأمحونك من ديوان النبوة، فعض زكريا عليه السلام على إصبعه حتى قطع شطرين.
وقال أبو مسعود البلخي: من أصيب بمصيبة فمزق ثوباً أو ضرب صدراً فكأنما أخذ رمحاً يريد أن يقاتل به ربه عز وجل.
وقال لقمان رحمه الله لابنه: يا بني إن الذهب يجرب بالنار والعبد الصالح يجرب بالبلاء، فإذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
وقال الأحنف بن قيس: أصبحت يوماً أشتكي ضرسي، فقلت لعمي: ما نمت البارحة من وجع الضرس حتى قلتها ثلاثاً، فقال: لقد أكثرت من ضرسك في ليلة واحدة، وقد ذهبت عيني هذه منذ ثلاثين سنة ما علم بها أحد.
وأوحى الله تعالى إلى عزيز عليه السلام: " إذا نزلت بك بلية فلا تشكني إلى خلقي واشك إلي كما لا أشكوك إلى ملائكتي إذا صعدت مساويك وفضائحك، نسأل الله من عظيم لطفه وكرمه ستره الجميل في الدنيا والآخرة.
بيان فضل النعمة على البلاء لعلك تقول: هذه الأخبار تدل على أن البلاء خير في الدنيا من النعم، فهل لنا أن نسأل الله البلاء؟ فأقول: لا وجه لذلك، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة، وكان يقول هو والأنبياء عليهم السلام: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها.
وقال علي كرم الله وجهه: اللهم إني أسألك الصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: " لقد سألت البلاء فاسأله العافية". وروى الصديق رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سلوا الله العافية، فما أعطي أحد أفضل من العافية إلا اليقين" وأشار باليقين إلى عافية القلب عن مرض الجهل والشك، فعافية القلب أعلى من عافية البدن.
وقال الحسن رحمه الله الخير الذي لا شر فيه: العافية مع الشكر فكم من منعم عليه غير شاكر.
وقال مطرف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر، أحب إلي من أن أبتلى فأصبر.
وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه: " وعافيتك أحب إلي" وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل واستشهاد، وهذا لأن البلاء صار نعمة باعتبارين: أحدهما بالإضافة إلى ما هو أكثر منه إما في الدنيا أو في الدين، والآخر بالإضافة إلى ما يرجى من الثواب، فينبغي أن نسأل الله تمام النعمة في الدنيا ودفع ما فوقه من البلاء، ونسأله الثواب في الآخرة على الشكر على نعمته فإنه قادر على أن يعطي على الشكر ما لا يعطيه على الصبر.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: أود أن أكون جسراً على النار يعبر علي الخلق كلهم فينجون وأكون أنا في النار.
وقال سمنون رحمه الله تعالى: وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني
فهذا من هؤلاء سؤال للبلاء! فاعلم أنه حكي عن سمنون المحب رحمه الله أنه بلي بعد هذا البيت بعلة الحصر، فكان بعد ذلك يدور على أبواب المكاتب ويقول للصبيان: ادعوا لعمكم الكذاب، وأما محبة الإنسان ليكون هو في النار دون سائر الخلق فغير ممكنة، ولكن قد تغلب المحبة على القلب حتى يظن المحب نفسه حباً لمثل ذلك، فمن شرب كأس المحبة سكر، ومن سكر توسع في الكلام، ولو زايله سكره علم أن ما غلب عليه كان حالة لا حقيقة لها، فما سمعته من هذا الفن فهو من كلام العشاق الذين أفرط حبهم، وكلام العشاق يستلذ سماعه ولا يعول عليه، كما حكي أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه، فقال: ما الذي يمنعك عني ولو أردت أن أقلب لك الكونين مع ملك سليمان ظهراً لبطن لفعلته لأجلك؟ فسمعه سليمان عليه السلام فاستدعاه وعاتبه فقال: يا نبي الله كلام العشاق لا يحكى، وهو كما قال.
وقال الشاعر: أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لمـا يريد
وهو أيضاً محال، ومعناه أني أريد ما لا يريد، لأن من أراد الوصال ما أراد الهجر، فكيف أراد الهجر الذي لم يرده، يل لا يصدق هذا الكلام إلا بتأويلين: أحدهما أن يكون ذلك في بعض الأحوال حتى يكتسب به رضاه الذي يتوصل به إلى الوصال في الاستقبال فيكون الهجران وسيلة إلى الرضا والرضا وسيلة إلى وصال المحبوب، والوسيلة إلى المحبوب محبوبة، فيكون مثاله مثال محب المال إذا سلم درهماً في درهمين فهو بحب الدرهمين يترك الدرهم في الحال.
الثاني: أن يصير رضاه عنده مطلوباً من حيث إنه رضاه فقط، ويكون له لذة في استشعاره رضا محبوبه منه تزيد تلك اللذة على لذته في مشاهدته مع كراهته، فعند ذلك يتصور أن يريد ما فيه الرضا، فلذلك قد انتهى حال بعض المحبين إلى أن صارت لذتهم في البلاء مع استشعارهم رضا الله عنهم أكثر من لذتهم في العافية من غير شعور الرضا، فهؤلاء إذا قدروا رضاه في البلاء صار البلاء أحب إليهم من العافية، وهذه حالة لا يبعد وقوعها في غلبات الحب ولكنها لا تثبت، وإن ثبتت مثلاً فهل هي حالة صحيحة أم حالة اقتضتها حالة أخرى وردت على القلب فمالت به عن الاعتدال؟ هذا فيه نظر، وذكر تحقيقه لا يليق بما نحن فيه، وقد ظهر بما سبق أن العافية خير من البلاء فنسأل الله تعالى المَانّ بفضله على جميع خلقه العفو في الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين.
بيان الفضل من الصبر والشكر اعلم أن الناس اختلفوا في ذلك، فقال قائلون: الصبر أفضل من الشكر. وقال آخرون: الشكر أفضل. وقال آخرون: هما سيان. وقال آخرون يختلف ذلك باختلاف الأحوال، واستدل كل فريق بكلام شديد الاضطراب بعيد عن التحصيل، فلا معنى للتطويل بالنقل، بل المبادرة إلى إظهار الحق أولى. فنقول: في بيان ذلك مقامان:
المقام الأول: البيان على سبيل التساهل: وهو أن ينظر إلى ظاهر الأمر ولا يطلب التفتيش بحقيقته وهو البيان الذي ينبغي أن يخاطب به عوام الخلق لقصور أفهامهم عن درك الحقائق الغامضة، وهذا الفن من الكلام هو الذي ينبغي أن يعتمده الوعاظ، إذ مقصود كلامهم من مخاطبة العوام إصلاحهم، والظئر المشفقة لا ينبغي أن تصلح الصبي الطفل بالطيور السمان وضروب الحلاوات، بل باللبن اللطيف، وعليها أن تؤخر عنه أطايب الأطعمة إلى أن يصير محتملاً لها بقوته، ويفارق الضعف الذي هو عليه في بنيته فنقول: هذا المقام في البيان يأبى البحث والتفصيل ومقتضاه النظر إلى الظاهر المفهوم من موارد الشرع، وذلك يقتضي تفضيل الصبر، فإن الشكر وإن وردت أخبار كثيرة في فضله فإذا أضيف إليه ما ورد في فضيلة الصبر أكثر، بل فيه ألفاظ صريحة في التفضيل كقوله صلى الله عليه وسلم: " من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر".
وفي الخبر يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين، ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له: أما ترضى أن يجزيك كما جزينا هذا الشاكر، فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: كلا، أنعمت عليه فشكر وابتليت فصبرت، لأضعفن لك الأجر عليه، فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين.
وقد قال الله تعالى: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ".
وأما قوله: " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" فهو دليل على أن الفضيلة في الصبر إذ ذكر ذلك في معرض المبالغة لرفع درجة الشاكر، فألحقه بالصبر فكان هذا منتهى درجته، ولولا أنه فهم من الشرع علو درجة الصبر لما كان إلحاق الشكر به مبالغة في الشكر، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: " الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل" وكقوله صلى الله عليه وسلم: " شارب الخمر كعابد الوثن" وأبداً المشبه به ينبغي أن يكون أعلى رتبة فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " الصبر نصف الإيمان " لا يدل على أن الشكر مثله، وهو كقوله عليه السلام: " الصوم نصف الصبر " فإن كل ما ينقسم قسمين يسمى أحدهما نصفاً وإن كان بينهما تفاوت، كما يقال: الإيمان هو العلم والعمل، فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم.
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه، وآخر أصحابي دخول الجنة عبد الرحمن بن عوف لمكان غناه".
وفي خبر آخر: " يدخل سليمان بعد الأنبياء بأربعين خريفاً".
وفي الخبر: " أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد، وأول من يدخله أهل البلاء أمامهم أيوب عليه السلام".
وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر؛ لأن الصبر حال الفقير، والشكر حال الغني، فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه صلاح دينهم
المقام الثاني: هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف والإيضاح فنقول فيه: كل أمرين مبهمين لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما، وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة، بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان. والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين حكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال فنقول: قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة: علوم، وأحوال، وأعمال، والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك، وهذه الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال، والأحوال تراد للأعمال، والأعمال هي الأفضل، وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك؛ فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم، فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال، لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه: وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض، وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض، وكذا آحاد المعارف، وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة، بل علوم المعاملة دون المعاملة لأنها تزاد للمعاملة؛ ففائدتها إصلاح العمل، وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص إلى عمل أفضل، وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر؛ فنقول: فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب، وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته، وأفعاله، فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه، وهي الغاية التي تطلب لذاتها، فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها، وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم بالإضافة إليها، فإنها إنما تراد لأجلها، ولما كانت مرادة لأجلها كان تعاونها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى: فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة، فكما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل الخلق، حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق، فإذن فضائل الأحوال بقدر الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده لأن تحصل له علوم المكاشفة، وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض، فكذلك أحوال القلب، فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود، وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه، وكل عمل إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدنيا، وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة للمكاشفة موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه، واسم الأول المعصية، واسم الثاني الطاعة، والمعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته متفاوتة، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها وذلك يختلف باختلاف الأحوال، وذلك أنا بالقول المطلق ربما نقول الصلاة النافلة أفضل من كل عبادة نافلة، وأن الحج أفضل من الصدقة، وأن قيام الليل أفضل من غيره، ولكن التحقيق فيه أن الغني الذي معه مال وقد غلبه البخل وحب المال على إمساكه فإخراج الدرهم له أفضل من قيام ليل وصيام أيام، لأن الصيام يليق بمن غلبته شهوة البطن فأراد كسرها، أو منعه الشبع عن صفاء الفكر من علوم المكاشفة فأراد تصفية القلب بالجوع، فأما هذا المدبر إذا لم تكن حاله هذه الحال فليس يستضر بشهوة بطنه ولا هو مشتغل بنوع فكر يمنعه الشبع منه، فاشتغاله بالصوم خروج منه عن حاله إلى حال غيره، وهو كالمريض الذي يشكو وجع البطن إذا استعمل دواء الصداع لم ينتفع به، بل حقه أن ينظر في المهلك الذي استولى عليه، والشح المطاع من جملة المهلكات، ولا يزيل صيام مائة سنة وقيام ألف ليلة منه ذرة، بل لا يزيله إلا إخراج المال؛ فعليه أن يتصدق بما معه، وتفصيل هذه مما ذكرناه في ربع المهلكات فليرجع إليه، فإذن باعتبار هذه الأحوال يختلف، وعند ذلك يعرف البصير أن الجواب المطلق فيه خطأ، إذ لو قال لنا قائل: الخبز أفضل أم الماء؟ لم يكن فيه جواب حق إلا أن الخبز للجائع أفضل، والماء للعطشان أفضل، فإن اجتمعا فلينظر إلى الأغلب، فإن كان العطش هو الأغلب فالماء أفضل، وإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل، فإن تساويا فهما متساويان، وكذا إذا قيل: السكنجين أفضل أم شراب اللينوفر؟ لم يصح الجواب عنه مطلقاً أصلاً، نعم لو قيل لنا: السكنجين أفضل أم عدم الصفراء؟ فنقول عدم الصفراء، لأن السكنجين مراد له، وما يراد لغيره فلذلك أفضل منه لا محالة، فإذن في بذل المال عمل وهو الإنفاق ويحصل به حال وهو زوال البخل وخروج حب الدنيا من القلب، ويتهيأ القلب بسبب خروج حب الدنيا منه لمعرفة الله تعالى وحبه، فالأفضل المعرفة، ودونها الحال، ودونها العمل.
فإن قلت: فقد حث الشرع على الأعمال وبالغ في ذكر فضلها حتى طلب الصدقات بقوله: " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " وقال تعالى: " ويأخذ الصدقات " فكيف لا يكون الفعل والإنفاق هو الأفضل؟ فاعلم أن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء مراد لعينه، أو على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصل به، ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب، ومرض القلوب مما لا يشعر به غالباً فهو كبرص على وجه من لا مرآة معه، فإنه لا يشعر به، ولو ذكر له لا يصدق به. والسبيل معه المبالغة في الثناء على غسل الوجه بماء الورد مثلاً إن كان ماء الورد يزيل البرص، حتى يستحثه فرط الثناء على المواظبة عليه فيزول مرضه، فإنه لو ذكر له أن المقصود زوال البرص عن وجهك ربما ترك العلاج وزعم أن وجهه لا عيب فيه ولنضرب مثلاً أقرب من هذا: من له ولد علمه العلم والقرآن وأراد أن يثبت ذلك في حفظه بحيث لا يزول عنه، وعلم أنه لو أمره بالتكرار والدراسة ليبقى له محفوظاً لقال إنه محفوظ ولا حاجة بي إلى تكرار ودراسة، لأنه يظن أن ما يحفظه في الحال يبقى كذلك أبداً، وكان له عبيد فأمر الولد بتعليم العبيد ووعده على ذلك بالجميل لتتوفر داعيته على كثرة التكرار بالتعليم، فربما يظن الصبي المسكين أن المقصود تعليم العبيد القرآن وأنه قد استخدم لتعليمهم، فيشكل عليه الأمر فيقول: ما بالي قد استخدمت لأجل العبيد وأنا أجل منهم وأعز عند الوالد، وأعلم أن أبي لو أراد تعليم العبيد لقدر عليه دون تكليفي به، وأعلم أن لا نقصان لأبي بفقد هؤلاء العبيد فضلاً عن عدم علمهم بالقرآن، فربما يتكاسل هذا المسكين فيترك تعليمهم اعتماداً على استغناء أبيه وعلى كرمه في العفو عنه فينسى العلم والقرآن ويبقى مدبراً محروماً من حيث لا يدري، وقد انخدع بمثل هذا الخيل طائفة وسلكوا طريق الإباحة وقالوا: إن الله تعالى غني عن عبادتنا وعن أن يستقرض منا، فأي معنى لقوله: " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " ولو شاء الله إطعام المساكين لأطعمهم فلا حاجة بنا إلى صرف أموالنا إليهم، كما قال تعالى حكاية عن الكفار " وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه " وقالوا أيضاً: " لو شاء ما أشركنا ولا آباؤنا " فانظر كيف كانوا صادقين في كلامهم وكيف هلكوا بصدقهم، فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق وإذا شاء أسعد بالجهل: " يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً " فهؤلاء لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين والفقراء أو جل الله تعالى ثم قالوا لا حظ لنا في المساكين ولا حظ لله فينا وفي أموالنا سواء أنفقنا أو أمسكنا: هلكوا كما هلك الصبي لما ظن أن مقصود الوالد استخدامه لأجل العبيد ولم يشعر بأنه كان المقصود ثبات صفة العلم في نفسه وتأكده في قلبه حتى يكون ذلك سبب سعادته في الدنيا، وإنما كان ذلك من الوالد تلطفاً به في استجراره إلى ما فيه سعادته، فهذا المثال يبين لك ضلال من ضل هذا الطريق، فإذن هذا المسكين الآخذ لمالك يستوفي بواسطة المال خبث البخل وحب الدنيا من باطنك، فإنه مُهلك لك فهو كالحجام يستخرج الدم منك ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك؛ فالحجام خادم لك لا أنت خادم للحجام. ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً بأن يكون له غرض في أن يصنع شيئاً بالدم، ولما كانت الصدقات مطهرة للبواطن ومزكية لها عن خبائث الصفات امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذها وانتهى عنها، كما نهى عن كسب الحجام وسماها أوساخ أموال الناس، وشرف أهل بيته بالصيانة عنها، والمقصود أن الأعمال مؤثرات في القلب كما سبق في ربع المهلكات، والقلب بحسب تأثيرها مستعد لقبول الهداية ونور المعرفة، فهذا هو القول الكلي والقانون الأصلي الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة فضائل الأعمال والأحوال والمعارف، ولنرجع الآن إلى خصوص ما نحن فيه من الصبر والشكر فنقول: في كل واحد منهما معرفة وحال وعمل، فلا يجوز أن تقابل المعرفة في أحدهما بالحال، أو العمل في الآخر، بل يقابل كل واحد منها بنظيره حتى يظهر التناسب، وبعد التناسب يظهر الفضل، ومهما قوبلت معرفة الشاكر بمعرفة الصابر ربما رجعا إلى معرفة واحدة، إذ معرفة الشاكر: أن يرى نعمة العينين مثلاً من الله تعالى. ومعرفة الصابر: أن يرى العمى من الله، وهما معرفتان متلازمتان متساويتان هذا إن اعتبرنا في البلاء والمصائب. وقد بينا أن الصبر قد يكون على الطاعة وعن المعصية، وفيهما يتحد الصبر والشكر لأن الصبر على الطاعة هو عين شكر الطاعة، لأن الشكر يرجع إلى صرف نعمة الله تعالى إلى ما هو المقصود منها بالحكمة والصبر يرجع إلى ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى، فالصبر والشكر فيه اسمان لمسمى واحد باعتبارين مختلفين فثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى يسمى صبراً بالإضافة إلى باعث الهوى، ويسمى شكراً بالإضافة إلى باعث الدين، إذ باعث الدين إنما خلق لهذه الحكمة، وهو أن يصرع به باعث الشهوة، وقد صرفه إلى مقصود الحكمة، فهما عبارتان عن معنى واحد، فكيف يفضل الشيء على نفسه؛ فإذن مجاري الصبر ثلاثة: الطاعة، والمعصية، والبلاء، وقد ظهر حكمهما في الطاعة والمعصية، وأما البلاء فهو عبارة عن فقد نعمة، والنعمة إما أن تقع ضرورية كالعينين مثلاً، وإما أن تقع في محل الحاجة كالزيادة على قدر الكفاية من المال، أما العينان فصبر الأعمى عنهما بأن لا يظهر الشكوى ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ولا يترخص بسبب العمى في بعض المعاصي، وشكر البصير عليهما من حيث العمل بأمرين: أحدهما أن لا يستعين بهما على معصية، والآخر أن يستعملهما في الطاعة، وكل أحد من الأمرين لا يخلو عن الصبر؛ فإن الأعمى كفي الصبر عن الصور الجميلة لأنه لا يراها، والبصير إذا وقع بصره على جميل فصبر كان شاكراً لنعمة العينين؛ وإن أتبع النظر كفر نعمة العينين؛ فقد دخل الصبر في شكره، وكذا إذا استعان بالعينين على الطاعة فلا بد أيضاً فيه من صبر على الطاعة، ثم قد يشكرها بالنظر إلى عجائب صنع الله تعالى ليتوصل به إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فيكون هذا الشكر أفضل من الصبر، ولولا هذا لكانت رتبة شعيب عليه السلام مثلاً وقد كان ضريراً من الأنبياء فوق رتبة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء، لأنه صبر على فقد البصر وموسى عليه السلام لم يصبر مثلاً، ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم وذلك محال جداً لأن كل واحد من هذه الأعضاء آلة في الدين يفوت بفوتها ذلك الركن من الدين، وشكرها باستعمالها فيما هي آلة فيه من الدين، وذلك لا يكون إلا بصبر، وأما ما يقع في محل الحاجة كالزيادة على الكفاية من المال فإنه إذا لم يؤت إلا قدر الضرورة وهو محتاج إلى ما وراءه، ففي الصبر عنه مجاهدة وهو جهاد الفقر، ووجود الزيادة نعمة، وشكرها أن تصرف إلى الخيرات، أو أن لا تستعمل في المعصية، فإن أضيف الصبر إلى الشكر الذي هو صرف إلى الطاعة فالشكر أفضل، لأنه تضمن الصبر أيضاً، وفيه فرح بنعمة الله تعالى، وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء وترك صرفه إلى التنعم المباح، وكان الحاصل يرجع إلى أن شيئين أفضل من شيء واحد، وأن الجملة أعلى رتبة من البعض، وهذا فيه خلل إذ لا تصبح الموازنة بين الجملة وبين أبعاضها، وأما إذا كان شكره بأن لا يستعين به على معصية بل يصرفه إلى التنعم المباح فالصبر ههنا أفضل من الشكر، والفقير الصابر أفضل من الغني الممسك ماله الصارف إياه إلى المباحات لا من الغني الصارف ماله إلى الخيرات، لأن الفقير قد جاهد نفسه وكسر نهمتها وأحسن الرضا على بلاء الله تعالى، وهذه الحالة تستدعي لا محالة قوة؛ والغني أتبع وأطاع شهوته ولكنه اقتصر على المباح، والمباح فيه مندوحة عن الحرام، ولكن لا بد من قوة في الصبر عن الحرام أيضاً، إلا أن القوة التي عنها يصدر صبر الفقير أعلى وأتم من هذه القوة التي يصدر عنها الاقتصار في التنعم على المباح والشرف لتلك القوة التي يدل العمل عليها، فإن الأعمال لا تراد إلا لأحوال القلوب، وتلك القوة حالة للقلب تختلف بحسب قوة اليقين والإيمان، فما دل على زيادة قوة في الإيمان فهو أفضل لا محالة. وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة والأموال الغنى بها، والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان: الحمد لله ولا يستعين بالنعمة على المعصية، لا أن يصرفها إلى الطاعة، فإذن الصبر أفضل من الشكر، أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة، وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد رحمه الله حيث سئل عن الصبر والشكر: أيهما أفضل؟ فقال: ليس مدح الغني بالوجود ولا مدح الفقير بالعدم، وإنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما، فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذذها، والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها، فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي ألم صفته وأزعجها أتم حالاً ممن متع صفته ونعمها، والأمر على ما قاله، وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه، وهو لم يرد سواه. ويقال: كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك وقال: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده وإتلاف أمواله وزوال عقله أربع عشرة سنة، فكان يقول: دعوة الجنيد أصابتني، ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر.
ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال، فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر كما سبق، ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر، وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير، إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه، على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين، وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها، ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه وصيت ولا لتقليد منه، بل أداء لحق الله تعالى في تفقد عباده، فهذا أفضل من الفقير الصابر.
فإن قلت: فهذا لا يثقل على النفس والفقير يثقل عليه الفقر؛ لأن هذا يستشعر لذة القدرة وذاك يستشعر ألم الصبر؛ فإن كان متألماً بفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على الإنفاق، فاعلم أن الذي تراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالاً ممن ينفقه وهو بخيل به وإنما يقتطعه عن نفسه قهراً، وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة، فإيلام النفس ليس مطلوباً لعينه بل لتأديبها، وذلك يضاهي ضرب كلب الصيد، والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى الضرب وإن كان صابراً على الضرب، ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية ولا يحتاج إليهما في النهاية، بل النهاية أن يصير ما كان مؤلماً في حقه لذيذاً عنده، كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذاً. وقد كان مؤلماً له أولاً، ولكان لما كان الناس كلهم إلا الأقلين في البداية - بل قبل البداية بكثير - كالصبيان، أطلق الجنيد القول بأن الذي يؤلم صفته أفضل، وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق، فإذن إذا كنت لا تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر فإنه صحيح بالمعنى السابق إلى الأفهام؛ فإذا أردت التحقيق ففصل، فإن للصبر درجات أقلها ترك الشكوى مع الكراهية، ووراءها الرضا وهو الرضا وهو مقام وراء الصبر، ووراءه الشكر على البلاء وهو وراء الرضا، إذ الصبر مع التألم والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح، والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به، وكذلك الشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها، ويدخل في جملتها أمور دونها؛ فإن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر، ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر، والاعتذار من قلة الشكر شكر، والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر، والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر، والعلم بأن الشكر أيضاً نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر، وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر، وشكر الوسائط شكر، إذ قال عليه السلام: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار الزكاة، وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر، وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر. وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها؛ وهي درجات مختلفة؛ فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص باللفظ العام كما ورد في الأخبار والآثار.
وقد روي عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن فسألته عن حاله فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي كذلك كانت تهواني؛ فاتفق أنها زوجت مني، فليلة زفافها قلت: تعالى حتى نحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا، فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه، فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك، فصلينا طوال الليل، فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة كل ليلة، أليس كذلك يا فلانة؟ قالت العجوز: هو كما يقول الشيخ، فانظر إليهما لو صبرا على بلاء الفرقة، أو لو لم يجمع الله بينهما، وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه، فلا يخفى عليك أن هذا الشكر أفضل؛ فإذن لا وقوف على حقائق المفضلات إلا بتفضيل كما سبق. والله أعلم.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء سبتمبر 20, 2006 7:06 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب الخوف والرجاء
وهو الكتاب الثالث من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]



الحمد لله المرجو لطفه وثوابه، المخوف مكره وعقابه، الذي عمر قلوب أوليائه بروح رجائه حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول بفنائه، والعدول عن دار بلائه التي هي مستقر أعدائه، وضرب بسياط التخويف وزجره العنيف وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار ثوابه وكرامته، وصدهم عن التعرض لأئمته والتهدف لسخطه ونقمته، قوداً لأصناف الخلق بسلاسل القهر والعنف وأزمة الرفق واللطف إلى جنته، والصلاة والسلام على محمد سيد أنبيائه وخير خليفته وعلى آله وأصحابه وعترته

أما بعد فإن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كئود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أزمة الرجاء. ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات- إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف، فلا بد إذن من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسبيل التوصل إلى الجمع بينها مع تضادهما وتعاندهما. ونحن نجمع ذكرهما في كتاب واحد يشمل على شطرين الشطر الأول في الرجاء، والشطر الثاني في الخوف.

[align=center]الشطر الأول
في الرجاء
[/align]


أما الشطر الأول فيشتمل على بيان حقيقة الرجاء، وبيان فضيلة الرجاء وبيان دواء الرجاء، والطرق الذي يجتلب به الرجاء.

[align=center]بيان حقيقة الرجاء[/align]

اعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين، وإنما يسمى الوصف مقاماً إذا ثبت وأقام، وإنما يسمى حالاً إذا كان عارضاً سريع الزوال، وكما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة كصفرة الذهب، وإلى سريعة الزوال كصفرة الوجل، وإلى ما هو بينهما كصفرة المريض، فكذلك صفات القلب تنقسم هذه الأقسام، فالذي هو غير ثابت يسمى حالاً لأنه يحول على القرب وهذا جار في كل وصف من أوصاف القلب؛ وغرضنا الآن حقيقة الرجاء، فالرجاء أيضاً يتم من حال وعلم وعمل، فالعلم سبب يثمر الحال. والحال يقتضي العمل، وكان الرجاء اسماً من جملة الثلاثة، وبيانه: أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال، فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً، وإن كان ما خطر بقلبك موجوداً في الحال سمي وجداً وذوقاً وإدراكاً، وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها في نفسك، وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سمي خوفاً وإشفاقاً، وإن كان محبوباً حصل من انتظاره وتعلق القلب به وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح سمي ذل الارتياح رجاء، فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده، ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب، فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق، وإن كان ذلك انتظاراً مع انحزام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء، وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاء فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب، وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه، أما ما يقطع به فلا، إذ لا يقال: أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب، لأن ذلك مقطوع به، نعم يقال: أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه، وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة، والقلب كالأرض، والإيمان كالبذر فيه، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها، والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر، ويوم القيامة يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو بذر في أرض سبخة، فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع، فكل من طلب أرضاً طيبة وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس، ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته، ثم نقي الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده، ثم جلس منتظراً من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته: سمي انتظاره رجاء. وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً، ثم انتظر الحصاد منه: سمي انتظاره حمقاً وغروراً لا رجاء. وإن بث البذر في أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضاً: سمي انتظاره تمنياً لا رجاء؛ فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات، فالعبد إذا بث بذر الإيمان، وسقاه بماء الطاعات، وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة، وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة: وكان انتظاره رجاءً حقيقياً محموداً في نفسه باعثاً له على المواظبة والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت: وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات، وترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة، فانتظاره حمق وغرور، قال صلى الله عليه وآله وسلم: " الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة".
وقال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً " وقال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " وذم الله تعالى صاحب البستان إذ دخل جنته وقال: " ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ".
فإذن العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق أن ينتظر من فضل الله تمام النعمة، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة. وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة. وأما قبل التوبة إذا كان كارهاً للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهي التوبة ويشتاق إليها، فحقيق بأن يرجو من الله التوفيق للتوبة، لأن كراهيته المعصية وحرصه على التوبة يجري مجرى السبب الذي قد يفضي إلى التوبة، وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب، ولذلك قال تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله " معناه أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله، وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضاً قد يرجو؛ ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء، فأما من ينهمك فيما يكرهه الله تعالى ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع، فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقي ولا تنقية. قال يحيى بن معاذ: من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة، وانتظار زرع الجنة ببذر النار، وطلب دار المطيعين بالمعاصي، وانتظار الجزاء بغير عمل، والتمني على الله عز وجل مع الإفراط: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكهـا إن السفينة لا تجري على اليبس
فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب، وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان، فإن من حسن بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه، فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها فلا يفتر عن تعهدها أصلاً إلى وقت الحصاد، وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس، واليأس يمنع من التعهد، فمن عرف أن الأرض سبخة وأن الماء معوز وأن البذر لا ينبت، فيترك لا محالة تفقد الأرض والتعب في تعهدها، والرجاء محمود لأنه باعث، واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل، والخوف ليس بضد للرجاء بل هو رفيق له كما سيأتي بيانه، بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة، فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال، ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى والتنعم بمناجاته والتلطف في التملق له، فإن هذه الأحوال لا بد وأن تظهر على كل من يرجو ملكاً من الملوك أو شخصاً من الأشخاص، فكيف لا يظهر ذلك في حق الله تعالى؟ فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمني فهذا هو البيان لحال الرجاء ولما أثمره من العلم ولما استثمر منه من العمل، ويدل على إثماره لهذه الأعمال حديث زيد الخيل، إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد؟ فقال: "كيف أصبحت؟" قال: أصبحت أحب الخير وأهله، وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه، وإذا فاتني منه شيء حزنت عليه وحننت إليه. فقال: " هذه علامة الله فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها ثم لا يبالي في أي أوديتها هلكت " ، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم علامة من أريد به الخير، فمن ارتجى أن يكون مراداً بالخير من غير هذه العلامات فهو مغرور.

[align=center]بيان فضيلة الرجاء والترغيب فيه[/align]

اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف، لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له، والحب يغلب الرجاء، واعتبر ذلك بملكين يخدم أحدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لثوابه، ولذلك ورد في الرجاء وحسن الظن رغائب لا سيما في وقت الموت: قال تعالى " لا تقنطوا من رحمة الله " فحرم أصل اليأس.
وفي أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه: أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف؟ لأنك قلت أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت الذئب ولم ترجني؟ ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى"
وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء".
ودخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال: " كيف تجدك؟" فقال: أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي. فقال صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وأمنه مما يخاف".
وقال علي رضي الله عنه لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك.
وقال سفيان: من أذنب ذنباً فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجاء غفرانه غفر الله له ذنبه. قال: لأن الله عز وجل عير قوماً فقال: " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم "، وقال تعالى: "وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإن لقنه الله حجته قال: يا رب رجوتك وخفت الناس. قال: فيقول الله تعالى: قد غفرته لك".
وفي الخبر الصحيح: أن رجلاً كان يداين الناس فيسامح الغني ويتجاوز عن المعسر فلقي الله ولم يعمل خيراً قط، فقال الله عز وجل: من أحق بذلك منا، فعفا عنه لحسن ظنه ورجائه أن يعفو عنه مع إفلاسه عن الطاعات.
وقال تعالى: " إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ".
ولما قال صلى الله عليه وسلم: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم وتجأرون إلى ربكم، فهبط جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقول لك لم تقنط عبادي؟ فخرج عليهم ورجاهم وشوقهم.
وفي الخبر: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي. فقال: يا رب، كيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل.
ورثى أبان بن أبي عياش في النوم وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال: أوقفني الله تعالى بين يديه فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: أردت أن أحببك إلى خلقك، فقال: قد غفرت لك.
ورثى يحيى بن أكثم بعد موته في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني الله بين يديه وقال: يا شيخ السوء، فعلت وفعلت، وقال: فأخذني من الرعب ما يعلم الله، ثم قلت: يا رب ما هكذا حدثت عنك، فقال: وما حدثت عني؟ فقلت: حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام أنك قلت: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء، وكنت أظن بك أن لا تعذبني، فقال الله عز وجل: صدق جبريل وصدق نبيي، وصدق أنس، وصدق الزهري، وصدق معمر، وصدق عبد الرزاق وصدقت. قال: فألبست ومشى بين يدي الولدان إلى الجنة، فقلت: يا لها من فرحة.
وفي الخبر: " أن رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم، قال: فيقول له الله تعالى يوم القيامة: اليوم أويسك منم رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن رجلاً يدخل النار فيمكث فيها ألف سنة ينادي: يا حنان يا منان، فيقول الله تعالى لجبريل: اذهب فائتني بعبدي. قال فيجيء به فيوقفه على ربه فيقول الله تعالى: كيف وجدت مكانك؟ فيقول: شر مكان. قال: فيقول ردوه إلى مكانه. قال: فيمشي إلى ورائه، فيقول الله عز وجل: إلى أي شيء تلتفت! فيقول: لقد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها، فيقول الله تعالى: اذهبوا به إلى الجنة" فدل هذا على أن رجاءه كان سبب نجاته، نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه.

[align=center]بيان دواء الرجاء
والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب [/align]


اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين: إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة، وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله، وهذا رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط، فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال؛ فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مهلكة في حقه وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد، وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة، بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له، فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفاً ناظراً إلى مواقع العلل معالجاً لكل علة بما يضادها لا بما يزيد فيها، فإن المطلوب هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها وخير الأمور أوساطها، فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط، وهذا الزمان زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء، بل المبالغة في التخويف أيضاً تكاد أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب، فأما ذكر أسباب الرجاء فيهلكهم ويرديهم بالكلية، ولكنها لما كانت أخف على القلوب وألذ عند النفوس، ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد فساداً وازداد المنهمكون في طغيانهم تمادياً.
قال علي كرم الله وجهه: إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم من مكر الله.
ونحن نذكر أسباب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف اقتداءً بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعاً لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان. وحال الرجاء يغلب بشيئين: أحدهما الاعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار.
أما الاعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء وما هو محتاج إليه كالأصابع والأظفار وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين واختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود، وإنما كان يفوت به مزية جمال، فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد، بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيئ له أسباب السعادة في الدنيا، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت، وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبداً مثلاً أولا يحشر أصلاً فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة، وإنما الذي يتمنى الموت نادر، ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة ورافعة هاجمة غريبة، فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة فسنة الله لا تجد لها تبديلاً، فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد وهو غفور رحيم لطيف بعباده متعطف عليهم، فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوي به أسباب الرجاء، ومن الاعتبار أيضاً النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ووجه الرحمة للعباد بها، حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء. فقيل له: وما فيها من الرجاء؟ فقال: الدنيا كلها قليل، ورزق الإنسان منها قليل، والدين قليل عن رزقه، فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه، فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه؟ الفن الثاني: استقراء الآيات والأخبار، فما ورد في الرجاء خارج عن الحصر، أما الآيات فقد قال تعالى " قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم "
وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم "وقال تعالى " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ".
وأخبر تعالى أن النار أعدها لأعدائه، وإنما خوف بها أولياءه فقال " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ".
وقال تعالى: " واتقوا النار التي أعدت للكافرين ".
وقال تعالى " فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى".
وقال عز وجل: " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ".
ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له: أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية " وإن ربك لذو مغفرة للناس ظلمهم".
وفي تفسير قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " قال: " لا يرضى محمد وواحد من أمته في النار ".
وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول: أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله " قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " الآية، ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى: " ولسوف يعطيك ربك فترضى " وأما الأخبار فقد روى أبو موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة عجل الله عقابها في الدنيا: الزلازل والفتن، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب فقيل: هذا فداؤك من النار".
وفي لفظ آخر " يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول: هذا فدائي من النار فيلقى فيها".
وقال صلى الله عليه وسلم: " الحمى من قبيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار".
وروي في تفسير قوله تعالى " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " أن الله تعالى أوحى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام: إني أجعل حساب أمتك إليك. قال " لا يا رب أنت أرحم بهم مني " فقال: " إذن لا نخزيك فيهم".
وروي عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه في ذنوب أمته فقال: " يا رب اجعل حسابهم إلي لئلا يطلع على مساويهم غيري " فأوحى الله تعالى إليه: هم أمتك وهم عبادي، وأنا أرحم بهم منك، لا أجعل حسابهم إلى غيري لئلا تنظر إلى مساويهم أنت ولا غيرك.
وقال صلى الله عليه وسلم: " حياتي خير لكم وموتي خير لكم، أما حياتي فأسن لكم السنن وأشرع لكم الشرائع، وأما موتي فإن أعمالكم تعرض علي فما رأيت منها حسناً حمدت الله عليه، وما رأيت منها سيئاً استغفرت الله تعالى لكم".
وقال صلى الله عليه وسلم يوماً: " يا كريم العفو " فقال جبريل عليه السلام: أتدري ما تفسير: يا كريم العفو؟ هو إن عفا عن السيئات برحمته بدلها حسنات بكرمه.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة، فقال: " هل تدري ما تمام النعمة؟ قال: لا، قال: " دخول الجنة".
قال العلماء: قد أتم الله علينا نعمته برضاه الإسلام لنا إذ قال تعالى " وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ".
وفي الخبر " إذا أذنب العبد ذنباً فاستغفر الله يقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب، أشهدكم أني قد غفرت له".
وفي الخبر " لو أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني".
وفي الخبر " لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوباً لقيته بقراب الأرض مغفرة".
وفي الحديث " أن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات، فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة".
وفي لفظ آخر: " فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمير عليه: ألق هذه السيئة حتى ألقى من حسناته واحدة تضعيف العشر وأرفع له تسع حسنات، فتلقي عنه السيئة " وروى أنس في حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه " فقال أعرابي: وإن تاب عنه؟ قال: " محي عنه " قال: فإن عاد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يكتب عليه " قال الأعرابي: فإن تاب؟ قال: " محي من صحيفته " قال: إلى متى؟ قال: " إلى أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل، إن الله لا يمل من المغفرة حتى يمل العبد من الاستغفار؛ فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين حسنة قبل أن يعملها، فإن عملها كتبت عشر حسنات ثم يضاعفها الله سبحانه وتعالى إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإذا عملها كتبت خطيئة واحدة ووراءها حسن عفو الله عز وجل".
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه، ولا أصلي إلا الخمس لا أزيد عليها، وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع: أين أنا إذا مت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " نعم معي، إذا حفظت قلبك من اثنين: الغل، والحسد، ولسانك من اثنين: الغيبة والكذب. وعينيك من اثنتين: النظر إلى ما حرم الله، وأن تزدري بهما مسلماً. دخلت معي الجنة على راحتي هاتين".
وفي الحديث الطويل لأنس: أن الأعرابي قال: يا رسول الله، من يلي حساب الخلق؟ فقال: "الله تبارك وتعالى " قال هو بنفسه؟ قال: " نعم " فتبسم الأعرابي، فقال صلى الله عليه وسلم: " مم ضحكت يا أعرابي؟" فقال: إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق الأعرابي، ألا لا كريم أكرم من الله تعالى، هو أكرم الأكرمين " ثم قال: " فقه الأعرابي" وفيه أيضاً: " إن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بوليٍّ من أولياء الله تعالى " قال الأعرابي: ومن أولياء الله تعالى؟ قال: " المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى، أما سمعت قول الله عز وجل: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " وفي بعض الأخبار: " المؤمن أفضل من الكعبة" و " المؤمن طيب طاهر" و " المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة".
وفي الخبر " خلق الله تعالى جهنم من فضل رحمته سوطاً يسوق الله به عباده إلى الجنة".
وفي خبر آخر: " يقول الله عز وجل: إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم".
وفي حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خلق الله تعالى شيئاً إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه".
وفي الخبر المشهور: " إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي".
وعن معاذ بن جبل وأنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة". و " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تمسه النار". و " من لقي الله لا يشرك به شيئاً حرمت عليه النار". و " لا يدخلها من في قلبها مثقال ذرة من إيمان".
وفي خبر آخر " لو علم الكافر سعة رحمة الله ما آيس من جنته أحد" ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى " إن زلزلة الساعة شيء عظيم " قال: "أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم يقال لآدم عليه الصلاة والسلام: قم فابعث بعث النار من ذريتك، فيقول: كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال: فأبلس القوم يبكون وتعطلوا يومهم عن الاشتغال والعمل، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " ما لكم لا تعملون " فقالوا: ومن يشتغل بعمل بعد ما حدثتنا بهذا؟ فقال: " كم أنتم في الأمم؟ أين تأويل وثاريث ومنسك ويأجوج ومأجوج أمم لا يحصيها إلا الله تعالى، إنما أنتم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وكالرقمة في ذراع الدابة" فانظر كيف كان الخوف يسوق الخلق بسياط الخوف ويقودهم بأزمة الرجاء إلى الله تعالى، إذ ساقهم بسياط الخوف أولاً، فلما خرج ذلك بهم عن حد الاعتدال إلى إفراط اليأس داواهم بدواء الرجاء وردهم إلى الاعتدال، والقصد والآخر لم يكن مناقضاً للأول ولكن ذكر في الأول ما رآه سبباً للشفاء واقتصر عليه، فلما احتاجوا إلى المعالجة بالرجاء ذكر تمام الأمر، فعلى الواعظ أن يقتدي بسيد الوعاظ فيتلطف في استعمال أخبار الخوف والرجاء بحسب الحاجة بعد ملاحظة العلل الباطنة، وإن لم يراع ذلك كان ما يفسد بوعظه أكثر مما يصلحه، وفي الخبر " لو لم تذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم" وفي لفظ آخر " لذهب بكم وجاء بخلق يذنبون فيغفر لهم إنه هو الغفور الرحيم ".
وفي الخبر " لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب " قيل: وما هو؟ قال: "العجب".
وقال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها".
وفي الخبر " ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب أحد، حتى إن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه".
وفي الخبر " إن لله تعالى مائة رحمة ادخر منها عنده تسعاً وتسعين رحمة وأظهر منها في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق، فتحن الوالدة على ولدها وتعطف البهيمة على ولدها. فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى التسع والتسعين ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات والأرض. قال: فلا يهلك على الله يومئذ إلا هالك".
وفي الخبر " ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار " قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته".
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: " اعملوا وابشروا واعلموا أن أحداً لن ينجيه عمله".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها للطيعين المتقين بل هي للمتلوثين المخلطين".
وقال عليه الصلاة والسلام: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة".
وقال صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى: " أحب أن يعلم أهل الكتابين أن في ديننا سماحة". ويدل على معناه استجابة الله تعالى للمؤمنين في قولهم " ولا تحمل عليناً إصراً ".
وقال تعالى: " ويضع عنه إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ".
وروى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما نزل قوله تعالى "فاصفح الصفح الجميل " قال: " يا جبريل وما الصفح الجميل؟" قال عليه السلام: إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه، فقال: " يا جبريل فالله تعالى أكرم من أن يعاتب من عفا عنه " فبكى جبريل وبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث الله تعالى إليهما ميكائيل عليه السلام وقال: إن ربكما يقرئكما السلام ويقول: كيف أعاتب من عفوت عنه؛ هذا ما لا يشبه كرمي".
والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن تحصى. وأما الآثار: فقد قال علي كرم الله وجهه: من أذنب ذنباً فستره الله عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة، ومن أذنب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من يثني عقوبته على عبده في الآخرة.
وقال الثوري: ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما.
وقال بعض السلف: المؤمن إذا عصى الله تعالى عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه وكتب محمد بن صعب إلى أسود بن سالم بخطه: إن العبد إذا كان مسرفاً على نفسه فرفع يديه يدعو ويقول يا رب حجبت الملائكة صوته، وكذا الثانية والثالثة، حتى إذا قال الرابعة: يا ربي، قال الله تعالى: حتى متى تحجبون عني صوت عبدي، قد علم عبدي أنه ليس له رب يغفر له الذنوب غيري، أشهدكم أني قد غفرت له.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: خلالي الطواف ليلة وكانت ليلة مطيرة مظلمة، فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت: يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبداً، فهتف بي هاتف من البيت: يا إبراهيم أنت تسألني العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون مني ذلك، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل؟ ولمن أغفر؟ وكان الحسن يقول: لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السموات ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب.
وقال الجنيد رحمه الله تعالى: إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين.
ولقي مالك بن دينار أبانا فقال له: إلى كم تحدث الناس بالرخص؟ فقال: يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح.
وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه - وكان من خيار التابعين وهو ممن تكلم بعد الموت - قال: لما مات أخي سجي بثوبه وألقيناه على نعشه، فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعداً، وقال إني لقيت ربي عز وجل فحياني بروح وريحان وربي غير غضبان، وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون فلا تفتروا، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم. قال: ثم طرح نفسه فكأنها كانت حصاة وقعت في طشت، فحملناه ودفناه.
وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى، فكان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر عابداً وكان يعظه ويزجره، فكان يقول: دعني وربي، أبعثت علي رقيباً، حتى رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال: لا يغفر الله لك، قال: فيقول الله تعالى يوم القيامة: أيستطيع أحد أن يحظر رحمتي على عبادي، اذهب أنت فقد غفرت لك، ثم يقول للعابد: وأنت فقد أوجبت لك النار. قال: فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته وروي أيضاً أن لصاً كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة، فمر عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد من عباد إسرائيل من الحواريين، فقال اللص في نفسه: هذا نبي الله يمر وإلى جنبه حواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثاً، قال: فنزل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيماً للحواري ويقول في نفسه: مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد، قال: وأحس الحواري به، فقال في نفسه: هذا يمشي إلى جانبي، فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: قل لهما ليستأنفا العمل فقان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف، بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سبباً للتكاسل عن العمل وداعياً إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف، إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود، دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط.وقد قال يحيى بن معاذ: من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار، ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء في محجة الادكار.وقال مكحول الدمشقي: من عبد الله بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبد بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد.فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور، وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت، أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن، لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل، فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف، فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته، وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه، ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محباً لله تعالى للقاء الله تعالى، فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه، والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب، والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة، فإن المصير إليه والقدوم بالموت عليه، ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته، ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه، فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن والعقار والرفقاء والأصحاب: فهذا رجل محابه كلها في الدنيا، فالدنيا جنته، إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب، فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه، فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا إذن سجنه، لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه، فموته قدوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر، فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر، وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من الأنكال والسلاسل والأغلال وضروب الخزي والنكال، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين، ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى، ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ومال ووطن، فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال: " اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد" والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة، وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه". وقال تعالى: " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ".ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه: يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به.وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه.وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن، والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه، ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: أن حببني إلى عبادي، فقال: بماذا؟ قال: بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي. فإذن غاية السعادة أن يموت محباً لله تعالى، وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب، ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير، فسأله فقال: الآن أفلت، فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له: إنه مات البارحة.

[align=center]بيان الدواء الذي يستجلب حال الخوف[/align]

اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض، لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء، لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر والجنة والنار، وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر، فإن الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء؛ والنار قد حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف، ولذلك قال علي كرم الله وجهه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات. ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر على الدوام، ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة، ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات، فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين، وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء، ولا بعدهما مقام سوى الصبر، وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهراً وباطناً، ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة، ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس، ومن ضرورة المحبة الرضا يفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل، فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية، ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي فنقول: الخوف يحصل بطريقين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر، ومثاله: أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف، وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها، ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها، فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب؛ فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته، وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه، فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه، وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين: أحدهما الخوف من عذابه، والثاني الخوف منه؛ فأما الخوف منه فهو خوف من العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى: " ويحذركم الله نفسه " وقوله عز وجل "اتقوا الله حق تقاته " وأما الأول فهو خوف عموم الخلق، وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان، وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة، وتزول أيضاً بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم؛ فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير، وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو المخوف، أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه. قال ذو النون رحمه الله تعالى: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي.وهذه خشية العلماء حيث قال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ولعموم المؤمنين أيضاً حظ من هذه الخشية، ولكن هو بمجرد التقليد أيضاً هو خوف الصبي من الحية تقليداً لأبيه، وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب، حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحياة فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليداً له كما احترز من أخذها تقليداً لأبيه، والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات، واجتناب المعاصي مدة طويلة على الاستمرار؛ فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف، كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعاً في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى، ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: خفني كما تخاف السبع الضاري ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبه فلا يحتاج إلى خيلة سواه فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويحكم ما يريد ولا يخاف، قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة، وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة، بل صفته ما ترجمه قوله تعالى: " هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ".وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصى شاء أم أبى، فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعاً بها بالضرورة، فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضي عليه في الأزل، وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال: " احتج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما، فحج آدم موسى عليه السلام، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض. فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها " وعصى آدم ربه فغوى " قال نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى" فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر، ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين، ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف، فإن كل عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع، والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه، وقد يهجم عليه فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق، ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم، ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه سمي اتفاقاً، وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقاً، والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع؛ لأن السبع مسخر: إن سلط عليه الجوع افترس، وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك، فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته، فلست أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع، بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى، لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا، وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل واحد أهلاً يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له، فخلق الجنة وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا، وخلق النار وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا، فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة، فهذه مخاوف العارفين بسر القدر، فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه الأخبار والآثار، فيطالع أحوال الخائفين العارفين وأقوالهم، وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين، فلا يتمارى في أن الإقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء
وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغبياء. أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرينوكان أشد الناس خوفاًحتى روي أنه كان يصلي على طفل: ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول: " اللهم قِه عذاب القبر وعذاب النار" وفي رواية ثانية: أنه سمع قائلاً يقول: هنيئاً لك، عصفور من عصافير الجنة، فغضب وقال: " ما يدريك أنه كذلك، والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي! إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم" .وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضاً على جنازة عثمان بن مظعون وكان من المهاجرين الأولين لما قالت أم سلمة: هنيئاً لك الجنة، فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك: والله لا أزكي أحداً بعد عثمان.وقال محمد بن خولة الحنفية: والله لا أزكي أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي الذي ولدني، قال: فثارت الشيعة عليه، فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه.وروي في حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره".وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول: هنيئاً لك الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: " من هذه المتألية على الله تعالى؟ فقال المريض: هي أمي يا رسول الله، فقال: " وما يدريك، لعل فلاناً كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه" وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: " شيبتني هود وأخواتها" سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء: لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد كقوله تعالى " ألا بعداً لعاد قوم هود " " ألا بعداً لثمود " " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا، إذ لو شاء لأتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة " ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة " أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة: إما خافضة قوماً كانوا مرفوعين في الدنيا، وإما رافعة قوماً كانوا مخفوضين في الدنيا. وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة، وهو قوله تعالى: " وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت " وفي عم يتساءلون " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " الآية. وقوله تعالى " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً " والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر، ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " لكان كافياً، إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها، وأشد منه قوله تعالى " فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ". وقوله تعالى " ليسأل الصادقين عن صدقهم " وقوله تعالى " سنفرغ لكم آية الثقلان "، وقوله عز وجل " أفأمنوا مكر الله " الآية. وقوله: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "، وقوله تعالى " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً " الآيتين. وقوله تعالى " وإن منكم إلا واردها " الآية. وقوله: "اعملوا ما شئتم " الآية. وقوله: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " الآية. وقوله: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الآيتين. وقوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل " الآية. وكذلك قوله تعالى " والعصر إن الإنسان لفي خسر " إلى آخر السورة فهذه أربع شروط للخلاص من الخسران، وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " حتى روي أن النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفاً من الله تعالى، فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما؟ فقالا: ومن يأمن مكرك؟ وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله: قد أمنتكما، ابتلاءً وامتحاناً لهما ومكراً بهما، حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال: حسبي الله، وكانت هذه من الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء، حتى قال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فكان ذلك وفاءً بحقيقة قوله حسبي الله، فأخبر الله تعالى عنه فقال: "وإبراهيم الذي وفى " أي بموجب قوله: حسبي الله، وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال: " إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة، إذاً لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له: " لا تخف إنك أنت الأعلى " ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك" فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: دع عنك مناشدتك ربك فإنه وافٍ لك بما وعدك، فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله، وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر، وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى، ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة، ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق، إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك "، وقال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم " الآية، فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين، لعلمه بأنه ليس له من الأمر بشيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطاً يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان فضلاً عن التحقيق والاستيقان، وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين، إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلك أمثالي ممن لا يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض، ويمرض مع ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق، ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد، ثم يخبر عنه ويقول " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين "، وقال تعالى " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم " الآية
فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه ولو كان الأمر آنفاً لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه، ولكن ليس إلا التسليم فيه والاستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح؛ فمن يسرت له أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة، إذ كل ميسر لما خلق له، وإن كانت الخيرات كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعاً وبظاهره وباطنه على الله مقبلاً: كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقاً به؛ ولكن خطر الخاتمة وعسر الثبات يزيد نيران الخوف إشعالاً ولا يمكنها من الانطفاء، وكيف يؤمن تغير الحال وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وأن القلب أشد تقلباً من القدر في غليانها، وقد قال مقلب القلوب عز وجل " إن عذاب ربهم غير مأمون " فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي بالتحذير من الأمن، ولولا أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف. فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه؛ إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب. قال بعض العارفين: لو حالت بينك وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد، لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب.وقال بعضهم: لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الإسلام، لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار. وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه.وكان سهل يقول: خيعه القلم أعلى من الالتفات إلى ما يظهر في الأبد، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان على المنبر فقبض كفه اليمنى ثم قال: " هذا كتاب الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص " ثم قبض كفه اليسرى وقال: " هذا كتاب الله كتب فيه أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم، ثم يستنقذهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة. وليعملن أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم، ثم يستخرجهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة، السعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم" وهذا كانقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته، وإلى من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة، فهذا أعلى رتبة، ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين، وأما الآخر فهو في عرصة الغرور والأمن، إن واظب على الطاعات فالخوف من المعصية خوف الصالحين، والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين، وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى، وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية، بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ولم يخف معصيته، ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ويسر له سبيلها ومهد له أسبابها، فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية وتجري عليه أسبابها ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات ومهد له سبيل القربات، فالعاصي قد قضي عليه بالمعصية شاء أم أبى، وكذا المطيع فالذي يرفع محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله، فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدرة وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضرورياً، والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة وآتاه الأسباب والقدرة، فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضرورياً، فليت شعري ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه، وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه، وكيف يحال ذلك على العبد؟ وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد حزم عند كل عاقل، ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم يستجرئ على ذكره ذو بصيرة، فقد جاء في الخبر: إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام: يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري. فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى وإن كان لا يقف بك على سببه فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر، ولا يكشف ذلك إلا لأهله. والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته وكبره وهيبته، ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي، فإن قتلك لم يرق قلبه ولا يتألم بقتلك وإن خلاك لم يخلك شفقة عليك وإبقاء على روحك بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حياً كنت أو ميتاً بل إهلاك ألف مثلك وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة، إذ لا يقدح ذلك في عالم سبعيته وما هو موصوف به من قدرته وسطوته، ولله المثل الأعلى، ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة أنه صادق في قوله: " هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي " ويكفيك من موجبات الهيبة بالاستغناء وعدم المبالاة.
الطبقة الثانية من الخائفين: أن يتمثل في أنفسهم ما هو المكروه، وذلك مثل سكرات الموت وشدته، أو سؤل منكر ونكير، أو عذاب القبر، أو هول المطلع، أو هيبة الموقف بين يدي الله تعالى والحياء من كشف الستر والسؤال عن النقير والقطمير، أو الخوف من الصراط وحدته وكيفية العبور عليه، أو الخوف من النار وأغلالها وأهوالها، أو الخوف من الحرمان عن الجنة دار النعيم والملك المقيم وعن نقصان الدرجات، أو الخوف من الحجاب عن الله تعالى، وكل هذه الأسباب مكروهة في نفسها لا محالة مخوفة وتختلف أحوال الخائفين فيها. وأعلاها رتبة هو خوف الفراق والحجاب عن الله تعالى وهو خوف العارفين وما قبل ذلك هو خوف العاملين والصالحين والزاهدين وكافة العالمين، ومن لم تكمل معرفته ولم تنفتح بصيرته لم يشعر بلذة الوصال ولا بألم البعد والفراق، وإذا ذكر له أن العارف لا يخاف النار وإنما يخاف الحجاب وجد ذلك في باطنه منكراً وتعجب منه في نفسه، وربما أنكر لذة النظر إلى وجه الله الكريم لولا منع الشرع إياه من إنكاره، فيكون اعترافه به باللسان عن ضرورة التقليد، وإلا فباطنه لا يصدق به لأنه لا يعرف إلا لذة البطن والفرج والعين بالنظر إلى الألوان والوجوه الحسان، وبالجملة كل لذة تشاركه فيها البهائم ؛ فأما لذة العارفين فلا يدركها غيرهم، وتفصيل ذلك وشرحه حرام مع من ليس أهلاً له، ومن كان أهلاً استبصر بنفسه واستغنى عن أن يشرحه له غيره، فإلى هذه الأقسام يرجع خوف الخائفين، نسأل الله تعالى حسن التوفيق بكرمه.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 21, 2006 7:30 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه[/align]

اعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والاعتبار، وتارة بالآيات والأخبار
أما الاعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة، إذ لا مقصود سوى السعادة، ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه؛ فكل ما أعان عليه فله فضيلة، وفضيلته بقدر غايته، وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلا بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بانقطاع حب الدنيا من القلب، ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوة بشيء كما تنقمع بنار الخوف؛ فالخوف هو النار المحرقة للشهوات؛ فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات، ويختلف ذلك باختلاف درجات الخوف كما سبق، وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى.
وأما بطريق الاقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر، وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان وهي مجامع مقامات أهل الجنان، وقال الله تعالى: " وهدى ورحمة للذين يرهبون " وقال تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء " وصفهم بالعلم لخشيتهم. وقال عز وجل: " رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه " وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف، لأن الخوف ثمرة العلم، ولذلك جاء في خبر موسى عليه أفضل الصلاة والسلام: وأما الخائفون فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه، فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى، وذلك لأنهم العلماء والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم، ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى كان يقول: أسألك الرفيق الأعلى" فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم، وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى، ولا يخفى ما ورد في فضائلهما، حتى إن العاقب صارت موسومة بالتقوى مخصوصة بها كما صار الحمد مخصوصاً بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يقال: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين، وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف - كما سبق - ولذلك قال تعالى " إن أكرمكم عن الله أتقاكم " ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى فقال تعالى: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " وقال عز وجل: "وخافونِ إن كنتم مؤمنين " فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه في الإيمان، فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف، ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضيلة التقوى " وإذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أدناهم كما يسمع أدناهم فيقول: يا أيها الناس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فانصتوا إلي اليوم، إنما أعمالكم ترد عليكم، أيها الناس: إني قد جعلت نسباً وجعلتم نسباً، فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم، قلت " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان، وفلان أغنى من فلان، فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي، أين المتقون؟ فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب".
وقال صلى الله عليه وسلم: " رأس الحكمة مخافة الله".
وقال عليه الصلاة والسلام لابن مسعود: " إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي".
وقال الفضيل: من خاف الله دله الخوف على كل خير.
وقال الشبلي رحمه الله: ما خفت الله يوماً إلا رأيت له باباً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط. وقال يحيى بن معاذ: ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان: خوف العقاب ورجاء العفو كثعلب بين أسدين
وفي خبر موسى عليه الصلاة والسلام: وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعين فإني أستحي منهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب.
والورع والتقوى أسام اشتقتمن معان شرطها الخوف، فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه الأسامي، وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى، وقد جعله الله تعالى مخصوصاً بالخائفين فقال " سيذكر من يخشى ".
وقال تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان ".
وقال صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من خاف الله تعالى خافه كل شيء، ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أتمكم عقلاً أشدكم خوفاً لله تعالى، وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظراً".
وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه: مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة.
وقال ذو النون رحمه الله تعالى: من خاف الله تعالى ذاب قلبه واشتد حبه وصح له لبه.
وقال ذو النون أيضاً: ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء فإذا غلب الرجاء تشوش القلب.
وكان أبو الحسين الضرير يقول: علامة السعادة خوف الشقاوة، لأن الخوف زمام بين الله تعالى وبين عبده، فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين.
وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غداً؟ فقال: أشدهم خوفاً اليوم.
وقال سهل رحمه الله: لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال.
وقيل للحسين: يا أبا سعيد، كيف نصنع؟ نجالس أقواماً يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير! فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن؛ خير من أن تصحب أقواماً يؤمنوك حتى يدركك الخوف.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله " الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " هو الرجل يسرق ويزني؟ قال: " لا، بل الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه"، والتشديدات الواردة في الأمن من مكر الله وعذابه لا تنحصر، وكل ذلك ثناء على الخوف، لأن مذمة الشيء ثناء على ضده الذي ينفيه، وضد الخوف الأمن، كما أن ضد الرجاء اليأس، وكما دلت مذمة القنوط على فضيلة الرجاء فكذلك تدل مذمة الأمن على فضيلة الخوف المضاد له بل نقول: كل ما ورد في فضل الرجاء فهو دليل على فضل الخوف لأنهما متلازمان، فإن كل من رجا محبوباً فلا بد وأن يخاف فوته، فإن كان لا يخاف فوته فهو إذاً لا يحبه فلا يكون بانتظاره راجياً، فالخوف والرجاء متلازمان يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر، نعم يجوز أن يغلب أحدهما على الآخر وهما مجتمعان، ويجوز أن يشتغل القلب بأحدهما ولا يلتفت إلى الآخر في الحال لغفلته عنه، وهذا لأن من شرط الرجاء والخوف تعلقهما بما هو مشكوك فيه، إذ المعلوم لا يرجى ولا يخاف، فإذن المحبوب الذي يجوز وجوده يجوز عدمه لا محالة؛ فتقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء؛ وتقدير عدمه يوجع القلب وهو الخوف، والتقديران يتقابلان لا محالة إذا كان ذلك الأمر المنتظر مشكوكاً فيه، نعم أحد طرفي الشك قد يترجح على الآخر بحضور بعض الأسباب ويسمى ذلك ظناً، فيكون ذلك سبب غلبة أحدهما على الآخر، فإذا غلب على الظن وجود المحبوب قوي الرجاء وخفي الخوف بالإضافة إليه، وكذا بالعكس، وعلى كل حال فهما متلازمان، ولذلك قال تعالى " ويدعوننا رغباً ورهباً " وقال عز وجل " يدعون ربهم خوفاً وطمعاً " ولذلك عبر العرب عن الخوف بالرجاء، فقال تعالى " ما لكم لا ترجون لله وقاراً " أي لا تخافون، وكثيراً ما ورد في القرآن الرجاء بمعنى الخوف وذلك لتلازمهما، إذ عادة العرب التعبير عن الشيء بما يلازمه، بل أقول: كل ما ورد في فضل البكاء من خشية الله فهو إظهار لفضيلة الخشية، فإن البكاء ثمرة الخشية فقد قال تعالى: " فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً ".
وقال تعالى " يبكون ويزيدهم خشوعاً ".
وقال عز وجل " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى ثم تصيب شيئاً من حر وجهه إلا حرمه الله على النار"
وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها".
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع".
وقال عقبة بن عامر: ما النجاة يا رسول الله؟ قال: " أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك".
وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله أيدخل أحد من أمتك الجنة بغير حساب؟ قال: " نعم من ذكر ذنوبه فبكى".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله تعالى أو قطرة دم أهريقت في سبيل الله سبحانه وتعالى".
وقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذرف الدمع مع خشيتك قبل أن تصير الدموع دماً والأضراس جمراً".
وقال صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله " وذكر منهم " رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليتباك.
وكان محمد بن المنكدر رحمه الله إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعاً مسته الدموع.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته، وصلى حتى ينكسر صلبه.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله: ما تغرغرت عين بمائها إلا لم يرهق وجه صاحبها قتر ولا ذلة يوم القيامة، فإن سالت دموعه أطفأ الله بأول قطرة منها بحاراً من النيران، ولو أن رجلاً بكى في أمة ما عذبت تلك الأمة.
وقال أبو سليمان البكاء من الخوف، والرجاء والطرب من الشوق.
وقال كعب الأحبار رضي الله عنه: والذي نفسي بيده؛ لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بجبل من ذهب.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار.
وروي عن حنظلة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا موعظة رقت لها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فدنت مني المرأة وجرى بيننا من حديث الدنيا فنسيت ما كنا عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذنا في الدنيا، ثم تذكرت ما كنا فيه فقلت في نفسي: قد نافقت حيث تحول عني ما كنت فيه من الخوف والرقة، فخرجت وجعلت أنادي: نافق حنظلة، فاستقبلني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: كلا لم ينافق حنظلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: نافق حنظلة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا لم ينافق حنظلة " فقلت يا رسول الله كنا عندك فوعظتنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا، فرجعت إلى أهلي فأخذنا في حديث الدنيا ونسيت ما كنا عندك عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: " يا حنظلة لو أنكم كنتم أبداً على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة في الطريق وعلى فراشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة".
فإذن كل ما ورد في فضل الرجاء والبكاء وفضل التقوى والورع وفضل العلم ومذمة الأمن فهو دلالة على فضل الخوف؛ لأن جملة ذلك متعلقة به إما تعلق السبب أو تعلق المسبب.

[align=center]بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما[/align]

اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت، وربما ينظر الناظر إليها فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما، وقول القائل: الخوف أفضل أم الرجاء؟ سؤال فاسد يضاهي قول القائل: الخبز أفضل أم الماء؟ وجوابه أن يقال: الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان، فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب: فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل، وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل، وإن استويا فهما متساويان، وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه، والخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل، وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل، ويجوز أن يقال مطلقاً: الخوف أفضل على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجين، إذ يعالج بالخبز مرض الجوع، وبالسكنجين مرض الصفراء، ومرض الجوع أغلب وأكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل، فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل؛ لأن المعاصي والاغترار على الخلق أغلب، وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأنه مستقى من بحر الرحمة، ومستقى الخوف من بحر الغضب، ومن لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب، وليس وراء المحبة مقام. وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء.
وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل فنقول: أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء، وذلك لأجل غلبة المعاصي. فأما التقي الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه، ولذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا.
وروي أن علياً كرم الله وجهه قال لبعض ولده: يا بني خف الله خوفاً ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك، وارج الله رجاءً ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه: لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل، ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل.
وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع الغلبة والاستيلاء ولكن على سبيل التقاوم والتساوي؛ فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه، فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثني من الذين أمروا بدخول النار كان ذلك دليلاً على اغتراره فإن قلت: مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه، بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء، وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالزرع والبذر، ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ولم يكن خوفه مساوياً لرجائه. فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين! فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ والأمثلة يكثر زلله، وذلك وإن أوردناه مثالاً فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه، لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة، إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها، وصحة البذر وصحة الهواء وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها، وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ولم يختبرها، وهي بلاد ليس يدري أتكثر الصواعق فيها أم لا، فمثل هذا الزارع وإن أدى كنه مجهوده، وجاء بكل مقدوره فلا يغلب رجاؤه على خوفه، والبذر في مسألتنا هو الإيمان - وشروط صحته دقيقة والأرض قلب - وخفايا خبثه وصفائه من الشرك الخفي والنفاق والرياء وخفايا الأخلاق فيه غامضة، والآفات هي الشهوات وزخارف الدنيا والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان وإن سلم في الحال، وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة، إذ قد يعرض من الأسباب ما لا يطاق مخالفته ولم يجرب مثله، والصواعق هي أهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده، وذلك مما لم يجرب مثله، ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة وذلك لم يجرب، فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جباناً في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة كما سيحكى في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين، وإن كان قوي القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه، فأما أن يغلب رجاؤه فلا، وقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئاً، إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين، فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق والشرك الخفي، وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه وإخفاء عيبه عنه؟ وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر". وفي رواية " إلا قدر فواق ناقة فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار " وقدر فواق الناقة لا يحتمل عملاً بالجوارح إنما هو بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء، فكيف يؤمن ذلك؟ فإذن أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاؤه، وغلبة الرجاء في غالب الناس تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة، ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى عليهم فقال تعالى: " يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ". وقال عز وجل: "ويدعوننا رغباً ورهباً ".
وأين مثل عمر رضي الله عنه؟ فالخلق الموجودة في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف، بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سبباً للتكاسل عن العمل وداعياً إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف، إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود، دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط.
وقد قال يحيى بن معاذ: من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار، ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار، ومن عبده بالخوف والرجاء في محجة الادكار.
وقال مكحول الدمشقي: من عبد الله بالخوف فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبد بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور، وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت، أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن، لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل، فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف، فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته، وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه، ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محباً لله تعالى للقاء الله تعالى، فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه، والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب، والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة، فإن المصير إليه والقدوم بالموت عليه، ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته، ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه، فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن والعقار والرفقاء والأصحاب: فهذا رجل محابه كلها في الدنيا، فالدنيا جنته، إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب، فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه، ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه، فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا إذن سجنه، لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه، فموته قدوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر، فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر، وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من الأنكال والسلاسل والأغلال وضروب الخزي والنكال، فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين، ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى، ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ومال ووطن، فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال: " اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد" والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة، وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه".
وقال تعالى: " أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ".
ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه: يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به.
وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه.
وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت: اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن، والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه، ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: أن حببني إلى عبادي، فقال: بماذا؟ قال: بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي. فإذن غاية السعادة أن يموت محباً لله تعالى، وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب، ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير، فسأله فقال: الآن أفلت، فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له: إنه مات البارحة.

[align=center]بيان الدواء الذي يستجلب حال الخوف[/align]

اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض، لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء، لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر والجنة والنار، وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر، فإن الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء؛ والنار قد حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف، ولذلك قال علي كرم الله وجهه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات. ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر على الدوام، ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة، ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات، فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين، وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء، ولا بعدهما مقام سوى الصبر، وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهراً وباطناً، ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة، ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس، ومن ضرورة المحبة الرضا يفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل، فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية، ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي فنقول: الخوف يحصل بطريقين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر، ومثاله: أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف، وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها، ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها، فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب؛ فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته، وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه، فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه، وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين: أحدهما الخوف من عذابه، والثاني الخوف منه؛ فأما الخوف منه فهو خوف من العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى: " ويحذركم الله نفسه " وقوله عز وجل "اتقوا الله حق تقاته " وأما الأول فهو خوف عموم الخلق، وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان، وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة، وتزول أيضاً بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم؛ فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير، وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو المخوف، أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه.
قال ذو النون رحمه الله تعالى: خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي.
وهذه خشية العلماء حيث قال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ولعموم المؤمنين أيضاً حظ من هذه الخشية، ولكن هو بمجرد التقليد أيضاً هو خوف الصبي من الحية تقليداً لأبيه، وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب، حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحياة فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليداً له كما احترز من أخذها تقليداً لأبيه، والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات، واجتناب المعاصي مدة طويلة على الاستمرار؛ فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف، كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعاً في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى، ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام: خفني كما تخاف السبع الضاري ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبه فلا يحتاج إلى خيلة سواه فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي، ويحكم ما يريد ولا يخاف، قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة، وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة، بل صفته ما ترجمه قوله تعالى: " هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ".
وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصى شاء أم أبى، فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعاً بها بالضرورة، فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضي عليه في الأزل، وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال: " احتج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما، فحج آدم موسى عليه السلام، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض. فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها " وعصى آدم ربه فغوى " قال نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى" فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر، ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين، ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف، فإن كل عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع، والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه، وقد يهجم عليه فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق، ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم، ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه سمي اتفاقاً، وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقاً، والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع؛ لأن السبع مسخر: إن سلط عليه الجوع افترس، وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك، فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته، فلست أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع، بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى، لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا، وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل واحد أهلاً يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له، فخلق الجنة وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا، وخلق النار وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا، فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة، فهذه مخاوف العارفين بسر القدر، فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه الأخبار والآثار، فيطالع أحوال الخائفين العارفين وأقوالهم، وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين، فلا يتمارى في أن الإقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء. وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغبياء. أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرينوكان أشد الناس خوفاًحتى روي أنه كان يصلي على طفل: ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول: " اللهم قِه عذاب القبر وعذاب النار" وفي رواية ثانية: أنه سمع قائلاً يقول: هنيئاً لك، عصفور من عصافير الجنة، فغضب وقال: " ما يدريك أنه كذلك، والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي! إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم" .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضاً على جنازة عثمان بن مظعون وكان من المهاجرين الأولين لما قالت أم سلمة: هنيئاً لك الجنة، فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك: والله لا أزكي أحداً بعد عثمان.
وقال محمد بن خولة الحنفية: والله لا أزكي أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي الذي ولدني، قال: فثارت الشيعة عليه، فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه وروي في حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره".
وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول: هنيئاً لك الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: " من هذه المتألية على الله تعالى؟ فقال المريض: هي أمي يا رسول الله، فقال: " وما يدريك، لعل فلاناً كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه" وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: " شيبتني هود وأخواتها" سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء: لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد كقوله تعالى " ألا بعداً لعاد قوم هود " " ألا بعداً لثمود " " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا، إذ لو شاء لأتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة " ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة " أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة: إما خافضة قوماً كانوا مرفوعين في الدنيا، وإما رافعة قوماً كانوا مخفوضين في الدنيا. وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة، وهو قوله تعالى: " وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت " وفي عم يتساءلون " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " الآية. وقوله تعالى " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً " والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر، ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى " لكان كافياً، إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها، وأشد منه قوله تعالى " فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ". وقوله تعالى " ليسأل الصادقين عن صدقهم " وقوله تعالى " سنفرغ لكم آية الثقلان "، وقوله عز وجل " أفأمنوا مكر الله " الآية. وقوله: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "، وقوله تعالى " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً " الآيتين. وقوله تعالى " وإن منكم إلا واردها " الآية. وقوله: "اعملوا ما شئتم " الآية. وقوله: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " الآية. وقوله: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره " الآيتين. وقوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل " الآية. وكذلك قوله تعالى " والعصر إن الإنسان لفي خسر " إلى آخر السورة فهذه أربع شروط للخلاص من الخسران، وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " حتى روي أن النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفاً من الله تعالى، فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما؟ فقالا: ومن يأمن مكرك؟ وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله: قد أمنتكما، ابتلاءً وامتحاناً لهما ومكراً بهما، حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال: حسبي الله، وكانت هذه من الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء، حتى قال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فكان ذلك وفاءً بحقيقة قوله حسبي الله، فأخبر الله تعالى عنه فقال: "وإبراهيم الذي وفى " أي بموجب قوله: حسبي الله، وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال: " إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى، قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة، إذاً لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له: " لا تخف إنك أنت الأعلى " ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك" فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: دع عنك مناشدتك ربك فإنه وافٍ لك بما وعدك، فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله، وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر، وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى، ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة، ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟ قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق، إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك "، وقال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم " الآية، فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين، لعلمه بأنه ليس له من الأمر بشيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطاً يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان فضلاً عن التحقيق والاستيقان، وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين، إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلك أمثالي ممن لا يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض، ويمرض مع ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق، ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد، ثم يخبر عنه ويقول " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين "، وقال تعالى " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم " الآية. فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه ولو كان الأمر آنفاً لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه، ولكن ليس إلا التسليم فيه والاستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح؛ فمن يسرت له أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة، إذ كل ميسر لما خلق له، وإن كانت الخيرات كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعاً وبظاهره وباطنه على الله مقبلاً: كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقاً به؛ ولكن خطر الخاتمة وعسر الثبات يزيد نيران الخوف إشعالاً ولا يمكنها من الانطفاء، وكيف يؤمن تغير الحال وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وأن القلب أشد تقلباً من القدر في غليانها، وقد قال مقلب القلوب عز وجل " إن عذاب ربهم غير مأمون " فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي بالتحذير من الأمن، ولولا أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف. فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه؛ إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب قال بعض العارفين: لو حالت بينك وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد، لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب.
وقال بعضهم: لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الإسلام، لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار.
وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه.
وكان سهل يقول: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: " وقلوبهم وجلة ".
ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع، فقيل له: يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك. فقال: أو على ذنوبي أبكي لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا.
وحكي عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال: إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي، فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزاً وسكراً وانثره على صبيان أهل البلد، وقل هذا عرس المنفلت، وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الوفاة. قال: وبم اعلم ذلك؟ فذكر له علامة، فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز وفرقه.
وكان سهل يقول: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر.
وكان أبو زيد يقول: إذا توجهت إلى المسجد فكأن في وسطي زناراً أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فينقطع عني الزنار، فهذا لي في كل يوم خمس مرات.
وروي عن المسيح عليه الصلاة والسلام أنه قال: يا معشر الحواريين، أنتم تخافون المعاصي، ونحن معاشر الأنبياء نخاف الكفر.
وروي في أخبار الأنبياء أن نبياً شكى إلى الله تعالى الجوع والقمل والعري سنين وكان لباسه الصوف، فأوحى الله تعالى إليه: عبدي، أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا؟ فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال: بلى قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر.
فإذا كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة فكيف لا يخافه الضعفاء. ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت مثل البدعة والنفاق والكبر وجملة من الصفات المذمومة، ولذلك اشتد خوف الصحابة من النفاق حتى قال الحسن: لو أعلم أني بريء من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلماً منافقاً، وله علامات كثيرة: قال صلى الله عليه وسلم: " أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، وإن كانت فيه خصلة منهن ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر" وفي لفظ آخر " وإذا عاهد غدر ".
وقد فسر الصحابة والتابعون النفاق بتفاسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق، إذ قال الحسن: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية واختلاف اللسان والقلب واختلاف المدخل والمخرج، ومن الذي يخلو عن هذه المعاني بل صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسي كونها منكر بالكلية، بل جرى ذلك على قرب عهد بزمان النبوة، فكيف الظن بزماننا! حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقاً إني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر.
وقال بعضهم: علامة النفاق أن تكره من الناس ما تأتي مثله، وأن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من الحق.
وقيل من النفاق: أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه.
وقال رجل لابن عمر رحمه الله: إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم فيما يقولون، فإذا خرجنا تكلمنا فيهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي أنه سمع رجلاً يذم الحجاج ويقع فيه، فقال: أرأيت لو كان الحجاج أكنت تتكلم بما تكلمت به؟ قال: لا، قال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد من ذلك ما روي أن نفراً قعدوا على باب حذيفة ينتظرونه، فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه، فلما خرج عليهم سكتوا حياءً منه، فقال: تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا؛ فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا حذيفة كان قد خص بعلم المنافقين وأسباب النفاق، وكان يقول: إنه يأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة، ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للأيمان فيه مغرز إبرة، فقد عرفت بهذا أن خوف العارفين من سوء الخاتمة، وأن سببه أمور تتقدمه: منها البدع ومنها المعاصي ومنها النفاق، ومتى يخلو العبد عن شيء من جملة ذلك! وإن ظن أنه خلا عنه فهو النفاق، إذ قيل: من أمن النفاق فهو منافق.
وقال بعضهم لبعض العارفين: إني أخاف على نفسي النفاق، فقال: لو كنت منافقاً لما خفت النفاق.
فلا يزال العارف بين الالتفات إلى السابقة والخاتمة خائفاً منهما، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " العبد المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فوالذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار"، والله المستعان.

[align=center]بيان معنى سوء الخاتمة[/align]

فإن قلت: إن أكثر هؤلاء يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة، فما معنى سوء الخاتمة؟ فاعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم من الأخرى، فأما الرتبة العظيمة الهائلة: فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله: إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك، فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد.
والثانية: وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها، فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحال فيكون استغراق قلبه به منكساً رأسه إلى الدنيا وصارفاً وجهه إليها. ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب. ومهما حصل الحجاب نزل العذاب إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه؛ فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى فتقول له النار: جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي، فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا، فالأمر مخطر، لأن المرء يموت على ما عاش عليه، ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه، إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال؛ فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدراك، وعند ذلك تعظم الحسرة، إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت، فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب، وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار، ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو بعد آلاف سنين فإن قلت: فما ذكرته يقتضي أن تسرع إليه عقيب موته، فما باله يؤخر إلى يوم القيامة ويمهل طول هذه المدة؟ فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان، بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو: أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون باباً من الجحيم، كما وردت به الأخبار، فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة. وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات، فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر والتعذيب بعده، ثم المناقشة في الحساب والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة، ثم بعد ذلك خطر الصراطوهول الزبانية. . . إلى آخر ما وردت به الأخبار، فلا يزال الشقي متردداً في جميع أحواله بين أصناف العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته، ولا تظنن أن محل الإيمان لا يأكله التراب، بل التراب يأكل جميع الجوارح ويبددها إلى أن يبلغ الكتاب أجله فتجتمع الأجزاء المتفرقة وتعاد إليها الروح التي هي محل الإيمان، وقد كانت من وقت الموت إلى الإعادة إما في حواصل طيور خضر معلقة تحت العرش إن كانت سعيدة، وإما على حالة تضاد هذه الحال إن كانت والعياذ بالله شقية.
فإن قلت: فما السبب الذي يفضي إلى سوء الخاتمة؟ فاعلم أن أسباب هذه الأمور لا يمكن إحصاؤها على التفصيل، ولكن يمكن الإشارة إلى مجامعها: أما الختم على الشك والجحود فينحصر سببه في شيئين: أحدهما يتصور مع تمام الورع والزهد وتمام الصلاح في الأعمال: كالمبتدع الزاهد فإن عاقبته مخطرة جداً، وإن كانت أعماله صالحة ولست أعني مذهباً فأقول إنه بدعة؛ فإن بيان ذلك يطول القول فيه، بل أعني بالبدعة: أن يعتقد الرجل في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق فيعتقده على خلاف ما هو عليه، إما برأيه ومعقوله له ونظره الذي به يجادل الخصم وعليه يعول وبه يغتر، وإما أخذاً بالتقليد ممن هذا حاله؛ فإذا قرب الموت وظهرت له ناصية ملك الموت واضطرب القلب بما فيه ربما ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده جهلاً، إذ حال الموت حال كشف الغطاء ومبادئ سكراته منه، فقد ينكشف به بعض الأمور؛ فمهما بطل عنده ما كان اعتقده وقد كان قاطعاً به متيقناً له نفسه لم يظن بنفسه أنه أخطأ في هذا الاعتقاد خاصة لالتجائه فيه إلى رأيه الفاسد وعقله الناقص، بل ظن أن كل ما اعتقده لا أصل له، إذ لم يكن عنده فرق في إيمانه بالله ورسوله وسائر اعتقاداته الصحيحة وبين اعتقاده الفاسد، فيكون انكشاف بعض اعتقاداته عن الجهل سبباً لبطلان بقية اعتقاداته أو لشكه فيها، فإن اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل أن يثبت ويعود إلى أصل الإيمان فقد ختم له بالسوء وخرجت روحه على الشرك والعياذ بالله منه، فهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون "، وبقوله عز وجل " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً " وكما أنه ينكشف في النوم ما سيكون في المستقبل وذلك بسبب خفة أشغال الدنيا عن القلب فكذلك ينكشف في سكرات الموت بعض الأمور، إذ شواغل الدنيا وشهوات البدن هي المانعة للقلب من أن ينظر إلى الملكوت، فيطالع ما في اللوح المحفوظ لتنكشف له الأمور على ما هي عليه، فيكون مثل هذه الحال سبباً للكشف، ويكون الكشف سبب الشك في بقية الاعتقادات، وكل من اعتقد في الله تعالى وفي صفاته وأفعاله شيئاً على خلاف ما هو به إما تقليداً وإما نظراً بالرأي والمعقول، فهو في هذا الخطر والزهد والصلاح لا يكفي لدفع هذا الخطر، بل لا ينجي منه إلا الاعتقاد الحق، والبله بمعزل عن هذا الخطر، أعني الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إيماناً مجملاً راسخاً كالأعراب والسوادية وسائر العوام الذين لم يخوضوا في البحث والنظر ولم يشرعوا في الكلام استقلالاً ولأصغوا إلى أصناف المتكلمين في تقليد أقاويلهم المختلقة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البله" ولذلك منع السلف من البحث والنظر والخوض في الكلام والتفتيش عن هذه الأمور، وأمروا الخلق أن يقتصروا على أن يؤمنوا بما أنزل الله عز وجل جميعاً وبكل ما جاء من الظواهر مع اعتقاده نفي التشبيه، ومنعوهم عن الخوض في التأويل لأن الخطر في البحث عن الصفات عظيم وعقباته كئودة ومسالكه وعرة، والعقول عن درك جلال الله تعالى قاصرة، وهداية الله تعالى بنور اليقين عن القلوب بما جبلت عليه من حب الدنيا محجوبة، وما ذكره الباحثون ببضاعة عقولهم مضطرب ومتعارض، والقلوب لما ألقى إليها في مبدأ النشأة آلفة وبه متعلقة، والتعصيات الثائرة بين الخلق مسامير مؤكدة للعقائد الموروثة أو المأخوذة بحسن الظن من المعلمين في أول الأمر، ثم الطباع بحب الدنيا مشغوفة وعليها مقبلة، وشهوات الدنيا بمخنقها آخذة وعن تمام الفكر صارفة، فإذا فتح باب الكلام في الله وفي صفاته بالرأي والمعقول مع تفاوت الناس في قرائحهم واختلافهم في طبائعهم وحرص كل جاهل منهم على أن يدعي الكمال أو الإحاطة بكنه الحق انطلقت ألسنتهم بما يقع لكل واحد منهم وتعلق ذلك بقلوب المصغين إليهم، وتأكد ذلك بطول الألف فيهم، فانسد بالكلية طريق الخلاص عليهم، فكانت سلامة الخلق في أن يشتغلوا بالأعمال الصالحة ولا يتعرضوا لما هو خارج عن حد طاقتهم، ولكن الآن قد استرخى العنان وفشا الهذيان ونزل كل جاهل على ما وافق طبعه بظن وحسبان، وهو يعتقد أن ذلك علم واستيقان وأنه صفو الإيمان، ويظن أن ما وقع به من حدس وتخمين علم اليقين و عين اليقين "ولتعلمن نبأه بعد حين " وينبغي أن ينشد في هؤلاء عند كشف الغطاء:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنـت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بهـا وعند صفو الليالي يحدث الكدر
[/poet]

واعلم يقيناً أن كل من فارق الإيمان الساذج بالله وكتبه وخاض في البحث، فقد تعرض لهذا الخطر ومثاله مثال من انكسرت سفينته وهو في ملتطم الأمواج، يرميه موج إلى موج، فربما يتفق أن يلقيه إلى الساحل وذلك بعيد، والهلاك عليه أغلب، وكل نازل على عقيدة تلقفها من الباحثين ببضاعة عقولهم إما مع الأدلة التي حرروها في تعصباتهم أو دون الأدلة، فإن كان شاكاً فيه فهو فاسد الدين وإن كان واثقاً فهو آمن من مكر الله مغتر بعقله الناقص، وكل خائض في البحث فلا ينفك عن هاتين الحالتين، إلا إذا جاوز حدود المعقول إلى نور المكاشفة الذي هو مشرق في عالم الولاية والنبوة وذلك هو الكبريت الأحمر، وإني يتيسر، وإنما يسلم عن هذا الخطر البله من العوام أو الذين شغلهم خوف النار بطاعة الله فلم يخوضوا في هذا الفضول فهذا أحد الأسباب المخطرة في سوء الخاتمة.
وأما السبب الثاني: فهو ضعف الإيمان في الأصل، ثم استيلاء حب الدنيا على القلب، ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا، فيصير بحيث لا يقي في القلب موضع لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس، ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس والعدول عن طريق الشيطان، فيورث ذلك الانهماك في إتباع الشهوات حتى يظلم القلب ويقسو ويسود وتتراكم ظلمة النفوس على القلب، فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى يصير طبعاً وريناً، فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك الحب أعني حب الله ضعفاً لما يبدو من استشعار فراق الدنيا وهي المحبوب الغالب على القلب، فيتألم القلب باستشعار فراق الدنيا، ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهة ذلك. من حيث إنه من الله، فيخشى أن يثور في باطنه بغض الله تعالى بدل الحب، كما أن الذي يحب ولده حباً ضعيفاً إذا أخذ ولده أمواله التي هي أحب إليه من ولده وأحرقها انقلب ذلك الحب الضعيف بغضاً، فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء وهلك هلاكاً مؤبداً، والسبب الذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى، فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا وإن كان يحب الدنيا أيضاً فهو أبعد عن هذا الخطر، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وهو الداء العضال، وقد عم أصناف الخلق وذلك كله لقلة المعرفة بالله تعالى، إذ لا يحبه إلا من عرفه؟ ولهذا قال تعالى: " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره " فإذن كل من فارقته روحه في حالة خطرة الإنكار على الله تعالى بباله وظهر بغض فعل الله بقلبه في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه؟ فيكون موته قدوماً على ما أبغضه وفراقاً لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهراً، فلا يخفى ما يستحقه من الخزي والنكال، وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعاً في لقائه، فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلاً عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام.
وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار، فلها أيضاً سببان:
أحدهما كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان، والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي، وذلك لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته، فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله، وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عن الموت؟ فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من شهوات الدنيا ومعصية من المعاصي، فيتقيد بها قلبه ويصير محجوباً عن الله تعالى، فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر، والذي لم يقارف ذنباً أصلاً فهو بعيد جداً عن هذا الخطر، والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جداً، ونعرف هذا بمثال: وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره، حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة، وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة، ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع، ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة، والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه؟ لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب، والموت شبيه النوم ولكنه فوقه، ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم، فيقتضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب، وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف، فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضاً مرجح وكذلك تخالف أيضاً منامات الصالحين منامات الفساق، فتكون غلبة الإلف سبب لأن تتثمل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه، فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته، وإن كان أصل الإيمان باقياً بحيث يرجى له الخلاص منها، وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى، فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها، كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بان يكون قد ورد على الحس منه. أما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلاً آخر، وأما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحاً ويتأمل في شدة التفاوت بينهما، وأما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان، وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له، وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين، مثل أن ينتقل من شيء ثان، ومنه إلى شيء ثالث، ثم ينسى الثاني، ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة، ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة، فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس، وكذلك عند سكرات الموت، فعلى هذا - والعلم عند الله - من كانت الخياطة أكثر أشغاله، فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل إصبعه التي لها عادة بالكستبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله، ثم يمد يده إلى المقراض، ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها قمع الشهوات عن القلب، فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت، فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه، ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول: خمسة ستة أربع، فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت، وقال بعض العارفين من السلف: العرش جوهرة تتلألأ نوراً. فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها، فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش؛ فربما يرى نفسه على صورة معصية، وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف، وما ذكره صحيح، وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك، فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة، فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله، والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولاً كلياً وإن كان لطول الإلف فيه تأثير، فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة، لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والمواظبة عليه مما يؤثر فيه، ولكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط، وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة، حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه فقال: حكيت لشيخي أبي القاسم الكرماني مناماً لي وقلت: رأيتك قلت لي كذا، فقلت: لم ذاك؟ قال: فهجرني شهراً ولم يكلمني وقال: لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم. وهو كما قال؛ إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه، فهذا هو القدر الذي نسبح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة، وما وراء ذلك في علم المكاشفة، وقد ظهرت لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجي جميع العمر في طاعة الله من غير معصية؛ فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك، كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك، وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح، وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جداً، ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول: إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك، ولكني أعجب ممن نجا كيف نجا!.
ولذلك قال حامد اللفاف: إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا: كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا.
وكان الثوري يوماً يبكي فقيل له: علام تبكي؟ فقال: بكينا على الذنوب زماناً، فالآن نبكي على الإسلام وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك، وقلب المؤمن أشد اضطراباً من السفينة، وأمواج الخواطر أعظم التطاماً من أمواج البحر، وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب" ولا يتسع فواق الناقة لأعمال توجب الشقاوة، بل هي الخواطر التي تضطرب وتخطر خطور البرق الخاطف.
وقال سهل: رأيت كأني أدخلت الجنة، فرأيت ثلثمائة نبي فسألتهم: ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا؟ قالوا: سوء الخاتمة.
ولأجل هذا الخطر العظيم كانت الشهادة مغبوطاً عليها، وكان موت الفجأة مكروهاً، أما الموت فجأة فلأنه ربما يتفق عند غلبة خاطر سوء واستيلائه على القلب لا يخلو عن أمثاله إلا أن يدفع بالكراهة أو بنور المعرفة.
وأما الشهادة فلأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله تعالى وخرج حب الدنيا والأهل والمال والولد وجميع الشهوات عن القلب، إذ لا يهجم على صف القتال موطناً نفسه على الموت إلا حباً لله وطلباً لمرضاته وبائعاً دنياه بآخرته وراضياً بالبيع الذي بايعه الله به، إذ قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" والبائع راغب عن المبيع لا محالة ومخرج حبه عن القلب؛ ومجرد حب العوض المطلوب في قلبه، ومثل هذه الحالة قد يغلب على القلب في بعض الأحوال ولكن لا يتفق زهوق الروح فيها، فصف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحالة، هذا فيمن ليس يقصد الغلبة والغنيمة وحسن الصيت بالشجاعة فإن من هذا حاله وأن قتل في المعركة فهو بعيد عن مثل هذه الرتبة كما دلت عليه الأخبار. وإذ بان ذلك معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها، فواظب على ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا، واحرس عن فعل المعاصي جوارحك وعن الفكر فيها قلبك، واحترز عن مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك، فإن ذلك أيضاً يؤثر في قلبك ويصرف إليه فكرك وخواطرك، وإياك أن تسوف وتقول: سأستعد لها إذا جاءت الخاتمة، فإن كل نفس من أنفاسك خاتمتك، إذ يمكن أن تختطف فيه روحك فراقب قلبك في كل تطريفة، وإياك أن تهمله لحظة فلعل تلك اللحظة خاتمتك، إذ يمكن أن تختطف فيها روحك، هذا ما دمت في يقظتك، وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر والباطن وأن يغلبك النوم إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك، لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة الأثر، واعلم قطعاً أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان النوم غالباً عليه، وأنه لا يغلب في النوم إلا ما كان غالباً قبل النوم، ولا ينبعث عن نومك إلا ما غلب على قلبك في نومك، والموت شبيه النوم واليقظة، فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه، فكذلك لا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ولا يحشر إلا على ما مات عليه، وتحقق قطعاً ويقيناً أن الموت والبعث حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك، وآمن بهذا تصديقاً باعتقاد القلب إن لم تكن أهلاً لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة، وراقب أنفاسك ولحظاتك، وإياك أن تغفل عن الله طرفة عين فإنك إذا فعلت ذلك كله كنت مع ذلك في خطر عظيم، فكيف إذا لم تفعل. والناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم. واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما تقنع من الدنيا بقدر ضرورتك، وضرورتك مطعم وملبس ومسكن والباقي كله فضول، والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك ويسد رمقك، فينبغي أن يكون تناولك تناول مضطر كاره له، ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك، إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه، فهما ضرورتان في الجبلة، وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك، واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك، وإذا لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك، فعلامة ذلك تظهر من ثلاثة أمور: من مأكولك في وقته وقدره وجنسه، أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة واحدة فيواظب على الصوم، وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن، وأما جنسه فأن لا يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق، فإن قدرت على هذه الثلاث وسقطت عنك مؤونة الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكلإلا من حله، فإن الحلال يعز ولا يفي بجميع الشهوات، وأما ملبسك فليكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة؛ فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة يدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من الحرام والشبهة، وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك، فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكنف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده. بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب، وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء سقفاً والأرض مستقراً، فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد، فإن طلبت مسكناً خاصاً طال عليك وانصرف إليه أكثر عمرك، وعمرك هو بضاعتك، ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلاً بينك وبين الأبصار، ومن السقف سوى كونه دافعاً للأمطار، فأخذت ترفع الخيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها، وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك، وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك؛ فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك. واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير، فإذا دفعته يوماً بيوم في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك، فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية في تخويفك فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة عن قلبك، فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك، فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك في أحوالهم: لم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشياً عليه وبعضهم يخر ميتاً إلى الأرض، ولا غرو إن كان ذلك لا يؤثر في قلبك قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ".


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد سبتمبر 24, 2006 8:47 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الشطر الثاني
في الخوف
[/align]


[align=center]بيان أحوال الأنبياء والملائكة في الخوف[/align]

روت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه فيقوم ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفاً من عذاب الله.
وقرأ صلى الله عليه وسلم آية في سورة الواقعة فصعق.
وقال تعالى " وخر موسى صعقاً ".
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة جبريل عليه السلام بالأبطح فصعق.
وروي أنه عليه السلام كان إذا دخل في الصلاة يسمع لصدره أزيزاً كأزيز المرجل.
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما جاءني جبريل قط إلا وهو يرعد فرقاً من الجبار".
وقيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان، فأوحى الله إليهما: ما لكما تبكيان كل هذا البكاء؟ فقالا: يا رب، ما نأمن مكرك، فقال الله تعالى: هكذا كونا، لا تأمنا مكري.
وعن محمد بن المنكدر قال: لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها، فلما خلق بنو آدم عادت.
وعن أنس أنه عليه السلام سأل جبريل: " ما لي لا أرى ميكائيل يضحك؟" فقال جبريل: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار".
ويقال: إن لله تعالى ملائكة لم يضحك أحد منهم منذ خلقت النار مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم بها.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال: يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ فقلت: يا رسول الله لا أشتهيه، فقال: " لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة لم أذق طعاماً ولم أجده ولو سألت ربي لأعطاني ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين في قلوبهم؟" قال فوالله ما برحنا ولا قمنا حتى نزلت " وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يأمركم بكنز المال ولا بإتباع الشهوات، من كنز دنانير يريد بها حياة فانية فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد".
وقال أبو الدرداء: كان يسمع أزيز قلب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة من مسيرة ميل خوفاً من ربه.
وقال مجاهد: بكى داود عليه السلام أربعين يوماً ساجداً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموعه وحتى غطى رأسه، فنودي: يا داود أجائع أنت فتطعم؟ أم ظمآن فتسقى؟ أم عار فتكسى؟ فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه، ثم أنزل الله تعالى عليه التوبة والمغفرة فقال: يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته في كفه مكتوبة، فكان لا يبسط لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته، قال: وكان يؤتى بالقدح ثلثاه فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه
ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل، وكان يقول في مناجاته: إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلي روحي، سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني، فبؤساً للقانطين من رحمتك.
وقال الفضيل: بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه يوم فوثب صارخاً واضعاً يده على رأسه حتى لحق بالجبال فاجتمعت إليه السباع فقال: ارجعوا لا أريدكم، إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا البكاء، ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء. وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول: دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتغال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وقال عبد العزيز بن عمر: لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال: إلهي بح صوتي في صفاء أصوات الصديقين.
وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه، فقال: يا رب أما ترحم بكائي؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود، نسيت ذنبك وذكرت بكاءك، فقال: إلهي وسيدي كيف أنسى ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه وسكن هبوب الريح وأظلني الطير على رأسي وأنست الوحوش إلى محرابي، إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك، فأوحى الله تعالى إليه: يا داود ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية، يا داود آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري، وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي، عصاني فطردته عن جواري عرياناً ذليلاً، يا داود اسمع مني والحق أقول: أطعتنا فأطعناك، وسألتنا فأعطيناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك.
وقال يحيى بن أبي كثير: بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعاً لا يأكل طعاماً ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية، فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقري البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع، فينادي فيها: إلا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت، قال: فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذارى من خدورهن، وتجتمع الناس لذلك اليوم، ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته محيطون به وسليمان عليه السلام قائم على رأسه، فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ، ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع والناس، ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة، فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال: يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام، فيأخذ في الدعاء، فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض بني إسرائيل: يا داود عجلت بطلب الجزاء على ربك! قال فيخر داود مغشياً عليه، فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ثم أمر منادياً ينادي ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة والنار فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقلو: يا من قتله ذكر النار، يا من قتله خوف الله، ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول: يا إله داود أغضبان أنت على داود، ولا يزال يناجي ربه، فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول: يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد، فيأكل من ذلك القرص ما شاء الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم.
وقال يزيد الرقاشي: خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم، فخرج في أربعين ألفاً فمات منهم ثلاثون ألفاً وما رجع إلا في عشرة آلاف، قال: وكان له جاريتان، حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن ثمان حجج، فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف، ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس، فهاله ذلك، فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون، فقالوا له: يا يحيى، هلم بنا لنلعب، فقال: إني لم أخلق للعب، قال: فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا، فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه نهاراً ويصبح فيه ليلاً، حتى أتت عليه خمس عشرة سنة، فخرج ولزم أطواد الأرض وغيران الشعاب، فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن، وقد أنقعي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: " عبس وتولى أن جاءه العمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى " يعني ابن مكتوم " أما من استغنى فأنت له تصدى" يعني هذا الشريف.وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا، فيقول: وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة، اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف، فمن أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده ويدخله الجنة".وقال عليه السلام: " أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة " قالوا: يا رسول الله، وما دولتهم؟ قال: " إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا فمن أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة".وقال صلى الله عليه وسلم: " دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال، ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم، ونظرت في أسفلها فإذا فيه من الأغنياء والنساء قليل، فقلت: يا رب ما شأنهم؟ قال: أما النساء فأضر بهن الأحمران الذهب والحرير، وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب، وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف، ثم جاءني بعد ذلك وهو يبكي، فقلت: ما خلفك عني؟ قال: يا رسول الله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أني لا أراك، فقلت: ولم؟ قال: كنت أحاسب بمالي".فانظر إلى هذا وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة، وهو من الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا" ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد.ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فقير فلم ير له شيئاً فقال: لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم".وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بملوك أهل الجنة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لا يؤبه له؛ لو أقسم على الله لأبره".وقال عمران بن حصين: كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه، فقال: "يا عمران، إن لك عندنا منزلة وجاهاً، فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة، فقرع الباب وقال: " السلام عليكم، أأدخل؟" فقالت: ادخل يا رسول الله. قال: " أنا ومن معي؟" قالت: ومن معك يا رسول الله؟ قال: " عمران " فقالت فاطمة: والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة. قال: " اصنعي بها هكذا وهكذا " وأشار بيده، فقالت: هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي؟ فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال: " شدي على رأسك " ثم أذنت له فدخل فقال: " السلام عليك يا ابنتاه، كيف أصبحت؟" قالت: أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لا تجزعي يا ابنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاث، وإني لأكرم على الله منك، ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا " ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها: "أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة " قال: فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران؟ قال: " آسية سيدة نساء عالمها، ومريم سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب "، ثم قال لها: " اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا وسيداً في الآخرة".وروي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والشوكة من الأعداء".وأما الآثار: فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذو الدرهمين أشد حبساً - أو قال أشد حساباً- من ذي الدرهم.وأرسل عمر رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار، فجاء حزيناً كئيباً فقالت امرأته: أحدث أمر؟ قال: أشد من ذلك، ثم قال: أريني درعك الخلق، فشقه وجعله صرراً وفرقه، ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج".وقال أبو هريرة: ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب: رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه، ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين، ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد.وقيل: جاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له: تخط، لو كنت غنياً لما قربتك، وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء. وقال المؤمل: ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري، ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله.وقال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً.وقال ابن عباس: ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر.وقال يحيى بن معاذ: حبك للفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين.وفي الأخبار عن الكتب السالفة: أن لله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام: احذر أن أمقتك فتسقط من عيني فأصب عليك الدنيا صباً.ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف درهم في يوم واحد يوجهها إليها معاوية وابن عامر وغيرهما، وإن درعها لمرقوع، وتقول لها الجارية: لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه! وكانت صائمة فقالت: لو ذكرتيني لفعلت، وكان قد أوصاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تنزعي درعك حتى ترقعيه".وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم، فأبى عليه أن يقبلها، فألح عليه الرجل، فقال له إبراهيم: أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم؟ لا أفعل ذلك أبداً - رضي الله عنه

[align=center]بيان فضيلة خصوص الفقراء
من الراضين والقانعين والصادقين [/align]


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به" وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا". فالأول القانع، وهذا الراضي، ويكاد يشعر هذا بمفهومه: أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً كما سيأتي تحقيقه، فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه، ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله، فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر.وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم، هم جلساء الله تعالى يوم القيامة".وروي عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه الراضي عن الله تعالى".وقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا".وقال: " ما من أحد غني ولا فقير إلا ورد يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا".وأوحى الله تعالى إلى إسماعيل عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم. قال: ومن هم؟ قال: الفقراء الصادقون.وقال صلى الله عليه وسلم: " لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً".وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة: أين صفوتي من خلقي؟ فتقول الملائكة: ومن هم يا ربنا؟ فيقول: فقراء المسلمين القانعون بعطائي الراضون بقدري، أدخلوهم الجنة. فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس في الحساب يترددون". فهذا في القانع والراضي، وأما الزاهد فسنذكر فضله في الشطر الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى.وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة، ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع. وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الطمع فقر واليأس غنى، وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم. وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه: ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش: يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك.وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ما من أحد إلا وفي عقله نقص، وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك، ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص.وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك.وقيل: كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان، فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله، فلما أكل نام، فقال لبعض غلمانه: إذا قام فجئني به، فلما قام جاء به إليه، فقال إبراهيم: أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع؟ قال: نعم، قال: فشبعت؟ قال: نعم، قال: ثم نمت طيباً؟ قال: نعم، فقال إبراهيم في نفسه: فما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر.ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً، فقال له: يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا؟ فقال: ألا أدلك على من رضي بشر من هذا؟ قال: بلى، قال: من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة.وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول: من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد.وقال الحسن رحمه الله: لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه، ثم قرأ " وفي السماء رزقكم وما توعدون ورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ".وكان أبو ذر رضي الله عنه يوماً في الناس فأتته امرأته فقالت له: أتجلس بين هؤلاء؟ والله ما في البيت هفة ولا سفة، فقال: قربى وذي رحم إن الغني من استغنى عن الناس.وقد قيل في هذا المعنى أيضاً:


[poet font="Andalus,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا جامعاً مانعاً والدهـر يرمـقـه مقدراً أي باب منـه يغـلـقـه
مفكراً كـيف تـأتـيه مـنـيتـه أغادياً أم بها يسري فتـطـرقـه
جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له يا جامع المال أيامـاً تـفـرقـه
المال عندك مخـزون لـوارثـه ما المال مالك إلا يوم تنـفـقـه
أرفه ببال فتى يغدو عـلـى ثـقة أن الذي قسـم الأرزاق يرزقـه
فالعرض منه مصون ما يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتهـا لم يبق في ظلها هم يؤرقـه
[/poet]

[align=center]بيان فضيلة الفقر[/align]

اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا، فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر، وقال ابن عطاء: الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر. ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصبر وبيَّنا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر - ومهدنا سبيل طلب الفضيلة في الأعمال والأحوال وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل.فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر، ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين: أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب، بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال. والثاني فقير حريص مع غني حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك، وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقير الحريص. أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير، لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال، والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه، وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه، فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع، وقد يشهد له ما روي في الخبر: أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد، فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء، فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه، فعاد الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال عليه السلام: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".وقد استشهد ابن عطاء أيضاً لما سئل عن ذلك فقال: الغني أفضل لأنه وصف الحق، أما دليله الأول ففيه نظر، لأن الخبر قد ورد مفصلاً تفصيلاً يدل على خلاف ذلك: وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني، وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد روى يزيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني الفقراء رسولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رسول الفقراء إليك؛ فقال: " مرحباً بك وبمن جئت من عندهم قوم أحبهم " قال: قالوا يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا نقدر عليه، ويعتمرون ولا نقدر عليه، وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء: أما خصلة واحدة: فإن في الجنة غرفاً ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء، لا يدخلها إلا نبي فقير، أو شهيد فقير، أو مؤمن فقير، والثانية: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام، والثالثة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم، وكذلك أعمال البر كلها "، فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: رضينا رضينا. فهذا يدل على أن قوله: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " أي مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم. وأما قوله: إن الغني وصف الحق، فقد أجابه بعض الشيوخ فقال: أترى أن الله تعالى غني بالأسباب والأعراض، فانقطع ولم ينطق، وأجاب آخرون فقالوا: إن التكبر من صفات الحق فينبغي أن يكون أفضل من التواضع، ثم قالوا: بل هذا يدل على أن الفقر أفضل لأن صفات العبودية فضل للعبد كالخوف والرجاء، وصفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها، ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته".وقال سهل: حب العز والبقاء شرك في الربوبية ومنازعة فيها لأنهما من صفات الرب تعالى؛ فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغني والفقير، وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها، إذ كما يناقض قول من فضل الغني بأنه صفة الحق بالتكبر، فكذلك يناقض قول من ذم الغني لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه وصف الرب تعالى، والجهل والغفلة وصف العبد، وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم، فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر: وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، ولا الفقر مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه، وكم من غني لم يشغله الغني عن الله عز وجل مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن المقصد، وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به، ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته، وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن، والفقر قد يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل، وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى في القلب، والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه أو في وصاله، وربما يكون شغله في الفراق أكثر، وربما يكون شغله في الوصال أكثر، والدنيا معشوقة الغافلين، المحروم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها، فإذن إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد، إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة، ووجود الحاجة قدر الحاجة أفضل من فقده، إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة، وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر فالفقير عن الخطر أبعد؛ إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا يقدر، ولذلك قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر. وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأعصار الكثيرة إلا نادراً.ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر - والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر - زجر الشرع عن الغنى وذمه، وفضل الفقر ومدحه، حتى قال المسيح عليه السلام: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم.وقال بعض العلماء: تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان.وفي الخبر: " إن لكل أمة عجلاً وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم" وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضاً، واستواء المال والماء، والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء؛ ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للدنيا: " إليك عني" إذ كانت تتمثل له بزينتها. وكان علي كرم الله وجهه يقول: يا صفراء غري غيري، ويا بيضاء غري غيري. وذلك لاستشعاره في نفسه ظهور مبادئ الاغترار بها لولا أن رأى برهان ربه، وذلك هو الغنى المطلق، إذ قال عليه الصلاة والسلام: " ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس". وإذا كان ذلك بعيداً فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات، لأنهم لا ينفكون في القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار راحة في بذلها، وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم، وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة؟ وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن حبه، ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافي القلب عن الدنيا وزهرتها، والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمناً بالله انصرف لا محالة إلى الله، إذ لا يتصور قلب فارغ، وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره، فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ومن أقبل عليه تجافى عن غيره، ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر، وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر، ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان، فالمتردد بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر، بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر، فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى، فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوبه عن الدنيا وأنسه بها، فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط، فإن تساويا فيه تساوت درجتهما، إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور، فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال، ويكون دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به، وإنما يشعر به إذا فقده، فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه، فإن وجد لقلبه إليه التفاتاً فليعلم أنه كان مغروراً، فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كنت مستكنة فيه، فتحقق إذن أنه كان مغروراً، وأن العشق كان مستكناً في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد، وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء، وإذا كان ذلك محالاً أو بعيداً فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل، لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف بل هو تحقيق؛ فإنك لو شاهدت بنور البصيرة لرأيته مشحوناً بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها، وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة، إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها؛ فإذا انكشف الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها، فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة قد انكشفت لك صورها، فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل، وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلاً عن ظاهر بشرتك، والسلام.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء سبتمبر 26, 2006 9:10 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب الفقر والزهد
وهو الكتاب الرابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]

الحمد لله الذي تسبح له الرمال، وتسجد له الظلال، وتتدكدك من هيبته الجبال، خلق الإنسان من الطين اللازب والصلصال، وزين صورته بأحسن تقويم وأتم اعتدال، وعصم قلبه بنور الهداية عن ورطات الضلال، وأذن له في قرع باب الخدمة بالغدو والآصال، ثم كحل بصيرة المخلص في خدمته بنور العبرة حتى لاحظ بضيائه حضرة الجلال، فلاح له من البهجة والبهاء والكمال، ما استقبح دون مبادي إشراقه كل حسن وجمال، واستثقل كل ما صرفه عن مشاهدته وملازمته غاية الاستثقال، وتمثل له ظاهر الدنيا في صورة امرأة جميلة تميس وتختال، وانكشف له باطنها عن عجوز شوهاء عجنت من طينة الخزي وضربت في قالب النكال، وهي متلفلفة بجلبابها لتخفي قبائح أسرارها بلطائف السحر والاحتيال، وقد نصبت حبائلها في مدارج الرجال، فهي تقتنصهم بضروب المكر والاغتيال، ثم لا تجتزئ معهم بالخلف في مواعيد الوصال، بل تقيدهم مع قطع الوصال بالسلاسل والأغلال، وتبليهم بأنواع البلايا والأنكال، فلما انكشف للعارفين منها قبائح الأسرار والأفعال، زهدوا فيها زهد المبغض لها فتركوها وتركوا التفاخر والتكاثر بالأموال، وأقبلوا بكنه هممهم على حضرة الجلال، واثقين منها بوصال ليس دونه انفصال، ومشاهدة أبدية لا يعتريها فناء ولا زوال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء وعلى آله خير آل.

أما بعد فإن الدنيا عدوة لله عز وجل بغرورها ضل من ضل، وبمكرها زل من زل، فحبها رأس الخطايا والسيئات، وبغضها أم الطاعات وأس القربات. وقد استقصينا ما يتعلق بوصفها وذم الحب لها في كتاب ذم الدنيا من ربع المهلكات، ونحن الآن نذكر فضل البغض لها والزهد فيها فإنه رأس المنجيات، فلا مطمع في النجاة إلا بالانقطاع عن الدنيا والبعد منها لكن مقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً، وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً، ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة، ونحن الآن نذكر حقيقة الفقر والزهد ودرجاتهما وأقسامهما وشروطهما وأحكامها ونذكر الفقر في شطر من الكتاب والزهد في شطر آخر منه، ونبدأ بذكر الفقر فنقول:

[align=center]الشطر الأول من الكتاب
في الفقر
[/align]


وفيه بيان حقيقة الفقر، وبيان فضيلة الفقر مطلقاً، وبيان خصوص فضيلة الفقراء، وبيان فضيلة الفقر على الغنى، وبيان أدب الفقر في فقره، وبيان أدبه في قبوله العطاء، وبيان تحريم السؤال بغير ضرورة، وبيان مقدار الغنى المحرم للسؤال، وبيان أحوال السائلين، والله الموفق بلطفه وكرمه.

[align=center]بيان حقيقة الفقر واختلاف أحوال الفقير وأساميه[/align]

اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه، أما فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقراً، وإن كان المحتاج إليه موجوداً مقدوراً عليه لم يكن المحتاج فقيراً، وإذا فهمت هذا لم تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني الحال ودوام وجود مستفاد من فضل الله تعالى وجوده؛ فإن كان في الوجود موجود ليس وجوده مستفاد له من غيره فهو الغني المطلق، ولا يتصور أن يكون مثل هذا الموجود إلا واحداً، فليس في الوجود إلا غني واحد، وكل من عداه فإنهم محتاجون إليه ليمدوا وجودهم بالدوام، وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى " والله الغني وأنتم الفقراء " هذا معنى الفقر مطلقاً، ولكننا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص، وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر، لأن حاجاته لا حصر لها. ومن جملة ما يتوصل إليه بالمال، وهو الذي نريد الآن بيانه فقط، فنقول: كل فاقد للمال فإنا نسميه فقيراً بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجاً إليه في حقه، ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عند الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم لنتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها: الحالة الأولى وهي العليا: أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به وهرب من أخذه مبغضاً له ومحترزاً من شره وشغله وهو الزهد، واسم صاحبه الزاهد.
الثانية: أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه لو أتاه، وصاحب هذه الحالة يسمى راضياً.
الثالثة: أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه، بل إن أتاه صفواً عفواً أخذه وفرح به، وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به، وصاحب هذه الحالة نسميه قانعاً، إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة.
الرابعة: أن يكون تركه الطلب لعجزه، وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلاً إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه، أو هو مشغول بالطلب وصاحب هذه الحالة نسميه بالحريص.
الخامسة: أن يكون ما فقده من المال مضطراً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب، ويسمى صاحب هذه الحالة مضطراً كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة أو قوية، وقلما تنفك هذه الحالة عن الرغبة فهذه خمسة أحوال: أعلاها الزهد والاضطرار إن انضم إليه الزهد وتصور ذلك فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه، ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد وهي أن يستوي عنده وجود المال وفقده؛ فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذ، وإن فقده فكذلك، وإن فقده فكذلك، بل حاله كما كان حال عائشة رضي الله تعالى عنها إذ أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها فقالت خادمتها: ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت، فمن هذا حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره، إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه، فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يد غيره، وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني، لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعاً، وليفهم من هذا الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى كل من كثر ماله من العباد، فإن كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده، وإنما هو غني عن دخول المال في يده لا عن بقائه، فهو إذن فقير من وجه، وأما هذا الشخص فهو غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضاً، فإنه ليس يتأذى به ليحتاج إلى إخراجه، وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه. وليس فاقداً له ليحتاج إلى الدخول في يده، فغناه إلى العموم أميل، فهو إلى الغنى الذي هو وصف الله تعالى أقرب، وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان، ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنياً بل مستغنياً، ليبقى الغني اسماً لمن له الغنى المطلق عن كل شيء. وأما هذا العبد فإن استغنى عن المال وجوداً أو عدماً فلم يستغن عن أشياء أخر سواه ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه الذي زين الله به قلبه، فإن القلب المقيد بحب المال رقيق والمستغني عنه حر، والله تعالى هو الذي أعتقه من هذا الرق فهو محتاج إلى دوام هذا العتق، والقلوب متقلبه بين الرق والحرية في أوقات متقاربة، لأنها بين إصبعين من أصابع الرحمن، فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقاً عليه مع هذا الكمال إلا مجازاً واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار وصاحب هذه الحالة من المقربين، فلا جرم صار الزهد في حقه نقصاناً، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين، وهذا لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا، كما أن الراغب فيها مشغول بها، والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى، إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجاباً، فإنه أقرب إليك من حبل الوريد، وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجاباً بينك وبينه، فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره، وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره، وأنت لا تزال مشغولاً بنفسك وبشهوات نفسك فكذلك لا تزال محجوباً عنه، فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله تعالى، والمشغول ببغض نفسه أيضاً مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله، مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق، فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه، ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه، فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور العاشق شرك في العشق ونقص فيه فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص، ولكن أحدهما أخف من الآخر، بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضاً وحباً، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة فلا يجتمع أيضاً بغض وحب في حالة واحدة؛ فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها، إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد، والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب، إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتتبدل بالشهود، فالكمال له مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة وعلفها وتسييرها، ولكن أحدهما مستقبل الكعبة والآخر لها فهما، سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها، ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها، وليس محموداً بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها، فلا ينبغي أن تظن بغض الدنيا مقصود في عينه، بل الدنيا عائق عن الله تعالى، لا وصول إليه إلا يدفع العائق، ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: من زهد في الدنيا واقتصر عليه فقد استعجل الراحة، بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة؛ فبين أن سلوك طريق الآخرة وراء الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج، فإذن قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال، وإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص، ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني، بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء، وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر، ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة، مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولاً بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا يبغض الماء الكثير، بل تقول: أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد، فهكذا ينبغي أن يكون المال؛ لأن الخبز والماء واحد في الحاجة، وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر، وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم: علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حياً كما يأتيك قدر حاجتك من الماء، على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى.
قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان الداراني: قال مالك بن دينار للمغيرة: اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها، قال سليمان: هذا من ضعف قلوب الصوفية: قد زاده في الدنيا ما غلبه من أخذها، فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان فإن قلت: فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار؟ فأقول: كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجاتهم ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب والروايا يدبرونه مع أنفسهم، بل تركوه في النهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه، لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أو بغضه وقد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعاً وما هربوا منها، إذا كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر، وما نقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن خاف أن لو أخذه أن يخدعه المال ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات، وهذا حال الضعفاء، فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقهم كمال؛ وهذا حكم جميع الخلق، لأن كلهم ضعفاء إلا الأنبياء والأولياء، وإما أن ينقل عن قوي بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولاً إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك؛ إذ لو اقتدوا به في الأخذ لهلكوا، كما يفر الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون، والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء، فقد عرفت إذن أن المراتب ست وأعلاها رتبة المستغني ثم الزاهد ثم الراضي ثم القانع ثم الحريص، وأما المضطر فيتصور في حقه أيضاً الزهد والرضا و القناعة ودرجة تختلف بحسب اختلاف هذه الأحوال، واسم الفقير طلق على هذه الخمسة. أما تسمية المستغني فقيراً فلا وجه لها بهذا المعنى، بل إن سمي فقيراً فبمعنى آخر وهو معرفته بكونه محتاجاً إلى الله تعالى في جميع أموره عامة وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة، فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها؛ فإنه أحق باسم العبد من الغافلين. وإن كان اسم العبد عاماً للخلق فكذلك اسم الفقير عام، ومن عرف نفسه بالفقر إلى الله تعالى فهو أحق باسم الفقير، فاسم الفقير مشترك بين هذين المعنيين، وإذا عرفت هذا الاشتراك فهمت أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بك من الفقر" وقوله عليه السلام: " كاد الفقر أن يكون كفراً" لا يناقض قوله: " أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً" إذ فقر المضطر هو الذي استعاذ منه، والفقر الذي هو الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله تعالى هو الذي سأله في دعائه صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء.

[B][align=center]بيان فضيلة الفقر مطلقاً[/align]

أما من الآيات فيدل عليه قوله تعالى " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " الآية. وقال تعالى: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض " ساق الكلام في معرض المدح، ثم قدم وصفه بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقير.
وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى: روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أي الناس خير؟" فقالوا: موسر من المال يعطي حق الله من نفسه وماله. فقال: " نعم الرجل هذا وليس به " قالوا: فمن خير الناس يا رسول الله؟ قال: " فقير يعطي جهده".
وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: " الق الله فقيراً ولا تلقه غنياً".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال"
وفي الخبر المشهور: " يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام". وفي حديث آخر " بأربعين خريفاً" أي أربعين سنة، فيكون المراد به تقدير تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص، والتقدير بخمسمائة عام تقدير الفقير الزاهد على الغني الراغب، وما ذكرناه من اختلاف درجات الفقر يعرفك بالضرورة تفاوتاً بين الفقراء في درجاتهم، وكأن الفقير الحريص على درجة من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد، إذ هذه نسبة الأربعين إلى خمسمائة، ولا تظنن أن تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري على لسانه جزافاً وبالاتفاق، بل لا يستنطق صلى الله عليه وسلم إلا بحقيقة الحق فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة" فإنه تقدير تحقيق لا محالة، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين، فأما بالتحقيق فلا، إذ يعلم أن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواص: أحدها أن يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله وصفاته والملائكة والدار الآخرة، لا كما يعلمه غيره بل مخالفاً له بكثرة وبزيادة اليقين والتحقيق والكشف.
والثاني: أن له في نفسه صفة بها تتم له الأفعال الخارقة للعادات كما أن لنا صفة بها تتم الحركات المقرونة بإرادتنا وباختيارنا وهي القدرة وإن كانت القدرة والمقدور جميعاً من فعل الله تعالى.
والثالث: أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم كما أن للبصير صفة بها يفارق الأعمى حتى يدرك بها المبصرات.
والرابع: أن له صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب إما في اليقظة أو في المنام إذ بها يطالع اللوح المحفوظ فيرى ما فيه من الغيب، فهذه كمالات وصفات يعلم ثبوتها للأنبياء ويعلم انقسام كل واحد منها إلى أقسام، وربما يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى خمسين وإلى ستين، ويمكننا أيضاً أن نتكلف تقسيمها إلى ستة وأربعين بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءاً واحداً من جملتها ولكن تعيين طريق واحد من طرق التقسيمات الممكنة لا يمكن إلا بظن وتخمين فلا ندري تحقيقاً أنه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما المعلوم مجامع الصفات التي بها تتم النبوة وأصل انقسامها، وذلك لا يرشدنا إلى معرفة علة التقدير، فكذلك نعلم أن الفقراء لهم درجات كما سبق. فأما لم كان هذا الفقير الحريص مثلاً على نصف سدس درجة الفقير الزاهد حتى لم يبق له التقدم بأكثر من أربعين سنة إلى الجنة واقتضى ذلك التقدم بخمسمائة عام فليس في قوة البشر غير الأنبياء الوقوف على ذلك إلا بنوع من التخمين ولا وثوق به، والغرض التنبيه على منهاج التقدير في أمثال هذه الأمور، فإن الضعيف الإيمان قد يظن أن ذلك يجري من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق، وحاشا منصب النبوة على ذلك ولنرجع إلى نقل الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: " خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعاً في الجنة ضعفاؤها".
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن لي حرفتين اثنتين فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني: الفقر والجهاد" وروي أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهباًوتكون معك أينما كنت، فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " يا جبريل، إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال ولها يجمع من لا عقل له " فقال له جبريل: يا محمد ثبتك الله بالقول الثابت.
وروي أن المسيح صلى الله عليه وسلم مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة، فأيقظه وقال: يا نائم قم فاذكر الله تعالى، فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها، فقال له: فنم إذن يا حبيبي.
ومر موسى صلى الله عليه وسلم برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب وهو متزر بعباءة، فقال: يا رب عبدك هذا في الدنيا ضائع، فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها وعن أبي رافع أنه قال: ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه، فأرسلني إلى رجل من يهود خيبر وقال: " قل له يقول لك محمد أسلفني أو بعني دقيقاً إلى هلال رجب " قال فأتيته فقال: لا والله إلا برهن، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " أما والله إني لأمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض ولو باعني أو أسلفني لأديت إليه، اذهب بدرعي هذا إليه فارهنه، فلما خرجت نزلت هذه الآية " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا" الآية. وهذه الآية تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أصبح منكم معافى في جسمه آمناً في سربه عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وقال كعب الأحبار: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين.
وقال عطاء الخراساني: مر نبي من الأنبياء بساحل فإذا هو برجل يصطاد حيتاناً، فقال: بسم الله وألقى الشبكة فلم يخرج فيها شيء، ثم أمر بآخر فقال باسم الشيطان وألقى شبكته فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب ما هذا وقد علمت أن كل ذلك بيدك، فقال الله تعالى للملائكة: اكشفوا لعبدي عن منزلتيهما، فلما رأى ما أعد الله لهذا من الكرامة ولذاك من الهوان قال: رضيت يا رب.
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء" وفي لفظ آخر: " فقلت أين الأغنياء؟ حبسهم الجد " وفي حديث آخر " فرأيت أكثر أهل النار النساء فقلت: ما شأنهن؟ فقيل شغلهن الأحمران الذهب والزعفران".
وقال صلى الله عليه وسلم: " تحفة المؤمن في الدنيا الفقر".
وفي الخبر " آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه" وفي حديث آخر: " رأيته يدخل الجنة زحفاً".
وقال المسيح صلى الله عليه وسلم: بشدة يدخل الغني الجنة.
وفي خبر آخر عن أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه " قيل: وما اقتناه؟ قال: " لم يترك له أهلاً ولا مالاً".
وفي الخبر: " إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإذ رأيت الغني مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته".
وقال موسى عليه السلام: يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟ فقال: كل فقير فقير "، فيمكن أن يكون الثاني للتوكيد، ويمكن أن يراد به الشديد الضر.
وقال المسيح صلوات الله عليه وسلامه: إني لأحب المسكنة وأبغض النعماء، وكان أحب الأسامي إليه صلوات الله عليه أن يقال له: يا مسكين.
ولما قالت سادات العرب وأغنياؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوماً ولهم يوماً يجيئون إليك ولا نجيء، ونجيء إليك ولا يجيئون، يعنون بذلك الفقراء مثل بلال وسليمان وصهيب وأبي ذر وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وأبي هريرة وأصحاب الصفة من الفقراء رضي الله عنهم أجمعين أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وذلك لأنهم شكوا إليه التأذي برائحتهم وكان لباس القوم الصوف في شدة الحر؛ فإذا عرقوا فاحت الروائح من ثيابهم، فاشتد ذلك على الأغنياء منهم الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وعباس بن مرداس السلمي وغيرهم، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجمعهم وإياهم مجلس واحد؛ فنزل قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم " يعني الفقراء " تريد زينة الحياة الدنيا " يعني الأغنياء " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " يعني الأغنياء إلى قوله: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" الآية.
واستأذن ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من أشراف قريش، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: " عبس وتولى أن جاءه العمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى " يعني ابن مكتوم " أما من استغنى فأنت له تصدى" يعني هذا الشريف وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا، فيقول: وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة، اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف، فمن أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده ويدخله الجنة".
وقال عليه السلام: " أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة " قالوا: يا رسول الله، وما دولتهم؟ قال: " إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا فمن أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة".
وقال صلى الله عليه وسلم: " دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال، ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم، ونظرت في أسفلها فإذا فيه من الأغنياء والنساء قليل، فقلت: يا رب ما شأنهم؟ قال: أما النساء فأضر بهن الأحمران الذهب والحرير، وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب، وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف، ثم جاءني بعد ذلك وهو يبكي، فقلت: ما خلفك عني؟ قال: يا رسول الله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أني لا أراك، فقلت: ولم؟ قال: كنت أحاسب بمالي".
فانظر إلى هذا وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة، وهو من الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا" ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فقير فلم ير له شيئاً فقال: لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبركم بملوك أهل الجنة؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لا يؤبه له؛ لو أقسم على الله لأبره".
وقال عمران بن حصين: كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه، فقال: "يا عمران، إن لك عندنا منزلة وجاهاً، فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة، فقرع الباب وقال: " السلام عليكم، أأدخل؟" فقالت: ادخل يا رسول الله. قال: " أنا ومن معي؟" قالت: ومن معك يا رسول الله؟ قال: " عمران " فقالت فاطمة: والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة. قال: " اصنعي بها هكذا وهكذا " وأشار بيده، فقالت: هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي؟ فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال: " شدي على رأسك " ثم أذنت له فدخل فقال: " السلام عليك يا ابنتاه، كيف أصبحت؟" قالت: أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لا تجزعي يا ابنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاث، وإني لأكرم على الله منك، ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا " ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها: "أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة " قال: فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران؟ قال: " آسية سيدة نساء عالمها، ومريم سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب "، ثم قال لها: " اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا وسيداً في الآخرة".
وروي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال: بالقحط من الزمان، والجور من السلطان، والخيانة من ولاة الأحكام، والشوكة من الأعداء".
وأما الآثار: فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ذو الدرهمين أشد حبساً - أو قال أشد حساباً- من ذي الدرهم وأرسل عمر رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار، فجاء حزيناً كئيباً فقالت امرأته: أحدث أمر؟ قال: أشد من ذلك، ثم قال: أريني درعك الخلق، فشقه وجعله صرراً وفرقه، ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج".
وقال أبو هريرة: ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب: رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه، ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين، ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد.
وقيل: جاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له: تخط، لو كنت غنياً لما قربتك، وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء. وقال المؤمل: ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري، ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله.
وقال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف الفقر لنجا منهما جميعاً، ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً، ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً.
وقال ابن عباس: ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر.
وقال يحيى بن معاذ: حبك للفقراء من أخلاق المرسلين، وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين، وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين.
وفي الأخبار عن الكتب السالفة: أن لله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام: احذر أن أمقتك فتسقط من عيني فأصب عليك الدنيا صباً.
ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف درهم في يوم واحد يوجهها إليها معاوية وابن عامر وغيرهما، وإن درعها لمرقوع، وتقول لها الجارية: لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه! وكانت صائمة فقالت: لو ذكرتيني لفعلت، وكان قد أوصاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تنزعي درعك حتى ترقعيه".
وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم، فأبى عليه أن يقبلها، فألح عليه الرجل، فقال له إبراهيم: أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم؟ لا أفعل ذلك أبداً - رضي الله عنه.


[align=center]بيان فضيلة خصوص الفقراء
من الراضين والقانعين والصادقين [/align]


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به" وقال صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا". فالأول القانع، وهذا الراضي، ويكاد يشعر هذا بمفهومه: أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً كما سيأتي تحقيقه، فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه، ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله، فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم، هم جلساء الله تعالى يوم القيامة".
وروي عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه الراضي عن الله تعالى".
وقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا".
وقال: " ما من أحد غني ولا فقير إلا ورد يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا".
وأوحى الله تعالى إلى إسماعيل عليه السلام: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم. قال: ومن هم؟ قال: الفقراء الصادقون.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً".
وقال صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة: أين صفوتي من خلقي؟ فتقول الملائكة: ومن هم يا ربنا؟ فيقول: فقراء المسلمين القانعون بعطائي الراضون بقدري، أدخلوهم الجنة. فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس في الحساب يترددون". فهذا في القانع والراضي، وأما الزاهد فسنذكر فضله في الشطر الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة، ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع. وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الطمع فقر واليأس غنى، وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم.
وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه: ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش: يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك.
وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: ما من أحد إلا وفي عقله نقص، وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك، ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص.
وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك.
وقيل: كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان، فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله، فلما أكل نام، فقال لبعض غلمانه: إذا قام فجئني به، فلما قام جاء به إليه، فقال إبراهيم: أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع؟ قال: نعم، قال: فشبعت؟ قال: نعم، قال: ثم نمت طيباً؟ قال: نعم، فقال إبراهيم في نفسه: فما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر.
ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً، فقال له: يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا؟ فقال: ألا أدلك على من رضي بشر من هذا؟ قال: بلى، قال: من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة.
وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول: من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد.
وقال الحسن رحمه الله: لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه، ثم قرأ " وفي السماء رزقكم وما توعدون ورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ".
وكان أبو ذر رضي الله عنه يوماً في الناس فأتته امرأته فقالت له: أتجلس بين هؤلاء؟ والله ما في البيت هفة ولا سفة، فقال: يا هذه، إن بين أيدينا عقبة كئوداً لا ينجو منها إلا كل مخف، فرجعت وهي راضية.
وقال ذو النون رحمه الله: أقرب الناس إلى الكفر ذو فاقة لا صبر له.
وقيل لبعض الحكماء: ما مالك؟ فقال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس.
وروي أن الله عز وجل قال في بعض الكتب السالفة المنزلة: يا ابن آدم، لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن منها إلا القوت، فإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا محسن إليك.
وقد قيل في القناعة.


[poet font="Andalus,4,purple,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس واقنع بيأس فإن العز فـي الـياس
واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم إن الغني من استغنى عن النـاس
[/poet]

وقد قيل في هذا المعنى أيضاً:

[poet font="Andalus,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا جامعاً مانعاً والدهـر يرمـقـه مقدراً أي باب منـه يغـلـقـه
مفكراً كـيف تـأتـيه مـنـيتـه أغادياً أم بها يسري فتـطـرقـه
جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له يا جامع المال أيامـاً تـفـرقـه
المال عندك مخـزون لـوارثـه ما المال مالك إلا يوم تنـفـقـه
أرفه ببال فتى يغدو عـلـى ثـقة أن الذي قسـم الأرزاق يرزقـه
فالعرض منه مصون ما يدنـسـه والوجه منه جديد ليس يخلـقـه
إن القناعة من يحلل بساحـتـهـا لم يبق في ظلهـا هـم يؤرقـه
[/poet]

[align=center]بيان فضيلة الفقر[/align]

[b]اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا، فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر، وقال ابن عطاء: الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر. ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصبر وبيَّنا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر - ومهدنا سبيل طلب الفضيلة في الأعمال والأحوال وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل.
فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر، ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين: أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب، بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال.
والثاني فقير حريص مع غني حريص، إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك، وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقير الحريص المقام الأول فقير صابر ليس بحريص على الطلب أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير، لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال، والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه، وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه، فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع، وقد يشهد له ما روي في الخبر: أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد، فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء، فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه، فعاد الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال عليه السلام: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".
وقد استشهد ابن عطاء أيضاً لما سئل عن ذلك فقال: الغني أفضل لأنه وصف الحق، أما دليله الأول ففيه نظر، لأن الخبر قد ورد مفصلاً تفصيلاً يدل على خلاف ذلك: وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني، وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء، فقد روى يزيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني الفقراء رسولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رسول الفقراء إليك؛ فقال: " مرحباً بك وبمن جئت من عندهم قوم أحبهم " قال: قالوا يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا نقدر عليه، ويعتمرون ولا نقدر عليه، وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء: أما خصلة واحدة: فإن في الجنة غرفاً ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء، لا يدخلها إلا نبي فقير، أو شهيد فقير، أو مؤمن فقير، والثانية: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام، والثالثة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم، وكذلك أعمال البر كلها "، فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: رضينا رضينا.
فهذا يدل على أن قوله: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " أي مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم. وأما قوله: إن الغني وصف الحق، فقد أجابه بعض الشيوخ فقال: أترى أن الله تعالى غني بالأسباب والأعراض، فانقطع ولم ينطق، وأجاب آخرون فقالوا: إن التكبر من صفات الحق فينبغي أن يكون أفضل من التواضع، ثم قالوا: بل هذا يدل على أن الفقر أفضل لأن صفات العبودية فضل للعبد كالخوف والرجاء، وصفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها، ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته" وقال سهل: حب العز والبقاء شرك في الربوبية ومنازعة فيها لأنهما من صفات الرب تعالى؛ فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغني والفقير، وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها، إذ كما يناقض قول من فضل الغني بأنه صفة الحق بالتكبر، فكذلك يناقض قول من ذم الغني لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه وصف الرب تعالى، والجهل والغفلة وصف العبد، وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم، فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر: وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده، إذ به يظهر فضله، والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى، ولا الفقر مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه، وكم من غني لم يشغله الغني عن الله عز وجل مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن المقصد، وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به، ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته، وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن، والفقر قد يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل، وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى في القلب، والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه أو في وصاله، وربما يكون شغله في الفراق أكثر، وربما يكون شغله في الوصال أكثر، والدنيا معشوقة الغافلين، المحروم منها مشغول بطلبها، والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها، فإذن إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد، إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة، ووجود الحاجة قدر الحاجة أفضل من فقده، إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة، وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر فالفقير عن الخطر أبعد؛ إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، ومن العصمة أن لا يقدر، ولذلك قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر. وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأعصار الكثيرة إلا نادراً.
ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر - والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر - زجر الشرع عن الغنى وذمه، وفضل الفقر ومدحه، حتى قال المسيح عليه السلام: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم.
وقال بعض العلماء: تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان.
وفي الخبر: " إن لكل أمة عجلاً وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم" وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضاً، واستواء المال والماء، والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء؛ ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للدنيا: " إليك عني" إذ كانت تتمثل له بزينتها وكان علي كرم الله وجهه يقول: يا صفراء غري غيري، ويا بيضاء غري غيري. وذلك لاستشعاره في نفسه ظهور مبادئ الاغترار بها لولا أن رأى برهان ربه، وذلك هو الغنى المطلق، إذ قال عليه الصلاة والسلام: " ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس". وإذا كان ذلك بعيداً فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات، لأنهم لا ينفكون في القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار راحة في بذلها، وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم، وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة؟ وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن حبه، ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافي القلب عن الدنيا وزهرتها، والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمناً بالله انصرف لا محالة إلى الله، إذ لا يتصور قلب فارغ، وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره، فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ومن أقبل عليه تجافى عن غيره، ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر، وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر، ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان، فالمتردد بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر، بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر، فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى، فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوبه عن الدنيا وأنسه بها، فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط، فإن تساويا فيه تساوت درجتهما، إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور، فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال، ويكون دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به، وإنما يشعر به إذا فقده، فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه، فإن وجد لقلبه إليه التفاتاً فليعلم أنه كان مغروراً، فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كنت مستكنة فيه، فتحقق إذن أنه كان مغروراً، وأن العشق كان مستكناً في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد، وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء، وإذا كان ذلك محالاً أو بعيداً فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل، لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته، فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور، ولا يكون تأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيرها في قلب مشغول، ولذلك قال بعض السلف: مثل من تعبد وهو في طلب الدنيا مثل من يطفئ النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك.
وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها: أفضل من عبادة غني ألف عام.
وعن الضحاك قال: من دخل السوق فرأى شيئاً يشتهيه فصبر واحتسب، كان خيراً له من ألف دينار ينفقها كلها في سبيل الله تعالى.
وقال رجل لبشر بن الحارث رحمه الله: ادع لي فقد أضر بي العيال، فقال: إذا قال لك عيالك ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله في ذلك الوقت، فإن دعاءك أفضل من دعائي.
وكان يقول: مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة، ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء.
وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: اللهم إني أسألك الذل عند النصف من نفسي، والزهد فيما جاوز الكفاف.
وإذا كان مثل الصديق رضي الله عنه في كماله يحذر من الدنيا ووجودها فكيف يشك في أن فقد المال أصلح من وجوده هذا، مع أن أحسن أحوال الغني أن يأخذ حلالاً وينفق طيباً، ومع ذلك فيطول حسابه في عرصات القيامة ويطول انتظاره، ومن نوقش الحساب فقد عذب، ولهذا تأخر عبد الرحمن بن عوف عن الجنة إذ كان مشغولاً بالحساب كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ما أحب أن لي حانوتاً على باب المسجد ولا تخطئني فيه صلاة وذكر وأربح كل يوم خمسين ديناراً وأتصدق بها في سبيل الله تعالى، قيل: وما تكره؟ قال: سوء الحساب.
ولذلك قال سفيان رحمه الله: اختار الفقراء ثلاثة أشياء، واختار الأغنياء ثلاثة أشياء: اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب وخفة الحساب، واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وشدة الحساب وما ذكره ابن عطاء من أن الغني وصف الحق فهو بذلك أفضل فهو صحيح، ولكن إذا كان العبد غنياً عن وجود المال وعدمه جميعاً بأن يستوي عنده كلاهما، فأما إذا كان غنياً بوجوده ومفتقراً إلى بقائه فلا يضاهي غناه غنى الله تعالى، لأن الله تعالى غني بذاته لا بما يتصور زواله والمال يتصور زواله بأن يسرق، وما ذكره من الرد عليه بأن الله ليس غنياً بالأعراض والأسباب صحيح في ذم غني يريد بقاء المال، وما ذكرت من أن صفات الحق لا تليق بالعبد غير صحيح، بل العلم من صفاته وهو أفضل شيء للعبد، بل منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، وقد سمعت بعض المشايخ يقول: إن سألك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافاً له: أي يكون له من كل واحد نصيب، وأما التكبر فلا يليق بالعبد، فإن التكبر على من لا يستحق التكبر عليه ليس من صفات الله تعالى، وأما التكبر على من يستحقه كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل والمطيع على العاصي فيليق به، نعم قد يراد بالتكبر الزهو والصلف والإيذاء وليس ذلك من وصف الله تعالى، وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شيء وأنه يعلم أنه كذلك، والعبد مأمور به بأنه يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه، ولكن بالاستحقاق كما هو حقه لا بالباطل والتلبيس، فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر، والمطيع أكبر من العاصي، والعالم أكبر من الجاهل، والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات، وأقرب إلى الله تعالى منها فلو رأى بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكانت صفة التكبر حاصلة له ولائقة به وفضيلة في حقه، إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته فإنه ذلك موقوف على الخاتمة، وليس يدري الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق؟ فلجهله بذلك وجب أن لا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر؛ إذ ربما يختم للكافر بالإيمان، وقد يختم له بالكفر، فلم يكن ذلك لائقاً به لقصور علمه عن معرفة العاقبة، ولما تصور أن يعلم الشيء على ما هو به كان العلم كمالاً في حقه لأنه في صفات الله تعالى، ولما كانت معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصاناً في حقه إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره، فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى، فلا جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء، فإذن لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى فهو فضيلة، أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلاً، فهذا بيان نسبة حال الفقير القانع إلى حال الغني الشاكر.
المقام الثاني في نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغني الحريص ولنفرض هذا في شخص واحد هو طلب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجده؛ فله حالة الفقد وحالة الوجود، فأي حالتيه أفضل؟ فنقول: ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه في المعيشة وكان قصده أن يسلك سبيل الدين ويستعين به عليه فحال الوجود أفضل، لأن الفقر يشغله، بالطلب، وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل؛ والمكفي هو القادر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً " وقال: " كاد الفقر أن يكون كفراً " أي الفقر مع الاضطرار فيما لا بد منه، وإن كان المجلوب فوق الحاجة أو كان المطلوب قدر الحاجة ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل الدين، فحالة الفقر أفضل وأصلح، لأنهما استويا في الحرص وحب المال، واستويا في أن كل واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين، واستويا في أن كل واحد منهما ليس يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى، ولكن افترقا في أن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد حبه في قلبه ويطمئن إلى الدنيا، والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يبغي الخلاص منه، ومهما استوت الأمور كلها وخرج من الدنيا رجلان أحدهما أشد ركوناً إلى الدنيا؛ فحاله أشد لا محالة؛ إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش من الآخرة بقدر تأكد أنسه بالدنيا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن روح القدس نفث في روعي: أحبب من أحببت فإنك مفارقه" وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد، فينبغي أن تحب من لا يفارقك وهو الله تعالى، ولا تحب ما يفارقك وهو الدنيا، فإنك إذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى، فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه، وفراقك لما تحبه؛ وكل من فارق محبوباً فيكون أذاه في فراقه بقدر حبه وقدر أنسه وأنس الواجد للدنيا القادر عليها أكثر من أنس الفاقد لها وإن كان حريصاً عليها، فإذن قد انكشف بهذا التحقيق أن الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا في موضعين: أحدهما غني مثل غنى عائشة رضي الله عنها يستوي عنده الوجود والعدم، فيكون الوجود مزيداً له، إذ يستفيد به أدعية الفقراء والمساكين وجمع همهم؛ والثاني الفقر عن مقدار الضرورة فإن ذلك يكاد أن يكون كفراً، ولا خير فيه بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقي حياته ثم يستعين بقوته وحياته على الكفر والمعاصي، ولو مات جوعاً لكانت معاصيه أقل؛ فالأصلح له أن يموت جوعاً ولا يجد ما يضطر إليه سبيلاً؛ فهذا تفصيل القول في الغنى والفقر.
ويبقى النظر في فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه، وفي غنى دونه في الحرص على حفظ المال، ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده كتفجع الفقير بفقره، فهذا في محل النظر، والأظهر أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما لفقد المال وقربهما بقدر ضعف تفجعهما بفقده، والعلم عند الله تعالى فيه.

[align=center]بيان آداب الفقير في فقره[/align]

اعلم أن للفقير آداباً في باطنه ومخالطته وأفعاله ينبغي أن يراعيها فأما أدب باطنه فإنه لا يكون فيه كراهية لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر، أعني أنه لا يكون كارهاً فعل الله تعالى من حيث إنه فعله - وإن كان كارهاً للفقر - كالمحجوم يكون كارهاً للحجامة لتألمهبها ولا يكون كارهاً فعل الحجام ولا كارهاً للحجام، بل ربما يتقلد منه منة، فهذا أقل درجاته وهو واجب، ونقيضه حرام ومحبط ثواب الفقر، وهو معنى قوله عليه السلام: " يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا " وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به، وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به لعلمه بغوائل الغنى، ويكون متوكلاً في باطنه على الله تعالى واثقاً به في قدر ضرورته أنه يأتيه لا محالة ويكون كارهاً للزيادة على الكفاف. وقد قال علي كرم الله وجهه: إن لله تعالى عقوبات بالفقر ومثوبات بالفقر؛ من علامات الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن عليه خلقه ويطيع به ربه، ولا يشكو حاله، ويشكر الله تعالى على فقره، ومن علاماته - إذا كان عقوبة - أن يسوء خلقه ويعصي ربه بترك طاعته ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء، وهذا يدل أن كل فقير فليس بمحمود، بل المحمود الذي لا يتسخط ويرضى أو يفرح بالفقر ويرضى لعله بثمرته، إذ قيل: ما أعطى عبد شيئاً من الدنيا إلا قيل له: خذه على ثلاثة أثلاث: شغل وهم وطول حساب.
وأما أدب ظاهره: فأن يظهر التعفف والتجمل ولا يظهر الشكوى والفقر، بل يستر فقره ويستر أنه يستره ففي الحديث " إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال ".
وقال تعالى: " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ".
وقال سفيان: أفضل الأعمال التجمل عند المحنة.
وقال بعضهم: ستر الفقر من كنوز البر.
وأما في الأعمال فأدبه: أن لا يتواضع لغني لأجل غناه، بل يتكبر عليه.
قال علي كرم الله وجهه: ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله تعالى، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل، فهذه رتبة، وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم لأن ذلك من مبادئ الطمع.
قال الثوري رحمه الله: إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لص.
وقال بعض العارفين: إذا خالط الفقير الأغنياء انحلت عروته، فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته، فإذا سكن إليهم ضل. وينبغي أن لا يسكت عن ذكر الحق مداهنة للأغنياء وطمعاً في العطاء.
وأما أدبه في أفعاله: فأن لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة، ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه، فإن ذلك جهد المقل، وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غني.
روى زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم ". قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: " أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها، وأخرج رجل درهماً من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه، فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف". وينبغي أن لا يدخر مالاً بل يأخذ قدر الحاجة ويخرج الباقي وفي الادخار ثلاث درجات: إحداها أن لا يدخر إلا ليومه وليلته وهي درجة الصديقين.
والثانية: أن يدخر لأربعين يوماً فإن ما زاد عليه داخل في طول الأمل، وقد فهم العلماء ذلك من ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوماً، وهذه درجة المتقين.
والثالثة: أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب وهي رتبة الصالحين. ومن زاد في الادخار على هذا فهو واقع في غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية، فغنى الصالح الضعيف في طمأنينة قلبه في قوت سنته، وغنى الخصوص في أربعين يوماً، وغنى خصوص الخصوص في يوم وليل. وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم نساءه على مثل هذه الأقسام، فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل، وبعضهن قوت أربعين يوماً وليلة وهو قسم عائشة وحفصة.

[align=center]بيان آداب الفقير في قبول العطاء
إذا جاءه بغير سؤال [/align]


ينبغي أن يلاحظ الفقير فيما جاءه ثلاثة أمور: نفس المال، وغرض المعطي، وغرضه في الأخذ.
أما نفس المال فينبغي أن يكون حلالاً خالياً عن الشبهات كلها، فإن كان فيه شبهة فليتحرز من أخذه، وقد ذكرنا في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة وما يجب اجتنابه وما يستحب وأما غرض المعطي فلا يخلو: إما أن يكون غرضه تطبيب قلبه وطلب محبته وهو الهدية، أو الثواب وهو الصدقة والزكاة، والذكر والرياء والسمعة إما على التجرد وإما ممزوجاً ببقية الأغراض.
أما الأول - وهو الهدية - فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ينبغي أن لا يكون فيها منة. فإن كان فيها منة فالأولى تركها، فإن علم أن بعضها مما تعظم فيه المنة فليرد البعض دون البعض؛ فقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمن وأقط وكبش، فقبل السمن والأقط ورد الكبش.
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من بعض الناس ويرد على بعض. وقال: " لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي" وفعل هذا جماعة من التابعين.
وجاءت إلى فتح الموصلي صرة فيها خمسين درهماً فقال: حدثنا عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أتاه رزق من غير مسألة فرده فأنما يرده على الله". ثم فتح الصرة فأخذ منها درهماً ورد سائرها.
وكان الحسن يروي هذا الحديث أيضاً ولكن حمل إليه رجل كيساً ورزمة من رقيق ثياب خراسان، فرد ذلك وقال: من جلس مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليس له خلاق. وهذا يدل على أن أمر العالم والواعظ أشد في قبول العطاء. وقد كان الحسن يقبل من أصحابه.
وكان إبراهيم التيمي يسأل من أصحابه الدرهم والدرهمين ونحوه ويعرض عليه غيرهم المئين فلا يأخذها. وكان بعضهم إذا أعطاه صديقه شيئاً يقول: اتركه عندك وانظر إن كنت بعد قبوله في قلبك أفضل مني قبل القبول فأخبرني حتى آخذه وإلا فلا، وأمارة هذا أن يشق عليه الرد لو رده ويفرح بالقبول ويرى المنة على نفسه في قبول صديقه هديته، فإن علم أنه يمازجه منة فأخذه مباح ولكنه مكروه عند الفقراء الصادقين.
وقال بشر: ما سألت أحداً قط شيئاً إلا سرياً السقطي لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عوناً له على ما يحب.
وجاء خراساني إلى الجنيد رحمه الله بمال وسأله أن يأكله فقال: أفرقه على الفقراء، فقال: ما أريد هذا. قال: ومتى أعيش حتى آكل هذا؟ قال: ما أريد أن تنفقه في الخل والبقل بل في الحلاوات والطيبات، فقبل ذلك منه، فقال الخراساني: ما أجد في بغداد أمن علي منك، فقال الجنيد: ولا ينبغي أن يقبل إلا من مثلك.
الثاني: أن يكون للثواب المجرد وذلك صدقة أو زكاة، فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق للزكاة؟ فإن اشتبه عليه فهو محل شبهة، وقد ذكرنا تفصيل ذلك كتاب أسرار الزكاة. وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه، فإن كان مقارفاً لمعصية في السر يعلم أن المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه، فهذا حرام أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوي ولم يكن، فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه.
الثالث: أن يكون غرضه السمعة والرياء والشهرة، فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا يقبله، إذ يكون معيناً له على غرضه الفاسد.
وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول: لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخاراً به لأخذت وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال: إنما أراد صلتهم إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم.
وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر: أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مستغن عنه، فإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له الأخذ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما المعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله إليه" وفي لفظ آخر: " فلا يرده ".
وقال بعض العلماء: من أعطي ولم يأخذ سأل ولم يعطَ.
وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئاً فرده مرة، فقال له السري: يا أحمد، احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ، فقال له أحمد: أعد علي ما قلت! فأعاده، فقال أحمد: ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر، فاحبسه لي عندك، فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي وقد قال بعض العلماء: يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع أو دخول في شبهة أو غيره؛ فأما إذا كان ما أتاه زائداً على حاجته فلا يخلو: إما أن يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من الرفق والسخاء، فإن كان مشغولاً بنفسه فلا وجه لأخذه وإمساكه إن كان طالباً طريق الآخرة، فإن ذلك محض إتباع الهوى، وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داعٍ إليه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ثم له مقامان: أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في السر، أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر، وهذا مقام الصديقين؛ وهو شاق على النفس لا يطيقه إلا من اطمأنت نفسه بالرياضة.
والثاني أن يترك ولا يأخذ ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج منه، أو يأخذ ويوصل إلى من هو أحوج منه فيفعل كليهما في السر أو كليهما في العلانية؛ وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار الأخذ أو إخفاؤه؟ في كتاب أسرار الزكاة مع جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه. وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله، فإنما كان لاستغنائه عنه، إذ كان عنده قوت شهر ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره؛ فإن في ذلك آفات وأخطاراً، والورع يكون حذراً من مظان الآفات إذا لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه.
وقال بعض المجاورين بمكة: كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله، فسمعت فقيراً قد فرغ من طوافه وهو يقول بصوت خفي: أنا جائع كما ترى عريان كما ترى، فما ترى يا من يرى ولا يُرى، فنظرت فإذا عليه خلقان لا تكاد تواريه، فقلت في نفسي: لا أجد لدراهمي موضعاً أحسن من هذا؛ فحملتها إليه، فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم وقال: أربعة ثمن مئزرين، ودرهم أنفقه ثلاثة فلا حاجة بي إلى الباقي فرده. قال: فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان، فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إلي فأخذ بيدي فأطافني معه أسبوعاً كل شوطاً منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين: منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر، ولم يظهر ذلك للناس، فقال: هذا كله قد أعطانيه فزهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق لأن هذه أثقال وفتنة، وذلك للعباد فيه رحمة ونعمة، والمقصود من هذا: أن الزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء وفتنة لينظر الله إليك ماذا تعمل فيه، وقدر الحاجة يأتيك رفقاً بك، فلا تغفل عن الفرق بين الرفق والابتلاء.
قال الله تعالى: " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ".
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا حق لابن آدم إلا في ثلاث: طعام يقيم صلبه، وثوب يواري عورته، وبيت يكنه، فما زاد فهو حساب".
فإذن أنت في أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب، وفيما زاد عليه أن لم تعصر الله متعرض للحساب، وإن عصيت الله فأنت متعرض للعقاب.
ومن الاختبار أيضاً: أن تعزم على ترك لذة من اللذات تقرباً إلى الله تعالى وكسراً لصفة النفس فتأتيك عفواً صفواً لتمتحن بها قوة عقلك، فالأولى الامتناع عنها فإن النفس إذا رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها ولا يمكن قهرها، فرد ذلك مهم وهو الزهد، فإن أخذتها وصرفته إلى محتاج فهو غاية الزهد، ولا يقدر عليه إلا الصديقون: وأما إذا كانت حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء، وبادر به إلى الصرف إليهم ولا تدخره، إن إمساكه ولو ليلة واحدة فيه فتنة واختبار، فربما يحلو في قلبك فتمسكه فيكون فتنة عليك، وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة إلى التوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب وذلك هو الهلاك. ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة، فإن رزقه الله من حلال قضاه. وغن مات قبل القضاء قضاه الله تعالى عنه وأرضى غرماءه، وذلك بشرط أن يكون مكشوف الحال عند من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده ليقدم على إقراضه على بصيرة، ودين مثل هذا الرجل واجب أن يقضى من مال بيت المال ومن الزكاة، وقد قال تعالى: " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله " قيل معناه: ليبع أحد ثوبيه. وقيل معناه: فليستقرض بجاهه، فذلك مما آتاه الله وقال بعضهم: إن لله تعالى عباداً ينفقون على قدر بضائعهم، ولله عباد ينفقون على قدر حسن الظن بالله تعالى.
ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف: الأقوياء، والأسخياء، والأغنياء. فقيل: من هؤلاء؟ فقال: أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله تعالى، وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى، وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى.
فإذن مهما وجدت هذه الشروط فيه وفي المال وفي المعطي فليأخذه، وينبغي أن يرى ما يأخذه من الله لا من المعطي؛ لأن المعطي واسطة قد سخر للعطاء؛ وهو مضطر إليه بما سلط عليه من الدواعي والإرادات والاعتقادات وقد حكي أن بعض الناس دعا شقيقاً في خمسين من أصحابه، فوضع الرجل مائدة حسنة، فلما قعد قال لأصحابه: إن هذا الرجل يقول: من لم يرن صنعت هذا الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام، فقاموا كلهم وخرجوا إلا شاباً منهم كان دونهم في الدرجة، فقال صاحب المنزل لشقيق: ما قصدت بهذا؟ قال أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم.
وقال موسى عليه السلام: يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوماً ويعشيني هذا ليلة، فأوحى الله تعالى إليه: هكذا أصنع بأوليائي، أجري أرزاقهم على أيدي البطالين من عبادي ليؤجروا فيهم. فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث أنه مسخر مأجور من الله تعالى، نسأل الله حسن التوفيق لما يرضاه.

[align=center]بيان تحريم السؤال من غير ضرورة
وآداب الفقير المضطر فيه [/align]


اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات، وورد فيه أيضاً ما يدل على الرخصة إذ قال صلى الله عليه وسلم: " للسائل حق ولو جاء على فرس".
وفي الحديث: " ردوا السائل ولو بظلف محرق". ولو كان السؤال حراماً مطلقاً لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة، فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة، فإن كان عنها بد فهو حرام، وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده، فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى، وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة.
الثاني: أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله، بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة، وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول.
الثالث: أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً، لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه، فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ، وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء، ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه، وكلاهما مؤذيان، والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة، ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله صلى الله عليه وسلم: " مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها" فانظر كيف سماها فاحشة، ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة وهو لا يجد غيره، وقال صلى الله عليه وسلم: " من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم" " ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه لحم " وفي لفظ آخر " كانت مسألته خدوشاً وكدوحاً في وجهه" وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد. وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال لهم كلمة خفية " ولا تسألوا الناس شيئاً".
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر كثيراً بالتعفف عن السؤال ويقول: " من سألنا أعطيناه؛ ومن استغنى أغناه الله، ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا".
وقال صلى الله عليه وسلم: " استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير " قالوا: ومنك يا رسول الله؟ قال: " ومني" وسمع عمر رضي الله عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه: عش الرجل، فعشاه ثم سمعه ثانياً يسأل فقال: ألم أقل لك عش الرجل؟ قال: قد عشيته، فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزاً فقال: لست سائلاً ولكنك تاجر، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة وقال: لا تعد. ولولا أن سؤاله كان حراماً لما ضربه بالدرة ولا أخذ مخلاته، ولعل الفقيه الضعيف المنة الضيق الحوصلة يستبعد هذا من فعل عمر ويقول: أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير، وأما أخذه ماله فهو مصادرة والشرع لم يرد بالعقوبة بأخذ المال فكيف استجازه؟ وهو استبعاد مصدره القصور في الفقه، فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده؟ أفترى أنه لم يعلم أن المصادرة بالمال غير جائزة أو علم ذلك ولكن أقدم عليه غضباً في معصية الله وحاشاه، أو أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله، وهيهات فإذن ذلك أيضاً معصية، بل الفقه الذي لاح له فيه أنه رآه مستغنياً عن السؤال، وعلم أن من أعطاه شيئاً فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج، وقد كان كاذباً فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه، إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم، فبقي مالاً لا مالك له، فوجب صرفه إلى المصالح، وإبل الصدقة وعلفها من المصالح، ويتنزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذباً كأخذ العلوي بقوله إني علوي وهو كاذب. فإنه لا يملك ما يأخذه، كأخذ الصوفي الصالح وهو في الباطن مقارف لمعصية لو عرفها المعطي لما أعطاه - وقد ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه، فاستدل بفعل عمر رضي الله عنه على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء، وقد قررناه في مواضع، ولا تستدل بغفلتك عن هذا الفقه على بطلان فعل عمر.
فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة، فاعلم أن الشيء إما أن يكون مضطراً إليه، أو محتاجاً إليه حاجة مهمة أو خفيفة، أو مستغنى عنه؛ فهذه أربعة أحوال: أما المضطر إليه فهو سؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتاً أو مرضاً وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه، وهو مباح مهما وجدت بقة الشروط في المسؤول بكونه مباحاً، والمسؤول منه بكونه راضياً في الباطن، وفي السائل بكونه عاجزاً عن الكسب، فإن القادر على الكسب وهو يطال له السؤال إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته، وكل من له خط فهو قادر على الكسب بالوراقة.
وأما المستغني فهو الذي يطلب شيئاً وعنده مثله وأمثاله، فسؤاله حرام قطعاً، وهذان طرفان واضحان.
وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله ولكن لا يخلو عن خوف، وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذياً لا ينتهي إلى حد الضرورة، وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة، فهذا أيضاً ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضاً حاجة محققة ولكن الصبر عنه أولى وهو بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروهاً مهما صدق في السؤال وقال ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذىً أطيقه ولكن يشق علي، فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى.
وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤال قميصاً ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس، وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز، وكمن يسأل الكراء لفرس في الطريق وهو واجد كراء الحمار، أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة، فهذا ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام، وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسؤول فهو حرام، لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة فإن قلت: فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات؟ فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج، ولكن يقول: أنا مستغن بما أملكه ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس، فيخرج به عن حد الشكوى، وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله، أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك، فإن الذل لازم للمنة لا محالة. وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصاً بالسؤال بعينه بل يلقي الكلام عرضاً بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة، وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم يبذل لكان يلام، فهذا إيذاء، فإنه ربما يبذل خوفاً من الملامة، ويكون الأجب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة، وأما إذا كان يسأل شخصاً معيناً فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضاً يبقى له سبيلاً إلى التغافل إن أراد، فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذٍ به، وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه، فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي.
فإن قلت: فإذا أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة؟ فأقول: ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأئمة، وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة، إذا لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء وخوف الملام، وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء، ولا يجوز أن يقال هو في الظاهر قد رضي به وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" فإن هذه الضرورة القضاء في فصل الخصومات، إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن وقرائن الأحوال، فاضطروا إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب، ولكن الضرورة دعت إليه، وهذا سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى، والحاكم فيه أحكم الحاكمين، والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك وإن أفتوك وأفتوك، فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة، ومفتي القلوب هم علماء الآخرة، وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة، كما أن بفتوى الفقيه النجاة من سطوة سلطان الدنيا، فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه، فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى عن عهدته، فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته، فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى.
فإن قلت: فهذا أمر باطن يعسر الإطلاع عليه، فكيف السبيل إلى الخلاص منها فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضياً؟ فأقول: لهذا ترك المتقون السؤال رأساً فما كانوا يأخذون من أحد شيئاً أصلاً فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلاً إلا من السري رحمة الله عليهما وقال: لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده وأنا أعينه على ما يحب، وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا، لأن الأذى إنما يحل بضرورة: وهو أن يكون السائل مشرفاً على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى، فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة، فكان الامتناع طريق الورعين، ومن أرباب القلوب من كان واثقاً ببصيرته في الإطلاع على قرائن الأحوال، فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض، ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه، ومنهم من كان يأخذ مما يعطي بعضاً ويرد بعضاً، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكبش والسمن والأقط، وكان هذا يأتيهم من غير سؤال، فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة، ولكن قد تكون رغبته طمعاً في جاه أو طلباً للرياء والسمعة فكانوا يحترزون من ذلك، فأما السؤال فقد امتنعوا عنه رأساً إلا في موضعين :
أحدهما الضرورة فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة: سليمان، وموسى، والخضر عليهم السلام. ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم.
والثاني: السؤال من الأصدقاء والإخوان فقد كانوا يأخذون ما لهم بغير سؤال واستئذان، لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان، وقد كانوا وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم، فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال، وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسؤول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لابتدأك دون السؤال، فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك، فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا، ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن، وحالة لا يشك في الكراهة، ويعلم ذلك بقرينة الأحوال، فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق، وفي الثانية سحت، ويتردد بين الحالتين

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 7, 8, 9, 10, 11, 12  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 34 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط