موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 10, 2006 7:20 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب ذم الغضب والحقد والحسد
وهو الكتاب الخامس من ربع المهلكات
من كتاب إحياء علوم الدين [/align]


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

الحمد لله الذي لا يتكل على عفوه ورحمته إلا الراجون، ولا يحذر سوء غضبه وسطوته إلا الخائفون، الذي استدرج عباده من حيث لا يعلمون، وسلط عليهم الشهوات وأمرهم بترك ما يشتهون، وابتلاهم بالغضب وكلفهم كظم الغيظ فيما يغضبون، ثم حفهم بالمكاره واللذات وأملى لهم لينظر كيف يعملون، وامتحن بهم حبهم ليعلم صدقهم فيما يدعون، وعرفهم أنه لا يخفى عليه شيء مما يسرون وما يعلنون، وحذرهم أن يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون فقال "ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون" والصلاة والسلام على محمد رسوله الذي يسير تحت لوائه النبيون، وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين، والسادة المرضيين، صلاة يوازي عددها عدد ما كان من خلق الله وما سيكون، ويحظى ببركتها الأولون والآخرون، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد فإن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وإنها لمستكنة في طي الفؤاد. استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد، وقد انكشف للناظرين بنور اليقين، أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال "خلقتني من نار وخلقته من طين" فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاستعار، والحركة والاضطراب، ومن نتائج الغضب الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك وفسد من فسد، ومفيضهما مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد، وإذا كان الحقد والحسد والغضب، مما يسوق العبد إلى مواطن العطب، فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه! ليحذر ذلك ويتقيه، ويمطيه عن القلب إن كان وينفيه، ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، ومن عرفه فالمعرفة لا تكفيه، ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.
ونحن نذكر ذم الغضب وآفات الحقد والحسد في هذا الكتاب، ويجمعهما بيان ذم الغضب، ثم بيان حقيقة الغضب ثم بيان أن الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا؟ ثم بيان الأسباب المهيجة للغضب، ثم بيان علاج الغضب بعد هيجانه، ثم بيان فضيلة كظم الغيظ، ثم بيان فضيلة الحلم، ثم بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام، ثم القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق، ثم القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته، ثم بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه، ثم بيان الدواء الذي به ينفى مرض الحسد عن القلب، ثم بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب وبالله التوفيق.

[align=center]بيان ذم الغضب[/align]

قال الله تعالى "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" الآية. ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة وروى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بعمل وأقلل، قال "لا تغضب" ثم أعاد عليه فقال "لا تغضب وقال ابن عمر: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قل لي قولاً وأقلله لعلي أعقله، فقال "لا تغضب" فأعدت عليه مرتين كل ذلك يرجع إلى "لا تغضب وعن عبد الله بن عمرو: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينقذني من غضب الله؟ قال "لا تغضب وقال ابن مسعود قال النبي صلى اللهعليه وسلم "ما تعدون الصرعة فيكم قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال "ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وقال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كف غضبه ستر الله عورته وقال سليمان ابن داود عليهما السلام: يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم. وعن عكرمة في قوله تعالى "وسيداً وحصوراً" قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب. وقال أبو الدرداء: قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "لا تغضب وقال يحيى لعيسى عليهما السلام: لا تغضب، قال: لا أستطيع أن لا أغضب إنما أنا بشر، قال: لا تقتن مالاً، قال: هذا عسى. وقال صلى الله عليه وسلم "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وقال صلى الله عليه وسلم "ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم وقال له رجل: أي شيء أشد علي قال "غضب الله" قال: فما يبعدني عن غضب الله؟ قال "لا تغضب .
الآثار: قال الحسن: يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب وثبة فتقع في النار. وعن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً أزداد به إيماناً ويقيناً، قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة. وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد ولا تكن جباراً عنيداً. وعن وهب بن منبه. أن راهباً كان في صومعته فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع، فجاءه حتى ناداه فقال له: افتح، فلم يجبه فقال: افتح فإني إن ذهبت ندمت، فلم يلتفت إليه فقال إني أنا المسيح، قال الراهب: وإن كنت المسيح فما أصنع بك! أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك؟ فقال: إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع؟ فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك، فقال: ما أريد أن أسألك عن شيء، قال: فولى مدبراً، فقال الراهب: ألا تسمع، قال: بلى، أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فقال: الحدة إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة. وقال خيثمة: الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه؟ وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه؟ وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وقال بعض الأنصار: رأس الحمق الحدة وقائده الغضب، ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم، والحلم زين ومنفعهة، والجهل شين ومضرة، والسكوت عن جواب الأحمق جوابه. وقال مجاهد: قال إبليس ما أعجزني بنود آدم فلن يعجزوني في ثلاث: إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم، ونبخله بما في يديه ونمنيه بما لا يقدر عليه. وقيل لحكيم: ما أملك فلاناً لنفسه! قال: إذاً لا تذله الشهوة ولا يصرعه الهوى ولا يغلبه الغضب. وقال بعضهم: إياك والغضب فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار. وقيل: اتقوا الغضب فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل. وقال عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإن سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطاً. وقال علي بن يزيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول فأطرق عمر زماناً طويلاً ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً؟ وقال بعضهم لابنه: يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم، فإن كان للدنيا كان دعاء ومكراً، وإن كان للآخرة كان حلماً وعلماً، فقد قيل: الغضب عدو العقل والغضب غول العقل. وكان عمر رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: أفلح منكم من حفظ من الطمع والهوى والغضب. وقال بعضهم: من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار. وقال الحسن: من علامات المسلم قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وعلم في حلم وكيس في رفق وإعطاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وإحسان في قدرة وتحمل في رفاقة وصبر في شدة، لا يغلبه الغضب ولا تجمح به الحمية ولا تغلبه شهوة ولا تفضحه بطنه ولا يستخفه حرصه ولا تقصر به نيته، فينصر المظلوم ويرحم الضعيف ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر، يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل. نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء. وقيل لعبد الله بن المبارك أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. فقال اترك الغضب. وقال نبي من الأنبياء لمن تبعه: من يتكفل لي أن لا يغضب فيكون معي في درجتي ويكون بعدي خليفتي؟ فقال شاب من القوم: أنا، ثم أعاد عليه فقال الشاب: أنا أوفي به، فلما مات كان في منزلته بعده وهو ذو الكفل، سمي به لأنه تكفل بالغضب ووفى به. وقال وهب بن منبه: للكفر أربعة أركان؛ الغضب، والشهوة، والخرق، والطمع.

[align=center]بيان حقيقة الغضب[/align]

اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضاً للفساد والموتان، بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه؛ أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه.

أما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها، فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء؛ كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشر لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها. وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاثة في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.
أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليأما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها، فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء؛ كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.
وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشر لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها. وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.
وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاثة في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.
أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة والحمية فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" الآية وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.
هم" الآية وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.
وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر. وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية: فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار كما قال صلى الله عليه وسلم. وإنما برودة المزاج تطفئه وتكسر سورته. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية، فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد مراً! ومعناه لا عقل في ولا حلم. ثم يذكره في معرض الفخر بجهله. فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب وحب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب. ومهما اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة، فإذا وعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضباً، وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب، فإن معدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار. فاسود جوه وحمى مستقره وامتلأ بالدخان جوانيه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق: فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ. وربما تقوى نار الغضب فتفني الرطوبة التي بها حياة القلب، فيموت صاحبه غيظاً كما تقوى النار في الكهف فينشق وتنهد أعاليه على أسفله، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه، فهكذا حال القلب عند الغضب. وبالحقيقة فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسن حالاً وأرجى سلامة من النفس المضطربة غيظاً؛ إذ في السفينة من يحتال لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها، وأما القلب فهو صاحب السفينة وقد سقطت حيلته إذ أعماه الغضب وأصمه. ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة، ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس الثمرة بالمثمرة فهذا أثره في الجسد.
وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ.
أما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ويطلم نفسه، وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير، وربما يسقط سريعاً لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ويعتريه مثل الغشية، وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة مثلاً على الأرض وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها. ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول: إلى متى منك هذا يا كيت وكيت؟ كأنه يخاطب عاقلاً، حتى ربما رفسته فيرفس الدابة ويقابلها بذلك.
وأما أثرة في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح، فهذه ثمرة الغضب المفرط.
وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم، إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرام وهو خنوثة قال صلى الله عليه وسلم "إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وأن الله أغير مني وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب. ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب. ولذلكقيل كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها. ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات وقد قال صلى الله عليه وسلم "خير أمتي أحداؤها يعني في الدين وقال تعالى "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" بل من فقد الغضب عجز عن رياضة نفسه، إذ لا تتم الرياضة إلا بتسليط الغضب على الشهوة، حتى يغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة. ففقد الغضب مذموم، وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال "خير الأمور أوساطها فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين؛ فهو الصراط المستقيم وهو أرق من الشعرة وأحد من السيف؛ فأن عجز عنه فليطلب القرب منه قال تعالى "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله؛ ولكن بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض. فهذه حقيقة الغضب ودرجاته نسأله الله حسن التوفيق لما يرضيه إنه على ما يشاء قدير.

[align=center]بيان الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا[/align]

اعلم أنه ظن ظانون أنه يتصور محو الغضب بالكلية، وزعموا أن الرياضة إليه تتوجه وإياه تقصد، وظن آخرون أنه أصل لا يقبل العلاج. وهذا رأي من يظن أن الخلق كالخلق وكلاهما لا يقبل التغيير، وكلا الرأيين ضعيف. بل الحق فيه ما نذكره وهو أنه ما بقي الإنسان يحب شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب، وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر فلا بد من أن يحب ما يوافقه ويكره ما يخالفه، والغضب يتبع ذلك فإنه مهما أخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قصد بمكروه غضب لا محالة.
إلا أن ما يحبه الإنسان ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول: ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت والمسكن والملبس وصحة البدن، فمن قصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب، وكذلك إذا أخذ منه ثوبه الذي يستر عورته، وكذلك إذا أخرج من داره التي هي مسكنه أو أريق ماؤه الذي لعطشه، فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها ومن غيظ على من يتعرض لها.
القسم الثاني: ما ليس ضرورياً لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير والغلمان والدواب، فإن هذه الأمور صارت محبوبة بالعادة والجهل بمقاصد الأمور، حتى صار الذهب والفضة محبوبين في أنفسهما فيكنزان، ويغضب على من يسرقهما وإن كان مستغنياً عنهما في القوت، فهذا الجنس مما يتصور أن ينفك الإنسان عن أصل الغيظ عليه، فإذا كانت له دار زائدة على مسكنه فهدمه ظالم فيجوز أن لا يغضب، إذ يجوز أن يكون بصيراً بأمر الدنيا فيزهد في الزيادة على الحاجة فلا يغضب بأخذها، فإنه لا يحب وجودها ولو أحب وجودها لغضب على الضرورة بأخذها وأكثر غضب الناس على ما هو غير ضروري كالجاه والصيت والتصدر في المجالس والمباهاة في العلم، فمن غلب هذا الحب عليه فلا محالة يغضب إذا زاحمه مزاحم على التصدر في المحافل، ومن لا يحب ذلك فلا يبالي ولو جلس في صف النعال، فلا يغضب إذا جلس غيره فوقه. وهذه العادات الرديئة هي التي أكثرت محاب الإنسان ومكارهه فأكثرت غضبه، وكلما كانت الإرادات والشهوات أكثر كان صاحبها أحط رتبة وأنقص، لأن الحاجة صفة نقص فمهما كثرت كثر النقص، والجاهل أبدا جهده في أن يزيد في حاجاته وفي شهواته، وهو لا يدري أنه مستكثر من أسباب الغم والحزن، حتى ينتى بعض الجهال بالعادات الرديئة ومخالطة قرناء السوء إلى أن يغضب لو قيل له: إنك لا تحسن اللعب بالطيور واللعب بالشطرنج ولا تقدر على شرب الخمر الكثير وتناول الطعام الكثير، وما يجري مجراه من الرذائل، فالغضب على هذا الجنس ليس بضروري لأن حبه ليس بضروري.
القسم الثالث؛ ما يكون ضرورياً في حق بعض الناس دون البعض، كالكتاب مثلاً في حق العالم لأنه مضطر إليه فيحبه فيغضب على من يحرقه ويغرقه، وكذلك أدوات الصناعات في حق المكتسب الذي لا يمكنه التوصل إلى القوت إلا بها، فإنما هو وسيلة إلى الضروري، والمحبوب يصير ضرورياً ومحبوباً، وهذا يختلف بالأشخاص وإنما الحب الضروري ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ومن كان بصيراً بحقائق الأمور وسلم له هذه الثلاثة يتصور أن لا يغضب في غيرها فهذه ثلاثة أقسام فلنذكر غاية الرياضة في كل واحد منها.
أما القسم الأول: فليست الرياضة فيه لينعدم غيظ القلب ولكن لكي يقدر على أن لا يطيع الغضب ولا يستعمله في الظالم إلا على حد يستحبه الشرع ويستحسنه العقل، وذلك ممكن بالمجاهدة وتكلف الحلم والاحتمال مدة، حتى يصير الحلم والاحتمال خلقاً راسخاً فأما قمع أصل الغيظ من القلب فذلك ليس مقتضى الطبع وهو غير ممكن نعم يمكن كسر سورته وتضعيفه حتى لا يشتد هيجان الغيظ في الباطن، وينتهي ضعفه إلى أن لا يظهر أثره في الوجه، ولكن ذلك شديد جداً وهذا حكم القسم الثالث أيضاً لأن ما صار ضرورياً في حق شخص فلا يمنعه من الغيظ استغناء غيره عنه. فالرياضة فيبه تمنع العمل به وتضعف هجيانه في الباطن حتى لا يشتد التألم بالصبر عليه.
وأما القسم الثاني: فيمكن التوصل بالرياضة إلى الانفكاك عن الغضب عليه إذ يمكن إخراج حبه من القلب، وذلك بأن يعلم الإنسان أن وطنه القبر ومستقره الآخرة وأن الدنيا معبر يعبر عليها ويتزود منها قدر الضرورة، وما وراء ذلك عليه وبال في وطنه ومستقره فيزهد في الدنيا ويمحو حبها عن قلبه، ولو كان للإنسان كلب لا يحبه لا يغضب إذا ضربه غيره، فالغضب تبع للحب. فالرياضة في هذا تنتهي إلى قمع أصل الغضب وهو نادر جداً، وقد تنتهي إلى المنع من استعمال الغضب والعمل بموجبه وهو أهون.
فإن قلت: الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب، فمن له شاة مثلاً وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد وإن كان يحصل فيه كراهة، وليس من ضرورة كل كراهة غضب، فإن الإنسان يتألم بالفصد والحجامة ولا يغضب على الفصاد والحجام فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه فلا يغضب على أحد من خلقه؛ إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب، ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم، فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها، إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة، وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه وجرحه وقتله، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه، فيقول هذا على هذا الوجهغير محال، ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف، تغلب في أحوال مختلفة ولا تدوم، ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعاً طبيعياً لا يندفع عنه، ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يغضب حتى تحمر وجنتاه حتى قال "اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وقال عبد اله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا فقال "اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق" وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب، ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق، أي لا أعمل بموجب الغضب. وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم "مالك؟ جاءك شيطانك" فقال: وما لك شيطان؟ قال "بلى ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير ولم يقل: لا شيطان لي، وأراد شيطان الغضب لكن قال: لا يحملني على الشر. وقال علي رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له فكان يغضب على الحق، وإن كان غضبه لله فهو التفات إلى الوسائط على الجملة، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته وحاجته التي لا بد له في دينه منها فإنما غضب لله، فلا يمكن الانفكاك عنه. نعم قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولاً بضروري أهم منه، فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه.
وهذا كما أن سلمان لما شتم قال: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول. فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم. وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال: يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال: ما ستر الله عنك أكثر؛ فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان، إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان، وذلك لجلالة قدره. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: ما عرفني غيرك! فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء، ومنكراً على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه فلم يغضب لما نسب إليه. وسب رجل الشعبي فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
فهذه الأقاويل دالة في الظاهر على أنهم لم يغضبوا لاشتغال قلوبهم بمهمات دينهم، ويحتمل أن يكون ذلك قد أثر في قلوبهم ولكنهم لم يشتغلوا به واشتغلوا بما كان هو الأغلب على قلوبهم، فإذاً اشتغال القلب ببعض المهمات لا يبعد أن يمنع هيجان الغضب عند فوات بعض المحاب؛ فإذاً يتصور فقد الغيظ إما باشتعال القلب بمهم، أو بغلبة نظر التوحيد، أو بسبب ثالث: وهو أن يعلم أن الله يحب منه أن لا يغتاط فيطفئ شدة حبه لله غيظه، وذلك غير محال في أحوال نادرة. وقد عرفت بهذا أن الطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا عن القلب وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها -كما سيأتي في كتاب ذم الدنيا- ومن أخرج حب المزايا عن القلب تخلص من أكثر أسباب الغضب، وما لا يمكن محوره يمكن كسره وتضعيفه فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه إنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده.

[align=center]بيان الأسباب المهيجة للغضب[/align]

قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بد من معرفة أسباب الغضب. وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام: أي شيء أشد؟ قال: غضب الله، قال فما يقرب من غضب الله، قال أن تغضب، قال: فما يبدي الغضب وما ينبته؟ قال عيسى: الكبر والفخر والتعزز والحمية.
والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهور والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها.
فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك -كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب- وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد؛ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل؛ والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك، فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة؟ وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك. وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب. وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة.
وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضاً عن الغضب الذي يتولد منها. ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة، وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه. وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه، وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها، وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح، والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، ولبخله إذا فاتته الحبة، حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه. بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ، فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.

[align=center]بيان علاج الغضب بعد هيجانه[/align]

ما ذكرناه هو حسم لمواد الغضب وقطع لأسبابه حتى لا يهيج، فإذا جرى سبب هيجه فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم، وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل.
أما العلم فهو ستة أمور؛ الأول: أن يتفكر في الأخبار التي سنوردها في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثوابه، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام وينطفئ عنه غيظه، قال مالك بن أوس ابن الحدثان: غضب عمر على رجل وأمر بضربه فقلت يا أمير المؤمنين "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان عمر يقول "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان يتأمل في الآية وكان وقافاً عند كتاب الله مهما تلي عليه كثير التدبر فيه فتدبر فيه وخلى الرجل. وأمر عمر بن عبد العزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى "والكاظمين الغيظ" فقال لغلامه خل عنه.
الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو. فقد قال تعالى في بعض الكتب القديمة: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيفاً إلى حاجة فأبطأ عليه فلما جاء قال "لولا القصاص لأوجعتك أي القصاص في القيامة. وقيل ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها: ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة، فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه.
الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو عن المصائب فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة. وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه، لأنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض، غلا أن يكون محذوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه.
الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب، ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي، ومشابهة الحليم الهادئ التارك للغضب للأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء، ويخير نفسه بين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأرذال الناس وبين أن يتشبه بالعلماء والأنبياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء بهؤلاء إن كان قد بقي معه مسكة من عقل.
الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الإنتقام ويمنعه من كظم الغيظ، ولا بد وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس! فيقول لنفسه: ما أعجبك! تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك؟ وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين؟ فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله، وذلك يعظمه عند الله، فما له وللناس؟ وذل من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله له انتقم الآن، أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا؟ فهذا وأمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه.
السادس: أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده، فكيف يقول مرادي أولى من مراد الله؟ ويوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه.
وأما العمل فإن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال عند الغيظ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال "يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن فيستحب أن تقول ذلك، فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً واضجع إن كنت جالساً واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك، واطلب بالجلوس والاضجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمره عينيه، فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فلينم، فإن لم يزل ذلك فليتوضاً بالماء البارد أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء: فقد قال صلى الله عليه وسلم "إذا غضب أحدكم فليوضأ بالماء فإنما الغضب من النار وفي وراية "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وإذا غضبت فاسكت وقال أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غضبه وقال أبو سعيد الخدري: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض" وكأن هذا إشارة إلى السجود وتمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب.
وروي أن عمر غضب يوماً فدعا بماء فاستنشق وقال: إن الغضب من الشيطان وهذا يذهب الغضب. وقال عروة ابن محمد: لما استعملت على اليمن قال لي أبي: أوليت؟ قلت: نعم، قال: فإذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك وإلى الأرض تحتك ثم عظم خالقهما. وروي أن أبا ذر قال لرجل: يا ابن الحمراء -في خصومة بينهما- فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا ذر بلغني أنك اليوم عيرت أخاك بأمه" فقال: نعم، فانطلق أبو ذر ليرضي صاحبه فسبقه الرجل فسلم عليه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل" ثم قال "إذا غضبت فإن كنت قائماً فاقعد وإن كنت قاعداً فاتكئ وإن كنت متكئاً فاضطجع وقال المعتمر بن سليمان: كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلاً وقال للأول: إذا غضبت فأعطني هذه، وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه، وقال للثالث: إذا ذهب غضبي فأعطني هذه، فاشتد غضبه يوماً فأعطى الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً، فسكن بعض غضبه، فأعطي الثانية فإذا فيها: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، فأعطي الثالثة فإذا فيها: خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك. أي لا تعطل الحدود. وغضب المهدي على رجل فقال شبيب: لا تغضب لله بأشد من غضبه لنفسه، فقال: خلوا سبيله.

[align=center]فضيلة كظم الغيظ[/align]

قال الله تعالى "والكاظمين الغيظ" وذكر ذلك في معرض المدح. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من غضبه كف الله عنه عذابه ومن اعتذر إلى ربه قبل الله عذره ومن خزن لسانه ستر الله عورته وقال صلى الله عليه وسلم "أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة وقال صلى الله عليه وسلم "من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا" وفي وراية "ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً وقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال صلى الله عليه وسلم "إن لجهنم باباً لا يدخله إلى من شفى غيظه بمعصية الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم "ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها عبد وما كظمها عبد إلا ملأ الله قلبه إيمانا وقال صلى الله عليه وسلم "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق ويخيره من أي الحور شاء .
الآثار: قال عمر رضي الله عنه: من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك. وقال أيوب: حلم ساعة يدفع شراً كثيراً. واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد، فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع. وقال رجل لعمر رضي الله عنه: والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه. فقال له رجل. يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول "خذ العفو أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فهذا من الجاهلين، فقال عمر: صدقت، فكأنما كانت ناراً فأطفئت. وقال محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله، إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. وجاء رجل إلى سلمان فقال: يا عبد الله أوصني، قال: لا تغضب، قال لا أقدر، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك.

[align=center]بيان فضيلة الحلم[/align]

اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتياداً فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفاً. قال صلى الله عليه وسلم "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه وأشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولاً وتكلفه كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم. وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فيغلب جهلكم حلمكم وأشار بهذا إلى أن التكبر والتجبر هو الذي يهيج الغضب ويمنع من الحلم واللين. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية وقال أبو هريرة "قال النبي صلى الله عليه وسلم "ابتغوا الرفعة عند الله. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال "تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك وقال صلى الله عليه وسلم "خمس من سنن المرسلين: الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر وقال علي كرم الله وجهه: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جباراً عنيداً ولا يملك إلا أهل بيته وقال أبو هريرة: إن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم، قال "إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك المل: يعني به الرمل. وقال رجل من المسلمين: اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها فأيما رجل أصاب من عرضي شيئاً فهو عليه صدقة فأوحى الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني قد غفرت له وقال صلى الله عليه وسلم "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم" قالوا: وما أبو ضمضم؟ قال "رجل ممن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول: اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني .
وقيل في قوله تعالى "ربانيين" أي حلماء علماء. وعن الحسن في قوله تعالى "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" قال حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال عطاء بن أبي رباح "يمشون على الأرض هوناً" أي حلماء. وقال ابن أبي حبيب في قوله عز وجل "وكهلا" قاله: الكهل منتهى الحلم. وقال مجاهد "وإذا مروا باللغو مروا كراما" أي إذا أوذوا صفحوا.
وروي أن ابن مسعود مر بلغو معرضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وهو الراوي قوله تعالى "وإذا مروا باللغو مروا كراما" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم لا يدركني ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم ولا يستحيون فيه من الحليم، قلوبهم قلوب العجم وألسنتهم ألسنة العرب وقال صلى الله عليه وسلم "ليليني منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق وروي أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم الأشج فأناخ راحلته ثم عقلها وطرح عنه ثوبين كانا عليه وأخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما. وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ما يصنع، ثم أقبل يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام "إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله "قال: ما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال "الحلم والأناة" فقال: خلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما؟ فقال: بل خلقان جبلك الله عليهما" فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الحليم الحي الغني المتعفف أبا العيال التقي ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الغبي وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله: تقوى تحجزه عن معاصي الله عز وجل. وحلم يكف به السفيه، وخلق يعيش به في الناس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فتقولون لهم إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل، فيقولون لهم ما كان فضلكم؟ فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذا جهل علينا حلمنا. فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .
الآثار: قال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم. وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى. وقال الحسن: اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم. وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر. وقال أبو الدرداء: أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه، إن عرفتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك، قالوا: كيف نصنع؟ قال: تقرضهم عن عرضك ليوم فقرك. وقال علي رضي الله عنه: إن أول ما عوض الحليم عن حلمه جهله وصبره وشهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم، وقال معاوية لعمرو بن الأهتم: أي الرجال أشجع؟ قال: من رد جهله بحلمه. قال: أي الرجال أسخى؟ قال: من بذل دنياه لصلاح دينه. وقال أنس بن مالك في قوله تعالى "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" إلى قوله "عظيم" هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذباً فغفر الله لك وإن كنت صادقاً فغفر الله لي. وقال بعضهم: شتمت فلاناً من أهل البصرة فحلم علي فاستعبدني بها زماناً. وقال معاوية لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ قال: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم. فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني فهو أفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه. وسب رجل ابن عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أشهد أنك من الفاسقين، فقال: ليس تقبل شهادتك. وعن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى مدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير وقال رجل لجعفر بن محمد إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي: إن تركك له ذل، فقال جعفر: إنما الذليل الظالم. وقال الخليل بن أحمد: كان يقال من أساء فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم ولكني أتحلم. وقال وهب بن منبه: من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم، ومن يجهل يغلب، ومن يعجل يخطئ، ومن يحرص على الشر لا يسلم، ومن لا يدع المراء يشتم، ومن لا يكره الشر يأثم، ومن يكره الشر يعصم، ومن يتبع وصية الله يحفظ، ومن يحذر الله يأمن، ومن يتول الله يمنع ومن لا يسأل الله يفتقر، ومن يأمن مكر الله يخذل، ومن يستعن بالله يظفر. وقال رجل لمالك بن دينار: بلغني أنك ذكرتني بسوء، قال، أنت إذن أكرم علي من نفسي إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي. وقال بعض العلماء الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به. وقال رجل لبعض الحكماء: والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك، فقال: معك يدخل لا معي. ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شراً فقال لهم خيراً فقيل له: إنهم يقولون شراً وأنت تقول خيراً؟ فقال: كل ينفق مما عنده. وقال لقمان: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة؛ لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه. ودخل على بعض الحكماء صديق له فقدم إليه طعاماً فخرجت امرأة الحكيم -وكانت سيئة الخلق- فرفعت المائدة وأقبلت على شتم الحكيم، فخرج الصديق مغضباً فتبعه الحكيم وقال له تذكر يوم كنا في منزلك نطعم فسقطت دجاجة على المائدة فأفسدت ما عليها فلم يغضب أحد منا؟ قال: نعم، قال فاحسب أن هذه مثل تلك الدجاجة؛ فسرى عن الرجل غضبه وانصرف وقال: صدق الحكيم، الحلم شفاء من كل ألم. وضرب رجل قدم حكيم فأوجعه فلم يغضب فقيل له في ذلك فقال: أقمته مقام حجر تعثرت به فذبحت الغضب. وقال محمود الوراق:



[poet font="Tahoma,4,purple,normal,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/12.gif" border="double,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الـجـرائم
وما الناس إلا واحـد مـن ثـلاثة شريف ومشروف ومثلي مقـام
فأما الذي فوق فأعـرف قـدره وأتبع فيه الحق والـحـق لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابتـه عـرضـي وإن لام لائم
وأما الذي مثل فإن زل أو هـفـا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكـم
[/poet]

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 11, 2006 8:36 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام[/align]

اعلم أن كل ظلم صدر من شخص فلا يجوز مقابلته بمثله، فلا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ولا مقابلة التجسس بالتجسس ولا السب بالسب. وكذلك سائر المعاصي. وإنما القصاص والغرامة على قدر ما ورد الشرع به وقد فصلناه في الفقه.
وأما السبب فلا يقال بمثله إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه وقال "المستبان ما قالا فهو على البادئ ما لم يعتد المظلوم" وقال "المستبان شيطانان يتهاتران وشتم رجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ساكت فلما ابتدأ ينتصر منه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: إنك كنت ساكتاً لما شتمني فلما تكلمت قمت قال "لأن الملك كان يجيب عنك فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان وقال قوم: تجوز المقابلة بما لا كذب فيه، وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقابلة التعيير بمثله نهي تنزيه، والأفضل تركه ولكنه لا يعصى به. والذي يرخص فيه أن تقول: من أنت؟ وهل أنت إلا من بني فلان؟ كما قال سعد لابن مسعود: وهل أنت إلا من بني هذيل؟ وقال ابن مسعود: وهل أنت إلا من بني أمية، ومثل قوله: يا أحمق، قال مطرف: كل الناس أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الناس أقل حماقة من بعض. وقال ابن عمر في حديث طويل: حتى ترى الناس كلهم حمقى في ذات الله تعالى وكذلك قوله يا جاهل، إذ ما من أحد إلا وفيه جهل؛ فقد آذاه بما ليس بكذب. وكذلك قوله يا سيئ الخلق، يا صفيق الوجه يا ثلايا للإعراض، وكان ذلك فيه. وكذلك قوله: لو كان فيك حياء لما تكلمت، وما أحقرك في عيني بما فعلت، وأخزاك الله وانتقم منك.
فأما النميمة والغيبة والكذب وسب الوالدين فحرام بالاتفاق، لما روي أن كان بين خالد بن الوليد وسعد كلام، فذكر رجل خالداً عند سعد، فقال سعد: مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. يعني أن يأثم بعضنا في بعض، فلم يسمع السوء فكيف يجوز له أن يقوله؟
والدليل على جواز ما ليس بكذب ولا حرام كالنسبة إلى الزنا والفحش والسب: ما روت عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أرسلن إليه فاطمة، فجاءت فقالت: يا رسول الله أرسلني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فقال "يا بنية أتحبين ما أحب؟ قالت: نعم، قال "فأحبي هذه" فرجعت إليهن فأخبرتهن بذلك فقلن: ما أغنيت عنا شيئاً: فأرسلن زينب بنت جحش، قالت: وهي التي كانت تساميني في الحب فجاءت فقالت: بنت أبي بكر وبنت أبي بكر، فما زالت تذكرني وأنا ساكتة أنتظر أن يأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجواب فأذن لي، فسببتها حتى جف لساني فقال النبي صلى الله عليه وسلم "كلا إنها ابنة أبي بكر يعني أنك لا تقاومينها في الكلام قط وقولها: سببتها، ليس المراد به الفحش بل هو الجواب عن كلامها بالحق ومقابلتها بالصدق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم فأثبت للمظلوم انتصار إلى أن يعتدي. فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق. ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ولكن الأفضل تركه فإنه يجره إلى ما وراءه ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه، والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه، ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ولكن يعود سريعاً، ومنهم من يكف نفسه في الابتداء ولكن يحقد على الدوام. والناس في الغضب أربعة: فبعضهم كالحلفاء سريع الوقود سريع الخمود، وبعضهم كالغضا بطيء الوقود بطيء الخمود وبعضهم بطيء الوقود سريع الخمود وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة، وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود وهذا هو أشرهم. وفي الخبر "المؤمن سريع الغضب سريع الرضى فهذه بتلك وقال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان. وقد قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم بطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء؛ فتلك بتلك، ومنهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وإن خيرهم البطيء الغضب السريع الفيء وشرهم السريع الغضب البطيء الفيء ولما كان الغضب يهيج ويؤثر في كل إنسان وجب على السلطان أن لا يعاقب أحداً في حال غضبه، لأنه ربما يتعدى الواجب، ولأنه ربما يكون متغيظاً عليه فيكون متشفياً لغيظه ومريحاً نفسه من ألم الغيظ، فيكون صاحبه حظ نفسه، فينبغي أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه. ورأى عمر رضي الله عنه سكران فأراد أن يأخذه ويعزره فشتمه السكران فرجع عمر، فقيل له: يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته؟ قال: لأنه أغضبني ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي، ولم أحب أن أضرب مسلماً حمية لنفسي. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل أغضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك.


[align=center]القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق[/align]

اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى، وقد قال صلى الله عليه وسلم "المؤمن ليس بحقود فالحقد ثمرة الغضب.
والحقد يثمر ثمانية أمور "الأول" الحسد: وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين. وسيأتي ذمهإن شاء اللهتعالى. "الثاني" أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء. "الثالث" أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك. "الرابع" وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له. "الخامس" أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره. "السادس" أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه. "السابع" إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه. "الثامن" أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة. وكل ذلك حرام.
وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه، حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له، أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته. فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل وإن كان لا يعرضك لعقاب الله.
ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح -وكان قريبه- لكونه تكلم في واقعة الإفك نزل قوله تعالى "ولا يأتل أولوا الفضل منكم" إلى قوله "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" فقال أبو بكر: نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه .
والأولى أن يبقى على ما كان عليه، فإن أمكنه أن يزيد في الإحسان مجاهدة للنفس وإرغاماً للشيطان فذلك مقام الصديقين وهو من فضائل أعمال المقربين. فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة "أحدها" أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل. "الثاني" أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل. "الثالث" أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور، وهو اختيار الأرذال، والثاني: هو اختيار الصديقين، والأول: هو منتهى درجات الصالحين. ولنذكر الآن فضيلة العفو والإحسان.


[align=center]فضيلة العفو والإحسان[/align]

اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقاً فيسقطه ويبرئ عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم وكظم الغيظ؛ فلذلك أفردناه. قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وقال الله تعالى "وأن تعفوا أقرب للتقوى" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث والذي نفسي بيده لو كنت حلافاً لحلفت عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر وقال صلى الله عليه وسلم "التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله وقال عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً وقال عقبة "لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فابتدرته فأخذت بيده أو بدرني فأخذ بيدي فقال "يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وقال صلى الله عليه وسلم "قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أعز عليك؟ قال الذي إذا قدر عفا وكذلك سئل أبو الدرداء عن أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر فاعفوا يعزكم الله وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو مظلمة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس وأراد أن يأخذ له بمظلمته، فقال له صلى الله عليه وسلم "إن المظلومين هم المفلحون يوم القيامة فأبى أن يأخذها حين سمع الحديث: وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ثلاثة أصوات: يا معشر الموحدين إن الله عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال "ما تقولون وما تظنون؟ فقالوا: نقول أخ وابن عم حليم رحيم -قالوا ثلاثاً- فقال صلى الله عليه وسلم "أقول كما قال يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام. وعن سهيل بن عمرو قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله فقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم قال "يا معشر قريش ما تقولون وما تظنون؟" قال: قلت يا رسول الله نقول خيراً ونظن خيراً أخ كريم وابن عم رحيم وقد قدرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة، قيل ومن ذا الذي له على الله أجر؟ قال "العافون عن الناس، فيقوم كذا وكذا ألفاً فيدخلونها بغير حساب وقال ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه والله عفو يحب العفو ثم قرأ "وليعفوا أو ليصفحوا" الآية وقال جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء: من أدى ديناً خفياً وقرأ في دبر كل صلاة "قل هو الله أحد" عشر مرات وعفا عن قاتله" قال أبو بكر: أو إحداهن يا رسول الله قال "أو إحداهن .
الآثار: قال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. وهذا إحسان وراء العفو لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب. وقال بعضهم: إذا أراد الله أن يتحف عبداً قيض له من يظلمه. ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر: إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها. وقال يزيد بن ميسرة: إن ظللت تدعو على من ظلمك فإن الله تعالى يقول إن آخر يدعو عليك بأنك ظلمته فإن شئت استجبنا لك وأجبنا عليك وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فيسعكما عفوي وقال مسلم بن يسار لرجل دعا على ظالمه: كل الظالم إلى ظلمه فإنه أسرع إليه من دعائك عليه غلا أن يتداركه بعمل وقمن أن لا يفعل. وعن ابن عمر عن أبي بكر أنه قال: بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس. وعن هشام بن محمد قال أتى النعمان بن المنذر برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه وقال:

[poet font="Andalus,5,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="double,4,purple" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب بفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلهـا
إلا ليعرف حلمها ويخاف شدة دخـلـهـا
[/poet]

وعن مبارك بن فضالة قال: وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر، قال: فكنت عنده إذا أتى برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر، فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسن؟ قال: وما هو؟ قلت سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، فقال: والله لقد سمعته من الحسن؟ فقلت والله لسمعته منه، فقال: خلينا عنه. وقال معاوية: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال. وروي أن راهباً دخل على هشام بن عبد الملك فقال للراهب: أرأيت ذا القرنين أكان نبياً؟ فقال. لا، ولكنه إنما أعطى ما أعطى بأربع خصال كن فيه: كان إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا حدث صدق، ولا يجمع شغل اليوم لغد. وقال بعضهم: ليس الحليم من ظلم فحلم. حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا. وقال زياد: القدرة تذهب الحفيظة يعني الحقد والغضب وأتى هشام برجل بلغه عنه أمر فلما أقيم بين يديه جعل يتكلم بحجته فقال له هشام: وتتكلم أيضاً؟ فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها" أفنجادل الله تعالى ولا نتكلم بين يديك كلاماً؟ قال هشام: بلى ويحك تكلم. وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له اقطعه فإنه من أعدائنا، فقال بل أستر عليه لعل الله يستر علي يوم القيامة. وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت فقال لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها فبارك له فيها وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه. وقال الفضيل: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إلي في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه فجعل يبكي فقلت أعلى الدنانير تبكي؟ فقال: لا. ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمة له؟ وقال مالك بن دينار: أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلاً وهو على البصر أمير. وجاء الحسن وهو خائف فدخلنا معه عليه فما كنا مع الحسن إلا بمنزله الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته من بيعهم إياه وطرحهم له في الجب فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس ثم قال: أيها الأمير ماذا صنع الله به؟ أداله منهم ورفع ذكره وأعلى كلمته وجعله على خزائن الأرض، فما صنع حين أكمل له أمره وجمع أهله؟ "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه. قال الحكم فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته. وكتب ابن المقفع إلى صديق له يسأله العفو عن بعض إخوانه: فلان هارب من زلته إلى عفوك لائذ منك بك. واعلم أنه لن يزداد الذنب عظماً إلى ازدادالعفو فضلاً.وأتى عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة. ما ترى؟ قال إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو فعفا عنهم. وروي أن زياداً أخذ رجلاً من الخوارج فأفلت منه فأخذ أخاً له فقال له: إن جئت بأخيك وإلا ضربت عنقك، فقال: أرأيت إن جئتك بكتاب من أمير المؤمنين تخلي سبيلي؟ قال نعم قال فأنا آتيك بكتاب من العزيز الحكيم وأقيم عليه شاهدين إبراهيم وموسى ثم تلا "أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى" فقال زياد خلوا سبيله، هذا رجل قد لقن حجته، وقيل مكتوب في الإنجيل. من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان.

[align=center]فضيلة الرفق[/align]

اعلم أن الرفق محمود ويضاده العنف والحدة. والعنف نتيجة الغضب والفظاظة. والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، وقد يكون سبب الحد الغضب. وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكر ويمنع من التثبت فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال. ولأجل هذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ارفق وبالغ فيه فقال "يا عائشة إنه من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى وقالت عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وقال صلى الله عليه وسلم "يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق وقال صلى الله عليه وسلم "من يحرم الرفق يحرم الخير كله وقال صلى الله عليه وسلم "أيما وال ولى فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم "تدرون من يحرم على النار يوم القيامة كل عين لين سهل قريب وقال صلى الله عليه وسلم "الرفق يمن والخرق شؤم وقال صلى الله عليه وسلم "التأني من الله والعجلة من الشيطان وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله "إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك فاخصصني منك بخير فقال "الحمد لله" مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل عليه فقال "هل أنت مستوص" مرتين أو ثلاثاً قال: نعم، قال "إن أدرت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فأمضه وإن كان سوى ذلك فانته وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر على بعير صعب فجعلت تصرفه يميناً وشمالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة عليك بالرفق فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه .
الآثار: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أيتها الرعية إن لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أن لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرجه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه.
وقال وهب بن منبه: الرفق ثنى الحلم.
وفي الخبر موقوفاً ومرفوعاً "العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيمه والرفق والده واللين أخوه والصبر أمير جنوده وقال بعضهم: ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق وما أضيف إلى شيء مثل حلم إلى عمل. وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله: ما الرفق؟ قال: تكون ذا أناة فتلاين الولاة. قال فما الخرق؟ قال: معاداة إمامك ومناوأة من يقدر على ضررك. وقال سفيان لأصحابه: تدرون ما الرفق؟ قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور من مواضعها: الشدة في مواضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه؛ وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل.


[poet font="Andalus,5,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/6.gif" border="double,4,teal" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
[/poet]

فالمحمود وسط بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق، ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر، فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف، وإن كان العنف في محله حسناً كما أن الرفق في محله حسن، فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحق الهوى وهو ألذ من الزبد بالشهد وهكذا. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: روي أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية. أما بعد، فإن الفهم في الخير زبادة الشر، وإن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الجانب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً، وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً، وأن من لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي. وعن أبي عون الأنصاري قال: ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها. وقال أبو حمزة الكوفي: لا تتخذ من الخدم إلا ما لا بد منه فإن مع كل إنسان شيطاناً. واعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئاً إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه. وقال الحسن: المؤمن وقاف متأن وليس كحاطب ليل. فهذا ثناء أهل العلم على الرفق وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال وأغلب الأمور، والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور، وإنما لكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف فيطعى كل أمر حقه فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإن النجح معه في الأكثر.

[align=center]القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه
ومعالجته وغاية الواجب في إزالته
بيان ذم الحسد[/align]


اعلم أن الحسد أيضاً من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى. وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وقال أنس: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة" قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له. إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال "نعم، فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذلك؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق . وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تحقق؛ وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ وفي رواية "ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن" فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة. وقال صلى الله عليه وسلم "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثب ذلك لكم أفشوا السلام بينكم وقال صلى الله عليه وسلم "كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر وقال صلى الله عليه وسلم "إنه سيصيب أمتي داء الأمم" قالوا. وما داء الأمم؟ قال "الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج وقال صلى الله عليه وسلم "لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك وروي أن موسى عليه السلام لما تعجل إلى ربه تعالى رأى في ظل العرش رجلاً فغبطه بمكانه فقال: إن هذا لكريم على ربه، فسأل ربه تعالى أن يخبره باسمه فلم يخبره وقال أحدثك من عمله بثلاث: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وقال زكريا عليه السلام: قال الله تعالى: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي. وقال صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون وقال صلى الله عليه وسلم "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال صلى الله عليه وسلم "إن لنعم الله أعداء" فقيل ومن هم؟ فقال "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال صلى الله عليه وسلم "ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة" قيل يا رسول الله من هم؟ قال "الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد .
الآثار: قال بعض السلف: أول خطيئة هي الحسد حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية. وحكي أن عون بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء فقال: وما هو؟ قال: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله به، ثم قرأ "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" الآية، وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أمكنه الله سبحانه من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه عنها فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها، ثم قرأ "اهبطوا منها" إلى آخر الآية وإياك والحسد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، الآيات وإذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، وإذا ذكر القدر فاسكت، وإذا ذكرت النجوم فاسكت. وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي؟ قال: تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادت فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: أدن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلا إلا قد صدق؟ قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب قال خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي! فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل: فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي ف في أمري حتى تراجع الملك؛ فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله؛ فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب؟ فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك؟ قال: فلم وضعت يدك على فيك؟ قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته. وقال ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حفيرة في الجنة؟ وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ وقال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ نعم، ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً. وقال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده! وقال معاوية: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ولذلك قيل: كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال بعض الحكماء: الحسد جرح لا يبرأ أو حسب الحسود ما يلقى. وقال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه. وقال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار؟ وقال بعضهم: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.


[align=center]بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه[/align]

اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان: إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسداً. فالحسد حده كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.
الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة.
وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني: وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد .
فأما الأول فهو حرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الحق، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها، فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد، ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟ وإلى هذا أشار القرآن بقوله "إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها" وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان. وقال تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم" فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وقال تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد. وقال تعالى في معرض الإنكار "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" وقال تعالى "كان الناس أمة واحدة" إلى قوله "إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" قيل في التفسير: حسداً. وقال تعالى "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم" فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته، وأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول فرد بعضهم على بعض. قال ابن عباس: كانت اليهود قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا . فكانوا ينصرون. فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى "وكانوا من يقبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" إلى قوله "أن يكفروا بما أنزل الله بغياً" أي حسداً. وقالت صفية بنت حي للنبي صلى الله عليه وسلم: جاء أبي وعمي من عندك يوماً، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه؟ قال: أقول أنه النبي الذي بشر به موسى. قال: فما ترى؟ قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم.
وأما المنافسة: فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة. وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد، قال قثم بن العباس: لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة -قالا لعلي حين قال لهما: لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمر كما عليها- فقالا له: ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة.

والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" وقال تعالى "سابقوا إلى مغفرة من ربكم" وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما؛ إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها، فكيف وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأتماري فقال "مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء -وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال- ورجل آتاه الله مالاً ولا لم يؤته علماً فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقته في مثل ما أنفقه فيه من العاصي فهما في الوزر سواء فذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له. فإذاً لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له. نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضياً بالمعصية وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها، وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة، وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة، وكان تحت هذه النعمة أمران، أحدهما: راحة المنعم عليه، والآخر: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له.
ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات، نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان. وههنا دقيقة غامضة: وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب وزال النقصان، وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود، فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر، حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره، وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداًمذموماً. وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك، فيعفى عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه، ولعله المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهن مخرج: "إذا حسدت فلا تبغ" أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به. وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة؛ إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها. فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر، وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم، ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى. ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه، حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة، وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد الدنيا، ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له. فهذه هي حقيقة الحسد وأحكامه.

وأما مراتبه فأربع "الأولى" أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث. "الثانية" أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة، مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له، ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه، ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها "الثالثة" أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلاً يظهر التفاوت بينهما. "الرابعة" أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه.
وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة فيها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف من الثالثة، والأولى مذموم محض. وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مذموم لقوله تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم، وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 13, 2006 4:27 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان أسباب الحسد والمنافسة[/align]

أما المنافسة فسببها حب ما فيه النافسة، فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى وحب طاعته، وإن كان دنيوياً فسببه حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ومداخله كثيرة جداً، ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب: العداوة، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها. فإنه مما يكره النعمة على غيره إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير، وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضاً له بسبب إساءته إليه، أو إلى من يحبه. وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه، وهو المراد بالتعزز. وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه لنعمته وهو المراد بالتكبر. وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب عظيم فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب. وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه. وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها. وإما لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى. ولا بد من شرح هذه الأسباب.
السبب الأول: العداوة والبغضاء، وهذا أشد أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوة بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه. وبالجملة فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً ثم يستوي عند مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن، وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به أعني الحسد بالعداوة إذ قال الله تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم" الآية. وكذلك قال "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه.
السبب الثاني: التعزز؛ وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره. فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علماً أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته مثلاً، ولكن لا يرضى بالترفع عليه.
السبب الثالث: الكبر؛ وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته، أو ربما يتشوف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه. ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ رؤوسنا؟ فقالوا "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أعظم" أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً وقال تعالى يصف قول قريش "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" كالاستحقار لهم والأنفة منهم.
السبب الرابع: التعجب، كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا "ما أنتم إلا بشر مثلنا" "وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا" "ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون" فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم، وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب، وقالوا متعجبين "أبعث الله بشراً رسولاً" وقالوا "لولا أنزل علينا الملائكة" وقال تعالى "أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم" الآية.
السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال، وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ، وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم، وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهه محصورين، إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له.
السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده، وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكثر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد. وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصل إلى مقاصد سوى الرياسة. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم واستتباعهم مهما نسخ علمهم.
السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة، هذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة، ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة إزالته. فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد بذلك، ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة. وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب، وقلما يتجرد سبب واحد منها.


[align=center]بيان السبب في كثرة الحسد
بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه [/align]


اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب. وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه، فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة، وكذلك في محلتين، نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما، فيثور من التناقض التنافر والتباغض، ومنه تثور بقية أسباب الحسد، ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته. لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون، وإنما ينازعه فيه بزاز آخر؛ إذ حريف البزاز لا يطلبه الإسكاف بلل البزاز. ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق، فلا جرم يكون حسده للجار أكثر. وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة، ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع. ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب، لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص. فأصل هذه المحاسدات العداوة، وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهما. نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين: أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحث معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين. بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به، ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة. فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً، فيما عند الله تعالى لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم. نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة: فيكون ذلك سبباً للمحاسدة، وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها وأن يفرح بذلك. والفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه، والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع في الأرض لم يبق بعده مال يمتلكه غيره، والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم، ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق لأن غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته، فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة، فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته، يأمن زوالها وهو أبداً يجني ثمارها؛ فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة بل قطوفها دانية، فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبداً ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة، فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواننا على سرر متقابلين" فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا، فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء، أمشاهدة المحبوب في العقبى؟ فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة، لأن الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً، فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين، ولذلك وسم به الشيطان اللعين، وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء، ولما دعى إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى. فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء، ولكن السماء لسعة الأقطار وافيه بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً. فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها؟ ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض. ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً. فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور؛ إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجل "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين".

[align=center]بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب[/align]

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة. أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين. وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم. وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل النهار.
وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به، ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تتراها وتتألم بكل بلية تنصرف عليهم، فتبقى مغموماً محروماً متشعب القلب ضيق الصدر قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة؟ فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة؟ وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه. فلا حيلة في دفعه، بل كل شيء عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب. ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه: فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغيير فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها. ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا يكون عليه إثم في الآخرة، ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي. وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك، فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضاً، لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان. قال الله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" إذ ما يريد الحسود لا يكون. نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر. فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم. وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة، فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك، فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها.
وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح. أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكره مساويه، فهذه هدايا تهديها إليه؛ أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة، فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل. نعم كان عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.
وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين، ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، ولذلك لا يشتهي عدوك موتك بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسداً. ولذلك قيل:


[poet font="Andalus,4,teal,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/19.gif" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لا مات أعداؤك بل خلـدوا حتى يروا فيك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحـسـد
[/poet]

ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته، ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبليه عنده، فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك، فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة. وصرت مذموماً عند الخالق والخلائق شقياً في الحال والمآل، ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية، ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك، لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة، لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير، ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك، فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك.
وقد قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "المرء مع من أحب وقام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال "ما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم "أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ. إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله. قال أنس: فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم. وقال أبو موسى: قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم، حتى عد أشياء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "هو مع من أحب وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً، فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً، فإن لم تسطع أن تكون متعلماً فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم، فقال: سبحان الله لقد جعل الله لنا مخرجاً.
فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب، ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت، وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطئ في دين الله تعالى وينكشف خطؤه ليفتضح؟ وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك؟ فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة وقد جاء في الحديث "أهل الجنة ثلاثة: المحسن والمحب له والكاف عنه أي من يكف عنه الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها البتة، فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهماً فيرجع إلى عينه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمني فيقلعها، فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه فيعود على رأسحه فيشجه، وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى، وأعداؤه حوله يفرحون به ويضحكون عليه. وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه، بل حالك في الحسد أقبح من هذا لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة. والحسد يعود بالإثم والإثم لا يفوت بالموت، ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار، فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار. فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد؛ إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقاً لقوله تعالى "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" وربما يبتلي بعين ما يشتهيه لعدوه، وقلما يشمت شامت بمساءة غلا ويبتلى بمثلها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما تمنيت لعثمان شيئاً إلى نزل بي، حتى لو تمنيت له القتل لقتلت. فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه لحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء؟ وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة.
فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك نفسه ومفرح عدوه ومسخط ربه ومنغص عيشه.
وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه، وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد، لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصبر ما تكلفه أولاً: طبعاً آخر ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة، وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة -تكلفاً كانت أو طبعاً- تكسر سورة العداوة من الجانبي وتقل مرغوبها وتعود القلب التآلف والتحاب، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض.
فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جداً إلا أنها مرة على القلوب جداً ولكن النفع في الدواء المر. فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينقل حلاوة الشفاء؛ وإنما تهون مرارة هذا الدواء، أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم، بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه. وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما لا يكون، إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة، ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون، والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه. وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل، وتحصيله بالرياضة ممكن، فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي.
فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني -وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى- فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة، فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة، ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده، فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه، ويغمه ذلك لا محالة، وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده، فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق.


[align=center]بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب[/align]

اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع، ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً، فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له، ولكن عن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرهك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك، وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص، لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل، قال الله تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وقال "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد، بل محل الحسد القلب دون الجوارح. نعم هذا الحسد ليس مظلمة بحب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح، فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقالة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا، إلا أن يصير مستغرقاً بحيث الله تعالى مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة، ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعال الله، ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم، ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته -أعني الشطيان- فإنه ينازع بالوسوسة.فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه. وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده. وروي عنه موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن وله مهن مخرج" فمخرجه من الحسد أن لا يبغي، والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة الدعو، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم، ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال. فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد. فإذن كونه آثماً بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد، والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى، إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة.
وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال، أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك، وتكره حبك لذلك ميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك، وهذا معفو عنه قطعاً لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه.
الثاني: أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك، فهذا هو الحسد المحظور قطعاً.
الثالث: وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك، ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه، وهذا في محل الخلاف. والظاهر أنه لا يخلوا عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه. والله أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء يوليو 25, 2006 7:35 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب ذم الدنيا
وهو الكتاب السادس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]


الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها. وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها ولا يفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، إن أحسنت ساعة أساءت سنة. وإن أساءت مرة جعلتها سنة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بنيها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة. فكل مغرور بها إلى الذل مصيره. وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره. شأنها الهرب من طالبها والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم فهي خداعة مكارة، طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها، كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها؛ وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها؛ ورشقتهم بصوائب سهامها. بينما أصحابها منها في سرور وإنعام إذ ولت عنها كأنها أضغاث أحلام. ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طعن الحصيد ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحداً منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. تمنى أصحابها سروراً وتعدهم غروراً حتى يأملون كثيراً ويبنون قصورا. فتصبح قصورهم قبورا وجمعهم بورا. وسعيهم هباء منثورا ودعاؤهم ثبورا، هذه صفتها وكان أمر الله قدراً مقدورا. والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله المرسل إلى العالمين بشيراً ونذيرا وسراجاً منيرا. وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيرا وعلى الظالمين نصيرا وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن الدنيا عدوة لله وعدوة لأولياء الله وعدوة لأعداء الله. أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله. ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها. وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل: فإنها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لأعداء الله: فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها. وعولوا عليها فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. فاجتنوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد. ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد. فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ولا يغاثون. بل يقال لهم "اخسئوا فيها ولا تكلمون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون".
وإذا عظمت غوائل الدنيا وشرورها فلا بد أولاً من معرفة حقيقة الدنيا وما هي؟ وما الحكمة في خلقها مع عداوتها؟ وما مدخل غرورها وشرورها؟ فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ويوشك أن يقع فيه. ونحن نذكر ذم الدنيا وأمثلتها، وحقيقتها وتفصيل معانيها، وأصناف الأشغال المتعلقة بها، ووجه الحاجة إلى أصولها، وسبب انصراف الخلق عن الله التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى. وهو المعين على ما يرتضيه.


[align=center]بيان ذم الدنيا[/align]

الآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة. وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك، فلا حاجة إلا الاستشهاد بآيات لقرآن لظهورها، وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر شاة ميتة فقال "أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟" قالوا: من هوانها ألقوها. قال "والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء وقال صلى الله عليه وسلم "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أحب دنياه أضر بآخرته إلا ما كان لله منها وقال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حب الدنيا رأس كل خطيئة وقال زيد بن أرقم: كما مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه وسكتوا وما سكت: ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته قال: ثم مسح عينيه فقالوا: يا خليفة رسول الله ما أبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولم أر معه أحداً؛ فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك؟ قال "هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها: إليك عني ثم رجعت فقالت: إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك وقال صلى الله عليه وسلم "يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على مزبلة فقال "هلموا إلى الدنيا وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت فقال: هذه الدنيا وهذه إشارة إلى أن زينة الدنيا ستخلق مثل تلك الخرق وأن الأجسام التي ترى بها ستصير عظاماً بالية. وقال صلى الله عليه وسلم "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا ومهدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب وقال عيسى عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا رباً فتخذكم عبيداً اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: يا معشر الحواريين إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن عصي الله فيها وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها، ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة ساعة أورثت أهلها حزناً طويلاً. وقال أيضاً: بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء، فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم، وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة. وقال أيضاً: الدنيا طالبة ومطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. وقال موسى ابن يسار: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله قال: فمر بعابد من بني إسرائيل فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً، قال: فسمع سليمان وقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطى ابن داودن فإن ما أعطى ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى. وقال صلى الله عليه وسلم "ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت؟ وقال صلى الله عليه وسلم "إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادى من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له وقال صلى الله عليه وسلم "من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع عنه أبداً، وشغلاً لا يتفرغ منه أبداً، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها" فقلت: بل يا رسول الله، فأخذ بيده وأتى بي وادياً من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس وعذرات وخرق وعظام، ثم قال "يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً. وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد؛ فمن كان باكياً على الدنيا فليبك" قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا ويروى أن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى الأرض قال له: ابن للخراب ولد للفناء.
وقال داود بن هلال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم، إني قذفت في قلوبهم بعضك والصدور عنك وما خلقت خلقاً أهون علي منك، كل شأنك صغير وإلى الفناء يصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ولا يدوم لك أحد، وإن بخل بك صاحبك وشح عليك، طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة، طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم والملائكة حافون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدنيا موقوفة بين السماء والأرض، منذ خلقها الله تعالى لم ينظر غليها، وتقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيباً فيقول اسكتي يا لا شيء إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم وروي في أخبار آدم عليه السلام أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثفل، ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة فلذلك نهيا عن أكلها، قال فجعل يدور في الجنة، فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: قل له أي شيء تريد؟ قال آدم: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى، فقيل للملك: قل له في أي مكان تريد أن تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكاناً يصلح لذلك؟ اهبط إلى الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه "المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه؟ فليتزود العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة، والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار وقال عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد. وروي أن جبريل عليه السلام قال لنوح عليه السلام: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. قيل لعيسى عليه السلام: لو اتخذت بيتاً يكنك: قال: يكفينا خلقان من كان قبلها. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم "احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت وعن الحسن قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه فقال "هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً: ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد في الدنيا وقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلم، وهدى بغير هداية: ألا أنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالفخر والبخل، ولا المحبة إلا باتباع الهوى؛ إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً وروي أن عيسى عليه السلام اشتد عليه المطر والرعد والبرق يوماً فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى، فأوحى الله تعالى إليه: مأواك في مستقر رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتها بيدي ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرن منادياً ينادي أين الزهاد في الدنيا زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن مريم. وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وما فيها، وتغره ويأمنها، ويثق بها وتخذله، وويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون؟ وويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غداً بذنبه؟ وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى ما لك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك، فبئست الدار هي إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي، يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم" وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بة الجراح فجاء بمال من البحرين؛ فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء" قالوا: أجل يا رسول الله، قال "فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكنم وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض" فقيل ما بركات الأرض؟ قال "زهرة الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم "لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا فنهى عن ذكرها فضلاً عن إصابة عينها. وقال عمار بن سعيد: مر عيسى عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح الله وددنا أن لو علمنا خبرهم. فسأل الله تعالى فأوحى إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى: يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله! فقال: ما حالكم وما قصتكم؟ قال: بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية، قال: وكيف ذاك؟ قال: بحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبكم للدنيا؟ قال: حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا بها وإذا أدبرت حزنا وبكينا عليها، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، قال: فكيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أأنجوا منها أم أكبكب فيها؟ فقال المسيح للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة. وقال أنس: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم "إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلى وضعه وقال عيسى عليه السلام: من الذي يبني على موج البحر داراً؟ تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً. وقيل لعيسى عليه السلام: علمنا واحداً يحبنا الله عليه، قال: ابغضوا الدنيا يحبكم الله تعالى. وقال أبو الدرداء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة ثم قال أبو الدرداء -من قبل نفسه- لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته، مالكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم، ما لكم تناصحون في أمر الدنيا ولا تناصحون في أمر الآخرة؟ ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته، ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك لأموركم. فإن قلتم: حب العاجلة غالب؟ فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها، تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه، فبئس القوم أنتم ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم! فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فائتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم! والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في أموركم، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم، وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حالكم، إني لأرى الله قد تبرأ منكم يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل ونبتت مراعيكم على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل، ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته ولو كان حياً لم يصابركم، فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً، وبالله أستعين على نفسي وعليكم. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا. وفي معناه قيل:
أرى رجـالاً بـأدنـى الـــدين قـــد قـــنـــعـــوا ومـا أراهـم رضـوا فـي الـــعـــيش بـــالـــدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وقال عيسى عليه السلام: يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر. وقال نبينا صلى الله عليه وسلم "لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشد منها. ومر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي ورجع وهو يبكي، فقال موسى: يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال: يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموعه عينيه ورفع يديه حتى يسقطا لم أغفر له وهو يحب الدنيا.
الآثار: قال علي رضي الله عنه: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً؛ أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها. وقال الحسن: رحمالله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافاً. وقال أيضاً رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه في دنياك فألقها في نحره. وقال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير فلتكن سفينتك فيه تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله عز وجل، لعلك تنجو وما أراك ناجياً. وقال الفضيل: طالت فكرتي في هذه الآية "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً حرزاً" وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح في شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك وسيكون له أهل بعدك، وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك في أكله، وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة، وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار. وقيل لبعض الرهبان: كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية يبعد الأمنية: قيل: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به تعب ومن فاته نصب. وفي ذلك قيل:


[poet font="Tahoma,4,seagreen,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="ridge,4,seagreen" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ومن يحمد الدنيا لعـيش يسـره فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت المرة حسـرة وإن أقبلت كانت كثيراً همومها
[/poet]


وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها، فلا أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل، إما بنعمة زائلة أو بلية أو منية قاضية. وقال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحد ما يستحق، لكنها إما أن تزيد وإما أن تنقص. وقال سفيان: أما ترى النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها. وقال أبو سليمان الداراني: من طلب الدنيا على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. ومن طلب الآخرة على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. وليس لهذا غاية. وقال رجل لأبي حازم: أشكو إليك حبالدنيا وليست لي بدار، فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلى في حقه. ولا يضرك حب الدنيا. وإنما قال هذا لأنه لو آخذ نفسه بذلك لأنعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها. وقال يحيى بن معاذ: الدنيا حانوت الشيطان، فلا تسرق من حانوته شيئاً فيجيء في طلبه فيأخذك. وقال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى؛ لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى. فكيف وقد اخترنا خزفاً يفني على ذهب يبقى؟ وقال أبو حازم: إياكم والدنيا فإنه بلغني أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظماً الدنيا فيقال: هذا عظم ما حقره الله. وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة. وفي ذلك قيل:

[poet font="Tahoma,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="groove,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ومال المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الـودائع
[/poet]

وزار رابعة أصحابها، فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها. ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وقيل لإبراهيم بن أدهم: كيف أنت؟ فقال:

[poet font="Simplified Arabic,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/1.gif" border="groove,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
نرقع دنيانا بتمزيق دينـنـا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربـه وجاد بدنياه لما يتـوقـع
[/poet]

وقيل أيضاً في ذلك:

[poet font="Times New Roman,4,sienna,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/15.gif" border="groove,4,silver" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ونال من الدنيا سروراً وأنعمـا
كبان بنى بنـيانـه فـأقـامـه فلما استوى ما قد بناه تهـدمـا
[/poet]

وقيل أيضاً في ذلك:

[poet font="Simplified Arabic,4,skyblue,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/1.gif" border="groove,4,teal" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
هب الدنيا تساق إليك عفـواً أليس مصير ذاك إلى انتقال
وما دنياك إلا مثـل فـيء أظلك ثـم آذن بـالـزوال
[/poet]

وقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً. وقال مطرف ابن الشخير: لا تنظر إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم، ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم. وقال ابن عباس: إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء للمؤمن، وجزء للمنافق، وجزء للكافر. فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. وقال بعضهم: الدنيا جيفة، فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب.
وفي ذلك قيل:


[poet font="MS Sans Serif,4,darkred,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="groove,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلـم
إن التي تخطب غـدارة قريبة العرس من المأتم
[/poet]

وقال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها. وفي ذلك قيل:

[poet font="Times New Roman,4,indigo,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/12.gif" border="groove,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
[/poet]

وقيل أيضاً:

[poet font="Tahoma,4,firebrick,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="groove,4,sienna" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا راقد الليل مـسـروراً بـأولـه إن الحوادث قد يطرقن أسـحـارا
أفنى القرون التي كانت مـنـعـمة كر الـجـديدين إقـبـالاً وإدبـارا
كم قد أبادت صروف الدهر من مل ك قد كان في الدهر نفاعاً وضرارا
يا من يعانق دنـيا لا بـقـاء لـهـا يمسي ويصبح في دنـياه سـفـارا
هلا تركت من الدنـيا مـعـانـقة حتى تعانق في الفردوس أبـكـارا
إن كنت بغى جنان الخلد تسكنـهـا فينبغي لك أن لا تـأمـن الـنـارا
[/poet]


وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أتت إبليس جنوده فقالوا: قد بعث نبي وأخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا؟ قالوا نعم، قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع. وقال رجل لعلي كرم الله وجهه: يا أمير المؤمن صف لنا الدنيا، قال: وما أصف لك من دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب، ومتشابهها العتاب. وقيل له ذلك مرة أخرى فقال: أطول أم أقصر؟ فقيل: قصر فقال: حلالها حساب، وحرامها عذاب. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا. وقال أبو سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة. وهذا تشديد عظيم ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح، إذ قال: الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب فأيهما غلب كان الآخر تبعاً له. وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخر من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك. وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال: الدنيا والآخرة ضرتان، فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى. وقال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا؟ وقال رجل للحسن: ما تقول في رجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق منه ويصل منه، أيحسن له أن يتعيش فيه؟ -يعني يتنعم- فقال: لا، لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقدم ذلك ليوم فقره. وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت على حلالاً لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقيل: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومة بحبل، فسلم وسأله، ثم أتى منزله فلم ير فيه إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر رضي الله عنه: لو اتخذت متاعاً؟ فقال: يا أمير المؤمن إن هذا يبلغنا المقيل. وقال سفيان: خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقلبك. وقال الحسن: والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرحمن بحبهم الدنيا. وقال وهب: قرأت في بعض الكتب، الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهل لم يعرفوها حتى خرجوا منها، فسألوا الرجعة فلم يرجعوا. وقال لقمان لابنه: يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد عنها. وقال سعيد بن مسعود: إذا رأيت العبد تزداد دنياه وتنقص آخرته وهو به راض فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر. وقال عمرو بن العاص على المنبر: والله ما رأيت قوماً قط أرغب فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهد فيه منكم، والله ما مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له وقال الحسن بعد أن تلا قولى تعالى "فلا تغرنكم الحياة الدنيا" من قال ذا؟ قاله من خلقها ومن هو أعلم بها، إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضاً: مسكين ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: سلام عليك، أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات. فأجابه عمر: سلام عليك، كأنك بالدنيا ولم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل. وقال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد. وقال بعضهم: عجباً لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح؟ وعجباً لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك؟ وعجباً رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن لها؟ وعجباً لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب!؟ وقدم على معاوية رضي الله عن رجل من نجران عمره مائتا سنة فسأله عن الدنيا كيف وجدها؟ فقال: سنيات بلاء وسنيات رخاء، يوم فيوم وليلة فليلة يولد ولد ويهلك هالك، فلولا المولود لباد الخلق ولولا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها. فقال له: سل ما شئت، قال: عمر مضى فترده أو أجل حضر فتدفعه، قال: لا أملك ذلك، قال: لا حاجة لي إليك. وقال داود الطائي رحمه الله: يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء أجلك، ثم سوفت بعملك كان منفعته لغيرك. وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه. وقال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد ألصق الله إليه شيئاً يسوءك. وقال الحسن: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يشبع مما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما يقدم عليه. وقيل لبعض العباد؛ قد نلت الغنى، فقال: إنما نال الغنى من عتق من رق الدنيا. وقال أبو سليمان: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة. وقال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولا يدعنا الله على هذا، فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا؟ وقال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وقال الحسن: أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه، وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً. وكان بعضهم يقول في دعائه: يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني. وقال محمد بن المنكدر: أرأيت لو أن رجلاً صام الدهر لا يفطر، وقام الليل لا ينام، وتصدق بماله، وجاهد في سبيل الله، واجتنب محارم الله، غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال: إن هذا عظم في عينه ما صغره الله، وصغر في عينه ما عظمه الله كيف ترى يكون حاله؟ فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا؟ وقال أبو حازم: اشتدت مؤنة الدنيا والآخرة، فأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً، وأما مؤنة الدنيا فإنك لا تضرب بيدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه. وقال أبو هريرة: الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي تنادي ربها منذ خلقها إلى يوم يفنيها. يا رب يا رب لم تبغضني؟ فيقول لها: اسكتي يا لا شيء. وقال عبد الله بن المبارك: حب الدنيا والذنوب في القلب قد احتوشته، فمتى يصل الخير إليه؟ وقال وهب بن منبه: من فرح قلبه بشيء من الدنيا فقط أخطأ الحكمة، ومن جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، ومن غلب عليه هواه فهو الغالب. وقيل لبشر: مات فلان فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة، ضيع نفسه قيل له: إنه كان يفعل ويفعل -وذكروا أبواباً من البر- فقال: وما ينفع هذا وهو يجمع الدنيا؟ وقال بعضهم: الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا؟ وقيل لحكيم: الدنيا لمن هي قال: لمن تركها؟ فقيل الآخرة لمن هي؟ قال: لمن طلبها وقال حكيم: الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها، والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها. وقال الجنيد: كان الشافعي رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا، وعظ أخاً لهفي الله وخوفه بالله فقال: يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك، فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل، أكثر من عملك وأقصر من أملك وقال إبراهيم بن أدهم لرجل: أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة. فقال دينار في اليقظة فقال: كذبت، لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام، والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة. وعن إسماعيل بن عياش قال: كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة فيقولون إليك عنا يا خنزيرة، فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به. وقال كعب: لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: العقلاء ثلاثة، من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. وقال أيضاً: الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله، فكيف الوقوع فيها. وقال بكر بن عبد الله: من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن. وقال بندار: إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرة الشيطان. وقال أيضاً: من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها -يعني الحرص- حتى يصير رماداً؛ ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهراً لا حد لقيمته. وقال علي كرم الله وجهه: إنما الدنيا ستة أشياء، مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة، وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال، وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال، وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها وأشرف المشمومات المسك وهو دم.

[align=center]بيان المواعظ في ذم الدنيا وصفتها[/align]

قال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرف لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئن إليها خذلت، فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذلن وكثيرها يقل، ودها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، وهل إلى الطبيب من سبيل؟ فتدعي لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى، ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك، وقيل لك هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان ومنعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطلق، ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عواك واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك. وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به بين أحبابه، فالدنيا أحق بالذم، هي الآخذة ما تعطي، الراجعة فيها تهب، بينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا تبكي له إذ أبكت عليه، وبنيا هي تبسط كفها بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد، فتعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غداً، سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي، تجد في الباقي من الذاهب خلفاً، وترضى بكل من كل بدلاً. وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إلى عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها. والغني منها فقرها. لها في كل حين قتيل. تذل من أعزها. وتفقر من جمعها. هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه. فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً. ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وحلت بآماها وسوفت بخطابها. فأصبحت كالعروس المجلية. العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قالية. فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر. ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي الميعاد، فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه، فعظمت ندامته وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغضته. وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يروح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار في أهلها غار، والنافع فيها غدار ضار، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان لا يرجع منها ما ولى وأدبر، ولا يدري ما هو آت فينتظر. أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، إن عقل ونظر فهو من النعماء على خطر ومن البلاء على الحذر، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ؟ فما لها عند الله جل ثناؤه قدر وما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبيك صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها اذكره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختباراً وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؛ ونسي ما صنع الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه ولقد جاءت الرواية عنه عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام؛ إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس، وسراج القمر، ودابتي رجلاي، وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض، أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على الأرض أحد أغنى مني. وقال وهب بن منبه: لما بعث الله عز وجل موسى وهرون عليهما السلام إلى فرعون قال: لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني، ولا يعجبنكما ما تمتع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، فلو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت، ولكني أرغب بكم عن ذلك فأزوي ذلك عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي إني لأوذهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة، وإن لأجنبهم ملاذها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن منازل الغرة، وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً، إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخوف والخضوع والتقوى تنبت في قلوبهم وتظهر على أجسادهم، فهي ثيابهم التي يلبسون ودثارهم الذي يظهرون، وضميرهم الذي يستشعرون، ونجاتهم التي بها يفوزون، ورجاؤهم الذي إياه يأملون، ومجدهم الذي به يفخرون، وسيماهم التي بها يعرفون، فإذا لقيتم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ثم أنا الثائر له يوم القيامة.
وخطب علي كرم الله وجهه يوماً خطبة فقال فيها: اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها بالبلاء محفوفة وبالفناء معروفة وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال وهي بين أهلها دول وسجال، لا تدوم أحوالها ولا يسلم من شرها نزالها، بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور. أحوال مختلفة وتارات منصرفة، العيش فها مذموم والرخاء فيها لا يدوم وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة. ترميهم بسهامها وتقصيهم بحمامها. وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعماراً وأشد منكم بطشاً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً. فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأجسادهم بالية وديارهم على عروشها خاوية وآثارهم عافية. واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة. الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة. فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل محلة متشاغلين. لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما بينهم من قرب المكان والجوار ودنو الدار. وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلا وأكلتهم الجنادل والثرى؟ وأصبحوا بعد الحياة أمواتاً وبعد نضارة العيش رفاتاً فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب ظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات "كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو عاينتم الأمور وبعثرت القبور وحصل ما في الصدور وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت عنكم الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار؟ هنالك تجزى كل نفس بما كسبت إن الله عز وجل يقول "ليجزى الذي أساءوا بما عملوا ويجزى الذي أحسنوا بالحسنى" وقال تعالى "ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه" الآية جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابة متبعين لأوليائه حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله إنه حميد مجيد.
وقال بعض الحكماء: الأيام سهام والناس أغراض، والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك، فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك؟ لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعة بك ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار، وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها، وإنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم، وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ، اللهم أرشدنا إلى الصواب وقال بعض الحكماء وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها فقال. الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك، لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه، وما لم يأت فلا علم لك به، والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته، وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان، والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول، والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور.
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى، إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون، عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شرق، لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل.
قال علي كرم الله وجهه في خطبته: أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم وإن كنتم لا تحبون تركها، المبلية أجسامكم وأنتم تريدون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقاً وكأنهم قطعوه، وأفضوا إلى علم فكأنهم بلغوه، وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهي إلى الغاية؟ وكم عسى أن يبقى من له يوم في الدنيا وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها؟ فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع، ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال، عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه.
وقال محمد بن الحسين: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا، وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها، أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً، وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة، ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية؛ وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم، تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم.


[align=center]بيان صفة الدنيا بالأمثلة[/align]

اعلم أن الدنيا سرعية الفناء قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها، ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل البصيرة الباطنة، ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال:

[poet font="MS Sans Serif,4,indigo,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="groove,4,purple" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
[/poet]

وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول:

[poet font="Simplified Arabic,4,sienna,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="groove,4,sienna" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا أهل لذات دنيا لا بقال لها إن اغتراراً بظل زائل حمق
[/poet]

وقيل إن هذا من قوله. ويقال: إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه، فقام وهو يقول:

[poet font="Simplified Arabic,4,black,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/4.gif" border="double,4,darkred" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ألا إنما الدنيا كظل ثـنـية ولا بد يوماً أن ظلك زائل
[/poet]

وكذلك قيل:

[poet font="Tahoma,4,chocolate,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/15.gif" border="groove,4,chocolate" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وإن امرأ دنياه أكبر همـه لمستمسك منها بحبل غرور
[/poet]

مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها. تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون وقال يونس بن عبيد. ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه، فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به. وقيل لبعض الحكماء. أي شيء أشبه بالدنيا؟ قال أحلام النائم.
مثل آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيا. اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً، وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم. وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينةن فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحصيهم، قال: فكلهم مات عنك أم كلهم طفلك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر!.
مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها: اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها، فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها. وقال العلاء بن زياد: رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها، فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها: ويلك من أنت؟ قالت: أو ما تعرفني؟ قلت: لا أدري! من أنت؟ قالت: أنا الدنيا، قلت: أعوذ بالله من شرك! قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم. قال أبو بكر بن عياش: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون، فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت: لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء. ثم بكى أبو بكر وقال: رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد. وقال الفضيل بن عياض: قال ابن عباس يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، أنيابها بادية ومشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه؟ فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تناحرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب أين أتباعي وأشياعي؟ فيقول الله عز وجل؟ ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وقال الفضيل: بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب، وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته، فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس، وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رىه الناس، عجوز شمطاء زرقاء عمشاء، قال: فقلت: أعوذ بالله منك! قالت: لا والله. لا يعيذنك الله مني حتى تبغض الدرهم! قال: فقلت من أنت؟ قالت: أنا الدنيا.
مثال آخر للدنيا وعبور الإنسان بها: اعلم أن الأحوال ثلاثة: حالة للم تكن فيها شيئاً وهي ما قبل وجودك إلى الأزل، وحالة لا تكون فيها مشاهداً للدنيا وهي ما بعد موتك إلى الأبد، وحالة متوسطة بين الأبد والأزل وهي أيام حياتك في الدنيا؛ فانظر إلى مقدار طولها وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "ما لي وللدنيا! وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق أو في سعة ورفاهية، بل لا يبني لبنة على لبنة. توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ورأى بعض الصحابة يبني بيتاً من جص فقال "أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال:الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وهو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة، واللحد هو الميل الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثها، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها. وكيفما كان فلا بد له من العبور، والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان.
مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها: اعلم أن أوائل الدنيا تبدو عينة لينة يظن الخائض فهيا أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات! فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد، وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام.
مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة، وعلائقها عن بواطنهم منقطعة، وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من أعظم المتفجعين بفراقها، فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب، بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة. قال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم، كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا، وبحق أقول لكم، إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ، وبحق أقول لكم، إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله .
مثال آخر لما بقي من الدنيا وقتلته بالإضافة لما سبق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع .
مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك: قال عيسى عليه السالم: مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً حتى يقتله.
مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها، اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة، وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها، وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً، فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى، فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة، فإن من نبهث داره وأخذ ماله وولده، فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه، فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر، ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحاك بن سفيان الكلابي "الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه اللبن والماء؟ قال: بلى؛ قال "فإلام يصير" قال: إلى ما قد علمت يا رسول الله، قال: "فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم وقال أبي بن كعب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه إلام يصير وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم وضرب مطعم بن آدم للدنيا مثلاً وإن قزحه وملحه وقال الحسن: قد رأيتهم يطيبونه بالأفاويه والطيب ثم يرمون به حيث رأيتم وقد قال الله عز وجل "فلينظر الإنسان إلى طعامه" قال ابن عباس إلى رجيعه وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحي قال فلا تستحي واسأل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام ينظر إلى ذلك منه قال نعم إن الملك يقول له انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ماذا صار. وكان بشر بن كعب يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.
مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع إليه .
مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها: علم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها لمراده، وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إلهيا فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه: وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس ينفعه التأسف. وبعضه تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفعك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً. وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا كالجيف المنتنة.
وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار، فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه، فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها. فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها، وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً. ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً. فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم. وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصبحه عند الموت بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه. وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل.
مثال آخر لاغتزار الخلق بالدنيا وضعيف إيمانهم: قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا، ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي؟ أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه، فقالوا: هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء: فقالوا: يا هذا! فقال علام أنتم؟ فقالوا: على ما ترى، فقال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم مواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً قال: فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل! قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة -وهم أقلهم- ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره؟ فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل .
ومثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها: اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً، واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه، لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراها. فهذه أمثلة الدنيا وآفاتها وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه.




[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 30, 2006 7:18 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد[/align]

اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي؟ وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب؟ فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي؟ فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت، فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام. القسم الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان: العلم والعمل فقط؛ وأعني بالعلم: العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا. ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلاً بل قلنا إنه من الآخرة، وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه، حتى قال بعضهم: ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل، وكان آخر يقول: اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر. فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو، ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا. وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا، والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة، فنقول هذه ليست من الدنيا.
القسم الثاني: وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات، والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات، كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة، فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولاً أو في محل الحاجة نظر طويل، إذ روي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفاً أنفق عليه درهمين، فكتب إليه عمر: من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر، قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها، فإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك. فلم يزل بها حتى مات. فهذا رآه فضولاً من الدنيا فتأمل فيه.
القسم الثالث: وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن "وكل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل. وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول، لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه. فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولاً للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا، وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا. ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلث صفات: صفاء القلب؛ أعني طهارته عن الأدناس، وأنسه بذكر الله تعالى، وحبه لله عز وجل. وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة. ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت.
أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بين العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار "إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه الحديث.
وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة، وهذه السعادة تعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد؟ وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله، فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق؟ وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجع إليه؟ ولذلك قيل:


[poet font="Tahoma,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="groove,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلك الواحـد
[/poet]

وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى. فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها، وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، وصحة البدن لا تناول إلا بقوت وملبس ومسكن، ويحتاج كل واحد إلى أسباب. فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مرزعة للآخرة، وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها، إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً، وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً. والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حلالها حساب وحرامها عذاب وقد قال أيضاً "حلالها عذاب" إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام، بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يدر على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب، وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها؟ منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها؟ فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه "هذا من النعيم الذي تسئل عنه أشار به إلى الماء البارد. والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخر ومشقة وانتظار، وكل ذلك من نقصان الحظ، ولذلك قال عمر رضي الله: اعزلوا عني حسابها، حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله، فإن ذلك القدر ليس من الدنيا، وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد، حتى إن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه، إذ تمثل له إبليس وقال: رغبت في الدنيا! وحتى إن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة، فإن الصبر عن لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فكان يطوي أياماً وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل، كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه، ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه. وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا.
فإن قلت: فما الذي هو لله؟ فأقول: الأشياء ثلاثة أقسام: منها ما لا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة، فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة: الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا، وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد، فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى. ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله، وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده، فإن كان القصد حفظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا. قال صلى الله عليه وسلم "من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهة كالقمر ليلة البدر فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذاً الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" ومجامع الهوى خمسة أمور: وهي ما جمعه الله تعالى في قوله "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسةسبعة: يجمعها قوله تعالى "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا" فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا، وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هو لله إن قصد به وجه الله، والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله. وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة. ولها طرفان وواسطة: طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن، وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منه، وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والحزم في الحذر والتقوى والتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام؛ إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرنى كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه، فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتان والثلاث لا يرون له وجهاً، وكان يخرج أول الآذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة، وكان طعامه أن يلتقط النوى، وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته، وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها، فكان ذلك لباسه وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون، فيقول لهم يا أخوتاه إن كنتم ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي، فيحضر وقت الصلاة ولا أصيب الماء، فهكذا كانت سيرته. ولقد عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره فقال "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم، قال: فقاموا. فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة، فجلسوا، فقال: اجلسوا إلا من كان من مراد، فجلسوا فقال: اجلسوا إلا من كان من قرن، فجلسوا كلهم إلا رجلاً واحداً فقال له عمر: أقرني أنت؟ فقال: نعم فقال: أتعرف أويس بن عامر القرني؟ فوصفه له، فقال: ونعم وما ذاك تسأله عنه يا أمير المؤمنين! والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولا أدنى منه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال: ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر فقال هرم بن حيان: لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم غلا أن أطلب أويساً القرني وأسأل عنه، حتى سقطت عليه جالساً على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه، قال: فعرفته بالنعت الذي نعت لي، فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية متغير جداً كريه الوجه متهيب المنظر قال: فسلمت عليه فرد علي والسلام ونظر إلي، فقلت: حياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك كيف أنت رحمك الله؟ ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى، فقال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك علي؟ قلت الله فقال: لا إله إلا الله سبحان الله "إن كان وعد ربنا لمفعولا" قال: فعجبت حين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني! فقلت: من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم؟ "قال نبأني العليم الخبير" وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا، يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل، قال: قلت حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك قال إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي ورسول الله، ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً أو مفتياً أو قاضياً في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان! فقلت: يا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنك فإني أحبك في الله حباً شديداً، قال: فقام وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم بكى. ثم قال: قال ربي والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه، ثم قرأ "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهم إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون" حتى انتهى إلى قوله "إنه هو العزيز الرحيم" فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال: يا ابن حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجى الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم وهو رسول رب العالمين، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي، ثم قال:يا عمراه يا عمراه، قال: فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت، قال: فقد نعاه إلي ربي ونعى إلى نفسي! ثم قال: أنت وأنت في الموتى كأنه قد كان، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدعوات خفيات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلى نفسي ونفسك، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً، وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة، ادع لي ولنفسك، ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيراً واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عني خير الجزاء ثم قال: أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حياً فلا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا. فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، ثم سألت عنه ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له.
فهكذا كانت سيرة أبناء الأخوة المعرضين عن الدنيا.
وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا. ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذ حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له، ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولم يكن مشغولاً بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا. نعم إذا قصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفاً عن الآخرة ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي: كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاوياً فسمعت في الليلة الثامنة منادياً وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه. فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك. فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى.


[align=center]بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها
التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم
[/align]

اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجود وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل. فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك، أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر، وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح.
ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام: المعادن والنبات والحيوان. أما النبات: فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادين: فيطلبها للآلات والأواني، كالنحاس والرصاص، وللنقد كالذهب والفضة، ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم، أما البهائم: فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة. وأما الإنسان: فقد يطلب الأدمى: أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان؛ أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان؛ ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه؛ إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين. فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين" وهذا من الإنس "والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة" وهذا من الجواهر والمعادن؛ وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها "والخيل المسومة والأنعام" وهي البهائم والحيوانات "والحرث" وهو النبات والزرع.
فهذه هي أعيان الدنيا، إلا أن لها مع العبد علاقتين: علاقة مع القلب وهو حبه وحظه منها وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا. ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة. وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها.
العلاقة الثانية مع البدن؛ وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها، والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بالحب، وعلاقة البدن بالشغل. ولو عرف نفسهوعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى، وأعنى بالدابة البدن، فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال.
ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده: مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب، ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبر لها الماء بالثلج، حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته. والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي، فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج. وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة. فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن، ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها. وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن، فإن الفوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضهم ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة، فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها.
ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا، وكيفية حدوث الحاجة إليها، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تضح لك أشغال الدنيا، كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم؟ فنقول: الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها. وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث: القوت، والمسكن، والملبس. فالقوت: للغذاء والبقاء. والملبس: لدفع الحر والبرد. والمسكن: لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال. ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه.
نعم خلق ذلك للبهائم، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ. والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء، ولباسها شعورها وجلودها، فتستغني عن اللباس.
والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات، وأوائل الأشغال الدنيوية، وهي الفلاحة، والرعاية، والاقتناص، والحياكة، والبناء. أما البناء فللمسكن. والحياكة وما يكتنفاه من أمر الغزل والخياطة فللملبس. والفلاحة للمطعم. والرعاية للمواشي والخيل أيضاً للمطعم والمركب. والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب، فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها. والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي، ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة، ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص، والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب، أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما، أو من جلود الحيوانات. فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات: النجارة والحدادة والخز. وهؤلاء هم عمال الآلات، ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان. وبالحداد؛ كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبرى وغيرهما. وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة. وأما الخراز؛ فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها. فهذه أمهات الصناعات.
ثم عن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين؛ أحدهما: حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان، ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما. والثاني: التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد، فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة، والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت. ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة. فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها، وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار، ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز؟ وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة؟ فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع. ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها، لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل، فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل، فحدثت البلاد لهذه الضرورة.
ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات، إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة، وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به. ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم، إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت. فأما المرأة فتخاصم الزوج، والولد يخاصم الأبوين. هذا في المنزل.وأما أهل البلد أيضاً فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها، ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا، وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة. ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعاً لهلك، ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له.
فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى. فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل. ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم. ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة، ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق، ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها. فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية، وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش، ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلاً تعطلت الصناعات، ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس، فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت، أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار، فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة، فتحدث الحاجة إلى الخراج. ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر؛ إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال. وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون، وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان، وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر. وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصاً، ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه، واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك، فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح، وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال. ثم هؤلاء أيضاً يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج. وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاثة طوائف؛ الفلاحون والرعاة والمحترفون، والثانية: الجندية الحماة بالسيوف. والثالثة: المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم. فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى. وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسبب أبواب أخر. وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها، من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى، وهكذا على التوالي. فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات. والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به، وأعلاها الأغذية، ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها وهي الدور، ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع، ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته، ثم آلات الآلات، وقد يكون في الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد، والبقر آلة الحراثة، والفرس آلة الركوب في الحرب. ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة، والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة. فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح، فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده لآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة، إلا أن النجار مثلاً إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه، والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض، فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات؛ وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات، فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجاً باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعاًفي ربح، وكذلك في جميع الأمتعة والأموال. ثم يحدث لا محالة بين البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات، وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم؛ إذ كل بلد ربما لا توجد في كل آلة، وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام، فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل، فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة، فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم، ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم؛ إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم، ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد. بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة. ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضاً.
ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها، وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة، ويصير الكراء نوعاً من الاكتساب أيضاً، ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاماً بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو؟ والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب، فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال، ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم. وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس، ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة. وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه. فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم. وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء.
وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى عاجزاً عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره، فيحدث منه حرفتان خسيستان: اللصوصية والكداية؛ إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير.
أما اللصوص: فمنهم من يطلب أعواناً ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد. وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة، وإما بأن يكون طراراً أو سلالاً، إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها.
وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة فلا يعطى شيئاً، فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة، فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون، وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض، وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق، ليكون ذلك سبب الرحمة، وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها، فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب، ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم. وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة، وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت. والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس ولا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت، أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق، وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات، والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال، وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين. ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رؤوس المنابر إذ لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية، وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين. وكل ذلك استنبط بدفيق الفكرة لأجل المعيشة. فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها، وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا، وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة، فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه: فطائفة علبهم الجهل والغفلة فلم تتفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة امورهم فقالوا: المقصود أن نعيش أياماً في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا، وهذا مهذب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت.
وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج، فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر.
وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طوال الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون، ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات؛ فيكون الجامع تعبه ووباله وللآكل لذته. ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أملا ذلك ولا يعتبرون.
وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس.
وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا همهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم.
ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة، كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها. وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها، وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه، وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك، وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له، وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية، فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها. فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا. وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم، وأضلهم في الإعراض أيضاً حتى انقسموا إلى طوائف: فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا، وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق، ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا.
وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولاً من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية، وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب، ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم، حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن. وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة. وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد. وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عباده لا ينقصه عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.
وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف، وإنما التكليف على عوام الخلق.
ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة، وإنما الناجي منها فرقة واحدة؛ وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية. أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل. ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد، ومن الكسوة كذلك، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر، وبقي ملازماً لسياسة الشهوات ومراقباً لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال "الناجي منها واحدة" قالوا: يا رسول الله ومن هم؟ قال "أهل السنة والجماعة" فقيل: ومن أهل السنة والجماعة؟ قال "ما أنا عليه وأصحابي وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفيين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى -كما سبق ذكره في مواضع- والله أعلم.


[align=center]تم كتاب ذم الدنيا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.[/align]

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 31, 2006 7:43 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب ذم البخل وذم حب المال
وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]

الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضر بعد القنوط، الذي خلق الخلق، ووسع الرزق، وأفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، ورددهم فيها بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة والإفلاس، والعجز والاستطاعة، والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف على المفقود، والإيثار والإنفاق، والتوسع والإملاق، والتبذير والتقتير، والرضا بالقليل واستحقار الكثير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً، وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً، واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا، والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً، وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف واسعة الأرجاء والأكناف، ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، ثم إذا وجدت فلا سلامة منها، فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإن وجد حصل منه الغطيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلى خسرا. وبالجملة فهي لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المسترسمين المغترين. وشرح ذلك مهم على الانفراد، فإن ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظراً في المال خاصة بل في الدنيا عامة؛ إذ الدنيا تتناول كل حظ عاجل، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها، والكبر وطلب العلو بعضها. ولها أبعاض كثيرة. ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل. ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده، إذ فيه آفات وغوائل. وللإنسان من فقده صفة الفقر، ومن وجوده وصف الغنى. وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان.
ثم للفاقد حالتان: القناعة والحرص، وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق، والطمع شر الحالتين.
وللواجد حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق. وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد.
وهذه أمور متشابهة وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم. ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلاً إن شاء الله تعالى وهو: بيان ذم المال، ثم مدحه ثم تفصيل فوائد المال وآفاته ثم ذم الحرص والطمع ثم علاج الحرص والطمع. ثم فضيلة السخاء. ثم حكايات الأسخياء، ثم ذم البخل، ثم حكايات البخلاء. ثم الإيثار وفضله. ثم حد السخاء والبخل. ثم علاج البخل. ثم مجموع الوظائف في المال. ثم ذم الغنى ومدح الفقر؛ إن شاء الله تعالى.


[align=center]بيان ذم المال وكراهة حبه[/align]

قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون" وقال تعالى "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" فمن اختار ماله وولده على ما عند الله فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها" الآية. وقال تعالى "إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى" فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال تعالى "ألهاكم التكاثر".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال صلى الله عليه وسلم "ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساداً فيها من حب الشرف والمال والجاه في دين الرجل المسلم وقال صلى الله عليه وسلم "هلك المكثرون إلا من قال به في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم وقيل: يا رسول الله أي أمتك شر؟ قال "الأغنياء وقال صلى الله عليه وسلم "سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ويركبون فره الخيل وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها ويلبسون أجمل الثياب وألوانها، لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفون على الدنيا يغدون ويروحون إليها، اتخذوها آلهة من دون إلههم ورباً دون ربهم، إلى أمرها ينتهون ولهواهم يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام وقال صلى الله عليه وسلم "دعوا الدنيا لأهلها، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر وقال صلى الله عليه وسلم "يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟ وقال رجل: يا رسول الله مالي لا أحب الموت! فقال "هل معك من مال؟" قال: نعم يا رسول الله؛ قال "قدم مالك فإن قلب المؤمن مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه وقال صلى الله عليه وسلم "أخلاء بن آدم ثلاثة. واحد يتبعه إلى قبض روحه، والثاني إلى قبره، والثالث إلى محشرة. فالذي يتبعه إلى قبض روحه فهو ماله، والذي يتبعه إلى قبره فهو أهله، والذي يتبعه إلى محشره فهو عمله .
وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك؟ فقال لهم؛ ما منزلة الدينار والدرهم عندكم؟ قالوا: حسنة، قال: لكنهما والمدر عندي سواء. وكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما: يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا مالاً تؤدي شكره، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في، ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور .
وكل ما أوردناه في كتاب الزهد والفقر في ذم الغنى ومدح الفقر يرجع جميعه إلى ذم المال، فلا نطول بتكريره، وكذا كل ما ذكرناه في ذم الدنيا فيتناول ذم المال بحكم العموم، لأن المال أعظم أركان الدنيا. وإنما نذكر الآن ما ورد في المال خاصة.
قال صلى الله عليه وسلم "إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف وقال صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا .
الآثار: روي أن رجلاً نال من أبي الدرداء وأراه سوءاً فقال: اللهم من فعل بي سوءاً فأصح جسمه وأطل عمره وأكثر ماله. فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم وطول العمر؟ لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهماً على كفه ثم قال: أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني. وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينت بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا؟ قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب، قال: غفر الله له، ثم سلت ستراً كان لها فقطعته وجعلته صرراً وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها، ثم رفعت يديها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فكانت أول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوقاً به. وقال الحسن: والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله. وقيل: إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعها إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما وقال. من أحبكما فهو عبدي حقاً. وقال سميط بن عجلان: إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه، قيل: وما رقيته؟ قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال العلاء بن زياد: تمثلت لي الدنيا وعليها من كل زينة فقلت: أعوذ بالله من شرك فقالت: إن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدرهم والدينار. وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها، فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا وفي ذلك قيل:


[poet font="Simplified Arabic,4,indigo,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إني وجدت فلا تظنوا غيره أن التورع عند هذا الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركتـه فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم
[/poet]

وفي ذلك قيل أيضاً:

[poet font="Simplified Arabic,4,teal,normal,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/15.gif" border="double,4,teal" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لا يغرنك من الـمـر قيمـص رقـعــه
أو إزار فوق عظم الس اق مـنـه رفـعـه
أو جـبـين لاح فـيه أثـر قـد خـلـعـه
أره الدرهم تـعـرف حبـه أو ورعـــه
[/poet]

ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته فقال يا أمير المؤمنين صنعت صنيعاً لم يصنعه أحد قبلك، تركت ولدك ليس له درهم ولا دينار -وكان له ثلاثة عشر من الولد- فقال عمر: أقعدوني! فأقعدوه فقال: أما قولك لم أدع لهم ديناراً ولا درهماً فإني لم أمنعهم حقاً لهم ولم أعطهم حقاً لغيرهم! وإنما ولدي أحد رجلين: إما مطيع لله فالله كافيه والله يتولى الصالحين، وإما عاص لله فلا أبالي على ما وقع. وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالاً كثيراً فقيل له: لو ادخرته لولدك من بعدك؟ قال: لا ولكني أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي. ويروى أن رجلاً قال لأبي عبد ربه: يا أخي لا تذهب بشر وتترك أولادك بخير! فأخرج أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم. وقال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما؟ قال: يؤخذ منه كله ويسئل عنه كله.

[align=center]بيان مدح المال والجمع بينه وبين الذم[/align]

اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيراً في مواضع من كتابه العزيز فقل جل وعز "إن ترك خيراً" الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم المال الصالح للرجل الصالح وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به. وقال تعالى "ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك" وقال تعالى ممتناً على عباده "ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً" وقال صلى الله عليه وسلم "كاد الفقر أن يكون كفراً وهو ثناء على المال. ولا تقف على وجه الجمع بعد الذم والمدح إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وآفاته وغوائله؛ حتى ينكشف لك أنه خير من وجه وشر من وجه، وأنه محمود من حيث هو خير ومذموم من حيث هو شر، فإنه ليس بخير محض ولا شر محض، بل هو سبب للأمرين جميعاً وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة ويذم أخرى، ولكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم، وبيانه بالاستمداد مما ذكرناه في كتاب الشكر من بيان الخيرات وتفصيل درجات النعم، والقدر المقنع فيه هو أن مقصد الأكياس وأرباب البصائر سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم والملك والمقيم. والقصد إلى هذا دأب الكرام والأكياس، إذ قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس وأكيسهم؟ فقال "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا وهي الفضائل النفسية، كالعلم وحسن الخلق، والفضائل البدنية: كالصحة والسلامة، والفضائل الخارجة عن البدن: كالمال وسائر الأسباب. وأعلاها النفسية، ثم البدنية، ثم الخارجة.
فالخارجة أخسها والمال من جملة الخارجات،وأدناها الدراهم والدنانير، فإنهما خادمان ولا خادم لهما، ومرادان لغيرهما. ولا يرادان لذاتهما؛ إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها، وأنها تخدم العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق لتحصلها صفة في ذاتها، والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس والأعضاء، والمطاعم والملابس تخدم البدن. وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن. ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والأخلاق. ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال ووجه شرفه، وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ملتفتاً إليها غير ناس لها فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له الغرض محموداً في حقه، فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل. فهو إذا محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم. فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد به الخبر.
ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله وكان المال مسهلاً لها وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبينا عليه الصالة والسلام "الله اجعل قوت آل محمد كفافاً فلم يطلب من الدنيا غلا ما يتمحض خيره وقال "الله أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين واستعاذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وعنى بها هذين الحجرين الذهب والفضة، إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة، إذ قد كفى قبل النبوة مع الصغر، وإنما معنى عبادتهما حبهما والاغترار بهما والركون إليهما قال نبينا صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتفش فبين أن محبهما عابد لهما ومن عبد حجراً فهو عابد صنم. بل كل من كان عبداً لغير الله فهو عابد صنم، أي قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم، وهو شرك إلا أن الشرك شركان: شرك خفي لا يوجب الخلود في النار وقلما ينفك عنه المؤمنون فإنه أخفى من دبيب النمل، وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع.


[align=center]بيان تفصيل آفات المال وفوائده[/align]

اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده ترياقه، وغوائله سمومه. فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره.
أما الفوائد: فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها. وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع.
النوع الأول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة. أما في العبادة: فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما. وأما فيما يقويه على العبادة: فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين، ومالا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية. ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة عن الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.
النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروءة، ووقاية العرض، وأجرة الاستخدام.
أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفئ غضب الرب تعالى، وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم.
وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ما يجري مجراها، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء. فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة، وهذا أيضاً مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها.
وأما وقاية العرض فنعني بها بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم، وهو أيضاً مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافأة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة.
وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاه بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما ر يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران.
النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق، وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات، وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية، وناهيك بها خيراً. فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء، والوقار والكرامة في القلوب، فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية.
وأما الآفات فدينية ودنيوية أما الدينية فثلاث.
الأول أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يجد. ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليها انبعث داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة؛ إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.
الثانية أن يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أول الدرجات، فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كا يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه، فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض، فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة، لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه، فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم، فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً. ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة، وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح. وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه.
الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى، وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: في المال ثلاث آفات، أن يأخذه من غير حله، فقيل: إن أخذه من حله؟ فقال: يضعه في غير حقه، فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: يشغله إصلاحه عن الله تعالى. وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله، وذلك يستدعي قلباً فارغاً وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم. وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال. وكذلك صاحب المواشي. وهكذا سائر أصناف الأموال. وأبعدها عن كثرة الشغل: النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه. وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها، والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك. فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه، فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات. نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه إنه على ذلك قدير.


[align=center]بيان ذم الحرص والطمع
ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس [/align]


اعلم أن الفقر محمود -كما أوردناه في كتاب الفقر- ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إلى ما في أيديهم ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس والمسكن، ويقتصر على أقله قدراً وأخسه نوعاً، ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره، ولا يشغل قلبه بما بعد شهر. فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص، وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو كان لبن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وعن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحىإليه أتيناه بعلمنا مما أوحى إليه، فجئته ذات يوم فقال "إن الله عز وجل يقول: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقال أبو موسى الأشعري: نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . وقال صلى الله عليه وسلم "منهومان لا يشعبان منهوم العلم ومنهوم المال وقال صلى الله عليه وسلم "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الأمل وحب المال" أو كما يقال .
ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة وغريزة مهلكه أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة فقال صلى الله عليه وسلم "طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به وقال صلى الله عليه وسلم "ما من أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أن كان أوتى قوتاً في الدنيا وقال صلى الله عليه وسلم "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال "أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة وروى أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال: أي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم مما أعطيته، قال: فأيهم أعدل؟ قال: من أنصف من نفسه. وقال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن روح القدس نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف وكوز من ماء وعلى الدنيا الدمار" وقال أبو هريرة رضي الله عنه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كن ورعاً، تكن أعبد الناس وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع فيما رواه أبو أبو أيوب الأنصاري: أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال" يا رسول الله عظني وأوجز فقال "إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس وقال عوف بن مالك الأشجعي: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -تسعة أو ثمانية أو سبعة- فقال "ألا تبايعون رسول الله" قلنا: أوليس قد بايعناك يا رسول الله؟ ثم قال "ألا تبايعون رسول الله" فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل منا: قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك؟ قال "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الخمس، وأن تسمعوا وتطيعوا" وأسر كلمة خفية "ولا تسألوا الناس شيئاً قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه.
الآثار: قال عمر رضي الله عنه: إن الطمع فقر وإن اليأس غنى وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى؟ قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك، وفي ذلك قيل:


[poet font="Simplified Arabic,4,chocolate,normal,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/10.gif" border="double,4,chocolate" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
العيش ساعـات تـمـر وخطـب أيام تـكـر
أقنع بعيشـك تـرضـه واترك هواك تعيش حر
فلرب حتـف سـاقـه ذهـب وياقـوت ودر
[/poet]

وكان محمد بن واسع يبل الخبز بالماء ويأكل ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد. وقال سفيان: خير دنياكم ما لم تبتلوا به وخير ما ابتليتم به ما خرج من أيديكم وقال ابن مسعود: ما من يوم إلا ومسلك ينادى؛ يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك. وقال سميط بن عجلان: إنما بطنك يا بن آدم شبر فلم يدخلك النار؟ وقيل لحكيم: ما مالك؟ قال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس. ويروى أن الله عز وجل قال: يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، وإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن. وقال ابن مسعود: إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيراً ولا يأتي الرجل فيقول: إنك وإنك فيقطع ظهره، فإنما يأتيه ما قسم له من الرزق أو ما رزق. وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم -يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه- فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى موالاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت. وقيل لبعض الحكماء: أي شيء أسر للعاقل وإيما شيء أعون على دفع الحزن؟ فقال: أسرها إليه ما قدم من صالح العمل، وأعونها له على دفع الحزن الرضا بمحتوم القضاء وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص إذ طمع، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط. وفي ذلك قيل:

[poet font="Andalus,4,firebrick,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="double,4,firebrick" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
آرفه ببال فتى أمسى على ثقة أن الذي قسم الأرزاق يرزقه
فالعرض منه مصون لا يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه
إن القناعة من يحلل بساحتهـا لم يلق في دهره شيئاً يؤرقه
[/poet]

وقد قيل أيضاً:

[poet font="Tahoma,3,seagreen,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,green" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
حتى متى أنـا فـي حـل وتـرحـال وطـول سـعـي وإدبـار إقـبــال
ونازح الدار لا أنـفـك مـغـتـربـاً عن الأحـبة لا يدرون مـا حـالــي
بمشرق الأرض طوراً ثم مغـربـهـا لا يخطر الموت من حرصي على بالي
ولو قنعت أتانـي الـرزق فـي دعـه إن القنوع الغنى لا كـثـرة الـمـال
[/poet]

وقال عمر رضي الله عنه: ألا أخبركم بما أستحل من مال الله تعالى: حلتان لشتائي وقيظي، وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي، وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم، فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا؟ كأنه شك في أن هذا القدر هل هو زيادة على الكفاية التي تجب القناعة بها؟ وعاتب أعرابي أخاه على الحرس فقال يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته وتطلب أنت ما قد كفيته، وكأن ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً. وفي ذلك قيل:

[poet font="Simplified Arabic,4,gray,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/22.gif" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,gray" filter=""]
أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدنيا كأنك لا تمـوت
فهل لك غاية إن صرت يوماً إليها قلت حسبي قد رضيت
[/poet]

وقال الشعبي: حكي أن رجلاً صاد قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك، قالت: والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما واحدة: فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية: فإذا صرت على الشجرة، وأما الثالثة: فإذا صرت على الجبل، قال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فخلاها فلما صارت على الشجرة قال: هات الثانية: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، ثم طارت فصارت على الجبل فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالاً، قال: فعض على شفته وتلهف وقال: هات الثالثة: قالت: أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك الثالثة؟ ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون، أنا لحمي ودمي وريش لا يكون عشرين مثقالاً فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالاً؟ ثم طارت فذهبت. وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون. وقال ابن السماك: إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك. وقال أبو محمد اليزيدي: دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب، فلما رآني ابتسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين؟ قال: نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما وقد أضفت إليهما ثالثاً. وأنشدني:

[poet font="Andalus,4,purple,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إذا سد باب عنك من دون حاجة فدعه لأخرى ينفتح لك بابـهـا
فإن قراب البطن يكفيك ملـؤه ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
ولا تك مبذالاً لعرضك واجتنب ركوب المعاصي يجتنبك عقابها
[/poet]

وقال عبد الله بن سلام لكعب: ما يذهب العلوم من قلوب العلماء إذ وعوها وعقلوها؟ قال: الطمع وشره النفس وطلب الحوائج. وقال رجل للفضيل: فسر لي قول كعب، قال: يطمع الرجل في الشيء يطلبه فيذهب عليه دينه، وأما الشره فشره النفس في هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء، ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له. فمن حبك للدنيا سلمت عليه إذا مررت به وعدته إذا مرض؛ لم تسلم عليه لله عز وجل ولم تعده لله، فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيراً لك. ثم قال: هذا خير لك من مائة حديث عن فلان عن فلان. قال بعض الحكماء: من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال. وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: من أين تأكل؟ قال: من بيدر اللطيف الخبير، الذي خلق الرحا يأتيها بالطحين -وأومأ بيده إلى رحل أضراسه- فسبحان القدير الخبير.

[align=center]بيان علاج الحرص والطمع
والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة [/align]


اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر والعلم والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: وهو العمل؛ الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق، فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه ويرد نفسه إلا ما لا بد له منه، فمن كثر خرجه واتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة، بل إن كان وحده فينبغي أن يقنع بثوب واحد خشن، ويقنع بأي طعام كان؛ ويقلل من الإدم ما أمكنه، ويوطن نفسه عليه وإن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر؛ فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد. ويمكن معه الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وهو الأصل في القناعة؛ ونعني به الرفق في الإنفاق وترك الخرق فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الرفق الأمر كله" وقال صلى الله عليه وسلم "ما عال من اقتصد وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث منجيات؛ خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب وروي أن رجلاً أبصر أبا الدرداء يلتقط حباً من الأرض وهو يقول: إن من فقهك رفقك في معيشتك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم "الاقتصاد وحسن السمت والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة .
وفي الخبر "التدبير نصف المعيشة وقال صلى الله عليه وسلم "من اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن ذكر الله عز وجل أحبه الله وقال صلى الله عليه وسلم "إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً والتؤدة في الإنفاق من أهم الأمور.
الثاني: أنه إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، والتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق، بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى إذ قال عز وجل "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول: إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال، فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفاً من الفقر، ويضحك عليه في احتماله التعب نقداً مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل:


[poet font="Andalus,4,black,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/3.gif" border="double,4,black" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر
[/poet]

وقد دخلا ابنا خالد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما، "لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن مسعود وهو حزين فقال له "لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة ولا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن ثقته بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد، وأن ذلك يحصل لا محالة مع الإجمال في الطلب، بل ينبغي أن يعلم أن رزق الله للعبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" فإذا انسد عليه الباب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله، وقال صلى الله عليه وسلم "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب وقال سفيان: اتق الله فما رأيت تقياً محتاجاً. أي لا يترك التقى فاقداً لضرورته، بل يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه. وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي من أين معاشك؟ قال نذر الحاج، قلت: فإذا صدروا، فبكى وقال: لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش. وقال أبو حازم رضي الله عنه: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً منهما هو لي، فيما أعجله قبل وقته ولو طلبته بقوة السماوات والأرض. وشيئاً منهما هو لغيري فلذلك لم أنله فيما مضى فلا أرجوه فيما بقى، يمنع الذي لغيري مني كما يمنع الذي لي من غيري، ففي أي هذين أفني عمري؟ فهذا دواء من جهة المعرفة لا بد منه لدفع تخويف الشيطان. وإنذاره بالفقر.
الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل، فإذا تحقق عنده ذلك انبعث رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل. وليس في القناعة إلا ألم الصبر عن الشهوات والفضول. وهذا ألم لا يطلع عليه أحد إلا الله وفيه ثواب الآخرة. وذلك مما يضاف إليه نظر الناس وفيه الوبال والمأثم. ثم يفوته عز النفس والقدرة على متابعة الحق فإن من كثر طمعه وحرصه كثرت حاجته إلى الناس فلا يمكنه دعوتهم إلى الحق ويلزمه المداهنة، وذلك يهلك دينه ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم "عز المؤمن استغناؤه عن الناس ففي القناعة الحرية والعز. ولذلك قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره.
الرابع: أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى من الأكراد والأعراب الأجلاف ومن لا دين لهم ولا عقل. ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء وإلى سمت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم. ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الناس أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله، حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير، فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلاً منه وإن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه، وإن تزين في الملبس والحلي ففي اليهود من هو أعلى رتبة منه، وإن قنع بالقليل ورضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأنبياء والأولياء.
الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر -كما ذكرنا في آفات المال- وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع؛ وما في خلو اليد من الأمن والفراغ، ويتأمل ما ذكرناه في آفات المال مع ما يفوته من المدافعة عن باب الجنة إلى خمسمائة عام، فإنه إذا لم يقنع مما يكفيه ألحق بزمرة الأغنياء وأخرج من جريدة الفقراء. ويتم ذلك بأن ينظر أبداً إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه، فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه فيقول: لم تفتر عن الطلب وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس؟ ويصرف نظره في الدين إلى من دونه فيقول: ولم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك وهو لا يخاف الله؟ والناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تتميز عنهم؟ قال أبو ذر: أوصاني خليلي صلوات الله عليه أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي أي في الدنيا. وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة. وعماد الأمر الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل للتمتع دهراً طويلاً، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أغسطس 03, 2006 8:19 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان فضيلة السخاء[/align]

اعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجوداً فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام وهو أصل من أصول النجاة. وعنه عبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال "السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة وقال جابر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال جبريل عليه السلام. قال الله تعالى إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما استطعتما وفي رواية "فأكرموه بهما ما صحبتموه" وعن عائشة الصديقية رضي الله عنها قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على حسن الخلق والسخاء وعن جابر قال. قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال "الصبر والسماحة وقال عبد الله بن عمرو. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل، فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس وروى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال "إن موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه ذلك الغصن حتى يدخله الجنة وقال أبو سعيد الخدري. قال النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي وعن ابن عباس قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر وقال ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم "الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير وإن الله تعالى لباهى بمطعم الطعام الملائكة عليهم السلام وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويكرف سفسافها وقال أنس. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، وأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، فرجع قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة وقال ابن عمر: قال صلى الله عليهوآله وسلم "إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن يخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره وعن الهلالي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم "نزل علي جبريل فقال "اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله تعالى شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء وقال صلى الله عليه وسلم "من عظمن نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤنة عرض تلك النعمة للزوال. وقال عيسى عليه السلام: استكثروا من شيء لا تأكله النار، وقيل: وما هو؟ قال: المعروف. وقالت عائشة رضي الله عنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجنة دار الأسخياء وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار، وإن البخيل بعيد من الله من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل، وأدوأ الداء البخل وقال صلى الله عليه وسلم "اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله، فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للمسلمين وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله عز وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى البلدة الجدية فيحييها ويحيي به أهلها وقال صلى الله عليه وسلم "كل معروق صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها وقال صلى الله عليه وسلم "كل معروف فعلته إلى غني أو فقير صدقة وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري فإنه سخي وقال جابر: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب فحدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم "إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت . الآثار: قال علي كرم الله وجهه: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد:

[poet font="Andalus,4,seagreen,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,teal" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لا تبخلن بدنيا وهي مـقـبـلة فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
[/poet]

وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة والنجدة والكرم فقال: أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحذره نفسه وحسن قيامه بضيفه وحسن المنازعة والأقدام في الكراهية. وأما النجد فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم فالتبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل. ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال حاجتك مقضية فقيل له يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته. وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وسئل بعض الأعراب من سيدكم فقال من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخياً وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاماً. وقيل للحسن البصري ما السخاء؟ فقال أن تجود بمالك في الله عز وجل. قيل فما الحزم؟ قال أن تمنع مالك فيه قيل فما الإسراف؟ قال الإنفاق لحب الرياسة. وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول: إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة. وقال حذيفة رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته. وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلاً في يده درهم فقال لمن هذا الدرهم فقال لي فقال أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك وفي معناه قيل:

[poet font="Andalus,4,indigo,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك
[/poet]

وسمي واصل بن عطاء: الغزال، لأنه كان يجلس إلى الغزلين؛ فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئاً. وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه خير المال ما وقي به العرض. وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء؟ قال السخاء البر بالإخوان والجود بالمال. قال وورث أبي خمسين ألف درهم فبعث بها صرراً إلى إخوانه. وقال قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي أفأبخل عليهم بالمال؟ وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود. وقيل لبعض الحكماء من أحب الناس إليك؟ قال: من كثرت أياديه عندي، قيل: فإن لم يكن، قال من كثرت أيادي عنده. وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروف عنده فيده عندي مثل يدي عنده. وقال المهدي لشبيب بن شبة كيف رأيت الناس في داري؟ فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل منهم ليدخل راجياً ويخرج راضياً وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال:

[poet font="Andalus,4,teal,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/15.gif" border="double,4,sienna" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إن الصنيعة لا تكون صـنـيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها لله أو لـذوي الـقـرابة أو دع
[/poet]

فقال عبد الله بن جعفر إن هذين البيتين ليبخلان الناس، ولكن أمطر المعروف مطراً، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً.

[align=center]حكايات الأسخياء[/align]

عن محمد بن المنكدر عن أم درة -وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها- قالت إن معاوية بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت يا جارية هلم فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة. ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟ فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت.
وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملئوا عليه الدار، فقال ما هذا؟ فأخبر الخبر، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة، وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا، وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم؟ قالوا: نعم، قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم.
وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه، فلما خرج معاوية، قال الحسن إن علينا ديناً فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه، فمروا عليه ببخي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه، فقال معاوية ما هذا؟ فذكر له، فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد.
وعن واقد بن محمد الواقدي قال حدثن يأبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه، فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان، السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك، وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك. وأنت حدثتني وكنت على قضاء الرشيد؛ عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير بن العوام "يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له وأنت أعلم قال الواقدي: فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلى من الجائزة وهي مائة ألف درهم.
وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة فقال له: يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما بحب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاه لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت، فقال: يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية، وأعذر علي المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال أحضرها، فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحملين، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم! فقال: أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.
واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة فقالوا: لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقاً فأخرت من ست بدر فقال: احملوا، فحملوا فقال: ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه، وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا.
وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال: والله لأعلمن الشيطان أني عدوه؛ فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم، فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته.
وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل. بحق عليبن أبي طالب لما وهب لي نخلتك بموضع كذا وكذا، فقال: قد فعلت، وحقه لأعطينك ما يليها، وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل.
وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر: والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني، فإن أهلي لا يتركوني محبوساً، ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس.
وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل الأمير البستان أعلمه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس المال فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها:


[poet font="Andalus,4,coral,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="double,4,sienna" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فما لي إلى معن سواك شفيع
[/poet]

فقال: من صاحب هذه؟ فدعي بالرجل، فقال له: كيف قلت؟ فقال له، فأمر له بعشر بدر، فأخذها ووضع الأمير الخشية تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم، فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج، فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار.
وقال أبو الحسن المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك ثم قالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا، إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون، فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال: ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين نفر من قريش؟ قال: ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمه، فمرت العجوز ببعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها: يا أمة الله أتعرفيني؟ قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا، فقالت العجوز: بأبي أنت وأمي أنت هو؟ قال: نعم. ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي؟ قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين؟ قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها: لو بدأت بي لأتعبتهما، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار.
وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام؟ قال: صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه، فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك.
وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة، فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد؛ فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له: هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي؟ وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به، ولهذا الرجل بعير سمين، فقال له في النوم: نعم، فباعه في النوم بعيره بنجيبه، فملا وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم، فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره، فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب، فقال رجل منهم: من فلان بن فلان منكم؟ -باسم ذلك الرجل- فقال: أنا، فقال له هل بعث من فلان بن فلان شيئاً؟ وذكر الميت صاحب القبر، قال: نعم بعث بعيري بنجيبه في النوم، فقال: خذ هذا نجيبه، ثم قال: هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول: إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه.
وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض، فقال: يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم، فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف، فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك؟ قال: لا، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.
واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قالوا يبكون لدارهم، فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.
وقيل بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار، فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي؟ فقال يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار؛ فاستحييت أن أعطى مثل أقل من دخل يوم. وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار. وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل، فأمر لها بزق من عسل، فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا؟ فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا. وكان الليث ابن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكيناً.
وقال الأعمش: اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها؟ وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها؟ وكان تحت لبد أجلس عليه فإذا خرج قال: خذ ما تحت اللبد، حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.
وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة: بلغني عنك خصال فحدثني لها، فقال: هي من غيري أحسن منها مني، فقال: عزمت عليك إلا حدثتني بها؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاماً قد فدعوت عليه قوماً إلا كانوا أمن علي مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئاً فاستكثرت شيئاً أعطيته إياه.
ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلاً جواداً فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن سأله صكاً على نفسه حتى يخرج عطاؤه، فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت فقال:


[poet font="Andalus,4,purple,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="ridge,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إني سمعت مع الصباح منـاديا يا من يعين على الفتى المعوان
[/poet]

ثم قال: ما حاجتك؟ قال: ديني، قال: وكم هو؟ قال: ثلاثون ألف درهم، قال: لك دينك ومثله.
وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل لهم: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزي الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده.
وعن أبي إسحاق قال: صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي، فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان، فقلت: لست أهل هذا المسجد، فقالوا: إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين.
وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله: سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول، سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً، فولد لبعضهم مولود قال: فجئت إليه وقلت له: ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء، فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال: رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء، قال: ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه، وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء، قال: فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال: فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال: سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب، ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون يخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له: اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه، فقال: هذا مالكم وليس لرؤياي حكم، فقالوا: هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء؟ فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى رجل صاحب المولود وذكر له القصة، قال: فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء، فقال أبو سعيد: فلا أدري أي هؤلاء أسخى ،وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال: مروا فلاناً يغسلني، فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال: ائتوني بتذكرته، فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين، فكتبها على نفسه وقضاها عنه، وقال هذا غسلي إياه؛ أي أراد به هذا. وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم مستدلاً بقوله تعالى "وكان أبوهما صالحاً" وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره، فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره فقال الله والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها، وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه:


[poet font="Tahoma,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/22.gif" border="inset,4,firebrick" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
يا لهف قلب على مال أجـود بـه على المقلين من أهل المـروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألـنـي ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات
[/poet]

وعن الربيع بن سليمان قال أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله فقال يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني وقال الربيع سمعت الحميدي يقول قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عنده شيء. وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته، فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك، قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال، فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها بمعرفتي بأصلها وقد وقفف أكثرها، ولكني بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إلى حجوا أن ينزلوا فيه. وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول:

[poet font="Tahoma,4,black,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/1.gif" border="solid,4,firebrick" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي
فنفسي لا تطاوعني ببخـل ومالي لا يبلغني فعالـي
[/poet]

وقال محمد بن عباد المهبلي: دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال: يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فوصله بمائة ألف أخرى.
وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى، فقال له سعيد: ما يبكيك! قال: أبكي على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى.
ودخل أبو تمام على إبراهيم بن شكلة بأبيات امتدحه بها فوجده عليلاً فقبل منه المدحة وأمر حاجبه بنيله ما يصلحه، وقال: عسى أن أقوم من رضي فأكافئه، فأقام شهرين فوحشه طول المقام فكتب إليه يقول:


[poet font="Andalus,4,black,normal,normal" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/2.gif" border="outset,4,chocolate" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
إن حـرامـاً قـبـول مـدحــتـــنـــا وتـرك مـا نـرتـجـي مـن الـصـفـد
كما الدراهم والدنانير في البيع حرام إلا يدا بيد
[/poet]

فلما وصل البيتان إلى إبراهيم قال لحاجبه. كم أقام بالباب؟ قال: شهرين، قال: أعطه ثلاثين ألفاً وجئني بدواة، فكتب إليه:

[poet font="Times New Roman,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/12.gif" border="double,4,indigo" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أعجبتنا فأتاك عاجل برنـا قلا ولو أمهلتنا لم نقـلـل
فخذ القلي وكن كأنك لم تقل ونقول ونحن كأننا لم نفعل
[/poet]

وروي أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة. قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك؟ فقال اجتمع عندي مال وقد غمني، فقلت وما يغمك ادع قومك؟ فقال يا غلام علي بقومي، فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان؟ قال: أربعمائة ألف. وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها، وإن شئت فعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال: الثمن، فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن.
وقيل بكى علي كرم الله وجهه يوماً فقيل: ما يبكيك؟ فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، أخاف أن يكون الله قد أهانيي ، وأتى رجل صديقاً له فدفق عليه الباب فقال، ما جاء بك؟ قال علي أربعمائة درهم دين، فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي، فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك؟ فقال إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتيحي. فرحم الله من هذه صفاتهم وغر لهم أجمعين.


[align=center]بيان ذم البخل[/align]

قال الله تعالى "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وقال تعالى "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" وقال تعالى "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وقال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن لا سيئ الملكة وفي رواية "ولا جبار" وفي رواية "ولا منان" وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث مهلكات؛ شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يبغض ثلاثة: الشيخ الزاني، والبخيل المنان، والمعيل المختال وقال صلى الله عليه وسلم "مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا قلصت ولزمت كل حلقه مكانه حتى أخذت بتراقيه فهو يوسعها ولا تتسع وقال صلى الله عليه وسلم "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى ارذل العمر وقال صلى الله عليه وسلم "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحشين، وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وقال صلى الله عليه وسلم "شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وقتل شهيد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكته باكية فقالت: واشهيداه! فقال صلى الله عليه وسلم "وما يدريك أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه وقال جبير بن مطعم: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفلة من خيبر إذا علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف صلى الله عليه وسلم فقال "أعطوني ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد هذه العصاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً وقال عمر رضي الله عنه: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً فقلت غير هؤلاء كان أحق به منهم؟ فقال "إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل وقال أبو سعيد الخدري: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه ثمن بعير فأعطاهما دينارين؛ فخرجا من عنده فلقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأثنيا وقالا معروفاً وشكراً ما صنع بهما، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالا. فقال صلى الله عليه وسلم "لكن فلان أعطيته ما بين عشرة إلى مائة ولم يقل ذلك إن أحدكم ليسألني فينطلق في مسألته متأبطها وهي نار؛ فقال عمر فلم تعطهم ما هو نار؛ فقال "يأبون إلا أن يسألون ويأبى الله لي البخل وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله لكم ألا إن الله عز وجل خلق الجود فجعله في صورة رجل وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة طوبى، وشد أغصانها بأغصان سدرة المنتهى، ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا، فمن تعلق بغضن منه أدخله الجنة، ألا إن السخاء من الإيمان، والإيمان في الجنة. وخلق البخل من مقته وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله النار، ألا إن البخل من الكفر والكفر في النار وقال صلى الله عليه وسلم "السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي، والبخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد بني لحيان "من سيدكم يا بني لحيان؟" قالوا: سيدنا جد بن قيس إلا أنه رجل فيه بخل، فقال صلى الله عليه وسلم "وأي داء أدوأ من البخل ولكن سيدكم عمرو بن الجموح وفي رواية أنهم قالوا: سيدنا جد بن قيس، فقال "بما تسودونه؟" قالوا: إنه أكثر مالاً وأنا على ذلك لنرى منه البخل، فقال عليه السلام "وأي داء أدوأ من البخل ليس ذلك سيدكم" قالوا" فمن سيدنا يا رسول الله؟ قال "سيدكم بشر بن البراء" وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يبغض البخيل في حياته السخي عند موته وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل وقال أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم "الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد وقال أيضاً "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وقال صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً وقال صلى الله عليه وسلم "يقول قائلكم الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح، حلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي فقال صلى الله عليه وسلم "وما ذنبك صفه لي؟" فقال: هو أعظم من أن أصفه لك! فقال "ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟" فقال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال: "فذنبك أعظم أم الجبال؟" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم البحار؟" قال" بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم السموات؟" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم العرش؟" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم الله؟" قال: بل الله أعظم وأعلى، قال "ويحك فصف لي ذنبك" قال: يا رسول الله إني رجل ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من نار، فقال صلى الله عليه وسلم "إليك عني لا تحرقني بنارك فو الذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم صلت ألفي ألف عام ثم بكيت حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقى بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار، ويحك! أما علمت أن البخل كفر وأن الكفر في النار، ويحك! أما علم أن الله تعالى يقول "ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه... ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" .
الآثار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت، ثم قال لها: أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التنسيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنها العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمى فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلاً. وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أف للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته. وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاً لكننا نتبصر. وقال محمد بن المنكدر: كان يقال إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم. وقال علي كرم الله وجهه في خطبته: إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما فيده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى "ولا تنسوا الفضل بينكم" وقال عبد الله بن عمرو: الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويحش بما في يده فيحبسه، والبخيل هو الذي يبخل بما في يده. وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غوراً في نار جهنم البخل أو الكذب؟ وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفى سخياً وعند الغضب وقوراً وفي القول متأنياً وفي الرفعة متواضعاً وعلى كل ذي رحم مشفقاً. وقام الرومي فقال: من كان بخيلاً ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه. وقال الضحاك في قوله تعالى "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" قال: البخل، أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى. وقال كعب: ما من صباح إلى وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفاً وعجل لمنفق خلفاً. وقال الأصمعي سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه. وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلاً لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة. وقال علي كرم الله وجهه والله ما استقصى كريم قط حقه. قال الله تعالى "عرف بعضه وأعرض عن بعض" وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلث ذم البخلاء، وأكل القديد، وحك الجرب. وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنك إذاً لبخيل" ومدحت امرأة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا صوامة قوامة إلا أنها فيها بخلاً قال "فما خيرها إذاً وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين. وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً، وللبخلاء إلا بعض ولو كانوا أبراراً. وقال ابن المغتر: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه، ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام. إبليس في صورته فقال له: يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي، قال له: لم؟ قال: لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك.


[align=center]حكايات البخلاء[/align]


قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة بببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال: لا بأس عليك، تقيأ ما أكلت، فقال: هاه! أتقيأ طباهجة ببيض!؟ الموت ولا ذلك. وقيل: أقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس الأعرابي فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، فقرأ "...والزيتور وطور سينين" فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك. ودعا بعضهم أخاً له ولم يطعمه شيئاً، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود وقال له: بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك؟ قال: صوت المقلى. ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل: صف لي مائدته فقال: هي فتر في فتر، وصحافه منقورة من حب الخشخاش، قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون! قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب، فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق، قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخطيه بها، ولو ملك محمد بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم غليه فإذا قرم غليه أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقيل له. نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك؟ قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، إن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك، وآكل منه ألواناً، عينه لوناً، وأذنه لوناً، ولسانه لوناً، وغلصمته لوناً، ودماغه لوناً، وأكفي مؤونة طبخه؛ فقد اجتمعت لي فيه مرافق. وخرج يوماً يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهماً! فأعطي ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانق. واشترى مرة لحماً بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق! وقال: أكره الإسراف. وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت فأكلت كسرة وملحاً! فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال: سر بنا، فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحاً، فجاء سائل فقال له رب المنزل: بورك فيك، فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك، فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا! قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك! فلا والله ما رأيت أحداً أصدق مواعيد منه! هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما!.

[align=center]بيان الإيثار وفضله[/align]

اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات. فأرفع درجة السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة. وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشد. وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن؛ ولو وجدها مجاناً لأكلها. فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة؛ وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه. فانظر ما بين الرجلين؟ فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء. وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا ونزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل، حتى أكل الضيف، فلما اصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد عجب الله من صنيعكم الله إلى ضيفكم" ونزلت "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى؛ والإيثار أعلى درجات السخاء. وكان ذلك من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سماه الله تعالى عظيماً فقال تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" وقلا سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام، يا رب أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وسلم وأمته! فقال يا موسى إنك لن تطيق ذلك، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى، فقال: يا رب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار، يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء: وقيل خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال ما رأيت! قال فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أشبع وهو جائع! قال فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه. وقال عمر رضي الله عنه: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول. وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختارا كلاهما الحياة وأحباها؛ فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهطبا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهى بك الملائكة! فأنزل الله تعالى "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد" وعن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً -وكانوا في قرية بقرب الري- ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم "فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه. وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء؛ فنزع خشبة من سقف بيته فأعطاه ثم اعتذر غليه: وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول: آه.. فأشار ابن عمي إلى أن أنطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه... فأشار هشام انطق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين. وقال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلى بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوباً فمات فيه. وعن بعض الصوفية قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا. فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً، فجاء إلى تكل الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد، فقام ذلك الكلب وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف.
وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل.


[align=center]بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما[/align]
لعلك تقول: قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات، ولكن ما حد البخل وبماذا يصير الإنسان بخيلاً؟ وما من إنسان وهو يرى نفسه سخياً وربما يراه غيره بخيلاً، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس فيقول قوم: هذا بخل ويقول آخرون ليس هذا من البخل. وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حباً للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلاً فإذا لا ينفك أحد عن البخل. وإذا كان الإمساك مطلقاً لا يوجب البخل، ولا معنى للبخل إلا الإمساك فما البخل الذي يوجب الهلاك؟ وما حد السخاء الذي يستحق به البعد صفة السخاوة وثوابها؟ فنقول: قد قال قائلون حد البخل منه الواجب، فكل من أدى مايجب عليه فليس ببخيل، وهذا غير كاف؛ فإن من يرد اللحم مثلاً إلى القصاب والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلاً بالاتفاق. وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلاً. ومن كان بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلاً. وقال قائلون البخيل هو الذي يستصعب العطية، وهو أيضاً قاصر، فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة وما يقرب منها، ويستصعب ما فوق ذلك؟ وإن أريد به أن يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا؟ وهو ما يستغرق جميع ماله أو المال العظيم. فهذا لا يوجب الحكم بالبخل. وكذلك تكلموا في الجود، فقيل الجور عطاء بلا منن وإسعاف من غير روية. وقيل: الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل. وقيل: الجود السرور بالسائل والفرح بالعطاء لما أمكن. وقيل: الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى والعبد لله عز وجل فيعطى عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر. وقيل: من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار، ومن لم يبذل شيئاً فهو صاحب بخل.
وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل، بل نقول: المال خلق لحكمة ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه، ويمكن التصرف فيه بالعدل، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل. فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير. وبينهما وسط وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه؛ إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء، وقد قيل له "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وقال تعالى "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين البسط والقبض، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيباً به غير منازع له فيه. فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يصابرها فهو متسخ وليس بسخي، بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه.
فإن قلت: فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله؟ فأقول: إن الواجب قسمان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة والعادة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحداً منهما فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة، أو يؤديها ولكنه يشق عليه، فإنه بخيل بالطبع، وإنما يتسخى بالتكلف، أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه، فهذا كله بخل.
وأما واجب المروءة فهو ترك المضايقة والاستقصاء، فإن ذلك مستقبح، واستقباح ذلك يخلف بالأحوال والأشخاص. فمن كثر ماله استقبح منه مالا يستقبح مع العبد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة، فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب، إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة. وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي. وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير.
فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة، وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره. ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال، فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال، فمانع الزكاة والنفقة بخيل. وصيانة المروءة أهم من حفظ المال، والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل. ثم تبقى درجة أخرى، وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين، فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة، وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق، وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً، وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال: قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها. ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقداره ما له، وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه. فمن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل. نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات، فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير. ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود، ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد، فإنه يشتري المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه، والجود هو بذل الشيء من غير عوض. هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى، أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض، ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة أو اكتساب فضيلة الجود وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جواداً، فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلاً أو من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه فكل ذلك ليس من الجود، لأنه مضطر إليه بهذه البواعث، وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد، كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حيان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت: هل فيكم من أسأله عن مسألة؟ فقالوا لها: سلي عما شئت -وأشاروا إلى حيان بن هلال- فقالت: ما السخاء عندكم؟ قالوا: العطاء والبذل والإيثار، قالت: هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين؟ قالوا: أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة، قالت: فتريدون على ذلك أجراً؟ قالوا: نعم، قالت ولم؟ قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثاله، قالت سبحان الله! فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه؟ قالوا لها فما السخاء عندك يرحمك الله؟ قالت السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته غير كارهين ولا تريدون على ذلك أجراً حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء! ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئاً بشيء؟ إن هذا في الدنيا لقبيح! وقالت بعض المتعبدات أتحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط؟ قيل ففيم؟ قالت السخاء عندي في المهج. وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخو بنفسك تتلفها لله عز وجل ويسخو قلبك ببذل مهجبتك وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه، ولا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً، وإن كنت غير مستغن عن الثواب ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله، حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك.


[align=center]بيان علاج البخل[/align]


اعلم أن البخل سبب حب المال. ولحب المال سببان أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما أنه كان لا يبخل بما له، إذ القدر الذي يحتاج إليه في يوم أو في شهر أو في سنة قريب، وإن كان قصير الأمل ولكن كان له أولاد أقام الولد مقام طول الأمل،فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم. ولذلك قال عليه السلام "الولد مبخلة مجبنة مجهلة فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة.
السبب الثاني: أن يحب عين المال؛ فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته وبتفضل آلاف وهو شيخ بلا ولد ومعه أموال كثيرة ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة ولا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محباً للدنانير عاشقاً لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها، فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه، ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة، وهذا مرض للقلب، عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن، وهو مرض مزمن لا يرجى علاجه. ومثال صاحبه: مثال رجل عشق شخصاً فأحب رسوله لنفسه ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله، فإن الدنانير رسول يبلغ إلى الحاجات فصارت محبوبة لذلك، لأن الموصل إلى اللذيذ لذيذ، ثم قد تنسى الحاجات ويصير الذهب عنده كأنه محبوب في نفسه وهو غاية الضلال، بل من رأى بينه وبين الحجر فرقاً فهو جاهل إلا من حيث قضاء حاجته به، فالفاضل عن قدر حاجته والحجر بمثابة واحدة. فهذه أسباب حب المال. وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر، وتعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم، وتعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه، وكم من ولد ولم يرث من أبيه مالاً وحاله أحسن ممن ورث؟ وبأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر، وأن ولده إن كان تقياً صالحاً فالله كافيه، وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته إليه. ويعالج أيضاً قلبه بكثرة التأمل في الأخبار الواردة في ذم البخل ومدح السخاء وما توعد الله به على البخل من العقاب العظيم. ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء ونفرة الطبع عنهم واستقباحهم له، فإنه ما من بخيل إلا ويستقبح البخل من غيره، ويستثقل كل بخيل من أصحابه، فيعلم أنه مستثقل ومستقذر في قلوب الناس مثل سائر البخلاء في قلبه. ويعالج أيضاً قلبه بأن يتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق؟ ولا يحفظ من المال إلا بقدر حاجته إليه والباقي يدخره لنفسه في الآخرة بأن يحصل له ثواب بذله. فهذه الأدوية من جهة المعرفة والعلم، فإذا عرف بنور البصيرة أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً، فإن تحركت الشهوة فينبغي أن يجيب الخاطر الأول ولا يتوقف، فإن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه.
حكي أن أبا الحسن البوشنجي كان ذات يوم في الخلاء فدعا تلميذاً له وقال: انزع عني القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلا صبرت حتى تخرج؟ قال: لم آمن على نفسي أن تتغير، وكان قد لي بذله! ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفاً كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره؛ حتى إذا سافر وفارق تكلفاً وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه، فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له. ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود، فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب بها خبث الرياء، ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه، ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها لا ليخلى واللعب، ولكن لينفك عن الثدي إليه، ثم ينقل عنه إلى غيره، فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب وتكسر سورته بها، ويسلط الغضب على الشهوة وتكسر رعونتها به، إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء، فيبذل الأقوى بالأضعف، فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه فإن يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها، إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء، فلذلك يتبين أن الرياء أغلب عليه، فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء فينبغي أن يبذل فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه.
ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جميع أجزائه دوداً ثم يأكل بعض الديدان البعض، حتى يقل عددها ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت، فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها، ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها. ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها، فإنها تقتضي لا محالة أعمالاً، وإذا خولفت خمدت الصفات وماتت. مثل البخل فإنه يقتضي إمساك المال فإذا منع مقتضاه وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل وصار البذل طبعاً وسقط التعب فيه، فإن علاج البخل بعلم وعمل، فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى الجود والبذل على سبيل التكلف، ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة فلم يتيسر العمل فتبقى العلة مزمنة، كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء وإمكان استعماله فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت.
وكان من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم. وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها، نقله إلى زاوية غيرها، ونقل زاوية غيره إليه وأخرجه عن جميع ما ملكه، وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه أو سجادة يفرح بها يأمره بتسليمها إلى غيره ويلبسه ثوباً خلقاً لا يميل إليه قلبه.
فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا. فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها، فإن كان له أفل متاع كل له ألف محبوب، ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له، فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة لأنه كان يحب الكل وقد سلب عنه، بل هو في حياته على خطر بالفقد والهلاك.
حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير، ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً فقال لبعض الحكماء عنده. كيف ترى هذا؟ قال: أراه مصيبة أو فقراً، قال: كيف؟ قال: إن كسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، ثم اتفق يوماً أن كسر أو سرق وعظمت مصيبة الملك عليه فقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا! وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله تسوقهم إلى النار، وعدوة أولياء الله إذ تغمهم بالصبر عنها، وعدوة الله إذ تقطع طريقه على عباده، وعدوة نفسها فإنها تأكل نفسها، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس. والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال وهو بذل الدراهم والدنانير، فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى، ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ومن قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه لحاجته فليس ببخل، ولا يحتاج إليه، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله، بل هو كالماء على شط الدجلة إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة.



[align=center]بيان مجموع الوظائف التي على العبد في ماله[/align]


اعلم أن المال كما وصفناه خير من وجه وشر من وجه. ومثاله مثال حية يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف.
الأولى: أن يعرف مقصود المال وأنه لماذا خلق وأنه لم يحتج إليه حتى يكتسب ولا يحفظ إلا قدر الحاجة، ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.
الثانية: أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض، وما الغالب عليه الحرام كمال السلطان، ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة وما يجري مجراه.
الثالثة: في المقدار الذي يكتسبه فلا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب ومعياره الحاجة، والحاجة ملبس ومسكن ومطعم. ولكل واحد ثلاث درجات: أدنى، وأوسط، وأعلى. وما دام مائلاً إلى جانب القلة ومتقرباً من حد الضرورة كان محقاً ويجيء من جملة المحقين، وإن جاوز ذلك وقع في هاوية لا آخر لعمقها. وقد ذكرنا تفصيل هذه الدرجات في كتاب الزهد.
الرابعة: أن يراعي جهة المخرج ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر كما ذكرناه، فيضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه، فإن الإثم في الأخذ من غير حقه والوضع في غير حقه سواء.
الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له إذا فعل ذلك لم يضره وجود المال، ولذلك قال علي رضي الله عنه: لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد، ولو أنه ترك الجميع ولم يرد به وجه الله تعالى فليس بزاهد. فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة، فإن أبعد الحركات عن العبادة الأكل وقضاء الحاجة وهما معينان على العبادة، فإذا كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك. وكذلك ينبغي أن تكون نيتك في كل ما يحفظ من قميص وإزار وفراش وآنية، لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين، وما فضل من الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله ولا يمنعه منه عند حاجته، فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها واتقى سمها فلا تضره كثرة المال، ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه وعظم فيه علمه. والعامي إذا تشبه بالعالم في الاستكثار من المال وزعم أنه يشبه أغنياء الصحابة شابه الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ الحية ويتصرف فيها فيخرج ترياقها فيقتدي به، ويظن أنه أخذها مستحسناً صورتها وشكلها ومستليناً جلدها، فيأخذها اقتداء به فتقتله في الحال، إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف. وقد شبهت الدنيا بالحية فقيل: هي دنيا كحية تنفث السم وإن كانت المجسة لانت
وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال.


[align=center]بيان ذم الغنى ومدح الفقر[/align]

اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر -وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه- ولكنا في هذا الكتب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل من الأغنياء، حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات، وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه. وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء: بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون، وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون، تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة؛ كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم؛ يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته؟ بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم، جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم؛ بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة؛ فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون؟ ويلكم حتام تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين! كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم، مهلاً مهلاً! ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم؟ كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة متعطلة! يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام؛ توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى، فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم. ثم قال الحارث رحمه الله: إخواني فهؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنه على الناس، رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة، وأدلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين، وفي الآخرة هم الخاسرون أو يعفو الكريم بفضله.
وبعد: فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص، فيتفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي وإلى البوار والتلف مصيره، فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه "خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين" فيا لها من مصيبة ما أفظعها ورزية ما أجلها، ألا فراقبوا الله إخواني ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله، فإنهم يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج، ويزعمون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ليعذرهم الناس على جمع المال، ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون. ويحك أيها المفتون إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ينطق بها على لسانك فتهلك! لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمداً والمرسلين؟ ونسبتهم إلى قلة الرغبة والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال، ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه، فقد زعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينصح للأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير للأمة؟ فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال، كذبت ورب السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلقد كان للأمة ناصحاً وعليهم مشفقاً وبهم رؤوفاً. ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم؟ أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع فلذلك نهاهم عنه، وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل لذلك رغبت في الاستكثار كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك تعالى الله عن جهلك أيها المفتون؟ تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة! ويحك ما نفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتاً؟ وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك! فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيبا! فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ثم انطق يريد كعباً، فقيل لكعب. إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، وأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه يا بن اليهودية! تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف، ولقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً نحو أحد وأنا معه فقال "يا أبا ذر" فقلت: لبيك يا رسول الله فقال "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه وقليل ما هم" ثم قال "يا أبا ذر" قلت: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال "ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين" قلت أو قنطارين يا رسول الله؟ قال "بل قيراطان" ثم قال "يا أبا ذر أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول الله يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف؟ كذبت وكذب من قال! فلم يرد عليه خوفاً حتى خرج.
وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن فضجت المدينة ضجة واحدة فقالت عائشة رضي الله عنها: ما هذا؟ قيل عير قدمت لعبد الرحمن، قالت: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعياً، ولم أرد أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف يدخلها معهم حبوا فقال عبد الرحمن: إن العير وما عليها في سبيل الله، وإن إرقاءها أحراراً لعلي أدخلها معهم سعياً.
[b]وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف "أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت أن تدخلها إلا حبواً .
ويحك أيها المفتون، فما احتجاجك بالمال وهذا عبد الرحمن في فضله وتقواه وصنائعه المعروف وبذله الأموال في سبيل الله مع صبحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبشراه بالجنة أيضاً يوقف في عرصات القيامة وأهوالها بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف، وأنفق منه قصداً، وأعطي في سبيل الله سمحاً، منع من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبواً؟ فما ظنك بأمثالها الغرقى في فتن الدنيا؟ وبعد: فالعجب كل العجب لك يا مفتون تمرغ في تخاليط الشبهات والسحت، وتتكالب على أوساخ الناس، وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة، وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم؟ ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه! وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة. ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله، فكسبوا حلالاً وأكلوا طيباً وأنفقوا قصداً، وقدموا فضلاً، ولم يمنعوا منها حقاً، ولم يبخلوا بها، لكنهم جادوا لله بأكثرها، وجاد بعضهم بجميعها، وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم كثيراً، فبالله أكذلك أنت؟ والله إنك لعبيد الشبه بالقوم.
وبعد: فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين، ومن خوف الفقر آمنين، وبالله في أرزاقهم واثقين، وبمقادير الله مسرورين، وفي البلاء راضين، وفي الرخاء شاكرين، وفي الضراء صابرين، وفي السراء حامدين، وكانوا لله متواضعين، وعن حب العلو والتكاثر ورعين. لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها. فبالله أكذلك أنت؟ ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا: ذنب عجلت عقوبته من الله، وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا: مرحباً بشعار الصالحين. وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً، وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له: إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا، وإذا كان عندهم شيء فرحوا، وأنت لست كذلك! قال: إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة. وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا: ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن تعاهدنا ربنا. فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا. فبالله أكذلك أنت؟ إنك لبعيد الشبه بالقوم.
وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضداً لأحوالهم، وذلك أنك تطغي عند الغنى، وتبطر عند الرخاء، وتمرح عند السراء، وتغفل عن شكر ذي النعماء، وتقنط عن الضراء، وتسخط عند البلاء، ولا ترضى بالقضاء. نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة؛ وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم. وأنت تدخر المال وتجمعه خوفاً من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز وجل وقلة اليقين بضمانه، وكفى به إثماً، وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها. ولقد بلغنا أن رسول الله

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد أغسطس 06, 2006 11:54 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب ذم الجاه والرياء
وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
[/align]


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

الحمد لله علام الغيوب، المطلع على سرائر القلوب، المتجاوز عن كبائر الذنوب، العالم بما تجنه الضمائر من خفايا الغيوب، البصير بسرائر النيات وخفايا الطويات، الذي لا يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفي، وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا، فإنه المنفرد بالملكوت، فهو أغنى الأغنياء عن الشرك. والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة العلماء فضلاً عن عامة العباد والأتقياء، وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكاديها. وإنما يبتلي به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة، فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشهبات وحملوها بالقهر وعلى أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم؛ فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم، فسارعت إلى إظهار الطاعة وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده، وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا في بركة دعائه، وحرصوا على اتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام، وأكرموه في المحافل غاية الإكرام، وسامحوه في البيع والمعاملات، وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس، وتصاغروا له متواضعين وانقادوا له في أغراضه موقرين، فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات، فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات، فهو يظن أن حياته بالله وبعبادته المريضة، وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة القوية، ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله، والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزييناً للعباد وتصنعاً للخلق وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات وأجور الأعمال، وقد أثبتت اسمه في جريد المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين. وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون، ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون، ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة.
وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشيطانين، وجب شرح القول في سببه وحقيقته ودرجاته وأقسامه وطرق معالجته والحذر منه، ويتضح الغرض منه في ترتيب الكتاب على شطرين

[align=center]الشطر الأول
في حب الجاه والشهرة
[/align]


وفيه بيان ذم الشهرة وبيان فضيلة الخمول، وبيان ذم الجاه، وبيان معنى الجاه وحقيقته، وبيان السبب في كونه محبوباً أشد من حب المال، وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي، وبيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم، وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم. وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح، وبيان علاج كراهة الذم، وباين اختلاف أحوال الناس في المدح والذم. فهي إثنا عشر فصلاً منها تنشأ معاني الرياء، فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب بلطفه ومنه وكرمه.

[align=center]بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت[/align]

اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم، بل المحمود الخمول إلا من شهرة الله تعالى لنشر دينه م غير تكلف طلب الشهرة منه. قال أنس رضي الله عنه: قال رسو الله صلى الله عليه وسلم "حسب امرئ من الشر أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله وقال جابر بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه. إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلاً، ولا بأس به، إذ روى هذا الحديث فقيل له: يا أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع، فقال: إنه لم يعن هذا وإنما عنى به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه: تبذل ولا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وعن خالد بن معدان، أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة. وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام. ورأى طلحة قوماً يمشون معه نحواً من عشرة، فقال: ذياب طمع وفراش نار. وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة. فقال أنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع؟ فقال: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يوماً من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه باب ما اتبعني منكم رجلان؟ وقال الحسن: إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى. وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال: هل لكم من حاجة؟ وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن. وروي أن رجلاً صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال: أوصني، فقال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشي إليك وتسأل ولا تسئل فافعل. وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل. وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميصه فقال. إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره. وقال بعضهم: كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار الناهق! يشير به إلى طلب الشهرة. وقال الثوري: كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعاً. وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك. وكان حوشب يبكي ويقول: بلغ اسمي مسجد الجامع. وقال بشر: ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح. وقال أيضاً: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس. رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.

[align=center]بيان فضيلة الخمول[/align]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك" وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئاً وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على أهل الجنة: كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر جواظ وقال أبو هريرة: قال صلى الله عليه وسلم "إن أهل الجنة كل أشعث غير ذي طمرين لا يؤبه له الذي إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم" وقال صلى الله عليه وسلم "إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه إياه ولو سأله فلساً لم يعطه إياه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما منعها إياه إلا لهوانها عليه، رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وروي أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما يبكيك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن اليسير من الرياء شرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة .
وقال محمد بن سويد: قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة! فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام، وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم، وسكن، وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله، ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيك في حاجة! فقال ما هي؟ قال تخصني بدعوة، قال: سبحان الله! أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة؟ ثم قال ما الذي بلغك ما رأيت؟ قال: أطع الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني. وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض. وقال أبو أمامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذر ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك" قال: ثم نقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال "عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أحب عباد الله إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء: قال: الفارون بدينهم يجتمعون يوم القيامة إلى المسيح عليه السلام. وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده؛ ألم أنعم عليك! ألم أسترك! ألم أخمل ذكرك! وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك. وقال الثوري: وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء. وقال إبراهيم بن أدهم: ما قرت عيني يوماً في الدنيا قط إلا مرة، بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن، فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد. وقال الفضيل: إن قدرت على أن لا تعرف فافعل، وما عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى؟ فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول. وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب، وحب الجاه هو منشأ كل فساد.
فإن قلت: فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء! فكيف فاتهم فضيلة الخمول؟ فاعلم أن المذموم طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم. نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء، وهم كالغريق إذا كان معه جماعة منن الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك.

[align=center]بيان ذم الجاه ومعناه[/align]

قال الله تعالى "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" جمع بين إرادة الفساد والعلو، وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعاً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون" وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال صلى الله عليه وسلم "ما ذئبان ضاريان أرسلاً في زريبة غنم بأسرع إفساداً من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه "إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه.

[align=center]بيان معنى الجاه وحقيقته[/align]

اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا. ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها. وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير، أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس، فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس، أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه. وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات، ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات، فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده، وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً، ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده، فإن انقياد القلب حال للقلب. وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها، وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم، بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم، لأن المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه، ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعاً ويبغي ان كون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع، مع الفرح بالعبودية والطاعة له، فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير. فإذاً معنى الجاه: قيام المنزلة في قلوب الناس، أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه، فبقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه. فهذا هو معنى الجاه وحقيقته وله ثمرات كالمدح والإطراء، فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده، فيثني عليه، وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه، وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد، فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً، فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع
حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد المجاهدة[/align]


اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوباً هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوباً، بل يقتضي أن يكون أحب من المال، كما يقتضي أن يكون الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار، وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس، وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة، ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات، فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض، فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال، ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه.
الأول: أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه، فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال، وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له، فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال، فمن ملك الجاه فقد ملك المال، ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال، فلذلك صار الجاه أحب.
الثاني: هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة، ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن، ويتطرق إليه أخطار كثيرة، وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة، لا يقدر عليها السراق ولا تتناولاه أيدي النهاب والغصاب، وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ، وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها، والجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها. نعم إنما تغصب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال، وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله.
الثالث: أن ملك القلوب يسري ونمي ويتزايد منغير حاجة إلى تعب ومقاساة، فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها، فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له، ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر. لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم، فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين، وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة، والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف، ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته، فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال. وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح.
فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه. نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم، كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلي بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه، فحبه للمال والجاه معلوم، إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب، وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جميع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات، حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها، ليعظموه أو ليبرون بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه، ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع، ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة؟ فنقول: نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب. وله سببان؟ أحدهما: جلي تدركه الكافة. والآخر: خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلاً عن الأغبياء، وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون.
فأما السبب الأول: فهو دفع ألم الخوف، لأن الشفيق بسوء الظن مولع، والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزغ إليه إن أصابت هذا المال جائحة، فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة؛ ويقدر هجوم الحاجات؛ ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال، ويستشعر الخوف من ذلط فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال، حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر، وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال، فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم؛ ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف.
وأما السبب الثاني وهو الأقوى: لأن أمر رباني، به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" أو معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع، وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء؛ وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء، وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء، وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها، فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال. فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوباً بالطبع للإنسان، والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها، إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية، والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به، فلم يكن موجوداً معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال، بل الكامل من لا نظير له في رتبته. وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها، فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعاً ولا يكون متبعاً فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال. وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال، ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله "أنا ربكم الأعلى" ولكنه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال، فإن العبودية قهر على النفس. والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى "قل الروح من أمر ربي" ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لمتسقط شهوتها للكمال، فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال، وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته؛ ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته. وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات؛ فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك إن تكون مستولياً عليه، فصار الاستيلاء على الكل محبوباً بالطبع، لأنه نوع كمال. وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به، إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه، وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخراً لك تردده كيف تشاء، فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة مع. إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته. وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولى عليه قدرة الخلق، كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين؛ وكالجبال والبحار. وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس، فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات.
فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات، وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والإطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء؛ إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم، والعالم كالمستولي عليه، فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب، وجميع عجائب السموات، وجميع عجائب البحار والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها، والاستيلاء نوع كمال. وهذا يضاهي اشتياق منن عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها، كمن يعجز عن وضع الشطرنج، فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع؟ وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفيته فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه.
وأما القسم الثاني: وهو الأرضيات التي قدر الإنسان عليها، إن يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان: أجساد وأرواح.
"أما الأجساد" فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فحب أن يكون قادراً عليها يفعل فيها ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع، فإن ذلك قدرة والقدرة كمال، والكمال من صفات الربوبية، والربوبية محبوبة بالطبع، فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه، وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار، وإن لم يملك قلوبهم، فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوباً لها ويقوم القهر منزلته فيها، إن الحشمة القهرية أيضاً لذيذة لما فيها من القدرة.
"القسم الثاني" نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض، فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية، والقلوب إنما تتسخر بالحب ولا تحب إلا باعتقاد الكمال، فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان، وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله، فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب، ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها، والقدرة والاستيلاء كما وهو من أوصاف الربوبية. فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة، والمال والجاه من أسباب القدرة، ولا نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات، وما دام يبقى معلوم، أو مقدور فالشوق لا يسكن والنقصان لا يزول. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "منهومان لا يشبعان" فإذن مطلوب القلوب الكمال، والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور، فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال، فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوباً، وهو أمر وراء كونه محبوباً لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات، بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض، بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات، ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات، لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية فكان محبوباً بالطبع، إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى.

[align=center]بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي
الذي لا حقيقة له [/align]


قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة، ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي، وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه: "أحدها" من حيث كثرة المعلومات وسعتها، فإنه محيط بجميع المعلومات، فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى "الثاني" من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به، وكون المعلوم مكشوفاً به كشفاً تاماً، فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه، فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى "الثالث" من حيث بقاء العلم أبد الآباد بحيث لا يتغير ولا يزول، فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى.
والمعلومات قسمان: متغيرات وأزليات.
أما المتغيرات: فمثالها العلم بكون زيد في الدار، فإنه علم له معلوم، ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلاً، فيكون نقصاناً لا كمالاً، فكلما اعتقدت اعتقاداً موافقاً وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصاً، ويعود علمك جهلاً. ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم، كعلمك مثلاً بارتفاع جبل ومساحة أرض، وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ، وسائر ما يذكر في المسالك والممالك، وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال، فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالاً في القلب.
القسم الثاني: هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات، فإن هذه معلومات أزلية أبدية، إذ لا يستحيل الواجب قط جائزاً ولا الجاز محالاً ولا المحال واجباً. فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له، وما يستحيل في صفاته، ويجوز في أفعاله، فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة ومايتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى، ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت، وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا" أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا، كما أنه معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سبباً لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه، فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام، ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك، فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور، فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل "كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض" فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلاً كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما، ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار، فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن، ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس، ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى "قد أفلح من زكاها" وقال عز وجل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى، وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله، وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله، فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى. ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة، فهي من تكملة معرفة الله تعالى، وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقاً بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال.
وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد، بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقية، وإنما القدرة الحقيقية لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله -كما قررنا في كتاب الصبر والشكر، وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات- فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك، فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم، وقد يحتاج استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن، وذلك إلى قدر معلوم، فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب، ومن ظن ذلك كمالاً فقد جهل، فالخلق أكثرهم هالكون في غمره هذا الجهل، فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه؛ كمال، فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية "أما العلم" فما ذكرناه من معرفة الله تعالى "وأما الحرية" فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم لغضب، فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة. ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغيير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه، ومنزلته عند الله أعظم. وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدر، وإنما لم نورده في أقاسم الكمال لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان، فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها، والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال.
فإذن الكمالات ثلاثة -إن عددنا (عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها) كمالاً ككمال العلم وكمال الحرية؛ وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية- وكمال القدرة للعبد طريق إلى اكتساب كمال العلم، وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته، إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت، ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالاً فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى. فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال، وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له، وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبدياً لا انقطاع له، وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون، وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالاً في النفس، والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض" الآية. وقال تعالى "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" إلى قوله "فأصبح هشيماً تذروه الرياح" وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات. فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له، وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصوداً فهو جاهل، وإليه أشار أبو الطيب بقوله:


[poet font="Andalus,4,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/11.gif" border="double,4,darkblue" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر
[/poet]

إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 07, 2006 7:04 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم[/align]

مهما عرفت أن معنى الجاه مللك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا، وينقطع بالموت كالمال، والدنيا مزرعة الآخرة، فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة، وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس، فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه، ورفيق يعينه، وأستاذ يرشده، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم، فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال، فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له، بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته، ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء، فهذا على التحقيق ليس محباً لبيت المال فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه. وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة، كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام، ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجز زوجته، كما أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به، وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحباً لنكاحها؛ فهذا هو الحب دون الأول، وكذلك الجاه والمال. وقد يجب كل واحد منهما على هذين الوجهين، فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم، وحبهما لأعيابهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمل الحب على مباشرة معصية. وما يتوصل به إلى اكتساب بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة، فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام، وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي.
فإن قلت: طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان؛ أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص؟ فأقول: يطلب ذلك على ثلاثة أوجه؛ وجهان مباحان، ووجه محظور.
أما الوجه المحظور: فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها، مثل العلم والورع والنسب، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك. فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس أما بالقول أو بالمعاملة.
أما أحد المباحين: فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه الرب تعالى "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظاً عليماً، وكان محتاجاً إليه وكان صادقاً فيه "والثاني" أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه، حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به، فهذا أيضاً مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح. وهذا ليس فيه تلبيس، بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع، فإنه قوله: إني ورع، تلبيس، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب.
ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده، فإن ذلك رياء، وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله، فكيف يكون مخلصاً؟ فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية، وذلك يجري مجرى اكتساب المال الحرام من غير فرق، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع، فإن مللك القلوب أعظم من ملك الأموال.

[align=center]بيان السبب في حب المدح والثناء
وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها للذم ونفرتها منه [/align]


اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب: السبب الأول وهو الأقوى: شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب، وكل محبوب فإدراكه لذيذ. فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت، والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها، فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه، فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل، ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة، وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق، فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه، إذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته، وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق وذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة، وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف ضعفت اللذة، وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم، ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح.
السبب الثاني: أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر، ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء، فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة، وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم.
السبب الثالث: أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذ كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه، وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس.
السبب الرابع: أن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر، فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه، فال جرك تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد.
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ، وقد تفترق فتنقص اللذة بها. أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله، كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات، فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه، وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلت اللذات كلها فلم يكن فيه أصلاً لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم. وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة، فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته، إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض. والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى.

[align=center]بيان علاج حب الجاه[/align]

اعلم ان من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال عليه السلام "إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل" إذاً النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق.
فحب الجاه إذن من المهلكات، فجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال؛ وعلاجه مركب من علم وعمل.
أما العلم: فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم، وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له. فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها، ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي -كما سبق- صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده، ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات" فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً. وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه "أما بعد: فكأنك الدنيا لم تكن وكأنك الآخرة لم تزل" فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة، فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا أن العاقبة للمتقين، فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا. وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، ولذلك قال تعالى "بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى" وقال عز وجل "كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة" فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب، والقلوب أشد تغيراً من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض، فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلاً عما يفوت في الآخرة، فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة. وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا، فهذا هو العلاج من حيث العلم.
وأما من حيث العمل: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق. وهذا هو مذهب الملامتية؛ إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه، وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين، وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس؛ كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد، فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة، فلما نظر غليه الملك سقط من عينه وانصرف، فقال الزاهد: الحمد لله الذي صرفك عني. ومنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس. وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير، كما فعل بعضهم، فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه، فدخل حماماً ولبس ثياب غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا: إنه طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول، فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته، فإنه ربما يظن أنه ليس محباً لذلك الجاه وهو مغرور، وإنما سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت، وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك الغبار عن قلوبهم، وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به، وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة. ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم، ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس، فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال، فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن، كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم، ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة، فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن، ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع. ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول والذل مثل قولهم: المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة. وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله عنهم أجمعين.

[align=center]بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم[/align]

اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا فخوف مذمة الناس وحب مدحهم، فصار حركاتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات فيجب معالجته وطريقة ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم.
أما السبب الأول: فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك: هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا؟ فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق المدح كالعلم والورع، وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيماً تذروه الرياح، وهذا من قلة العقل، بل العاقل يقول كما قال المتنبي:


[poet font="Tahoma,4,indigo,normal,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/12.gif" border="double,4,darkblue" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
[/poet]

فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا، وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها. وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة، وهذا إنما يفتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى، وخطر الخاتمة باق ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا، بل الدنيا دار أحزان وغموم لا دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا يمدح المادح، فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح، والمدح لا يزيدك فضلاً وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون، ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما أطيب الروائح التي تفوح منه؟ إذا قضى حاجته، وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من الأقذار والأنتان، ثم يفرح بذلك فكذلك إذا ثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك -كان ذلك من غاية الجهل. فإذاً المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتتك التي هي من فضل الله عليك، وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به.
وأما السبب الثاني: وهو دلالة المدح على تسخين قلب المادح وكونه سبباً لتسخير قلب آخر، فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب -وقد سبق وجه معالجته، وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله، وبأن تعلم أن طلبة المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله! فكيف تفرح به؟ وأما السبب الثالث: وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح، فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لإثبات لها ولا تستحق الفرح، بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به -كما نقل ذلك عن السلف- لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة -كما ذكرناه في كتاب آفات اللسان- قال بعض السلف: من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه. وقال بعضهم: نعم الرجل أنت، فكان أحب إليك من أن يقال لك: بئس الرجل أنت، فأنت والله بئس الرجل. وروي في بعض الأخبار -فإن صح فهو قاصم للظهور- أن رجلاً أثنى على رجل خيراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "لو كان صاحبك حاضراً فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار وقال صلى الله عليه وسلم مرة للمادح "ويحك قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة وقال عليه السلام "ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل على القلب من السرور العظيم به، حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء فقال: أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم، فغضب وقال: إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض الصحابة: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله، فغضب وقال: إني لأحسبك عراقياً. وقال بعضهم -لما مدح- اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته. وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق، فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق، لأن الممدوح هو المقرب عند الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره، وإن كان من أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد الخلق. ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه. والله الموفق للصواب برحمته.

[align=center]بيان علاج كراهة الذم[/align]

قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح، فعلاجه أيضاً يفهم منه. والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال.
إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة؛ وإما أن يكون صادقاً ولكن قصده الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذباً.
فإن كان صادقاً وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه، بل ينبغي أن تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه، فينبغي أن تفرح به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها، فأما اغتمامك بسبب وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل، وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلاً به، وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه، أو قبحه في عينك لينبعث من حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته. وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة. فمهما قصدت الدخول على مللك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري، ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسة بالعذرة فقال قائل: أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك، فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة، وجميع مساوئ الأخلاق مهلكة في الآخرة والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه. وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به؟ الحالة الثالثة: أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور "أحدها" أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه، وما ستره الله من عيوبك أكثر، فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه. "والثاني" أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك. فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله. "وأما الثالث" فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: اللهم أهلكه، بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه، كما قال صلى الله عليه وسلم "اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد. ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال: علمت أني مأجور بسبب وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معقباً بسببي. ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبه، وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه، وما دام الطمع قائماً كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالباً، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين، فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جداً.

[align=center]بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم[/align]

اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح: الحالة الأولى: أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته، وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب.
الحالة الثانية: أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويفرح باطنه، ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور، وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال الحالة الثالثة: وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً. وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته. وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح، وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام، وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح، وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام، وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام، وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام. فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب! وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون أنفسهم بهذه العلامات، وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام، والشيطان يحسن له ذلك ويقول: الذام قد عصى الله بمذمتك، والمادح قد أطاع الله بمدحك، فكيف تسوي بينهما؟ وإنما استثقالك للذام من الدين المحض. وهنا محض التلبيس، فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته، ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم، ويعلم أن المادح الذي مدح لا يخلو عن مذمة غيره. ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه، والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره. فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض، ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعداً من الله. ومن لم يطع على مكايد الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة، وفيهم قال الله تعالى "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
الحالة الرابعة: وهي الصدق في العبادة؛ أن يكره المدح ويمقت المادح، إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين، ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد غليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته، فقد قال صلى الله عليه وسلم "رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح، إذ روي أن صلى الله عليه وسلم قال "ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من..." فقيل يا رسول الله إلا من؟ فقال "إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبعض المدحة واستحب المذمة وهذا شديد جداً، وغاية أمثالها الطمع في الحالة الثانية، وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل، فأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها. ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها، لأنها لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته، وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه، ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب، ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى، فكيف بما بعده من المرتبتين؟ وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات. أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات، ولا يبالي بمفارقة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين. ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات، ولا يباشر المحظورات، وهذا على شرف جرف هاو، فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد، فهو قريب من الهالكين جداً. ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح، فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه. ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغتم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير، وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص. ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه، وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه، لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق، لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه؛ وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال في حق الذام، وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح، ولا يكون الفرح وإظهاره إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو، والإنسان يفرح ممن يذم عدوه، وهذا شخص عدوه نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على عيوبها، فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في أبين الناس حتى لا يبتلي بفتنة الناس، وإذا سقيت إليه حسنات لم ينصب فيها فسعاه يكون خيراً لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها، ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه الخصلة الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها، ولا يقطع شيئاً منها إلا بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل.




[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أغسطس 09, 2006 3:56 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الشطر الثاني من الكتاب
في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات
[/align]

وهو الرياء: وفيه بيان ذم الرياء، وبيان حقيقة الرياء وما يرائى، وبيان درجات الرياء؛ وبيان الرياء الخفي؛ وبيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط؛ وبيان دواء الرياء وعلاجه؛ وبيان الرخصة في إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب؛ وبيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء والآفات، وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق؛ وبيان ما يجب على المريد أن يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها. وهي عشرة فصول وبالله التوفيق.

[align=center]بيان ذم الرياء[/align]

اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار.
أما الآيات: فقوله تعالى "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون" وقوله عز وجل "والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور" قال مجاهد هم أهل الرياء. وقال تعالى "إنما نعطمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" فمدح المخلصين ينفي كل إرادة سوى وجه الله، والرياء ضده وقال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله.
وأما الأخبار: فقد قال صلى الله عليه وسلم حيث سأله رجل فقال: يا رسول الله فيم النجاة؟ فقال "أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس" وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة -المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله، كما أوردناه في كتاب الإخلاص-: وإن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع، كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ. فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به وفي حديث آخر طويل "إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين وقال صلى الله عليه وسلم "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ "قال الرياء" يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا عل تجدون عندهم الجزاء وقال صلى الله عليه وسلم "استعيذوا بالله عز وجل من جب الحزن، قيل وما هو يا رسول الله؟ قال "واد جهنم أعد للقراء المرائين وقال صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل: من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك وقال عيسى المسيح صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله عز وجل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي: ما يبكيك؟ قال: حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إن أدنى الرياء شرك وقال صلى الله عليه وسلم "أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية وهي أيضاً ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال صلى الله عليه وسلم "إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله ولذلك ورد "أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفاً وقال صلى الله عليه وسلم "إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له وقال شداد بن أوس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله؟ قال "إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم وقال صلى الله عليه وسلم "لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتاداً للأرض. فقالت الملائكة: ما خلق ربنا خلقاً هو أشد من الجبال" فخلق الله الحديد فقطع الجبال، ثم خلق النار فأذابت الحديد، ثم أمر الله الماء بإطفاء النار، وأمر الريح فكدرت الماء، فاختلفت الملائكة فقالت: نسأل الله تعالى، قالوا: يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك؟ قال الله تعالى لم أخلق خلقاً هو أشد على من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقاً خلقه وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال لي "يا معاذ" قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال "إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها قد جللها عظماً فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري" قال "ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة يعمل يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري له دوى من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها:قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به ظهره وبطنه، أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب في عمله" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى تجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة يحسدهم ويقع فيها أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد رفعة عن الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم لله خالصاً فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله" قال "فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلهم: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السماوات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا وتلعنه السماوات السبع والأرض ومن فيهن" قال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال "اقتد بي وإن كان في عملك نقص، يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلاً وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى "والناشاطات نشطاً" أتدري من هن يا معاذ"؟ قلت: ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال "كلاب في النار تنشط اللحم والعظم" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها؟ قال "يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث.
وأما الآثار: فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته فقال: يا صاحب الرقبة ارفع ركبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو أمامة البلقلي رجلاً في المسجد يبكي في سجوده فقال: أنت أنت لو كان هذا في بيتك. وقال علي كرم الله وجهه: للمرائي ثلاث علامات؛ يكسل إذا كان وحده وينشط إلى كان في الناس يزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم. وقال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس، قال: لا شيء لك، فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول: لا شيء لك، ثم قال في الثالثة: إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك... الحديث. وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إن أحدثنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر، فقال له: أتحب أن تمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه. وقال الضحاك: لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم، فإن الله تعالى لا شريك له. وضرب عمر رجلاً بالدرة ثم قال له: اقتص مني! فقال: لا بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعت شيئاً إما أن تدعها لي فأعر فذلك أو تدعها لله وحده، فقال: ودعتها لله وحده، فقال: فنعم إذن. وقال الحسن: لقد صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال: إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا. وقال الفضيل بن عياض: كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. وقال عكرمة: إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها. وقال الحسن رضي الله: المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو رجل صالح، وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء؟ فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه. وقال قتادة: إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي. وقال مالك بن دينار الفراء: ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك، وأن محمد بن واسع من قراء الرحمن. وقال الفضل: من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي. وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين. وقال أبو سليمان: التوقي عن العمل أشد من العمل. وقال ابن المبارك: إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان، فقيل له وكيف ذاك؟ قال يحب أن لا يذكر أنه مجاور بمكة. وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أراد أن يشتهر.

[align=center]بيان حقيقة الرياء وما يراءى به[/align]

اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإبراءهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمرائي به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك، والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهو: البدن، والزي والقول، والعمل والأتباع والأشياء الخارجة. وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة غلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات.

"القسم الأول" الرياء في الدين بالبدن: وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين، وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر. وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم، فلذلك تدعوه النفس إلا إظهارها لنيل تلك الراحة. ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته. وعن هذا قال المسيح عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه. وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء؛ ولذلك قال ابن مسعود أصبحوا صياماً مدهنين. فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن.
فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها.
"الثاني" الرياء بالهيئة والزي: أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً، كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين، ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن. ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق، ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة. ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم.
والمراءون بالزي على طبقات: فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاة بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا، ولو كلب أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذبح، وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريق ورغب في الدنيا: وطبقة أخرى يطلبون القبول عن أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار، ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها، ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون القبول عند الفريقين، وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم الذبح خوفاً من السقوط من أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبسوا الديبقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم -وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم- لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا. وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليهم الانتقال إلى ما دونه وإن كان مباحاً خيفة من المذمة.
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة، وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة.
"الثالث" الرياء بالقول: ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار، لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن، وادعاء حفظ لحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه، والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين. والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر.
وأما أخل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمال القلوب.
"الرابع" الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين، وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام، وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام، حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا طلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته، فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضر ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له، بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء، ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه، فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً، فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه.
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإدارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة.
"الخامس" المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه، أو ملكاً من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين. وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومباهاته ومراءاته تترشح منه عند مخاصمته، فيقول لغيره: من لقيت من الشيوخ وأنا قد لقيت فلاناً وفلاناً ودرت البلاد وخدمت الشيوخ؟ وما يجري مجراه. فهذه مجامع ما يرائي به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد. ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة؟ وكم من عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة، وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته، بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم، مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه -فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه- فإنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال، ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد. ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جاه عند العامة، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام، وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها. فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء.فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل؟ فأقول فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه، وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات، فإن كان بغير العبادات فهو طلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضاً محمود، وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال "إني حفيظ عليم" وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه، وكما أن كثير المال يلهي ويطغى وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضاً تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز. نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها، وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين، ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم، فعلى هذا نقول: تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا، وقس على هذا كل تجمل للناس وتزين لهم. والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت: أو تفعل ذلك يا رسول الله؟ قال "نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط من أعينهم لو يرغبوا في اتباعه، فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر، فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمراً مباحاً، إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان. ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم.
فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة، وقد تكون طاعة، وقد تكون مذمومة، وذلك بحسب الغرض المطلوب بها. ولذلك نقول: الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله.
أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان إحداهما: أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر، وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس بقصد العبادة، لا يقتصر، على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات.
والمعنى فيه أمران "أحدهما" يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك، والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضاً، حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر. "والثاني" يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله. ولذلك قال قتادة: إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي.
ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه، فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبداً من عبيده، فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضراً ولا نفعاً؟ وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله؟ وأنه أولى بالتقريب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته؟ وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى؟ فهذا من كبائر المهلكات ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر .
نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض -كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى- ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية، فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله، ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياً، إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس، فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه، ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك، إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله، فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً، وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى، فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم، ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه، فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا؟ فكيف في يوم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي؟ فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس؟ فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص. وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص، ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت. إنه لا أجر له فيه أصلاً.

[align=center]بيان درجات الرياء[/align]

اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض، واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه. وأركانه ثلاثة: المرائي به والمرائي لأجله ونفس قصد الرياء.
الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلوا إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً: "الأولى" وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عن الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو لا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.
"الثانية" أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل، فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.
"الثالثة" أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل؛ فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم، وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص.
"الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الريا وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قوله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك" فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.
الركن الثاني: المرائي به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.
القسم الأول وهو الأغلظ: الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات.
"الأولى" الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها" الآية وقال تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" وقال تعالى "يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك" والآيات فيهم كثيرة. وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض، وذلك مما يقل في زماننا، ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطناً فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلاً إلى قول الملحدة، أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلاً إلى أهل الإباحة، أو يعتقد كفراً أو بدعة وهو يظهر خلافه، فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار، وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين، فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.
"الثانية" الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير. ومثاله: أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجه، أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة، وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهى خلوة من الخلق ليفطر، وكذلك يحضر الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها، أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة ولكن خوفاً من الناس، أو يغزو أو يحج كذلك. فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه، ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل، ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب من منزلته عند الخالق، وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، ورغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله، وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد.
"الثالثة" لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تكرها لا يعصى، ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت، وكالتجهد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس. فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفاً من المذمة أو طلب للمحمدة، ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض. فهذا أيضاً عظيم ولكنه دون ما قبله، فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا أيضاً قد فعل ذلك واتق ذم الخلق دون ذم الخالق، فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله، وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقاباً على ترك النافلة لو تركها، وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه. فهذا هو الرياء بأصول العبادات.
القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهو أيضاً على ثلاثة درجات.
"الأولى" أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة، كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين، وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل؛ أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة، فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة، ومن جلس بين يدي إنسان متربعاً أو متكئاً فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديماً للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة، وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة. وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفاً من مذمته، وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالاً لعبادة الصوم خوفاً من المذمة، فهذا أيضاً من الرياء المحظور لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.
إن قال المرائي: إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة، فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود والكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة، وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية؟ فيقال له: هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس، وليس الأمر كذلك، فإنضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك، فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر، وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلاً وولاية يتقلدها، فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده، وإذا كان عند بعض غلمانه امتنع خوفاً من مذمة غلمانه، وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر.
نعم للمرائي فيه حالتان: إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعاً. والثانية: أن يقول ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع والسجود، ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم، فأستفيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو الله عليه ثواباً، فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفون الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر. والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق.
"الدرجة الثانية" أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة على السور المعتادة، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة. وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدر عليه.
"الثالثة" أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه. وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة؟ فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض. والكل مذموم.
الركن الثالث: المرائي لأجله، فإن للمرائي مقصوداً لا محالة، وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وله أيضاً ثلاث درجات:
"الأولى" وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية، كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصدة الفاسدة في المعاصي. وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان، أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام. وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصية واتخذوها آلة ومتجراً وبضاعة لهم في فسقهم، ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى.
"الثانية" أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة، كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة، وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته. فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه.
"الثالثة" أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار، وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن يظهر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن، ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه، والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك، وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير، وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئاً من ذلك، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم، فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله، أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأن صائم ولكن يقول: لي عذر، وهو جمع بين خبيثين، فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته، ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم، أو يقول أفطرت تطييباً لقلب فلان، ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء، ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا؛ مثل أن يقول: إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بداً من تطييب قلبه. ومثل أن يقول: إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلى لرسوخ عرق الرياء في الباطن. أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه؟ فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبساً، وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه عنده، وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور - وسيأتي شرح ذلك وشروطه -.
فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر، يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.

[align=center]بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل[/align]

اعلم أن الرياء جلي وخفي، فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه، وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده، إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضاً ولكنه مع ذلك مستطبن في القلب، ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يكن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك، ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهره سروره عند اطلاع الناس، فلقد كان الرياء مستكناً في القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور، ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتاً وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية، فيتقاضى تقاضياً خفياً أن يتكلف سبباً يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح، وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل، كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد، وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه، ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون.
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة، ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج. وفي الحديث "لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم" وقال عبد الله بن المبارك. روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلاً من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس، فقال السائح ما هذا؟ قيل هذا الملك قد أظللك، فقال للغلام ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً فقال المالك أين صاحبكم؟ فقالوا هذا، قال كيف أنت؟ قال كالناس، وفي حديث آخر: بخير، فقال الملك ما عند هذا من خير! فانصرف عنه، فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام. فلم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي مجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلص، إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزى والد عن ولده، ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد. نفسي نفسي! فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والبهرج، والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجى إلا الخالص من النقد، فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى. فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا، اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا، فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين، فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفضيل.
فإن قلت: فما نرى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم؟ فنقول: أولاً، كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم.
فأما المحمود فأربعة أقسام "الأول" أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره إليه وإلطافه به، فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة، ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل، فيكون فرحه بجميل نظر الله لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به.
"الثاني" أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليهفي الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلى ستره عليه في الآخرة فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل، وهذا التفات إلى المستقبل.
"الثالث" أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره، فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولاً، ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن يقنص من أجورهم شيء، وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة.
"الرابع" أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع وبميل قلوبهم إلى الطاعة؛ إذاً من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه، فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله. وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهم إياه.
وأما المذموم وهو الخامس: فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجة ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه والله تعالى أعلم.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 14, 2006 7:25 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[b][align=center]بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط[/align]

فنقول فيه: إذا عقد العباد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ، فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل، إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالماً عن الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره وبإظهار الله، ولم يكن منه إلا ما دخل من السرور والارتياح على قلبه. نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار فتحدث به وأظهره فهذا مخوف.
وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلاً يقول قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظه منها. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قال له: صمت الدهر يا رسول الله. فقال له "ما صمت ولا أفطرت فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر. وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ابن مسعود استدلالاً على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه التحدث به، إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلاً لثواب العمل بل الأقيس أن يقال إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها، بخلاف ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاة ويحبط العمل. وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلاً وكان قد عقد على الإخلاص ولكن ورد في أثنائها وارد الرياء، فلا يخلوا إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل وإما ان يكون رياء باعثاً على العمل، فإن كان باعثاً على العمل وختم العبادة به حبط أجره. ومثاله: أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة، أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر إليه، أو يذكر شيئاً نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه، ولولا الناس لقطع الصلاة فاستتمها خوفاً من مذمة الناس، فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال صلى الله عليه وسلم "العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله أي النظر إلى خاتمته. وروي "أن من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله وهذا منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من ذلك مفرد، فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي، والصوم والحج من قبيل الصلاة. وأما إذا كان وارد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضاً، فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثاً على الحركات، فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة مغموراً. فهذا أيضاً ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه، لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها أو يغمرها، ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظراً إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه.
ولقد ذهب الحارق المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال: إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس - يعني سروراً هو كحب المنزلة والجاه - قال؛ قد اختلف الناس في هذا؛ فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزم الأول وركن إلى حمد المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته، ثم قال ولا أقطع عليه بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلاف الناس، والأغلب على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء ثم قال: فإن قيل قد قال الحسن رحمه الله تعالى؛ إنهما حالتان، فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية. وقد روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني قال "لك أجران أجر السر وأجر العلانية ثم تكلم على الخبر والأثر فقال: أما الحسن فإنه أراد بقوله: لا يضره، أي لا يدع العمل ولا تضره الخطرة وهو يريد الله، ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره، وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه "أحدها" أن يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنه قبل الفراغ. "الثاني" أنه أراد أن يسر به للقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبل لا سروراً بسبب حب المحمدة والمنزلة، بدليل أنه جعل له به أجراً، ولا ذاهب من الأمة إلى أن للسرور بالمحمدة أجراً وغايته أن يعفى عنه، فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران؟ "والثالث" أنه قال: أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم يوقفه على أبي صالح، ومنهم من يرفعه، فالحكم بالعمومات الواردة في الرياء أولى. هذا ما ذكره ولم يقطع به بل أظهر ميلاً إلى الإحباط.
والأفيس عندنا: أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادراً عن باعث الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لأنه لم ينعدم به أصل نيته وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام.
وأما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق، وأما ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساوياً لقصد الثواب أو أغلب منه، أما إذا كان ضعيفاً بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال، ولا ينبغي أن يفسد الصلاة، ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه الله - والخالص ما لا يشوبه شيء - فلا يكون مؤدياً للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله فيه. وقد ذكرنا في كتاب الإخلاص كلاماً أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه، فهذا حكم الرياء الطارئ بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعد الفراغ.
القسم الثالث: الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء، فإن استمر عليه سلم فلا خلاف في أن يقضى ولا يعتد بصلاته، وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه "قالت فرقة" لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف "وقالت فرقة" تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجود وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة لأن التحريم عقد، والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقداً "وقالت فرقة" لا يلزم إعادة شيء بل يستغفرالله بقلبه ويتم العبادة على الإخلاص والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عمله.
وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل، فقالوا إن الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافراً، ولكن اقترن به عارض الرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم فتصح صلاته. ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جداً خصوصاً من قال يلزمه إعادة الركوع والسجود دون الافتتاح، لأن الركوع والسجود إن لم يصح صار أفعالاً زائدة في الصلاة فتفسد الصلاة. وكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صم نظراً إلى الآخر فهو أيضاً ضعيف، لأن الرياء يقدح في النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح، فالذي يستقيم على قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده، وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل ولما رأى الناس تحرم بالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجساً أيضاً كان يصلي لأجل الناس، فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين، وههنا لا باعث ولا إجابة. فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضاً لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة أيضاً فاجتمع الباعثان، فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم أو في عقد صلاة وحج، فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث الثواب "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" فله ثواب بقدر قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر. وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلوا إما أن تكون فرضاً أو نفلاً، فإن كانت نفلاً فحكمها أيضاً حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع ومن وجه، إذ اجتمع في قلبه الباعثان، ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتى إن من صلى التراويح وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة، ولولا اجتماع الناس خلفه وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جداً، بل يظن بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضاً بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداء به، وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص، فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه، لأن الإيجاب لم ينتهض باعثاً في حقه بمجرده واستقلاله، وإن كان كل باعث مستقلاً حتى لو لم يكن باعث الرياء لأدى الفرائض، ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعاً لأجل الرياء فهذا محل النظر، وهو محتمل جداً، فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم يؤد الواجب الخالص، ويحتمل أن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد، فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه، كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان عاصياً بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه، وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة، أما إذا كان الرياء في المبادرة مثلاً دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة لو خلا لأخر إلى وسط الوقت، ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء فهذا مما يقطع بصحة صلاته وسقوط الفرض به، لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره بل من حيث تعيين الوقت، فهذا أبعد من القدح في النية، هذا في رياء يكون باعثاً على العمل وحاملاً عليه، وأما مجرد السرور باطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة. فهذا ما نراه لائقاً بقانون الفقه، والمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها في فن الفقه، والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها، بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على إفساد االعبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه والعلم عند الله عز وجل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم.

[align=center]بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب منه[/align]

قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر المهلكات، وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الحد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل المشاق، فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة، وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد كلهم، إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق كثير الطمع فيهم؛ فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه، وإنما يشعر بكونه مهلكاً بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا يقدر على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات. فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة، ولكنها تشق أولاً وتخف آخراً وفي علاجه مقامان "أحدهما" قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه "والثاني" دفع ما يخطر منه في الحال.
"المقام الأول" في قلع عروقه واستئصال أصوله: وأصله حب المنزلة والجاه. وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لذة المحمدة، والفرار من ألم الذم، والطمع فيما في أيدي الناس. ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبوموسى أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حمية - ومعناه أن يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب - وقال: والرجل يقاتل ليرى مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر في القلوب- والرجل يقاتل للذكر -وهذا هو الحمد باللسان - فقال صلى الله عليه وسلم "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقال ابن مسعود: إذا التقى الصفان نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم؛ فلان يقاتل للذكور وفلان يقاتل للملك، والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا. وقال عمر رضي الله عنه: يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقاً. وقال صلى الله عليه وسلم "من غزا لا يبغي إلا عقالاً فله ما نوى فهذا إشارة إلى الطمع. وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل بين الأسخياء وهم يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل، وهو ليس يطمع في الحمد وقد سبقه غيره، وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفاً من الذم وهو لا يطمع في الحمد وقد هجم غيره على صف القتال. ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم، وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد. وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم، ولذلك قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل، ويفتى بغير علم ويدعى العلم بالحديث وهو به جاهل، كل ذلك حذراً من الذم. فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء، وعلاجه ما ذكرناه في الشطر الأول من الكتاب على الجملة.
ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ، إما في الحال وإما في المآل، فإن علم أنه لذيذ في الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه، كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إذا بان له أن فيه سماً أعرض عنه؛ فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من المضرة. ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر. حيث ينادي على رؤوس الخلائق: يا فاجر يا غادر يا مرائي، أما استحييت إذ اشتريت بطاعة االله عرض الدنيا، وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله، وتحببت إلى العباد بالتبغض إلى الله، وتزينت لهم بالشين عند الله، وتقربت إليهم بالبعد من الله، وتحمدت إليهم بالتذمم عند الله، وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله، أما كان أحد أهون عليك من الله! فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط من ثواب الأعمال، مع أن العمل الواحد ربما كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص، فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به ويهوي إلى النار، فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافياً في معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة عند الله في زمرة النبيين والصديقين، وقد حط عنهم بسبب الرياء ورد إلى صف النعال من مراتب الأولياء، هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق، فإن رضا الناس غاية لا تدرك، فكل ما يرضى به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط بعضهم، ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً عليه، ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم؟ ولا يزيده حمدهم رزقاً ولا أجلاً ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة. وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء، وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل من الذل والخيبة، وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة، فكيف يترك ما عند الله برجاء كاذب ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منته ومذلته؟ وأما ذمهم فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه عليه الله، ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه، ولا يجعل من أهل النار إن كان من أهل الجنة، ولا يبغضه إلى الله إن كان محموداً عند الله، ولا يزيده مقتاً إن كان ممقوتاً عند الله، فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا. فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه، فإن العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه، ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم أنه مراء وممقوت عند الله، ولو أخلص لله لكشف اللهم لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه، مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم كما قال شاعر بني تميم: إن مدحي زين وإن ذمي شين??! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "كذبت؛ ذاك الله الذي لا إله إلا هوإذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه، فأي خير لك في مدح الناس. وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار؟ وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في زمرة المقربين؟ فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات، واجتمع همه وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق، وانعطف من إخلاصه أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة، وسقط محل الخلق من قلبه وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص. فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء.
وأما الدواء العملي: فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به. وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال: أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه لا تجالسنا بعد هذا. فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها، فلا دواء للرياء مثل الإخفاء، وذلك يشق في بداية المجاهدة، وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد والتسديد و"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية، ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب "والله لا يضيع أجر المحسنين؛ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً".
"المقام الثاني" في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضاً، فإن من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات، بل يعارضه بخطرات الرياء، ولا تنقطع عنه نزغاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية، فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء. وخواطر الرياء ثلاثة - قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج - فالأول: العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم. ثم يتلوه هيجان الرغبة من النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم. ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه. فالأول: معرفة. والثاني: حالة تسمى الشهوة والرغبة. والثالث: فعل يسمى العزم وتصميم العقد. وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني، فإذا خطر له معرفة اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال: ما لك وللخلق علموا أو لم يعلموا والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره؟ فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في أحوج أوقاته إلى أعماله، فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة، إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله وعقابه الأليم، والشهوة تدعوه إلى القبول، والكراهة تدعوه إلى الإباء، والنفس تطاوع لا محالة أقواهما وأغلبهما.
فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور: المعرفة، والكراهة والإباء. وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص، ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطوياً عليها، وإنما سبب ذلك امتلاء القلب بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره، فيعزب عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال عن شهوة الحمد أو خوف الذم، وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب، ويعزم على التحلم عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ قلبه غيظاً يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه، فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب. وإليه أشار جابر بقوله: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين حتى نودي: يا أصحاب الشجرة فرجعوا. وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا، وأكثر الشهوات التي تهجم فجأة هكذا تكون، إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان. ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة. وقد يتذكر الإنسان فيعلم هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال، فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة، فكم من عالم يحضره كلام لا يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك، ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه أوكد؟ إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموماً عند الله، ولا تنفعه معرفته إذا خلت المعرفة عن الكراهة. وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة بالإضافة إلى قوة الشهوة، وهذا أيضاً لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف عن الفعل.
فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث: وهي المعرفة، والكراهة، والإباء. فالإباء ثمرة الكراهة، والكراهة ثمرة المعرفة، وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور العلم، وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة، وبعض ذلك ينتج بعضاً ويثمره، وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب، لأن حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب والسنة وأنوار العلوم.
فإن قلت: فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير محبب إليه، فهل يكون في زمرة المرائين؟ فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات ولا ينزع إليها، وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثارها من معرفة العواقب وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر، فإذا فعل ذلك فهو الغاية في أداء ما كلف به. ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا إليه وقالوا: تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها، فقال عليه السلام "أو قد وجدتموه" قالوا: نعم قال "ذلك صريح الإيمان ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له، ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة، فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة، والرياء وإن كان عظيماً فهو دون الوسوسة في حق الله تعالى، فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر الأصغر أولى، وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس أنه قال "الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة وقال أبو حازم: ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك، وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه. فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة، والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من الشيطان، والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس، والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل، إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب، لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصاناً في منزلته عند الله.
والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب "الأولى" أن يرده على الشيطان فيكذبه، ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه، وهو على التحقيق نقصان، لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق، والتعريج على قتال قطاع الطريق نقصان في السلوك. "الثانية" أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته "الثالثة" أن لا يشتغل بتكذيبه أيضاً لأن ذلك وقفة وإن قلت؛ بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحباً للكراهة غير متشغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة. "الرابعة" أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جرايان أسباب الرياء، فيكون قد عزم على أنه مهما نزغ الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء الصدقة والعبادة غيظاً للشيطان، وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع. يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له: إن فلاناً يذكرك، فقال، والله لأغيظن من أمره، قيل: ومن أمره؟ قال: الشيطان، اللهم اغفر له. أي لأغيظنه بأن أطع الله فيه. ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته. وقال إبراهيم التيمي: إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم، فلا يطعه وليحدث عند ذلك خيراً، فإذا رآه كذلك تركه: وقال أيضاً: إذا رآك الشيطان متردداً طمع فيك، وإذا رآك مداوماً ملك وقلاك.
وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالاً أحسن فيه فقال: مثالهم كأربعة قصدوا مجلساً من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلاً وهداية ورشداً، فحسدهم على ذلك ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق، فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى، فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك مصلحة له، وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره. فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه، فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتعل بالقتال واستعجل، ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه. ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله، بل استمر على ما كان، فخاب منه رجاؤه بالكلية. فمر الرابع فلم يتوقف له، وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي، فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله.
فإن قلت: فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظاراً لوروده، أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له، أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه؟ قلنا: اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه: فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم - كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا- فصارت ملاذ الدنيا عندهم - وإن كانت مباحة - كالخمر والخنزير، فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر. وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ونقص توكله، فمن أين بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع، والعارف يستحيي منه أن يحذر غيره، فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر. وقالت فرقة من أهل العلم: لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان يكاد يكون غروراً، إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم؟ وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا، بل في صفات الله تعالى وأسمائه، وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك، ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك قال تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله بآياته" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه ليغان على قلبي مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور، ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما "إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى" ومع أنه لم ينه إلا عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار الدنيا وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها؟ وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه الله "هذا من عمل الشيطان" ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى "يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة" وقال عز وجل "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم" والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى "وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم" وقال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى. ولذلك قال ابن محيريز: صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به، وصيد يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك. فأشار إلى الشيطان، فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم؟ فليس من الاشتغال بالله الأعراض عما حذر الله وبه يبطل مذهب الفرقة الثاني في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل، فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه؟ وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" لا يناقض امتثال التوكل، مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى، فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله، ويرى الأسباب وسائط مسخرة - كما ذكرناه في التوكل.
وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم، وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم، ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد.
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم: إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر منه والترصد له، فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا. وقال قوم: إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك مراد الشيطان منا، بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين، فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب، وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله، فالجمع أولى. وقال العلماء المحققون: غلط الفريقان؛ أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر الله فلا يخفى غلطه، وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل ذكره اغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو؟ ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن نور ذكر الله تعالى، فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه، فلم يأمرنا بانتظار الشيطان ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر الله والشيطان، وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله، وقد أمر الله الخلق بذكره ونسيان ما عداه - إبليس وغيره - فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من الشيطان ويقرر على نفسه عداوته، فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان، فإنه إذا اشتغل بذلك بعد معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له، وعند التنبيه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح؛ فيلزم نفسه الحذر وينام على أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر، مع أنه بالنوم غافل عنه، فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه؟ ومثل هذا القلب هو الذي يقوي على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات، فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة الشيطان وترصده وألزموها الحضر، ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله، ودفعوا بالذكر شر العدو، واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو. فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي. فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر، والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر الله فقد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جارياً إليها من جانب آخر فيطول تعبه ولا تجف البئر من الماء القذر، والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سداً وملأها بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة تعب.

[align=center]بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات[/align]

اعلم أن في الأسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء، وفي الإظهار فائدة الاقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء. قال الحسن: قد علم المسلمون أن السر أحرز العملين، ولكن في الإظهار أيضاً فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية فقال "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم".
والإظهار قسمان "أحدهما" في نفس العمل "والآخر" التحدث بما عمل
القسم الأول: إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها ولكن الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب. نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضاً لهم على الحركة فذلك أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره، فالمبادرة إليه ليست من الإعلان بل هو تحريض مجرد، وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه جيرانه وأهله فيقتدى به. فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء، وأما ما يمكن إسراره كالصدقة والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل لأن الإيذاء حرام. فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم: السر أفضل من العلانية وإن كان في العلانية قدوة، وقال قوم: السر أفضل من علانية لا قدوة فيها، أما العلانية للقدوة فأفضل من السر. ويدل على ذلك أن الله عز وجل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب النبوة، ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين. ويدل عليه قوله عليه السلام "فله أجرها وأجر من عمل بها" وقد روي في الحديث "عن عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفاً ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله على عمل السر سبعين ضعفا وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة، وإنما يخاف من ظهور الرياء، ومهما حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به، فلا خلاف في أن السر أفضل منه.
ولكن على من يظهر العمل وظيفتان "إحداهما" أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدي به أو يظن ذلك ظناً، ورب رجل يقتدي به أهله دون جيرانه، وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق، وربما يقتدي به أهل محلته، وإنما العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة. فغير العالم إذا أظهر به الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا به فليس له الإظهار من غير فائدة، وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل القدوة على من هو في محل الاقتداء به "والثانية" أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه الإظهار بعذر الاقتداء، وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدي به، وهذا حال كل من يظهر أعماله إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم. فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر، فإن الضعيف مثاله مثال الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى تشبثوا به فهلكوا وهلك، والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء مثله، لا بل عذابه دائم مدة مديدة، وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء، والتفطن لذلك غامض، ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف العمل حتى يقتدي الناس بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان، فإن مال قلبه إلى أن يكون هو المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به ورغبتهم في الخير، فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع إسراره، فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم؟ فليحذر العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب، وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئاً والسلامة في الإخفاء، وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا، فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء.
القسم الثاني: أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ، وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في هذا أشد لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان، وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة وللنفس لذة في إظهار الدعاوى عظيمة، إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها، فهو من هذا الوجه أهون، والحكم فيه أن من قوى قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم، وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز، بل هو مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات، لأن ترغيب في الخير، والترغيب في الخير خير، وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء. قال سعد بن معاذ: ما صليت صلاة من أسلمت فحدثت نفسي بغيرها، ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها، وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولاً قط إلا علمت أنه حق. وقال عمر رضي الله عنه: ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي؟ وقال ابن مسعود: ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على عيرها. وقال عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال شداد بن أوس: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها، غير هذه! وكان قد قال لغلامه: ائتنا بالسفرة لنبعث بها حتى ندرك الغداء. وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت: لا تبكوا علي فإني ما أحدثت ذنباً منذ أسلمت وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون قضي لي بغيره، وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله.
فهذا كله إظهار لأحوال شريفة، وفيها غاية المراءاة إذا صدرت ممن يرائي بها، وفيها غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به. فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء، بل إظهار المرائي للعبادة إذ لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي. فكم منن مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله؟ وقد روي أنه كان يجتاز الإنسان في سكك البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت، فصنف بعضهم كتاباً في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه، فكانوا يقولون ليت ذلك الكتاب لم يصنف! فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه. وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدي به منهم والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان الرخصة في كتمان الذنوب
وكراهة إطلاع الناس عليها وكراهة ذمهم له[/align]


اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل: عليك بعمل العلانية، قال: يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية؟ قال: ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه. وقال أبو مسلم الخولاني: ما علمت عملاً أبالي أن يطلع على الناس عليه إلا إتياني أهلي والبول والغائط، إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد. ولا يخلوا الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني، والله مطلع على جميع ذلك فإرادة العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر ذلك ليري الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي.
وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه، ويصح اغتمامه باطلاع الناس عليه في ثمانية أوجه: "الأول" أن يفرح بستر الله عليه، وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره في القيامة، إذ ورد في الخبر "أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنباً ستره الله عليه في الآخرة وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان.
"الثاني" أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب كتمانها كما قال صلى الله عليه وسلم "من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله. وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي، وأثر الصدق فيه أن يكره ظهور الذنب من غيره أيضاً ويغتم بسببه.
"الثالث" أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله تعالى، فإن الطبع يتأذى بالذم وينازع العقل ويشغل عن الطاعة، وبهذه العلة أيضاً ينبغي أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر. وهذا أيضاً من قوة الإيمان إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان.
"الرابع" أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه، فإن الذم مؤلم للقلب كما أن الضرب مؤلم للبدن، وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ولا الإنسان به عاص وإنما يعصى إذا جزعت نفسه من ذم الناس ودعته إلى ما لا يجوز حذراً من ذمهم، وليس يجب على الإنسان لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به. نعم كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق فيستوي عنده ذامه ومادح لعلمه أن الضار والنافع هو الله وأن العباد كلهم عاجزون؛ وذلك قليل جداً، وأكثر الطباع تتألم بالذم لما فيه من الشعور بالنقصان، ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل البصيرة في الدين فإنهم شهداء الله، وذمهم يدل على ذم الله تعالى وعلى نقصان في الدين فكيف لا يغتم به؟ نعم الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع، كأنه يحب أن يحمد بالورع، ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله، فيكون قد طلب بطاعة الله ثواباً من غيره، فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد.
وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم فله الستر حذراً من ذلك، ويتصور أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ولكن يكره الذم. وإنما مراده أن يتركه الناس حمداً وذماً، فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم الذم؟ إذ الحمد بطلب اللذة، وعدم اللذة لا يؤلم، وأما الذم فإنه مؤلم؛ فحب الحمد على الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال، وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه إلا أمر واحد وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله فإن ذلك غاية النقصان في الدين، بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر.
"الخامس" أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به وهذا من الإيمان، وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضاً فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع من جهة الطبع.
"السادس" أن يستر ذلك كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه وهذا وراء ألم الذم، فإن الذم مؤلم من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته وإن كان ممن يؤمن شره، وقد يخاف شر من يطلع على ذنبه بسبب من الأسباب، فله أن يستر ذلك حذراً منه.
"السابع" مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم والقصد بالشر، وهو خلق كريم يحدث في أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحيي من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الحياء خير كله وقال صلى الله عليه وسلم "الحياء شعبة من الإيمان وقال صلى الله عليه وسلم "الحياء لا يأتي إلا بخير وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الحيي الحليم" فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه للناس جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء، فهو أشد حالاً ممن يستر ويستحيي، إلا أن الحياء ممتزج بالرياء ومشتبه به اشتباهاً عظيماً قل من يتفطن له، ويدعي كل مراء أنه مستحي وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس، وذلك كذب، بل الحياء خلق ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص، ويتصور أن يخلص معه ويتصور أن يرائي معه.
وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضاً ونفسه لا تسخو بإقراضه إلا أنه يستحيي من رده، وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحي ولا يقرض رياء ولا لطلب الثواب، فله عند ذلك أحوال؛ أحدها: أن يشافه بالرد الصريح ولا يبالي فينسب إلى قلة الحياء، وهذا فعل من لا حياء له. فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض.
فإن أعطي فيتصور له ثلاثة أحوال: أحدها: أن يمزح بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد، فيهيج خاطر الرياء ويقول: ينبغي أن تعطى حتى يثنى عليك ويحمدك وينشر اسمك بالسخاء، أو ينبغي أن تعطى حتى لا يذمك ولا ينسبك إلى البخل، فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء.
الثاني: أن يتعذر عليه الرد بالحياء ويبقى في نفسه البخل فيتعذر الإعطاء، فيهيج داعي الإخلاص ويقول له: إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم وإدخال سرور على قلب صديق وذلك محمود عند الله تعالى، فتسخو النفس بالإعطاء لذلك، فهذا مخلص هيج الحياء إخلاصه.
الثالث: أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ولا حب لمحمدته، لأنه لو طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه بمحض الحياء، وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء ولولا الحياء لرده، ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأرذال لكان يرده وإن كثر الحمد والثواب فيه، فهذا مجرد الحياء ولا يكون هذا إلا في القبائح كالبخل ومقارفة الذنوب. والمرائي يستحي من المباحات أيضاً، حتى إنه يرى مستعجلاً في المشي فيعود إلى الهدوء، أو ضاحكاً فيرجع إلى الانقباض، ويزعم أن ذلك حياء وهو عين الرياء. وقد قيل إن بعض الحياء ضعف وهو صحيح، والمراد به الحياء مما ليس بقبيح كالحياء من وعظ الناس وإمامة الناس في الصلاة، وهو في الصبيان والنساء محمود وفي العقلاء غير محمود. وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه لأن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وهذا الحياء حسن وأحسن منه أن يستحي من الله فلا تضيع الأمر بالمعروف، فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس والضعيف قد لا يقدر عليه فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب.
"الثامن" أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدي به، وهذا العلة الواحدة فقط هي الجارية في إظهار الطاعة وهو القدوة، ويختص ذلك بالأئمة أو بمن يقتدي به، وبهذه العلة ينبغي أيضاً أن يخفي العاصي أيضاً معصيته من أهله وولده لأنهم يتعلمون منه.
ففي ستر الذنوب: هذه الأعذار الثمانية، وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر الواحد، ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائياً كما إذا قصد ذلك بإظهار الطاعة.
فإن قلت: فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح وحبهم إياه بسببه وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال "ازهد في الدنيا يحبك الله وانبذ إليهم هذا الحطام يحبوك؟ فنقول: حبك لحب الناس لك قد يكون مباحاً وقد يكون محموداً وقد يكون مذموماً فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك، فإنه تعالى إذا أحب عبداً حببه في قلوب عباده، والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغروك وصلاتك وعلى طاعة بعينها، فإن ذلك طلب عوض على طاعة الله عاجل سوى ثواب الله. والمباح أن تحب أن يحبوك لصفات محمود سوى الطاعات المحمودة المعينة؛ فحبك ذلك كحبك المال لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فلا فرق بينهما.

[align=center]بيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء ودخول الآفات[/align]

اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفاً من أن يكون مرائياً به وذلك غلط وموافقة للشيطان، بل الحق فيما يترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره، وهو أن الطاعات تنقسم إلى: ما لا لذة في عينه؛ كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهات، إنما تصير لذيذة من حيث أنها توصل إلى حمد الناس، وحمد الناس لذيذ، وذلك عند اطلاع الناس عليه. وإلى: ما هو لذيذ؛ وهو أكثر ما لا يقتصر على البدن، بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء والولايات والحسبة وإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق، وغير ذلك مما تعظم الآفة فيه لتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة.
القسم الأول: الطاعات اللازمة للبدن - التي لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها - كالصوم والصلاة والحج، فخطرات الرياء فيها ثلاث "إحداها" ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين، فهذا مما ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيها، فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب المنزلة، فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها: ألا تستحيين من مولاك لا تسخين بالعمل لأجله وتسخين بالعمل لأجل عباده؟ حتى يندفع باعث الرياء وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل. "الثانية" أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياء مع عقد العبادة وأولها، فلا ينبغي أن يترك العمل لأنه وجد باعثاً دينياً، فليشرع في العمل وليجاهد نفسه في دفع الرياء وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء والإباء عن القبول. "الثالثة" أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيه، فينبغي أن يجاهد في الدفع ولا يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليه قهراً حتى يتمم العمل، لأن الشيطان يدعوك أولاً إلى ترك العمل، فإذا لم تحب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء، إذا لم تجب ودفعت بقي يقول لك: هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائع فأي فائدة لك في عمل لا إخلاص؟ حتى يحملك بذلك على ترك العمل، فإذا تركته فقد حصلت غرضه. ومثال من يترك العمل لخوفه أن يكون مرائياً كمن سلم غليه مولاه حنطة فيها زؤان وقال: خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة، فيترك أصل العمل ويقول: أخاف إن اشتغلت به لم تخلص خلاصاً صافياً نقياً. فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل، فلا معنى له. ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفاً على الناس أن يقولوا أنه مراء فيعصمون الله به. فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولاً أساء الظن بالمسلمين، وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك، ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب العبادة، وترك العمل خوفاً من قولهم إنه مراء هو عين الرياء، فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فما له ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص؟ وأي فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال إنه مراء، وبين أن يحسن العمل خوفاً من أن يقال إنه غافل مقصر؟ بل ترك العمل أشد من ذلك. فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال، ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له: الآن يقول الناس إنك تركت العمل ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة. فيضطرك بذلك إلى أن تهرب، فإن هربت ودخلت سرباً تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه؟ بل لا نجاة منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك، وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي، وإن نزغ العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع، وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك الخيرات. فما دمت تجد باعثاً دينياً على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء، وألزم قلبك الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين، وهو مطلع على قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك، بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل. فإن قال لك الشيطان: أنت مراء، فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى، وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفاً ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد، فمن شرع في العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب.
فإن قلت: فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة. روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال: لا يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة. وقال إبراهيم التيمي: إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم. وقال الحسن: إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة، وكان أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة. وقد ورد في ذلك آثار كثيرة؟ قلنا: هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى، وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه.
وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل. والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء، فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في الإخلاص ولا يتركه، وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف، فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء. وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته، فرأى أن لا يراه في القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك. وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق، فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء. وأما قول التيمي: إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب، وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور فهو عدول عن مباح إلى مباح حذراً من العجب. فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه، على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو واقع في القسم الثاني، وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات، ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا يدركون هذه الدقائق، وإنما ذكره تخويفاً للناس من آفة الشهرة وزجراً من طلبها.
القسم الثاني: ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار، وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال.
أما الخلافة والإمارة: فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاماً فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة، وقال صلى الله عليه وسلم "أول من يدخل الجنة ثلاثة: الإمام المقسط أحدهم. وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل أحدهم. وقال صلى الله عليه وسلم "أقرب الناس مني مجلساً يوم القيامة إمام عادل رواه أبو سعيد الخدري. فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات، ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر، إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا؛ فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعياً في حظ نفسه، ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقاً، ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلاً، وعند ذلك يهلك ويكون يوم من سلطان جائر شراً من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه. ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول؛ من يأخذها بما فيها، وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه أطلقه عدله أو أوبقه جوره رواه معقل بن يسار، وولاه عمر ولاية فقال: يا أمير المؤمنين أشر على، قال: اجلس واكتم على. وروى الحسن "أن رجلاً ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي: خر لي قال "اجلس وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر: لا تأمر على اثنين، ولي هو الخلافة فقام بها فقال له رافع: ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله، يعني لعنة الله. ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضاً وليس كذلك، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات، وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا، وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموا بها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم، فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم أرواحهم، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات، ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات، ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ نفاذ الأمر فتكره العزل، فيداهن خيفة من العزل؛ فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية؟ فقال قائلون: لا يجب أن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذات النفس، والصحيح أن عليه الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير، فلو وعدت بالخير جزماً لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد؟ والامتناع عن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع، فالعزل مؤلم وهو كما قيل العزل طلاق الرجال، فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال الحق وتهوى به في قعر جهنم، ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهراً، وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية. ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إنا لا نولي أمرنا من سألنا فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي أبي بكر رافعاً عن الولاية ثم تقلده لها ليس بمتناقض.
وأما القضاء: فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما. فإن كل ذي ولاية أمير -أي له أمر نافذ - والإمارة محبوبة بالطبع، والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق، والعقاب فيه أيضاً عظيم مع العدول عن الحق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة وقال عليه السلام "من استقضى فقد ذبح بغير سكين فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه، وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم، إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم يطيعوه، فليس له أن يتقلد القضاء، وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف العزل عذراً مرخصاً له في الإهمال أصلاً، بل إذا عزل سقطت العهدة عنه، فينبغي أن يفرح بالعزل إن كان يقضي لله، فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لأتباع الهوى والشيطان، فكيف يرتقب عليه ثواباً؟ وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار.
وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية - وكل ما يتسع بسببه الجاه ويعظم به القدر: فآفته أيضاً عظيمة مثل آفة الولايات، وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما وجدوا إليه سبيلاً، وكانوا يقولون: باب من أبواب الدنيا، ومن قال: حدثنا، فقد قال أوسعوا لي. ودفن بشر كذا وكذا قمطراً من الحديث وقال: يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث، ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت. والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه لذة لا توازيها لذة، فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً، ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقاً، ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم، فلا يسمع حديثاً وحكمة إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولاً، ثم يقول: إذا أنعم الله علي بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني المسلمون. فهذا أيضاً مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات، فمن لا باعث له إلا طلب الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه، إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة، فعند ذلك يعود إليه.
فإن قلت: مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وهم الجهل كافة الخلق؟ فنقول قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة وتوعد عليها حتى قال "إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة إلا من أخذها بحقها وقال "نعمت المرضعة وبئست الفاطمة ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعاً وثار القتال بين الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك؟ وضرب عمر رضي الله عنه أبي بن كعب - رأى قوماً يتبعونه وهو في ذلك يقول: أبي سيد المسلمين، وكان يقرأ عليه القرآن، فمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع، وعمر كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة الصبح فمنع فقال: أتمنعني من نصح الناس؟ فقال: أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا، إذ رأى فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق. والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى، وفي كل واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما، فأما قول القائل: نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس العلم فهو غلط، إذ نه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل القضاء بل الرياسة وحبها يضطر الخلق إلى طلبها، وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس، بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها، وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن الله لا يضيعهم وانظر لنفسك، ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلاً فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم، وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعاً للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهد نفسك، فإن قال: لست أقدر على نفسي فنقول: اشتغل وجاهد، لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس كلهم إذ لا قائم به غيره، ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده، وسلامة دين الجميع أحب عندنا من سلامة دينه وحده، فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته. فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت، فيجب إخلاء البلاد منهم، فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان، وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب القبول ولا يقصد غيره، وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله. ولهذا قال المسيح عليه السلام يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون ما تأمرون، وتدرسون ما لا تعملون، فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى، وما يغنى عنكم ان تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، بحق أقول لكم: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته؟ بحق أقول لكم: إن قلوبكم تبكي من أعمالكم، جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم، بحق أقول لكم: أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم، فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة، فأي ناس أخس منكم لو تعلمون، ويلكم حتى متى تصفون الطريق للمدجلين، وتقيمون في محلة المتجبرين! كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلاً مهلاً! ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم! كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة! يا عبيد الدنيا، لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام، توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم، ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم، ثم يدفعكم العلم من خلفكم، ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم، ثم يجزيكم بسوء أعمالكم. وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال: هؤلاء السوء شياطين الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا الدين للدنيا، فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم لخاسرون.
فإن قلت: فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن يهدي الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها وقال صلى الله عليه وسلم "أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه إلى غير ذلك من فضائل العلم، فينبغي أن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاة لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد نفسك؟ فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة، ولا نقول لأحد من عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدي للوعظ والتدريس ورواية الحديث، ولا نقول له أيضاً اتركه ما دام يجد في نفسه باعثاً دينياً ممزوجاً بباعث الرياء، أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار أنفع له وأسلم. وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها، أما إذا خطر له وساوس الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة، لأن آفة الرياء في العبادات ضعيفة، وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم.
وبالجملة فالمراتب ثلاث (الأولى) الولايات؛ والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفاً من الآفة (الثانية) الصوم والصلاة والحج والغزو؛ وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر عنهم الترك لخوف الآفة. وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة (الثالثة) وهي متوسطة بين الرتبتين؛ وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية والتدريس، والآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة، فالصلاة ينبغي أن لا يتركها الضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء، والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء رأساً دون الأقوياء، ومناصب العلم بينهما، ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة أشبه، وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم والله أعلم.
وهنا رتبة رابعة وهي: جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين، فإن في الإنفاق وإظهار السخاء استجلاباً للثناء، وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس، والآفات فيها أيضاً كثيرة.
ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك، وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال: القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا، وأن من الزهد تركها قربة إلى الله تعالى. وقال أبو الدرداء: ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين ديناراً أتصدق بها، أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وقد اختلفت العلماء فقال قوم: إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل، وقال قوم: الجلوس في دوام ذكر الله أفضل، والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام: يا طالب الدنيا ليبر بها، تركك لها أبر؛ وقال. أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل. وهذا فيمن سلم من الآفات، فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر والاشتغال بالذكر لا خلاف في أنه أفضل.
وبالجملة: ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات، والأحب أن يعمل ويدفع الآفات، فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفت قلبه، وليزن ما فيه من الخير بما فيه من الشر، وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع.
وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه، لأن النفس لا تشير إلا بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه، وإن كان لا يبعد ذلك أيضاً في بعض الأحوال، وهذه أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر فيه لدينه ويدع ما يريبه إلا ما لا يريبه، ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك المال ولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل. ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلاً عن الصدقات أفضل من إمساكه، وإنما الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب: أن الأفضل الكسب والإنفاق، أو التجرد للذكر؟ وذلك لما في الكسب من الآفات، فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال.
فإن قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق في وعظه غير مريد رياء الناس؟ فاعلم أن لذلك علامات (إحداها) أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظاً أو أغزر منه علماً والناس له أشد قبولاً فرح به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل عمله (والأخرى) أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كان عليه، فينظر إلى الخلق بعين واحدة (والأخرى) أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشي خلفه في الأسواق. ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها.
وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال: كنت جالساً إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر، فدخل المسجد على برذونه، فجعل يلتفت في المسجد فلم ير حلقه أحفل من حلقة الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها، ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن، فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه، قال سعيد: وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج، فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له - يتكلم في كل يوم - فما قطع الحسن كلامه قال سعيد: فقلت في نفسي؛ لأبلون الحسن اليوم ولأنظرن هل يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه، أو يحمل الحسن هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه؟ فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه، فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به، رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن ثم قال: صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملنا من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها، قال: ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته، فلما فرغ طفق فقام، فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن - حين قام الحجاج - فقال: عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ كبير، وأني أغزوا فأكلف فرساً وبغلاً، وأكلف فسطاطاً، وأن لي ثلثمائة درهم من العطاء وأن لي سبع بنات من العيال؟ فشكا من حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه، والحسن مكب، فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم، فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة، وإذا أغزى أخاه أغزاه طاوياً راجلاً؟ فما فترة الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده، فقام رجل من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه، فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج فقالوا: أجب الأمير، فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به، فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم، وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك إنما كان يتبسم، فأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال: إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بناء إلى شرارة من نار! إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك من لسانك وقولك: إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا، وإذا أغزى أخاه: أغزاه كذا! لا أبا لك! تحرض علينا الناس؟ أما إنا على ذلك لا نتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك، قال: فدفعه الله عني. وركب الحسن حماراً يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوماً يتبعونه فوقف فقال: هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد؟ فبهذه العلامات وأمثالها تتبين سريرة الباطن. ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون. اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين.

[align=center]بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة
بسبب رؤية الخلق وما لا يصح [/align]


اعلم أن الرجل قد بيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد، أو يقوم بعضهم فيصلون الليل كله أو بعضه، وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة، فإذا رآهم انبعث نشاطه للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده، أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل أصلاً، وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع فينبعث له نشاط في الصوم ولولاهم لما انبعث هذا النشاط، فهذا ربما بظن أنه رياء وأن الواجب ترك الموافقة، وليس كذلك على الإطلاق بل له تفصيل، لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى وفي قيام الليل وصيام النهار، ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ويغلبه التمكن من الشهوات أو تستهويه الغفلة، فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع فينبعث له النشاط، فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب عن التهجد مثل تمكنه من النوم على فراش وثير، أو تمكنه من التمتع بزوجته، أو المحادثة مع أهله وأقاربه، أو الاشتغال بأولاده أو مطالعة حساب له مع معامليه، فإذا وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتر رغبته عن الخير وحصلت له أسباب باعثة على الخير، كمشاهدته إياهم وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا، فإنه ينظر إليهم فينافسهم ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله فتتحرك داعيته للدين لا للرياء، أو ربما يفارقه النم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم، وفي منزله ربما يغلبه النوم وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام، والنفس لا تسمح بالتهجد دائماً وتسمح بالتهجد وقتاً قليلاً فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق، وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ويشق عليه الصبر عنها، فإذا أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه فتنبعث داعية الدين للصوم، فإن الشهوات الحاضرة عوائق ودوافع تغلب باعث الدين، فإذا سلم منها قوي الباعث. فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ويكون السبب فيه مشاهدة الناس وكونه معهم، والشيطان مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول: لا تعمل فإنك تكون مرائياً إذا كنت لا تعمل في بيتك ولا تزد

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أغسطس 16, 2006 8:41 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
ولا تزد على صلاتك المعتادة، وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم وخوفاً من ذمهم ونسبتهم إياه إلى الكسل، لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل، فإن نفسه لا تسمح بأن يسقط من أعينهم فيريد أن يحفظ منزلته، وعند ذلك قد يقول الشيطان: صل فإنك مخلص ولست تصلى لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق وإنما داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم. وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر، فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة، لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة الله، وإن كان انبعاثه لدفع العوائق وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق. وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه؟ فإن سخت نفسه فليصل فإن باعثه الحق، وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك، فإن باعثه الرياء. وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم، ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم، ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب إقبالهم على الله تعالى، وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب الحمد، فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا ينبغي أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد، بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية ويشتغل بالعبادة. وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفاً من الله تعالى لا من الرياء، ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى، ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب، وقد لا يحضره البكاء فيتباكى - تارة رياء وتارة مع الصدق - إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفاً، وذلك محمود. وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف على نفسه القساوة فيتباكى أم لا؟ إن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم فإنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي. قال لقمان عليه السلام لابنه: لا ترى الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر. وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال، تارة تكون من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه، فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود، وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على أنه كثير الحزن ليعرف بذلك، فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء، وإن اقترنت بداعية الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه، وإن قبل ذلك وركن غليه بقلبه حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به، وقد يكون أصل الأنين عن الحزن، ولكن يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء، وهو محظور لأنها في حكم الابتداء لمجرد الرياء، فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه، ولكن يسبقه خاطر الرياء فيقبله، فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر بعد أن استرسلت لخشية الله، ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء. وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط، ثم يستحي أن يقال له إنه سقط من غير زوال عقل وحالة شديدة، فيزعق ويتواجد تكلفاً ليرى أنه لكونه مغشياً عليه وقد كان ابتداء السقطة عن صدق، وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعاً فتجزع نفسه أن يقال حالته غير ثابتة، وإنما هي كبرق خاطف، فيستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله، وكذلك قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه، فيستديم إظهار الضعف ولكن يزول ضعفه سريعاً فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان لدام ضعفه، فيستديم إظهار الضعف والأنين فيتكئ على غيره يرى أنه يضعف عن القيام ويتمايل في المشي ويقرب الخطا ليظهر أنه ضعيف عن سرعة المشي. فهذه كلها مكايد الشيطان ونزغات النفس. فإذا خطرت فعلاجها أن يتذكر أن الناس لو عرفوا نفاقه في الباطن واطلعوا على ضميره لمقتوه، وإن الله مطلع على ضميره وهو له أشد مقتاً، كما روي عن ذي النون رحمه الله أنه قام وزعق، فقام معه شيخ آخر رأى فيه أثر التكلف فقال يا شيخ! الذي يراك حين تقوم؟ فجلس الشيخ وكل ذلك من أعمال المنافقين.
وقد جاء في الخبر "تعوذوا بالله من خشوع النفاق وإنما خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع، ومن ذلك الاستغفار والاستعاذة بالله من عذابه وغضبه، فإن ذلك قد يكون لخاطر خوف وتذكر ذنب وتندم عليه وقد يكون للمراءاة. فهذه خواطر ترد على القلب متضادة مترادفة متقاربة، وهي مع تقاربها متشابهة، فراقب قلبك في كل ما يخطر لك وانظر ما هو ومن أين هو؟ فإن كان لله فامضه واحذر مع ذلك أن يكون قد خفي عليك شيء من الرياء الذي هو كدبيب النمل، وكن على وجل من عبادتك أهي مقبولة أم لا؟ أخوفك على الإخلاص فيها، واحذر أن يتجدد لك خاطر الركون إلى حمدهم بعد الشروع بالإخلاص فإن ذلك مما يكثر جداً، فإن خطر لك فتفكر في اطلاع الله عليك ومقته لك. وتذكر ما قاله أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب عليه السلام إذ قال: يا أيوب أما علمت أن العبد تضل عنه علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزى بسريرته. وقول بعضهم: أعوذ بك أن يرى الناس أني أخشاك وأنت لي ماقت. وكان من دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما. اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي، محافظاً على رياء الناس من نفسي مضيعاً لما أنت مطلع عليه مني، أبدي للناس أحسن أمري وأفضي إليك بأسوأ عملي، تقرباً إلى الناس بحسناتي وفراراً منهم إليك بسيآتي، فيحل بي مقتك ويجب علي غضبك، أعذني من ذلك يا رب العالمين. وقد قال أحد الثلاثة نفر لأيوب عليه السلام: يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا علانيتهم وأضاعوا سرائرهم عند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوههم فهذه جمل آفات الرياء. فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر "إن للرياء سبعين بابا وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض، حتى إن بعضه مثل دبيب النمل، وبعضه أخفى من دبيب النمل، وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة؟ وليته أدرك بعد بذل المجهود فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن خدعها؟ نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه.

[align=center]بيان ما ينبغي للمريد أن يلزم نفسه
قبل العمل وبعده وفيه
[/align]

اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع طاعاته، ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله، فأما من خاف غيره وارتجاه اشتهى إطلاعه على محاسن أحواله، فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت، وليراقب نفسه عند الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره، فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصاً على الإفشاء وتقول: مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه الخلق منك لسجدوا لك! فما في الخلق من يقدر على مثله فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك؟ ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه، ويتذكر في مقابلة عظم عمله: عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد وعظم غضب الله ومقته على من طلب بطاعته ثواباً من عباده، ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول: وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل؟ فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول: إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلصون فليس ذلك من شأنهم، فيترك المجاهدة في الإخلاص، لأن المخلص إلى ذلك أحوج من المتقي، لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت فرائضه كاملة تامة، والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجبران بالنوافل فإن لم تسلم صار مأخوذاً بالفرائض وهلك به، فالمخلط إلى الإخلاص أحوج. وقد روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يحاسب العبد يوم القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكمل به فرضه وإن لم يكن له تطوع أخذ بطرفيه فألقي في النار فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل، وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة.
فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله، ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به، وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلاً من عمله خائفاً أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه، فيكون شاكاً في قبوله ورده مجوزاً أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها، ويكون هذا الشك والخوف في دوام عمله وبعده إلا في ابتداء العقد، بل ينبغي أن يكون متيقناً في الابتداء أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله، فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به، ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء؟ فيكون رجاء القبول أغلب، وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات.
فالإخلاص: يقين، والرياء: شك. وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه. والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة لعلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط، ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط، دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه، فإن ذلك يحبط الأجر. فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة، أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر باستتباعه، أو تردداً منه في حاجة فقد أخذ أجره فلا ثواب له غيره. نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره، ولكن خدمة التلميذ بنفسه فقبل خدمته، فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذ كان لا ينتظره ولا يريد منه، ولا يستبعده منه لو قطعه. ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا، حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلاً ليرفعوه فخلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثاً، خيفة أن يحبط أجره. وقال شقيق البلخي: أهديت لسفيان الثوري ثوباً فرده علي، فقلت له: يا أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال: علمت ذاك ولكن أخوك يسمع مني الحديث فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره. وجاء رجل إلى سفيان بيدرة أو بدرتين وكان أبو صديقاً لسفيان وكان سفيان يأتيه كثيراً، فقال له: يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء؟ فقال: يرحم الله أباك - كان وكان وأثنى عليه - فقال: يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إلي، فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك "قال" فقبل سفيان ذلك "قال" لما خرج قال لولده: يا مبارك الحقه فرده علي، فرجع فقال: أحب أن تأخذ مالك، فلم يزل به حتى رده عليه. وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك. قال ولده: فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه فقلت: ويلك أي شيء قلبك هذا! حجارة؟ عد أنه ليس لك عيال! أما ترحمني؟ أما ترحم إخوتك؟ أما ترحم عيالنا؟ فأكثرت عليه فقال لي: يا مبارك تأكلها أنت هنيئاً مريئاً وأسأل عنها أنا.
فإذن يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط، ويحب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله وطلب ثوابه ونيل المنزلة عنده، لا عند المعلم وعند الخلق. وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته، فيتعلم منه، وهو خطأ لأن إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال، والعلم ربما يفيد وربما لا يفيد؟ فكيف يخسر في الحال عملاً نقداً على توهم علم! وذلك غير جائز، بل ينبغي أن يتعلم الله ويعبد الله ويخدم المعلم لله، لا ليكون له في قلبه منزله، إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة، فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ولا يريدوا بطاعتهم غيره. وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما إلا من حيث أن رضا الله عن في رضا الوالدين، ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين، فإن ذلك معصية في الحال وسيكشف الله عن ريائه وتسقط منزلته من قلوب الوالدين أيضاً. وأما الزهد المعتزل عن الناس فينبغي له أن يلزم قلبه ذكر الله والقناعة بعلمه، ولا يخطر بقلبه معرفة الناس زهده واستعظامهم محله، فإن ذلك يغرس الرياء في صدره حتى تتيسر عليه العبادات في خلوته به. وإنما سكوته لمعرفة الناس باعتزاله واستعظامهم لمحله وهو لا يدري أنه المخفف للعمل عليه.
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في صومعته فقلت: يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك؟ قال: منذ سبعين سنة، قلت: فما طعامك؟ قال: يا حنيفي وما دعاك إلى هذا؟ قلت: أحببت أن أعلم، قال: في كل ليلة حمصة قلت: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة؟ قال: ترى الدير الذي بحذائك؟ قلت: نعم، قال: إنهم يأتوني في كل سنة يوماً واحداً فيزينون صومعتي ويطوفون حولها ويعظموني، فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها عز تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة! فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد، فوقر في قلبي المعرفة، فقال: حسبك أو أزيدك؟ قلت: بلى، قال: أنزل عن الصومعة، فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي: ادخل الدير فقد رأوا ما أدليت إليك، فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا: يا حنيفي ما الذي أدلى إليك الشيخ؟ قلت: من وقته قالوا: فما تصنع به ونحن أحق به؟ ثم قالوا: ساوم! قلت: عشرون ديناراً فأعطوني عشرين ديناراً فرجعت إلى الشيخ فقال: يا حنيفي ما الذي صنعت؟ قلت: بعته منهم، قال: بكم؟ قلت: بعشرين ديناراً، قال: أخطأت! لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك هذا عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده؟ يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب والجيئة.
والمقصود أن استشعار النفس عز العظمة في القلوب يكون باعثاً في الخلوة وقد لا يشعر العبد به، فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده والبهائم بمثابة واحدة، فلو تغيروا عن اعتقادهم له لم يجزع ولم يضق به ذرعاً إلا كراهة ضعيفة، إن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه، فإنه لو كان في عبادة واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعاً ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه، فإن دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه؛ إلا أن يزيد عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه، فذلك لا بأس به ولكن فيه غرور، إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ، وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما حصل بأن يعدو كثيراً أو يضحك كثيراً أو يأكل كثيراً فتسمح نفسه بذلك؟ فإذا لم تسمح وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم، ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله، فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق. ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عند إقبال الغني زيادة هزة في نفسه، لا كرامة إلا إذا كان في الغنى زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرماً له بذلك الوصف لا بالغنى، فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويجب إلى القلب المسكنة، والنظر إلى الأغنياء بخلافه، فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير؟ وقد حكي أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري، كان يجلسهم وراء الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه. نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة، ولكن يكون بحيث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام وتوقير البتة. فإن الفقير أكرم على الله من الغني، فإيثارك لا يكون إلا طمعاً في غناه ورياء له، ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني أكثر مما تظهره للفقير، وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي، كما قال ابن السماك لجارية له ما لي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة؟ فقال: الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت! فإن اللسان ينطق عند الغني لما لا ينطق به عند الفقير، وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا يحضره عند الفقير. ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى الله من قلبك، وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات منغصة في أيام متقاربة، وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات وساعدته اللذات، ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في الشهوات، وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه، فلما عرف ذلك جالس الأطباء وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات وصبر على مفارقتها، فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم نقصاناً لشدة احتمائه، فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ، فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة المكروهات، فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف، وترك المؤانسة بالخلق خوفاً من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذاب فخف ذلك كله عليه شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم في رضوان الله أبد الآباد، ثم علم أن الله كريم رحيم لم يزل لعباده المريدين لمرضاته عوناً وبهم رؤوفاً وعليهم عطوفاً ولو شاء لأغناهم عن التعب، ولكن أراد أن يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلاً، ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر، وحبب إليه الطاعة ورزقه فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى سياسته وتقويته وأمده بمعونته، فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب وهو الذي يقول "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" ويقول تعالى "لقد طالل شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقاً" فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته.

[align=center]تم كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده [/align]





[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أغسطس 17, 2006 8:17 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب ذم الكبر والعجب
وهو الكتاب التاسع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
[/align]

[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

الحمد لله الخالق البارئ المصور العزيز الجبار المتكبر العلي الذي لا يضعه عن مجده واضع، الجبار الذي كل جبار له ذليل خاضع، وكل متكبر في جناب عزه مسكين متواضع، فهو القهار الذي لا يدفعه عن مراده دافع، الغني الذي ليس له شريك ولا منازع، القادر الذي بهر أبصار الخلائق جلاله وبهاؤه، وقهر العرش المجيد استواؤه واستعلاؤه واستيلاؤه، وحصر ألسن الأنبياء وصفه وثناؤه، وارتفع عن حد قدرتهم إحصاؤه واستقصاؤه، فاعترف بالعجز عن وصف كنه جلاله ملائكته وأنبياؤه، وكسر ظهر الأكاسرة عزه وعلاؤه، وقصر أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه، فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه، ومن نازعه فيهما قصمه بداء الموت فأعجزه دواؤه، جل جلاله وتقدست أسماؤه، والصلاة على محمد الذي أنزل عليه النور المنتشر ضياؤه، حتى أشرقت بنوره أكناف العالم وأرجاؤه، وعلى آله وأصحابه الذين هم أحباء الله وأولياؤه، وخيرته وأصفياؤه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه فالكبر والعجب داءان مهلكان، والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان، وهما عند الله ممقوتان بغيضان. وإذا كان القصد في هذا الربع من كتاب إحياء علوم الدين شرح المهلكات وجب إيضاح الكبر والعجب فإنهما من قبائح المرديات. ونحن نستقصي بيانهما من الكتاب في شطرين: شطر في الكبر، وشطر في العجب.
الشطر الأول من الكتاب: في الكبر، وفيه؛ بيان ذم الكبر، وبيان ذم الاختيال، وبيان فضيلة التواضع، وبيان حقيقة التكبر وآفته، وبيان من يتكبر عليه ودرجات التكبر، وبيان ما به التكبر، وبيان البواعث على التكبر، وبيان أخلاق المتواضعين وما فيه يظهر الكبر، وبيان علاج الكبر. وبيان امتحان النفس في خلق الكبر، وبيان المحمود من خلق التواضع والمذموم منه.

[align=center]بيان ذم الكبر[/align]

قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تعالى "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق" وقال عز وجل "كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار" وقال تعالى "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" وقال تعالى "إنه لا يحب المستكبرين" وقال تعالى "لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً" وقال تعالى "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" وذم الكبر في القرآن كثير وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على الصفا فتواقفا، فمضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي، فقالوا ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: هذا - يعني عبد الله بن عمرو - زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوماً -للطير والإنس والجن والبهائم: اخرجوا، فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن، فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات، ثم خفض حتى مست أقدامه البحر، فسمع صوتاً: لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته. وقال صلى الله عليه وسلم "يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان وعينان تبصران ولسان ينطق يقول: وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر وبالمصورين وقال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة بخيل ولا جبار ولا سيئ الملكة وقال صلى الله عليه وسلم "تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم وعجزتهم؟ فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها وقال صلى الله عليه وسلم "بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسى الجبار الأعلى، بئس العبد عبد تجبر واختال ونسى الكبير المتعال، بئس العبد عبد غفل وسها ونسى المقابر والبلى بئس العبد عبد عتا وبغى ونسى المبدأ والمنتهى وعن ثابت أنه قال: بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان! فقال "أليس بعده الموت وقال عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال: إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين، أنهاكما عن الشرك والكبر، وآمركما بلا إله إلا الله. فإن السموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح منهما، ولو أن السموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليها لقصمتها، وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء قال المسيح عليه السلام: طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جباراً. وقال صلى الله عليه وسلم "أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع، وأهل الجنة الضعفاء المقلون وقال صلى الله عليه وسلم "إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلينا وأبعدكم منا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ المتكبرون وقال صلى الله عليه وآله وسلم "يحشر المتكبرون يوم القيامة في مثل صور الذر تطؤهم الناس، ذراً في مثل صور الرجال يعلوهم كل شيء من الصغار، ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له بولس يعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى وعن محمد بن واسع قال: دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له يا بلال إن أباك حدثني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن في جهنم وادياً يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار، فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه وقال صلى الله عليه وسلم "إن في النار قصراً يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم وقال صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء وقال "من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة: الكبر والدين والغلول .
الآثار: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا يحقرن أحد أحداً من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير. وقال وهب: لما خلق الله جنة عدن نظر إليها فقال أنت حرام على كل متكبر. وكان الأحنف بن قيس يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره، فجاء يوماً ومصعب ماد رجليه فلم يقبضهما، وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة فرأى أثر ذلك في وجهه فقال: عجباً لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين. وقال الحسن: العجب من ابن آدم، يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار السموات. وقد قيل في "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" هو سبيل الغائض والبول. وقد قال محمد بن الحسين بن علي: ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك قل أو كثر. وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال: الكبر وقال النعمان بن بشير - على المنبر - إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله والفخر بإعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله. نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.

[align=center]بيان ذل الاختيال وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب[/align]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطراً وقال صلى الله عليه وسلم "بينما رجل يتبختر في بردته إذ أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وقال صلى الله عليه وسلم "من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة" وقال زيد بن أسلم: دخلت على ابن عمر فمر به عبد الله ابن واقد وعليه ثوب جديد فسمعته يقول: أي بني ارفع إزارك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً على كفه ووضع أصبعه عليه وقال "يقول الله تعالى: ابن آدم أتعجزتي وقد خلقتك من مثل هذه! حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق! وأني أوان الصدقة وقال صلى الله عليه وسلم "إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط الله بعضهم على بعض قال ابن الأعرابي: هي مشية فيها اختيال. وقال صلى الله عليه وسلم "من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقى الله وهو عليه غضبان .
الآثار: عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن إذ مر علينا ابن الأهثم يريد المقصورة وعليه جباب خز، قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي يتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف.. أف.. شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه، أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدي حتى الله منها، والله أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلق المجنون في كل عضو من أعضائه لله نعمة، وللشيطان به لفتة، فسمع ابن الأهثم فرجع يعتذر إليه فقال: لا تعتذر إلي وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى "ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولت تبلغ الجبال طولاً"؟ ومر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال له: ابن آدم معجب بشبابه محب لشمائله، كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك، ويحك! داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. وروى أن عمربن عبد العزيز حج قبل أن يستخلف؛ فنظر إليه طاوس وهو يختال في مشيته فغمز جنبه بأصبعه ثم قال: ليست هذه مشية من في بطنه خراء؟ فقال عمر كالمعتذر: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها ورأى محمد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال: أتدري من أنت؟ أما أمك فأشتريتها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله! ورأى ابن عمر رجلاً يجر إزاره فقال: أن للشيطان إخواناً - كررها مرتين أو ثلاثا ً- ويروى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز، فقال: يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله، فقال له المهلب: أما تعرفني؟ فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة! فمضى المهلب وترك مشيته تلك. وقال مجاهد في قوله تعالى "ثم ذهب إلى أهله يتمطى" أي يتبختر وإذ قد ذكرنا ذم الكبر والاختيال فلنذكر فضيلة التواضع والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان فضيلة التواضع[/align]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله وقال صلى الله عليه وسلم "ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها فإن هو رفع نفسه جبذاها ثم قالا اللهم ضعه وإن وضع نفسه قالا اللهم ارفعه وقال صلى الله عليه وسلم "طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالاً جمعه في غير معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة وعن أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا بقباء وكان صائماً فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن وجعلنا فيه شيئاً من عسل فلما رفعه وذاقه وجد حلاوة العسل فقال "ما هذا؟" قلنا يا رسول الله جعلنا فيه شيئاً من عسل فوضعه وقال "أما إني لا أحرمه ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون فقام سائل على الباب وبه زمانة يتكره منها فأذن له فلما دخل أجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذه ثم قال له "اطعم" فكأن رجلاً من قريش اشمأز منه وتكره فما مات ذلك الرجل حتى كانت به زمانة مثلها وقال صلى الله عليه وسلم "خيرني ربي بين أمرين أن أكون عبداً رسولاً أو ملكاً نبياً فلم أدر أيهما أختار وكان صفي من الملائكة جبريل فرفعت رأسي إليه فقال: تواضع لربك فقلت عبداً رسولاً وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي وألزم قلبه خوفي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي وقال صلى الله عليه وسلم "الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى وقال المسيح عليه السلام: طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة. وقال بعضهم: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا هدى الله عبداً للإسلام وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعاً فذلك من صفوة الله وقال صلى الله عليه وسلم "أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب: الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة وقال صلى الله عليه وسلم "التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم فجاء رجل أسود به جدري قد تقشر فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وقال صلى الله عليه وسلم "إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنة لأهله يدفع به الكبر عن نفسه وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً "مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة، قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع وقال صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك مذلة لهم وصغار .
الآثار:قال عمر رضي الله عنه: إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش رفعك الله وإذا تكبر وعدا طوره رهصه الله في الأرض وقال اخسأ خسأك الله، فهو في نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى إنه لأحقر عندهم من الخنزير. وقال جرير بن عبد الله: انتهيت مرة إلى شجرة تحتها رجل نائم قد استظل بنطع له وقد جاوزت الشمس النطع فسويته عليه، ثم إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي، فذكرت له ما صنعت فقال لي: يا جرير تواضع لله في الدنيا فإنه من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة يا جرير أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: إنه ظلم الناس بعضهم في الدنيا. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات، التواضع وقال يوسف بن أسباط: يجزى قليل الورع من كثير العمل ويجزى قليل التواضع من كثير الاجتهاد. وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع ما هو؟ فقال: أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من صبي قبلته ولو سمعته من أجهل الناس قبلته. وقال ابن المبارك: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل. وقال قتادة: من أعطى مالاً أو جمالاً أو ثياباً أو علماً ثم لم يتواضع فيه كان عليه وبالاً يوم القيامة. وقيل أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها بالاستكانة أتممها عليك. وقال كعب: ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجة في الآخرة، وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقاً من النار يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه. وقيل لعبد الملك بن مروان: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن قدرة وزهد عن رغبة وترك النصرة عن قوة. ودخل ابن السماك على هارون فقال: يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، فقال: ما أحسن ما قلت! فقال: يا أمير المؤمنين إن امرأ أتاه الله جمالاً في خلقته وموضعاً في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى من ماله وتوضع في حسبه كتب في ديوان الله من خالص أولياء الله، فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده. وكان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين فيقعد معهم ويقول: مسكين مع مساكين. وقال بعضهم: كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك الفقراء في الثياب المرتفعة. روي أنه خرج يونس وأيوب والحسن يتذاكرون في التواضع فقال لهم الحسن: أتدرون ما التواضع؟ التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. وقال مجاهد. إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح عليه السلام شمخت الجبال وتطاولت وتواضع الجودي فرفعه الله فوق الجبال وجعل قرار السفينة عليه. وقال أبو سليمان: إن الله عز وجل اطلع على قلوب الآدميين فلم يجد قلباً أشد تواضعاً من قلب موسى عليه السلام فخصه من بينهم بالكلام. وقال يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات: لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني أخشى أنهم حرموا بسببي. ويقال: أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه، وأوضع ما يكون عند الله أرفع ما يكون عند نفسه. وقال زياد النمري: الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر. وقال مالك بن دينار: لو أن منادياً ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رجلاً والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعى قال: فلما بلغ ابن المبارك قوله قال: بهذا صار مالك مالكاً. وقال الفضيل: من أحب الرياسة لم يفلح أبداً. وقال موسى بن القاسم: كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت: يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل لنا، فبكى ثم قال: ليتني لم أكن سبب هلاككم، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: إن الله عز وجل رفع عنكم بدعاء محمد بن مقاتل. وجاء رجل إلى الشلبي رحمه الله فقال له: ما أنت؟ وكان هذا دأبه وعادته، فقال: أنا النقطة التي تحت الباء فقال له الشلبي: أباد الله شاهدك أو تجعل لنفسك موضعاً. وقال الشلبي في بعض كلامه: ذلي عطل ذل اليهود. ويقال: من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب. وعن أبي الفتح بن شخرف قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام فقلت له يا أبا الحسن عظني، فقال لي: ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم في ثواب الله! وأحسن من تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز وجل، وقال أبو سليمان: لا يتواضع العبد حتى يعرف نفسه. وقال أبو يزيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر، فقيل له: فمتى يكون متواضعاً؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً، وتواضع كل إنسان على قدر معرفته بربه عز وجل ومعرفته بنفسه. وقال أبو سليمان: لو اجتمع الخلق على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا عليه. وقال عروة بن الورد: التواضع أحد مصايدالشرف وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا التواضع. وقال يحيى بن خالد البرمكي: الشريف إذا تنسك تواضع، والسفيه إذا تنسك تعاظم. وقال يحيى بن معاذ. التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع، ويقال: التواضع في الخلق كلهم حسن، وفي الأغنياء أحسن، والتكبر في الخلق كلهم قبيح، وفي الفقراء أقبح. ويقال: لا عز إلا لمن تذلل لله عز وجل، ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز وجل، ولا أمن إلا لمن خاف الله عز وجل، ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز وجل. وقال أبو علي الجوزجاني. النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد، فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف له في ذلك، فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها النصيحة مع توفيق الله عز وجل، وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع عون الله عز وجل. وعن الجنيد رحمه الله أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه لولا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "يكون في آخر الزمان زعيم القوم أزدلهم ما تكلمت عليكم. وقال الجنيد أيضاً: التواضع عند أهل التوحيد تكبر، ولعل مراده أن التواضع يثبت نفسه ثم يضعها والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئاً حتى يضعها أو يرفعها. وعن عمرو بن شيبة قال: كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان وإذا هم يعنفون الناس، قال: ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر، فإذا أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي: مالك تنظر إلي؟ فقلت له: شبهتك برجل رأيته بمكة، ووصفت له الصفة، فقال له: أنا ذلك الرجل، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس. وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول إن زماناً صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء. وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض، وقال هذا من أجلي يصيبكم، لو مات عطاء لاستراح الناس. وكان بشر الحافي يقول سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم. ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال أعطاك الله ما ترجوه، فقال إن الرجاء يكون بعد المعرفة فأين المعرفة؟ وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوماً فقال سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم أتى الميزان فإن ثقل فأنا كريم وإن خف فأنا لئيم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع. نسأل الله الكريم حسن التوفيق

[align=center]بيان حقيقة الكبر وآفته[/align]

اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس، والظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح. واسم الكبر بالخلق الباطن أحق، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق. وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال الكبر، وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر. فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه فإن الكبر يستدعي متكبراً عليه ومتكبراً به، وبه ينفصل الكبر عن العجب -كما سيأتي- فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجباً، ولا يتصور أن يكون متكبراً إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبراً، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبراً فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر، بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر، لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر، بل هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه، فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك، فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "أعوذ بك من نفخة الكبرياء وكذلك قال عمر أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا، للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح. فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين - وهو الاستعظام - كبر وانتفخ وتعزز. فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات، وتسمى أيضاً عزة وتعظماً، ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى "إن في صدوركم إلا كبر ما هم ببالغيه" قال عظمة لم يبلغوها، ففسر الكبر بتلك العظمة. ثم هذه العزة تقتضي أعمالاً في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبراً، فإنه مهما عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع عن مجالسته ومؤاكلته، ورأى أن حقه أن يقوم ماثلاً بين يديه إن اشتد كبره فإن كان أشد من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلاً للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته، فإن كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه، وإن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول، وإن وعظ عنف في النصح، وإن رد عليه شيء من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم، وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالاً لهم واستحقاراً. والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة. فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء فضلاً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ؟ وإنما صار حجاباً دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها، لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين وفيه العز، ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز، ولا يقدر أن يدوم على الصدق وفيه العز، ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز، ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز، ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز، ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز، ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز، ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه العز: ولا معنى للتطويل فما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ عزه، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفاً من أن يفوته عزه، فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه. والأخلاق الذميمة متلازمة والبعض منها داع إلى البعض لا محالة. وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له وفيه وردت الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين قال الله تعالى "والملائكة باسطو أيديهم" إلى قوله "وكنتم عن آياته تستكبرون" ثم قال "ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين" ثم أخبر أن أشد أهل النار عذاباً أشدهم عتياً على الله تعالى فقال "ثم لننزعن من كل شبعة أيهم أشد على الرحمن عتياً" وقال تعالى "فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون" وقال عز وجل "يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين" وقال تعالى "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" وقال تعالى "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق" قيل في التفسير: سأرفع فهم القرآن عن قلوبهم، وفي بعض التفاسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت. وقال ابن جريج: سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها. ولذلك قال المسيح عليه السلام: إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا، كذلك الحكمة تعمل في قلب المتواضع ولا تعمل في قلب المتكبر، ألا ترون أن من شمخ برأسه إلى السقف شجه، ومن طأطأ أظله وأكنه. فهذا مثل ضربه للمتكبرين وأنهم كيف يحرمون الحكمة، ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم جحود الحق في حد الكبر والكشف عن حقيقته وقال "من سفه الحق وغمص الناس .

[align=center]بيان المتكبر عليه ودرجاته وأقسامه وثمرات الكبر فيه[/align]

اعلم أن المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه، وقد خلق الإنسان ظلوماً جهولاً، فتارة يتكبر على الخلق وتارة يتكبر على الخالق، فإذن التكبر باعتبار المتكبر عليه ثلاثة أقسام: الأول: التكبر على الله؛ وذلك هو أفحش أنواع الكبر، ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان مثل ما كان من نمرود فإنه كان يحدث نفسه بأن يقاتل رب السماء وكما يحكى عن جماعة من الجهلة. بل ما يحكى عن كل من ادعى الربوبية مثل فرعون وغيره، فإنه لتكبره قال: أنا ربكم الأعلى، إذ استنكف أن يكون عبداً لله، ولذلك قال تعالى "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" وقال تعالى "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون" الآية وقال تعالى "وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً".
القسم الثاني: التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس؛ وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره فيمتنع عن الانقياد وهو ظان أنه محق فيه، وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه للإنقياد للحق والتواضع للرسل، كما حكى الله قولهم "أنؤمن لبشرين مثلنا" وقولهم "إن أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون" وقال الذين لا يرجون لقائنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عواً كبيراً. وقالوا لولا أنزل عليه ملك" وقال فرعون فيما أخبر الله عنه "أو جاء معه الملائكة مقترنين" وقال الله تعالى "واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق" فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعاً. قال وهب: قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك، قال: حتى أشاور هامان، فشاور هامان فقال هامان:بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبد تعبد فاستنكف عن عبودية الله وعن اتباع موسى عليه السلام. وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم" قال قتاده: عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي، طلبوا من هو أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قالوا غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا؟ فقال تعالى "أهم يقسمون رحمة ربك" وقال الله تعالى "ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" أي استحقاراً لهم واستبعاداً لتقدمهم. وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف نجلس إليك وعند هؤلاء؟ وأشاروا إلى فقراء المسلمين فازدروهم بأعينهم لفقرهم، وتكبروا عن مجالستهم فأنزل الله تعالى "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي" إلى قوله "ما عليك من حسابهم" وقال تعالى "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذ لم يروا الذين ازدروهم فقالوا "ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار" قيل يعنون عماراً وبلالاً وصهيباً والمقداد رضي الله عنهم، ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله عليه وسلم محقاً، ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف قال الله تعالى مخبراً عنهم "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" وقال "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا" وهذا الكبر قريب من التكبر على الله عز وجل وإن كان دونه، ولكنه تكبر على قبول أمر الله والتواضع لرسوله.
القسم الثالث: التكبر على العباد؛ وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم، وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضاً عظيم من وجهين؛ أحدهما: أن الكبر والعز والعظمة والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر، فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر؟ فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله، ومثاله: أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ويجلس على سريره، فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال! وما أشد استجراءه على مولاه وما أقبح ما تعاطاه! وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى "العظمة إزراري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته" أي إنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي، والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي، وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على عباده فقد جني عليه، إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره، وإن لم يبلغ درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه، فالخلق كلهم عباد الله وله العظمة والكبرياء عليهم، فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه. نعم الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمرود وفرعون، هو الفرق بين منازعة الملك في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك.
الوجه الثاني: الذي تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره، لأن المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده، ولذلك ترى المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون تجاحد المتكبرين، ومهما اتضح الحق على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله، وتشمر لجحده واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين، إذ وصفهم الله تعالى فقال "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" فكل من يناظر للغلبة والإفحام لا ليغتنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم في هذا الخلق، وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم" وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها فقال "إنا لله وإنا إليه راجعون" قام رجل يأمر بالمعروف فقتل، فقام آخر فقال: يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فقتل المتكبر الذي خالفه والذي أمره كبراً، وقال ابن مسعود: كفى بالرجل إثماً إذا قيل له اتق الله قال: عليك نفسك! وقال صلى الله عليه وسلم لرجل "كل بيمينك" قال: لا أستطيع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا استطعت" فما منعه إلا كبره، قال: فما رفعها بعد ذلك أي اعتلت يده. فإذن تكبره على الخلق عظيم لأنه سيدعوه إلى التكبر على أمر الله، وإنما ضرب إبليس مثلاً لهذا، وما حكاه من أحواله إلا ليعتبر به، فإنه قال: أنا خير منه، وهذا الكبر بالنسب لأنه قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فحمله ذلك على أن يمتنع من السجود الذي أمره الله تعالى به، وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له فجره ذلك إلى التكبر على أمر الله تعالى، فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد، فهذه آفة من آفات الكبر على العباد عظيمة، ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر بهاتين الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس بن شماس فقال: يا رسول الله إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى أفمن الكبر هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم "لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس وفي حديث آخر "من سفه الحق وقوله "وغمص الناس" أي ازدراهام واستحقرهم وهم عباد الله أمثاله أو أخير منه. وهذه الآفة الأولى "وسفه الحق" هو رده وهي الآفة الثانية، فكل من رأى أنه خير من أخيه واحتقر أخاه وازدراه ونظر إليه بعين الاستصغار، أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر فيما بينه وبين الخلق، ومن أنف من أن يخضع لله تعالى ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله فقد تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله.

[align=center]بيان ما به التكبر[/align]

اعلم أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه، ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من صفات الكمال. وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي، فالديني هو العلم واعمل، والدنيوي هو النسب والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار. فهذه سبعة أسباب.
الأول: العلم؛ وما أسرع الكبر إلى العلماء! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "آفة العلم الخيلاء فلا يلبث العالم أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام، فإن بدأه واحد منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويداً عليه يلزمه شكرها، واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله، وأنه ينبغي أن يرقوا له ويخدموه شكراً له على صنيعه، بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه، فإن قصر فيه استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه، وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروف لديهم واستحقاق حق عليهم، هذا فيما يتعلق بالدنيا. أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم، فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم، وهذا بأن يسمى جاهلاً أولى من أن يسمى عالماً، بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه - كما سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم - وهذا العلم يزيد خوفاً وتواضعاً وتخشعاً، ويقتضي أن يرى كل الناس خيراً منه لعظم حجة الله عليه بالعلم، وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم. ولهذا قال أبو الدرداء: من ازداد علماً ازداد وجعاً وهو كما قال.
فإن قلت: فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبراً وأمناً؟ فاعلم أن لذلك سببين: "أحدهما" أن يكون اشتغاله بما يسمى علماً وليس علماً حقيقياً، وإنما العلم الحقيقي ما يعرف به العبد ربه ونفسه، وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه، وهذا يورث الخشية والتواضع دون الكبر والأمن. قال الله تعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فأما ما وراء ذلك كعلم الطب والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات، فإذا تجرد الإنسان لها حتى امتلأ بها كبراً ونفاقاً، وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوماً، بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة، وهذه تورث التواضع غالباً.
السبب الثاني أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيئ الأخلاق، فإنه لم يشتغل أولاً بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة ربه فيبقى خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم - أي علم كان - صادف العلم من قلبه منزلاً خبيثاً فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره. وقد ضرب وهب لهذا مثلاً فقال: العلم كالغيث ينزل من السماء حلواً صافياً فتشربه الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة، فكذلك العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها، فيزيد المتكبر كبراً والمتواضع تواضعاً، وهذا لأن من كان همته الكبر وهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به فازداد كبراً، وإذا كان الرجل خائفاً مع جهله فازداد علماً علم أن الحجة قد تأكدت عليه فيزداد خوفاً وإشفاقاً وذلاً وتواضعاً، فالعلم من أعظم ما يتكبر به، ولذلك قال تعالى لنبيه عليه السلام "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين" وقال عز وجل "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" ووصف أولياءه فقال "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين" وكذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه العباس رضي الله عنه "يكون قوم يقرؤون القرآن لا يجاور حناجرهم يقولون: قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منها ومن أعلم منها" ثم التفت إلى أصحابه وقال "أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم وقود النار ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا تكونوا جبابرة العلماء فلا يفي علمكم بجهلكم. ولذلك استأذن تميم الداري عمر رضي الله عنه في القصص فأبى أن يأذن له وقال: إنه الذبح، واستأذنه رجل كان إمام قوم أنه إذا سلم من صلاته ذكرهم فقال: إني أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا. وصلى حذيفة بقوم فلما سلم من صلاته قال: لتلتمسن إماماً غيري أو لتصلن وحداناً فإني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني. فإذا كان مثل حذيفة لا يسلم فكيف يسلم الضعفاء من متأخري هذه الأمة؟ فما أعز على بسيط الأرض عالماً يستحق أن يقال له عالم ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه، فإن وجد ذلك فهو صديق زمانه، فلا ينبغي أن يفارق بل يكون النظر عليه عبادة فضلاً عن الاستفادة من أنفاسه وأحواله؛ لو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن تشملنا بركته وتسري إلينا سيرته وسجيته، وهيهات! فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم؟ فهم أرباب الإقبال وأصحاب الدول قد انقرضوا في القرن الأول ومن يليهم، بل يعز في زماننا عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة، فذلك أيضاً إما معدوم وإما عزيز. ولولا بشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله "سيأتي على الناس زمان من تمسك فيه بعشر ما أنتم عليه نجا لكان جديراً بنا أن نقتحم والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه من سوء أعمالنا، ومن لنا أيضاً بالتمسك بعشر ما كانوا عليه، وليتنا تمسكنا بعشر عشره. فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه كرمه وفضله.
الثاني: العمل والعبادة، وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا.
أما في الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم، ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ - إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء - وكأنهم يرون عبادتهم منة على الحق.
وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجياً وهو الهالك تحقيقاً - مهما رأى ذلك - قال صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق بالله مغتر بالله آمن من مكره غير خائف على سطوته، وكيف لا يخاف؟ ويكفيه شراً احتقاره لغيره. قال صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء شراً أن يحقر أخاه المسلم وكم من الفرق بينه وبين من يحبه الله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجوا له ما لا يرجوه لنفسه، فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله، فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم، كأنه مترفع عن مجالستهم، فما أجدرهم إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل! وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن ينقله الله إلى حد الإهمال! كما روي أن رجلاً في بني إسرائيل كان يقال له: خليع بني إسرائيل -لكثرة فساده- مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل، وكان على رأس العابد غمامة تظله فلما مر الخليع به فقالالخليع في نفسه: أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد بني إسرائيل، فلو جلست إليه لعل الله يرحمه! فجلس إليه فقال العابد: أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع بني إسرائيل فكيف يجلس إلي؟ فأنف منه وقال له: قم عني! فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد. وفي رواية أخرى: فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع.
وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم، فالجاهل العاصي إذا تواضع هيبة لله وذل خوفاً منه فقد أطاع الله بقلبه، فهو أطوع لله من العالم المتكبر والعابد المعجب. وكذلك روي أن رجلاً في بني إسرائيل أتى عابداً من بني إسرائيل فوطئ على رقبته وهو ساجد فقال: ارفع فوالله لا يغفر الله لك فأوحى الله إليه أيها المتألي بل أنت لا يغفر الله لك وكذلك قال الحسن: وحتى أن صاحب الصوف أشد كبراً من صاحب المطرز الخز، أي أن صاحب الخز يذل لصاحب الصوف ويرى الفضل وصاحب الصوف يرى الفضل لنفسه وهذه الآفة أيضاً قلما ينفك عنها كثير من العباد، وهو أنه لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له، ولا يشك في أنه صار ممقوتاً عند الله، ولو آذى مسلماً آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وذلك لعظم قدر نفسه عنده، وهو جهل وجمع بين الكبر والعجب واغترار بالله وقد ينتهي الحمق والغباوة ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول: سترون ما يجري عليه؟ وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من كراماته وأن الله ما أراد به إلا شفاء غليله والانتقام له منه، مع أنه يرى طبقات من الكفار يسبون الله ورسوله، وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من قتلهم ومنهم من ضربهم، ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا، بل ربما أسلم بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة، ثم الجاهل المغرور يظن أنه أكرم على الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه به. ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين.
وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله عطاء السلمي حين كان تهب ريح أو تقع عاصفة: ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لتخصلوا. وما قاله الآخر بعد انصرافه من عرفات: كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم فانظر إلى الفرق بين الرجلين هذا يتقي الله ظاهراً وباطناً؛ وهو رجل على نفسه مزدر لعمله وسعيه، وذاك ربما يضمر من الرياء والكبر والحسد والغل ما هو ضحكة للشيطان به، ثم إنه يمتن على الله بعمله. ومن اعتقد جزماً أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جمع عمله، فإن الجهل أفحش المعاصي وأعظم شيء يبعد العبد عن الله، وحكمه لنفسه بأنه خير من غيره جهل محض وأمن من مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ولذلك روي أن رجلاً ذكر بخير للنبي صلى الله عليه وسلم فأقبل ذات يوم فقالوا: يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك، فقال "إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان، فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك" قال: اللهم نعم فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه. وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله.
لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات: الدرجة الأولى أن يكون الكبر مستقراً في قلبه يرى نفسه خيراً منن غيره، إلا أنه يجتهد ويتواضع ويفعل فعل من يرى غيره خيراً من نفسه، وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها بالكلية.
الثانية أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار الإنكار على من يقصر في حقه، وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم، وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم وليم يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الوجه حتى يعبس ولا في الخد حتى يصعر ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا في الذيل حتى يضم؛ إنما الورع في القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التقوى ههنا" وأشار إلى صدره فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقاً وأكثرهم بشراً وتبسماً وانبساطاً ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعجبني من القراء كل طليق مضحاك، فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه، فلا أكثر الله في المسلمين مثله. ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى لك ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين" وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم أخف حالاً ممن هو في الرتبة الثالثة وهو الذي يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة والمباهاة وتزكية النفس وحكايات الأحوال والمقامات والتشمر لغلبة الغير في العلم والعمل.
أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد. من هو وما عمله ومن أين زهده؟ فيطول اللسان فيهم بالتنقص، ثم يثني على نفسه ويقول: إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل، وأختم القرآن في كل يوم، وفلان ينام سحراً ولا يكثر القراءة، وما يجري مجراه، وقد يزكي نفسه ضمناً فيقول: قصدني فلان بسوء فهلك ولده وأخذ ماله أو مرض، أو ما يجره مجراه، يدعي الكرامة لنفسه. وأما مباهاته: فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي، وإن كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم، وكذلك يشتد في العبادة خوفاً من أن يقال غيره أعبد منه أو أقوى منه في دين الله.
وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول: أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ورأيت من الشيوخ فلاناً وفلاناً، ومن أنت وما فضلك ومن لقيت؟ وما الذي سمعت من الحديث؟ كل ذلك ليصغره ويعظم نفسه. وأما مباهاته: فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ، وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم، ويحفظ الأحاديث ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه، ويفرح مهما أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه.
فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل، وأين من يخلو عن جميع ذلك أو عن بعضه؟ فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه من أهل النار؟ وإنما العظيم من خلا عن هذا، ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظم وتكبر، والعالم هو الذي فهم أن الله تعالى قال له: إن لك عندنا قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لها قدراً فلا قدر لك عندنا. ومن لم يعلم هذا من الدين فاسم العالم علي كذب، ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدراً. فهذا هو التكبر بالعلم والعمل.
الثالث: التكبر بالحسب والنسب، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً، وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من مخالطتهم ومجالستهم، وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره: يا نبطي ويا هندي ويا أرمني من أنت ومن أبوك؟ فأنا فلان ابن فلان، وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي؟ ومع مثلي تتكلم؟ وما يجري مجراه. وذلك عرق دفين في النفس لا ينفك عنه نسيب وإن كان صالحاً وعاقلاً، إلا أنه قد لا يترشح منه ذلك عند اعتدال الأحوال، فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه كما روي عن أبي ذر أنه قال: قاولت رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر طف الصاع طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل فقال أبو ذر رحمه الله: فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي. فانظر كيف نبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى لنفسه فضلاً بكونه ابن بيضاء وأن ذلك خطأ وجهل؟ وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر بأخمص قدم من تكبر عليه إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل؟ ومن ذلك ما روي أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما للآخر: أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان بن فلان حتى عد تسعة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بل التسعة من أهل النار وأنت عاشرهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحماً في جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تذرف بآنافها القذر .
الرابع: التفاخر بالجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قد اغتبتها وهذا منشؤه خفاء الكبر لأنها لو كانت أيضاً قصيرة لما ذكرتها بالقصر، فكأنها أعجبت بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت.
الخامس الكبر بالمال؛ وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم، فيستحقر الغني الفقير ويتكبر عليه ويقول له: أنت مد ومسكين وأنا لو أرد لاشتريت مثلك واستخدمت من هو فوقك، ومن أنت؟ وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك؟ وأنا أنفق في اليوم ما لا تأكله في سنة؟ وكل ذلك لاستعظامه للغنى واستحقاره للفقر، وكل ذلك جهل منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى، وإليه الإشارة بقوله تعالى "فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً" حتى أجابه فقال "إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً أو يصبحماؤها غوراً فلن تستطيع له طلباً" وكان ذلك منه تكبراً بالمال والولد، ثم بين الله عاقبة أمره بقوله "يا ليتني لم أشرك بربي أحداً" ومن ذلك تكبر قارون إذ قال تعالى إخباراً عن تكبره "فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم" السادس: الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف.
السابع: التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين، ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود، وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين.
وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن في نفسه كمالاً أمكن أن يتكبر به، حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفته وقدرته في صنعة المخنثين، لأنه يرى ذلك كمالاً فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالاً، وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أن ذلك كمالاً وإن كان مخطئاً فيه. فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض، فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا يدلي به، أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده. وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى، كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه. نسأل الله العون بلطفه ورحمته إنه على كل شيء قدير


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أغسطس 30, 2006 8:41 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له[/align]

اعلم أن الكبر خلق باطن، وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهي ثمرة ونتيجة، وينبغي أن تسمى تكبراً.
ويخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير، وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر - كما سيأتي معناه - فإنه إذا أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من أسبابه استعظم وتكبر.
وأما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة: سبب في المتكبر وسبب في المتكبر عليه وسبب فيما يتعلق بغيرهما.
أما السبب الذي في المتكبر فهو: العجب، والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد، والحسد. والذي يتعلق بغيرهما هو الرياء، فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة: العجب، والحقد، والحسد، والرياء أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر الباطن والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال والأقوال والأحوال. وأما الحقد فإنه يحمل على التكبر من غير عجب كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو فوقه، ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقداً ورسخ في قلبه بغضه، فهو لذلك لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقاً للتواضع، فكم من رذل لا تطاوعه نفسه على التواضع لواحد من الأكابر لحقده عليه أو بعضه له؟ ويحمله ذلك على رد الحق إذا جاء من جهته وعلى الأنفة من قبول نصحه وعلى أن يجتهد في التقدم عليه، وإن علم أنه لا يستحق ذلك، وعلى أن لا يستحله وإن ظلمه، فلا يعتذر إليه وإن جنى عليه، ولا يسأله عما هو جاهل به.
"وأما الحسد" فإنه أيضاً يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي الغضب والحقد، ويدعو الحسد أيضاً إلى جحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم، فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد من أهل بلده أو أقاربه حسداً وبغياً عليه؟ فهو يعرض عنه ويتكبر عليه مع معرفته بأنه يستحق التواضع بفضل علمه، ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين، وإن كان في باطنه ليس يرى نفسه فوقه.
وأما الرياء" فهو أيضاً يدعو إلى أخلاق المتكبرين، حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه أفضل منه وليس بينه وبينه معرفة ولا محاسدة ولا حقد، ولكن يمتنع من قبول لحق منه ولا يتواضع له في الاستفادة خيفة من أن يقول الناس إنه أفض منه، فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد، ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبر عليه.
وأما الذي يتكبر بالعجب أو الحسد أو الحقد فإنه يتكبر أيضاً عند الخلوة به مهما لم يكن معهما ثالث، وكذلك قد ينتمي إلى نسب شريف كاذباً وهو يعلم أنه كاذب ثم يتكبر به على من ليس ينتسب إلى ذلك النسب ويترفع عليه في المجالس ويتقدم عليه في الطريق ولا يرضى بمساواته في الكرامة والتوقير وهو عالم باطناً بأنه لا يستحق ذلك، ولا كبر في باطنه لمعرفته بأنه كاذب في دعوى النسب، ولكن يحمله الرياء على أفعال المتكبرين، وكأن اسم المتكبر إنما يطلق في الأكثر على من يفعل هذه الأفعال عن كبر في الباطن صادر عن العجب والنظر إلى الغير بعين الاحتقار، وهو إن سمي متكبراً فلأجل التشبه بأفعال الكبر. نسأل الله حسن التوفيق والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان أخلاق المتواضعين
ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر
[/align]


اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل، كصعر في وجهه ونظره شزراً وإطراقه رأسه وجلوسه متربعاً أو متكئاً وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد، ويظهر في مشيته وبتختره وقيامه وجلوسه وجركاته وسكناته، وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله. فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض.
فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه. وقد قال علي كرم الله وجهه: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل قاعد وبين يديه قوم قيام. وقال أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك .
ومنها لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه. قال أبو الدرداء: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مشى خلفه وكان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من عبيده، إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة. ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال: ما يبقى هذا من قلب العبد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات يمشي مع بعض الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في غمارهم إما لتعليم غيره أو لينفي عن نفسه وساوس الشيطان بالكبر والعجب كما أخرج الثوب الجديد في الصلاة وأبدله بالخليع لأحد هذين المعنيين .
ومنها لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع. روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم: أن تعال فحدثنا، فجاء سفيان فقال له: يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا؟ فقال أردت أن أنظر كيف تواضعه؟ ومنها أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه. قال ابن وهب: جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي: لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلاً منك شراً مني؟ وقال أنس: كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به حيث تشاء .
ومنها أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشي عنهم وهو والكبر: دخل رجل -وعليه جدري قد تقشر - على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ناس من أصحابه يأكلون، فما جلس إلى حد إلا قام من جنبه، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوماً ولا أبرص ولا مبتلي إلا أقعدهم على مائدته.
ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلاً في بيته، والتواضع خلافه: روي أن عمر بن عبد العزيز أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أفأنبه الغلام؟ فقال: هي أول نومة نامها، فقام وأخذ البطة وملأ المصباح زيتاً فقال الضيف: قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ فقال: ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء! وخير الناس من كان عند الله متواضعاً.
ومنها أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته، وهو خلاف عادة المتواضعين، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وقال علي كرم الله وجهه: لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير يحمل سطلاً له من خشب إلى الحمام. وقال ثابت بن أبي مالك: رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك! وعن الأصبغ بن نبانة قال: كأني أنظر إلى عمر رضي الله عنه معلقاً لحماً في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة، يدور في الأسواق حتى دخل رحله. وقال بعضهم: رأيت علياً رضي الله عنه قد اشترى لحماً بدرهم فحمله في ملحفته، فقلت له: أحمل عنك يا أمير المؤمنين فقال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.
ومنها اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "البذاذة من الإيمان فقال هرون: سألت معناً عن البذاذة فقال: هو الدون من اللباس. وقال زيد بن وهب: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة عليه إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم وعوتب علي كرم الله وجهه في إزار مرقوع فقال: يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب. وقال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء في القلب وقال طاوس: إني لأغسل ثوبي هذين فأنكر قلبي ما دام نقيين. ويروى أنه عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف دينار فيقول: ما أجودها لولا خشونة ما فيها: فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة دراهم فيقول ما أجوده لولا لينه! فقيل له: أين لباسك ومراكبك وعطرك يا أمير المؤمنين؟ فقال إن لي نفساً ذواقة وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي فوقها، حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله عز وجل. وقال سعيد بن سويد: صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست؟ فنكس رأسه ملياً ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وقال صلى الله عليه وسلم "من ترك زينة الله وضع ثياباً حسنة وتواضعاً لله وابتغاء لمرضاته كان حقاً على الله أن يدخر له عبقري الجنة .
فإن قلت: فقد قال عيسى عليه السلام: جودة الثياب خيلاء القلب. وقد سئل نبينا صلى الله عليه وسلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال "لا ولكن من سفه الحق وغمص الناس فكيف طريق الجمع بينهما؟ فاعلم أن الثوب الجديد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في حق كل أحد في كل حال، وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حال ثابت بن قيس إذ قال: إني امرؤ حبب إلي من الجمال ما ترى فعرف أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره، فإنه ليس من ضرورته أن يكون من الكبر، وقد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من التواضع. وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبال إذا انفرد بنفسه كيف كان. وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سنور داره، فذلك ليس من التكبر. فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال على أن قوله: خيلاء القلب؛ يعني قد تورث خيلاء في القلب، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم "إنه ليس من الكبر" يعني أن الكبر لا يوجبه، ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم هو مورثاً للكبر.
وبالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا والمحبوب الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة بالجودة ولا بالرداءة. وقد قال صلى الله عليه وسلم "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة . "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وقال بكر بن عبد الله المزني: البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية، وإنما خاطب بهذا قوماً يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح. وقد قال عيسى عليه السلام: ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري؟ البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية.
ومنها أن يتواضع بالاحتمال إذا سب وأوذي وأخذ حقه، فذلك هو الأصل. وقد أوردنا ما نقل عن السلف منها احتمال الأذى في كتاب الغضب والحسد. وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيه فينبغي أن يقتدى به ومنه ينبغي أن يتعلم. وقد قال أبو سلمة: قلت لأبي سعيد الخدري ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ فقال: يا ابن أخي كل لله واشرب لله والبس لله، وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف، وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، كان يعلف الناضح ويعقل البعير ويقم البيت ويحلب الشاة ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويطحن عنه إذا أعيا، ويشترى الشيء من السوق ولا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه، وينقلب إلى أهله يصافح الغني والفقير والكبير والصغير، ويسلم مبتدئاً على كل من استقبله من صغير أو كبير أسود أو أحمر أو عبد من أهل الصلاة، ليست له حلة لمدخله وحلة لمخرجه، لا يستحي من أن يجيب إذا دعى وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقر ما دعى إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل، لا يرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، هين المؤنة لين الخلق كريم الطبيعة جميل المعاشرة طليق الوجه بسام من غير ضحك محزون من غير عبوس شديد في غير عنف متواضع في غير مذلة جواد من غير سرف رحيم لكل ذي قرب ومسلم، رقيق القلب دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع ولا يمد يده من طمع، قال أبو سلمة فدخلت على عائشة رضي الله عنها فحدثتها بما قال أبو سعيد في زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أخطأ منه حرفاً ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمتلئ قط شبعاً ولم يبث إلى أحد شكوى، وإن كانت الفاقة لأحب إليه من اليسار والغنى، وإن كان ليظل جائعاً يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارق الأرض ومغاربها لفعل، وربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول: نفس لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع؟ فيقول "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم وقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فأصبر أياماً يسير أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي، قالت عائشة رضي الله عنها: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله عز وجل.
فما نقل من أحواله صلى الله عليه وسلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين، فمن طلب التواضع فليقتد به ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه وسلم ولم يرض لنفسه بما رضي هو به فما أشد جهله! فلقد كان أعظم خلق الله منصباً في الدنيا والدين فلا عز ولا رفعة إلا في الاقتداء به ولذلك قال عمر رضي الله عنه: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نطلب العز في غيره، لما عوتب في بذاذة هيئته عند دخوله الشام. وقال أبو الدرداء: اعلم أن لله عباداً يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد الأرض، فلما انقضت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر من غير تجبن وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم الله واستخصلهم لنفسه، وهم أربعون صديقاً أو ثلاثون رجلاً قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه، واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئاً ولا يؤذونه ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحداً ولا يحصرون على الدنيا، هم أطيب الناس خيراً وألينهم عريكة وأسخاهم نفساً، علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم السلامة، ليسوا اليوم في خشية وغداً في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر وهم فيما بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة، قلوبهم تصعد ارتياحاً إلى الله واشتياقاً إليه وقدماً في استباق الخيرات "أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون" قال الراوي: فقلت: يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد علي من تلك الصفة وكيف لي أن أبلغها؟ فقال: ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا، فإنك إذا أبغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة، وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر ذلك تبصر ما ينفعك، وإذا علم الله من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه بالعصمة، واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب الله تعالى المنزل "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" قال يحيى بن كثير: فنظرنا في ذلك فما تلذذ المتلذذون بمثل حب الله وطلب مرضاته. اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[align=center]بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع له[/align]

اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه، وإزالته فرض عين ولا يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له. وفي معالجته مقامان أحدهما استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب. الثاني دفع العارض منه بالأسباب التي بها يتكبر الإنسان على غيره.
المقام الأول في استئصال أصله، وعلاجه علمي وعملي، ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما:
أما العلمي: فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر، فإنه مهما عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل، وأنه لا يليق به إلا التواضع والذلة والمهانة، وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله، أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم المكاشفة، وأما معرفته نفسه فهو أيضاً يطول ولكن نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع والمذلة، ويكفيه أن يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله فإن القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت بصيرته وقد قال تعالى "قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره" فقد أشارت الآية إلى أول خلق الإنسان فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً وقد كان في حيز العدم دهوراً بل لم يكن لعدمه أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم؟ وقد كان كذلك في القدم، ثم خلقه الله من أرذل الأشياء، ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم جعله عظماً، ثم كسا العظم لحماً، فقد كان هذا بداية وجوده حيث كانت شيئاً مذكوراً، فما صار شيئاً مذكوراً إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت! إذ لم يخلق في ابتدائه كاملاً بل خلقه جماداً ميتاً لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم، فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل قدرته. فهذا معنى قوله "من أي شيء خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج" ومعنى قوله "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه" كذلك خلقه أولاً ثم أمنن عليه فقال "ثم السبيل يسره" وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة حياته إلى الموت. وكذلك قال "من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا" ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جماداً ميتاً تراباً أولاً ونطفة ثانياً، وأسمعه بعد ما كان أصم، وبصره بعدما كان فاقداً للبصر وقواه بعد الضعف، وعلمه بعد الجهل، وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها، وأغناه بعد الفقر، وأشبعه بعد الجوع، وكساه بعد العري، وهداه بعد الضلال. فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره وإلى جهل الإنسان كيف أظهره؟ فقال "أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم تنتشرون" فانظر إلى نعمة الله عليه كيف نقله من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجوداً بعد العدم وحياً بعد الموت وناطقاً بعد البكم وبصيراً بعد العمى وقوياً بعد الضعف وعالماً بعد الجهل ومهدياًبعد الضلال وقادراً بعد العجز وغنياً بعد الفقر؟ فكان في ذاته لا شيء وأي شيء أخس من لا شيء؟ وأي قلة أقل من العدم المحض؟ ثم صار بالله شيئاً. وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض أيضاً ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نفسه، وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم بها عظمته وجلاله وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا. ولذلك امتن عليه فقال "ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين" وعرف خسته أولاً فقال "ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة" ثم ذكر منته عليه فقال "فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى" ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولاً بالاختراع. فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء وهو على التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء؟ ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ بأنفه وتعظم، وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله. نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ والمنتهى، ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات المختلفة والطباع المتضادة، من المرة والبلغم والريح والدم يعدم البعض من أجزائه البعض، شاء أم أبى رضي أم سخط، فيجوع كرهاً ويعطش كرهاً ويمرض كرهاً ويموت كرهاً، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً، يريد أن يعلم الشيء فيجهله، ويريد أن يذكر الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه، ويريد أن يصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار، فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه نفسه، ويشتهى الشيء وربما يكون هلاكه فيه، ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه، يستلذ الأطعمة وتهلكه وترديه، ويستشبع الأدوية وهي تنفعه وتحييه، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله ويختطف روحه ويسلب جميع ما يهواه في دنياه، فهو مضطر ذليل إن ترك بقي وإن اختطف فني، عبد مملوك لا يقدر على شيء من نفسه ولا شيء من غيره، فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟ وأنى يليق الكبر به لولا جهله؟ فهذا أوسط أحواله فليتأمله.
وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقول تعالى "ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره" ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته، فيعود جماداً كما كان أول مرة، لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة، ثم يوضع في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة، ثم تبلى أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه وتنخر عظامه ويصير رميماً رفاتاً، ويأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما وبخديه فيقطعهما، وبسائر أجزائه فيصير روثاً في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه الحيوان ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان فيصير تراباً يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان، فيصير مفقوداً بعدما كان موجوداً. وصار كأن لم يغن بالأمس حصيداً كما كان في أول أمره أمداً مديداً، وليته بقي كذلك فما أحسنه لو ترك تراباً. لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء مشققة ممزقة وأرض مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد وجهنم تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر، ويرى صحائف منشورة فيقال له اقرأ كتابك فيقول وما هو: فيقال: كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها وتفتخر بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك ما كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود، قد نسيت ذلك وأحصاه الله عليك فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو تساق إلى دار العذاب، فينقطع قلبه فزعاً من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من مخازيه، فإذا شاهده قال "يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" فهذا آخر أمره وهو معنى قوله تعالى "ثم إذا شاء أنشره" فما لمن هذا حاله والتكبر والتعظم؟ بل ما له وللفرح في لحظة واحدة فضلاً عن البطر والأشر؟ فقد ظهره له أول حاله ووسطه ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يكون كلباً أو خنزيراً ليصير مع البهائم تراباً ولا يكون إنساناً يسمع خطاباً أو يلقى عذاباً، وإن كان عند الله مستحقاً للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب وهو بمعزل عن الحساب والعذاب، والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق.
ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته، ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا لصارت أنتن من الجيفة، فمن هذا حاله في العاقبة - إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من العفو - كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئاً حتى يعتقد له فضلاً؟ وأي عبد لم يذنب ذنباً استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر بمنه، والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله. أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا؟ كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن؟ وما من عبد مذنب إلا والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره؟ فيكفيه ذلك حزناً وخوفاً وإشفاقاً ومهانة وذلاً. فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر.
وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين، كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه "كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وقيل لسلمان لم لا تلبس ثوباً جديداً؟ فقال: إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوماً لبست جديداً أشار به إلى العتق في الآخرة. ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل، ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعاً، وقيل الصلاة عماد الدين، وفي الصلاة أسرار لأجلها كانت عماداً، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود، وقد كانت العرب قديماً يأنفون من الانحناء، فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه، وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه، حتى قال حكيم بن حزام: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائماً فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم، وبه أمر سائر الخلق، فإن الركوع والسجود والمثول قائماً هو العمل الذي يقتضيه التواضع، فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقاً، فإن القلوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعاً، وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب والجوارح وسر الارتباط الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة، وقد ذكرنا في كتاب ذم الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل، فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر، ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في جميع الأسباب السبعة.
الأول: النسب فمن يعتريه الكبر من جهة النسب ليداو قلبه بمعرفة أمرين. "أحدهما" أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره، ولذلك قيل:

[poet font="Andalus,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="double,4,firebrick" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لئن فخرت بآباء ذوي شـرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
[/poet]

فالمتكبر بالنسب إن كان خسيساً في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره؟ بل لو كان الذي ينسب إليه حياً لكان له أن يقول: الفضل لي: ومن أنت وإنما أنت دودة خلقت من بولي؟ أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس؟ هيهات! بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة. الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي، فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال "الذين أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين" فمن أصله التراب المهين الذي يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأ مسنوناً كيف يتكبر؟ وأخس الأشياء ما إليه انتسابه إذ يقال يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة.
فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول: افتخر بالقريب دون البعيد، فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك، ثم إن كان ذلك يوجب رفعة لقربة فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته؟ وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت الرفعة لولده؟ فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل. وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان. فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات، وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له شك في صدقهم، أفترى أن ذلك يبقي شيئاً من كبره؟ لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره. فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب. إذ لو كان أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم، فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه؟ السبب الثاني: التكبر بالجمال، ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى باطنه نظر البهائم. ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به الأقذار في جميع أجزائه: الرجيع في أمعائه والبول في مثانته والمخاط في أنفه والبزاق في فيه والوسخ في أذنيه والدم في عروقه والصديد تحت بشرته والصنان تحت إبطه، يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين، ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلاً عن أن يمسه أو يشمه، كل ذلك ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه.
وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور، من النطفة ودم الحيض، وأخرج من مجرى الأقذار. إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى القذر قال أنس رحمه الله: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا أنفسنا ويقول: خرج أحدكم من مجرى البول مرتين. وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز: ما هذه مشية من في بطنه خراء؟ إذ رآه يتبختر، وكان ذلك قيل خلافته وهذا أوله ووسطه.
ولو ترك نفسه في حياته يوماً لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان والأقذار، وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط. فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار، وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي، فبينما هو كذلك إذ صار هشيماً تذروه الرياح، كيف ولو كان جمالة باقياً وعن هذه القبائح خالياً لكان يجب أن لا يتكبر به على القبيح، إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ولا كان جمال الجميل إليه حتى يحمد عليه؟ كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري أو قرحة أو سبب من الأسباب؟ فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب؟ فمعرفة هذه الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها.
السبب الثالث: التكبر بالقوة والأيدي، ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط عليه من العلل والأمراض، وأنه لو توجع عرق واحد فيه يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل، وأنه لو سلبه الذباب شيئاً لم يستنفذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه لقتلته، وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته، وأن حمى يوم تحلل من قوته ما لا ينجبر في مدة. فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن يفتخر بقوته! ثم إن قوي الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل وأي افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم؟
السبب الرابع والخامس: الغنى وكثرة المال، وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر بولاية السلاطين والتمكن من جهتهم، وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان كالجمال والقوة والعلم. وهذا أقبح أنواع الكبر، فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره ولو مات فرسه وانهدمت داره لعاد ذليلاً، والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى أمره على قلب هو أشد غلياناً من القدر، فإن تغير عليه كان أذل الخلق، وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته فهو ظاهر الجهل، كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد عليه في الغنى والثروة والتجمل؟ فأف لشرف يسبقك به اليهودي! وأف لشرف يأخذه السارق في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلاً مفلساً؟ فهذه أسباب ليست في ذاته، وما هو في ذاته ليس إليه دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال، فالتفاخر به غاية الجهل، وكل ما ليس إليك فليس لك، وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه زال عنك، وما أنت إلا عبد مملوك لا تقدر على شيء. ومن عرف ذلك لا بد وأن يزول كبره.
ومثاله: أن يفتخر الغافل بقوته وجماله وماله وحريته واستقلاله وسعة منازله وكثرة خيوله وغلمانه، إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأن أبويه كانا مملوكين له، فعلم ذلك وحكم به الحاكم، فجاء مالكه فأخذه، وأخذ جميع ما في يده، وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف أنه له مالكاً، ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوساً في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها، وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله ولا يعرف طريقاً في الخلاص البتة، أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوته وكماله أم يذل نفسه ويخضع؟ وهذا حال كل عاقل يصير فإنه يرى نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله، وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك. فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة. فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل، فإنهما كمالان في النفس جديراً بأن يفرح بهما، ولكن التكبر بهما أيضاً نوع من الجهل خفي كما سنذكره
السبب السادس: الكبر بالعلم، وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة وجهد جهيد، وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عند الناس، وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما، بل لا قدر لهما أصلاً إلا إذا كان معهما علم وعمل. ولذلك قال كعب الأحبار: إن للعلم طغياناً كطغيان المال. وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم. ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين: أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما يحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش، إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل النار فيقولون ما لك؟ فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز وجل "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" أراد به علماء اليهود. وقال في بلعم بن باعوراء "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" حتى بلغ "فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" قال ابن عباس رضي الله عنهما: أوتي بعلم كتاباً فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه؟ فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره، فهذا بذاك. وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيراً، فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال؟ والعياذ بالله منه. فهذا الخطر يمنع من التكبر، فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه، فكيف يتكبر من هذا حاله؟ فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمي! ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول: يا ليتني كنت هذه التبنة! ويقول الآخر: ليتني كنت طيراً أوكل! ويقول الآخر: ليتني لم أك شيئاً مذكوراً! كل ذلك خوفاً من خطر العاقبة، فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالاً من الطير ومن التراب. ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره، ورأى نفسه كأنه شر الخلق.
ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها، فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا؟ فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه رسولاً لا يخرجه من كل ما هو فيه عرياناً ذليلاً ويلقيه على بابه في الحر والشمس زماناً طويلاً، حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه وفتش عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة، وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي الفريقين يكون؟ فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه ولم يتكبر على أحد من الخلق، بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب، فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره، وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة.
الأمر الثاني أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز وجل وحده،، وأنه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً، وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له إن لك عندي قدراً ما لم تر لنفسك قدراً فإن رأيت لنفسك قدراً فلا قدر لك عندي، فلا بد وأن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه. وهذا يزيل التكبر عن قلبه وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلاً أو تصور ذلك. وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن من نازع الله تعالى رداء الكبرياء قصمه، وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم، فهذا أيضاً مما يبعثه على التواضع لا محالة.
فإن قلت: فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق والمبتدع، وكيف يرى نفسه دونهم وهو عالم عابد، وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى، وكيف يغنيه أن يخطر بباله خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفسق والمبتدع أكثر؟ فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر في خطر الخاتمة، بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن بتكبر عليه، إذ يتصور أن يسلم الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر، والكبير من هو كبير عند الله في الآخرة، والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا يدري ذلك، فكم من مسلم نظر إلى عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين؟ إلا أبا بكر وحده والعواقب مطوية عن العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة، وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة. فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد. إن نظر إلى جاهل قال:هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني. وإن نظر إلى عالم قال: هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى كبير هو أكبر منه سناً قال: هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى صغير قال: إني عصيت الله قبله فكيف أكون مثله؟ وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال: ما يدريني لعله يختم له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن، فليس دوام الهداية إلي، كما لم يكن ابتداؤها إلي؟ فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه، وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال في سعادة الآخرة والقرب من الله، لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له، ولعمري هذا الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه! ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة إلى نفسه مشغول القلب بخوفه لعاقبته، لا أن يشتغل بخوف غيره، فإن الشفيق بسوء الظن مولع، وشفقه كل إنسان على نفسه. فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض وإن عمهم الخطر، إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره، حتى كأن كل واحد هو وحده في مصيبته وخطره.
فإن قلت: فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق وقد أمرت ببغضهما، ثم مع ذلك أتواضع لهما والجمع بينهما متناقص فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس علىأكثر الخلق إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكبر النفس والإدلال بالعلم والورع، فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقاً جلس بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عند بكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه قد غضب لله؛ كما وقع لعابد بني إسرائيل مع خليعهم؟ وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن، والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير فإن الغضبان أيضاً يتكبر على من غضب عليه والمتكبر يغضب، وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه، وهما ممتزجان ملتبسان لا يميز بينهما إلا الموفقون.
والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور: أحدها التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك. "والثاني" أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك، فله المنة فيه لا لك، فترى ذلك منه حتى لا تعجب بنفسك، وإذا لم تعجب لم تتكبر. "والثالث" ملاحظة إبهام عاقبتك، وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى، حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه
فإن قلت: فكيف أغضب مع هذه الأحوال؟ فأقول: تغضب لمولاك وسيدك، إذ أمرك أن تغضب له لا لنفسك، وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجياً وصاحبك هالكاً، بل يكون خوفك على نفسك بما علم الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة، وأعرفك ذلك بمثال تعلم أنه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول: إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه، وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه، وأمره أن يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به، ويغضب عليه. فإن كان الغلام محباً مطيعاً لمولاه فلا يجد بداً أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء الأدب، وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به، ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه، ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه، فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه، بل هو متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه، لأن الولد أعز لا محالة من الغلام. فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع؛ فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم، لما سبق لهما من الحسنى في الأزل، ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في الآخرة. فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع. وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة، وذلك غاية الغرور. فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم الأمر.
السبب السابع: التكبر بالورع والعبادة، وذلك أيضاً فتنة عظيمة على العباد، وسبيله أن يلزم قلبه التواضع لسائر العباد وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن يتكبر عليه كيفما كان "لما عرفه من فضيلة العلم، وقد قال تعالى "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقال صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم.
فإن قال العابد: ذلك العالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر، فيقال له: أما عرفت أن الحسنات يذهبن السيئات، وكما أن العلم يكف أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون وسيلة له وكفارة لذنوبه، وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك، وإذا كان هذا الأمر غائباً عنه لم يجز له أن يحتقر عالماً بل يجب عليه التواضع له.
فإن قلت: فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله عليه السلام "فضل العالم على العابد كفضلي على أدني رجل من أصحابي"؟ فاعلم أن ذلك كان ممكناً لو علم العالم عاقبة أمره، وخاتمة الأمر مشكوك فيها، فيحتمل أن يموت بحيث يكون حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هيناً وهو عند الله عظيم وقد مقته به، وإذا كان هذا ممكناً كان على نفسه خائفاً، فإذا كان كل واحد من العابد والعالم خائفاً على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره، فينبغي أن يكون الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء، وذلك يمنعه من التكبر بكل حال. فهذا العابد مع العالم، فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى مكشوفين، فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوباً وأكثر منه عبادة وأشد منه حباً لله. وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك. فلا ينبغي أن تتكبرعليه، ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنباً، لأن عدد ذنوبك في طول عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن تعلم أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن تتكبر عليه إذ ذنوب القلب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله، فربما جرى عليك في باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتاً، وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من طاعات القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه، وقد كفر الله بذلك عن سيئاته، فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات، فهذا ممكن والإمكان البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريباً عندك إن كنت مشفقاً على نفسك، فلا تتفكر فيما هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وعذاب غيرك لا يخفف شيئاً من عذابك، فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن ترى نفسك فوق غيرك.
وقد قال وهب بن منبه: ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال، فعد تسعة حتى بلغ العاشرة فقال: العاشرة! وما العاشرة! بها شاد مجده وبهما علا ذكره؛ أن يرى الناس كلهم خيراً منه. وإنما الناس عنده فرقتان: فرقة هي أفضل من هوأرفع، وفرقة هي شر منه وأدنى. فهو يتواضع للفرقتين جميعاً بقلبه، إن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به، وإن رأى من هو شر منه قال: لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفاً من العاقبة ويقوم لعل بر هذا باطن فذلك خير له، ولا أدري لعل فيه خلقاً كريماً بينه وبين الله فيرحمه الله ويتوب عليه ويختم له بأحسن الأعمال، وبري ظاهر فذلك شر لي. فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها، ثم قال: فحينئذ كمل عقله وساد أهل زمانه. فهذا كلامه. وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقياً وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فما له سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال.
نعم إن غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيراً من نفسه وذلك هو الفضيلة، كما روي أن عابداً أوى إلى جبل فقيل له في النوم: ائت فلاناً الإسكاف فسله أن يدعو لك. فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار، ويكتسب فيتصدق ويطعم عياله ببعضه، فرجع وهو يقول: إن هذا لحسن، ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة الله فأتى في النوم ثانياً فقيل له: ائت فلاناً الإسكاف فقل له: ما هذا الصفار الذي بوجهك؟ فأتاه فسأله فقال له: ما رأيت أحداً من الناس إلى وقع لي: أنه سينجو وأهلك أنا، فقال العابد: بهذه والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قوله تعالى "يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون" وقال تعالى "إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين" وقد وصف الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات على الدءوب بالإشفاق فقال تعالى مخبراً عنهم "يسحبون الليل والنهار لا يفترون وهم من خشيته مشفقون" فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل - وينكشف عند خاتمة الأجل - غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك. فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك. والتواضع دليل الخوف وهو مسعد؛ فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال. فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير، إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة، فإذا وقعت عادت إلى طبعها ونسيت وعدها، فعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس.
وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانات هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت الامتحانات كثيرة.
الامتحان الأول: أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحق، فذلك يدل على أن فيه كبراً دفيناً فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه. أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله تعالى. وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسان بالحمد والثناء، ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول: ما أحسن ما فطنت له وقد كنت غافلاً عنه فجزاك الله خيراً كما نبهتني له! فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها ينبغي أن يشكر من دله عليها. فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعاً، وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له قبوله ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر فإن كان ذلك لا يثقل عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء، فليعالج الرياء بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس، ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند الله لا عند الخلق، إلى غير ذلك من أدوية الرياء. وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعاً ففيه الكبر والرياء جميعاً، ولا ينفعه الخلاص من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني. فليعالج كلا الداءين فإنهما جميعاً مهلكان.
الامتحان الثاني: أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس فيه الصدور تحتهم، فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر، فليواظب عليه تكلفاً حتى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضعاً وهو عين الكبر، فإن ذلك يخف على صدور المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل، فيكون قد تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضاً، بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بينهم بجنبهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال، فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن.
الامتحان الثالث: أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب، فإن شق ذلك عليه فهو كبر، فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل، فنفور النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن، فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر.
الامتحان الرابع: أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت، فإن أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء، فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلق الطريق فهو كبر، وإن كان لا يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء، وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له إن لم تتدارك، وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب عليها الموت لا محالة، والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى "إلا من أتى الله بقلب سليم" ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك! قال: أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك؟ فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة؟ وفي الخبر "من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر .
الامتحان الخامس: أن يلبس ثياباً بذلة، فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلوة كبر. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل، وقد قال صلى الله عليه وسلم "من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر وقال عليه الصلاة والسلام "إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق أصابعي وأجيب دعوة المملوك، فمن رغب عن سنتي فليس مني . وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له إن أقواماً يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم، فلبس عباءة فصلى فيها بالناس. وهذه مواضيع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء، وما يكون في الخلوة فهو الكبر؛ فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه، ومن لا يدرك المرض لا يداويه.

[align=center]بيان غاية الرياضة في خلق التواضع[/align]

اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة: فطرفه الذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً، وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسساً ومذلة، والوسط يسمى تواضعاً. والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس، فإن كلا طرفي الأمور ذميم وأحب الأمور إلى الله تعالى أوساطها. فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع: أي وضع شيئاً من قدره الذي يستحقه. والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وعدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل، وهذا أيضاً غير محمود بل المحمود عند الله العدل؛ وهو أن يعطى كل ذي حق حقه، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من درجته، فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره. فإذا سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه الواضع المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه، فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق التواضع، وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع، بل الخلق ما يصدر عنه الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية، فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان فليرفع نفسه إذ ليس للمؤمن أن تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم، وذلك غامض في هذا الخلق وفي سائر الأخلاق. والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر، كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل، فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش، وكذلك نهاية التكبر ونهاية التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر. والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من بيان أخلاق الكبر والتواضع.



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس أغسطس 31, 2006 8:11 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الشطر الثاني
من الكتاب في العجب
وفيه بيان ذم العجب وآفاته،
وبيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما،
وبيان علاج العجب على الجملة،
وبيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه.

بيان ذم العجب وآفاته
[/align]


اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً" ذكر ذلك في معرض الإنكار وقال عز وجل "وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا" فرد على الكفار في أعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً -، وهذا أيضاً يرجع إلى العجب بالعمل. وقد يعجب الإنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه. وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال لأبي ثعلبة -حيث ذكر آخر هذه الأمة فقالت- إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك وقال ابن مسعود: الهلاك في اثنتين القنوط والعجب. وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر، والقانط لا يسعى ولا يطلب، والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى. فالموجود لا يطلب، والمحال لا يطلب، والسعادة موجودة فياعتقاد المعجب حاصلة لهومستحيلة في اعتقاد القانط، فمن ههنا جمع بينهما. وقد قال تعالى: "فلا تزكوا أنفسكم" قال ابن جريج: معناه إذا عملت خيراً فلا تقل عملت. وقال زيد بن أسلم. لا تبروها، أي لا تعتقدوا أنها بارة وهو معنى العجب. ووقى طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بنفسه فأكب عليه حتى أصيب كفه، فكأنه أعجبه فعله العظيم إذ فداه بروحه حتى جرح، فتفرس ذلك عمر فيه فقال: ما زال يعرف في طلحة نأو منذ أصيب إصبعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والنأو: هو العجب - في اللغة - إلا أنه لم ينقل فيه أنه أظهره واحتقر مسلماً ولما كان وقت الشورى قال له ابن عباس أين أنت من طلحة؟ قال: ذلك رجل فيه نخوة. فإذا كان لا يتخلص من العجب أمثالهم فكيف يتخلص الضعفاء إن لم يأخذوا حذرهم؟ وقال مطرف: لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إلي من أبيت قائماً وأصبح معجباً. وقال صلى الله عليه وسلم "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب فجعل العجب أكبر الذنوب. وكان بشر بن منصور من الذين إذا رأوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على العبادة، فأطال الصلاة يوماً ورجل خلفه ينظر ففطن له بشر، فلما انصرف عن الصلاة قال له: لا يعجبنك ما رأيت مني، فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة طويلة ثم صار إلى ما صار إليه. وقيل لعائشة رضي الله عنها: متى يكون الرجل مسيئاً: قالت؟ إذا ظن أنه محسن، وقد قال تعالى "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" والمن نتيجة استعظام الصدقة، واستعظام العمل هو العجب. فظهر بهذا أن العجب مذموم جداً.

[align=center]بيان آفة العجب[/align]

اعلم أن آفات العجب كثيرة، فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه - كما ذكرناه - فيتولد من العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى، هذا مع العباد وأما مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، فبعض ذنوبه لا يذكرها ولا يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها، وما يتذكره منها فيستصغره ولا يستعظمه فلا يجتهد في تداركه وتلافيه بل يظن أنه يغفر له. وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويتبجح بها ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها، ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها. ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعاً، فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع، وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون العجب، والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان وأن له عند الله منة وحقاً بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه، ويخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها، وإن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة ومن الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم منه، وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره، ولا يفرح بخواطر غيره فيصر عليه ولا يسمع نصح ولا وعظ واعظ، بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويصر على خطئه، فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيحقق فيه، وإن كان في أمر ديني لا سيما فيما يتعلق بأصول العقائد فيهلك به ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه واستضاء بنور القرآن واستعان بعلماء الدين وواظب على مدارسة العلم وتابع سؤال أهل البصيرة لكان ذلك يوصله إلى الحق. فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهلكات، ومن أعظم آفاته أن يفتر في السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه. نسأل الله تعالى العظيم حسن التوفيق لطاعته.

[align=center]بيان حقيقية العجب والإدلال وحدهما[/align]

اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة، وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل ومال وغيره حالتان إحداهما أن يكون خائفاً على زواله ومشفقاً على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بمعجب والأخرى أن لا يكون خائفاً من زواله لكن يكون فرحاً به من حيث إنه نعمة من الله تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه وهذا أيضاً ليس بمعجب "وله حالة ثالثة" هي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحاً به مطمئناً إليه، ويكون فرحه به من حيث إنه كمال ونعمة وخير ورفعة لا من حيث إنه عطية من الله تعالى ونعمة منه، فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث إنه منسوب إلى الله تعالى بأنه منه، فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها عنه زال العجب بذلك عن نفسه. فإذن العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم. فإن انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقاً وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله كرامة في الدنيا، واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعاداً يزيد على استبعاده ما يجري على الفساق سمي هذا إدلالاً بالعمل، فكأنه يرى لنفسه على الله دالة، وكذلك قد يعطى غيره شيئاً فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجباً، فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلاً عليه.
وقال قتادة في قوله تعالى "ولا تمنن تستكثر" أي لا تدل بعملك وفي الخبر "إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه، ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك والإدلال وراء العجب، فلا مدل إلى وهو معجب ورب معجب لا يدل، إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه، والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلاً بعمله، لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك. فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه، والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان علاج العجب على الجملة[/align]

اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده، وعلة العجب الجهل المحض، فعلاجه المعرفة المضادة لذلك الجهل فقط، فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم؛ فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه.
فنقول: الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه فهو محله ومجراه، أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته؛ فإن كان يعجب به من حيث إنه فيه وهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره فهذا جهل، لأن المحل مسخر ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل، فكيف يعجب بما ليس إليه؟ وإن كان يعجب به من حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل وبقدرته تم، فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له؟ فإن كان جميع ذلك نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ومن غير وسيلة يدلي بها فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله وكرمه وفضله، إذ أفاض عليه ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ونظر إليهم وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة فيه ولا لوسيلة ولا لجماله ولا لخدمة، فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين وما سببه؟ ولا ينبغي أن يعجب بنفسه. نعم يجوز أن يعجب العبد فيقول: الملك حكم عادل لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب، فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ولما آثرني بها، فيقال: وتلك الصفة أيضاً هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك، من غير وسيلة، أو هي عطية غيره؟ فإن كانت من عطية الملك أيضاً لم يكن لك أن تعجب بها، بل كان كما لو أعطاك فرساً فلم تعجب به. فأعطاك غلاماً فصرت تعجب به وتقول: إنما أعطاني غلاماً لأني صاحب فرس فأما غيري فلا فرس له، فيقال: وهوالذي أعطاك الفرس فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معاً أو يعطيك أحدهما بعد الآخر! فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك. وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة، وهذا يتصور في حق الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد بإيجاد الموصوف والصفة، فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت: وفقني للعبادة لحبي له، فيقال: ومن خلق الحب في قلبك؟ فتقول: هو، فيقال: فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك إذ لا وسيلة لك ولا علاقة، فيكون الإعجاب بجوده إذ أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك! فإذاً لا معنى لعجب العابد بعبادته وعجب العالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه! لأن كل ذلك من فضل الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده، والمحل أيضاً من فضله وجوده.
فإن قلت: لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثواباً، ولولا أنها عملي لما انتظرت ثواباً، فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن أين لي الثواب؟ وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها؟ فاعلم أن جوابك من وجهين أحدهما هو صريح الحق والآخر فيه مسامحة.
أما صريح الحق: فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه، فما عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فهذا هو الحق الذي انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين، بل خلقك وخلق أعضاءك وخلق فيها القوة والقدرة والصحة، وخلق لك العقل والعلم وخلق لك الإرادة، ولو أردت أن تنفي شيئاً من هذا عن نفسك لم تقدر عليه، ثم خلق الحركات في أعضائك مستبداً باختراعها من غير مشاركة من جهتك معه في الاختراع، إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة، ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علماً بالمراد، ولم يخلق علماً ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم، فتدريجه في الخلق شيئاً بعد شيء هو الذي خيل لك أنك أوجدت عملك وقد غلطت. وإيضاح ذلك وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر فإنه أليق به فارجع إليه ونحن الآن نزيل إشكالك بالجواب الثاني الذي فيه مسامحة ما، وهو أن تحسب أن العمل حصل بقدرتك فمن أين قدرتك؟ ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وسائر أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك! فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه وهذا المفتاح بيد الله، ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل، فالعبادات خزائن بها يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة. أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن، ولو جلست على بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها، ولو أعطاك المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط، فإذا أعطاك الخازن المفاتيح وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو بما إليك من مد اليد وأخذها؟ فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤنة في تحريك اليد بأخذ المال قريبة، وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح. فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك الموانع والصوارف، حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك، وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك، فمن العجائب أن تعجب بنفسك ولا تعجب بمن إليه الأمر كله، ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من عباده إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك، وسلط أخدان السوء ودعاة الشر عليهم وصرفهم عنهم، ومكنك من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك، وصرف عنهم بواعث الخير ودواعيه وسلطها عليك، حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر! فعل ذلك كله بك من غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي، بل آثرك وقدمك واصطفاك بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك! فإذن لا تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلاً إلى مخالفتها، فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلاً تحقيقاً فله الشكر والمنة لا لك - وسيأتي في كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل إلا الله ولا خالق سواه والعجب ممن يتعجب - وإذا رزقه الله عقلاً وأفقره - ممن أفاض عليه المال من غير علم فيقول: كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل وأفاض على هذا نعيم الدنيا وهو الغافل الجاهل؟ حتى يكاد يرى هذا ظلماً، ولا يدري المغرور أنه لو جمع له بين العقل والغنى وحرمتني منهما فهلا جمعتهما لي أو هلا رزقتني أحدهما؟ وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له: ما بال العقلاء فقراء؟ فقال: إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه. والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالاً من نفسه، ولو قيل له: هل تؤثر جهله وغناه عوضاً عن عقلك وفقرك لامتنع عنه! فإذن ذلك يدل على أن نعمة اللهعليه أكبر؛ فلم يتعجب من ذلك؟ والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على الدميمة القبيحة فتعجب وتقول: كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك القبح؟ ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال؟ فإذن نعمة الله عليها أكبر. وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه: يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال؟ كقول من أعطاه الملك فرساً فيقول: أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس؟ فيقول: كنت لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس! فهب أني ما أعطيتك فرساً أصارت نعمتي عليك وسيلة لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى؟ فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها، ومنشأ جميع ذلك الجهل، ويزال ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كل ذلك من عند الله تعالى نعمة ابتدأه بها قبل الاستحقاق، وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من زوال النعمة. ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعمله وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى ولذلك قال داود عليه السلام: يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم - وفي وراية ما تمر ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي أو يصوم وإما يذكرك - فأوحى الله تعالى إليه: يا داود ما أصاب من الذنب بعجبه بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلاً به حتى وكل إلى نفسه، فأذنب ذنباً أورثه الحزن والندم. وقال داود: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال: إني ابتليتهم فصبروا، فقال: يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت، فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى: فإني لم أخبرهم بأي شيء ابتليتهم ولا في أي شهر ولا في أي يوم، وأنا مخبرك في سنتك هذه وشهرك هذا ابتليتك غداً بامرأة فاحذر نفسك، فوقع فيما وقع فيه. وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم ونسوا فضل الله تعالى عليهم وقالوا لا نغلب اليوم من قلة وكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين". روى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال: إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي، فنودي من عمامة بعشرة آلاف صوت. يا أيوب أنى لك ذلك؛ أي من أين لك ذلك؟ قال: فأخذ رماداً ووضعه على رأسه وقال: منك يا رب منك يا رب، فرجع من نسيان إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى. ولهذا قال الله تعالى "ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبداً" وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم خير الناس "ما منكم من أحد ينجيه عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا تراباً وتبناً وطيراً مع صفاء أعمالهم وقلوبهم، فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله أو يدل به ولا يخاف على نفسه؟ فإذن هذا هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب ومهما غلب ذلك على القلب شغله خرف سلب هذه النعمة من الإعجاب بها، بل هو ينظر إلى الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل، فيخاف من ذلك فيقول: إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن يعود ويسترجع ما وهب، فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء! وهذا لا يبقى معه عجب بحال، والله تعالى أعلم.

[align=center]بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه[/align]

اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر - كما ذكرناها - وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله. فما به العجب ثمانية أقسام: الأول أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صورته وحسن صوته، وبالجملة تفصيل خلقته، فيلتفت إلى جمال نفسه أنه نعمة من الله تعالى وهو بعرضة الزوال في كل حال، وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار باطنه وفي أول أمره وفي آخره، وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع.
الثاني البطش والقوة كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم "من أشد منا قوة" وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلاً ليطبقه على عسكر موسى عليه السلام، فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في عنقه، وقد يتكل المؤمن أيضاً على قوته كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة! ولم يقل إن شاء الله تعالى، فحرم ما أراد من الولد وكذلك قول داود عليه السلام: إن ابتليتني صبرت، وكان إعجاباً منه بالقوة، فلما ابتلي بالمرأة لم يصبر. ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب وإلقاء النفس في التهلكة والمبادرة إلى الضرب والقتل لكل من قصده بالسوء، وعلاجه ما ذكرناه، وهو أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته! وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه.
"الثالث" العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا، وثمرته الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه، ويخرج إلى قلة الإصغاء إلى أهل العلم إعراضاً عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقاراً لهم وإهانة، وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل، ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه! فلا يأمن أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره، وليستقصر عقله وعلمه، وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلاً وإن اتسع علمه، وأن ما جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه، فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى؟ وأن يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم؟ فيحذر أن يكون منهم وهو لا يدري. فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله، فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من نفسه، ومن أعدائه لا من أصدقائه، فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجباً وهو لا يظن بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد عجباً.
الرابع العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية، حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة آبائه وأنه مغفور له، ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد، وعلاجه أن يعلم أنه مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل، وإن اقتدى بآبائه فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف والازدراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة النفس، ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب، فليتشرف بما شرفوا به، وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر، وكانوا عند الله شراً من الكلاب وأخس من الخنازير، ولذلك قال تعالى "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد، ثم ذكر فائدة النسب فقال "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ من أكيس الناس؟ لم يقل: من ينتمي إلى نسبي ولكن قال "أكرمهم أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة: فقال الحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وخالد بن أسيد: هذا العبد الأسود يؤذن على الكعبة؟ فقال تعالى "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية - أي كبيرها - كلكم بنو آدم وآدم من تراب وقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا معشر قريش لا تأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا - أي أعرض عنكم - فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب قريش. ولما نزل قوله تعالى "وأنذر عشيرتك الأقربين" ناداهم بطناً بعد بطن، حتى قال "يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعملا لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى بهم في التقوى والتواضع، وإلا كان طاعناً في نسب نفسه -بلسان حاله- مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع والتقوى والخوف والإشفاق.
فإن قلت: فقد قال صلى الله عليه وسلم بعد قوله لفاطمة وصفية "إني لا إني عنكما من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلاها وقال عليه الصلاة والسلام "أترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب فذلك يدل على أنه سيخصص قرابته بالشفاعة؟ فاعلم أن كل مسلم فهو منتظر شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسيب أيضاً جدير بأن يرجوها لكن بشرط أن يتقي الله أن يغضب عليه، فإنه إن يغضب عليه فلا يأذن لأحد في شفاعته، لأن الذنوب منقسمة إلى ما يوجب المقت فلا يؤذن في الشفاعة له، وإلى ما يعفى عنه بسبب الشفاعة، كالذنوب عند ملوك الدنيا فإن كل ذي مكانة عند الملك لا يقدر على الشفاعة فيما اشتد عليه غضب الملك، فمن الذنوب ما لا تنجي منه الشفاعة وعنه العبارة بقوله تعالى "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى" وبقوله "من ذا الذي يشفع عند إلا بإذنه" وبقوله "ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له" وبقوله "فما تنفعهم شفاعة الشافعين" وإذا انقسمت الذنوب إلا ما يشفع فيه وإلى ما لا يشفع فيه وجب الخوف والإشفاق لا محالة، ولو كان ذنب تقبل فيه الشفاعة لما أمر قريشاً بالطاعة ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها عن المعصية، ولكان يأذن لها في اتباع الشهوات لتكمل لذاتها في الدنيا ثم يشفع لها في الآخرة لتكمل لذاتها في الآخرة. فالانهماك في الذنوب وترك التقوى اتكالاً على رجاء الشفاعة يضاهي انهماك المريض في شهواته اعتماداً على طبيب حاذق قريب مشفق من أب أو أخ أو غيره، وذلك جهل لأن سعي الطبيب وهمته وحذقه تنفع في إزالة بعض الأمراض لا في كلها، فلا يجوز ترك الحمية مطلقاً اعتماداً على مجرد الطب، بل للطبيب أثر على الجملة ولكن في الأمراض الخفيفة وعند وغلبة اعتدال المزاج. فهكذا ينبغي أن تفهم عناية الشفعاء من الأنبياء والصلحاء للأقارب والأجانب، فإنه كذلك قطعاً، وذلك لا يزيل الخوف والحذر، وكيف يزيل وخير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وقد كانوا يتمنون أن يكونوا بهائم من خوف الآخرة مع كمال تقواهم وحسن أعمالهم وصفاء قلوبهم وما سمعوه من وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالجنة خاصة وسائر المسلمين بالشفاعة عامة ولم يتكلوا عليه ولم يفارق الخوف والخشوع قلوبهم؟ فكيف يعجب بنفسه ويتكل على الشفاعة من ليس له مثل صحبتهم وسابقتهم؟ "الخامس" العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم. وهذا غاية الجهل، وعلاجه أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله والفساد في دين الله وأنهم الممقوتون عند الله تعالى، ولو نظر إلى صورهم في النار وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ولتبرأ من الانتساب إليهم، ولأنكر على من نسبه إليهم استقذاراً واستحقار لهم، ولو انكشف له ذلهم في القيامة وقد تعلق الخصماء بهم والملائكة آخذون بنواصيهم يجرونهم على وجوههم إلى جهنم في مظالم العباد لتبرأ إلى الله منهم، ولكان انتسابه إلى الكلب والخنزير أحب إليه من الانتساب إليهم، فحق أولاد الظلمة إن عصمهم الله من ظلمهم أن يشكروا الله تعالى على سلامة دينهم ويستغفروا لآبائهم إن كانوا مسلمين!ّ فأما العجب فجهل محض.
السادس العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار والأتباع كما قال الكفار "نحن أكثر أموالاً وأولاداً" وكما قال المؤمنون يوم حنين: لا نغلب اليوم من قلة، وعلاجه ما ذكرناه في الكبر وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم وأن كلهم عبيد عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً. "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله" ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيفترقون عنه إذا مات فيدفن في قبره ذليلاً معيناً وحده لا يرافقه أهل ولا ولد ولا قريب ولا حميم ولا عشير، فيسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئاً وفي أحوج أوقاته إليهم، وكذلك يهربون منه يوم القيامة "يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه" الآية. فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك؟ وكيف تعجب به ولا ينفعك في القبر والقيامة وعلى الصراط إلى عملك وفضل الله تعالى؟ فكيف تتكل على من لا ينفعك، وتنسى نعم من يملك نفعك وضرك وموتك وحياتك.
السابع العجب بالمال كما قال تعالى إخباراً عن صاحب الجنتين إذ قال "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً" ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً غنياً جلس بجنبه فقير فانقبض عنه وجمع ثيابه فقال عليه السلام "أخشيت أن يعدو إليك فقره وذلك للعجب بالغنى، وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله، وينظر إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة، وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل له، وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال وإلى قوله عليه الصلاة والسلام "بينما رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذ أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه. وقال أبو ذر، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فقال لي "يا أبا ذر ارفع رأسك" فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب جياد ثم قال "ارفع رأسك" فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب خلقة فقال لي "يا أبا ذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا وجميع ما ذكرناه في كتاب الزهد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال يبين حقارة الأغنياء وشرف الفقراء عند الله تعالى، فكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بثروته؟ بل لا يخلو المؤمن عن خوف من تقصيره في القيام بحقوق المال في أخذه من حله ووضعه في حقه، ومن لا يفعل ذلك فمصيره إلى الخزي والبوار فكيف يعجب بماله؟.
الثامن العجب بالرأي الخطأ. قال الله تعالى "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً" وقال تعالى "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ذلك يغلب على آخر هذه الأمة وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقاً فكل معجب برأيه "وكل حزب بما لديهم فرحون" وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقاً، وعلاج هذا العجب أشد من علاج غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه، ولا يعالج الداء الذي لا يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جداً. لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله عنه، إلا إذا كان معجباً برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه، فقد سلط الله عليه بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في اعتقاده؟ وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهماً لرأيه أبداً لا يغتر به إلا أن يشهد قاطع منن كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمر في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم، ومع ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور، والصواب لمن لم يتفرع لاستغراق عمره في العلم أن لا يخوض في المذاهب ولا يصغي إليها ولا يسمعها، ولكن يعتقد أن الله تعالى واحد لا شريك له وأنه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" وأن رسوله صادق فيما أخبر به ويتبع سنة السلف، ويؤمن بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحث وتنقير وسؤال عن تفصيل، بل يقول آمناً وصدقنا ويشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات والشفقة على المسلمين وسائر الأعمال، فإن خاض في المذاهب والبدع والتعصب في العقائد هلك من حيث لا يشعر. هذا حق كل من عزم على أن يشتغل في عمره بشيء غير العلم، فأما الذي عزم على التجرد للعلم فأول مهم له معرفة الدليل وشروطه وذلك مما يطول الأمر فيه، والوصول إلى اليقين والمعرفة في أكبر المطالب شديد لا يقدر عليه إلا الأقوياء المؤيدون بنور الله تعالى وهو عزيز الوجود جداً فنسأل الله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من الاغترار بخيالات الجهال.


[align=center]تم كتاب ذم الكبر والعجب والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.[/align]



_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 19 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط