موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 5, 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12  التالي
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مايو 07, 2006 7:00 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهو الكتاب التاسع من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين
[/align]


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

الحمد لله الذي لا تستفتح الكتب إلا بحمده، ولا تستمنح النعم إلا بواسطة كرمه ورفده، والصلاة على سيد الأنبياء محمد رسوله وعبده. وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين من بعده.
أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحق بالكليلة حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في إتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلاً بعملها أو متقلداً لتنفيذها مجدداً لهذه السنة الدائرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في إحيائها كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها، وها نحن نشرح علمه في أربعة أبواب. الباب الأول: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته، الباب الثاني: في أركانه وشروطه: الباب الثالث: في مجاريه وبيان المنكرات المألوفة في العادات. الباب الرابع: في أمر الأمر والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

[align=center]الباب الأول
في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفضيلته المذمة في إهماله وإضاعته
ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه: الآيات والأخبار والآثار[/align]



أما الآيات: فقوله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" ففي الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى "ولتكن" أمر وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال: "وأولئك هم المفلحون" وفيها بيان أنهن فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به أمة سقط أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين، وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة وقال تعالى "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك هم الصالحين" فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال تعالى: "والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة" فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، الذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية، وقال تعالى: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" وهذا غاية التشديد إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر، وقال عز وجل "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بين أنهم كانوا به خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء ويدل ذلك على الوجوب أيضاً، وقال تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" فقرن ذلك بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين والمؤمنين وقال تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه وتسهيل طرق الخير وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان وقال تعالى: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" فبين أنهم أثموا بترك النهي وقال تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض" الآية فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلاً منهم كانوا ينهون عن الفساد وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين" وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين وقال تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" وقال تعالى : "وإن طائفتنان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" الآية والإصلاح نهي عن البغي وإعادة إلى الطاعة فإن لم يفعل فقد أمر الله تعالى بقتاله فقال "فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله" وذلك هو النهي عن المنكر. وأما الأخبار: فمنها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‎"ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده" وروى عن أبي ثعلبة الخشني: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسر قوله تعالى "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" فقال: يا أبا ثعلبة مر بالمعروف وأنه عن المنكر فإذا رأيت شحا مطاعاً وهو متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام إن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم للمتمسك فهيا بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين منكم" قيل: بل منهم يا رسول الله. قال: "لا بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون عليه أعواناً" وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن تفسير هذه الآية فقال: إن هذا ليس زمانها إنها اليوم مقبولة، ولكن قد أوشك أن يأتي زمانها تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا وتقولون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم" معناه تسقط مهابتهم من أعين الأشرار فلا يخافونهم. وقال صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس إن الله يقول لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم" وقال صلى الله عليه وسلم "ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي" وقال عيه أفضل الصلاة والسلام "إن الله تعالى ليسأل العبد ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال رب وثقت بك وفرقت من الناس" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقال صلى الله عليه وسلم "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله تعالى" وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه" وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبانكم وتركتم جهادكم؟ قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه يا سول الله؟ كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون؟ يقول الله تعالى بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران" وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تقفن عند رجل يقتل مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه، ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه"، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقاً هو له" وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ولا حضور المواضع التي يشاهد المنكر فيها ولا يقدر على تغييره، فإنه قال: "اللعنة تنزل على من حضر" ولا يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذاراً بأنه عاجز. ولهذا اختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير، وهذا يقتضي لزوم الهجر للخلق. ولهذا يقال عمر ابن عبد العزيز رحمه الله: ما ساح السواح وخلوا دورهم وأولادهم إلا بمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس، ورأوا أنه لا يقبل ممن تكلم، ورأوا الفتن ولم يأمنوا أن تعتريهم وأن ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه؛ فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" قال: ففر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة من السر لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فيما بلغنا أن الملائكة عليهم السلام لتلقاهم وتصافحهم، والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه، ويسألها أين أمرت فتخبره؟ وليس بنبي. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها، ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها" ومعنى الحديث أن يحضر لحاجة أو يتفق جريان ذلك يديه، فأما الحضور قصداً فممنوع بدليل الحديث الأول. وقال ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وله حوارى فيمكث النبي بين أظهرهم ما شاء الله تعالى يعمل فيهم بكتاب الله وبأمره حتى إذا قبض الله نبيه مكث الحواريون يعملون بكتاب الله وبأمره وبسنة نبيهم فإذا انقرضوا كان من بعدهم قوم يركبون رؤوس المنابر يقولون ما يعرفون ويعملون ما ينكرون فإذا رأيتم ذلك فحق على كل مؤمن جهادهم بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك إسلاماً".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كان أهل قربه يعملون بالمعاصي وكان فيهم أربعة نفر ينكرون ما يعملون، فقام أحدهم فقال: إنكم تعملون كذا وكذا فجعل ينهاهم ويخبرهم بقيح ما يصنعون فجعلوا يردون عليه ولا يرعون عن أعمالهم فسبهم فسبوه وقاتلهم فغلبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني وقاتلتهم فغلبوني ثم ذهب ثم قام الآخر فنهاهم فلم يطيعوه فسبهم فسبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني. ثم ذهب ثم قام الثالث فنهاهم فلم يطيعوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني. ثم ذهب ثم قام الرابع فقال اللهم إني لو نهيتهم لعصوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني ثم ذهب قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرابع أدناهم منزلة وقيل فيكم مثله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قيل يا رسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون؟ قال: "نعم" قيل بم يا رسول الله قال: "بتهاونهم وسكوتهم على معاصي الله تعالى" وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك من الملائكة أن أقلب مدينة كذا وكذا على أهلها فقال يا رب إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين قال اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط" وقالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفاً عملهم عمل الأنبياء قالوا يا رسول الله كيف قال لم يكونوا يغضبون الله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر" وعن عروة عن أبيه قال قال موسى صلى الله عليه وسلم يا رب أي عبادك أحب إليك قال الذي يتسرع إلى هواي كما يتسرع النسر إلى هواه والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالثدي والذي يغضب إذا أتيت محارمي كما يغضب النمر لنفسه فإن النمر إذا غضب لنفسه لم يبال قل الناس أم كثروا وهذا يدل على فضيلة الحسبة مع شدة الخوف وقال أبو ذر الغفاري: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله ومن هم؟ قال "الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمحبون في الله والمبغضون في الله" ثم قال: "والذي نفسي بيده إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق الغرفات فوق غرف الشهداء للغرفة منها ثلثمائة ألف باب منها الياقوت والزمرد الأخضر على كل باب نور وإن الرجل منهم ليزوج بثلثمائة ألف حوراء قاصرات الطرف عين كلما التفت إلى واحدة منهن ذكرت له مقاماً أمر فيه بمعروف ونهى فيه عن منكر" وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قلت: يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله عز وجل؟ قال: "رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله فإن لم يقتله فإن القلم لا يجري عليه بعد ذلك وإن عاش ما عاش" وقال الحسن البصري رحمه الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر".
وأما الآثار: فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لبسطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعوا عليه خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون وتستغفرون فلا يغفر لكم. وسئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء فقال: الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه. وقال مالك بن دينار: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى الرجال والنساء منزله يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل فرأى بعض بنيه يوماً وقد غمر بعض النساء فقال: مهلاً يا بني مهلاً، وسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيش، فأوحى الله تعالى إلى نبي زمانه: أن أخبر فلاناً الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقاً أبداً أما كان من غضبك لي إلا أن قلت: مهلاً يا بني مهلاً. وقال حذيفة: يأتي على الناس زمان لأن تكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم وأوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار، قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي ووالوهم وشاربوهم. وقال بلال بن يعد: إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صابها فإذا أعلنت ولم تغير أضرت بالعامة، وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك من قومك؟ قال: حسنة. قال كعب: إن التوراة لتقول غير ذلك؟ قال: وما تقول؟ قال: تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه، فقال: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي العمال ثم قعد عنهم فقيل له: لو أتيتهم فلعلهم يجدون في أنفسهم، فقال: أرهب إن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي، وإن سكت رهبت أن آثم. وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع ويستتر عنه حتى لا يجري بمشهد منه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم؛ فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: أيما عبد عمل في شيء من دينه بما أمر به أو نهى عنه وتعلق به عند فساد الأمور وتنكرها وتشوش الزمان فهو ممن قد قام لله في زمانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. معناه أنه إذا لم يقدر إلا على نفسه فقام بها وأنكر أحوال الغير بقلبه فقد جاء بما هو الغاية في حقه. وقيل للفضيل: ألا تأمر وتنهي؟ فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري. ألا تأمر بالمعروف وتنهى؟ فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري. ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقال إذا انبثق البحر فمن يقدر أن يسكره. فقد ظهر بهذه الأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به. فلنذكر الآن شروطه وشروط وجوبه.

[align=center]الباب الثاني
في أركان الأمر بالمعروف وشروطه[/align]


اعلم أن الأركان في الحسبة التي هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة: المحتسب، والمحتسب عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب. فهذه أربعة أركان ولكل واحد منها شروط.

[align=center]الركن الأول
المحتسب
[/align]

وله شروط، وهو أن يكون مكلفاً مسلماً قادراً فيخرج منه المجنون والصبي والكافر والعاجز، ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونا مأذونين، ويدخل فيه الفاسق والرقيق والمرأة. فلنذكر وجه اشتراط ما اشترطناه ووجه إطراح ما أطرحناه.

أما الشرط الأول: وهو التكليف: فلا يخفى وجه اشترط فإن غير المكلف لا يلزمه أمر، وما ذكرناه أردنا به شرط الوجوب، فأما إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلا العقل، حتى إن الصبي المراهق للبلوغ المميز وإن لم يكن مكلفاً فله إنكار المنكر وله أن يريق الخمر ويكسر الملاهي؛ وإذا فعل ذلك نال به ثواباً ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف. فإن هذه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف؛ ولذلك اثبتناه للبعد وآحاد الرعية. نعم في المنع بالفعل وإيطال المنكر نوع ولاية وسلطنة ولكنها تستفاد بمجرد الإيمان كقتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته. فإن للصبي أن يفعل ذلك حيث لا يستضر به فالمنع من الفسق كالمنع من الكفر.
وأما الشرط الثاني، وهو الإيمان: فلا يخفى وجه اشتراطه لأن هذا نصرة للدين فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصل الدين وعدوله؟ وأما الشرط الثالث؛ وهو العدالة: فقد اعتبرها قوم وقالوا ليس للفاسق أن يحتسب، وربما استدلوا فيه بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله مثل قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقوله تعالى "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلوا" وبما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني، وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للاهتداء، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة، والإصلاح، زكاة عن نصاب الصلاح، فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره؟ ومتى يستقيم الظل والعود أعود؟ وكل ما ذكروه خيالات وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب وبرهانه هو أن نقول: هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطياً معصوماً عن المعاصي كلها؟ فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلاً عمن دونهم، والأنبياء عليهم السلام قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا. والقرآن العزيز دال على نسبة آدم عليه السلام إلى المعصية وكذا جماعة من الأنبياء. ولهذا قال سعيد بن جبير: إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء؛ لم يأمر أحد بشيء، فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير. وإن زعموا أ، ذلك لا يشترط عن الصغائر حتى يجوز للابس الحرير أن يمنع من الزنا وشرب الخمر فتقول: وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر؛ فإن قالوا: لا، خرقوا الإجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الأيتام ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده. فإن قالوا: نعم، فنقول: شارب الخمر هل له المنع من القتل أم لا؟ فإن قالوا: لا، قلنا. فما الفرق بينه وبين لابس الحرير؟ إذ جاز له المنع من الخمر، والقتل كبيرة بالنسبة إلى الشرب كالشرب بالنسبة إلى لبس الحرير؛ فلا فرق. وإن قالوا: نعم، وفصلوا الأمر فيه بأن كل مقدم على شيء فلا يمنع عن مثله ولا عما دونه وإنما يمنع عما فوقه فهذا تحكم فإنه كما لا يبعد أن يمنع الشارب من الزنا والقتل فمن أين يبعد أن يمنع الزاني من الشرب؟ بل من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب؟ ويقول يجب على الانتهاء والنهي فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصي الله تعالى بالثاني؟ وإذا كان النهير واجباً علي فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي؟ إذ يستحيل أن يقال يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب فإذا شرب فإذا شرب سقط النهي.
فإن قيل: فيلزم على هذا أ، يقول القائل الواجب على الوضوء والصلاة فأنا أتوضأ وإن لم أصل وأتسحر وإن لم أصم لأن المستحب لي السحور والصوم جميعاً ولكن يقال: أحدهما مرتب على الآخر، فكذلك تقويم الغير مرتب على تقويمه نفسه فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول. والجواب أن التسحر يراد للصوم ولولا الصوم لما كان التسحر مستحباً، وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير، وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس، ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير فالقول بترتب أحدهما على الآخر تحكم.
وأما الوضوء والصلاة فهو لازم فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤدياً أمر الوضوء وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعاً فليكن من ترك النهي والانتهاء أكثر عقاباً ممن نهى ولم ينته، كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه؟ بل للصلاة فلا حكم له دون الصلاة.
وأما الحسبة فليست شرطان في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما.
فإن قيل: فيلزم على هذا أن يقال إذا زنى الرجل بامرأة وهي مكرهة مستورة الوجه فكشفت وجهها باختيارها فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا ويقول: أنت مكرهة في الزنا ومخارة في كشف الوجه لغير محرم، وها أنا غير محرم لك فاسترى وجهك، فهذا احتساب شنيع يستنكره قلب كل عاقل ويستشنعه كل طبع سليم؟ فالجواب أن الحق قد يكون شنيعاً وأن الباطل قد يكون مستحسناً بالطباع والمتبع الدليل دون نفرة الأوهام والخيالات فإنا نقول: قوله لها في تلك الحالة، لا تكشفي وجهك، واجب أو مباح أو حرام؟ فإن قلتم: إنه واجب فهو الغرض لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق. وإن قلتم: إنه مباح، فإذن له أن يقول ما هو مباح؟ فما معنى قولكم ليس للفاسق الحسبة؟ وإن قلتم: إنه حرام، فنقول، وكان هذا واجباً فمن أين حرم بإقدامه على الزنا؟ ومن الغريب أن يصير الواجب حرماً بسبب ارتكاب حرام آخر.
وأما نفرة الطباع عنه واستنكارها له فهو لسببين: أحدهما: أنه ترك الأهم واشتغل بما هو مهم. وكما أن الطباع تنفر عن ترك المهم إلى ما لا يعني فتتنفر عن ترك الأهم والاشتغال بالمهم كما تنفر عمن يتحرج عن تناول طعام مغصوب وهو مواظب على الربا، وكما تنفر عمن يتصاون عن الغيبة ويشهد بالزور، لأن الشهادة بالزور أفحش وأشد من الغيبة التي هي إخبار عن كائن يصدق فيه المخبر، وهذا الاستبعاد في النفوس لا يدل على أن ترك الغيبة ليس بواجب، وأنه لو اغتاب أو أكل لقمة من حرام لم تزد بذلك عقوبته، فكذلك ضرره في الآخرة من معصيته أكثر من ضرره من معصية غيره، فاشتغاله عن الأقل بالأكثر مستنكر في الطبع، من حيث إنه ترك الأكثر لا من حيث إنه أتى بالأقل، فمن غصب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئاً، إذ قد صدر منه طلب اللجام وهو غير منكر، ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام فاشتد الإنكار عليه لتركه الأهم بما دونه، فكذلك حسبة الفاسق تستبعد من هذا الوجه وهذا لا يدل على أن حسبته من حيث إنها حسبة مستنكرة.
الثاني: أن الحسبة تارة تكون بالنهي بالوعظ وتارة بالقهر، ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولاً ونحن نقول: من علم أن قوله لا يقبل في الحسبة لعلم الناس بفسقه فليس عليه الحسبة بالوعظ؛ إذ لا فائدة في وعظه فالفسق يؤثر في إسقاط فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام، فأما إذا كانت الحسبة بالمنع فالمراد منه القهر وتمام القهر أن يكون بالفعل والحجة جميعاً، وإذا كان فاسقاً فإن قهر بالفعل فقد قهر بالحجة إذ يتوجه عليه أن يقال له: فأنت لمن تقدم عليه؟ فتنفر الطباع عن قهره بالفعل مع كونه مقهوراً بالحجة وذلك لا يخرج الفعل عن كونه حقاً كما أ، يذب الظالم عن آحاد المسلمين ويهمل أباه وهو مظلوم معهم تنفر الطباع عنه ولا يخرج دفعه عن المسلم عن كونه حقاً. فخرج من هذا أن الفاسق ليس عليه الحسبة بالوعظ على من يعرف فسقه لأنه لا يتعظ؛ وإذا لم يكن عليه ذلك، وعلم أنه يفضى إلى تطويل اللسان في عرضه بالإنكار فنقول: ليس له ذلك أيضاً. فرجع الكلام إلى أن أحد نوعي الاحتساب وهو الوعظ قد بطل بالفسق وصارت العدالة مشروطة فيه: وأما الحسبة القهرية فلا يشترط فيها ذلك فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسر الملاهي وغيرها إذا قدر، وهذا غاية الإنصاف والكشف في المسألة وأما الآيات التي استدلوا بها فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم. ولكن أمرهم دل على قوة علمهم وعقاب العالم أشد لأنه لا عذر له مع قوة علمه وقوله تعالى "لم تقولون ما لا تفعلون" المراد به الوعد الكاذب وقوله عز وجل: "وتنسون أنفسكم" إنكار من حيث إنهم نسوا أنفسهم لا من حيث إنهم أمروا غيرهم ولكن ذكر أمر الغير استدلالاً به على علمهم وتأكيداً للحجة عليهم. وقوله: "يا ابن مريم عظ نفسك.... الحديث" هو في الحسبة بالوعظ. وقد سلمنا أن وعظ الفاسق ساقط الجدوى عند من يعرف فسقه. ثم قوله "فاستحى مني" لا يدل على تحريم وعظ الغير بل معناه استحى مني فلا تترك الأهم وتشتغل بالمهم كما يقال احفظ أباك ثم جارك وإلا فاستحي.
فإن قيل. فليجز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني لأن قوله لا تزن حق في نفسه فمحال أن يكون حراماً عليه، بل ينبغي أن يكون مباحاً أو واجباً. قلنا: الكافر إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه من حيث إنه نهى عن الزنا ولكن من حيث إنه إظهار دالة الاحتكام على المسلم، وفيه إذلال للمحتكم عليه، والفاسق يستحق الإذلال ولكن لا من الكافر الذي هو أولى بالذل منه. فهذا وجه منعنا إياه من الحسبة وإلا فلسنا نقول إن الكافر يعاقب بسبب قوله: لا تزن، من حيث إنه نهى بل نقول إنه إذا لم يقل لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكافر بفروع الدين وفيه نظر استوفيناه في الفقهيات ولا يليق بغرضنا الآن.
الشرط الرابع: كونه مأذوناً من جهة الغمام والوالي، فقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية عصى إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له. والعجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا بل جوابهم أن يقال لهم: إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم، إن نصرتكم أمر بالمعروف وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق لأن الإمام الحق بعد لم يخرج.
فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر؟ فنقول: أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة، وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز التعليم والتعريف، إذ لا خلاف في أن تعريف التريم والإيجاب لمن هو جاهر ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي، وفيه عز الإرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين وكذلك النهي.
وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب - كما سيأتي - أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه، ورده على صاحبه. والخامس: التخويف والتهديد بالضرب، ومباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب. وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين ويجر ذلك إلى قتال وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام إلا المرتبة الخامسة فإن فيها نظراً - سيأتي - أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام؟ وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله وما يجري مجراه فهو كلام صدق، و والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه؟ وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام. وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر - سيأتي - واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بحروف فإن كان الوالي راضياً فذاك، وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه. ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة.
كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة، فقال له مروان: اترك ذلك يا فلان، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها فكيف يحتاج إلى إذنهم؟ وروي أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه وقال له: انظر ما تصنع؟ من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من العبد، حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه؟ وقد قال الله تعالى: "سواء العاكف فيه والباد" من جعل لك هذا؟ فنظر في وجهه - وكان بعرفه لأنه من مواليهم - فقال: أعبد الله ابن مرزوق؟ قال: نعم، فأخذ فجئ به إلى بغداد فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة، فجعله في اصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرساً عضوضاً سيئ الخلق ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس، قال: ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه، وأخذ المهدي المفتاح عنده فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل، فأوذن به المهدي فقال له: من أخرك؟ فقال: الذي حبسني، فضج المهدي وصاح وقال: ما تخاف أن أقتلك؟ فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك وهو يقول: لو كنت تملك حياة أو موتاً؟! فما زال محبوساً حتى مات المهدي ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة. قال: وكان قد جعل على نفسه نذراً إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها.
وروى عن حبان بن عبد الله قال: تنزه هرون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هشام وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هرون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن فجئنا بها، قال: فجاءت فغنت فلم يحمد غناءها، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: ليس هذا عودي، فقال للخادم، جئنا بعودها، قال: فجاء بالعود فوافق شيخاً يلقط النوى فقال: الطريق يا شيخ، فرفع الشيخ رأسه فرأى العود فأخذه من الخادم فضرب به الأرض؛ فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال: احتفظ بهذا فإنه طلبة أمير المؤمنين، فقال له صاحب الربع: ليس ببغداد أعبد من هذا فكيف يكون طلبة أميسر المؤمنين؟ فقال له: اسمع ما أقول لك، ثم دخل على هرون فقال: إني مررت على شيخ يلقط النوى فقلت له: الطريق، فرفع رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأرض فكسره؛ فاستشاط هرون وغضب واحمرت عيناه فقال له سليمان بن أبي جعفر: ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين؟ ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة، فقال: لا، ولكن نبعث إليه وناظره أولاً؛ فجاء الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: نعم، قال: اركب، قال: لا، فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر، فقيل لهرون: قد جاء الشيخ، فقال للندماء أي شيء ترون؟ نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر؟ فقالوا له: نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر أصلح، فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ثم أمر بالشيخ فأدخل. - وفي كمه الكيس الذي فيه النوى - فقال له الخادم: أخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين، فقال: من هذا عشائي الليلة، قال نحن نعشيك. قال: لا حاجة لي في عشائكم، فقال هرون للخادم: أي شيء يريد منه؟ قال في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل على أمير المؤمنين فقال: دعه لا يطرحه، قال: فدخل وسلم وجلس، فقال له هرون: يا شيخ ما حملك على ما صنعت؟ قال: وأي شيء صنعت؟ وجعل هرون يستحي أن يقول كسرت عودي، فلما أكثر عليه قال: إني سمعت أباك وأجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وأنا رأيت منكراً فغيرته، فقال: فغيره. فوالله ما قال إلا هذا، فلما خرج أعطى الخليفة رجلاً بدرة وقال: اتبع الشيخ فإن رأيته يقول: قلت لأمير المؤمنين وقال لي؛ فلا تعطه شيئاً؛ وإن رأيته لا يكلم أحداً فأعطه البدرة. فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم أحداً فقال له: يقول لك أمير المؤمنين خذه هذه البدرة، فقال: قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها. ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول:


[poet font="Tahoma,4,firebrick,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="groove,4,darkblue" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أرى الدنيا لمن هي في يديه هموماً كلما كثرت لـديه
تهين المكرمين لها بصغـر وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إلـيه
[/poet]

وعن سفيان الثوري رحمه اله قال: حج المهدي سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالاً بالسياط، فوقفت فقلت: يا حسن الوجه حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طردو ولا جلد ولا إليك إليك، وها أنت يخبط الناس بين يديك يميناً وشمالاً. فقال الرجل: من هذا؟ قال: سفيان الثوري. فقال: يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا؟ فقال: لو أخبرك المنصور لقى لقصرت عما أنت فيه. فقيل له إنه قال لك يا حسن الوجه ولم يقل لك يا أمير المؤمنين فقال: اطلبوه فطلب سفيان فاختفى وقد روى عن المأمون أنه بلغه أن رجلاً محتسباً يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. ولم يكن مأموراً من عنده بذلك فأمر بأن يدل عليه. فلما صار بين يديه قال له: إنني بلغني أنك رأيت نفسك أهلاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك وكان المأمون جالساً على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به. فقال له المحتسب: ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى ثم قل ما شئت؛ فلم يفهم المأمون مراد فقال ماذا تقول؟ حتى أعاده ثلاثاً فلم يفهم. فقال: إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع. فنظر المأمون تحت قدمه فرأى الكتاب فأخذه وقبله وخجل. ثم عاد وقال: لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا، - أهل البيت - ونحن الذين قال الله تعالى فيهم: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" فقال: صدقت يا أيمر المؤمنين أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه. ولا ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف" الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد مكنت في الأرض وهذا كتاب الله وسنة رسوله فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما. وإن استكبرت عنهما ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً فقل الآن ما شئت؛ فأعجب المأمون بكلامه وسر به وقال: مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف. فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا. فاستمر الرجل على ذلك. ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن.
فإن قيل: أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد والعبد على المولى والزوجة على الزوج والتلميذ على الأستاذ ولرعية على الوالي مطلقاً. كما يثبت للوالد على الولد والسيد على العبد والزوج على الزوجة والأستاذ على التلميذ والسلطان على الرعية أو بينهما فرق؟ فاعلم أن الذي نراه: أنه يثبت أصل الولاية ولكن بينهما فرق في التفصيل. ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد مع الوالد فنقول: قد رتبنا للحسبة خمس مراتب، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما‎: التعريف ثم الوعظ والنصح باللطف. وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان وهل له الحسبة بالتربة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه؟ هذا فيه نظر، وهو بأن يكسر مثلاً عوده ويريق خمره ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين - إذا كان صاحبه معيناً - ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته ويكسر أواني الذهب والفضة؛ فإن فعله في هذا الأمور ليس يتعلق بذات الأب خلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد حق، وسخط الأب منشؤه به للباطل وللحرام والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك، ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر وإلى مقدار الأذى والسخط. فإن كان المنكر فاحشاً وسخطه عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر، وإن كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال النظر.

فإن قيل: ومن أين قلتم ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل، والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاماً من غير تخصيص؟ وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات؟ فنقول: قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً، ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته.
وقد ورد في ذلك أخبار وثبت بعضها بالإجماع فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة بل أولى. وهذا الترتيب أيضاً ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج فهما قريبان من الولد في لزوم الحق وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح. ولكن في الخبر أنه لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، وهذا يدل على تأكيد الحق أيضاً. وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح: فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضى إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته، وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر فقد تعارض فيه أيضاً محذوران والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه وذلك مما لا يمكن ضبطه. وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه. وروي أنه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال: يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه.
الشرط الخامس: كونه قادراً؛ ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها. وقال ابن مسعود رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجهوهم فافعلوا.
واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروهاً يناله فذلك في معنى العجز، وكذلك إذا لم يخف مكروهاً ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلى معنيين؛ أحدهما: عدم إفادة الإنكار امتناعاً، والآخر: خوف مكروه. ويحصل في اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدهما: أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب علي الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع. نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات؛ فيلزمه الهجرة إن قدر عليها فإن الإكراه لا يكون عذراً في حق من يقدر على الهرب من الإكراه. الحالة الثانية: أن ينتقى المعنيان جميعاً بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة. الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره لكنه لا يخاف مكروهاً فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين. الحالة الرابعة: عكس هذه وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر، أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال، ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب. ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف. ويدل عليه أيضاً ما روي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى أنه قال: سمعت من بعض الخلفاء كلاماً فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل، ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس فخشيت أن يعتريني التزين للخلق فأقتل من غير إخلاص في الفعل.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"؟ قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس التهلكة ذلك، بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى؛ أي من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه. وقال البراء بن عازب: التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول لا يتاب علي. وقال أبو عبيدة: هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك. وإذا جار أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة. وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إن رأى فاسقاً متغلباً وعنده سيف وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهاً وهو عين الهلاك. فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراماً. وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه. فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر، وليس ذلك من القدرة في شيء، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سبباً لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإفكار الأظهر، لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو، وذلك بأن يكون مثلاً مع الإنسان شراب حلال - نجس بسبب وقوع نجاسة فيه - وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر أو تشرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك. ويحتمل أن يقال إنه يريق ذلك فيكون هو مبطلاً لمنكر. وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون. وليس ببعيد، فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم فيها إلا بظن، ولا يبعد أن يفرق بني درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضى إليه الحسبة والتغيير، فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنساناً وأكله فلا معنى لهذه الحسبة. نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرقه يحمله على أخذ ماله فذلك له وجه. فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد وعلى المحتسب إتباع اجتهاده في ذلك كله ولهذه الدقائق نقول: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليلات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي؛ إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلاً لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله.
فإن قيل: وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته؛ فلو كان بدل العلم فما حكمه؟ قلنا: الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع آخر، وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه حيث علم قطعاً أنه لا يفيد فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ولكن يحتمل أن يفيد وهو منع ذلك لا يتوقع مكروهاً فقد اختلفوا في وجوبه، والأظهر وجوبه إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقعة، وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال ونحن إنما نستثني عنه بطريق التحصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه، فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب.
فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه، أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الواجب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه؟ قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يحب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب. ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر، فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر. ويحتمل أن يقال: إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف.
فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريباً حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه، والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه، فعلى ماذا التعويل؟ قلنا‎: التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج، فإن الجبن مرض وهو ضعف في القلب سببه قصور في القوة وتفريط، والتهور إفراط في القوة وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان، وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة. وكل واحد من الجبن والتهور يصر تارة عن نقصان العقر. وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط، فإن من اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة فقد لا يتفطن لمدارك الشر فيكون سبب جراءته جهله، وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر فيكون سبب جبنه جهله، وقد يكون عالماً بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه، ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع. فلا التفات إلى الطرفين. وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته وعلته جهل أو ضعف، ويزول الجهل بالتجربة، ويزول الضعف بممارسة الفعل المخفوف منه تكلفاً حتى يصير معتاداً، إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلاً قد يجبن عنه طبعه لضعفه فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف، فإن صار ذلك ضرورياً غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات، ولذلك قد نقول على رأي: لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في وجوب الحسبة.
فإن قيل: فالمكروه المتوقع ما حده؟ فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة وقد يكره طول لبان المحتسب عليه في حقه بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه، فما حج المكروه الذي يسقط الوجوب به؟ قلنا: هذا أيضاً فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجارية كثيرة، ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه.
فنقول: المكروه نقيض المطلوب ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: أما في النفس فالعلم. وأما في البدن فالصحة والسلامة. وأما في المال فالثروة. وأما في القلوب الناس فقيام الجاه؛ فإذاً المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه. ومعنى الجاه ملك قلوب الناس، كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لآن قلوب الناس وسيلة إلى الأغراض، كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض - وسيأتي تحقيق معنى الجاه وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات - وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه والمختصين به. ويكره في هذه الأربعة أمران؛ أحدهما: زوال ما هو حاصل موجود. والآخر. امتناع ما هو منتظر مفقود؛ أعني اندفاع ما يتوقع وجوده. فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله، أو تعويق منتظر، فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله والممكن حصوله كأنه حاصل وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله: فرجع المكروه إلى قسمين؛ أحدهما: خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصاً في ترك الأمر بالمعروف أصلاً.
ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة؛ أما العلم: فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفاً من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه. وأما الصحة: فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلاً وهو لابس حريراً خوفاً من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنظرة. وأما المال: فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل ويترك مواساته. وأما الجاه: فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاهاً في المستقبل خيفة من أن لا يحصل له الجاه أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية.
وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضراً مجاز. وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر، كان إذا كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضى إلى الموت. وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة. وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلاً بمهمات دينه ولم يجد إلا معلماً واحداً ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه لكونه العالم مطيعاً له أو مستمعاً لقوله، فإذاً الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور والسكوت على المنكر محذور، ولا يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وبشدة الحاجة إلى العلم لتعلقه بمهمات الدين. وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال وليس هو قوى النفس في التوكل ولا منفق عليه سوى شخص واحد ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعاً فهذا أيضاً إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت. وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلاً إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر، ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ويدوم بسببه أذى الشرير. فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المنسب حتى يستفتى فيها قلبه، ويزن أحد المحذوين بالآخر، ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع، فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة، وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مكاهنة. وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير، فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى، وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضراً عند الله ولو في فلتة خاطر أو فلتة ناظر من غير ظلم وجور فما الله بظلام للعبيد.
وأما القسم الثاني: وهو فوات الحاصل: فهو مكروه ومعتبر في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم، فإن فواته غير مخوف إلا بتقصير منه وإلا فلا يقدر أحد على سلب العلم من غيره وإن قدر على سلب الصحة والسلامة والثروة والمال، وهذا أحد أسباب شرف العلم فإنه يدوم في الدنيا ويدوم ثوابه في الآخرة فلا انقطاع له أبد الآباد. وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة وإن كان يستحب له ذلك - كما سبق - وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع والقتل أظهر. وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه، فهذا أيضاً يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب إذ لا بأس بأن يفدى دينه بدنياه ولكل واحد م الضرب والنهب حد في القلة لا يكترث به كالحبة في المال واللطمة الخفيف ألمها في الضرب وحد في الكثرة يتعين اعتباره ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، وعلى المتدين أن يجتهد في ذلك ويرجح جانب الدين ما أمكن . وأما الجاه ففواته بأن يضرب ضرباً غير مؤلم أو بسبب على ملأ من الناس أو يطرح منديله في رقبته ويدار به درجات فالصواب أن يقسم إلى ما يعبر عنه بسقوط المروءة، كالطواف به في البلد حاسراً حافياً فهذا يرخص له في السكوت لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع، وهذا مؤلم للقلب ألماً يزيد على أمل ضربات متعددة وعلى فوات دريهمات قليلة فهذه درجة. الثانية: ما يعبر عنه بالجاه المحض وعلو الرتبة، فإن الخروج في ثياب فاخرة تجمل، وكذلك الركوب للخيول. فلو علم أنه لو احتسب لكلف المشي في السوق في ثياب لا يعتاد هو مثلها. أو كلف المشي راجلاً وعادته الركوب. فهذا من جملة المزايا. وليست المواظبة على حفظها محمودة. وحفظ المروءة محمود فلا ينبغي أن يسقط وجوب الحسبة بمثل هذا القدر. وفي معنى هذا ما لو خاف أن يتعرض له باللسان إما في حضرته بالتجهيل والتحميق والنسبة إلى الرياء والبهتان. وأما في غيبته بأنواع الغيبة فهذا لا يسقط الوجوب إذ ليس فيه إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة. ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمة وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه إلا إذا كان المنكر هو الغيبة، وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة فتحرم هذه الحسبة لأنها سبب زيادة المعصية، وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ويقتصر على غيبته فلا تجب لعيه الحسبة لأن غيبته أيضاً معصية في حق المغتاب، ولكن يستحب له ذلك ليفدى عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار. وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة وعظم الخطر في السكوت عنها ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له. وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه فهو في حقه دونه لأن تأذيه بأمر نفسه أشد من تأذيه بأمر غيره، ومن وجه الدين هو فوقه لأن له أن يسامح في حقوق نفسه وليس له المسامحة في حق غيره. فإذاً ينبغي أن يمتنع فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب فليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاء للمسلم أيضاً وليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إذاء للمسلم أيضاً وليس له ذلك إلا برضاهم. فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ولكنه يقصد أقاربه انتقاماً منه بواسطته، فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور. نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب فهذا فيه نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض.
فإن قيل: فلو قصد الإنسان قطع طرف في نفسه وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال ربما يؤدي إلى قتله فهل يقاتل عليه؟ فإن قلتم: يقاتل، فهو محال لأنه إهلاك نفس خوفاً من إهلاك طرف وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضاً؟ قلنا: يمنعه عنه ويقاتله إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسن سبيل المنكر والمعصية، وقتله في الحسبة ليس بمعصية وقطع طرف نفسه معصية. وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله فإنه جائز لا على معنى أنا نفدى درهماً من مال مسلم بروح مسلم فإن ذلك محال ولكن قصده لأخذ مال المسلمين معصية وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية وإنما المقصود دفع المعاصي.
فإن قيل: فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه فينبغي أن نقتله في الحال حسماً لباب المعصية؟ قلنا: ذلك لا يعلم يقيناً ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه، فإن قاتلنا قاتلناه ولم نبال بما يأتي على روحه.
فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون متصرم فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزيز وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد. الثانية: أن تكون المعصية راهنة صاحبها مباشر لها كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك يثبت للآحاد والرعية. الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يسعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعده لم يحضر الخمر؛ فهذا مشكوك فيه إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار، وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج، فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضع ومنعهم عن الوقوف بالتعنيف والضرب، وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية وإن كان مقصد العاصي وراءه كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية لأنها مظنة وقوع المعصية. وتحصيل مظنة المعصية معصية ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الإنكفاف عنها، فإذاً هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة.



[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين مايو 08, 2006 7:19 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الركن الثاني
للحسبة ما فيه الحسبة[/align]


وهو كل منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد فهذه أربعة شروط فلنحث عنها: الأول: كونه منكراً، ونعني به أن يكون محذور الوقوع في الشرع وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا لان المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعله أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونه أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه. وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه، وهذا لا يسمى معصية في حق المجنون إذ معصية لا عاصي بها محال، فلفظ المنكر أدل عليه وأعم من لفظ المعصية وقد أدرجنا في عموم هذا الصغيرة والكبيرة فلا تختص الحسبة بالكبائر، بل كشف العورة في الحمام والخلوة بالأجنبية وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنها وفي الفرق بين الصغيرة والكبيرة نظر سيأتي في كتاب التوبة.الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال وهو احتراز أيضاً عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر، فإن ذلك ليس إلى الآحاد وقد انقرض المنكر واحتراز عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينه حال أنه عازم على الشرب في ليلته فلا حسبة عليه إلا بالوعظ، وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضاً فإن فيه إساءة ظن بالمسلم وربما صدق في قوله ربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق. وليتنبه للدقيقة التي ذكرناها وهو أن الخلوة بالأجنبية معصية ناجزة وكذا الوقوف على باب حمام النساء وما يجري مجراه.
الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسس. فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهى الله تعالى عنه. وقصة عمر وعبد الرحمن بن عوف فيه مشهورة. - وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة - وكذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه. فقال وما هي؟ فقال قد قال تعالى "ولا تجسسوا" وقد تجسست. وقال تعالى " وأتوا البيوت من أبوابها" وقد تسورت من السطح وقال: "لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" وما سلمت. فتركه عمر وشرط عليه التوبة. ولذلك شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم؛ وهو على المنبر وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكراً فهل له إقامة الحد فيه؟ فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين فلا يكفي فيه واحد. وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم من كتاب آداب الصحبة فلا نعيدها.
فإن قلت: فما حد الظهور والاستتار؟ فاعلم أ، من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية إلا أن يظهر في الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار. فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة. فإذن إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت و رائحة. فإذا فاحت روائح الخمر فإن احتمل ن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يجوز قصدها بالإراقة. وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب فهذا محتمل. والظاهر جواز الحسبة. وقد تستر قارورة الخمر في الكم وتحت الذيل وكذلك الملاهي فإذا رؤى فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة. فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر. إذ الفاسق محتاج أيضاً إلى الخل وغيره. فلا يجوز أن يستدل بإخفائه وأنه لو كان حلالاً لما أخفاه لأن الأغراض تفيد الظن والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور. و كذلك العود ريما يعرف بشكله إذا كان الثوب السائر له رقيقاً. فدلالة الشكل كدلالة الرائحة الصوت وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته. والإبداء له درجات فتارة يبدو لنا بحاسة السمع. وتارة بحاسة الشم. وتارة بحاسة البصر. وتارة بحاسة اللمس. ولا يمكن أن يخصص ذلك بحاسة البصر بل المراد العلم. وهذه الحواس أيضاً تفيد العلم. فإذن إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر. وليس له أن يقول: أرني لأعلم ما فيه. هذا تجسس. ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلاً.
الشرط الرابع ‎: أن يكون كونه منكر معلوماً بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة. فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية. ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأ زوجته فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره. ولا الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده، بل على كل مقلد إتباع مقلده في كل تفصيل، فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكراً بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة، إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه، وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له: الفعل في نفسه حق ولكن لا في حقك وأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي، ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك وإن كانت صواباً عند الله. وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ويقول له: إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالإتباع ثم تقدم عليه، أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه، لأنه على خلاف معتقدك. ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات وأن يجامع الأصم مثلاً امرأة على قصد الزنا وعلم المحتسب أن هذه امرأته زوجه أبوه إياها في صغره. ولكنه ليس يدري وعجز عن تعريفه ذلك لصممه أو لكونه غير عارف بلغته، فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة. فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله. ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلاً من مشيئة أو غضب أو غيره وقد وجدت الصفة في قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك، ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع - أعني باللسان - لأن ذلك زنا إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب علام بأنها طلقت منه ثلاثاً، وكونهما غير عاصين لجهلهما بوجود الصفة لا يخرج الفعل عن كونه منكراً ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه. فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله وإن لم يكن منكراً عند الفاعل لجهله لا يمنع منه، وهذا هو الأظهر والعلم عند الله. فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي، وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكراً باتفاق المحتسب والمحتسب عليه. وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة، وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال. ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع، وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا: لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراماً، ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد؛ إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية ثم يستدبرها، ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الإستدبار هو الصواب. ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلاً؛ فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به.
فإن قلت: إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله: إن الله لا يرى؟ وقوله: وإن الخير من الله والشر ليس من الله؟ وقوله: كلام الله مخلوق؟ ولا على الحشوى في قوله: إن الله تعالى جسم وله صورة وإنه مستقر على العرش؟ بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله: الأجساد لا تبعث وإنما تبعث النفوس؛ لأن هؤلاء أيضاً أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أ، ذلك هو الحق. فإن قلت: بطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضاً ظاهر، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرهما؟ فاعلم أن المسائل نقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه: كل مجتهد مصيب. وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يتعرض على المجتهدين فيه إذ لم يعلم خطؤهم قطعاً بل ظناً، وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحد كمسالة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى، فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعاً ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه. فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق، كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخط-أ في مظان الاجتهاد.
فإن قلت: فمهما اعترضت على القدري في قوله: الشر ليس من الله، اعترض عليك القدري أيضاً في قولك: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يرى، وفي سائر المسائل. إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يعي أنه محق ونكير كونه مبتدعاً. فكيف يتم الاحتساب؟ فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول: ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة؛ فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان، وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان. فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل، وما يكون من جهة المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لتا يتقابل، وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه. وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات، ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ولا ينجو إلى تحريك الفتنة. بل لو أذن السلطان مطلقاً في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى، أو أنه مستقر على العرش مماس له، أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط.

[align=center]الركن الثالث
المحتسب عليه
[/align]


وشرطه أ، يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنساناً، ولا يشترط كونه مكلفاً، إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه واحتسب عليه وإن كان قبل البلوغ، ولا يشترط كونه مميزاً إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة منعه منه. نعم من الأفعال ما لا يكون منكراً في حق المجنون كترك الصلاة والصوم وغيره. ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل فإن ذلك أيضاً مما يختلف فيه المقيم والمسافر والمريض والصحيح. وغرضنا الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه لا ما بها يتهيأ للتفاصيل
فإن قلت: فاكتف بكونه حيواناً ولا تشترط كونه إنساناً، فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعاً لإنسان لكنا تمنعها منه كما تمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة؟ فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها، إذا الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله، صيانة للمنوع عن مقارفة المنكر ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله، وكذا منع الصبي عن شرب الخمر. والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين، أحدهما: حق الله تعالى فإن فعله معصية، والثاني: حق المتلف عليه، فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى. فلو قطع تطرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجيئ عليه بإذنه فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين. والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين. ولكن فيه دقيقة وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال المسلم؛ إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم نمنعها منه، بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات، ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظاً للمال، بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة، لا لمن ع الجرة من السقوط. فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة، ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشر الخمر وكذا الصبي، لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب: بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيهاً له من حيث إنه إنسان محترم. فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون فلا ينبغي أن يغفل عنها ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر، إذ قد يتردد في منهما من لبس الحرير وغير ذلك. وسنتعرض لما نشير إليه في الباب الثالث.
فإن قلت: فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها؟ وكل من رأى مالاً لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه؟ فإن قلتم: إن ذلك واجب فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخراً لغيره طول عمره؟ وإن قلتم، لا يجب فلم يحب الاحتساب على من يغصب مال غيره وليس له سبب سوى مراعاة مال الغير؟ فنقول: هذا بحث دقيق غامض. والقول الوجيز فيه أن نقول: مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم بل هو أقل درجات الحقوق، والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة وهذا أقل درجاتها وهو أولى بالإيجاب من رد السلام، فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام، بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الق إليه وجب عليه ذلك وعصى بكتمان الشهادة ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه، فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهماله تعريف القاضي بالشهادة، وذلك لا رخصة فيه، ولا يمكن أن يراعي فيه الأقل والأكثر حتى يقال إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلاً وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف ولا سبيل للمصير إلا ذلك، فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية كالغصب أو قتل عبد مملوك للغير، فهذا يجب المنع منه وإن كان فيه تعب ما، لأن المقصود حق الشرع، والغرض دفع المعصية، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي. والمعاصي كلها في تركها تعب وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهي غاية التعب. ثم لا يلزمه احتمال كل ضرر بل التفصيل فيه كما ذكرناه من درجات المحذورات التي يخافها المحتسب.
وقد اختلف الفقهاء في مسئلتين تقربان من غرضنا، إحداهما: أن الالتقاط هل هو واجب واللقطة ضائعة؟ والملتقط مانع من الضياع وساع في الحفظ؟ والحق فيه عندنا أن يفصل ويقال: إن كانت اللقطة في موضع لو تركها فيه لم تضع بل يلتقطها من يعرفها، أو تترك كما لو كان في مسجد أو رباط يتعين من يدخله وكلهم أمناء فلا يلزمه الالتقاط، وإن كانت في مضيعة، نظر، فإن كان عليه تعب في حفظها كما لو كنت بهيمة وتحتاج إلى علف واصطبل فلا يلزمه ذلك؛ لأنه إنما يجب الالتقاط لحق المالك. وحقه بسبب كونه إنساناً محترماً، والملتقط أيضاً إنسان وله حق في أن لا يتعب لأجل غيره كما لا يتعب غيره لأجله. فإن كانت ذهباً أو ثوباً أو شيئاً لا ضرر عليه فيه إلا مجرد تعب التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين. فقائل يقول: التعريف والقيام بشرطه فيه تعب فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقاً للثواب. وقائل يقول: إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين؛ فينزل ها منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به، فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعباً في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة، وإن كان في الطرف الآخر م البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر، فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به، وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله، ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبداً في محل الشبهة والنظر، وهي من الشبهات المزمنة التي ليس في مقدور البشر إزالتها؛ إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة، ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل.

[align=center]الركن الرابع
نفس الاحتساب
[/align]


وله درجات وآداب: أما الدرجات فأولها التعرف، ثم التعريف، ثم النهي، ثم الوعظ والنصح، ثم السب والتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب، ثم إيقاع الضرب وتحقيقه، ثم شهر السلاح، ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود.
أما الدرجة الأولى: وهي التعرف؛ ونعني طلب المعرفة بجريان المنكر وذلك منهى عنه - وهو التجسس الذي ذكرناه - فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره. نعم لو أخبره ععدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلاناً يشرب الخمر في داره أو بأن في داره خمراً أعده للشرب، فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان، ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه. وإن أخبره عدلان أو عدل واحد - وبالجملة كل من تقبل روايته لا شهادته - ففي جواز الهجوم على داره بقولهم، فيه نظر واحتمال، والأولى أن يمتنع لأن له حقاً في أن لا يتخطى داره بغير إذنه، ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين؛ فهذا أولى ما يجعل مرداً فيه. وقد قيل إنه كان نقش خاتم لقمان: الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت.
الدرجة الثانية: التعريف، فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله وإذا عرف أنه منكر تركه، كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيعلم أن ذلك لجهله بأن هذه ليست بصلاة ولو رضي بأن لا يكون مصلياً لترك أصل الصلاة، فيجب تعريفه باللطف من غير عنف: وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق، والتجهيل إيذاء وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل؟ وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله؟ والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية؛ لأن الجهل قبح في صورة النفس وسواد في وجهه، وصاحبه ملوم عليه، وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن، والنفس أشرف من البدن وقبحها أشد من قبح البدن. ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله، ولا في اختياره إزالته وتحسينه. والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم، فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله، ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه ثم لذته عند ظهور جمال علمه لغيره. وإذا كان التعريف كشفاً للعورة مؤذياً للقلب فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق فنقول له: إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء، ولعل قربتك خالية عن أهل العلم أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها، إنما شرط الصلاة الطمأنينة في الركوع والسجود. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء؛ فإن إيذاء المسلم حرام محذور كما أن تقريره على المنكر محذور، وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه فقد غسل الدم بالبول علي بالتحقيق. وأما إذا وقفت على خطأ في غير أمر الدين فلا ينبغي أن ترده عليه فإنه يستفيد منك علماً ويصير لك عدواً، إلا إذا علمت أنه يغتنم العلم وذلك عزيز جداً.
الدرجة الثالثة: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى؛ وذلك فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً، كالذي يواظب على الشرب أو على الظلم أو على اغتياب المسلمين أو ما يجري مجراه، فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك وتحكى له سير السلف وعبادة المتقين؛ وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، بل ينظر إليه نظر المترحم عليه ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة، وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها فإنها مهلكة، وهي أن العالم يرى - عند التعريف - عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل؛ فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل. فإن كان الباعث هذا فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه؟ ومثال هذا المحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه وهو غاية في الجهل. وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين، أحدهما: من جهة دالة العلم، والآخر: من جهة دالة الاحتكام والسلطنة. وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه، وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه. فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه وهو يود أن يكفى بغيره فليحتسب فإن باعثه هو الدين، وإن كان اتعاظ ذلك العاصي بوعظه وانزجاره بزجره أحب إليه من اتعاظه أولاً على نفسه. وعند هذا يقال له ما قيل لعيسى عليه السلام: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني. وقيل لداود الطائي رحمه الله: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمخرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟ فقال أخاف عليه السوط، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه السيف، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه الداء الدفين وهو العجب.
الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن، وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح، وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام "أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون" ولسنا نعني بالسب والفحش بما فقيه نسبة إلى الزنا ومقدماته، ولا الكذب بل أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد من جملة الفحش، كقوله: يا فاسق يا أحمق يا جاهل ألا تخاف الله، وكقوله: يا سوادى يا غبي وما يجري هذا المجرى. فإن كل فاسق فهو أحمق وجاهل، ولولا حمقه لما عصى الله تعالى بل كل من ليس بكيس فهو أحمق. والكيس من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكياسة حيث قال: "الكيس من دان نفسه وعمل ملا بعد الموت. والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله".
ولهذه الرتبة أدبان؛ أحدهما: أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف. والثاني: أن لا ينطق خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره فلا ينبغي أن يطلقه. بل يقتصر على إظهار الغضب والاستحقار له والازدراء بمحله لأجل معصيته. وإن علم أنه لو تكلم ضرب ولو اكفهر وأظهر الكراهة بوجهه لم يضرب لزمه ولم يكفه الإنكار بالقلب، بل يلزمه أن يقطب وجهه ويظهر الإنكار له.
الدرجة الخامسة: التغيير باليد؛ وذلك ككسر الملاهي وإراقة الخمر وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه ومنعه من الجلوس عليه ودفعه عن الجلوس على مال الغير وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله وإخراجه من المسجد إذا كان جالساً وهو جنب وما يجري مجراه، ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض.
فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة.
وفي هذه الدرجة أدبان، أحدهما: أن لا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره، وإذا قدر على أن يكفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل درور ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه، فإن في الوقت الوقوف على حد الكسر نوع عسر، فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه وتولاه من لا حجر عليه في فعله.
الثاني: أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه، وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج، ولا برجله إذا قدر على جره بيده؛ فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر. وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء، وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفها بحجر فله ذلك، وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر إذ صار حائلاً بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر، ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالجرح والضرب لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذن لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه. ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرءوس ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق ومنعوه فله كسرها، فهذا عذر. وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم ولكن كان يضيع في زمانه وتتعطل عليه أشغاله فله أ، يكسرها فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظرف الخمر، وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر فكسره لزمه الضمان.
فإن قلت: فهلا جاز الكسر لأجل الزجر؟ وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض المغصوبة ليكون ذلك أبلغ في الزجر؟ فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل، والعقوبة تكون على الماضي، والدفع على الحاضر الراهن. وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر، فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق. وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية. نعم الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه وأقول: له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور زجراً. وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيداً للزجر ولم يثبت نسخه ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة. فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك. وإذا كان هذا منوطاً بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية.
فإن قلت: فليجز للسلطان زجل الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم وتخريب دورهم التي فيها يشربون ويعصون وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى المعاصي؟ فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجاً عن سنن المصالح ولكنا لا نبتدع المصالح بل نتبع فيها. وكسر ظروف الخمر قد ثبت عند شدة الحاجة. وتركه بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخاً بل الحكم يزول بزوال العلة ويعود بعودها. وإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الإتباع ومنعنا آحاد الرعية منه لخفاء وجه الاجتهاد فيه. بل نقول لو أريقت الخمور أولاً فلا يجوز كسر الأواني بعدها وإنما جاز كسرها تبعاً للخمر. فإذا خلت عنها فهو إتلاف مال إلا أن تكون ضارية بالخمر لا تصلح إلا لها.
فكان الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقروناً بمعنيين؛ أحدهما: شدة الحاجة إلى الزجر، والآخر: تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها. وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما. ومعنى ثالث: وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر وهو أيضاً مؤثر فلا سبيل إلى إلغائه. فهذه تصرفات دقيقة فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها.
الدرجة السادسة: التهديد والتخويف؛ كقوله دع عنك هذا أولاً كسرن رأسك أو لأضربن رقبتك أو لآمرن بك وما أشبهه، وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه. والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله لأنهين دارك أو لأضربن ولدك أو لأسببن زوجتك وما يجري مجراه، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله من غير عزم فهو كذب. نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه إلى حد معلوم يقتضيه الحال، وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه. وليس ذلك من الكذب المحذور بل المبالغة في مثل ذلك معتادة وهو معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين، وذلك مما قد رخص فيه للحاجة وهذا في معناه، فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص. وإلى هذا المعنى بما لا يفعل، وهذا غير مرضي عندنا فإن الكلام القديم لا يتطرق إليه الخلف وعداً كان أو وعيداً، وإنما يتصور هذا في حق العباد، وهو كذلك إذا لخلف في الوعيد ليس بحرام.
الدرجة السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح، وذلك جائز للآحاد بشرط الحق إلى الآداء بالحبس، فإن أصر المحبوس وعلم القاضي قدرته على أداء الحق وكونه معانداً فله أن يلزمه الأداء بالضرب على التجريج كما يحتاج إليه. وكذلك المحتسب يراعي التدريج فإن احتاج إلى شهر سلاح و كان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة. كما لو قبض فاسق مثلاً على امرأة وكان يضرب بمزمار معه وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ قوسه ويقول له: خل عنها أو لأرمينك. إن لم تخل عنها فله أن يرمى وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه ويراعي فيه التدريج. وكذلك يسل سيفه ويقول اترك هذا المنكر أو لأضربنك. فكل ذلك دفع المنكر ودفعه واجب بكل ممكن. ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله وما يتعلق بالآدميين.
وقالت المعتزلة: ما لا يتعلق بالآدميين فلا حسبة فيه إلا بالكلام أو بالضرب ولكن للإمام لا للآحاد.
الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح. وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا. فهذا قد ظهر الختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام. فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد.
وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث. وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب. والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف. ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه. ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر. فكذلك قمع أهل الفساد جائز لأن الكافر لا بأس بقتله والمسلم إن قتل فهو شهيد. فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله. والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد. وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة. فلا يغير به قانون القياس. بل يقال: كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وبأعوانه. فالمسألة إذن محتملة - كما ذكرناه - فهذه درجات الحسبة فلنذكر آدابها والله الموفق.
باب آداب المحتسب قد ذكرنا تفاصيل الآداب في آحاد الدرجات. ونذكر الآن جملها ومصادرها فنقول جميع آداب المحتسب مصدرها ثلاث صفات في المحتسب: العلم. والورع. وحسن الخلق.
أما العلم: فليعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقتصر على حد الشرع فيه.
والورع: ليردعه عن مخالفة معلومة فما كل من علم عمل بعلمه. بل ربما يعلم أنه مسرف في الحسبة وزائد على الحد المأذون فيه شرعاً ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض. وليكن كلامه ووعظه مقبولاً فإن الفاسق يهزأ به إذا احتسب ويورث ذلك جراءة عليه.
وأما حسن الخلق: فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأسبابه. والعلم والورع لا يكفيان فيه. فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله بحسن الخلق. وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق والقدرة على ضبط الشهوة والغضب. وبه يصبر المحتسب على ما أصابه في دين الله. وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه بشتم أو ضرب نسي الحسبة وغفل عن دين الله واشتغل بنفسه. بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم.
فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات. وإن فقدت لم يندفع المنكر. بل ربما كانت الحسبة أيضاً منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها ودل على هذه الآداب قول صلى الله عليه وسلم "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه" وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه، وهذا يدل على أنه يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به وينهي عنه وكذا الحم. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا كانت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وقد قيل:


[poet font="Traditional Arabic,5,darkred,bold,italic" bkcolor="purple" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله
من ذم شيئاً وأتى مثلـه فإنما يزرى على عقله
[/poet]


ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعاً بالفسق ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس. فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله. فقال صلى الله عليه وسلم "بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله" وأوصى بعض السلف بنيه فقال: إن أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر وليثق بالثواب من الله فمن وثق بالثواب من الله لم يجد مس الأذى، فإذن من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر. ولذلك قرن الله تعالى الصبر: بالأمر بالمعروف. فقال حاكياً عن لقمان: "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك".ومن الآداب تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة فقد روي عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار أولاً وأخرج السنور، ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب: لا أعطينك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك. وهو كما قال فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة لم تتيسر له الحسبة. قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك بين قومك؟ قال: حسنة، قال: إن التوارة تقول، إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه. فقال أبو مسلم: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم.
ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذ وعظه واعظ وعنف له في القول فقال: يا رجل ارفق فقد بعثت الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم. فقد روى أبو إمامة: أن غلاماً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله تأذن لي في الزنا؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قربوه أدن" فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي عليه الصلاة والسلام "أتحبه لأمك؟" فقال: لا جعلني الله فداك، قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك؟" قال: لا جعلني الله فداك، قال "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك؟" وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك. وهو صلى الله عليه وسلم يقول: "كذلك الناس لا يحبونه" وقالا جميعاً في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: "اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه" يعني من الزنا.
وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله: إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال الفضيل: ما أخذ منهم إلا دون قه، ثم خلا به وعذله ووبخه فقال سفيان: يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين فإنا لنحب الصالحين. وقال حماد ابن سلمة: إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة قال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك. فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال: لا ولا كرامة وشتمكم. وقال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إلي يا ابن أخي؛ فاستحي الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه، ثم قال له: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه: بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف؛ فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه؛ فأدخله عليه فقال له. أما استحييت لنفسك؟ أما استحييت لشرفك؟ أما ترى من ولدك؟ فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكساً رأسه ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب، فقال: ادن مني، فقبل رأسه وقال أحسنت يا بني فكان عن الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث: وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكراً فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون. وعن الفتح بن شخرف قال: تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره، وكان الرجل شديد البدن؛ فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحكم كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض؛ ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقاً كثيراً ومضت المرأة لحالها فسألوه ما حالك؟ فقال: ما أدري! ولكن حاكني شيخ وقال لي: إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل؛ فضعفت لقوله قدما وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل؟ فقالوا له: هو بشر بن الحارث، فقال: وا سوأتاه كيف ينظر إلي بعد اليوم؟ وحم الرجل من يومه وماتت يوم السابع، فكذلك كانت عادة أهل الدين في الحسبة. وقد نقلنا فيها آثاراً وأخباراً في باب البغض في الله والحب في الله من كتاب آداب الصحبة فلا نطول بالإعادة. فهذا تمام النظر في درجات الحسبة وآدابها والله الموفق بكرمه والحمد لله على جميع نعمه.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مايو 10, 2006 8:05 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الباب الثالث
في المنكرات المألوفة في العادات
فنشير إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها إذ لا مطمع في حصرها واستقصائها
فمن ذلك منكرات المساجد
[/align]



اعلم أن المنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة، فإذا قلنا: هذا منكر مكروه. فاعلم أ، المنع منه مستحب والسكوت عيه مكروه وليس بحرام، إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه. وإذا قلنا منكر محظور، أو قلنا منكر مطلقاً، فنريد به المحظور ويكون السكوت عليه مع القدرة محظوراً.
فمما يشاهد كثيراً في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهير عنه إلا عند الحنفي الذي يعتقد أن ذلك لا يمنع صحة الصلاة، إذ لا ينفع النهي معه. ومن رأى مسيئاً في صلاته فسكت عليه فهو شريكه. هكذا ورد به الأثر. وفي الخبر ما يدل عليه، إذ ورد في الغيبة أن المستمع شريك القائل وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة من نجاسة على ثوبه لا يراها، أو انحراف عن القبلة بسبب ظلام أو عمى فكل ذلك تجب الحسبة فيه.
ومنها قراءة القرآن باللحن يجب النهي عنه ويجب تلقين الصحيح. فإن كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في أمثال ذلك ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به، فإن هذا أفضل من ذكره وتطوعه، لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها، فهي أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها. وإن كان ذلك يمنعه عن الوراقة مثلاً أو عن الكسب الذي هو احتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادراً على التعلم فليمتنع من القراءة قبل التعلم فإنه عاص به، وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرؤه لحناً فليتركه وليجتهد في تعلم الفاتحة وتصحيحها، وإن كان الأكثر صحيحاً وليس يقدر على التسوية فلا بأس له أن يقرأ، ولكن ينبغي أن يخفض به الصوت حتى لا يسمع غيره. ولمنعه سراً منه أيضاً وجه ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها فلست أرى به بأسا والله أعلم.
ومنها تراسل المؤذنين في الآذان وتطويلهم بمد كلماته وانحرافهم عن صوب القبلة بجميع الصدر في الحيعلتين، أو انفراد كل واحد منهم بأذان ولكن من غير توقف إلى انقطاع أذان الآخر، بحيث يضطرب على الحاضرين جواب الأذان لتداخل الأصوات. فكل ذلك منكرات مكروهة يجب تعريفها. فإن صدرت عن معرفة فيستحب المنع منها والحسبة فيها. وكذلك إذا كان للمسجد مؤذن واحد وهو يؤذن قبل الصبح فينبغي أن يمنع من الأذان بعد الصبح، فذلك مشوش للصوم والصلاة على الناس إلا إذا عرف أنه يؤذن قبل الصبح حتى لا يعول على أذانه في صلاة وترك سحور. أو كان معه مؤذن آخر معروف الصوت يؤذن مع الصبح.
ومن المكروهات أيضاً تكثير الأذان مرة بعد أخرى بعد طلوع الفجر في مسجد واحد في أوقات متعاقبة متقاربة، إما من واحد أو جماعة، فإنه لا فائدة فيه، إذا لم يبق في المسجد نائم ولم يكن الصوت مما يخرج عن المسجد حتى ينبه غيره فكل ذلك من المكروهات المخالفة لسنة الصحابة والسلف.
ومنها أن يكون الخطيب لابساً لثوب أسود يغلب عليه الإبريسم، أو ممسكاً لسيف مذهب فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وأما مجرد السواد فليس بمكروه لكنه ليس بمحبوب إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض. ومن قال إنه مكروه وبدعة أراد به أنه لم يكن معهوداً في العصر الأول، ولكن إذا لم يرد فيه نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ومكروهاً ولكنه ترك للأحب.
ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة. فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وكذا الواعظ المبتدع يجب منعه ولا يجوز حضور مجلسه إلا على قصد إظهار الرد عليه؛ إما للكافة إن قدر عليه أو لبعض الحاضرين حواليه فإن لم يقدر فلا يجوز سماع البدع. قال الله تعالى لنبيه: "فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره". ومهما كان كلامه مائلاً إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي، وكان الناس يزدادون بكلامه جراءة وبعفو الله وبرحمته وثوقاً يزيد بسببه رجاؤهم على خوفهم منكر، ويجب منعه عنه لأن فساد ذلك عظيم، بل لو رجح خوفهم على رجائهم فذلك أليق وأقرب بطباع الخلق فإنهم إلى الخوف أحوج وإنما العدل تعديل الخوف والرجاء كما قال عمر رضي الله عنه: لو نادى مناد؛ ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً، لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل. ومهما كان الواعظ شاباً متزيناً للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه، فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح، ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله. بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين، وإلا فلا يزداد الناس به إلا تمادياً في الضلال، ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإن ذلك أيضاً مظنة الفساد، والعادات تشهد لهذه المنكرات، ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلوات ومجالس الذكر إذا خيفت الفتنة بهن فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعهن من الجماعات، فقالت: لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثن بعده لمنعهن وأما اجتياز المرأة في المسجد مستترة فلا تمنع منه إلا أن الأولى أن لا تتخذ المسجد مجازاً أصلاً. وقراءة القراء بين يدي الوعاظ مع التمديد والألحان على وجه يغير نظم القرآن، ويجاوز حد التنزيل منكر مكروه شديد الكراهة أنكره جماعة من السلف.
ومنها الحق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات، وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشادهم الأشعار وما يجري مجراه، فهذه الأشياء منها ما هو محرم لكونه تلبيساً وكذباً، كالكذابين من طرقية الأطباء وكأهل الشعبذة والتلبيسات وكذا أرباب التعويذات في الأغلب يتوصلون إلى بيعها بتلبيسات على الصبيان والسوادية فهذا حرام في المسجد وخارج المسجد ويجب المنع منه. بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فهو حرام.
ومنها ما هو مباح خارج المسجد كالخياطة وبيع الأدوية والكتب والأطعمة، فهذا في المسجد أيضاً لا يحرم إلا بعارض وهو أن يضيق المحل على المصلين ويشوش عليهم صلاتهم، فإن لم يكن شيء من ذلك فليس بحرام والأولى تركه ولكن شرط إباحته أن يجري في أوقات نادرة وأيام معدودة، فإن اتخاذ المسجد دكاناً على الدوام حرم ذلك ومنع منه. فمن المباحات ما يباح بشرط القلة فإن كثر صار صغيرة. كما أن من الذنوب ما يكون صغيرة بشرط عدم الإصرار فإن كان القليل من هذا لو فتح بابه لخيف منه أن ينجر إلى الكثير فليمنع منه، وليكن هذا المنع إلى الوالي أو إلى القيم بمصالح المسجد من قبل الوالي لأنه لا يدرك ذلك بالاجتهاد، وليس للآحاد المنع مما هو مباح في نفسه لخوفه أن ذلك يكثر.
ومنها دخول المجانين والصبيان والسكارى في المسجد، ولا بأس بدخول الصبي المسجد إذا لم يعلب، ولا يحرم عليه اللعب في المسجد ولا السكوت على لعبه إلا إذا اتخذ المسجد ملعباً وصار ذلك معتاداً فيجب المنع منه، فهذا مما يحل قليله دون كثيره، ودليل حل قليله ما روي في الصحيحين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف لأجل عائشة رضي الله عنها حتى نظرت إلى الحبشة يزفنون ويلعبون بالدرق والحراب يوم العيد في المسجد"، ولا شك في أن الحبشة لو اتخذوا المسجد ملعباً لمنعوا منه، ولم ير ذلك على الندرة والقلة منكراً حتى نظر إليه، بل أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبصرهم عائشة تطييباً لقلبها إذ قال دونكم "يا بني أرفدة" كما نقلناه في كتاب السماع. وأما المجانين فلا بأس بدخولهم المسجد إلا أن يخشى تلويثهم له، أو شتمهم أو نطقهم مما هو فحش، أو تعاطيهم لما هو منكر في صورته ككشف العورة وغيره. وأما المجنون الهادئ الساكن الذي قد علم بالعادة سكونه وسكوته فلا يجب إخراجه من المسجد. والسكران في معنى المجنون فإن خيف منه القذف - أعني القيء - أو الإيذاء باللسان وجب إخراجه. وكذا لو كان مضطرب العقل فإنه يخاف ذلك منه، وإن كان قد شرب ولم يسكر والرائحة منه تفوح فهو منكر مكروه شديد الكراهة. وكيف لا ومن أكل الثوم والبصل، فقد نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضور المساجد؟ ولكن يحمل ذلك على الكراهة والأمر في الخمر أشد.
فإن قال قائل: ينبغي أن يضرب السكران ويخرج من المسجد زجراً قلنا: لا، بل ينبغي القعود في المسجد ويدعى إليه ويؤمر بترك الشرب مهما كان في الحال عاقلاً، فأما ضربه للزجر فليس ذلك إلى الآحاد بل هو إلى الولاة وذلك عند إقراره أو شهادة شاهدين، فأما لمجرد الرائحة فلا. نعم إذا كان يمشي بين الناس متمايلاً بحيث يعرف سكره فيجوز ضربه في المسجد وغير المسجد منعاً له عن إظهار أثر السكر، فإن إظهار أثر الفاحشة فاحشة والمعاصي يجب تركها، وبعد الفعل يجب سترها وستر آثارها، فإن كان مستتراً مخفياً لأثره فلا يجوز أن يتجسس لعيه. والرائحة قد تفوح من غير شرب. بالجلوس في موضع الخمر وبوصوله إلى الفم دون الابتلاع، فلا ينبغي أن يعول عليه.


[align=center]منكرات الأسواق[/align]

من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة، وإخفاء العيب. فمن قال: اشتريت هذه السلعة مثلاً بعشرة وأربح فيها كذا وكان كاذباً فهو فاسق. وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه، فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكاً له في الخيانة وعصى بسكوته. وكذا إذا علم به عيباً فيلزمه أن ينبه المشتري عليه وإلا كان راضياً بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل من عرفه تغييره بنفسه أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره.
ومنها ترك الإيجاب والقبول والاكتفاء بالمعاطاة، ولكن ذلك في محل الاجتهاد فلا ينكر إلا على من اعتقد وجوبه. وكذا في الشروط الفاسدة المعتادة بين الناس يجب الإنكار فيها فإنها مفسدة للعقود. وكذا في الربويات كلها وهي غالبة. وكذا سائر التصرفات الفاسدة.
ومنها بيع الملاهي وبيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الصبيان، فتلك يجب كسرها والمنع من بيعها كالملاهي وكذلك بيع الأواني المتخذة من الذهب والفضة وكذلك بيع ثياب الحرير، وقلانس الذهب والحرير أعني التي لا تصلح إلا للرجال، أو يعلم بعادة البلد أنه لا يلبسه إلا لرجال، فكل ذلك منكر محظور وكذلك من يعتاد بيع الثياب المبتذلة المقصورة التي يلبس على الناس بقصارتها وابتذالها ويزعم أنها جديدة فهذا الفعل حرام والمنع منه واجب، وكذلك تلبيس انخراق الثياب بالرفو وما يؤدي إلى الالتباس، وكذلك جميع أنواع العقود المؤدية إلى التلبيسات وذلك يطول إحصاؤه. فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره.


[align=center]منكرات الشوارع[/align]


فمن المنكرات المعتادة فيها: وضع الاسطوانات، وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة. وغرس الأشجار، وإخراج الرواشن والأجنحة، ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطريق، فكل ذلك منكر ن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة وإن لم يؤد إلى ضرر أصلاً لسعة الطريق فلا يمنع منه نعم يجوز وضع الحطب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت، فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه. وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب. وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة والمرعى هو الحاجة التي ترد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات.
ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق، أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع، وإلا فلا منع إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك. نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل. وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر يجب منع الملاك منه. وكذلك ذبح القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه، بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحاً فإن في ذلك تضييقاً بالطريق وإضراراً بالناس بسبب ترشيش النجاسة، وبسبب استقذار الطباع للقاذورات: وكذلك طرح القمامة على جواد الطرق، وتبديد قشور البطيخ. أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذلك إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب. أو يضيق الطريق، فلا يمنع منه في الطرق الواسعة إذ العدول عنه ممكن فأما ترك مياه المطر والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح فذلك منكر، ولكن ليس يختص به شخص معين، إلا الثلج الذي يختص بطرحه على الطريق واحد، والماء الذي يجتمع على الطريق من ميزاب معني، فعلى صاحبه على الخصوص كسح الطريق، إن كان من المطر فذلك حسبة عامة فعلى الولاة تكليف الناس القيام بها، وليس للآحاد فيها إلا الوعظ فقط وكذلك إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس فيجب منعه منه، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه، وإن كان يضيق الطريق ببسطه ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه من أن ينام على الطريق أو يقعد قعوداً يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع.



[align=center]منكرات الحمامات[/align]

منها الصورة التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام يجب إزالتها على كل من يدخلها إن قدر، فإن كان الموضع مرتفعاً لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة فليعدل إلى حمام آخر. فإن مشاهدة المنكر غير جائزة ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان.
ومنها كشف العورات والنظر إليها. ومن جملتها كشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ بل جملتها إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها.
ومنها الانبطاح على الوجه بين يدي الدلاك لتغميز الأفخاذ والأعجاذ، فهذا مكروه إن كان مع حائل ولكن لا يكون محظوراً إذا لم يخشى من حركة الشهوة. وكذلك كشف العورة للحجام الذمي من الفواحش. فإن المرأة لا يجوز لها أن تكشف بدنها الذمية في الحمام فكيف يجوز لها كشف العورات للرجال؟ ومنها غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة، وغسل الإزار والطاس النجس في الحوض وماؤه قليل؛ فإنه منجس للماء إلا على مذهب مالك فلا يجوز الإنكار فيه على المالكية ويجوز على الحنفية والشافعية وإن اجتمع مالكي وشافعي في الحمام فليس للشافعي منع المالكي من ذلك إلا بطريق الالتماس واللطف؛ وهو أن يقول له: إنا نحتاج أ، نغسل اليد أولاً ثم نغمسها في الماء، وأما أنت فمستغن عن إيذائي وتفويت الطهارة علي، وما يجري مجرى هذا، فإن مظان الاجتهاد لا يمكن الحسبة فيها بالقهر.
ومنها أن يكون في مداخل بيوت الحمام ومجاري مياهها حجارة ملساء مزلق يزلق عليها الغافلون فهذا منكر، ويجب قلعه وإزالته وينكر على الحمامي إهماله فعنه يفضى إلى السقطة؛ وقد تؤدي السقطة إلى انكسار عضواً وانخلاعه وكذلك ترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام منكر؛ ومن فعل ذلك وخرج وتركه فزلق به إنسان وانكسر عضو من أعضائه، وكان ذلك في موضع لا يظهر فيه بحيث يتعذر الاحتراز عنه فالضمان متردد بين الذي تركه وبين الحمامي، إذ حققه تنظيف الحمام، والوجه إيجاب الضمان على تاركه في اليوم الأول، وعلى الحمامي في اليوم الثاني إذ عادة تنظيف الحمام كل يوم معتادة، والرجوع في مواقيت إعادة التنظيف إلى العادات، فليعتبر بها. وفي الحمام أمور أخر مكروهة ذكرناها في كتاب الطهارة فلتنظر هناك.


[align=center]منكرات الضيافة[/align].

فمنها فرش الحرير للرجال فهو حرام. وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب، أو الشراب أو استعمال ماء الورد في أواني الفضة أو ما رءوسها من فضة.
ومنها إسدال الستور وعليها الصور.
ومنها سماع الأوتار أو سماع القينات.
ومنها اجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم، فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره. ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج، ومن لم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات. و أما الصور التي على النمارق والزرابي المفروشة فليس منكراً. وكذلك على الأطباق والقصاع، لا الأواني المتخذة على شكل الصور، فقد تكون رءوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه. وفي المكحلة الصغيرة من الفضة خلاف، وقد خرج أحمد بن حنبل عن الضيافة بسببها. ومهما كان الطعام حراماً، أو كان الوضع مغصوباً أو كانت الثياب المفروشة حراماً فهو من أشد المنكرات، فإن كان من فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور، إذ لا يحل حضور مجالس الشرب وإن كان مع ترك الشرب، ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته للفسق، وإنما النظر في مجالسته بعد ذلك، وأنه هل يجب بغضه في الله ومقاطعته كما ذكرناه في باب الحب والبغض في الله؟ وكذلك إن كان فيهم من يلبس الحرير أو خاتم الذهب فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضروره. فإن كان الثوب على صبي غير بالغ فهذا في محل النظر. والصحيح أن ذلك منكر ويجب نزعه عنه إن كان مميزاً لعموم قوله عليه السلام، "هذان حرام على ذكور أمتي" وكما يجب منع الصبي من شرب الخمر - لا لكونه مكلفاً، لكن لأنه يأنس به، فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه - فكذلك شهوة التزين بالحرير تغلب عليه إذا اعتاده، فيكون ذلك بذراً للفساد يبذر في صدره، فتنبت منه شجرة من الشهوة راسخة يعسر قلعها بعد البلوغ. أما الصبي الذي لا يميز فيضعف معنى التحريم في حقه ولا يخلو عن احتمال والعلم عند الله فيه والمجنون في معنى الصبي الذي لا يميز، نعم يحل التزين بالذهب والحرير للنساء من غير إساف. ولا أرى رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلق الذهب فيها، فإن هذا جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان: والتزين بالحلق غير مهم بل في التقريط بتعليقه على الأذن وفي المخانق والأسورة كفاية عنه. فهذا وإن كان معتاداً فهو حرام والمنع منه واجب، والاستئجار عليه غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه حرام؛ إلا أن يثبت من جهة النقل فيه رخصة، ولم يبلغنا إلى الآن فيه رخصة.
ومنها أن يكون في الضيافة مبتدع لا يتكلم ببدعته فيجوز الحضور مع إظهار الكراهة عليه والإعراض عنه كما ذكرناه في باب البغض في الله. وإن كان فيها مضحك بالحكايات وأنواع النوادر فإن كان يضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور وعند الحضور يجب الإنكار عليه، وإن كان ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح - أعني ما يقل منه - فأما اتخاذه صنعة وعادة ف ليس بمباح. وكل كذب لا يخفى أنه كذب ولا يقصد به التلبيس فليس من جملة المنكرات، كقول الإنسان مثلاً: طلبتك اليوم مائة مرة، وأعدت عليك الكلام ألف مرة؛ وما يجري مجراه مما يعلم أنه ليس يقصد به التحقيق فذلك لا يقدح في العدالة ولا ترد الشهادة به. وسيأتي حد المزا المباح والكذب المباح في كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات.
ومنها الإسراف في الطعام والبناء فهو منكر، بل في المال منكران؛ أحدهما: الإضاعة. والآخر: الإسراف.
فالإضاعة: تفويت مال بلا فائدة يعتد بها كإحراق الثوب وتمزيقه، وهدم البناء من غير غرض. والقاء المال في البحر، وفي معناه صرف المال إلى النائحة والمطرب، وفي أنواع الفساد لأنها فوائد محرمة شرعاً فصارت كالمعدومة.
وأما الإسراف: فقد يطلق لإرادة صرف المال إلى النائحة والمطرب والمنكرات، وقد يطلق على الصرف إلى المباحات في جنسها ولكن مع المبالغة.
والمبالغة تختلف بالإضافة إلى الأحوال فنقول: من لم يملك إلا مائة دينار مثلاً ومعه عياله وأولاده ولا معيشة لهم سواه فأنفق الجميع في وليمة فهو مسرف يجب منعه قال تعالى: "ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" نزل هذا في رجل بالمدينة قسم جميع ماله ولم يبق شيئاً لعياله فطولب بالنفقة فلم يقدر على شيء وقال تعالى: "ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" وكذلك قال عز وجل: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" فمن يسرف هذا الإسراف ينكر عليه ويجب على القاضي أن يحجر عليه؛ إلا إذا كان الرجل وحده وكان له قوة في التوكل صادقة؛ فله أن ينفق جميع ماله في أبواب البر. ومن له عيال أو كان عاجزاً عن التوكل فليس له أن يتصدق بجميع ماله. وكذلك لو صرف جميع ماله إلى نقوش حيطانه؛ وتزيين بنيانه فهو أيضاً إسراف محرم، وفعل ذلك له ممن له مال كثير ليس بحرام لأن التزيين من الأغراض الصحيحة، ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة، فكذا الدور، وكذلك القول في التجمل بالثياب والأطعمة فذلك مباح في جنسه، ويصير إسرافاً باعتبار حال الرجل وثروته: وأمثال هذه المنكرات كثيرة لا يمكن حصرها. فقس بهذه المنكرات المجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات الصوفية وخانات الأسواق فلا تخلو بقعة عن منكر مكروه أو محذور، واستقصاء جميع المنكرات يستدعي استيعاب جميع تفاصيل الشرع أصولها وفروعها فلنقتصر على هذا القدر منها.


[align=center]المنكرات العامة[/align]

اعلم أن كل قاعد في بيته - أينما كان - فليس خالياً من هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي؟ ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق، وواجب أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه - فرع من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب، فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين.أما العالم فلتقصيره في الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم.
وكل عامي عرف شوط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم. ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم، فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها. ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق: لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق. وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العلماء هم ورثة الأنبياء. وللإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي. وكذا كل من تيقن أن في السوق منكراً يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت، بل يلزمه الخروج، فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه، وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادى المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه وبغيره فيعلمه فرضه، وهذا اشغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه.

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس مايو 11, 2006 1:47 pm 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الباب الرابع
في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر
[/align]

قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما: التعريف والوعظ. وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر، ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه فذاك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه. فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك" وقال صلى الله عليه وسلم "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ووصف النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ماله من صديق" ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام، و نقتصر الآن على حكايات يعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم.
فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء. وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشاً نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم أباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا - فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى، فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام ثم مضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ثم قال: "أتسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح" قال: فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا؟ أنت الذي تقول كذا؟ لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم أنا الذي أقول ذلك" قال: فلقد رأيت رجل منهم أخذ بمجامع ردائه قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول - وهو يبكي - ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟: ثم انصرفوا عنه وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه وفي رواية أخرى عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ وروي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك. قال: فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم: مكانكم! وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل" وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم. وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال كان عينا أبو موسى الأشعري أمير بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال: فغاظني ذلك منه، فقمت إليه فقلت له: أين أنت من صاحبه تفضله عليه؟ فضع ذلك جمعاً ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي. فكتب إليه عمر: أن أشخصه إلي. قال: فاشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب لخرج إلي فقال: من أنت؟ فقلت: أنا ضبة فقال لي: لا مرحباً ولا أهلاً، قلت: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال. فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ولا شيء أتيته؟ فقال: ما الذي شجر بينك وبين عاملي؟ قال: قلت الآن أخبرك به، إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لك فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له أين أنت من صاحبه تفضله عليه؟ فضع ذلك جمعاً ثم كتب إليك يشكوني. قال: فاندفع عمر رضي الله عنه باكياً وهو يقول أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك؟ قال: قلت غفر الله لك يا أمير المؤمنين. قال: ثم اندفع باكياً وهو يقول: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه. قلت: نعم، قال:
أما الليلة: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من مكة هارباً من المشركين خرج ليلاً فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما هذا يا أبا بكر؟ ما أعرف هذا من فعلك" فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك. قال: فمشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت؛ فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فمم الغار فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، قال: فدخل فلم ير فيه شيئاً فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، وجعلن يضربن أبا بكر في قدمه وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا"، فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة لأبي بكر فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحاً فقلت: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس وارفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ فبماذا أتألفهم؟ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا عليه فكان والله رشيد الأمر. فهذا يومه. ثم كتب إلى أبي موسى يلومه.
وعن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان - وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته - فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم. فقال له: أجل أفعل، ثم نهض وقام. فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف! وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يوماً: قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخله علي ليحدثني. فوقف الحاجب على الباب مدة فمر به عطاء بن أبي رباح وهو لا يعرفه فقال له: يا شيخ أدخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك؛ فدخل عطاء على الوليد على حاجبه وقال له. ويلك أمرتك أن تدخل إلى رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إلي رجلاً لم يرضى أن يسميني بالاسم الذي اختاره الله لي. فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره، ثم قال لعطاء: اجلس، ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا أن في جهنم وادياً يقال له هبهب أعده الله لكل إمام جائر في حكمه. فصعق الوليد من قوله، وكان جالساً بين يدي عتبة باب المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشياً عليه؛ فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر ابن عبد العزيز فغمزه غمرة شديدة وقال له: يا عمر إن الأمر جد فجد، ثم قام عطاء وانصرف. فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: مكنت سنة أجد ألم غمزته في ذراعي. وكان ابن أبي شميلة يوصف بالعقل والأدب؛ فدخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: تكلم، قال: بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام تكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان لله؟ فبكي عبد الملك ثم قال: يرحمك الله لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الناس في القيامة لا ينجون من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه؛ فبكى عبد الملك ثم قال: لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالاً نصب عيني ما عشت. ويروى عن ابن عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه، ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل، فقال الحجاج مرحباً بأبي سعيد إلي إلي، ثم دعا بكرس فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه؛ فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفرقاً من شره؛ والحسن ساكت عاض على إبهامه؛ فقال: يا أبا سعيد مالي أراك ساكتاً؟ قال: ما عسيت أن أقول؟ قال: أخبرني برأيك في أبي تراب، قال: سمعت الله جل ذكره يقول: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم" فعلي ممن هدى الله من أهل الإيمان، فأقول: ابن عم النبي عليه السلام وختنه على ابنته وأحب الناس إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه ولا يحول بينه وبينها. وأقول: إن كانت لعلي هناة فالله حسبه والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا. فبسروجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضباً فدخل بيتاً خلفه وخرجنا. قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا عامر، يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلت فصدقت، أو سكت فسلمت؟ قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها، قال الحسن: فذاك أعظم من الحجة عليك وأشد في التبعة. قال: وبعث الحجاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم؟ قال: نعم، قال ما حملك على هذا؟ قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق "ليبيننه للناس ولا يكتمونه" قال يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك. وحكى أن حطيطاً الزيات جيء به إلى الحجاج فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدا لك، فإني عاهدت الله - عند المقام - على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال: فما تقول في؟ قال: أقول إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول إنه أعظم جرماً منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال: فقال الحجاج، ضعوا عليه العذاب. قال: فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئاً. قال: فقيل للحجاج إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر: فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: حطيط ألك حاجة؟ قال: شربة ماء فأتوه بشربة ثم مات، وكان ابن ثمان عشرة سنة رحمة الله عليه. وروى أن عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامر الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علماً، ثم أقبل على الحسن البصري فسأله، ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة - يعني الشعبي - وهذا رجل أهل البصرة - يعني الحسن - فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن. فأقبل على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم، وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة. فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي. فقلت أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطئ ويصيب، قال. فسر بقولي وأعجب به ورأيت البشر على وجهه وقال فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد قال: قد سمعت قول الأمير يقول إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة" ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفاً لكتاب الله فانبذه؛ يا ابن هبيرة اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتقدم على ربك وتنزل على عملك؛ يا ابن هبيرة إن الله ليمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. فقال ابن هبيرة: أربع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين؛ فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى ما ولاه من أمر هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته. فقال الحسن: يا ابن هبيرة، الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد، يا ابن هبيرة: إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقي رجلاً يغريك ويمنيك. فقام ابن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره
وحرمتنا معروفه وصلته فقال: إليك عني يا عامر، قال: فخرجت إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفينا فكان أهلاً لما أدى إليه كنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف وما شهدنا مشهد إلا برز علينا. وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة لهم. قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه. ودخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة فقال له: ما تقول في القدر؟ فقال: جيرانك أهل القبور فتفكر فيهم فإن فيهم شغلاً عن القدر.
وعن الشافعي رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد بن علي قال: إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب، وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن ابن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال: فسأله، فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب؟ فقال: أشد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثير والأذى لهم. فقال أبو جعفر: قد سمعتم، فقال الغفاريون: يا أيمر المؤمنين سله عن الحسن بن زيد. فقال: يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد؟ فقال: أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه، فقال: قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح؟ فقال: يا أمير المؤمنين أسأله عن نفسك. فقال: مما تقول في؟ قال: تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: أسألك بالله إلا أخبرتني. قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك؟ قال: والله لتخبرني، قال: أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله، وأشهد أن الظلم ببابك فاش. قال: فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له: أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك! قال: فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك، فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي، قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور لقيه سفيان الثوري فقال له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني قولك له ابنك المهدي، فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد.
وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال: بعث إلى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟ قال: قلت وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال: فقلت فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له؟ قال: قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وانبسطت في الكلام. فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه وإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثماً يزداد الله بها سخطاً عليه" يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة" يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله. إن الله هو الحق المبين. إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفاً رحيماً مواسياً لهم بنفسه في ذات يده محموداً عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق. وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً ولعوراتهم ساتراً. لا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحجاب. تبتهج بالنعمة عندهم. وتبتئس بما أصابهم من سوء. يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم - أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم - وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئمام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه؟ يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعباً؟ فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه؟ يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال: "اقتضي مني" فقال الأعرابي: قد أحللتك؛ بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبداً ولو أتيت على نفسي. فدعا له بخير" يا أمير المؤمنين رض نفسك لنفسك وخذ لها الأمان من بربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها" يا أمير المؤمنين إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك. يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك "ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" قال الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك، فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن؟ يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟ يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" قال الله تعالى في الزبور: يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي ثم لا تكون خلفتي ولا كرامة، يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبرو الكسير ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء. يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه، يا أيمر المؤمنين حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري: أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال: لا، قال: وكيف ذلك؟ قال: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من وال يلي شيئاً من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله فيوقف على جسر من النار ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسناً نجا بإحسانه وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فيهوي به في النار سبعين خريفاً" فقال له عمر رضي الله عنه ممن سمعت هذا؟ قال: من أبي ذر وسلمان فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا: نعم سمعناه من رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: وا عمراء من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض. قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني. ثم قلت: يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها" نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى الله إليه "وأنذر عشيرتك الأقربين" فقال: يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني عنكم من الله شيئاً إن لي عمل ولكم عملكم وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يطلع منه على عورة ولا يخاف منه على حرة ولا تأخذه في الله لومة لأئم. وقال: الأمراء أربعة؛ فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه بالرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده" وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً.
وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة، فقال له: يا جبريل صف لي النار فقال: إن الله تعالى أمر بها فأوقد عيها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلت، ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه؛ فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل عليه السلام لبكائه فقال: أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه" قال: أخاف أن أبتلي به هاروت وماروت فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء: يا جبريل ويا محمد إن الله قد آمنكما أن تعصياه فيعذبكما وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة" وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طالب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلب بمعصية الله أذله الله ووضعه. فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك. ثم نهضت فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة. قلت: أفعل إن شاء الله.
قال محمد بن مصعب: فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك.
وعن ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجاً، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إلى جار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فصلى بالناس، فخرج ذات اليلة حين اسخر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين؛ فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور؛ ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ومنا يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم؛ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له: أنت آمن على نفسك فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت. فقال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي؟ قال: وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاجاً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلائ النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا؟ فأئتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك من بالهدايا والأموال ليتقؤوا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل؛ فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم؛ فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه؛ فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؛ ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف؛ ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي: يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف؛ ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟ فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس: ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه؟ هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه، وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؛ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة؛ إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يساء، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني. فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد القتل؟ قال: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك؟ فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب؟ هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا؟ فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً، ثم قال: من ملك الدنيا؟ فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال. يا ليتني لم أخلق ولم أرك شيئاً، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً؟ قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك. فقال المنصور. اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل. وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فخرج فصلى بهم ثم قال للحرس: عليك بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ثم قال: يا ذا الرجل أما تتقي الله؟ قال: بلى، قال. أما تعرفه؟ قال: بلى، قال: فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك، قال: ليس لي إلى ذلك من سبيل، قال: يقتلني، قال: لا، قال: كيف؟ قال: تحسن تقرأ، قال: لا، فأخرج من مزود كان معه رقاً مكتوب فيه شيء فقال: خذه فجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج، قال: وما دعاء الفرج؟ قال: لا يرزقه إلا الشهداء، قلت: رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هاذ الدعاء وما فضله؟ قال: من دعابه مساء وصباحاً هدمت ذنوبه ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له رزقه وأعطى أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً، تقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في عملك، وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً. اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بنعمتك وأتبغض إليك بالمعاصي ولكن القى بك حملتني على غير الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك على إنك أنت التواب الرحيم. قال: فأخذته صيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ثم قال: ويلك وتحسن السحر؟ فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ فقال: هات الرق الذي أعطاك، ثم جعل يبكي وقال: وقد نجوت، وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف، ثم قال: أتعرفه؟ قلت: لا، قال ذلك الخضر عليه السلام.

وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر النسك والتقشف، وكان مؤاخياً لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديماً فهجره سفيان ولم يزره، فاشتاق هرون إلى زيارته ليخلوا به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هرون فكتب إليه كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هرون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر أما بعد، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت لك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل مؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليه كتابي فالعجل العجل. فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني. فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن سفيان الثوري فإذا رأيته فالق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان فقيل له هو في المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون ن عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا السلام علي برءوس الأصابع، فبقيت واقفاً فما منهم أحد يعرض على الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه. فما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه، فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال: يأخذه بعضكم يقرؤون فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده. قال عباد: فأخذه بعضهم فخله كأنه خائف من فم حية تنهشه، ثم فضه وقرأه، وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال: اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي. فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا. فقيل له: ما نكتب؟ فقال: اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، ن العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هرون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان. أما بعد: فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جلعتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك. أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى، يا هرون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بغفك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والآرامل والأيتام؟ أم هل رضي بذلك خلق من رعيتك؟ فشد يا هرون منزرك وأعد للمسألة جواباً وللبلاء جلباباً، واعلم أنك تقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً، يا هرون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت ستراً دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون؟ يشربون الخمور ويضربون من يشربها! ويزنون ويحدون الزاني؟ ويسرقون ويقطعون السارق! أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس؟ فكيف بك يا هرون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هرون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك، بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية، فاتق الله يا هرون في رعيتك واحفظ محمد صلى الله عليه وسلم في أمته وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحد بعد واحد فمنهم من تزود زاداً نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هرون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام. قال عباد: فألقي إلي الكتاب منشوراً غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله؟ فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم، فقلت: لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال: فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافياً راجلاً، فهزأ بي من كان على باب الخليفة. ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا مالي ولملك يزول عني سريعاً؟ ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي. فأقبل هرون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة لغيره. فقال هرون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وجده فاتركوا سفيان وشأنه. ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله. فرحم الله عبداً نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غداً من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق.

وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس، وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به؛ إذ أقلت هوادج هرون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين فكثف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال: لبيك يا بهلول فقال: يا أمير المؤمنين؛ حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء؛ لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة: فقال: أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني. قال: فأسبل هرون السجاف ومضى.
وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال: دخلت على الحرث المحاسبي رحمه الله فقلت له: يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك؟ فقال: كان هذا مرة، قلت له: فاليوم؟ قال: أكاتم حالي؟ إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأضن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فهيا فرح ما أعلنت بها. ولقد كنت ليلة قاعداً في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم علي ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت؟ فقال: أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهاداً فأي شيء عملك؟ قال: قلت له: كتمان المصائب واستجلاب الفوائد، قال: فصاح وقال: ما علمت أن أحداً بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته؟ قال الحرث: فأردت أن أزيد عليه فقلت له: أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم؟ قال: فصاح صيحة غشي عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل، ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه، فعلمت إزالة عقله فأخرجت له ثوباً جديداً وقلت له: هذا كفني قد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك فقال: هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف بالثوب وخرج فقلت له: أين تريد؟ فقال لي؟ قم معي، فلم يزل يمشي حتى دخل على المأمون فسلم عليه وقال: يا ظالم أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم، أستغفر الله من تقصيري فيك، أما تتقي الله تعالى فيما قد ملكك؟ وتكلم بكلام كثير ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب فأقبل عليه المأمون وقال: من أنت؟ قال: أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظاً فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم، قال: فأمر بضرب عنقه، فأخرج وأنا قاعد على الباب ملقوفاً في ذلك الثوب ومناد ينادي: من ولي هذا فليأخذه، قال الحرث: فاختبأت عنه فأخذه أقوام غرباء فدفنوه وكنت معهم لا أعلمهم بحاله. فأقمت في مسجد بالمقابر محزوناً على الفتى فغلبتني عيناي فإذا هو بين وصائف لم أر أحسن منهن وهو يقول: يا حارث أنت والله من الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم، قلت: وما فعلوا؟ قال الساعة يلقونك، فنظرت إلى جماعة ركبان فقلت: من أنتم؟ قالوا: الكاتمون أحوالهم حرك هذا الفتى كلامك له فلم يكن في قلبه مما وصفت شيء فخرج للأمر والنهي وإن الله تعالى أنزله معنا وغضب لعبده.
وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال؛ كان أبو الحسين النوري رجلاً قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكراً غيره ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقاً فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار "لطف" فقرأه وأنكره لأنه لم يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئاً يعبر عنه بلطف. فقال للملاح: إيش في هذه الدنان؟ قال: وإيش عليك امض في شغلك؟ فلما سمع النوري من الملاح هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته فقال: أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان؛ قال: وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي، هذا خمر للمعتضد يريد أن يعم به مجلسه؟ فقال النوري: وهذا خمر؟ قال: نعم، فقال: أحب أن تعطيني ذلك المدري، فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى انظر ما يصنع، فلما صارت المدري في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دناً دناً حتى أتى على آخرها إلا دناً واحداً، والملاح يستغيث، إلى أن ركب صاحب الجسر وهو يومئذ ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد - وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله - قال أبو الحسين: فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه وقال فأطرق مفكراً في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن، فقال: هات خبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن، فاستشعرت نفسي كبراً على أني أقدمت على مثلك فمنعت ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر. قال أبو الحسين فقلت: يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن شرطي فقال المعتضد: ما حاجتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالماً فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة، فكان أكثر أيامه بها خوفاً من أن يسأله أحد حاجة يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم، اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعلى أن يزقهم الشهادة، فلما أخصلوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها. وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا. ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر؟ والله المستعان على كل حال.
?تم كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحمد الله ودونه وحسن توفيقه

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مايو 14, 2006 9:16 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة
وهو الكتاب العاشر من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]

[align=center]الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأدب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه؛ وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم كثيراً.[/align]

أما بعد: فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة الأخلاق والآداب رشح المعارف، وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها، وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساويها. ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه. ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهر جمال الآداب النبوية، ولقد كنت عزمت على أن أختم ربع العادات من هذا الكتاب بكتاب جامع لآداب المعيشة لئلا يشق على طالبها استخراجها من جميع هذه الكتب، ثم رأيت كل كتاب من ربع العادات قد أتى على جملة من الآداب فاستثقلت تكريرها وإعادتها، فإن طلب الإعادة ثقيل والنفوس مجبولة على معاداة المعادات، فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد فأسردها مجموعة فصلاً فصلاً محذوفة الأسانيد ليجتمع فيه مع جميع الآداب تجديد الإيمان وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق الله تعالى وأعلاهم رتبة وأجلهم قدراً فكيف مجموعها؟ ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكر خلقته ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار ليكون ذلك معرباً عن مكارم الأخلاق والشيم، ومنتزعاً عن آذان الجاحدين لنبوته صمام الصمم. والله تعالى ولي التوفيق للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق والأحوال وسائر معالم الدين فإنه دليل المتحيرين ومجيب دعوة المضطرين. ولنذكر فيه أولاً بيان تأديب الله تعالى إياه بالقرآن، ثم بيان جوامع من محاسن أخلاقه، ثم بيان جملة من آدابه وأخلاقه، ثم بيان كلامه وضحكه، ثم بيان أخلاقه وآدابه في الطعام، ثم بيان أخلاقه وآدابه في اللباس، ثم بيان عفوه مع القدرة ثم بيان إغضائه عما كان يكره، ثم بيان سخاوته وجوده، ثم بيان شجاعته وبأسه، ثم بيان تواضعه، ثم بيان صورته وخلقته، ثم بيان جوامع معجزاته وآياته صلى الله عليه وسلم.

[align=center]بيان تأديب الله تعالى حبيبه وصفيه محمداً
صلى الله عليه وسلم بالقرآن
[/align]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه "اللهم حسن خلقي وخلقي" ويقول: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق" فاستجاب الله تعالى دعاءه وفاء بقوله عز وجل: "ادعوني أستجب لكم" فأنزل عيه القرآن وأدبه به فكان خلقه القرآن.
قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فسألتها عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن.
وإنما أدبه القرآن بمثل قوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وقوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وقوله: "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" وقوله: "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" وقوله: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم" وقوله: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" وقوله: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" وقوله: "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً" ولماكسرت رباعيته وشج يوم أحد فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم" فأنزل اله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء" تأديباً له على ذلك.
وأمثال هذه التأديبات في القرآن لا تحصر وهو عليه السلام المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يشرق النور على كافة الخلق فإنه أدب بالقرآن وأدب الخلق به ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق بما أوردناه في كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فلا نعيده، ثم لما أكمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" فسبحانه ما أعظم شأنه وأتم امتنانه ثم انظر إلى عميم لطفه وعظيم فضله كيف أعطى ثم أثني؟ فهو الذي زينه بالخلق الكريم ثم أضاف إليه ذلك فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم" ثم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق أن الله يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفافها قال علي رضي الله عنه يا عجباً لرجل مسلم يجتبيه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاة. فقال له رجل: أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال نعم وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيئ وقفت جارية في السبي فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي. فقال صلى الله عليه وسلم "يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق" فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله؛ الله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: "والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق" وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال" ومن ذلك حسن المعاشرة وكرم الصنيعة ولين الجانب وبذل المعروف وإطعام الطعام وإنشاء السلام وعيادة المريض المسلم براً كان أو فاجراً وتشييع جنازة المسلم وحسن الجوار لمن جاورت - مسلماً كان أو كافراً - وتوقير ذي الشيبة المسلم وإجابة الطعام والدعاء عليه والعفو والإصلاح بين الناس والجود والكرم والسماحة والابتداء بالسلام وكظم الغيظ والعفو عن الناس واجتناب ما حرم الإسلام من اللهو والباطل والغناء والمعازف كلها وكل ذي وتر وكل ذي دخل والغلبة والكذب والبخل والشح والجفاء والمكر والخديعة والنميمة وسوء ذات البين وقطيعة الأرحام وسوء الخلق والتكبر والفخر والاختيال والاستطالة والبذخ والفحش والتفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان والظلم. قال أنس رضي الله عنه: فلم يدع نصيحة جميلة غلا وقد دعانا إليها وأمرنا بها ولم يدع غشاً - أو قال عيباً، أو قال شيناً - إلا حذرناه ونهانا عنه ويكفي من ذلك كله هذه الآية "إن الله يأمر العدل والإحسان" الآية وقال معاذ: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معاذ أوصيك باتقاء الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح، وأنهاك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً أو تطيع آثماً أو تعصي إماماً عادلاً أو تفسد أرضاً وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية" فهكذا أدب عباد الله ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.

[align=center]بيان جملة من محاسن أخلاقه
التي جمعها بعض العلماء والتقطها من الأخبار [/align]



فقال: كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعف الناس لم تمس يده قط يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر مما يجد من الثمر والشعير ويضع سائر ذلك في سبيل الله لا يسأل شيئاً إلا أعطاه ثم يعود على قوت عامه فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء وكان يخصف النعل ويرفع الثوب ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم معهن وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد ويجيب دعوة العبد الحر ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب ويكافئ عيها ويأكلها ولا يأكل الصدقة ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين يغضب لربه ولا يغضب لنفسه وينفد الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه. وعرض عليه الانتصار بالمشركين على المشركين وهو في قلة وحاجة إلى إنسان واحد يزيده في عدد من معه فأبى وقال: أنا لا أنتصر بمشرك وجد ن فضلاء أصحابه وخيارهم قتيلاً بين اليهود فلم يحف عليهم ولا زاد على مر الحق بل وداه بمائة ناقة وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقون به وكان يعصب الحجر على بطنه مرة من الجوع ومرة يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد ولا يتورع عن مطعم حلال وإن وجد تمر أو دون خبز أكله وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز بر أو شعير أكله وإن وجد حلواً أو عسلاً أكله وإن وجد لبناً دون خبز اكتفى به وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله، لا يأكل متكئاً ولا على خوان منديله باطن قدميه لم يشبع من خبز بر ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى إيثاراً على نفسيه لا فقراً ولا بخلاً يجيب الوليمة ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس أشد الناس تواضعاً وأسكنهم في غير كبر وأبلغهم في غير تطويل وأحسنهم بشراً لا يهوله شيء من أمر الدنيا ويلبس ما وجد فمرة شملة ومرة برد حبرة يمانياً ومرة جبة صوف ما وجد من المباح لبس وخاتمه فضة يلبسه في خنصره الأيمن والأيسر يردف خلفه عبده أو غيره يركب ما أمكنه مرة فرساً ومرة بعيراً ومرة بغلة شهباء ومرة حماراً ومرة يمشي راجلاً حافياً بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة يعود المرضى في أقصى المدينة يحب الطيب ويكره الرائحة الرديئة ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ويتألف أهل الشرف بالبر لهم يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم لا يجفو على أحد يقبل معذرة المعتذر إليه يمزح ولا يقول إلا حقاً يضحك من غير قهقهة يرى اللعب المباح فلا ينكره يسابق أهله وترفع الأصوات عليه فيصبر وكان له لقاح وغنم يتقوت هو وأهله من ألبانها وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ولا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد له منه من صلاح نفسه يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته ولا يهاب ملكاً لملكه يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستوياً قد جمع تعالى له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، نشأ في بلاد الجهل والصحارى في فقره وفي رعاية الغنم لا أب له ولا أم فعلمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة وأخبار الأولين والآخرين وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا ولزوم الواجب وترك الفضول. وفقنا الله لطاعته في أمره والتأسي به في فعله آمين يا رب العالمين.

[align=center]بيان جملة أخرى من آدابه وأخلاقه[/align]

مما رواه أبو البحتري قال: ما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة وما لعن امرأة قط ولا خادماً بلعنة وقيل له وهو في القتال: لو لعنتم يا رسول اله فقال: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً" وكان إذا سئل أن يدعو على أحد مسلم أو كافر عام أو خاص عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له وما ضرب بيده أحداً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى، وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، وخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك وما كن يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته وقال أنس رضي الله عنه: والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه "لم فعلته؟" ولا لامني نساؤه إلا قال "دعوه إنما كان هذا بكتاب وقدر" قالوا: وما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مضجعاً، إن فرشوا له اضطجع وإن لم يفرش له اضطجع على الأرض وقد وصفه الله تعالى في التوراة قبل أن يبعثه في السطر الأول فقال: محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح؛ مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام ي-أتزر على وسطه هو ومن معه دعاة للقرآن والعلم يتوضأ على أطرافه. وكذلك نعته في الإنجيل: وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عيه وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال: "ألك حاجة؟" فإذا فرغ من حاجته عاد إلى صلاته، وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه لأنه كان حيث انتهى به المجلس جلس وما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجهه للجالس إليه ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواسع وأمانة قال الله تعالى: "فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" ولقد كان يدعوا أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم ويكنى من لم تكن له كنية فكان يدعى بما كناه به ويكنى أيضاً النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى ويكني الصبيان فيستلين به قلوبهم وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً وكان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس وأنفع الناس للناس ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات، وكان إذا قام من مجلسه قال: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إليه إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" ثم يقول "علمنيهن جبريل عليه السلام".

[align=center]بيان كلامه وضحكه صلى الله عليه وسلم[/align]

كان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس منطقاً وأحلاهم كلاماً ويقول:

أنا أفصح العرب وإن أهل الجنة يتكلمون فيها بلغة محمد صلى الله عليه وسلم وكان نزر الكلام سمح المقالة إذا نطق ليس بمهذار وكان كلامه كحرزات نظمن قالت عائشة رضي الله عنها: كان لا يسرد الكلام كسردكم هذا كان كلامه نزراً وأنتم تنثرون الكلام نثراً. قالوا: وكان أوجز الناس كلاماً وبذاك جاءه جبريل وكان مع الإيجاز يجمع كل ما أراد وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضاً بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه وكان جهير الصوت أحسن الناس نغمة وان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ولا يقول المنكر ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق ويعرض عمن تكلم بغير جميل ويكنى عما اضطره الكلام إليه مما يكره وكان إذا سكت تكلم جلساؤه ولا يتنازع عنده في الحديث ويعظ بالجد والنصيحة ويقول: "لا تضربوا القرآن بعضه ببعض فإنه أنزل على وجوه" وكان أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما تحدثوا به وخلطاً لنفسه بهم ولربما ضحك حتى تبدو نواجذه، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء به وتوقيراً له، قال: ولقد جاءه أعرابي يوماً وهو عيه السلام متغير اللون ينكره أصحابه فأراد أن يسأله فقالوا: لا تفعل يا أعرابي فإنا ننكر لونه فقال: دعوني فوالذي بعثه بالحق نبياً لا أدعه حتى يتبسم، فقال: يا رسول الله بلغنا أن المسيح يعني الدجال يأتي الناس بالثريد وقد هلكوا جوعاً أفترى لي بأبي أنت وأمي أن أكف عن ثريده تعففاً وتنزهاً حتى أهلك هرالا أم أضرب في ثرده حتى إذا تضلعت شبعاً آمنت بالله وكفرت به؟ قالوا: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: "لا بل يغنيك الله بما يغني به المؤمنين" قالوا: وكان من أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً ما لم ينزل عليه قرآن أو يذكر الساعة أو يخطب بخطبة عظة وكان إذا سر ورضي فهو أحسن الناس رضاً فإن وعظ وعظ بجد وإن غضب - وليس يغضب إلا الله - لم يقم لغضبه شيء وكذلك كان في أموره كلها وكان إذا نزل به الأمر فوض الأمر إلى الله وتبرأ من الحول والقوة واستنزل الهدى فيقول "اللهم أرني الحق حقاً فأتبعه وأرين المنكر منكراً وأرزقني اجتنابه وأعذني من أن يشتبه علي فأتبع هواي بغير هدى منك واجعل هواي تبعاً لطاعتك وخذ رضا نفسك من نفسي في عافية واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".

[align=center]بيان أخلاقه وآدابه في الطعام[/align]

كان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف والضفف ما كثرت عليه الأيدي، وكان إذا وضعت المائدة قال "بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة تصل به نعمة الجنة" وكان كثيراً إذا جلس يأكل يجمع ركبتيه وبين قدميه كما يجلس المصلي إلا أن الركبة تكون فوق الركبة والقدم فوق القدم ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" وكان لا يأكل الحار ويقول: "إنه غير ذي بركة وإن اله لم يطعمنا ناراً فأبردوه" وكان يأكل مما يليه ويأكل بأصابعه الثلاث وربما استعان بالرابعة ولم يأكل بأصبيعن ويقول: "إن ذلك أكلة الشيطان" وجاءه عثمان بن عفان رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه وقال: "ما هذا ياعبد الله؟" قال: بأبي أنت وأمي نجعل السمن والعسل في البرمة ونضعها على النار ثم نغليه ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل في البرمة، ثم نسوطه حتى ينضج فيأتي كما ترى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن هذا الطعام طيب" وكان يأكل خبر الشعير غير منخول وكان يأكل الغثاء بالرطب وبالملح وكان أحب الفواكه الرطبة إليه البطيخ والعنب وكان يأكل البطيخ بالخبز وبالسكر وربما أكله بالرطب ويستعين باليدين جميعاً، وأكل يوماً الرطب في يمينه وكان يحفظ النوى في يساره فمرت شاة فأشار إليها بالنوى فجعلت تأكل من كفه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتى فرغ وانصرفت الشاة، وكان رما أكل العنب خرطاً يرى زؤانه على لحيته كحرز اللؤلؤ وكان أكثر طعامه الماء والتمر وكان يجمع اللبن بالتمر ويسميهما الأطيبين وكان أحب الطعام إليه اللحم ويقول: "هو يزيد في السمع وهو سيد الطعام في الدنيا والآخرة ولو سألت ربي أن يطعمنيه كل يوم لفعل" وكان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول: "إنها شجرة أخي يونس عليه السلام" قالت عائشة رضي الله عنها وكان يقول "يا عائشة إذ طبختم قدراً فأكثروا فيها من الدباء فإنه يشد قلب الحزين" وكان يأكل لحم الطير الذي يصاد وكان لا يتبعه ولا يصيده ويحب أن يصاد له ويؤتى به فيأكله وكان إذا أكل اللحم لم يطأطئ رأسه إليه ويرفعه إلى فيه وفعاثم ينتهشه انتهاشاً وكان يأكل الخبز والسمن وكان يحب من الشاة الذراع والكف، ومن القدر الدباء ومن الخل ومن التمر والعجوة ودعا في العجوة بالبركة وقال: طهي من الجنة وشفاء من السم والسحر" وكان يحب من البقول الهندباء والباذروج والبقلة الحمقاء التي يقال لها الرجلة: وكان يكره الكليتين لمكانهما من البول وكان لا يأكل من الشاة سبعاً: الذكر والأنثيين والمثانة المرارة والغدد والحياء و الدم، ويكره ذلك وكان لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث وما ذم طعاماً قط لكن إن أعجبه أكله وإن كرهه تركه وإن عافه لم يبغضه إلى غيره وكان يعاف الضب والطحال ولا يحرمها وكان يعلق بأصابعه الصفحة ويقول: آخر الطعام أكثر بركة. وكان يلعق أصابعه من الطعام حتى تحمر وكان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة ويقول: إنه لا يدري في أي الطعام البركة: وإذا فرغ قال: "الحمد لله اللهم لك الحمد أطعمت فأشبعت وسقيت فأروبت لك الحمد غير مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه" وكان إذا أكل الخبز واللحم خاصة غسل يديه غسلاً جيداً ثم يمسح بفضل الماء على وجهه وكان يشرب في ثلاث دفعات وله فيها ثلاث تسميات وفي أواخرها ثلاث تحميدات وأن يمص الماء مصاً ولا يعب عبا وكان يدفع فضل سؤره إلى من على يمينه فإن كان من على يساره أجل رتبة قال للذي على يمينه "السنة أن تعطي فإن أجبت آثرتهم" وربما كان يشرب بنفس واحد حتى يفرغ وكان لا يتنفس في الإناء بل ينحرف عنه وأتى بإناء فيه عسل ولبن فأبى أن يشربه وقال: "شربتان في شربة وإدامان في إناء واحد؟" ثم قال صلى الله عليه وسلم "لا أحرمه ولكن أكره الفخر والحساب بفضول الدنيا غداً وأحب التواضع فإن من تواضع لله رفعه الله" وكان في بيته أشد حياء من العاتق لا يسألهم طعاماً ولا يتشهاه عليهم إن أطعموه أكل وما أعطوه قبل وما سقوه شرب وكان ربما قام فأخذ ما يأكل بنفسه أو يشرب.


[align=center]بيان آدابه وأخلاقه في اللباس[/align]

كان صلى الله عليه وسلم يلبس من الثياب ما وجد من إزار أو رداؤ أو قميص أو جبة أو غير ذلك وكان يعجبه الثياب الخضر وكان أكثر لباسه البياض ويقول: "ألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم" وكان يلبس القباء المحشق للحرب وغير الحرب وكان له قباء سندس فيلبسه فتحسن خضرته على بياض لونه وكانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين ويكون الأزار فوق ذلك إلى نصف الساق وكان قميصه مشدود الأزرار وربما حل الأزرار في الصلاة وغيرها وكانت له ملحفة مصبوغه بالزعفران وربما صلى بالناس فيها وحدها وربما ليس الكساء وحده ما عليه غيره وكان له كساء ملبد يلبسه ويقول "إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، وكان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة، وربما لبس إزار الواحد ليس عليه غيره ويعقد طرفيه بين كتفيه وربما أم به الناس على الجنائز وربما صلى في بيته في الإزار الواحد ملتحفاً به مخالفاً بين طرفيه ويكون ذلك الإزار الذي جامع فيه يومئذ وكان ربما صلى بالليل في الإزار ويرتدي ببعض الثوب مما يلي هدبه ويلقى البقية على بعض نسائه فيصلي كذلك ولقد كان له كساء أسود فوهبه فقالت له أم سلمة: بأبي أنت وأمي ما فعل ذلك الكساء الأسود؟ فقال: "كسوته" فقالت ما رأيت شيئاً قط كان أحسن من بياضك على سواده وقال أنس: وربما رأيته يصلي بنا الظهر في شملة عاقداً بين طرفيه وكان يتختم وربما خرج وفي خاتمه الخيط المربوط يتذكر به الشيء وكان يتخم به على الكتب ويقول الخاتم على الكتاب خير من التهمة وكان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمامة، وربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلى إليها وربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه وعلى جبهته وكانت له عمامة تسمى: السحاب، فوهبها من علي فربما طلع على فيها فيقول صلى الله عليه وسلم "أتاكم علي في السحاب" وكان إذا لبس ثوباً لبسه من قبل ميامنه ويقول: "الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس" وإذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً ثم يقول: "ما من مسلم يكسو مسلماً من سمل ثيابه لا يسكوه إلا لله إلا كان في ضمان الله وحرزه وخيره ما واراه حياً وميتاً" وكان له فراش من أدم حشوه ليف طوله ذراعان أو نحوه وعرضه ذراع وشبر أو نحوه وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقين تحته وكان ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره وكان من خلقه تسمية دوابه وسلاحه ومتاعه، وكان اسم رايته: العقاب. واسم سيفه الذي يشهد به الحروب: ذو الفقار. وكان له سيف يقال له: المخذم. وآخر يقال له: الرسوب: وآخر يقال له القضيب. وكانت قبضة سيفه محلاة بالفضة. وكان يلبس المنطقة من الآدم فيها ثلاث حلق هن فضة وكان اسم قوسه: الكتوم. وجعبته الكافور وكان اسم ناقته: القصواء، وهي التي يقال لها: العضبا اسم بغلته: الدلدل: وكان سام حماره يعفور واسم شاته التي يشرب لبنها عينة وكان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها ويشرب منها فيرسل الناس أولادهم الصغار الذين قد عقلوا فيدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدفعون عنه فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه ومسحوا على وجوههم وأجسادهم ويبتغون بذلك البركة.

[align=center]بيان عفوه صلى الله عليه وسلم مع قدرته[/align]


كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة حتى أتى بقلائد من ذهب وفضة فقسمها بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل: فقال؛ ويحك فمن يعدل عليه بعدي، فلما ولي قال "ردوه علي رويداً" وروى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبض للناس يوم خيبر من فضة في ثوب بلال فقال له رجل: يا رسول الله أعدل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل فقد خبت إذن وخسرت إن كنت لا أعدل" فقام عمر فقال: ألا أضرب ععنقه فإنه منافق فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرب فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك مني؟ فقال: "الله" فقال: فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير أخذ قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله: فقال: لا، غير أني لا أقاتلك ولا أكون معك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلي سبيله فجاء أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس وروى أنس: أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة ليأكل منها فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت قتلك؛ فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك: قالوا: أفلا تقتلها؟ فقال: لا: وسحره رجل من اليهود فأخبره جبريل عيه أفضل الصلاة والسلام بذلك حتى استخرجه وحل العقد فوجد لذلك خفة ما ذكر ذلك لليهودي ولا أظهره عليه قط وقال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا الزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها: فانطلقنا حتى أتينا روضة خاخ فقلنا أخرجي الكتاب فقالت: ما معي من كتاب فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لننزعن الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم أمراً من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي أني كنت امرأ ملصقاً في قومي وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهلهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب منهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعل ذلك كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ولا ارتداداً عن ديني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله؟ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه وقال: "رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبلغن أحد منكم من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".

[align=center]بيان إغضائه صلى الله عليه وسلم عما كان يكرهه[/align]


كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق البشرة لطيف الظاهر والباطن يعرف في وجهه غضبه ورضاه وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته الكريمة وكان لا يشافه أحد بما يكرهه دخل عليه رجل وعليه رجل وعليه صفرة فكرهها فلم يقل له شيئاً حتى خرج فقال لبعض القوم: لو قلتم لهذا أن يدع هذه: يعني الصفرة، وبال أعرابي في المسجد بحضرته فهم به الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم "لا تزرموه" أي لا تقطعوا عليه البول ثم قال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء" وفي رواية "قربوا ولا تنفروا" وجاءه أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له "أحسنت إليك؟" قال الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال: "أحسنت إليك؟" قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال: نعم، فلما كان الغد أو العشى جاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك؟" فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها وأعلم فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها هوناً حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار".

[align=center]بيان سخاوته وجوده صلى الله عليه وسلم[/align]

كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئاً وكان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان أجود الناس كفاً وأوسع الناس صدراً وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة أكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله وما سئل عن شيء قط على الإسلام إلا أعطاه وأن رجلاً أتاه فسأله فأعطاه غنماً سدت ما بين جبلين فرجع إلى قومه وقال: أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة. وما سئل شيئاً قط فقال لا. وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها وجاء رجل فسأله فقال: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه" فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال الرجل: أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف السرور في وجهه ولما قفل م حنين جاءت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً".

[align=center]بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم[/align]

كان صلى الله عليه وسلم أنجد الناس وأشجعهم قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً وقال أيضاً: كنا إذا احمر البأس ولقى القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه قيل: وكان صلى الله عليه وسلم قليل الكلام قليل الحديث فإذا أمر الناس بالقتال تشمر وكان من أشد الناس بأساً وكان الشجاع هو الذي يقرب منه في الحرب لقربه من العدو وقال عمران بن حصين: ما لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة إلا كان أول من يضرب. وقالوا: كان قوي البطش، ولما غشيه المشركون نزل عن بغلته فجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" فما رؤى يومئذ أحد من أشد منه.

[align=center]بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم[/align]

كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً في علو منصبه قال ابن عامر: رأيته يرمي الجمرة على ناقة شهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وكان يركب الحمار موكفاً عليه قطيفة وكان منع ذلك يستردف وكان يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك ويخصف النعل ويرقع الثوب وكان يصنع في بيته مع أهله في حاجتهم وكان أصحابه لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك، وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وأتى صلى الله عليه وسلم برجل فأرعد من هيبته فقال له: هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد وكان يجلس بين أصحابه مختلطاً بهم كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو؟ حتى يسأل عنه حتى طلبوا إليه أن يجلس مجلساً يعرفه الغريب فبنوا له دكاناً من طين فكان يجلس عيه وقالت له عائشة رضي الله عنها كل - جعلني الله فداك - متكئاً فإنه أهون عليك قال: فأصغى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ثم قال: بل آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد: وكان لا يأكل على خوان ولا سكرجة حتى لحق بالله تعالى. وكان لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال: لبيك: وكان إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم وإن تكلموا في الدنيا تحدث معهم رفقاً بهم وتواضعاً لهم وكانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحياناً ويذكرون أشياً من أمر الجاهلية ويضحكون فيتبسم هو إذا ضحكوا ولا يزجرهم إلا عن حرام.

[align=center]بيان صورته وخلقته صلى الله عليه وسلم[/align]

وكان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد بل كان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسباً إلى الطول ونسب هو عليه السلام إلى الربعة ويقول صلى الله عليه وسلم: جعل الخير كله في الربعة.
وأما لونه فقد كان أزهر اللون ولم يكن بالآدم ولا بالشديد البياض، والأزهر هو الأبيض الناصع الذي لا تشوبه صفرة ولا حمرة ولا شيء من الألوان، ونعته عمه أبو طالب فقال:

[poet font="Andalus,5,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="ridge,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
[/poet]

ونعته بعضهم بأنه مشرب بحمرة فقالوا: إنما كان المشرب منه بالحمرة ما ظهر للشمس والرياح كالوجه والرقبة والأزهر الصافي عن الحمرة ما تحت الثياب منه. وكان عرقه صلى الله عليه وسلم في وجهه كاللؤلؤ أطيب من المسك الأذفر.
وأما شعره فقد كان رجل الشعر حسنه ليس بالسبط لا الجعد القطط وكان إذا مشطه بالمشط يأتى كأنه حبك. الرمل. وقيل: كان شعره يضرب منكبيه وأكثر الرواية أنه كان إلى شحمة أذنيه. ربما جعله غدائر أربعاً تخرج كل أذن من بين غديرتين. وربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ. وكان شيبه في الرأس واللحية سبع عشرة شعرة، ما زاد على ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأنورهم لم يصفه واصف إلا شبه بالقمر ليلة البدر، وكان يرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته، وكانوا يقولون هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث يقول:

[poet font="Andalus,5,teal,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/7.gif" border="ridge,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
أمين مصطفى للخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام
[/poet]


وكان صلى الله عليه وسلم واسع الجبهة أزج الحاجبين سابغهما وكان أبلج ما بين الحاجبين كأن ما بينهما الفضة الخلصة، وكانت عيناه نجلاوين أدعجهما وكان في عينيه تمزج من حمرة، وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها، وكان أقنى العرنين - أي مستوى الأنف - وكان مفلج الأسنان - أي متفرقها - وكان إذا افتر ضاحكاً افتر بالطويل الوحه ولا المكلثم، كث اللحية، وكان يعفى لحيته ويأخذ من شاربه، وكان أحسن عباد الله عنقاً لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة مشرب ذهباً يتلألأ في بياض الفضة وفي حمرة الذهب، وكان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضاً كالمرآة في استوائها وكالقمر في بياضه موصول ما بين لبته وسرته بشعر منقاد كالقضيب لم يكن في صدره ولا بطنه شعر غيره، وكانت له عن ثلاث يغطي الإزار منها واحدة ويظهر اثنتان، وكان عظيم المنكبين أشعرهما ضخم الكراديس - أي رءوس العظام من المنكبين والمرفقين والوركين - وكان واسع الظهر ما بين كتفيه خاتم النبوة وهو مما يلي منكبه الأيمن فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس، وكان عبل العضدين والذراعين طويل الزندين رحب الراحتين سائل الأطراف كأن أصابعه قضبان الفضة، كفه ألين من الخز، كأن كفه كف عطار طيباً - مسها بطيب أو لم يمسها - يصافحه المصافح فيظل يومه يجد ريحها ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها على رأسه، وكان عبل ما تحت الإزار ن الفخذين والساق، وكان معتدل الخلق في السمن بدن في آخر زمانه وكان لحمه متماسكاً يكاد يكون على الخلق الأول لم يضره السمن.
وأما مشيه صلى الله عليه وسلم فكان يمشي كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب يخطو تكفياً ويمشي الهوينى بغير تبختر - والهوينى تقارب الخطا - وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "أنا أشبه الناس بآدم صلى الله عليه وسلم وكان أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً" وكان يقول: "إن لي عند ربي عشرة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد، وأنا الحاشر يحشر الله العباد على قدمى، وأنا رسول الرحمة ورسول التوبة ورسول الملاحم والمقفى قفيت الناس جميعاً وأنا قثم" قال البحتري والقثم الكامل الجامع، والله أعلم.

[align=center]بيان معجزاته وآياته الدالة على صدقه[/align]

اعلم أن من شاهد أحواله صلى الله عليه وسلم وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعادياته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته مع ما يحكى من عجائب أجوبته في مضايق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذي يعجز الفقهاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم، لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة تقوم بها القوة البشرية، بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية، وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا ملبس، بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربي القح كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده؟ وإنما أوردنا بعض أخلاقه لتعرف محاسن الأخلاق وليتنبه لصدقه عليه الصلاة والسلام وعلوا منصبه ومكانته العظيمة عند الله؛ إذ آتاه الله جميع ذلك وهو رجل أمي لم يمارس العلم ولم يطالع الكتب ولم يسافر قط ي طلب علم ولم يزل بين أظهر الجهال من الأعراب يتيماً فضلاً عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه وغير ذلك من خواص النبوة لولا صريح الوحي؟ ومن لقوة البشر الاستقلال بذلك؟ فلو لم يكن له إلا هذه الأمور الظاهرة لكان فيه كفاية. وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما لا يستريب فيه محصل، فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار واشتملت عليه الكتب الصحيحة إشارة إلى مجامعها من غير تطويل بحكاية التفصيل.
فقد خرق الله العادة على يده غير مرة؛ إذ شق له القمر بمكة لما سألته قريش آية وأطعم النفر الكثير في منزل جابر وفي منزل أبي طلحة ويوم الخندق ومرة أطعم ثمانين من أربعة أمداد شعير وعناق وهو من أولاد المعز فوق العتود، ومرة أكثر من ثمانين رجلاً من أقراص شعير حملها أنس في يده ومرة أهل الجيش من تمر يسير ساقته بنت بشير في يدها فأكلوا كلهم حتى شبعوا من ذلك وفضل لهم ونبع الماء من بين أصابعه عليه السلام فشرب أهل العسكر كلهم وهم عطاش، وتوضئوا من قدح صغير ضاق عن أن يبسط عليه السلام يده فيه وأهراق عليه السلام وضوءه في عين تبوك ولا ماء فيها، ومرة أخرى في بئر الحديبية فجاشتا بالماء؛ فشرب من عين تبوك أهل الجيش وهم ألوف حتى رووا وشرب من بئر الحديبية ألف وخمسمائة ولم يكن فيها قبل ذلك ماء وأمر عليه السلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزود أربعمائة راكب من تمر كان في اجتماعه كربضة البعير - وهو موضع بروكه - فزودهم كلهم منه وبقي منه فحبسه ورمى الجيش بقبضته من تراب فعميت عيونهم ونزل بذلك القرآن في قوله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وأبطل الله تعالى الكهانة بمبعثه صلى الله عليه وسلم فعدمت وكان ظاهرة موجودة وحن الجذع الذي كان يخطب إليه لما عمل له المنبر حتى سمع منه جميع أصحابه مثل صوت الإبل فضمه إليه فسكن ودعا اليهود إلى تمني الموت وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه فحيل بينهم وبين النطق بذلك وعجزوا عنه. وهذا مذكور في سورة يقرأ بها في جميع جوامع الإسلام من شرق الأرض إلى غربها يوم الجمعة - جهراً - تعظيماً للآية التي فيها.
وأخبر عليه السلام بالغيوب وأنذر عثمان بأن تصيبه بلوى بعدها الجنة وبأن عمار اتقتله الباغية وأن الحسن يصلح الله به فئتين من المسلمين عظيمتين وأخبر عليه السلام عن رجل قاتل في سبيل الله أنه من أهل النار فظهر ذلك بأن ذلك الرجل قتل نفسه وهذه كلها أشياء إلهية لا تعرف البتة بشيء من وجوه تقدمت المعفة بها لا بنجوم ولا بكشف ولا بخط ولا بزجر لكن بإعلام الله تعالى له ووحيه إليه. واتبعه سراقة بن مالك فساخت قدماً فرسه في الأرض وأتبعه دخان حتى استغاثه فدعا له فانطلق الفرس، وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سواراً كسرى فكان كذلك وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء اليمن وأخبر بمن قتله وخرج على مائة من قريش ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ولم يروه وشكا إليه البعير بحضرة أصحابه وتذلل له وقال لنفر من أصحابه مجتمعين "أحدكم في النار ضرسه مثل أحد فماتوا كلهم على استقامة وارتد منهم واحد فقتل مرتداً" وقال لآخرين منهم: آخركم موتاً ي النار؛ فسقط آخرهم موتاً في النار فاحترق فيها فمات ودعا شجرتين فأتتاه واجتمعتا ثم أمرهما فافترقتا. وكان عيه السلام نحو الربعة فإذا مشى مع الطوال طالهم ودعا عليه السلام النصارى إلى المباهلة فامتنعوا فعرفهم صلى الله عليه وسلم أنهم إن فعلوا ذلك هلكوا فعلموا صحة قوله فمتنعوا وأتاه عامر بن الطفيل بن مالك وأربد بن قيس وهما فارسا العرب وفاتكاهم عازمين على قتله عليه السلام فحيل بينهما وبين ذلك ودعا عليهما فهلك عامر بغدة وهلك أربد بصاعقة أحرقته وأخبر عليه السلام أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي فخدشه يوم أحد خدشاً لطيفاً فكانت منيته فيه.
وأعم عليه الصلاة والسام السم فمات الذي أكله معه وعاش هو صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنين، وكلمه الذراع المسموم.
وأخبر عليه السلام يوم بدر بمصارع صناديد قريش ووقفهم على مصارعهم رجلاً رجلاً فلم يتعدوا واحد منهم ذلك الموضع وأنذر عليه السلام بأن طوائف من أمته يغزون في البحر فكان كذلك وزويت له الأرض فأرى مشارقها ومغاربها وأخبر بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى له منها فكان كذلك فقد بلغ ملكهم من أول المشرق: من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر ولم يتسعوا في الجنوب ولا في الشمال - كما أخبر صلى الله عليه وسلم سواء بسواء. وأخبر فاطمة ابنته رضي الله عنها بأنها أول أهله لحاقاً به فكان كذلك ‎. وأخبر نساءه بأن أطولهن يداً أسرعهن لحاقاً به فكانت زينب بنت جحش الأسدية أطولهن يداً بالصدقة أولهن لحوقاً به رضي الله عنها.
ومسح ضرع شاة حائل لا لبن لها فدرت وكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود رضي الله عنه. وفعل ذلك مرة أخرى في خيمة أم معبد الخزاعية. وندرت عين بعض أصحابه فسقطت فردها عليه السام بيده فكانت أصح عينيه وأحسنهما وتفل في عين على رضي الله عنه وهو أرمد يوم خيبر فصح من وقته وبعثه بالراية وكانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه صلى الله عليه وسلم وأصيبت رجل بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم فمسحها بيده فبرات من حيثها وقل زاد جيش كان معه عليه السلام فدعا بجميع ما بقي فاجتمع شيء يسير جداً فدعا فيه بالبركة، ثم أمرهم فأخذوا فلم يبق وعاء في العسكر إلا ملئ من ذلك وحكى الحكم بن العاص بن وائل: مشيته عليه السلام مستهزئاً فقال صلى الله عليه وسلم: كذلك فكن: فلم يزل يرتعس حتى مات وخطب عليه السلام امرأة فقال له أبوها: إن بها برصاً - امتناعاً من خطبته واعتذاراً - ولم يكن بها برص فقال عليه السلام: فلتكن كذلك: فبرصت وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر. إلى غير ذلك من آياته ومعجزاته صلى الله عليه وسلم، وإنما اقتصرنا على المستفيض. ومن يستريب في انخراق العادة على يده ويزعم أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواتراً بل المتواتر هو القرآن فقط كمن يستريب في شجاعة علي رضي الله عنه وسخاوة حاتم الطائي ومعلوم أن آحاد وقائعهم غير متواترة ولكن مجموع الوقائع يورث علماً ضرورياً ثم لا يتمارى في تواتر القرآن وهي المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق: وليس لنبي معجزة باقية سواه صلى الله عليه وسلم إذ تحدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغاء الخلق وفصحاء العرب وجزيرة العرب حينئذ مملوءة بآلاف منهم والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم. وكان ينادي بين أظهرهم "أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً". وقال ذلك تعجيزاً لهم فعجزوا عن ذلك وصرفوا عنه حتى عرضوا أنفسهم للقتل ونساءهم وذراريهم للسبي؛ وما استطاعوا أن يعارضوا ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه ثم انتشر ذلك بعده في أقطار العالم شرقاً وغرباً قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر وقد انقرض اليوم قريب من خمسمائة سنة فلم يقدر أحد على معارضته.
فأعظم بغباوة من ينظر في أحواله، ثم في أقواله، ثم في أفعاله، ثم في أخلاقه، ثم في معجزاته، ثم في استمرار شرعه إلى الآن، ثم في انتشاره في أقطار العالم، ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبد عصره مع ضعفه ويتمه ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه.
وما أعظم توفيق من آمن به وصدقه واتبعه في كل ما ورد وصدر فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للإقتداء به في الأخلاق والأفعال والأحوال والأقوال بمنه وسعة جوده.




[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مايو 16, 2006 7:13 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب شرح عجائب القلب
وهو الكتاب الأول من ربع المهلكات
[/align]


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

[align=center]الحمد لله الذي تتحيز دون إدراك جلاله القلوب والخواطر، وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر، المطلع على خفيات السرائر، العالم بمكنونات االضمائر، المستغني في تدبير مملكته عن المشاور والموازر، مقلب القلوب وغفار الذنوب، وستار العيوب، ومفترج الكروب.
والصلاة على سيد المرسلين، وجامع شمل الدين، وقاطع دابر الملحدين. وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم كثيراً.
[/align]

أما بعد: فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه؛ فالقلب هو العالم بالله. وهو المتقرب إلى الله؛ وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة؛ فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه؛ وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره؛ وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء ينضح بما فيه، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه. وحيلولته بأن بمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته وكيفية تقلبه بين إصبعين مع أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوى مرة إلى أسفل السافلين وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين. ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصد لما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيه "نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين وأساس طريق السالكين.
وإذ فرغنا من الشطر الأول من هذا الكتاب من النظر فيما يجري على الجوارح من العبادات والعادات - وهو العلم الظاهر، ووعدنا أن نشرح في الشطر الثاني ما يجري على القلب من الصفات المهلكات والمنجيات - وهو العلم الباطن؛ فلا بد أن نقدم عليه كتابين: كتاباً في شرح عجائب صفات القلب وأخلاقه، وكتاباً في كيفية رياضة القلب وتهذيب أخلاقه. ثم نندفع بعد ذلك في تفصيل المهلكات والمنجيات.
فلنذكر الآن من شرح عجائب القلب بطريق ضرب الأمثال ما يقرب من الأفهام، فإن التصريح بعجائبه وأسراره الداخلة في جملة عالم الملكوت مما يكل عن دركه أكثر الأفهام.

[align=center]بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل
وما هو المراد بهذه الأسامي
[/align]


اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الأبواب، ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة. ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا:

اللفظ الأول: لفظ القلب، وهو يطلق لمعنيين "أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته، إذ يتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية. وهذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت. ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك؛ فإنه قطعة لحم لا قدر له، وهو من عالم الملك والشهادة إذ تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين. "والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته؛ فإن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة. أو تعلق المتمكن بالمكان، وشرح ذلك مما نتوقاه لمعنيين: أحدهما أنه متعلق بعلوم المكاشفة، وليس غرضنا من هذا الكتاب إلا علوم المعاملة والثاني أن تحقيقه يستدعي إفشاء سر الروح وذلك مما لم يتكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فليس لغيره أن يتكلم فيه، والمقصود أنا إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللطيفة وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها لا ذكر حقيقتها في ذاتها وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها.

اللفظ الثاني: الروح، وهو أيضاً يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت؛ فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به، والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان، والروح مثالها السراج، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه، والأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى: وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب، وليس شرحه من غرضنا، إذ المتعلق به غرض الأطباء الذين يعالجون الأبدان؛ فأما غرض أطباء الدين المعالجين للقلب حتى ينساق إلى جوار رب العالمين، فليس يتعلق بشرح هذه الروح أصلاً. المعنى الثاني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، وهو الذي شرحناه في أحد معاني القلب، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله "قل الروح من أمر ربي وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته.

اللفظ الثالث: النفس، وهو أيضاً بين معان، ويتعلق بغرضنا منه معنيان: "أحدهما" أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي شرحه، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التوصف؛ لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسرها، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" . "المعنى الثاني" هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها؛ فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة. قال الله تعالى في مثلها "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى؛ فإنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان. وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه. قال الله تعالى "ولا أقسم بالنفس اللوامة" وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء. قال الله تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" وقد يجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء: هي النفس بالمعنى الأول، فإذن النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم، وبالمعنى الثاني محمودة لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات.

اللفظ الرابع: العقل، وهو أيضاً مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم، والمتعلق بغرضنا من جملتها معنيان: "أحدهما" أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب. "والثاني" أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة. ونحن نعلم أن كل عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه، والعلم صفة حالة فيه، والصفة غير الموصوف، والعقل قد يطلق ويراد به صفة العالم، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك أعني المدرك، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم:" أول ما خلق الله العقل": فإن العلم عرض لا يتصور أن يكون أول مخلوق، بل لا بد وأن يكون المحل مخلوقاً قبله أو معه، ولأنه لا يمكن الخطاب معه. وفي الخبر: أنه قال له تعالى أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر.. الحديث.
فإذن قد انكشف لك أن معاني هذه الأسماء موجودة: وهي القلب الجسماني، والروح الجسماني، والنفس الشهوانية، والعلوم. فهذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، ومعنى خامس: وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان. والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها، فالمعاني خمسة، والألفاظ أربعة، وكل لفظ أطلق لمعنيين، وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها؛ فتراهم يتكلمون في الخواطر ويقولون: هذا خاطر العقل، وهذا خاطر الروح، وهذا خاطر القلب، وهذا خاطر النفس، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء، ولأجل كشف الغطاء عن ذلك قدمنا شرح هذه الأسامي، وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر، لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة، فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب، فتعلقها الأول بالقلب وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها، ولذلك شبه سهل التستري القلب بالعرش، والصدر بالكرسي فقال: القلب هو العرش والصدر هو الكرسي، ولا يظن به أنه يرى أنه عرش الله وكرسيه فإنه ذلك محال، بل أراد به أنه مملكة الإنسان والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه، فهمابالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى، ولا يستقيم هذا التشبيه أيضاً إلا من بعض الوجوه، وشرح ذلك أيضاً لا يليق بغرضنا فلنجاوزه.

[align=center]بيان جنود القلب[/align]

قال الله تعالى "وما يعلم جنود ربك إلا هو" فلله سبحانه في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنود مجندة لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو. ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب، فهو الذي يتعلق بغرضنا. وله جندان: جند يرى بالأبصار، وجند لا يرى إلا بالبصائر، وهو في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، فهذا معنى الجند: فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له، فهو المتصرف فيها والمردد لها، وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء. وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى، فإنهم مجبولون على الطاعة لا يستطيعون له خلافاً، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما يفترقان في شيء: وهو أن الملائكة عليهم السلام عالمة بطاعتها وامتثالها، والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والإنطباق على سبيل التسخير ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها للقلب، وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق، وهو السفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه، فلأجله خلقت القلوب. قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وإنما مركبه البدن وزاده العلم. وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح، وليس يمكن العبد أن يصل إلى الله سبحانه ما لم يسكن البدن ولم يجاوز الدنيا، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى، فالدنيا مزرعة الآخرة، وهي منزل من منازل الهدى، وإنما سميت دنيا: لأنها أدنى المنزلتين، فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم، فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم، فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه، وإنما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره، وأن يدفع عنه ما ينافيه من أسباب الهلاك، فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن: وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء، وظاهر، وهو اليد والرجل اللذين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها، ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق: وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها. وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة. وقد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشكر فليقتنع به.
فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف: صنف باعث ومستحث: إما إلى جلب النافع الموافق كالشهوة، وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب، وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة. والثاني: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد، ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة: وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث: هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس: وهو قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك، ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع، وقوة البصر إنما هي بالعين، وكذا سائر القوى، ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء فإنها من عالم الملك والشهادة، وإنما نتكلم الآن فيما أيدت به من جنود لم تروها. وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس: أعني السمع والبصر والشم والذوق واللمس وإلى ما سكن منازل باطنة: وهي تجاويف الدماغ، وهي أيضاً خمسة، فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظة فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ، ولولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان الدماغ يخلوا عنه كما تخلو اليد والرجل عنه؛ فتلك القوى أيضاً جنود باطنة وأماكنها أيضاً باطنه، فهذه هي أقسام جنود القلب، وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول. ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء، ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم.

[align=center]بيان أمثلة القلب مع جنوده الباطنة[/align]

اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقياداً تاماً، فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقتهما في السفر الذي هو بصدده، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد، وللقلب جند آخر: وهو العلم والحكمة والتفكر، كما سيأتي شرحه، وحقه أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله تعالى على الجندين الآخرين، فإنهما قد يلتحقان بحزب الشيطان. فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب والشهوة هلك يقيناً وخسر خسراناً مبيناً، وذلك حالة أكثر الخلق، فإن عقولهم صارت مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة، وكان ينبغي أن تكون الشهوة مسخرة لعقولهم فيما يفتقر العقل إليه، ونحن نقرب إلى فهمك بثلاثة أمثلة:

المثال الأول: أن نقول: مثل نفس الإنسان في بدنه أعني بالنفس اللطيفة المذكورة كمثل ملك في مدينته ومملكته فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل. والشهوة له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد الجالب للميرة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة، كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره مستشيراً له ومعرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، مستدلاً بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه، أدبه صاحب شرطته وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبراً لا أميراً مدبراً، استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه؛ فكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة كان كمن قال الله تعالى فيه "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم" وقال تعالى "واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" وقال عز وجل فيمن نهى النفس عن الهوى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوي" وسيأتي كيفية مجاهدة هذه الجنود وتسليط بعضها على بعض في كتاب رياضة النفس إن شاء الله تعالى.

المثال الثاني: اعلم أن البدن كالمدينة والعقل - أعني المدرك - من الإنسان كملك مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعيته، والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، فصار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن هو جاهد عدوه وهزمه وقهره على ما يحب حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال الله تعالى "والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" وإن ضيع ثغره وأعمل رعيته وذم أثره فانتقم منه عند الله تعالى فيقال له يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير اليوم أنتقم منك كما ورد في الخبر. وإلى هذه المجاهدة الإشارة بقوله له صلى الله عليه وسلم "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقاً وفرسه مروضاً وكلبه مؤدباً معلماً كان جديراً بالنجاح، ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحاً والكلب عقوراً فلا فرسه ينبعث تحته منقاداً ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعاً فهو خليق بأن يعطب فضلاً عن أن ينال ما طلب، وإنما خرق الفارس مثل جهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته، وجماح الفرس مثل غلبة الشهوة خصوصاً شهوة البطن والفرج، وعقر الكلب مثل غلبة الغضب واستيلائه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه.

[align=center]بيان خاصية قلب الإنسان[/align]

اعلم أن جملة ما ذكرناه قد أنعم الله به على سائر الحيوانات سوى الآدمي؛ إذ للحيوان الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة أيضاً، حتى إن الشاة ترى الذئب بعينها نتعلم عداوته بقلبها فتهرب منه فلذلك هو الإدراك الباطن.
فلنذكر ما يختص به قلب الإنسان، ولأجله عظم شرفه واستأهل القرب من الله تعالى. وهو راجع إلى علم وإرادة:

أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والأخروية والحقائق العقلية فإن هذه أمور وراء المحسوسات ولا يشاركه فيها الحيوانات، بل العلوم الكلية الضرورية من خواص العقل إذ يحكم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منه على كل شخص. ومعلوم أنهذ لم يدرك بالحس إلا بعض الأشخاص فحكمه على جميع الأشخاص زائد على ما أدركه الحس. وإذا فهمت هذا في العلم الظاهر الضروري فهو في سائر النظريات أظهر.
وأما الإرادة فإنه إذا أدرك بالعقل عاقبة الأمر وطريق الصلاح فيه انبعث من ذاته شوق إلى جهة المصلحة وإلى تعاطي أسبابها والإرادة لها، وذلك غير إرادة الشهوة وإرادة الحيوانات بل يكون على ضد الشهوة. فإن الشهوة تنفر عن الفصد والحجامة، والعقل يريدها ويطلبها ويبذل المال فيها. والشهوة تميل إلى لذائذ الأطعمة في حين المرض والعاقل يجد في نفسه زاجراً عنها، وليس ذلك زاجر الشهوة. ولو خلق الله العقل المعرف بعواقب الأمور ولم يخلق هذا الباعث المحرك للأعضاء على مقتضى حكم العقل لكان حكم العقل ضائعاً على التحقيق.
فإذن قلب الإنسان اختص بعلم وإرادة ينفك عنها سائر الحيوان بل ينفك عنها الصبي في أول الفطرة وإنما يحدث ذلك فيه بعد البلوغ. وأما الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة فإنها موجودة في حق الصبي.
ثم الصبي في حصول هذه العلوم فيه له درجتان؛ إحداهما: أن يشتمل قلبه على سائر العلوم الضرورية الأولية؛ كالعلم باستحالة المستحيلات وجواز الجائزات الظاهرة فتكون العلوم النظرية فيها غير حاصلة إلا أنها صارت ممكنة قريبة الإمكان والحصول، ويكون حاله بالإضافة إلى العلوم كحال الكاتب الذي لا يعرف من الكتابة إلا الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة فإنه قد قارب الكتابة ولم يبلغها بعد.
الثانية: أن تتحصل له العلوم المكتسبة بالتجارب والفكر فتكون كالمخزونة عنده، فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشراً للكتابة بقدرته عليها. وهذه هي غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها؛ إذ تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة، ولبعضهم بتعلم واكتساب، وقد يكون سريع الحصول وقد يكون بطيء الحصول. وفي هذا المقام تتباين منازل العلماء والحكماء والأنبياء والأولياء، فدرجات الترقي فيه غير محصورة إذ معلومات الله سبحانه لا نهاية لها. وأقصى الرتب رتبة النبي الذي تنكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بكشف إلهي في أسرع وقت، وبهذه السعادة يقرب العبد العبد من الله تعالى قرباً بالمعنى والحقيقة والصفة لا بالمكان والمسافة ومراقى هذه الدرجة هي منازل السائرين إلى الله تعالى ولا حصر لتلك المنازل، وإنما يعرف كل سالك منزله الذي بلغه في سلوكه فيعرفه ويعرف ما خلفه من المنزل.
فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته علماً ولكن قد يصدق به إيماناً بالغيب، كما أنا نؤمن بالنبوة والنبي ونصدق بوجوده ولكن لا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي، وكما لا يعرف الجنين حال الطفل، ولا الطفل حال المميز وما يفتح له من العلوم الضرورية، ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية فكذلك لا يعرف العاقل ما افتتح الله على أوليائه وأنبيائه من مزايا لطفه ورحمته "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" وهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود والكرم من الله سبحانه وتعالى غير مضنون بها على أحد ولكن إنما تظهر في القلوب المتعرضة لنفحات رحمة الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم "إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها والتعرض لها بتطهير القلب وتزكيته من الخبث والكدورة الحاصلة من الأخلاق المذمومة - كما سيأتي بيانه - وإلى هذا الجود الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له"؟ وبقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل "لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً وبقوله تعالى "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" كل ذلك إشارة إلى أن أنوار العلوم لم تحتجب عن القلوب لبخل ومنع من جهة المنعم - تعالى عن البخل والمنع علواً كبيراً - ولكن حجبت لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب فإن القلوب كالأواني فما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء فالقلوب المشغولة لغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله تعالى. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ومن هذه الجملة يتبين أن خاصية الإنسان العلم والحكمة.
وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فيه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال. فالبدن مركب للنفس، والنفس محل للعلم، والعلم هو مقصود الإنسان وخاصيته التي لأجله خلق. وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقاً لأجل تلك الخاصية، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار. وكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ويفارقها في أمور هي خاصيته وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من رب العالمين. والإنسان على رتبة بين البهائم والملائكة، فإن الإنسان من حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط، وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء.
من استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة؛ فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكاً وربانياً كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم".
ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم فيصير إما غمراً كثور، وإما شرهاً كخنزير. وإما ضرياً ككلب أو سنور، أو حقوداً كجمل. أو متكبراً كنمر، أو ذاروغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد.
وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى - كما سيأتي بيان طرف منه في كتاب الشكر- فمن استعمله فيه فقد فاز، ومن عدل عنه فقد خسر وخاب. وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده، والدار الآخرة مستقره، والدنيا منزله، والبدن مركبه، والأعضاء خدمه. فيستقر هو - أعني المدرك من الإنسان - في القلب الذي هو وسط مملكته كالملك، ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنده، ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه، ويجري اللسان مجرى ترجمانه، ويجري الأعضاء المتحركة مجرى كتابه، ويجري الحواس الخمس مجرى جواسيسه فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع؛ فيوكل العين بعالم الألوان، والسمع بعالم الأصوات، والشم بعالم الروائح. وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة، ويعرضها الخازن على الملك فيقتبس الملك منها ما يحتاج إليه في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده، وقمع عدوه الذي هو مبتلي به، ودفع قواطع الطريق عليه فإذا فعل ذلك كان موفقاً سعيداً شاكراً نعمة الله وإذا عطل هذه الجملة أو استعملها لكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة، أو في عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره، ووطنه ومستقره الآخرة؛ كان مخذولاً شقياً كافراً بنعمة الله تعالى مضيعاً لجنود الله تعالى ناصراً لأعداء الله مخذلاً لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد. نعوذ بالله من ذلك.
وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار حيث قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت؛ الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريد والقلب منه ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده، فقلت: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. وقال علي رضي الله عنه في تمثيل القلوب: إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها: ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان، وهو إشارة إلى قوله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقوله تعالى "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" قال أبي بن كعب رضي الله عنه: معناه مثل نور المؤمن وقلبه وقوله تعالى "أو كظلمات في بحر لجى" مثل قلب المنافق. وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى "في لوح محفوظ" وهو قلب المؤمن. وقال سهل: مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي فهذه أمثلة القلب.

[align=center]بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته[/align]

اعلم أن الإنسان قد اصطحب في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: الصفات السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية. فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم. ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشره والحرص والشبق وغيره. ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى "قل الروح من أمر ربي" فإنه يدعى لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء، والاستعلاء، والتخصص، والاستبداد بالأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها؛ بل يدعي لنفسه العلم، والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، ويحزن إذا نسب إلى الجهل، والإحاطة بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك. ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.
وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة - أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية - وكل ذلك مجموع في القلب. فكأن المجموع في إهاب الإنسان: خنزير وكلب وشيطان وحكيم.
فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وصورته بل لجشعهوكلبه وحرصه.
والكلب هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلباً وسبعاً باعتبار الصورة اللون والشكل، بل روح معنى السبعية الضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه وحرص الخنزير وشبقه، فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر والسبع بالغضب إلى الظلم والإيذاء.
والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه.
والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق الواضح، وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه ويجعل الكلب مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويرضى الكلب فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير.
وهذا حال أكثر الناس مهما كان أكثر همتهم البطن والفرج ومنافسة الأعداء، والعجب منه أن ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة، ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله ومثل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين إما في النوم أو اليقظة لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير ساجداً له مرة وراكعاً أخرى ومنتظراً لإشارته وأمره. فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته، أو رأى نفسه مثلاً بين يدي كلب عقور عابداً له مطيعاً سامعاً لما يقتضيه ويلتمسه مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما فليراقب كل عبد حركاته وسكناته وسكوته ونطقه وقيامه وقعوده، ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلا ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء، وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً والرب مربوباً والسيد عبداً والقاهر مقهوراً، إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعاً وريناً مهلكاً للقلب ومميتاً له، أما طاعة خنزير الشهوة فتصدر منها صفة الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها. وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفة التهور والبذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها. وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها. ولو عكس الأمر وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية: لاستقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه، والاستيلاء على الكل بقوة العلم والبصيرة، واستحقاق التقدم على الخلق لكمال العلم وجلاله، ولاستغنى عن عبادة الشهوة والغضب، ولانتشر إليه من ضبط خنزير الشهوة ورده إلى حد الاعتدال صفات شريفة مثل العفة والقناعة والهدو والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرف والمساعدة وأمثالها، ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفة الشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها.
فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه، وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب. أما الآثار المحمودة التي ذكرناها فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقاً ونوراً وضياءً حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين، وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه وبقوله صلى الله عليه وسلم "من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوباً عن الله تعالى، وهو الطبع وهو الرين قال تعالى "كلا بل وإن على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وقال عز وجل "أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى "واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله".
ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق صلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها. فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك "يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور" وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة.
قال ميمون بن مهران: إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكته سوداء فإذا هو نزع وتاب صقل، وإن عاد زيد فيها حتى يعلوا قلبه فهو الران وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر وقلب الكافر أسود منكوس فطاعة الله سبحانه بمخالفة الشهوات مصقلة للقلب، ومعاصيه مسودات له فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه، ومن اتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ولكن ينقص نوره كالمرآة التي يتنفس فيها ثم تمسح ويتنفس ثم تمسح، فإنها لا تخلو عن كدورة. وقد قال صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها؟ وفي رواية: ذهبت به. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى.

[align=center]بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة[/align]

اعلم أن محل العلم هو القلب؛ أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات؛ فكما أن للمتلون صورة ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها، كذلك لكل معلوم حقيقة ولتلك الحقيقة صورة ينطبع في مرآة القلب وتتضح فيها، وكما أن المرآة غير وصور الأشخاص غير وحصول مثالها في المرآة غير فهي ثلاثة أمور. فكذلك ههنا ثلاثة أمور القلب، وحقائق الأشياء، وحصول نفس الحقائق في القلب وحضورها فيه.
فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء. والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة.
وكما أن القبض مثلاً يستدعي قابضاً كاليد ومقبوضاً كالسيف، ووصولاً بين السيف واليد -بحصول السيف في اليد- ويسمى قبضاً فكذلك وصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علماً، وقد كانت الحقيقة موجودة والقلب موجوداً ولم يكن العالم حاصلاً، لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب، كما أن السيف موجود واليد موجودة ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلاً لعدم وقوع السيف في اليد، نعم القبض عبارة عن حصول السيف بعينه في اليد والمعلوم بعينه لا يحصل في القلب، فمن علم النار لم تحصل عين النار في قلبه، ولكن الحاصل حدها وحقيقتها المطابقة لصورتها، فتمثيله بالمرآة أولى لأن عين الإنسان لا تحصل في المرآة وإنما يحصل مثال مطابق له. وكذلك حصول مثال مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علماً.
وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل. والثاني لخنثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل. والثالث لكونه معدولاً به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة. والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.
فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلى فيها حقيقة الحق في الأمور كلها، وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذاته كقلب الصبي فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه. والثاني لكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا" أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها إذ غايته أن يتبعه بحسنة يمحوه بها، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراق القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها نوراً. فهذا خسران مبين ونقصان لا حيلة له فليست المرآة التي تتدنس ثم تمسح بالمصقلة كالتي تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق؟ فالإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ولذلك قال الله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".
الثالث أن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب. بل يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف جليه الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي؟.الرابع: الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد. وهذا أيضاً حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجاباً بينهم وبين درك الحقيقة.
الخامس: الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى. ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص. فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب، فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم. ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها، بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلاً بالمرآة فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا، وإن رفعها وراء القفا حاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا، وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعى مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا، ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين، ثم تدرك العين صورة القفا، فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب مما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات. فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور. وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف. وإليه الإشارة بقوله عز وجل "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال بها صار مطيقاً لحمل أمانة الله تعالى. وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلوب وبين الملكوت.
وإليه الإشارة بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله، يا رسول الله أين الله في الأرض أو في السماء؟ قال في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر "قال الله تعالى: لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع" وفي الخبر "أنه قيل يا رسول الله من خير الناس فقال "كل مؤمن مخموم القلب" فقيل: وما مخموم القلب؟ فقال "هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غدر ولا غل ولا حسد ولذلك قال عمر رضي الله عنه: رأى قلبي ربي. إذ كان قد رفع الحجاب بالتقوى، ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرض بعضها السموات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السموات والأرض لأن السموات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة، وأما عالم الملكوت وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصائر فلا نهاية له، نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه ولكنه في نفسه بالإضافة إلى علم الله لا نهاية له. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله، ومملكته وعبيده من أفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هي الجنة بعينها عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق، ويكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله. وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه "قد أفلح من زكاها" ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه أعني إشراق نور المعرفة وهو المراد بقوله تعالى "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه".
نعم هذا التجلي وهذا الإيمان له ثلاث مراتب المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض. والثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام والثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين.


[B]ونبين لك هذه المراتب بمثال: وهو أن تصديقك بكون زيد مثلاً في الدار له ثلاث درجات.
الأولى: أن يخبرك من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتهمته في القول، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع، وهذا الإيمان بمجرد التقليد، وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسل وصدقهم وما جاءوا به، وكما سمعوا به قبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه، ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه لهم لحسن ظنهم بآبائهم وأمهاتهم ومعلميهم، وهذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين وليسوا من المقربين لأنه ليس فيه كشف وبصيرة وانشراح صدر بنور اليقين، إذ الخطأ ممكن فيما سمع من الآحاد بل من الأعداد فيما يتعلق بالاعتقادات، فقلوب اليهود والنصارى أيضاً مطمئنة بما يسمعونه من آبائهم وأمهاتهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوا خطأ لأنهم ألقي إليهم الخطأ، والمسلمون اعتقدوا الحق لا لاطلاعهم عليه ولكن ألقي إليهم كلمة الحق.

الرتبة الثانية: أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ولكن من وراء جدار فتستدل به على كونه في الدار فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع، فإنك إذا قيل لك إنه في الدار ثم سمعت صوته ازددت به يقيناً لأن الأصوات تدل على الشكل والصورة عند من يسمع الصوت في حال مشاهدة الصورة، فيحكم قلبه بأن هذا صوت ذلك الشخص؛ وهذا إيمان ممزوج بدليل والخطأ أيضاً ممكن أن يتطرق إليه، إذ الصوت قد يشبه الصوت وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع لأنه ليس يجعل للتهمة موضعاً ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضاً.


الرتبة الثالثة: أن تدخل فتنظر إليه بعينك وتشاهده؛ وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين، ويتميزون بمزية بينة يستحيل معها إمكان الخطأ. نعم وهم أيضاً يتفاوتون بمقادير العلوم وبدرجات الكشف.
أما درجات الكشف فمثاله أن يبصر زيداً في الدار عن قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية فيتمثل له في صورته ما يستيقن معه أنه هو؛ ولكن لا يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته. ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية.
وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيداً وعمراً وبكراً غير ذلك وآخر لا يرى إلا زيداً فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة. فهذا حال القلب بالإضافة إلى العلوم والله تعالى أعلم بالصواب.

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مايو 17, 2006 7:22 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان حال القلب
بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية
[/align]

اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية. والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة. والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية.

أما العقلية: فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع؛ وهي تنقسم إلى ضرورية: لا يدري من أين حصلت وكيف حصلت؟ كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً موجوداً معدوماً معاً؛ فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطوراً عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له؟ أعني أنه لا يدري له سبباً قريباً، وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه.
وإلى علوم مكتسبة: وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال. وكلا القسمين قد يسمى عقلاً.
قال علي رضي الله عنه:


[poet font="Tahoma,5,indigo,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/9.gif" border="ridge,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
رأيت العقل عقلـين فمطبوع ومسمـوع
ولا ينفع مسـمـوع إذا لم يك مطبـوع
كما لا تنفع الشمـس وضوء العين ممنوع
[/poet]

والأول هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" والثاني هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه "إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك" إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة. ولكن مثل على رضي الله عنه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين، فالقلب جار مجرى العين وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين، وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل، والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء. وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات. والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس. وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم. والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سبباً لحصول نفس العلوم في قلوب البشر قال الله تعالى "الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه، فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض؛ فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف؛ فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة، وهي كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر. ولموازنة البصيرة الباطنة للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال "ما كذب الفؤاد ما رأى" سمى إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله تعالى "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض" وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان، ولذلك سمي ضد إدراكه عمى فقال تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب في الصدر" وقال تعالى "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً" فهذا بيان العلم العقلي.
أما العلوم الدينية: فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما بعد السماع، وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض، فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب وإن كان محتاجاً إليها، كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء، إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل، فلا غنى بالعقل عن السماع ولا غنى بالسماع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء من فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب لا يمكر علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب، فمن لا يداوى قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء. وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما. فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين. وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات. وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم: ما بال هذه الأواني تركت على الطريق لم لا ترد إلى مواضعها؟ فقالوا له: تلك الأواني في مواضعها! وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك؟ فهذه نسبة العلوم الدينية إلى العلوم العقلية.
والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية. فالدنيوية: كعلم الطلب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات. والأخروية: كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله -كما فصلناه في كتاب العلم- وهما علمان متنافيان -أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر- ولذلك ضرب علي رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلة فقال: هما ككفتي الميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا رضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة جهالاً في أمور الآخرة. والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالاً في أكثر علوم الدنيا، لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعاً في الغالب فيكون أحدهما مانعاً من الكمال في الثاني. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن أكثر أهل الجنة البله أي البله في أمور الدنيا.
وقال الحسن في بعض مواعظه: لقد أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين. فمهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم، فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ولذلك قال تعالى "إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" الآية وقال تعالى "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون" وقال عز وجل "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم" فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلا لمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس المستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها. فأما قلوب سائر الخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخر وقصرت عن الاستكمال فيها.

[align=center]بيان الفرق بين الإلهام والتعلم
والفرق بين طريق الصوفية في استكشاف الحق وطريق النظار [/align]



اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية - وإنما تحصل في القلب في بعض الأحول - تختلف الحال في حصولها فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاماً، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً واستبصاراً. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما يدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل؟ وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاماً ونفثاً في الروع والثاني: يسمى وحياً وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله - وهو المكتسب بطريق الاستدلال - يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة - التي سبق ذكرها - فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها، والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه. وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ، ويكون ذلك تارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل. وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فيه ينكشف الغطاء، وينكشف أيضاً في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم تارة كالبرق الخاطف، وأخرى على التوالي إلى حد ما. ودوامة في غاية الندور فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفس العلم ولا في محله ولا في سببه ولكن يفارقه من جهة زوال الحجاب، فإن ذلك ليس باختيار العبد ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم، فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة، وإليه الإشارة بقوله تعالى "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء".
فإذا عرفت هذا فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فلذلك لم يحصروا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكلوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإدارة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة.
فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله كان الله له. وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية وتفريغ القلب منها وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن وعن العلم والولاية والجاه بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلوا بنفسه في زواية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد أن لا يخطر ببال شيء سوى الله تعالى، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلاً بلسانه: على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان ويصادف قلبه مواظباً على الذكر ثم يواظب عليه إلى أن يمحى عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجرداً في قلبه حاضراً فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق؛ وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت؛ ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفاً؛ وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد. ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم. وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط.
وأما النظار وذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضائه إلى هذا المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء، ولكن استوعروا هذا الطريق واستبطؤا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه، وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر وإن حصل في حال فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس وخاطر يشوش القلب وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن أشد تقلباً من القدر في غليانها" وقال عليه أفضل الصلاة والسلام "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرض البدن، وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها، فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ولو كان قد أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض. وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه. وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعلم ذلك وصار فقيهاً بالوحي. والإلهام من غير تكرير وتعليق وأنا أيضاً ربما انتهت بي الرياضة والمواظبة إليه ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه وضيع عمره، بل هو كمن يترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من الكنوز، فإن ذلك ممكن ولكنه بعيداً جداً؛ فكذلك هذا. وقالوا: لا بد أولاً من تحصيل ما حصله العلماء وفهم ما قالوه ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فعساه ينكشف بعد ذلك بالمجاهدة.


[align=center]بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس[/align]

اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس، لأن القلب أيضاً خارج عن إدراك الحس وما لبس مدركاً بالحواس تضعف الأفهام عن دركه إلا بمثال محسوس. ونحن نقرب ذلك إلى الأفهام الضعيفة بمثالين:

أحدهما: أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض احتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم وقد يكون أغزر وأكثر. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر يعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.
فإن قلت: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه؟ فاعلم أن هذا من عجائب أسرار القلب ولا يسمح بذكره في علم المعاملة بل القدر الذي يمكن ذكره أن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين. فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرج إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء وارض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه. والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ.
فكأن للعالم أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي - أعني وجود صورته في الخيال - ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي - أعني وجود صورته في القلب وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية. والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض؛ وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبع صورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب فإنك أبداً لا تدرك إلا ما هو واصل إليك، فلو لم يجعل للعالم كله مثالاً في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك، فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار، حتى صارت قلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها.
ولنرجع إلى الغرض المقصود فنقول: القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ، كما أن العين يتصور أن يحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمس ويحكي صورتها. فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس، فيكون ذلك كتفجر الماء من عمق الأرض. ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجاباً له عن مطالعة اللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار منع ذلك من التفجر في الأرض، وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظراً إلى نفس الشمس؛ فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة. وعالم الشهادة والملك أيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة. فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك. وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس. وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم "سبق المفردون" قيل ومن المفردون يا رسول الله؟ قال "المتنزهون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً" ثم قال في وصفهم إخباراً عن الله تعالى فقال "ثم أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه؟ ثم قال تعالى: أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم" ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن فإذا الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا وهو أن علومهم تأتي من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يتأتى من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك، وعجائب عالم القلب وتردده بين عالمي الشهادة والغيب لا يمكن أن يستقصى في علم المعاملة. فهذا مثال يعلمك الفرق بين مدخل العالمين.
المثال الثاني: يعرفك الفرق بين العملين، أعني عمل العلماء وعمل الأولياء: فإن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط، فقد حكي أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياً ويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك من قولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ؟ فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التقصيل؛ فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم، فكيفما كان الأمر فقلت المؤمن لا يموت وعلمه عند الموت لا يمحى وصفاؤه لا يتكدر وإليه أشار الحسن رحمه الله عليه بقوله: التراب لا يأكل محل الإيمان بل يكون وسيلة وقربة إلى الله تعالى.
وأما ما حصله من نفس العلم وما حصله من الصفاء والاستعداد لقبول نفس العلم فلا غنى به عنه ولا سعادة لأحد إلا بالعلم والمعرفة، وبعض السعادات أشرف من بعض كما أنه لا غنى إلا بالمال. فصاحب الدرهم غني وصاحب الخزائن المترعة غني، وتفاوت درجات السعداء بحسب تفاوت المعرفة والإيمان كما تتفاوت درجات الأغنياء بحسب قلة المال وكثرته، فالمعارف أنوار ولا يسعى المؤمنون إلى لقاء الله تعالى إلا بأنوارهم قال الله تعالى "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" وقد روي في الخبر "أن بعضهم يعطى نوراً مثل الجبل وبعضهم أصغر حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوراً على إبهامقدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدم قدميه فمشى وإذا طفئ قام، ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر طرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كالفرس إذا اشتد في ميدانه، والذي أعطي نوراً على إبهام قدمه يحبو حبواً على وجهه ويديه ورجليه يجر يداً ويعلق أخرى ويصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص" الحديث فبهذا ظهر تفاوت الناس في الإيمان ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين سوى النبيين والمرسلين لرجح. فهذا أيضاً يضاهي قول القائل: لو وزن نور الشمس بنور السرج كلها لرجح؛ فإنما أحاد العوام نوره مثل نور السراج وبعضهم نوره كنور الشمع، وإيمان الصديقين كنور القمر والنجوم، وإيمان الأنبياء كالشمس. وكما ينكشف في نور الشمس صورة الآفاق مع اتساع أقطارها ولا ينكشف في نور السراج إلا زواية ضيقة من البيت فكذلك انشراح الصرد بالمعارف وانكشاف سعة الملكوت لقلوب العارفين. ولذلك جاء في الخبر "أنه يقال يوم القيامة اخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة" كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع دخول النار، وفي مفهومه أن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار، إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولاً وأن من في قلبه مثقال ذرة لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان المؤمن إشارة إلى تفضيل قلب العارف بالله تعالى الموقن فإنه خير من ألف قلب من العوام. وقد قال تعالى "وأنت الأعلون إن كنتم مؤمنين" تفضيلاً للمؤمنين على المسلمين والمراد به المؤمن العارف دون المقلد وقال عز وجل "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فأراد ههنا بالذين آمنوا الذين صدقوا من غير علم وميزهم عن الذين أوتوا العلم. ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد وإن لم يكن تصديقه عن بصيرة وكشف.
وفسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى "والذين أوتوا العلم درجات" فقال يرفع الله العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وقال صلى الله عليه وسلم "أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب وقال صلى الله عليه وسلم "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" وفي رواية "كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" فبهذه الشواهد يتضح لك تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت قلوبهم ومعارفهم، ولهذا كان يوم القيامة يوم التغابن إذ المحروم من رحمة الله عظيم الغبن والخسران، والمحروم يرى فوق درجته درجات عظيمة فيكون نظره غليها كنظر الغني الذي يملك عشرة دراهم إلى الغني الذي يملك الأرض من المشرق إلى المغرب وكل واحد منهما غني ولكن ما أعظم الفرق بينهما وما أعظم الغبن على من يخسر حظه من ذلك "وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا".

[align=center]بيان شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف
في اكتساب المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد [/align]


اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به، فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جداً، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات:

أما الشواهد: فقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريق الكشف والإلهام. وقال صلى الله عليه وسلم "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار وقال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" من الإشكالات والشبه "ويرزقه من حيث لا يحتسب" يعلمه علماً من غير تعلم ويفطنه من غير تجربة. وقال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" قيل نوراً يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من سؤال النور فقال عليه الصلاة والسلام "اللهم أعطني نوراً وزدني نوراً واجعل لي في قلبي نوراً وفي قبري نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً حتى قال في شعري وفي بشري وفي لحمي ودمي وعظامي" وسئل صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" ما هذا الشرح؟ فقال "هو التوسعة إن النور إذا قذف به في القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال علي رضي الله عنه: ما عندنا شيء أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلينا إلا أن يؤتى الله تعالى عبداً فهماً في كتابه وليس هذا بالتعلم"؟ وقيل في تفسير قوله تعالى "يؤتى الحكمة من يشاء" إنه الفهم في:كتاب الله وقال تعالى "ففهمناها سليمان" خص ما انكشف باسم الفهم. وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم. وقال بعض السلف: ظن المؤمن كهانة.وقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى وإليه يشير قوله تعالى "إن في ذلك لآيات للمتوسمين" وقوله تعالى "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" وروى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "العلم علمان فعلم باطن في القلب فذلك هو العلم النافع" وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو؟ فقال: هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً. وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن من أمتي محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم" وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" يعني الصديقين والمحدث هو الملهم، والملهم هو الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل لا من جهة المحسوسات الخارجة.
والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف: وذلك علم من غير تعلم. وقال الله تعالى "وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون" خصصها بهم وقال تعالى "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين" وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صار جاهلاً، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء؟ بلا حفظ ولا درس. وهذا هو العلم الرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى "وعلمنا من لدنا علماً" مع أن كل علم من لدنه ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علماً لدنيا بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر.

وأما مشاهدة ذلك بالتجارب فذلك أيضاً خارج عن الحصر وظهر ذلك على الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها عند موته: إنما هما أخواك وأختاك، وكانت زوجته حاملاً فولدت بنتاً فكان قد عرف قبل الولادة أنها بنت. وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته: يا سارية الجبل الجبل؛ إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك، ثم بلوغ صوته إليه من جملة الكرامات العظيمة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزراً وتأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه لما دخلت: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه أما علمت أن زنا العينين النظر؟ لتتوبن أو لأعزرنك فقلت: أوحي بعد النبي؟ فقال. لا، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة. وعن أبي سعيد الخراز قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كل على الناس، فناداني وقال "والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" فاستغفرت الله في سري فناداني وقال "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" ثم غاب عني ولم أره.
وقال زكريا بن داود: دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضل الهاشمي - وهو عليل وكان ذا عيال ولم يعرف له سبب يعيش به - قال: فلما قمت قلت في نفسي من أين يأكل هذا الرجل؟ قال: فصاح بي يا أبا العباس رد هذه الهمة الدنية فإن لله تعالى ألطافاً خفية. وقال أحمد النقيب: دخلت على الشبلي فقال مفتوناً: يا أحمد فقلت: ما الخبر؟ قال: كنت جالساً لجرى بخاطري أنك بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فعاد مني خاطري وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني، قال: فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون ديناراً فقال" اجعلها في مصالحك، قال: وقمت فأخذتها وخرجت وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزيد يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير، فقال: أعطها المزين، فقلت: إن جملتها كذا وكذا، قال: أوليس قد قلنا لك إنك بخيل؟ قال: فناولتها المزين فقال المزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجراً، قال: فرميت بها في دجلة وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل. وقال حمزة بن عبد الله العلوي: دخلت على أبي الخير النيناني واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل في داره طعاماً، فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقاً فيه طعام وقال: يا فتى كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك، وكان أبو الخير النيناني هذا مشهوراً بالكرامات وقام إبراهيم الرقي: قصدته مسلماً عليه فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي! فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبع فعدت إلى أبي الخير وقلت: قصدني سبع، فخرج وصاح به وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني؟ فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال لي: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد.
وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه، ومن سماع صوت الهاتف، ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحدما لم يشاهد ذلك من نفسه، ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحد أمران أحدهما: عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه! والثاني: إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جاز لغيره إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق، وهذا لا يسمى نبياً بل يسمى ولياً، فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان: باب إلى خارج وهو الحواس، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحي، فإذا أقربهما جميعاً لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة، بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيل إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت. وأما السبب في انكشاف الأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير وكذلك تمثل الملائكة للأنبياء والأولياء بصور مختلفة فذلك أيضاً من أسرار عجائب القلب، ولا يليق ذلك إلا بعلم المكاشفة فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها. فقد قال بعض المكاشفين ظهر لي الملك فسألني أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي عن مشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلى الله عز وجل فقلت: ألستما تكتبان الفرائض؟ قالا: بلى، قلت: فيكفيكما ذلك. وهذه إشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب وإنما يطلعون على الأعمال الظاهرة. وقال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفت إلى شماله فقال: ما تقول رحمك الله؟ ثم التفت إلى يمينه فقال: ما تقول رحمك الله؟ ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك الله؟ ثم أجاب بأغرب جواب سمعته فسألته عن التفاته فقال: لم يكن عندي في المسألة جواب عتيد، فسألت صاحب الشمال فقال لا أدري! فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال لا أدري، فنظرت إلى قلبي وسألته فحدثني بما أجبتك فإذا هو أعلم منهما. وكأن هذا هو معنى قوله عليه السلام "إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم".
وفي الأثر: إن الله تعالى يقول: أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه. وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه: القلب بمنزلة القبة المضروبة حولها أبواب مغلقة باب فتح له عمل فيه؟ فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة الملكوت والملأ الأعلى، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة والورع والإعراض عن شهوات الدنيا. ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة. وقال بعض العلماء: يد الله على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ الله لهم من الحق. وقال آخر: لو شئت لقلت إن الله تعالى يطلع الخاشعين على بعض سره.

[align=center]بيان تسلط الشيطان على القلب بالوساوس
ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها [/align]


اعلم أن القلب كما ذكرناه مثال قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، ومثاله أيضاً مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا تخلو عنها، أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه. وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال؛ أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان؛ فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرة الأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر. والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذه الأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر؛ وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الأفكار، والأذكار، وأعني به إدراكاته علوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوى بالبال لا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر، ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة، وإلى ما يدعو إلى ما ينفع في الدار الآخرة. فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والخاطر المذموم أعنى الداعي إلى الشر يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب. فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة.
وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً واللطيف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاًو الذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمىإغواء وخذلاناً، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف، وقد خلقه وسخره لذلك والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء؛ والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة في مقابلة الإلهام، والشيطان في مقابلة الملك، والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليه الإشارة بقوله تعالى "ومن كل شيء خلقنا زوجين" فإن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها. فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم -ثم تلا قوله تعالى "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء" الآية". وقال الحسن إنما هما همان يجولان في القلب هم من الله تعالى وهم من العدو، فرحم الله عبداً وقف عند همه فما كان من الله تعالى أمضاه وما كان من عدوه جاهده.
ولتجاذب القلب بين هذين المسلطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" فالله تعالى عن أن يكون له أصبح مركبة من لحم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير، فإنك لا تريد إصبعك لشخصه بل لفعله في التقليب والترديد كما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك. والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطان وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب، كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلاص. والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحاً متساوياً ليس بترجح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا وله شيطان" قالوا وأنت يا رسول الله؟ قال "وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمر إلا بخبر وإنما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير. ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالاً فوسوس. ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله وأقبل الملك وألهم. والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً. وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وإطراح الآخرة. ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى. ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة. وقال جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدر من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه. يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان. ولذلك قال الله تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك سلط الله عليه الشيطان. وقال تعالى "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده فهو عبد الهوى لا عبد الله. ولذلك قال عمرو ابن العاص للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال "ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً" قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني".
وفي الخبر "إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوا بالله منه" ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب ذلك شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل، ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال. ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى "من شر الوسواس الخناس" قال: هو منبسط على القلب؛ فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض، وإذا غفل انبسط على قلبه. فالتطارد بين الله تعالى ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار، ولتضادهما قال الله تعالى "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله" وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن هو ذكر الله تعالى خنس وإن نسي الله تعالى التقم قلبه" وقال ابن وضاح في حديث ذكره: إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده وقال: بأبى وجه من لا يفلح".
وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم فسلطنة الشيطان أيضاً سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع". وذلك لأن الجوع يكسر الشهوة ومجرى الشيطان الشهوات. ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه قال الله تعالى إخباراً عن إبليس "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" وقال صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر أتدع أرضك وسمائك؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك، فعصاه وجاهد" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الوسوسة وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتل وتنكح نساؤه وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد وهذه الخواطر معلومة. فإذاً الوسواس معلوم بالمشاهدة وكل خاطر فله سبب ويفتقر إلى اسم يعرفه فاسم سببه الشيطان ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، ولذلك قال عليه السلام "ما من أحد إلا وله شيطان".
فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه جسم لطيف أو ليس بجسم. وإن كان جسماً فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم؟ فهذا الآن غير محتاج إليه في علم المعاملة. بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاج إلى إزالتها ودفع ضررها فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها وذلك عين الجهل فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة، وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو فقد عرف العدو لا محالة فينبغي أن يشتغل بمجاهدته وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين" فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه. نعم ينبغي أن يسأل عن سلاحه ليدفعه عن نفسه وسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين. فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته - نعوذ بالله منه - وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات فلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته. نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة. وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاماً، وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان؟ فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير، والتمييز في ذلك غامض وأكثر العباد به يهلكون، فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصور الشر بصورة الخير، كما يقول للعالم بطريق الوعظ: أما تنظر إلى الخلق وهم موتى من الجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار؟ أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم من المعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة؟ فكيف تكفر نعمة الله وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم؟ وهو لا يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بطليف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ الناس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له: إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق. ولا يزال يقرر ذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلى الهلاك، فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير وإنما قصده الجاه والقبول، فيهلك بسبب وهو يظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم". و "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ولذلك روي أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فقال له" قل لا إله إلا الله. فقال: كلمة حق ولا أقولها بقولك. لأن له أيضاً تحت الخير تلبيسات، وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة.
وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور في آخر هذا الربع. ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتاباً على الخصوص نسميه (تلبيس إبليس) فإنه قد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات، حتى لم يبق من الخيرات إلا رسمها، كل ذلك إذعاناً لتلبيسات الشيطان ومكايده.
فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أو لمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع، ولا يطلع عليه إلا بنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا" أي رجعوا إلى نور العلم "فإذا هم مبصرون" أي ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسه بمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه وهو لا يشعر. وفي مثلهم قال سبحانه وتعالى "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" قيل هي أعمال ظنوها حسنات فإذا هي سيئات. وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايد الشيطان وذلك فرض عين على كل عبد وقد أهمله الخلق واشتغلوا بعلوم تستجر إليهم الوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته وطريق الاحتراز عنه. ولا ينجى من كثرة الوسواس إلا سد أبواب الخواطر. وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهوات وعلائق الدنيا. والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس. والتجرد عن الأهل والمال يقلل مداخل الوسواس من الباطن ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلب وذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم أنه لا يزال يجاذب القلب وينازعه ويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته، وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذ لا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حياً. نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسه شره بالجهاد، ولكن لا يستغنى قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه. فإذا ما دام حياً فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق وهي الشهوة والغضب والحسد والطمع والشره وغيرها - كما سيأتي شرحها - ومهما كان الباب مفتوحاً والعدو غير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة.
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان؟ فتبسم وقال: لو نام لاسترحنا. فإذن لا خلاص للمؤمن منه. نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته. قال صلى الله عليه وسلم "إن المؤمن ينضى شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في سفره" وقال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول. وقال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني دخلت فيك وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور، قلت: ولم ذاك؟ قال: تذيبني بذكر الله تعالى. فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة، أعني الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة، وإنما يتعثرون في طرقه الغامضة فإنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماء والوعاظ والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة وباب الملائكة باب واحد، وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة. والعين البصيرة ههنا هي القلب المصفى بالتقوى. والشمس المشرقة هو العلم الغزير المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة وغامضة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطا وقال "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثم قال "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم تلا "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل" لتلك الخطوط فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه.
وقد ذكرنا مثالاً للطريق الغامض من طرقه وهو الذي يخدع له العلماء والعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة، فلنذكر مثالاً لطريقه الواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه. وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "كان راهب في بني إسرائيل فعمد الشيطان إلى جارية فخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب، فأتوا بها إليه فأبى أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان فزين له مقاربتها ولم يزل به حتى واقعها فحملت منه، فوسوس إليه وقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن سألوك فقل ماتت، فقتلها ودفنها، فأتي الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها، فأتاه أهلها فسألوه عنها فقال: ماتت، فأخذوه ليقتلوه بها فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي خنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها فأطعني تنج وأخلصك منهم قال: بماذا؟ قال: اسجد لي سجدتين؛ فسجد له سجدتين فقال له الشيطان: إني بريء منك. فهو الذي قال الله تعالى فيه "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" فانظر الآن إلى حيله واضطراره الراهب إلى هذه الكبائر، وكل ذلك لطاعته له في قبول الجارية للمعالجة وهو أمر هين وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى فيقدم عليه كالراغب في الخير فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لا يجد محيصاً: فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".

[align=center]بيان تفصيل مداخل الشيطان إلى القلب[/align]

اعلم أن مثال القلب مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه، فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة وهو فرض عين على كل عبد مكلف، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله فصارت معرفة مداخله واجبة. ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة، ولكنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.

فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة؛ فإن الغضب هو غول العقل وإذا ضعفت جند العقل هجم جند الشيطان. ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة. فقد روي أن موسى عليه السلام لقيه إبليس فقال له: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك وأنا خلق من خلق الله أذنبت وأريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب علي، فقال موسى: نعم، فلما صعد موسى الجبل وكلم ربه عز وجل وأراد النزول قال له ربه: أد الأمانة، فقال موسى: يا رب عبدك إبليس يريد أن تتوب عليه، فأوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى قد قضيت حاجتك مرة أن يسجد لقبر آدم حتى يتاب عليه، فلقي موسى إبليس فقال له: قد قضيت حاجتك أمرت أن تسجد لقبر آدم حتى يتاب عليك، فغضب واستكبر وقال: لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً؟ ثم قال له: يا موسى إن لك علي حقاً بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني حين تغضب فإن روحي في قلبك وعيني في عينك وأجري منك مجرى الدم؛ اذكرني إذا غضبت فإنه إذا غضب الإنسان نفخت في أنفه فما يدري ما يصنع، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف فأذكره زوجته وولده وأهله حتى يولى، وإياك أن تجلس إلى امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها فلا أزل حتى أفتنك بها وأفتنها بك. فقد أشار بهذا إلى الشهوة والغضب والحرص فإن الفرار من الزحف حرص على الدنيا، وامتناعه من السجود لآدم ميتاً هو الحسد وهو أعظم مداخله وقد ذكر أن بعض الأولياء قال لإبليس: أرني كيف تغلب ابن آدم؟ فقال: آخذه عند الغضب وعند الهوى، فقد حكي أن إبليس ظهر لراهب فقال له الراهب: أي أخلاق بني آدم أعون لك؟ قال: الحدة فإن العبد إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة: وقيل: إن الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه؟
ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص فمهما كان العبد حريصاً على كل شيء أعماه حرصه وأصمه إذ قال صلى الله عليه وسلم "حبك للشي يعمي ويصم ونور البصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان فإذا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته وإن كان منكراً وفاحشاً. فقد روي أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمره الله تعالى، فرأى في السفينة شيخاً لم يعرفه فقال له نوح: ما أدخلك؟ فقال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك، فقال له نوح: أخرج منها يا عدو الله فإنك لعين، فقال له إبليس: خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثك باثنتين، فأوحى الله تعالى إلى نوح: أنه لا حاجة لك بالثلاث فليحدثك بالاثنتين، فقال له نوح: ما الاثنتان؟ فقال: هما اللتان لا تكذباني هما اللتان لا تخلفاني بهما أهلك الناس؛ الحرص والحسد، فبالحسد لعنت وجعلت شيطاناً رجيماً، وأما الحرص فإنه أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة فأصبت حاجتي منه بالحرص.
ومن أبوابه العظيمة: الشبع من الطعام وإن كان حلالاً صافياً؛ فإن الشبع يقوي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان. فقد روي أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال له: يا إبليس ما هذه المعاليق؟ قال: هذه الشهوات التي أصبت بها ابن آدم فقال: فهل فيها من شيء؟ قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: فهل غير ذلك؟ قال: لا" قال لله على أن لا أملأ بطني من الطعام أبداً، فقال له إبليس: والله على أن لا أنصح مسلماً أبداً. ويقال في كثرة الأكل ست خصال مذمومة؛ أولها: أن يذهب خوف الله من قلبه. الثاني: أن يذهب رحمة الخلق من قلبه لأنه يظن أنهم كلهم شباع. والثالث: أنه يثقل عن الطاعة. والرابع: أنه إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة، والخامس: أنه إذا تكلم بالموعظة والحكمة لا يقع في قلوب الناس. والسادس: أن يهيج فيه الأمراض.
ومن أبوابه: حب التزين من الأثاث والثياب والدار، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالباً على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب ويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية، فإن بعض ذلك يجره إلى البعض فلا يزال يؤديه من شيء إلى شيء إلى أن يساق إليه أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الوى ويخشى من ذلك سوء العاقبة بالكفر نعوذ بالله منه.
ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس: لأنه إذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس حتى المطموع فيه كأنه معبوده فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ويدخل كل مدخل للوصول إلى ذلك. وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه والمداهنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد روى صفوان بن سليم أن إبليس تمثل لعبد الله بن حنظلة فقال له: يا ابن حنظلة احفظ عني شيئاً أعلمك به فقال: لا حاجة لي به: قال: انظر فإن كان خيراً أخذت وإن كان شراً رددت، يا ابن حنظلة لا تسأل أحداً غير الله سؤال رغبة؟ وانظر كيف تكون إذا غضبت؟ فإني أملكك إذا غضبت.
ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، وقال صلى الله عليه وسلم "العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى وقال عز وجل "خلق الإنسان من عجل" وقال تعالى "وكان الإنسان عجولاً" وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه" وهذا لأن الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل، والعجلة تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يروج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري. فقد روي أنه لما ولد عيسى بن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها فقال هذا حادث، مكانكم فطار حتى أتي خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد وإذا الملائكة حافين به، فرجع إليهم فقال: إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا حاضرها إلا هذا، فأيسوا من أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة والخفة.
ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار؛ فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب. فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق انبعث من قلبه شهوات تحتاج كل شهوة منها إلى مائة دينار أخرى فلا يكفيه ما وجد بل يحتاج إلى تسعمائة أخرى، وقد كان قيل قبل وجود المائة مستغنياً، فالآن لما وجد مائة ظن أنه صار بها غنياً وقد صار محتاجاً إلى تسعمائة ليشتري داراً يعمرها وليشتري جارية وليشتري أثاثاً ويشتري الثياب الفاخرة، وكل شيء من ذلك يستدعي شيئاً آخر يليق به. وذلك لا آخر له فيقع في هاوية آخرها عمق جهنم فلا آخر لها سواء. قال ثابت البناني لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو فانطلقوا حتى أعيوا ثم جاءوا وقالوا ما ندري؟ قال: أنا آتيكم بالخبر فذهب ثم جاء وقال: قد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فينصرفون خائبين ويقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك، فقال لهم إبليس: رويداً بهم عسى الله أن يفتح لهم الدنيا فنصيب منهم حاجتنا. وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام توسد يوماً حجراً فمر به إبليس فقال: يا عيسى رغبت في الدنيا؟ فأخذه عيسى صلى الله عليه وسلم فرمى به من تحت رأسه وقال: هذا لك مع الدنيا وعلى الحقيقة من يملك حجراً يتوسد به عند النوم فقد ملك من الدنيا ما يمكن أن يكون عدة للشيطان عليه. فإن القائم بالليل مثلاً للصلاة مهما كان بالقرب منه حجر، يمكن أن يتوسده؟ ولا تتحرك رغبته إلى النوم. هذا في حجر فكيف بمن يملك المخاد الميثرة والفرش الوطيئة والمنتزهات الطيبة فمتى ينشط لعبادة الله تعالى؟ ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوف الفقر؛ فإن ذلك هو الذي يمنع الإنفاق والتصدق ويدعو إلى الإدخار والكنز والعذاب الأليم وهو الموعود للمكاثرين كما نطق به القرآن العزيز. قال خيثمة بن عبد الرحمن: إن الشيطان يقول: ما غلبني ابن غلبة فلن يغلبني على ثلاث؛ أن يأخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، ومنعه من غير حقه. وقال سفيان: ليس للشيطان سلاح مثل خوف الفقر فإذا قبل ذلك منه أخذ في الباطل ومنع من الحق وتكلم بالهوى وظن بربه ظن السوء.
ومن آفات البخل الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق هي معشش الشياطين. وقال أبو إمامة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن إبليس لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيماً فاجعل لي بيتاً قال الحمام، قال: اجعل لي مجلساً قال الأسواق ومجامع الطرق، قال: اجعل لي طعاماً قال طعامك ما يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شراباً قال كل مسكر، قال: اجعل لي مؤذناً قال المزامير، قال: اجعل لي قرآناً قال الشعر، قال: اجعل لي كتاباً قال الوشم، قال: اجعل لي حديثاً قال الكذب، قال: اجعل لي مصايد قال النساء".
ومن أبوابه العظيمة: التوصل: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد على الخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار، وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعاً فإن الطعن في الناس والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفات السبعية، فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق وكان موافقاً لطبعه غلبت حلاوته على قلبه فاشتغل به بكل همته، وهو بذلك فرحان مسرور يظن أنه يسعى في الدين وهو ساع في اتباع الشياطين، فترى الواحد منهم يتعصب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آكل الحرام ومطلق اللسان بالفضول والكذب ومتعاط لأنواع الفساد ولو رآه أبو بكر لكان أول عدو له إذ موالي أبي بكر من أخذ سبيله وسار بسيرته وحفظ ما بين لحييه، وكان من سيرته رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه فأنى لهذا الفضولي أن يدعي ولاءه وحبه ولا يسير بسيرته؟ وترى فضولياً آخر يتعصب لعلي رضي الله عنه وكان من زهد علي وسيرته أنه لبس في خلافته ثوباً اشتراه بثلاثة دراهم وقطع رأس الكمين إلى الرسغ، ونرى الفاسق لابساً الثياب الحرير ومتجملاً بأموال اكتسبها من حرام وهو يتعاطى حب علي رضي الله عنه ويدعيه وهو أول خصمائه يوم القيامة، وليت شعري من أخذ ولداً عزيزاً لإنسان هو قرة عينه وحياة قلبه فأخذ يضربه ويمزقه وينتف شعره ويقطعه بالمقراض وهو مع ذلك يدعي حب أبيه وولاءه فكيف يكون حاله عنده؟ ومعلوم أن الدين والشرع كانا أحب إلا أبي بكر وعمر وعثمان وعلى سائر الصحابة رضي الله عنهم، من الأهل والولد بل من أنفسهم والمقتحمون لمعاصي الشرع هم الذين يمزقون الشرع ويقطعونه بمقاريض الشهوات ويتوددون به إلى عدو الله إبليس وعدو أوليائه فترى كيف يكون حالهم يوم القيامة عند الصحابة وعند أولياء الله تعالى؟ لا بل لو كشف الغطاء وعرف هؤلاء ما تحبه الصحابة في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستحيوا أن يجروا على اللسان ذكرهم مع قبح أفعالهم؟ ثم إن الشيطان يخيل إليهم أن من مات محباً لأبي بكر وعمر فالنار لا تحوم حوله، ويخيل إلى الآخر أنه إذا مات محباً لعلي لم يكن عليه خوف وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لفاطمة رضي الله عنها وهي بضعة منه اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً وهذا مثال أوردناه من جملة الأهواء. وهكذا حكم المتعصبين للشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من الأئمة فكل من ادعى مذهب إمام وهو ليس يسير بسيرته فذلك الإمام هو خصمه يوم القيامة إذ يقول له: كان مذهبي العمل دون الحديث باللسان، وكان الحديث باللسان لأجل العمل لا لأجل الهذيان؛ فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي ومسلكي الذي سلكته وذهبت فيه إلى الله تعالى ثم ادعيت مذهبي كاذباً؟ وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطان قد أهلك به أكثر العالم، وقد سلمت المدارس لأقوام قل من الله خوفهم وضعفت في الدين بصيرتهم وقويت في الدنيا رغبتهم واشتد على الاستتباع حرصهم ولم يتمكنوا من الاستتباع وإقامة الجاه إلا بالتعصب، فحبسوا ذلك في صدورهم ولم ينبهوهم على مكايد الشيطان فيه، بل نابوا عن الشيطان في تنفيذ مكيدته فاستمر الناس عليه ونسوا أمات دينهم فقد هلكوا وأهلكوا فالله تعالى يتوب علينا وعليهم، وقال الحسن: بلغنا أن إبليس قال: سولت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المعاصي فقصموا ظهري بالاستغفار فسولت لهم ذنوباً لا يستغفرون الله تعالى منها وهي الأهواء. وقد صدق الملعون فإنهم لا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي فكيف يستغفرون منها؟.
ومن عظيم حيل الشيطان أن يشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعة بين الناس في المذاهب والخصومات قال عبد الله بن مسعود: جلس قوم يذكرون الله تعالى فأتاهم الشيطان ليقيمهم عن مجلسهم ويفرق بينهم فلم يستطع، فأتى رفقة أخرى يتحدثون بحديث الدنيا فأفسد بينهم فقاموا يقتتلون - وليس إياهم يريد- فقام الذين يذكرون الله تعالى فاشتغلوا بهم يفصلون بينهم فتفرقوا عن مجسلهم، وذلك مراد الشيطان منهم.
من أبوابه حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يتبحروا فيه على التفكير في ذات الله تعالى وصفاته، وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات يتعالى الله عنها يصير أحدهم بها كافراً أو مبتدعاً وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره، يظن ذلك هو المعرفة والبصيرة وأنه انكشف له ذلك بذكائه وزيادة عقله فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في عقل نفسه وأثبت الناس عقلاً أشدهم اتهاماً لنفسه وأكثرهم سؤالاً من العلماء. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلقك؟ فيقول الله تبارك وتعالى فيقول فمن خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالبحث في علاج هذا الوسواس فإن هذا وسواس يجده عوام الناس دون العلماء وإنما حق العوام أن يؤمنوا ويسلموا ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماء فالعامي لو يزني ويسرق كان خيراً له من أن يتكلم في العلم فإنه من تكلم في الله وفي دينه من غير إتقان العالم وقع في الكفر من حيث لا يدري، كمن يركب لجة البحر وهو لا يعرف السباحة ومكايد الشيطان فيما يتعلق بالعقائد، والمذاهب لا تحصر وإنما أردنا بما أرودناه المثال.
ومن أبوابه سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" فمن يحكم بشر على غيره بالظن بعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أو يتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه. وكل ذلك من المهلكات ولأجل ذلك منع الشرع من التعرض للتهم فقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا مواضع التهم" حتى احترز هو صلى الله عليه وسلم من ذلك. روي عن علي بن حسين أن صفية بنت حي بن أخطب أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في المسجد قالت: فأتيته فتحدثت عنده فلما أمسيت انصرفت فقام يمشي معي فمر به رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا فناداهما وقال "إنها صفية بنت حي" فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيراً، فقال "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من الجسد وإني خشيت أن يدخل عليكما فانظر كيف أشفق صلى الله عليه وسلم على دينهما فحرسهما؟ وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة حتى لا يتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله؟ فيقول: مثل لا يظن به إلا الخير إعجابا منه بنفسه. فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم ولذلك قال الشاعر:

[poet font="Andalus,5,firebrick,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/6.gif" border="groove,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
[/poet]

فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار فإن الأشرار لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر. فمهما رأيت إنساناً يسيء الظن بالناس طالباً للعيوب فاعلم أنه خبيث الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق. فهذه بعض مداخل الشيطان إلى القلب ولو أردت استقصاء جميعها لم أقدر عليه وفي هذا القدر ما ينبه على غيره فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان ومدخل من مداخله.
فإن قلت: فما العلاج في دفع الشيطان وهل يكفي في ذلك ذكر الله تعالى وقول الإنسان لا حول ولا قوة إلا بالله فاعلم أن علاج القلب في ذلك سد هذه المداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة وذلك مما يطول ذكره. وغرضنا في هذا الربع من الكتاب بيان علاج الصفات المهلكات وتحتاج كل صفة إلى كتاب منفرد على ما سيأتي شرحه - نعم إذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات كان للشيطان بالقلب اجتيازات وخطرات ولم يكن له استقرار ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى لأن حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة، وإلا فيكون الذكر حديث نفس لا سلطان له على القلب فلا يدفع سلطان الشيطان. ولذلك قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" خصص بذلك المتقي فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك فإن لم يكن بين يديك خبز أو لحم فإنه ينزجر بأن تقول له: اخسأ، فمجرد الصوت يدفعه. فإن كان بين يديك لحم وهو جائع فإنه يهجم على اللحم ولا يندفع بمجرد الكلام، فالقلب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر، فأما الشهوة إذا غلبت على القلب دفعت حقيقة الذكر إلى حواشي القلب فلم يتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويداء القلب. وأما قلوب المتقين الخالية من الهوى والصفات المذمومة فإنه يطرقها الشيطان لا للشهوات بل لخلوها بالغفلة عن الذكر، فإذا عاد إلى الذكر خنس الشيطان ودليل ذلك قوله تعالى "فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" وسائر الأخبار والآيات الواردة في الذكر.
[b]قال أبو هريرة: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر فإذا شيطان الكافر دهين سمين كاس وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عار، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: مالك مهزول؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعاً وإذا شرب سمى الله فأظل عطشاناً، وإذا لبس سمى الله فأظل عريانا، وإذا ادهن سمى الله فأظل شعثاً، فقال: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً من ذلك فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه. وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيراً بعيوننا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك وقنطه منا كما قنطته من عفوك وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين رحمتك إنك على كل شيء قدير. قال: فتمثل له إبليس يوماً في طريق المسجد فقال له: يا ابن واسع هل تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا إبليس، فقال: وما تريد؟ قال: أريد أن لا تعلم أحد هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك، قال: والله لا أمنعها ممن أراد فاصنع ما شئت. وعن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: كان شيطان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. فقال ذلك فطفئت شعلته وخر على وجهه وقال الحسن. نبئت أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي وقال صلى الله عليه وسلم "أتاني الشيطان فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقه فوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح طريحا في المسجد" وقال صلى الله عليه وسلم "ما سلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير الذي سلكه عمر وهذا لأن القلوب كانت مطهرة عن مرعى الشيطان وقوته وهي الشهوات فمهما طمعت في أن يندفع الشيطان عنك بمجرد الذكر كما اندفع عن عمر رضي الله عنه كان محالاً، وكنت كمن يطمع أن يشرب دواء قبل الاحتماء والمعدة مشغولة بغليظ الأطعمة، ويطمع أن ينفعه كما نفع الذي شربه بعد الاحتماء وتخلية المعدة، والذكر الدواء والتقوى احتماء وهي تخلي القلب عن الشهوات. فإذا نزل الذكر قل

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مايو 24, 2006 7:04 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان ما يؤاخذ به العبد من وساوس القلوب
وهمها وخواطرها وقصودها وما يعفى عنه ولا يؤاخذ به [/align]


اعلم أن هذا أمر غامض، وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء بالشرع. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن الله تعالى يقول للحفظة: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها شيئة وإذا هم بحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً وقد خرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة. وفي لفظ آخر "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت" وفي لفظ آخر، "وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها" وكل ذلك يدل على العفو فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وقوله تعالى "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً" فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه وقوله تعالى "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" وقوله تعالى "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح.
فنقول. أول ما يرد على القلب الخاطر، كما لو خطر له مثلاً صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها. والثاني هيجان الرغبة إلى النظر وهو حركة الشهوة في الطبع وهذا يتولد من الخاطر الأول ونسميه ميل الطبع ويسمى الأول حديث النفس. والثالث حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف، فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل، ويسمى هذا اعتقاداً وهو يتبع الخاطر والميل. الرابع تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصداً، وهذا الهم قد يكون له مبدأ ضعيف ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة فإذا انجزمت الإرادة فربما يندم بعد الجزم فيترك العمل وربما يغفل بعارض فلا يعمل به ولا يلتفت إليه وربما يعوقه عائق فيتعذر عليه العمل.
فههنا أربع أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة: الخاطر وهو حديث النفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم.
فنقول: أما الخاطر فلا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار وكذلك الميل وهيجان الشهوة لأنهما لا يدخلان أيضاً تحت الاختيار، وهما المرادان بقوله صلى الله عليه وسلم "عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها" فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل،
فأما الهم والعزم فلا يسمى حديث النفس، بل حديث النفس كما روى عثمان بن مظعون حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة، قال "مهلاً إن من سنتي النكاح" قال: نفسي تحدثني أن أجب نفسي، قال: "مهلاً خصاء أمتي دءوب الصيام" قال: نفسي تحدثني أن أترهب، قال "مهلاً رهبانية أمتي الجهاد والحج" قال: نفسي تحدثني أن أترك اللحم، قال "مهلاً فإني أحبه ولو أصبته لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس، ولذلك شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه عزم وهم بالفعل.
وأما الثالث: وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا تردد بين أن يكون اضطراراً أو اختياراً، والأحوال تختلف فيه فالاختياري منه يؤاخذ به والا ضطراري لا يؤاخذ به.
وأما الرابع وهو الهم بالفعل: فإنه مؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن كان قد تركه خوفاً من الله تعالى وندما على همه كتبت له حسنة لأن همه سيئة وامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة، والهم على وفق الطبع مما يدل على تمام الغفلة عن الله تعالى، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة فجده في مخالفة الطبع هو العمل لله تعالى والعمل لله تعالى أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع فكتب له حسنة لأنه رجح جده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل، وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه بعذر لا خوفاً من الله تعالى كتبت عليه سيئة، فإن همه فعل من القلب اختياري.
والدليل على هذا التفصيل ما روي في الصحيح مفصلاً في لفظ الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قالت الملائكة عليهم السلام رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه، فإن هو عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي وحيث قال: فإن لم يعملها: أراد به تركها لله، فأما إذا عزم على فاحشة فتعذرت عليه بسبب أو غفلة فكيف تكتب له حسنة؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم "إنما يحشر الناس على نياتهم" ونحن نعلم أن من عزم ليلاً على أن يصبح ليقتل مسلماً أو يزني بامرأة فمات تلك الليلة مات مصراً ويحشر على نيته وقد هم بسيئة ولم يعملها.
والدليل القاطع فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"، فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال "لأنه أراد قتل صاحبه" وهذا نص في أنه صار بمجرد الإرادة من أهل النار مع أنه قتل مظلوماً فكيف يظن أن الله لا يؤاخذ بالنية والهم؟ بل كل هم دخل تحت اختيار العبد فهو مؤاخذ به إلا أنه يكفره بحسنة، ونقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتبت له حسنة، فأما فوت المراد بعائق فليس بحسنة. وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يدخل تحت اختيار فالمؤاخذة به تكليف ما لا يطاق ولذلك لما نزل قوله تعالى "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: كلفنا ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ثم يحاسبه بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تقولون كما قالت اليهود سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا" فأنزل الله الفرج بعد سنة بقوله "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به. فهذا هو كشف الغطاء عن هذا الالتباس. وكل من يظن أن ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ولم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد وأن يغلط وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلب من الكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلب؟ بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا؟ أي ما يدخل تحت الاختيار. فلو وقع البصر بغير اختيار على غير ذي محرم لم يؤاخذ به فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذاً به لأنه مختار فكذا خواطر القلب تجري هذا المجرى بل القلب أولى بمؤاخذته لأنه الأصل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "التقوى ههنا وأشار إلى القلب" وقال الله تعالى "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وقال صلى الله عليه وسلم "الإثم حواز القلوب وقال "البر ما اطمأن إليه القلب وإن أفتوك وأفتوك" حتى إنا نقول إذا حكم القلب المفتى بإيجاب شيء وكان مخطئاً فيه صار مثاباً عليه بل من قد ظن أنه تطهر فعليه أن يصلي. فإن صلى ثم تذكر أنه لم يتوضأ كان له ثواب بفعله. فإن تذكر ثم تركه كان معاقباً عليه. ومن وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها وإن كانت أجنبية. فإن ظن أنها أجنبية ثم وطئها عصى بوطئها وإن كانت زوجته. وكل ذلك نظر إلى القلب دون الجوارح.

[align=center]بيان أن الوسواس هل يتصور أن ينقطع بالكلية
عند الذكر أم لا؟ [/align]


اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق: فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل لأنه عليه السلام قال "فإذا ذكر الله خنس والخنس هو السكوت فكأنه يسكت.
وقالت فرقة: لا ينعدم أصله ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر لأن القلب إذا صار مستوعباً بالذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنه قد يتكلم ولا يفهم وإن كان الصوت يمر على سمعه.
وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضاً ولكن تسقط غلبتها فكأنه يوسوس من بعد وعلى ضعف.
وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظه، ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوقة وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا.
وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقاً لا ينقطع، وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين فقد قال صلى الله عليه وسلم "ما من عبد إلا وله أربعة أعين: عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه وإلى هذا ذهب المحاسبي. والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة ولكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس، وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه.
والوسواس أصناف: الأول: أن يكون من جهة التلبيس بالحق، فإن الشيطان قد يلبس بالحق فيقول للإنسان تترك التنعم باللذات فإن العمر طويل والصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم، فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيم ثوابه وعقابه وقال لنفسه: الصبر عن الشهوات شديد ولكن الصبر على النار أشد منه، ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان وهرب، إذا لا يستطيع أن يقول له النار أيسر من الصبر على المعاصي ولا يمكنه أن يقول المعصية لا تفضي إلى النار، فإن إيمانه بكتاب الله عز وجل يدفعه عن ذلك فينقطع وسواسه. وكذلك يوسوس إليه بالعجب بعمله فيقول: أي عبد يعرف الله كما تعرفه ويعبده كما تعبده؟ فما أعظم مكانك عند الله تعالى! فيتذكر العبد حينئذ أن معرفته وقلبه وأعضاءه التي بها عمله وعلمه كل ذلك من خلق الله تعالى فمن أين يعجب به؟ فيخنس الشيطان إذ لا يمكنه أن يقول ليس هذا من الله فإن المعرفة والإيمان يدفعه. فهذا نوع من الوسواس ينقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة.
الصنف الثاني: أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وهيجانها، وهذا ينقسم إلى ما يعلم العبد يقيناً أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن. فإن علمه يقيناً خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في تحريك الشهوة ولم بخنس عن التهييج وإن كان مظنوناً، فربما يبقى مؤثراً بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه فتكون الوسوسة موجودة ولكنها مدفوعة غير غالبة.
الصنف الثالث: أن تكون وسوسة بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبة والتفكر في غير الصلاة مثلاً فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ساعة ويعود، ويندفع ويعود، فيتعاقب الذكر والوسوسة وبتصور أن يتساوقا جميعاً حتى يكون الفهم مشتملاً على فهم معنى القراءة وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب. وبعيد جداً أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر، ولكنه ليس محالاً إذا قال عليه السلام "من صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من أمر الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه فلولا أنه متصور لما ذكره، إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحب حتى صار كالمستهتر، فإنا قد نرى المستوعب القلب بعدو تأذى به قد يتفكر بمقدار ركعتين وركعات في مجادلة عدوه بحيث لا يخطر بباله غير حديث عدوه، وكذلك المستغرق في الحب قد يتفكر في محادثة محبوبه بقلبه ويغوص في فكره بحيث لا يخطر بباله غير حديث محبوبه، ولو كلمه غيره لم يسمع ولو اجتاز بين يد أحد لكان كأن لا يراه. وإذا تصور هذا في خوف من عدو وعند الحرص على مال وجاه فكيف لا يتصور من خوف النار الحرص على الجنة ولكن ذلك عزيز لضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وإذا تأملت جملة هذه الأقسام وأصناف الوسواس علمت أن لكل مذهب من المذاهب وجهاً في محل مخصوص.
وبالجملة فالخلاص من الشيطان في لحظة أو ساعة غير بعيد ولكن الخلاص منه عمراً طويلاً بعيداً جداً، ومحال في الوجود ولو تخلص أحد من وساوس الشيطان بالخواطر وتهييج الرغبة لتخلص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي: أنه نظر إلى علم ثوبه في الصلاة فلما سلم رمى بذلك الثوب وقال "شغلني عن الصلاة" وقال "اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته وكان في يده خاتم من ذهب فنظر إليه وهو على المنبر ثم رمى به قال "نظرة إليه ونظرة إليكم وكان ذلك لوسوسة الشيطان بتحريك لذة النظر إلى خاتم الذهب وعلم الثوب - وكان ذلك قبل تحريم الذهب فلذلك لبسه ثم رمى به - فلا تنقطع وسوسة عروض الدنيا ونقدها إلا بالرمي والمفارقة، فما دام يملك شيئاً وراء حاجته ولو ديناراً واحداً لا يدعه الشيطان في صلاته من الوسوسة في الفكر في ديناره، وأنه كيف يحفظه؟ وفيماذا ينفقه؟ وكيف يخفيه حتى لا يعلم به أحد وكيف يظهره حتى يتباهى به؟ إلى غير ذلك من الوساوس. فمن أنشب مخالبه في الدنيا وطمع في أن يتخلص من الشيطان كان كمن انغمس في العسل وظن أن الذباب لا يقع عليه فهو محال. فالدنيا باب عظيم لوسوسة الشيطان. وليس له باب واحد بل أبواب كثيرة. قال حكيم من الحكماء: الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي، فإن امتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة، فإن أبى أمره بالتحرج والشدة حتى يحرم ما ليس بحرام، فإن أبى شككه في وضوئه وصلاته حتى يخرجه عن العلم، فإن أبى خفف عليه أعمال البر حتى يراه الناس صابراً عفيفاً فتميل قلوبهم إليه فيعجب بنفسه وبه يهلكه، وعند ذلك يشتد إلحاحه فإنها آخر درجة ويعلم أنه لو جاوزها أفلت منه إلى الجنة.

[align=center]بيان سرعة تقلب القلب وانقسام القلوب
في التغير والثبات [/align]


اعلم أن القلب كما ذكرناه تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها، فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب، فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتتغير صفته. فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره. وإن جذبه مالك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين، وتارة بين شيطانين، وتارة بين ملك وشيطان - ولا يكون قط مهملا ً- وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" ولاطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عجيب صنع الله تعالى في عجائب القلب وتقلبه كان يحلف به فيقول "لا ومقلب القلوب وكان كثيراً ما يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالوا أو تخاف يا رسول الله؟ قال "وما يؤمنني والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وفي لفظ آخر "إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه".
وضرب له صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثلة: فقال "مثل القلب مثل العصفور يتقلب في كل ساعة" وقال عليه السلام "مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غليانا وقال "مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن" وهذه التقلبات وعجائب صنع الله تعالى في تقلبها من حيث لا تهدى إليه المعرفة لا يعرفها إلا المراقبون والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى.
والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما، ثلاثة: قلب عمر بالتقوى وزكا بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق تنقدح فيه خواطر الخير من خزائن الغيب ومداخل الملكوت، فينصرف العقل إلى التفكر فيما خطر له ليعرف دقائق الخير فيه ويطلع على أسرار فوائده فينكشف له بنور البصيرة وجهه، فيحكم بأنه لا بد من فعله فيستحثه عليه ويدعوه إلى العمل به، وينظر الملك إلى القلب فيجده طيباً في جوهره طاهراً بتقواه مستنيراً بضياء العقل معموراً بأنوار المعرفة فيراه صالحاً لأن يكون له مستقراً ومهبطاً، فعند ذلك يمد بجنود لا ترى ويهديه إلى خيرات أخرى حتى ينجر الخير إلى الخير وكذلك على الدوام، ولا يتناهى إمداده بالترغيب بالخير وتيسير الأمر عليه. وإليه الإشارة بقوله تعالى "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى" وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا يخفي فيه الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، فلا يخفى على هذا النور خافية ولا يروج عليه شيء من مكايد الشيطان، بل يقف الشيطان ويوحي زخرف القول غروراً فلا يلتفت إليه وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معموراً بالمنجيات - التي سنذكرها - من الشكر والصبر والخوف والرجاء والفقر والزهد والمحبة والرضا والشوق والتوكل والتفكر والمحاسبة وغير ذلك. وهو القلب الذي أقبل الله عز وجل بوجهه عليه، وهو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وبقوله عز وجل "يا أيتها النفس المطمئنة".القلب الثاني: القلب المخذول المشحون بالهوى، المدنس بالأخلاق المذمومة والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين، المسدود عنه أبواب الملائكة. ومبدأ الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويهجس فيه فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستفتي منه ويستكشف وجه الصواب فيه، فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى وأنس به واستمر على استنباط الحيل له وعلى مساعدة الهوى، فتستولي النفس وتساعد عليه فينشرح الصدر بالهوى وتنبسط فيه ظلماته لانحباس جند العقل عن مدافعته. فيقوى سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني، ويوحي بذلك زخرفاً من القول غروراً فيضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد، ويخبو نور اليقين لخوف الآخرة إذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ جوانبه حتى تنطفئ أنواره، فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها فلا يقدر على أن ينظر، وهكذا تفعل غلبة الشهوة بالقلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار، ولو بصره واعظ وأسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم، وصم عن السمع، وهاجت الشهوة فيه، وسطا الشيطان، وتحركت الجوارح على وفق الهوى فظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من عالم الغيب بقضاء من الله تعالى وقدره. وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" وبقوله عز وجل "لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون" وبقوله "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات كالذي يتورع عن بعض الأشياء ولكنه إذا رأى وجهاً حسناً لم يملك عينه وقلبه وطاش عقله وسقط مساك قلبه، أو كالذي لا يملك نفسه فيها فيه الجاه والرياسة والكبر، ولا يبقى معه مسكة للتثبت عند ظهور أسبابه، أو كالذي لا يملك نفسه عند الغضب مهما استحقر وذكر عيب من عيوبه، أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليه تهالك الواله المستهتر فينسى فيه المروءة والتقوى، فكل ذلك لتصاعد دخان الهوى إلى القلب حتى يظلم وتنطفئ منه أنواره فينطفئ نور الحياء والمروءة والإيمان ويسعى في تحصيل مراد الشيطان.
القلب الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير، فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة وتحسن التمتع والتنعم، فينبعث العقل إلى خاطر الخير ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر وقلة اكتراثها بالعواقب فتميل النفس إلى نصح العقل فيحمل الشيطان حملة على العقل فيقوي داعي الهوى ويقول ما هذا التحرج البارد ولم تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك؟ وهل ترى أحداً من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه؟ أفتترك لهم ملاذ الدنيا يتمتعون بها وتحجر على نفسك حتى تبقى محروماً شقياً متعوباً يضحك عليك أهل الزمان؟ أفتريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان قد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يتمنعوا؟ أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز من مثل ذلك ولو كان ذلك شراً لامتنع عنه؟ فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه؛ فيحمل الملك حملة على الشيطان ويقول هل لك إلا من اتبع لذة الحال ونسى العاقبة؟ أفتقنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد؟ أم تستثقل ألم الصبر عن شهوتك ولا تستثقل ألم النار؟ أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم هواهم ومساعدتهم الشيطان مع أن عذاب النار لا يخففه عنك معصية غيرك؟ أرأيت لو كنت في يوم صائف شديد الحر ووقف الناس كلهم في الشمس وكان لك بيت بارد أكنت تساعد الناس أو تطلب لنفسك الخلاص؟ فكيف تخالف الناس خوفاً من حر الشمس ولا تخالفهم خوفاً من حر النار؟ فعند ذلك تمتثل النفس إلى قول الملك فلا يزال يتردد بين الجندين متجاذباً بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلب الشيطان ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان معرضاً عن حزب الله تعالى وأوليائه، ومساعداً لحزب الشيطان وأعدائه، وجرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عن الله تعالى، وإن كان الأغلب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواء الشيطان وتحريضه إياه على العاجلة وتهوينه أمر الآخرة، بل مال إلى حزب الله تعالى وظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه، فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن - أي بين تجاذب هذين الجندين وهو الغالب - أعني التقليب والانتقال من حزب إلى حزب، أما الثبات على الدوام مع حزب الملائكة أو مع حزب الشيطان فنادر من الجانبين وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة بواسطة خزانة القلب فإنه من خزائن الملكوت، وهي أيضاً إذا ظهرت كانت علامات تعرف أرباب القلوب سابق القضاء. فمن خلق للجنة يسرت له أبواب الطاعات ومن خلق للنار يسرت له أسباب المعاصي وسلط عليه أقران السوء وألقي في قلبه حكم الشيطان، فإنه بأنواع الحكم يغر الحمقى بقوله: إن الله رحيم فلا تبال، وإن الناس كلهم ما يخافون الله فلا تخالفهم، وإن العمر طويل فاصبر حتى تتوب غداً "يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" يعدهم التوبة ويمنيهم المغفرة فيهلكهم بإذن الله تعالى بهذه الحيل وما يجري مجراها، فيوسع قلبه لقبول الغزور ويضيقه عن قبول الحق، وكل ذلك بقضاء من الله وقدر "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء - إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده" فهو الهادي والمضل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. خلق الجنة وخلق لها أهلاً فاستعملهم بالطاعة، وخلق النار وخلق لها أهلا فاستعملهم بالمعاصي. وعرف الخلق علامة أهل الجنة وأهل النار فقال "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" ثم قال تعالى فيما روى عن نبيه صلى الله عليه وسلم "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فتعالى الله الملك الحق لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.
ولنقتصر على هذا القدر اليسير من ذكر عجائب القلب فإن استقصاء لا يليق بعلم المعاملة، وإنما ذكرنا منه ما يحتاج إليه لمعرفة أغوار علوم المعاملة وأسرارها لينتفع بها من لا يقنع بالظواهر ولا يجتزئ بالقشر عن اللباب بل يتشوق إلى معرفة دقائق حقائق الأسباب. وفيما ذكرناه كفاية له ومقنع إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق.


[align=center]تم كتاب عجائب القلب ولله الحمد والمنة. ويتلوه كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق، والحمد لله وحده وصلى الله على كل عبد مصطفى.[/align][saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يونيو 18, 2006 8:42 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق
ومعالجة أمراض القلب
وهو الكتاب الثاني من ربع المهلكات
[/align]


[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره وعدله وتركيب الخلق فأحسن في تصويره، وزين صورة الإنسان بحسن تقويمه وتقديره، وحرسه من الزيادة والنقصان في شكله ومقاديره، وفوض تحسين الأخلاق إلى اجتهاد العبد وتشميره واستحثه على تهذيبها بتخويفه وتحذيره، وسهل على خواص عباده تهذيب الأخلاق بتوفيقه وتيسيره، وأمتن عليهم بتسهيل صعبه وعسيرة، والصلاة والسلام على محمد عبد الله ونبيه وحبيبه وصفيه وبشيره ونذيره، الذي كان يلوح أنوار النبوة من بين أساريره، ويستشرف حقيقة الحق من مخايله وتباشيره، وعلى آله وأصحابه الذين طهروا وجه الإسلام من ظلمة الكفر ودياجيره، وحسموا مادة الباطل فلم يتدنسوا بقليله ولا بكثيره.
أما بعد:فالخلق الحسن صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين. والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمهلكات الدامغة والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد؟ ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى "قد أفلح من زكاها" وإهمالها هو المراد بقوله "وقد خاب من دساها" ونحن نشير في هذا الكتاب إلى جمل من أمراض القلوب وكيفية القول في معالجتها على الجملة من غير تفصيل لعلاج خصوص الأمراض، فإن ذلك يأتي في بقية الكتب من هذا الربع وغرضنا الآن النظر الكلي في تهذيب الأخلاق وتمهيد منهاجها. ونحن نذكر ذلك ونجعل علاج البدن مثالاً له ليقرب من الأفهام دركه ويتضح ذلك ببيان فضيلة حسن الخلق، ثم بيان حقيقة حسن الخلق، ثم بيان قبول الأخلاق للتغير بالرياضة، ثم بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق، ثم بيان الطرق التي بها يعرف تفصيل الطرق إلى تهذيب الأخلاق ورياضة النفوس، ثم بيان العلامات التي بها بعرف مرض القلب ثم بيان الطرق التي يعرف بها الإنسان عيوب نفسه، ثم بيان شواهد النقل على أن طريق المعالجة للقلوب بترك الشهوات لا غير، ثم بيان علامات حسن الخلق، ثم بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول النشوء، ثم بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة فهي أحد عشر فصلاً يجمع مقاصدها هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

[align=center]بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق[/align]

قال الله تعالى لنبيه وحبيبه مثنياً عليه ومظهراً نعمته لديه "وإنك لعلى خلق عظيم" وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين" ثم قال صلى الله عليه وسلم "هو أن تصل قطعك وتعطي من حرمك وتعفو ظلمك وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال صلى الله عليه وسلم "أنقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ قال "حسن الخلق" فأتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ قال "حسن الخلق" ثم أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال "حسن الخلق" ثم أتاه من ورائه فقال يا رسول الله ما الدين؟ فالتفت إليه وقال "أما تفقه؟ هو أن لا تغضب" وقيل يا رسول الله ما الشؤم؟ قال "سوء الخلق وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أوصني فقال "اتق الله حيثما كنت" قال زدني قال "أتبع السيئة تمحها" قال زدني قال "خالق الناس بخلق حسن وسئل عليه السلام: أي الأعمال أفضل؟ قال "خلق حسن" وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما حسن الله خلق عبد وخلقه فيطعمه النار وقالالفضيل قيل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها قال "لا خير فيها هي من أهل النار" وقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق والسخاء ولما خلق الله الإيمان قال اللهم قوني فقواه بحسن الخلق والسخاء، ولما خلق الله الكفر قال اللهم قوني فقواه بالبخل وسوء الخلق وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بهما وقال عليه السلام "حسن الخلق خلق الله الأعظم وقيل: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيماناً؟ قال "أحسنهم خلقاً وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق وقال أيضاً صلى الله تعالى عليه وسلم "سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل" وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنك امرؤ قد حسن الله خلقك فحسن خلقك وعن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وعن أبي مسعود البدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه "اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي" وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الدعاء فيقول "اللهم إني أسألك الصحة والعافية وحسن الخلق" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال "كرم المؤمن دينه، وحسبه حسن خلقه، ومروءته عقله وعن أسامة بن شريك قال: شهدت الأعاريب يسألون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون ما خير ما أعطى العبد؟ قال "خلق حسن" وقال صلى الله عليه وسلم "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من لم تكن فيه أو واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله تقوى تحجزه عن معاصي الله أو حلم يكف به السفيه أو خلق يعيش به بين الناس وكان من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم في افتتاح الصلاة "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" وقال أنس: بينما نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوماً إذ قال "إن حسن الخلق ليذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد وقال عليه السلام "من سعادة المرء حسن الخلق وقال صلى الله عليه وسلم "اليمن حسن الخلق" وقال عليه السلام لأبي ذر "يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا حسب كحسن الخلق وعن أنس قال: قالت أم حبيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت المرأة يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلون الجنة لأيهما هي تكون؟ قال "لأحسنهما خلقاً كان عندها في الدنيا، يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة وقال صلى الله عليه وسلم "إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصائم القائم بحسن خلقه وكرم مرتبته وفي رواية "درجة الظمآن في الهواجر" وقال عبد الرحمن بن سمرة: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال "إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاء حسن خلقه فأدخله على الله تعالى" وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف في العبادة وروى: أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من نساء قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر رضي الله عنه تبادرن الحجاب فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر رضي الله عنه: مم تضحك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ فقال "عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب" فقال عمر: أنت كنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم أقبل عليهن عمر فقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم أنت أغلظ وأفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم "إيهاً يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده وا لقيك الشيطان قط سالكاً فجا إلا سلك فجا غير فجك" وقال صلى الله عليه وسلم "سوء الخلق ذنب لا يغفر وسوء الظن خطيئة تفوح وقال عليه السلام "إن العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك جهنم.
الآثار: قال ابن لقمان الحكيم لأبيه: يا أبت أي الخصال من الإنسان خير؟ قال: الدين، قال: فإذا كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال. قال: فإذا كانت ثلاثاً؟ قال: الدين والمال والحياء، قال: فإذا كانت أربعاً؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق، قال: فإذا كانت خمساً؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء، قال: فإذا كانت ستاً؟ قال: يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو نقي تقي ولله ولي ومن الشيطان بري، وقال الحسن من ساء خلقه عذب نفسه. وقال أنس بن مالك: إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد ويبلغ سوء خلقه أسفل درك في جهنم وهو عابد. وقال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وقال وهب ابن منبه: مثل السيئ الخلق كمثل الفخارة المكسورة لا ترقع ولا تعاد طيناً. وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. وصحب ابن المبارك رجلاً سيئ الخلق في سفر فكان يحتمل منه ويداريه فلما فارقه بكى فقيل له في ذلك فقال: بكيته رحمة له، فارقته وخلقه معه لم يفارقه، وقال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه، الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق وهو كمال الإيمان. وقال الكناني التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. وقال عمر رضي الله عنه: خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال. وقال يحيى بن معاذ: سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات. وسئل ابن عباس: ما الكرم؟ فقال: هو ما بين الله في كتابه العزيز "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" قيل فما الحسب؟ قال: أحسنكم خلقاً أفضلكم حسباً. وقال: لكل بنيان أساس وأساس الإسلام حسن الخلق. وقال عطاء ما ارتفع من ارتفع إلا بالخلق الحسن، ولم ينل أحد كماله إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأقرب الخلق إلى الله عز وجل السالكون آثاره بحسن الخلق.

[align=center]بيان حقيقة حسن الخلق وسوء الخلق[/align]

اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو، وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته، بل ذكر كل واحد من ثمراته ما خطر له وما كان حاضراً في ذهنه ولم يصرفوا العناية إلى ذكر حده وحقيقته بجميع ثمراته على التفصيل والاستيعاب، وذلك كقول الحسن: حسن الخلق بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى. وقال الواسطي: هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال شاه الكرماني: هو كف الأذى واحتمال المؤن. وقال بعضهم: هو أن يكون من الناس قريباً وفيما بينهم غريباً. وقال الواسطي مرة: هو إرضاء الخلق في السراء والضراء. وقال أبو عثمان: هو الرضا عن الله تعالى. وسئل سهل التستري عن حسن الخلق فقال: أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه، وقال مرة: أن لا يتهم الحق في الرزق ويثق به ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه ولا يعصيه في جميع الأمور فيما بينه وبينه وفيما بينه وبين الناس. وقال علي رضي الله عنه. حسن الخلق في ثلاث خصال اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال. وقال الحسين بن منصور: هو أن لا يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق. وقال أبو سعيد الخراز: هو أن لا يكون لك هم غير الله تعالى. فهذا وأمثاله كثير، وهو تعرض لثمرات حسن الخلق لا لنفسه، ثم ليس هو محيطاً بجميع الثمرات أيضاً. وكشف الغطاء عن الحقيقة أولى من نقل الأقاويل المختلفة.
فنقول: الخلق والخلق عبارتان مستعملتان معاً، يقال: فلان حسن الخلق والخلق - أي حسن الباطن والظاهر- فيراد بالخلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة. ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر. ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى "إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح إلى رب العالمين. والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد؛ فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً شيئاً. وإنما قلنا إنها هيئة راسخة، لأن من يصدر منه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم.
فههنا أربعة أمور؛ أحدها: فعل الجميل والقبيح. والثاني: القدرة عليهما. والثالث: المعرفة بهما. والرابع هيئة للنفس بها تميل إلى أحد الجانبين ويتيسر عليها أحد الأمرين؛ إما الحسن وإما القبيح.
وليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء وليس هو عبارة عن القوة؛ لأن نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك، وذلك لا يوجب خلق البخل ولا خلق السخاء وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد. بل هو عبارة عن المعنى الرابع، وهو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل. فالخلق إذن عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة. وكما أن حسن الصورة الظاهرة مطلقاً لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لا بد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر؛ فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق. فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو: قوة العلم، وقوة الغضب وقوة الشهوة، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاثة.
أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة والحكمة رأس الأخلاق الحسنة - وهي التي قال الله فيها "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً".
وأما قوة الغضب: فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة؛ وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة، أعني إشارة العقل والشرع.
وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.
فالعقل مثاله مثال الناصح المشير. وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل. والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة، ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس. والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضاً مؤدباً وتارة يكون جموحاً. فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض. وحسن القوة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة.
فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً، وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً.
والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذ فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضد واحد ومقابل وهو الجور.
وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجربزة، ويسمى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.
فإذن أمهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. ونعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية. ونعني بالعدل حالة للنفس وقوة بها الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها. ونعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها. ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.
فمن اعتدل هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها.
إذ من اعتدال قوة العقل: يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس. ومن إفراطها: تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء. ومن تفريطها: يصدر البله والغمارة والحمق والجنون - وأعني بالغمارة قلة التربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء. والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً-.
وأما خلق الشجاعة: فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة. وأما إفراطها وهو التهور: فيصدر منه الصلف والبذخ والاستشاطة والتكبر والعجب. وأما تفريطها: فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب.
وأما خلق العفة: فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع. وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط: فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.
فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة: وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. والباقي فروعها.
ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه. فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال. ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد، فينبغي أن يبعد، كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدى به ويتقرب إليه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما قال.
وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين وهو ثمرة العقل. ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة. والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال. فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" إشارة إلى أن للشدة موضعاً وللرحمة موضعاً، فليس الكمال في الشدة بكل حال ولا في الرحمة بكل حال. فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه وبيان أركانه وثمراته وفروعه.

[align=center]بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة[/align]

اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها فإن الطباع لا تتغير.
واستدل فيه بأمرين؛ أحدهما: أن الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر. فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلاً ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيراً ولا القبيح يقدر على تحسين صورته، فكذلك القبح الباطن يجري هذا المجرى. والثاني: أنهم قالوا حسن الخلق يقمع الشهوة والغضب. وقد جربنا ذلك بطول المجاهدة وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع فإنه قط لا ينقطع عن الآدمي فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة. فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة وذلك محال وجوده.
فنقول: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق.
والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول: الموجودات منقسمة إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله، كالسماء والكواكب، بل أعضاء البدن داخلاً وخارجاً، وسائر أجزاء الحيوانات. وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله وإلى ما وجد وجوداً ناقصاً وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه. وشرطه قد يربط باختيار العبد فأن النواة ليس بتفاح ولا نخل وإلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها، ولا تصير تفاحاً أصلاً إلا بالتربية، فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلاً، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه. وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى. نعم الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول ولاختلافها سببان.
أحدهما: قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان، ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيير قوة الشهوة، فإنها أقدم وجوداً، إذ الصبي في مبدأ الفطر تخلق له الشهوة، ثم بعد سبع سنين ربما يخلق له الغضب، وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز.
والسبب الثاني: أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسناً ومرضياً والناس فيه على أربع مراتب "الأولى" وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خالياً عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضاً باتباع اللذات، فهذا سريع القبول للعلاج جداً فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد، وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه في أقرب زمان. "والثانية" أن يكون قد عرف قبح القبيح، ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقياداً لشهواته وإعراضاً عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه، ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول، إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه؛ إذ عليه قلع ما رشه في نفسه أولاً من كثرة الاعتياد للفساد، والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم. "والثالثة" أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها، فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور، وذلك لتضاعف أسباب الضلال. "والرابعة" أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره، وهذا هو أصعب المراتب. وفي مثله قيل: ومن العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب. والأول : من هؤلاء جاهل فقط. والثاني: جاهل وضال. والثالث: جاهل وضال وفاسق. والرابع: جاهل وضال وفاسق وشرير.
وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به: وهو قولهم إن الآدمي ما دام حياً فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائرهذه الأخلاق، فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات! فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك. ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك عن إمساك المال. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط. والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعاً. وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً ومع قوته منقاداً للعقل. ولذلك قال الله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وصفهم بالشدة وإنما تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل الجهاد. وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك، إذ قال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر. وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ولكن لا يقول إلا حقاً فكان عليه السلام لا يخرجه غضب عن الحق وقال تعالى "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه، بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ممكن، وهو المراد بتغيير الخلق فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها فيقدم على الانبساط إلى الفواحش. وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال فدل أن ذلك ممكن، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها والذي يدل على أن المطلوب هو الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعاً، وهو وسط بين طرفي التبذير والتقتير. وقد أثنى الله تعالى عليه فقال "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" وقال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والجمود قال الله تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وقال في الغضب "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال صلى الله عليه وسلم "خير الأمور أوساطها وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم. قال الله تعالى "إلا من أتى الله بقلب سليم" والبخل من عوارض الدنيا، والتبذير أيضاً من عوارض الدنيا، وشرط القلب أن يكون سليماً منهما أي لا يكون ملتفتاً إلى المال ولا يكون حريصاً على إنفاقه ولا على إمساكه، فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك فكان كمال القلب أن يصفوا عن الوصفين جميعاً. وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه لعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط، فإن الفاتر لا حار ولا بارد بل هو وسط بينهما فكأنه خال عن الوصفين. فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير. والشجاعة بين الجبن والتهور. والعفة بين الشره والجمود. وكذلك سائر الأخلاق فكلا طرفي الأمور ذميم؛ هذا هو المطلوب وهو ممكن. نعم يجب على الشيخ المرشد للمريد أن يقبح عنده الغضب رأساً، ويذم إمساك المال رأساً، ولا يرخص له في شيء منه لأنه لو رخص له في أدنى شيء اتخذ ذلك عذراً في استبقاء بخله وغضبه وظن أنه القدر المرخص فيه. فإذا قصد الأصل وبالغ فيه ولم يتيسر له إلا كسر سورته بحيث يعود إلى الاعتدال فالصواب له أن يقصد قلع الأصل حتى يتيسر له القدر المقصود. فلا يكشف هذا السر للمريد فإنه موضع غرور الحمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه بحق وأن إمساكه بحق.

[align=center]بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة[/align]
قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة. وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة، وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضاً. وهذا الاعتدال يحصل على وجهين:
أحدهما: بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفى سلطان الشهوة والغضب، بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع فيصير عالماً بغير تعليم ومؤدباً بغير تأديب كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام وكذا سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. ولا يبد أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب فرب صبي خلق صادق اللهجة سخياً جرياً، وربما يخلق بخلافه، فيحصل ذلك فيه بالاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق، وربما يحصل بالتعلم.


والوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلاً أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعاً له ويتيسر عليه فيصير به جواداً، وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقاً له وطبعاً فيتيسر عليه. وجميع الأخلاق المحمودة شرعاً تحصل بهذا الطريق، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذاً فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة وما لم تترك جميع الأفعال السيئة. وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها، ويكره الأفعال القبيحة ويتألم بها، كما قال صلى الله عليه وسلم "وجعلت قرة عيني في الصلاة"ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ولا ينال كمال السعادة به. نعم المواظبة عليه بالمجاهدة خير ولكن بالإضافة إلى تركها لا بالإضافة إلى فعلها عن طوع ولذلك قال الله تعالى "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" وقال صلى الله عليه وسلم "اعبد الله في الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير" ثم لا يكن في نيل السعادة الموعودة على جسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر. وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة ارسخ وأكمل ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن السعادة فقال، طول العمر في طاعة الله تعالى ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت فإن الدنيا مزرعة الآخرة. وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر كان الثواب أجزل والنفس أزكى وأطهر والأخلاق أقوى وأرسخ، وإنما مقصود العبادات تأثيرها في القلب، وإنما يتأكد تأثيرها بكثرة المواظبة على العبادات. وغاية هذه الأخلاق أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويرسخ فيها حب الله تعالى فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله تعالى عز وجل، فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه الذي يوصله إليه وغضبه وشهوته من المسخرات له فلا يستعملهما إلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى، وذلك بأن يكون موزوناً بميزان الشرع والعقل، ثم يكون بعد ذلك فرحاً به مستلذاً له، ولا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين. ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك؛ فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة، ونرى المقامر قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار، مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بيته وتركه مفلساً ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به، وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة. وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائماً على رجليه وهو لا يحس بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء، بل نرى الفاجر العيار يفتخر بنفسه وبقوته في الصبر على ذلك، حتى يرى ذلك فخراً لنفسه، ويقطع الواحد منهم إرباً إربا على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحاً بما يعتقده كمالاً وشجاعة ورجولية، فقد صارت أحوالها مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره، بل لا حال أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكمال في تخنثه يتباهى به مع المخنثين، حتى يجري بين الحجامين والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجري بين الملوك والعلماء. فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف. فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه؟ بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة؛ فأما ميله إلى الحكمة وحب الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فإنه مقتضى طبع القلب فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه، وإنما غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حب الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل على ذلك المرض.
فإذن قد عرفت بهذا قطعاً أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعاً انتهاء، وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح - أعني النفس والبدن- فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دور، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية -حتى يصير كاتباً بالطبع - فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن، فإن فعل الكاتب هوالخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً، فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع.
وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس. وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له، فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طال بفقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم. وهو معنى قولنا أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها، ثم تتداعى قليلاً قليلاً حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه. وكذلك صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى يفوت أصل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة. وكما أن تكرار ليلة لا يحس تأثيره في فقه النفس بل يظهر فقه النفس شيئاً فشيئاً على التدريج - مثل نمو البدن وارتفاع القامة- فكذلك الطاعة الواحد لا يحس تأثيرهما في تزكية النفس وتطهيرها في الحال، ولكن لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعة فإن الجملة الكثيرة منها مؤثرة، وإنما اجتمعت الجملة من الآحاد، فلكل واحد منها تأثير، فما من طاعة إلا ولها أثر وإن خفي، فله ثواب لا محال. فإن الثواب بإزاء الأثر وكذلك المعصية. وكم من فقيه يستهين بتعطيل يوم وليلة وهكذا على التوالي يسوف نفسه يوماً فيوماً إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه. فكذا من يستهين صغائر المعاصي ويسوف نفسه بالتوبة على التوالي إلى أن يختطفه الموت بغتة أو تتراكم ظلمة الذنوب على قلبه وتتعذر عليه التوبة، إذ القليل يدعو إلى الكثير فيصير القلب مقيداً بسلاسل شهوات لا يمكن تخليصه من مخالبها. وهو المعنى بانسداد باب التوبة وهو المراد بقوله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً" الآية ولذلك قال رضي الله عنه" إن الإيمان ليبدو في القلب نكتة بيضاء، كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض فإذا استكمل العبد الإيمان أبيض القلب كله. وإن النفاق في القلب ليبدو نكتة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق أسود القلب كله.
فإذا عرفت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل، وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذر شراً يره وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".

[align=center]بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق[/align]

قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها. كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له، والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالاً. فنقول:
مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة عليها، مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال وإنما تعتري المعدة الضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسناه - أي بالاعتياد والتعليم تكسب الرذائل - وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء؛ فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن إن كان صحيحاً فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه؛ فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك عليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب وعلاجها بضدها. فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخى، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أن لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد. وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كانت على حد مخصوص -ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه بالكثرة والقلة، ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد - فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار لدواء مأخوذ من عيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية؟ فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها.
فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته. فإن كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشرع فيعلمه أولاً الطهارة والصلاة وظواهر العبادات، وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها، فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه: فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلته منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال، فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل ولا ذل أعظم من ذل السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه، فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة، وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلاً إلى ذلك فرحاً به ملتفتاً إليه استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة. فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار، فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنماً فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ومن راعى في ثوبه شيئاً سوى كونه حلالاً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه.
ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه، كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم. كما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة. فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه، وكذلك سائر الصفات. وكذلك إذا رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه بالصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفه أن يهيئ الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه. وكذلك إذا رآه شاباً متشوقاً إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم، وربما تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء. ويمنعه اللحم والأدم رأساً حتى تذل نفسه وتنكسر شوكته. فلا علاج في مبدأ الإرادة أنفع من الجوع. وإن رأى الغضب غالباً عليه ألزمه الحلم والسكوت وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه.
كما حكى عن بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل. وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج. وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طوال الليل على نصبة واحدة. وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع. وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر؛ إذ خاب من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء بالبذل.
فهذه الأمثلة تعرفك طريق معالجة القلوب. وليس غرضنا ذكر دواء كل مرض - فإن ذلك سيأتي في بقى الكتب - وإنما غرضنا الآن التنبيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميلإليه وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" والأصل المهم في المجاهدة والوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختباراً. فينبغي أن يصبر ويستمر، فإنه إن عود نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت وإذا اتفق منه نقض عزم فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه - كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة - وإذا لم يخوف النفس بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية.

[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يونيو 25, 2006 7:55 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]بيان علامات أمراض القلوب
وعلامات عودها إلى الصحة
[/align]

اعلم أن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له حتى لا يصدر منه أصلاً أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله؛ وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ففي كل عضو فائدة وفائدة القلب الحكمة والمعرفة. وخاصية النفس التي للآدمي، ما يتميز بها عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها: بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة المحبة فمن عرف الله تعالى أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا، ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم" إلى قوله "أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله إلا أن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها، ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه. وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو نزع الروح. فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً والمرض مزمناً واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراءات. فهذه علامات أصول الأمراض.
وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه، ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير به مبذراً فيكون التبذير أيضاً داء، فكان كما يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو أيضاً داء، بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة. وكذلك المطلوب الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عن الطرفين، فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليماً عن هذا المقام خاصة. ويجب أن يكون سليماً عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها، فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية داخلة في زمرة عباد الله المقربين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم أن من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم - أعني الوسط - حتى لا يميل إلى أحد الجانبين فيكون قلبه معلقاً بالجانب الذي مال إليه. ولذلك لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار وإن كان مثل البرق قال الله تعالى "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجي الذين اتقوا" أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه. ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله "اهدنا الصراط المستقيم" إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة.
فقد روي أن بعضهم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: قد قلت يا رسول الله شيبتني هود، فلم قلت ذلك؟ فقال عليه السلام لقوله تعالى "فاستقم كما أمرت" فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها. فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب. فنسأل الله الكريم أن يجعلنا من المتقين.

[align=center]بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه[/align]

اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق: الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته. وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في الزمان وجوده.
الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحوالها وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة الظاهرة ينبهه عليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.
كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأ أدهى إلى عيوبي. وكان يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟ فاستعفى فألح عليه فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال: وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا، فقال: أما هذان فقد كفيتهما. وكان يسأل حذيفة ويقول له أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين فهل ترى علي شيئاً من آثار النفاق؟ فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه!.
فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً كان أقل إعجاباً وأعظم إتهاماً لنفسه، إلا أن هذا أيضاً قد عز فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على قدر الواجب. فلا تخلو في أصدقائك عن حسود أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن مداهن يخفي عنك بعض عيوبك.
ولهذا كان داود الطائي قد اعتزل الناس فقيل له: لم لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي؟ فكانت شهوة ذوي الدين أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم، وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا. ويكاد هذا أن يكون مفصحاً عن ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقرباً لتقلدنا منه منة وفرحنا به واشتغلنا بإزالة العقرب وإبعادها وقتلها، وإنما نكايتها على البدن ويدوم ألمها يوماً فما دونه، ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبداً وآلافاً من السنين. ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له: وأنت أيضاً تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه، ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب. وأصل كل ذلك ضعف الإيمان. فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنه وفضله.
الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساويا. ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم.
الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب.
قيل لعيسى عليه السلام: من أدبك؟ قال ما أدبني أحد، رأيت جهل الجاهل شيناً فاجتنبيه. وهذا كله حيل من فقد شيخاً عارفاً ذكياً بصيراً بعيوب النفس مشفقاً ناصحاً في الدين فارغاً من تهذيب نفسه مشتغلاً بتهذيب عباد الله تعالى ناصحاً لهم، فمن وجد ذلك فقد وجد الطبيب فليلازمه فهو الذي يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده.

[align=center]بيان شواهد النقل من أرباب البصائر
وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلب ترك الشهوات وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات [/align]


اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشف لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين، فإن عجزت عن ذلك فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد، فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة، والعلم يحصل بعد الإيمان وهو وراءه قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فمن صدق بأن مخالفة الشهوات هي الطريق إلى الله عز وجل ولم يطلع على سببه وسره فهو من الذين آمنوا، وإذا اطلع على ما ذكرناه من أعوان الشهوات فهو من الذين أوتوا العلم وكلا وعد الله الحسنى.
والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصر. قال الله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" وقال تعالى "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" قيل نزع منها محبة الشهوات. وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده ومنافق يبغضه وكافر يقاتله وشيطان يضله ونفس تنازعه فبين أن النفس عدو منازع يجب عليه مجاهدته.
ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة. وقال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره وقال نبينا صلى الله عليه وسلم لقوم قدموا من الجهاد "مرحباً بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قيل يا رسول الله ومال الجهاد الأكبر؟ قال "جهاد النفس وقال صلى الله عليه وسلم "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل وقال صلى الله عليه وسلم "كف أذاك عن نفسك ولا تتابع هواها في معصية الله تعالى إذن تخاصمك يوم فليعن بعضك بعضاً إلا أن يغفر الله تعالى ويستر وقل سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد علي من نفسي مرة لي ومرة علي وكان أبو العباس الموصلي يقول لنفسه: يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخر مع العباد تجتهدين كأني بك بين الجنة والنار تحبسين يا نفس ألا تستحين! وقال الحسن: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: جاهد نفسك بأسياف الرياضة. والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام وحمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى، البلوغ إلى الغايات وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء والصبر على الأذى وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتامن من بواثقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها، فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان. وقال أيضاً: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات.
قال بعض الحكماء: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها؛ محصوراً في سجن هواها، مقهوراً مغلولاً زمامه في يدها تجره حيث ساءت فتمنع قلبه من الفوائد. وقال جعفر بن حميد: أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم. وقال أبو يحيى الوراق: من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات. وقال وهيب بن الورد: ما زاد على الخبز فهو شهوة. وقال أيضاً: من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل.
ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام - بعد أن أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفاً من عظماء مملكته - سبحان من جعل الملوك عبيداً بالمعصية وجعل العبيد ملوكاً بطاعتهم له. إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيداً وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكاً. فقال يوسف - كما أخبر الله تعالى عنه "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين".
وقال الجنيد: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس، فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي قال: يا أبا القاسم إلى الساعة، فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ قال: بلى سألت الله عز وجل أن يحرك إلى قلبك، فقلت: قد فعل فما حاجتك؟ قال: فمتى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها، فأقبل على نفسه فقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه، ثم انصرف وما عرفته وقال يزيد الرقائي: إليكم عني الماء البارد في الدنيا لعلي لا أحرمه في الآخرة. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام. وقال علي رضي الله عنه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا. وكان مالك بن دينار يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي.فإذن قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات فالإيمان بهذا واجب. وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات وما لا يترك فلا يدرك إلا بما قدمناه. وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة، فيكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة، فإنه لم تمتع بشيء منه أنس به وألفه، فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلا بأن يكون القلب مشغولاً بمعرفة الله وحبه والتفكير فيه والانقطاع إليه، ولا قوة على ذلك إلا بالله، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط. فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه والناس فيه أربعة: رجل مستغرق قلبه بذكر الله فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة فهو من الصديقين. ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة والصبر عن الشهوات مدة مديدة.
الثاني: رجل استغرقت الدنيا قلبه ولم يبق الله تعالى ذكر في قلبه إلا من حيث حديث النفس، حيث يذكره باللسان لا بالقلب فهذا من الهالكين.
والثالث: رجل اشتغل بالدنيا والدين ولكن الغالب على قلبه هو الدين فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعاً بقدر غلبة ذكر الله تعالى على قلبه.
والرابع: رجل اشتغل بهما جميعاً لكن الدنيا أغلب على قلبه فهذا يطول مقامه في النار لكن يخرج منها لا محال لقوة ذكر الله تعالى في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه. اللهم إنا نعوذ بك من خزيك فإنك أنت المعاذ.
وربما يقول القائل إن التنعم بالمباح مباح فكيف يكون التنعم سبب البعد من الله عز وجل؟ وهذا خيال ضعيف بل حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب إحباط كل حسنة. والمباح الخارج عن قدر الحاجة أيضاً من الدنيا وهو سبب البعد - وسيأتي ذلك في كتاب ذم الدنيا - وقد قال إبراهيم الخواص كنت مرة في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها، فرأيت رجلاً مطروحاً وقد اجتمعت عليه الزنابير فقلت: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، فقلت: كيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله عز وجل لم يخف عليه شيء، فقلت: أرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير؟ فقال: وأرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا، فتركته ومضيت. وقال السري: أنا منذ أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزة في دبس فما أطعمتها.
فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت؛ إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين، حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة. ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلى ما لا يحل، وكذلك سائر الشهوات، لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام، فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعودها الاقتصاد على قدر الضرورة من الشهوات غلبته. فهذه إحدى المباحات ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه، وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليها وتطمئن إليها أشراً وبطراً حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره. وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيامة، وهذا هو موت القلب. قال الله تعالى "ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوابها" وقال تعالى "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" وقال تعالى "اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة.
فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر، وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر. فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر، ففطموها عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها - حلالها وحرامهاوعلموا أن حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب. فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله عز وجل والاشتغال بطاعته. وفعلوا بها ما يفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب؛ فإنه يحبس أولاً في بيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء، وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال، ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفاً إذا دعاه أجابه، ومهما سمع صوته رجع إليه. فكذلك النفس لا تألف ربها ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولاً ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثم عودت الثناء والذكر والدعاء ثانياً في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضاً عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات وذلك يثقل على المريد في البداية ثم ينعم به في النهاية، كالصبي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام، ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلاً عن اللبن، ولكنه إذا منع اللبن رأساً يوماً فيوماً وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفاً، ثم يصير له طبعاً. فلو رد بعد ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه، فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام. وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب فتحمل على ذلك قهراً، وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولاً، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد. فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب، وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايلها بالموت، إذ قيل له أحبب ما أحببت فإنك مفارقه. فإذا علم أنه من أحب شيئاً يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى، فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه. وكل ذلك يتم بالصبر أولاً أياماً قلائل فإن العمر قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة. وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال سفر وتعلم صناعة وغيرها شهراً ليتنعم به سنة أو دهراً. وكل العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا. فلا بد من الصبر والمجاهدة فعند الصباح يحمد القوم السرى وتذهب عنهم عمايات الكرى كما قاله علي رضي الله عنه.
وطريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله. والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة فينبغي أن يترك أولاً ما به فرحه، فإنه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له ثوابك في الآخرة لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن بها، وذلك مهلك في حقه. ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر الله تعالى والفكر فيه. وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس حتى يقمع مادته مهما ظهر، فإن لكل وسوسة سبباً ولا تزول إلا بقطع ذلك السبب والعلاقة. وليلازم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا بالموت.


[align=center]بيان علامات حسن الخلق[/align]

اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق. فإن حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق. وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق. فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون" إلى قوله "أولئك هم الوارثون" وقال عز وجل "التائبون العابدون الحامدون" إلى قوله "وبشر المؤمنين" وقال عز وجل "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" إلى قوله "أولئك هم المؤمنون حقاً" وقال تعالى "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" إلى آخر السورة. من أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال "المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال عليه السلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" وقال صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن باالله واليوم الآخر فليكرم جاره وقال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وقال صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنه يلقن الحكمة وقال "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن وقال "لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه وقال عليه السلام "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً وقال صلى الله عليه وسلم "إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله عز وجل فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه.
وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، براً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً رضياً حكيماً رفيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله فهذا هو حسن الخلق.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامة المؤمن والمنافق فقال "إن المؤمن همته في الصلاة والصيام والعبادة، والمنافق همته في الطعام والشراب كالبهيمة وقال حاتم الأصم: المؤمن مشغول بالفكر والعبر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل، والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله، والمنافق راج كل أحد إلا الله، والمؤمن آمن كل أحد إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله، والمؤمن يقدم ماله دون دينه، والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن ويبكي، والمنافق يسيء ويضحك، والمؤمن يحب الخلوة والوحدة، والمنافق يحب الخلطة والملأ، والمؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد.
وأولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء، ومن شكا من سوء خلق غيره دل ذلك على سوء خلقه، فإن حسن الخلق احتمال الأذى فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابي فجذبه جذباً شديداً وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية، قال أنس رضي الله عنه: حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه، فقال: يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك، ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه وضربه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" قيل إن هذا يوم أحد فلذلك أنزل الله تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" ويحكى أن إبراهيم بن أدهم خرج يوماً إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال: أنت عبد؟ قال: نعم، فقال له: أين العمران؟ فأشار إلى المقبرة، فقال الجندي: إنما أردت العمران؟ فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا مال الخبر؟ فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا، هذا إبراهيم بن أدهم! فنزل الجندي عن فرسه وقبل يديه ورجليه وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلت له أنا عبد؟ فقال: إنه لم يسألني: عبد من أنت بل قال: أنت عبد؟ فقلت: نعم، لأني عبد الله، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة قيل كيف وقد ظلمك؟ فقال: علمت أنني أؤجر على ما نالني منه فلم أرد أن يكون نصيبي منه الخير ونصيبه مني الشر. ودعى أبو عثمان الحيري إلى دعوة - وكان الداعي قد أراد تجربته - فلما بلغ منزله قال له: ليس لي وجه، فرجع أبو عثمان فلما ذهب غير بعيد دعاه ثانياً فقال له: يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان فقال له مثل مقالته الأولى فرجع، ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت فرجع، فلما بلغ الباب فإن له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان، ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات وأبو عثمان لا يتغير من ذلك، فأكب على رجليه وقال له: يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك فما أحسن خلقك! فقال: إن الذي رأيت مني هو خلق الكلب، إن الكلب إذا دعي أجاب وإذا زجر انزجر. وروي عنه أيضاً أنه اجتاز يوماً في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً فقيل ألا زبرتهم فقال إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب وروي أن علي بن موسى الرضا رحمة الله عليه كان لونه يميل إلى السواد - إذ كانت أمه سوداء - وكان نيسابور حمام على باب داره، وكان إذا أراد دخول الحمام فرغه له الحمامي، فدخل ذات يوم فأغلق الحمامي الباب ومضى في بعض حوائجه، فتقدم رجل رستاقي إلى باب الحمام ففتحه ودخل فنزع ثيابه ودخل فرأى علي بن موسى الرضا فظن أنه بعض خدام الحمام، فقال له: قم واحمل إلي الماء فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره به، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى الرضا فخاف وهرب وخلاهما، فلما خرج علي بن موسى سأل عن الحمامي فقيل له: إنه خاف مما جرى فهرب قال: لا ينبغي له أن يهرب إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء. وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه، وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة فكان إذا خاط له شيئاً حمل إليه دراهم زائفة، فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه، فاتفق يوماً أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته، فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهماً زائفاً، فلما نظر إليه التلميذعرف أنه زائف فرده عليه، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال: بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغر بها مسلماً. وقال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال؛ قلة الحلاف، وحسن الإنصاف، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبير، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه. وسئل سهل عن حسن الخلق فقال: أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه. وقيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم! فقال: من قيس بن عاصم، قيل ما وبلغ من حلمه؟ قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية فقال لها: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى. وقيل أن أويساً القرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فكان يقول لهم: يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني عن الصلاة. وشتم رجل الأحنف بن قيس وهو لا يجيبه وكان يتبعه فلما قرب من الحي وقف وقال: إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي لا يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك وروي أن علياً كرم الله وجهه دعا غلاماً فلم يجبه فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه. فقام إليه فرآه مضطجعاً فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: بلى، قال: فما حملك على ترك إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، فقال: امض فأنت حر لوجه الله تعالى. وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له: لم تمسكه؟ فقال: لأتعلم الحلم عليه.
فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة فاعتدلت أخلاقها، ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى وهو منتهى حسن الخلق. فإن من يكره فعل الله تعالى ولا يرضى به فهو غاية سوء خلقه، فهؤلاء ظهرت العلامات على ظواهرهم كما ذكرناه. فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه فيظن بها حسن الخلق، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون.

[align=center]بيان الطريق في رياضة الصبيان
في أول نشؤهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم [/align]



اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب؛ وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له. وقد قال الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى؛ وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من القرناء السوء ولا يعوده التنعم، ولا يحبب عليه الزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشو الصبي انعجنت طينته من الخبيث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحاً ومخالفاً للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه أو تمييزه، وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول عليه بسم الله عند أخذه، وأن يأكل مما يليه وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره، ولايحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي لين اللقم، ولا يلطخ يده ولا ثوبه، وأن يعود الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتماً، ويقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم، وبأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بالطعام الخشن أي طعام كان، وأن يحبب إليه من الثياب البيض دون الملون والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه ويكرر ذلك عليه، ومهما رأى على صبي ثوباً من إبريسم أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذمه، ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة، وعن مخالطة كل من يسمعه ما يرغبه فيه فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشؤه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً حسوداً نماماً لحوحاً ذا فصول وضحك وكياد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب، ثم يشتغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد.
ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أن يتصور أن يتجاسروا أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سراً ويعظم الأمر فيه ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح، وينبغي أن يمنع عن النوم نهاراً فإنه يورث الكسل ولا يمنع منه ليلاً ولكن يمنع الفرش الوطيئة حتى تتصلب أعضاؤه ولا يسمن بدنه فلا يصبر عن التنعم؛ بل يعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم، وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح، فإذا ترك تعود فعل القبيح، ويعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل، ويعود أن لا يكشف أطرافه ولا يسرع المشي، ولا يرخي يديه بل يضمها إلى صدره، ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه أو بشي من مطاعمه وملابسه أو لوحه ودواته، بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره والتلطف في الكلام معهم، ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئاً بدا له حشمة إن كان من أولاد المحتشمين، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ وأن الأخذ لؤم وخسة ودناءة: وإن كان من أولاد الفقراء فليعلم أن الطمع والأخذ مهانة وذلة وأن ذلك من دأب الكلب فإنه يبصبص في انتظار لقمة والطمع فيها.
وبالجملة يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب، فإنه آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة السموم على الصبيان بل على الأكابر أيضاً، وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يمتخط ولا يتثاءب بحضرة غيره ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلاً على رجل ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل. ويعلم كيفية الجلوس ويمنع كثرة الكلام ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه فعل أبناء اللئام، ويمنع اليمين رأساً -صادقاً أو كاذباً- حتى لا يعتاد ذلك في الصغر، ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود أن لا يتكلم إلا جواباً وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سناً، وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من القرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء، وينبغي إذا ضربه المعلم أن لا يكثر الصراخ والشغب، ولا يستشفع بأحد بل يصبر ويذكر له أن ذلك دأب الشجعان والرجال، وأن كثرة الصراخ دأب المماليك والنسوان. وينبغي أن يؤذن له بعد الإنصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً. وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه ومن هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبي، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم، وأن يترك اللعب بين أيديهم. ومهما بلغ سن التمييز، فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان، ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع.
ويخوف من السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش، وكل ما يغلب على الصبيان، فإذا وقع نشوه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور، فيذكر له أن الأطعمة أدوية وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل، وأن الدنيا كلها لا أصل لها إذ لا بقاء لها، وإن الموت يقطع نعيمها، وأنها دار ممر لا دار مقر، وأن الآخرة دار مقر لا دار ممر، وأن الموت منتظر في كل ساعة، وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة حتى تعظم درجته عند الله تعالى ويتسع نعيمه في الجنان، فإذا كان النشو صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراُ ناجعاً يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر. وإن وقع النشو بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزين والتفاخر نبا قبله عن قبول الحق نبوة الحائط على التراب اليابس. فأوائل الأمور هي التي ينبغي أن تراعى، فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين. قال صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سواء فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي الله ناظر إلي الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه؟ إياك والمعصية، فكنت أخلو بنفسي فبعثوا بي إلى المكتب فقلت: إني لأخشى أن يتفرق على همي ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم ثم أرجع، فمضيت إلى الكتاب فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فسألت أهلي أن يبعثوني إلى أهل البصرة لأسأل عنها، فأتيت البصرة فسألت علماءها فلم يشف أحد عني شيئاً. فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن أبي عبد الله العباداني فسألته عنها فأجابني، فأقمت عنده مدة أنتفع بكلامه وأتأدب بآدابه، ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصاداً على أن يشترى لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي، فأفطر عند السحر على أوقية كل ليلة بحنا من غير ملح ولا أدم، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال ثم أفطر ليلة. ثم خمساً، ثم سبعاً، ثم خمساً وعشرين ليلة، فكنت على ذلك عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله ما شاء الله تعالى قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى.


[align=center]بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة
وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة [/align]



واعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريداً حرث الآخرة مشتاقاً إليها سالكاً سبلها مستهيناً بنعيم الدنيا ولذاتها، فإن من كانت عنده خرزة فرأى نفيسة لم يبق له رغبة في الخرزة وقويت إرادته في بيعها بالجوهرة، ومن ليس مريداً حرث الآخرة ولا طالباً للقاء الله تعالى فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر - وليست أعني بالإيمان حديث النفس وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص. فإن ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خيرة من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهرة إلا لفظها وأما حقيقتها فلا ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة، فإذن المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان، وسبب عدم الإيمان عدم الهداة والمذكرين والعلماء بالله تعالى الهادين إلى طريقه والمنبهين على حقارة الدنيا وانقراضها وعظم أمر الآخرة ودوامها - فالخلق غافلون قد انهمكوا في شهواتهم وغاصوا في رقدتهم وليس في علماء الدين من ينبههم، فإن تنبه منهم متنبه عجز عن سلوك الطريق لجهله، فإن طلب الطريق من العلماء وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق، فصار ضعف الإرادة ولجهل بالطريق ونطق العلماء بالهوى سبباً لخلق طريق الله تعالى عن السالكين فيه. ومهما كان المطلوب محجوباً والدليل مفقوداً والهوى غالباً والطالب غافلاً امتنع الوصول وتعطلت الطرق لا محالة. فإن تنبه متنبه من نفسه أو من تنبيه غيره وانبعث له إرادة في حرث الآخرة وتجارتها فينبغي أن يعلم له شروطاً لا بد من تقديمها في بداية الإرادة وله معتصم لا بد من التمسك به. وله حصن لا بد من التحصن به ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه، وعليه وظائف لا بد من ملازمتها في وقت سلوك الطريق.
أما الشروط التي لا بد من تقديمها في الإرادة فهي رفع السد والحجاب الذي بينه وبين الحق. فإن حرمان الخلق عن الحق سببه تراكم الحجب ووقوع السد على الطريق قال الله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون".
والسد بين المريد وبين الحق أربعة: المال، والجاه، والتقليد، والمعصية. وإنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة، فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل. وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع وإيثار الخمول والهرب من أسباب الذكر وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه. وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب وأن يصدق بمعنى قوله "لا إله إلا الله محمد رسول الله" تصديق إيمان ويحرص في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى - وأعظم معبود له الهوى - حتى إذا فهل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليداً فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة، فإن غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيداً له وحجاباً إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلاً. وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود وتحقيق الندم على ما مضى ورد المظالم وإرضاء الخصوم، فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب. فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولاً ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه، فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولاً وآخراً ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها.
فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحاً للصلاة فيحتاج إلى إمام يقتدى به، فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدى به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر. فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره ولا يبقى في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور: الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر. وهذا تحصن من القواطع فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه.
أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره، ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته، ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب. ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم! وقال سهل بن عبد الله التستري: ما صار الأبدال أبدالاً إلا بأربع خصال، بإخماص البطون، والسهر، والصمت، والاعتزال عن الناس. ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين.
وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره، فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق، ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة. والسهر أيضاً نتيجة الجوع فإن السهر مع الشيع غير ممكن، والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب. فقد قيل في صفة الأبدال: إن أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة. وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: أجمع رأى سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء.
وأما الصمت فإنه تسهله العزلة، ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره، فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم، فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه. فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى.
وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر فإنهما دهليز القلب. والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة غليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص؟ فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية. أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل له "يا أيها المزمل-يا أيها المدثر .
فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق. فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق. وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريقالله تعالى غلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض. والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل وهي تلك الصفات؛ أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة، وآثارها؛ أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي، فلا بد أن يخلي الباطن عن آثارها كما أخلي الظاهر عن أسبابها الظاهرة، وفيه تطول المجاهدة، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال؛ فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة، وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد -كما سبق ذكره- فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة؛ شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة، بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده ورداً واحداً. وهو لباب الأوراد وثمرتها؛ أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو من ذكر غيره، ولا يشغله به ما دام قلبه ملتفتاً إلى علائقه. قال الشبلي للحصري: إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني، وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد. فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال، وعند ذلك يلقنه ذكراً من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلاً: . أو: سبحان الله سبحان الله. أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته، وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه، لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره -أي شيء كان- فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره، وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قد مضى من أحواله وأحوال غيره، فإنه مهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة، وأنها: ما هي؟ وما معنى قولنا: الله؟ ولأي معنى كان إلهاً وكان معبوداً؟ ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة. ومهما كان كارهاً لذلك ومتشمراً لإماطته عن القلب لم يضره ذلك. وهي منقسمة إلى ما يعلم قطعاً أن الله تعالى منزه عنه ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره، فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" وقال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وإلى ما يشك فيه فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه، بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه، وأن يستره عن غيره فلا يطلع عليه أحداً، ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته، فلو علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق فينبغي أن يحيله على الفكر ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته، وإن علم أن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذلك ودليل قريب من فهمه، وينبني أن يتأنق الشيخ ويتلطف به فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها. فكم من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة؟ وذلك هو الهلاك العظيم. ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه قد ركب سفينة الخطر، فإن سلم كان من ملوك الدين وإن أخطأ كان من الهالكين.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "عليكم بدين العجائز وهو تلقي أصل الإيمان وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير، فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير. ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكياً فطناً متمكناً من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر، بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة، أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم، وإن كان لا يبلغ درجتهم، ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات. ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتوراً في طريقه ووقوفاً، بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك، ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة.
قال بعض السياحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق كيف الطريق إلى التحقيق؟ فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق. وقال مرة: قلت له دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم، قال فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه لعلة، قال: يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام؟ هذا ما لا يكون أبداً.
فإذاً منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك غلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلوا عن غيره إلا بطول المجاهدة، فإذا حصل قلبه مع الله انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف القواطع عليه أن يتكلم به وعظاً ونصحاً ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة، فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع، فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى، وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة، ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاماً منه وأجزل لفظاً وأقدر على استجلاب قلوب العوام، فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول وإن كان محركه هو الحق حرصاً على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم فيعظم به فرحه ويقول: الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده. كالذي وجب عليه مثلاً أن يحمل ميتاً ليدفنه إذ وجده ضائعاً وتعين عليه ذلك شرعاً فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه، والغافلون موتى القلوب، والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك، وهذا عزيز على الوجود جداً فينبغي أن يكون المريد على حذر منه فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى "بل تؤثرون الحياة الدنيا" ثم بين أن الشر قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال "إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى" فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى. فأما تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه -أعني به الشهوات المتعلقة بها- ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات، ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا، ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة، وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأساً وتمسك من الدين بما فيه الرياسة وغلب عليه الغرور.
فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى: كتاب في كسر شهوة البطن والفرج، وكتاب في آفات اللسان، وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد، وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها، وكتاب في كسر حب المال وذم البخل، وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه، وكتاب في ذم الكبر والعجب، وكتاب في مواقع الغرور. وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات، وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب. أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى. تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يونيو 29, 2006 7:27 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب كسر الشهوتين
وهو الكتاب الثالث من ربع المهلكات
بسم الله الرحمن الرحيم
[/align]


الحمد لله المنفرد بالجلال في كبريائه وتعاليه، المستحق للتحميد والتقديس والتسبيح والتنزيه، القائم بالعدل فيما يبرمه ويقضيه، المتطول بالفضل فيما ينعم به ويسديه، المتكفل بحفظ عبده في جميع موارده ومجاريه، المنعم عليه بما يزيد على مهمات مقاصده بل بما يفي بأمانيه، فهو الذي يرشده ويهديه، وهو الذي يميته ويحييه، وإذا مرض فهو يشفيه، وإذا ضعف فهو يقويه، وهو الذي يوفقه للطاعة ويرتضيه، وهو الذي يطعمه ويسقيه، ويحفظه من الهلاك ويحميه، ويحرسه بالطعام والشراب عما يهلكه ويرديه، ويمكنه من القناعة بقليل القوت ويقربه حتى تضيق به مجاري الشيطان الذي يناويه، ويكسر به شهوة النفس التي تعاديه، فيدفع شرها ثم يعبد ربه ويتقيه، هذا بعد أن يوسع عليه ما يلتذ به ويشتهيه، ويكثر عليه ما يهيج بواعثه ويؤكد دواعيه، كل ذلك يمتحنه به ويبتليه، فينظر كيف يؤثره على ما يهواه وينتحيه، وكيف يحفظ أوامره وينتهي عن نواهيه، ويواظب على طاعته وينزجر عن معاصيه. والصلاة على محمد عبده النبيه، ورسوله الوجيه، صلاة تزلفه وتحظيه، وترفع منزلته وتعليه، وعلى الأبرار من عترته وأقربيه، والأخيار من صحابته وتابعيه.
أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما. والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج وشدة الشبق إلى المنكوحات؛ ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات؛ ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات؛ ثم يتولد بينهما آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله عز وجل ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجز به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وإيثار العاجلة على العقبى ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا، وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد وجب شرح غوائلها وآفاتها تحذيراً منها، ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ترغيباً فيها، وكذلك شرح شهوة الفرج فإنها تابعة لها. ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله؛ ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين.

[align=center]بيان فضيلة الجوع وذم الشبع[/align]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه وقيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال "من قل مطعمه وضحكه ورضي مما يستر به عورته وقال النبي صلى الله عليه وسلم "سيد الأعمال الجوع وذل النفس لباس الصوف وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البسوا وكلوا واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة وقال الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم "الفكر نصف العبادة وقلة الطعام هي العبادة وقال الحسن أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكراً في الله سبحانه، وأبغضكم عند الله عز وجل يوم القيامة كل نثوم أكول شروب وفي الخبر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجوع من غير عوز أي مختاراً لذلك وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يباهي الملائكة بمن قل مطعمه ومشربه في الدنيا يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي ابتليته بالطعام والشراب في الدنيا فصبر وتركهما اشهدوا يا ملائكتي ما من أكلة يدعها إلا أبدلته بها درجات في الجنة وقال صلى الله عليه وسلم "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء وقال صلى الله عليه وسلم "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرباه وثلث لنفسه وفي حديث أسامة بن زيد وحديث أبي هريرة الطويل ذكر فضيلة الجوع إذ قال فيه "إن أقرب الناس من الله عز وجل يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحف بهم ملائكة السماء نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عز وجل، افترش الناس الفرش الوثيرة وافترشوا الجباه والركب، ضيع الناس فعل النبيين وأخلاقهم وحفظوها هم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الجبار على كل بلدة ليس فيها منهم أحد لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف أكلوا العلق ولبسوا الخرق شعثاً غبراً يراهم الناس فيظنون أن بهم داء وما بهم داء، ويقال قد خولطوا فذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أمر الله الذي أذهب عنهم الدنيا، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول عقلوا حين ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لأهل تلك البلدة ولا يعذب الله قوماً هم فيهم. الأرض بهم فرحة والجبار عنهم راض. اتخذهم لنفسك إخواناً عسى أن تنجو بهم. وإن استطعت إن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل. فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحل مع النبيين. وتفرح بقدوم روحك الملائكة ويصلي عليك الجبار
روى الحسن بن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل وروي ذلك أيضاً عن نبينا صلى الله عليه وسلم رواه طاوس. وقيل مكتوب في التوراة: إن الله ليبغضن الحبر السمين لأن السمين يدل على الغفلة وكثرة الأكل وذلك قبيح خصوصاً بالحبر. ولأجل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى يبغض القارئ السمين وفي خبر مرسل "إن الشيطان لجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش وفي الخبر "إن الأكل على الشيع يورث البرص وقال صلى الله عليه وسلم "المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء أي يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته وذكر المعي كناية عن الشهوة لأن الشهوة هي التي تقبل الطعام وتأخذه كما يأخذ المعي. وليس المعنى زيادة عدد معي المنافق على معي المؤمن. وروى الحسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول "أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم" فقلت: كيف نديم قرع باب الجنة؟ قال "بالجوع والظمأ وروى "أنا أبا جحيفة تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له "أقصر من جشائك فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تمتلئ قط شبعاً وربما بكيت رحمة مما أرى به من الجوع فأمسى بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنعك من الجوع؟ فيقول "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا مضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غداً دونهم فالصبر أياماً يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بأصحابي وإخواني" قالت عائشة: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله إليه وعن أنس قال: جاءت فاطمة رضوان الله عليها بكسرة خبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما هذه الكسرة" قالت: قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام وقال أبو هريرة: ما أشبه النبي صلى الله عليه وسلم أهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة وإن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملأى وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة .
وأما الآثار: فقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة فإنها ثقل في الحياة نتن في الممات. وقال شقيق البلخي العبادة حرفة حانوتها الخلوة وآلتها المجاعة. وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه: أي شيء تخافين؟ أتخافين أن تجوعي؟ لا تخافي ذلك: أنت أهون على الله من ذلك إنما يجوع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكان كهمس يقول إلهي أجعتني وأعريتني وفي ظلم الليالي بلا مصباح أجلستني فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني؟ وكان فتح الموصلي إذا اشتد مرضه وجوعه يقول: إلهي ابتليتني بالمرض والجوع وكذلك تفعل بأوليائك فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي؟ وقال مالك بن دينار: قلت لمحمد بن واسع يا أبا عبد الله طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس فقال لي يا أبا يحيى طوبى لمن أمسى وأصبح جائعاً وهو عن الله راض. وكان الفضيل بن عياض يقول: إلهي أجعتني وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح وإنما تفعل ذلك بأوليائك فبأي منزلة نلت هذا منك؟ وقال يحيى بن معاذ: جوع الراغبين منبهة وجوع التائبين تجربة وجوع المجتهدين كرامة وجوع الصابرين سياسة وجوع الزاهدين حكمة. وفي التوراة اتق الله وإذا شبعت فاذكر الجياع: وقال أبو سليمان: لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليلة إلى الصبح، وقال أيضاً: الجوع عند الله في خزائنه لا يعطيه إلا من أحبه. وكان سهل بن عبد الله التستري يطوي نيفاً وعشرين يوماً لا يأكل، وكان يكفيه لطعامه في السنة درهم، وكان يعظم الجوع ويبالغ فيه حتى قال: لا يوافى القيامة عمل بر أفضل من ترك فضول الطعام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أكله. وقال: لم ير الأكياس شيئاً أنفع من الجوع للدين والدنيا. وقال: لا أعلم شيئاً أضر على طلاب الآخرة من الأكل. وقال: وضعت الحكمة والعلم في الجوع ووضعت المعصية والجهل في الشبع. وقال ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال. وقد جاء في الحديث "ثلث للطعام فمن زاد عليه فإنما يأكل من حسناته وسئل عن الزيادة فقل: لا يجد الزيادة حتى يكون الترك أحب إليه من الأكل، ويكون إذا جاع ليلة سأل الله أن يجعلها ليلتين، فإذا كان ذلك وجد الزيادة. وقال صار الأبدال أبدالاً إلا بإخماص البطون والسهر والصمت والخلوة. وقال: رأس كل بر نزل من السماء إلى الأرض الجوع، ورأس كل فجور بينهما الشبع. وقال: من جوع نفسه انقطعت عنه الوساوس. وقال: إقبال الله عز وجل على العبد بالجوع والسقم والبلاء إلا من شاء الله. وقال: اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه وقتلها بالجوع والسهر والجهد. وقال: ما مر على وجه الأرض أحد شرب من هذا الماء حتى روي فسلم من المعصية -وإن شكر الله تعالى- فكيف الشبع من الطعام؟ وسئل حكيم بأي قيد أقيد نفسي؟ قال: قيدها بالجوع والعطش، وذللها بإخمال الذكر وترك العز، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة، واكسرها بترك زي القراء عن ظاهرها، وانج من آفاتها بدوام سوء الظن بها، واصحبها بخلاف هواها. وكان عبد الواحد بن زيد يقسم بالله تعالى إن الله تعالى ما صافي أحداً إلا بالجوع ولا مشوا على الماء إلا به، ولا طويت لهم الأرض إلا بالجوع، ولا تولاهم الله تعالى إلا بالجوع، وقال أبو طالب المكي: مثل البطن مثل المزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار -غنما حسن صوته لخفته ورقته لأنه أجوف غير ممتلئ، وكذلك الجوف إذا خلا كان أعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ثلاثة يحبهم الله تعالى؛ رجل قليل النوم قليل الأكل قليل الراحة. وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحاً لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة فإذا رغيف موضوع بين يديه، فجلس يبكي على فقد المناجاة وإذا شيخ قد أظله فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله ادع الله تعالى فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني، فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي، بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر. وروي أن موسى عليه السلام لما قربه الله عز وجل نجياً كان قد ترك الأكل أربعين يوماً -ثلاثين ثم عشراً- على ما ورد به القرآن؛ لأنه أمسك بغير تبييت يوماً فزيد عشرة لأجل ذلك.

[align=center]بيان فوائد الجوع وآفات الشبع[/align]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك" ولعلك تقول: هذا الفضل العظيم للجوع أين هو؟ وما سببه؟ وليس فيه إلا إيلام المعدة ومقاساة الأذى! فإن كان كذلك فينبغي أن يعظم الأجر في كل ما يتأذى به الإنسان من ضربه لنفسه وقطعه للحمه وتناوله الأشياء المكروهة وما يجري مجراه؟ فاعلم أن هذا يضاهي قول من شرب دواء فانتفع به وظن أن منفعته لكراهة الدواء ومرارته، فأخذ يتناول كل ما يكرهه من المذاق وهو غلظ، بل نفعه في خاصية في الدواء وليس كونه مراً، وإنما يقف على تلك الخاصية الأطباء، فكذلك لا يقف على علة نفع الجوع إلا سماسرة العلماء ومن جوع نفسه مصدقاً لما جاء في الشرع من مدح الجوع انتفع به وإن لم يعرف علة المنفعة، كما أن من شرب الدواء انتفع به وإن لم يعله وجه كونه نافعاً.
ولكنا نشرح لك إن أردت أن ترتقي من درجة الإيمان إلى درجة العلم قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فنقول: في الجوع عشر فوائد.
الفائدة الأولى: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسبب عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك، بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك. وقال أبو سليمان الداراني: عليك بالجوع فإنه مذلة للنفس ورقة للقلب وهو يورث العلم السماوي. وقال صلى الله عليه وسلم "أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق ويقال: مثل الجوع مثل الرعد، ومثل القناعة مثل السحاب، والحكمة كالمطر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من شبع ونام قسا قلبه" ثم قال "لكل شيء زكاة وزكاة البدن الجوع وقال الشبلي: ما جعت لله يوماً إلا رأيت في قلبي باباً مفتوحاً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط. وليس يخفى أن غاية المقصود من العبادات الفكر الموصل إلى المعرفة والاستبصار بحقائق الحق، والشبع يمنع منع والجوع يفتح بابه، والمعرفة باب من أبواب الجنة فبالحرى أن تكون ملازمة الجوع قرعاً لباب الجنة. ولهذا قال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال أبو يزيد البسطامي: الجوع سحاب فإذا جاع العبد أمطر القلب الحكمة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله عز وجل الشبع، والقربة إلى الله عز وجل حب المساكين والدنو منهم. لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم ومن بات في خفة من الطعام بات الحور حوله حتى يصبح .
الفائدة الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر، فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلب لا يلتذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب، وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر وتلذذه بالمناجاة، وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه، وقال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إلى العبادة إذا التصق ظهري ببطني. وقال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة. وقال أبو سليمان: إذا جاع القلب وعطش صبا ورق، وإذا شبع عمى وغلط، فإذا تأثر القلب بلذة المناجاة أمر وراء تيسير الفكر واقتناص المعرفة على فائدة ثانية.
الفائدة الثالثة: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا برى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر، فليكن دائماً جائعاً مضطراً إلى مولاه مشاهداً للاضطرار بالذوق، ولأجل ذلك لما عرضت الدنيا وخزائنها على النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا بل أجوع يوماً وأشبع يوماً فإذا جعت صبر وتضرعت وإذا شبعت شكرت أو كما قال "فالبطن والفرج باب من أبواب النار وأصله الشبع. والذي والانكسار باب من أبواب الجنة وأصله الجوع. ومن أغلق باباً من أبواب النار فقد فتح باباً من أبواب الجنة بالضرورة لأنهما متقابلاً كالمشرق والمغرب، فاقرب من أحدهما بعد من الآخر.
الفائدة الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه؛ ولا ينسى أهل البلاء فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة، فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة، ومن جوعه جوع أهل النار، حتى إنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل، فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها، فإنه هو الذي يهيج الخوف، فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء، وأولى ما يقاسيه من البلاء والجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكر عذاب الآخرة. وهذا أحد الأسباب الذي اقتضى اختصاص البلاء بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل. ولذلك قيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وفي يديك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. فذكر الجائعين والمحتاجين إحدى فوائد الجوع فإن ذلك يدعو إلى الرحمة والإطعام والشفقة على خلق الله عز وجل. والشبعان في غفلة عن ألم الجائع.
الفائدة الخامسة -وهي من أكبر الفوائد-: كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى. ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة. وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، وكما أنك لا تملك الدابة الجموع إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت، فكذلك النفس. كما قيل لبعضهم: ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد انهد؟ فقال: لأنه سريع المرح فاحش الأشر فأخاف أن يجمع بي فيورطني، فلأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش. وقال ذو النون: ما شبعت قط غلا عصيب أو هممت بمعصية: وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشبع.
إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد. ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى وأقل ما يندفع بالجوع: شهوة الفرج وشهوة الكلام، فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها، فيمنعه الجوع من كل ذلك وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
وأما شهوة الفرج: فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها. وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه، فالعين تزني كما أن الفرج يزني، فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره، فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته، وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.
وإنما ذكرنا آفة اللسان والفرج مثالاً، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة بالشبع. قال حكيم: كل مريد صبر على السياسة فيصبر على الخبز البحت سنة لا يخلط به شيئاً من الشهوات ويأكل في نصف بطنه رفع الله عنه مؤنة النساء.
الفائدة السادسة: دفع النوم ودوام السهر، فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه. ولأجل ذلك كان بعض الشيوخ يقول عند حضور الطعام: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً. وأجمع رأي سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة الشرب. وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره ينقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفى وفي النوم فواتها. ومهما غلب النوم فإن تهجد حلاوة العبادة، ثم المتعزب إذا نام على الشبع احتلم ويمنعه ذلك أيضاً من التهجد، ويحوجه إلى الغسل إما بالماء البارد فيتأذى به أو يحتاج إلى الحمام وربما لا يقدر عليه بالليل، فيفوته الوتر إن كان قد آخره إلى التهجد، ثم يحتاج إلى مؤنة الحمام وربما تقع عينه على عورة في دخول الحمام، فإن فيه أخطاراً ذكرناها في كتاب الطهارة وكل ذلك أثر الشبع. وقد قال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة. وإنما قال ذلك لأن يمنع من عبادات كثيرة لتعذر الغسل في كل حال. فالنوم منبع الآفات، والشبع مجلبة له؛ والجوع مقطعة له.
الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه. والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه. قال السري رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا؟ قال: إني حبست ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. فانظر كيف أفق على وقته ولم يضيعه في المضغ. وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها فينبغي أن يستوفى منه خزانة باقية في الآخرة لا آخر لها وذلك بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.
ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد، فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته. ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع، فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة، وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".
وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل.
الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر وينغص العيش ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات، وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.
حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي. وقال ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود. وقال العراقي: هو حب الرشاد الأبيض وقال الرومي هو عندي الماء الحار. وقال السوادي -وكان أعلمهم- الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء، والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء. قالوا: فما عندك؟ فقال الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه؛ وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه. فقالوا: صدقت وذكر لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي صلى الله عليه وسلم "ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس فتعجب منه وقال ما سمعت كلاماً في قلة الطعام أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم. وقال صلى الله عليه وسلم "البطنة أصل لداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل جسم ما اعتاد وأظن تعجب الطبيب جرى من هذا الخبر لا من ذاك. وقال ابن سالم: من أكل خبز الحنطة بحتا بأدب لم يعتل إلا علة الموت. قيل: وما الأدب؟ قال: تأكل بعد الجوع وترفع قبل الشبع. وقال بعض أفاضل الأطباء في ذم الاستكثار: إن أنفع ما أدخل الرجل بطنه الرمان وأضر ما أدخل معدته المالح؛ ولأن يقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان. وفي الحديث صوموا تصحوا ففي الصوم والجوع وتقليل الطعام صحة الأجسام وصحة القلوب من سقم الطغيان والبطر وغيرهما.
الفائدة التاسعة: خفة المؤونة فإن من تعود قلة الأكل كفاه من الماء قدر يسير، والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له آخذاً بمخفته في كل يوم، فيقول ماذا تأكل اليوم فيحتاج إلى أن يدخل المداخل، فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل. وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذل والقماءة والمؤمن خفيف المؤنة. وقال بعض الحكماء: إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي. وقال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي. وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقول إنها غالية فيقول: أرخصوها بالترك. وقال سهل رحمه الله: الأكول مذموم في ثلاثة أحوال، إن كان من أهل العبادة فيكسل، وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.
وبالجملة سبب هلاك الناس حرصهم على الدنيا، وسبب حرصهم على الدنيا البطن والفرج، وسبب شهوة الفرج، شهوة البطن. وفي تقليل الأكل ما يحسم هذه الأحوال كلها وهي أبواب النار وفي حسمها فتح أبواب الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم "أديموا قرع باب الجنة بالجوع" فمن قنع برغيف في كل يوم قنع في سائر الشهوات أيضاً وصار حراً واستغنى عن الناس واستراح من التعب، وتخلى لعبادة الله عز وجل وتجارة الآخرة، فيكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإنما لا تلهيهم لاستغنائهم عنها بالقناعة، وأما المحتاج فتلهيه لا محالة.
الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته كما ورد به الخبر: فما يأكله كان خزانته الكنيف وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو اكل فأفني أو لبس فأبلى، فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع. وكان الحسن رحمة الله عليه إذا تلا قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا" قال عرضها على السموات السبع الطباق والطرائق التي زينها بالنجوم وحملة العرش العظيم فقال لها سبحانه وتعالى: هل تحملين الأمانة بما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فقالت: لا، ثم عرضها على الإنسان فحملها إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه. فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم فأصابوا آلافاً فماذا صنعوا فيها؟ وسعوا بها دورهم وضيقوا بها قبورهم، وأسمنوا براذينهم وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان يتعرضوا للبلاء وهم من الله في عافية، يقول أحدهم تبيعني أرض كذا وكذا وأزيدك كذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله، حديثه سخرة وماله حرام حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يالكع أطعامك تهضم؟ إنما تهضم دينك، أين الفقير أين الأرملة أين المسكين أين اليتيم الذي أمرك الله تعالى بهم؟ فهذه إشارة إلى هذه الفائدة وهو صرف فاضل الطعام إلى الفقير ليدخر به الأجر فذلك خير له من أن يأكله حتى يتضاعف الوزر عليه. ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل سمين البطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال: والله لقد أدركت أقواماً كان الرجل منهم يمسي وعنده من الطعام ما يكفيه ولو شاء لأكله فيقول: والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعض لله.
فهذه عشرة فوائد للجوع يتشعب من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها، فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة. ولأجل هذا قال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة. بل ذلك صريح في الأخبار التي رويناها بالوقوف على تفصيل هذه الفوائد تدرك معاني تلك الأخبار إدراك علم وبصيرة. فإذا لم تعرف هذا وصدقت بفضل الجوع كانت لك رتبه المقلدين في الإيمان والله أعلم بالصواب.


[align=center]بيان طريق الرياضة في كسر شهوة البطن[/align]

اعلم أن على المريد في بطنه ومأكوله أربع وظائف: الأول أن يأكل إلا حلالاً فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار. وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام، وتبقى ثلاث وظائف خاصة بالأكل وهو تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة وتقدير وقته في الإبطاء والسرعة وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها.
أما الوظيفة الأولى: في تقليل الطعام، فسبيل الرياضة فيه التدريج. فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف وعظمت مشقته، فينبغي أن يتدرج إليه قليلاً قليلاً وذلك بأن ينقص قليلاً قليلاً من طعامه المعتاد. فإن كان يأكل رغيفين مثلاً وأراد أن يرد نفسه إلى رغيف واحد فينقص كل يوم ربع سبع رغيف، وهو أن ينقص جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً، أو جزءاً من ثلاثين جزءاً، فيرجع إلى رغيف في شهر، ولا يستضر به ولا يظهر ثره، فإن شاء فعل في ذلك بالوزن وإن شاء بالمشاهدة، فيترك كل يوم مقدار قلمة وينقصه عما أكله بالأمس. ثم هذا فيه أربع درجات.
أقصاها: أن يرد نفسه إلى قدر القوام الذي لا يبقى دونه وهو عادة الصديقين. وهو اختيار سهل التستري رحمة الله عليه إذ قال: إن الله استعبد الخلق بثلاث، بالحياة، والعقل، والقوة. فإن خاف العبد على اثنين منها وهي الحياة والعقل، أكل وأفطر إن كان صائماً. وتكلف الطلب إن كان فقيراً. وإن لم يخف عليهما بل على القوة قال، فينبغي أن لا يبالي. ولو ضعف حتى صلى قاعداً وأرى أن صلاته قاعداً مع ضعف الجوع أفضل من صلاته قائماً مع كثرة الأكل. وسئل سهل عن بدايته وما كان يقتات به فقال. كان قوتي في كل سنة ثلاثة دراهم، كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم دقيق الأرز، وبدرهم سمناً. وأخلط الجميع وأسوي منه ثلثمائة وستين أكرة، آخذ في كل ليلة أكرة أفطر عليها، فقيل له: فالساعة كيف تأكل؟ قال: بغير حد ولا توقيت: ويحكى عن الوهابين أنهم قد يردون أنفسهم إلى مقدار دره من الطعام.
الدرجة الثانية: أن يرد نفسه بالرياضة في اليوم والليلة إلى نصف مد، وهو رغيف وشيء مما يكون الأربعة منه منا ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- وهو فوق اللقيمات لأن هذه الصيغة في الجمع للقلة فهو لما دون العشرة، وقد كان ذلك عادة عمر رضي الله عنه إذ كان يأكل سبع لقم أو تسع لقم.
الدرجة الثالثة: أن يردها إلى مقدار المد، وهو رغيفان ونصف، وهذا يزيد على ثلث البطن في حق الأكثرين، ويكاد ينتهي إلى ثلثي البطن، ويبقى ثلث للشراب ولا يبقى شيء للذكر. وفي بعض الألفاظ "ثلث للذكر" بدل قوله "للنفس".
الدرجة الرابعة: أن يزيد على المد إلى المن، ويشبه أن يكون ما وراء المن إسرافاً مخالفاً لقوله تعالى "ولا تسرفوا" أعني في حق الأكثرين، فإن مقدار الحاجة إلى الطعام يختلف بالسن، والشخص، والعمل الذي يشتغل به. وههنا طريق خامس لا تقدير فيه ولكنه موضع غلط، وهو أن يأكل إذا صدق جوعه ويقبض يده وهو على شهوة صادقة بعد، ولكن الأغلب أن من لم يقدر لنفسه رغيفاً أو رغيفين فلا يتبين له حد الجوع الصادق، ويشتبه عليه ذلك بالشهوة الكاذبة.
وقد ذكر للجوع الصادق علامات؛ إحداها: أن لا تطلب النفس الأدم بل تأكل الخبز وحده بشهوة -أي خبز كان- فمهما طلبت نفسه خبزاً بعينه أو طلبت أدماً فليس ذلك بالجوع الصادق. وقد قيل: من علامته أن يبصق فلا يقع الذباب عليه؛ أي لم يبق فيه دهنية ولا دسومة فيدل ذلك على خلو المعدة، ومعرفة ذلك غامض فالصواب للمريد أن يقدر مع نفسه القدر لذي لا يضعفه عن العبادة التي هو بصددها فإذا انتهى إليه وقف وإن بقيت شهوته.
وعلى الجملة: فتقدير الطعام لا يمكن لأنه يختلف بالأحوال والأشخاص. نعم قد كان قوت جماعة من الصحابة صاعاً من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا منه صاعاً ونصفاً، وصاع الحنطة أربع أمداد، فيكون كل كل يوم قريباً من نصف مد -وهو ما ذكرناه أنه قدر ثلث البطن- واحتيج في التمر إلى زيادة لسقوط النوى منه. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: طعامي في كل جمعة صاع من شعير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا أزيد عليه شيئاً حتى ألقاه فإني سمعته يقول "أقربكم مني مجلساً يوم القيامة وأحبكم إلي من مات على ما هو عليه اليوم وكان يقول -في إنكاره على بعض الصحابة: قد غيرتم، ينخل لكم الشعير ولم يكن ينخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين إدامين واختلف عليكم بألوان الطعام، وغدا أحدكم في ثوب وراح في آخر. ولم يكونوا هكذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوت أهل الصفة مداً من تمر بين اثنين في كل يوم والمد رطل وثلث ويسقط منه النوى. وكان الحسن رحمة الله عليه يقول المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف والقبضة من السويق والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع الضاري بلعاً بلعاً وسرطاً سرطاً لا يطوي بطنه لجاره ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم. وقال سهل لو كانت الدنيا دماً عبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً لأن أكل المؤمن عند الضرورة بقدر القوام فقط.
الوظيفة الثانية: في وقت الأكل ومقدار تأخيره وفيه أيضاً أربع درجات:
الدرجة العليا: أن يطوى ثلاثة أيام فما فوقها، وفي المريدين من رد الرياضة إلى الطي لا إلى المقدار، حتى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوماً وأربعين يوماً، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم منهم: محمد بن عمرو المقرني، وعبد الرحمن بن إبراهيم، ورحيم، وإبراهيم التيمي، وحجاج بن فرافصة، وحفص العابد المصيصي، والمسلم بن سعيد، وزهير، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد الله التستري، وإبراهيم بن أحمد الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستة أيام، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً. وروي أن الثوى وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثاً ثلاثاً، كل ذلك كانوا يستعينون بالجوع على طريق الآخرة.
قال بعض العلماء من طوى لله أربعين يوماً ظهرت له قدرة من الملكوت أي كوشف ببعض الأسرار الإلهية. وقد حكي أن بعض أهل هذه الطائفة مر براهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك كلامً كثيراً إلى أن قال له الراهب: إن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وإن ذلك معجزة لا تكون إلا لنبي أو صديق، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يوماً تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام وتعلم أنه حق وأنلك على باطل؟ قال؛ نعم، فجلس لا يبرح إلا حيث يراه حتى طوى خمسين يوماً، ثم قال؛ وأزيدك أيضاً فطوى إلى تمام الستين، فتعجب الراهب منه وقال؛ ما كنت أظن أن أحداً يجاوز المسيح؟ فكان ذلك سبب إسلامه. وهذه درجة عظيمة قل من يبلغها إلا مكاشف محمول بمشاهدة ما قطعه عن طبعه عن طبعه وعادته استوفى نفسه في لذته وأنساه جوعته وحاجته.
الدرجة الثانية: أن يطوى يومين إلى ثلاثة وليس ذلك خارجاً عن العادة بل هو قريب يمكن الوصول إليه بالجد والمجاهدة.
الدرجة الثالثة: وهي أدناها أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة وهذا هو الأقل وما جاوز ذلك إسراف ومداومة للشبع حتى لا يكون له حالة جوع، وذلك فعل المترفين وهو بعيد من السنة، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدى لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة "إياك والسرف، فإن أكلتين في يوم من السرف، وأكلة واحدة في كل يومين إقتار، وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك وهو المحمود في كتاب الله عز وجل.
ومن اقتصر في اليوم على أكلة واحدة فيستحب له أن يأكلها سحراً قبل طلوع الفجر فيكون أكله بعد التهجد وقبل الصبح، فيحصل له جوع النهار للصيام وجوع الليل للقيام، وخلو القلب لفراغ المعدة ورقة الفكر، واجتماع الهم وسكون النفس إلى المعلوم، فلا تنازعه قبل وقته. وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تورم قدماه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواصل إلى السحر فإن كان يلتفت قلب الصائم بعد المغرب إلى الطعام وكان ذلك يشغله عن حضور القلب في التهجد فالأولى أن يقسم طعامه نصفين، فإن كان رغيفين مثلاً أكل رغيفاً عند الفطر ورغيفاً عند السحر، لتسكن نفسه ويخف بدنه عند التهجد ولا يشتد بالنهار جوعه لأجل التسحر، فيستعين بالرغيف الأول على التهجد وبالثاني على الصوم. ومن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فلا بأس أن يأكل كل يوم فطره وقت الظهر، ويوم صومه وقت السحر، فهذه الطرق في مواقيت الأكل وتباعده وتقاربه.
الوظيفة الثالثة: في نوع الطعام وترك الإدام، وأعلى الطعام مخ البر فإن نخل فهو غاية الترفه، وأوسطه شعير منخول، وأدناه شعير لم ينخل. وأعلى الأدم اللحم والحلاوة، وأدناه الملح والخل، وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم. وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام بل الامتناع عن الشهوات، فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان وأكله اقتضى ذلك بطراً في نفسه وقسوة في قلبه وأنساً له بلذات الدنيا حتى يألفها ويكره الموت ولقاء الله تعالى، وتصير الدنيا جنة في حقه ويكون الموت سجناً له. وإذا منع نفسه عن شهواتها وضيق عليها وحرمها لذاتها صارت الدنيا سجناً عليه ومضيقاً له فاشتهت نفسه الإفلات منها، فيكون الموت إطلاقها. وإليه الإشارة بقول يحيى ابن معاذ حيث قال: معاشر الصديقين جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس. فكل ما ذكرناه من آفات الشبع فإنه يجري في كل الشهوات وتناول اللذات فلا نطول بإعادته، فلذلك يعظم الثواب في ترك الشهوات من المباحات ويعظم الخطر في تناولها، حتى قال صلى الله عليه وسلم "شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة وهذا ليس بتحريم بل هو مباح على معنى أن من أكله مرة أو مرتين لم يعص، ومن دام عليه أيضاً فلا يعصي بتناوله، ولكن تتربى نفسه بالنعيم فتأنس بالدنيا وتألف اللذات وتسعى في طلبها فيجرها ذلك إلى المعاصي فهم شرار الأمة، لأن مخ الحنطة يقودهم إلى اقتحام أمور، تلك الأمور معاص. وقال صلى الله عليه وسلم "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم وإنما همتهم ألوان الطعام وأنواع اللباس ويتشدقون في الكلام. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اذكر أنك ساكن القبر فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات. وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة وتمرين النفس عليها ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة، حتى روى أن وهب بن منبه قال: التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر: من أين؟ قال: أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. فهذا تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير. ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل وقال: اعزلوا عني حسابها. فلا عبادة لله تعالى أعظم من مخالفة النفس في الشهوات وترك اللذات - كما أوردناه في كتاب رياضة النفس- وقد روى نافع أبن ابن عمر رضي عنهما كان مريضاً فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة فلم توجد، ثم وجدت بعد كذا وكذا، فاشتريت له بدرهم ونصف فشويت وحملت إليه على رغيف فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها له، فقال له الغلام: أصلحك الله قد اشتهيتها منذ كذا وكذا فلم نجدها فلما وجدتها اشتريتها بدرهم ونصف، فنحن نعطيه ثمنها، فقال: لفها وادفعها إليه، ثم قال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهماً وتتركها؟ قال: نعم فأعطاه درهماً وأخذها وأتى بها فوضعها بين يديه وقال: قد أعطيته درهماً وأخذتها منه، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم،فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له وقال صلى الله عليه وسلم "إذا سددت كلب الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا وأهلها الدمار أشار إلى أن المقصود رد ألم الجوع والعطش ودفع ضررهما دون التنعم بلذات الدنيا، وبلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان يأكل أنواع الطعام فقال عمر لمولى له: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فأعمله فدخل عليه فقرب عشاؤه فأتوه بثريد لحم فأكل معه عمر، ثم قرب الشواء وبسط يزيد يده وكف عمر يده وقال: يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم. وعن يسار بن عمير قال: ما نخلت لعمر دقيقاً قط إلا وأنا له عاص. وروي أن عتبة الغلام كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس، ثم يأكله ويقول كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء والطعام الطيب. وكان يأخذ الكوز فيغرف به من جب كان في الشمس نهاره فتقول مولاة له: يا عتبة لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء؟ فيقول لها: يا أم فلان قد شردت عني كلب الجوع.
قال شقيق ابن إبراهيم: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل - عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم- يبكى وهو جالس بناحية من الطريق فعدلت إليه وقعدت عنده وقلت: إيش هذا البكاء يا أبا إسحق؟ فقال: خير، فعاودته مرة واثنتين وثلاثاً، فقال: يا شقيق استر علي فقلت يا أخي قل ما شئت، فقال لي: اشتهت نفسي منذ ثلاثين سنة سكباجاً فمنعتها جهدي، حتى إذا كان البارحة كنت جالساً وقد غلبني النعاس إذ أنا بفتى شاب بيده قدح أخضر يعلو منه بخار ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتي عنه فقربه وقال: يا إبراهيم كل، فقلت: ما آكل قد تركته لله عز وجل، فقال لي: قد أطعمك الله كل، فما كان لي جواب إلا أني بكيت، فقال لي: كل رحمك الله، فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا من حيث نعلم، فقال: كل عافاك الله فإنما أعطيته، فقيل لي يا خضر اذهب بهذا وأطعمه نفس إبراهيم بن أدهم فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من منعها. اعلم يا إبراهيم أني سمعت الملائكة يقولون: من أعطى فلم يأخذ طلب فلم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لأجل العقد مع الله تعالى، ثم التفت فإذا أنا بفتى آخر ناوله شيئاً وقال: يا خضر لقمه أنت، فلم يزل يلقمني حتى نعست فانتبهت وحلاوته في فمي، قال شقيق: فقلت أرني كفك، فأخذت بكفه فقبلتها وقلت: يا من يطعم الجياع الشهوات إذا صححوا المنع، يا من يقدح في الضمير اليقين، يا من يشفى قلوبهم من محبته، أترى لشقيق عندك حالاً؟ ثم رفعت يد إبراهيم إلى السماء وقلت: بقدر هذا الكف عندك وبقدر صاحبه وبالجود الذي وجد منك جد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك ورحمتك وإن لم يستحق ذلك، قال: فقام إبراهيم ومشى حتى أدركنا البيت.
وروي عن مالك بن دينار أنه بقي أربعين سنة يشتهي لبناً فلم يأكله. وأهدى إليه يوماً رطب فقال لأصحابه: كلوا فما ذقته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري: اشتهى أبو سليمان الداراني رغيفاً حاراً بملح فجئت به إليه فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي وقال: عجلت إلى شهوتي بعد إطالة جهدي واشقوتي قد عزمت على التوبة فأقلني! قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى. وقال مالك بن ضيغم مررت بالبصرة في السوق فنظرت إلى البقل فقالت لي نفسي: لو أطعمتني الليلة من هذا فأقسمت أن لا أطعمها إياه أربعين ليلة ومكث مالك بن دينار بالبصرة خمسين سنة ما أكل رطبة لأهل البصرة ولا بسرة قط وقال: يا أهل البصرة عشت فيكم خمسين سنة ما أكلت لكم رطبة ولا بسرة فما زاد فيكم ما نقص مني ولا نقص مني ما زاد فيكم. وقال: طلقت الدنيا، منذ خمسين سنة، اشتهت نفسي لبناً منذ أربعين سنة فوالله لا أطعمها حتى ألحق بالله تعالى. وقال حماد بن أبي حنيفة: أتيت داود الطائي والباب مغلق عليه فسمعته يقول: نفسي اشتهيت جزراً فأطعمتك جزراً، ثم اشتهيت تمراً فآليت أن لا تأكليه أبداً، فسلمت ودخلت فإذا وحده. ومر أبو حازم يوماً في السوق فرأى الفاكهة فاشتراها، فقال لابنه. اشتر لنا من هذه الفاكهة المقطوعة الممنوعة لعلنا نذهب إلى الفاكهة التي لا مقطوعة ولا ممنوعة، فلما اشتراها وأتى بها إليه قال لنفسه: قد خدعتيني حتى نظرت واشتهيت وغلبتيني حتى اشتريت والله لأذيقنه فبعث بها إلى يتامى من الفقراء وعن موسى الأشج أنه قال: نفسي تتشتهي ملحاً جريشاً منذ عشرين سنة. وأحمد بن خليفة قال: نفسي تشتهي منذ عشرين سنة ما طلبت مني إلا الماء حتى تروى فما أرويتها. وروي أي عتبة الغلام اشتهى لحماً سبع سنين فلما كان بعد ذلك قال استحييت من نفسي أن أدافعها منذ سبع سنين - سنة بعد سنة - فاشتريت قطعة لحم على خبز وشويتها وتركتها على رغيف فلقيت صباً فقلت، ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك؟ قال: بلى. فناولته إياها قالوا: وأقبل يبكي ويقرأ "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا" ثم لم يذقه بعد ذلك. ومكث يشتهي تمراً سنين، فلما كان ذات يوم اشترى تمراً بقيراط ورفعه إلى الليل ليفطر عليه قال: فهبت ريح شديدة حتى أظلمت الدنيا ففزع الناس فأقبل عتبة على نفسه يقول: هذا لجراءتي عليك وشرائي التمر بقيراط، ثم قال لنفسه: ما أظن أخذ الناس إلا بذنبك؟ على أن لا تذوقيه. واشترى داود الطائي بنصف فلس بقلاً وبفلس خلاً، وأقبل ليلته كلها يقول لنفسه. ويلك يا داود ما أطول حسابك يوم القيامة، ثم لم يأكل بعده إلا قفاراً،وقال عتبة الغلام يوماً لعبد الواحد بن زيد. إن فلاناً يصف من نفسه منزلة ما أعرفها من نفسي فقال: لأنك تأكل مع خبزك تمراً وهو لا يزيد على الخبز شيئاً قال: فإن أنا تركت أكل التمر عرفت تلك المنزلة؟ قال: نعم؛ وغيرها فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه لا أبكى الله عينك أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد دعه؛ فإن نفسه قد عرفت صدق عزمه في الترك، وهو إذا ترك شيئاً لم يعاوده. وقال جعفر بن نصر: أمرني الجنيد أن أشتري له التين الوزيري، فلما اشتريته أخذ واحدة عند الفطور فوضعها في فمه ثم ألقاها وجعل يبكي، ثم قال: احمله فقلت له في ذلك فقال: هتف بي هاتف أما تستحي؟ تركته من أجلي ثم تعود إليه! وقال صالح المري: قلت لعطاء السلمي إني متكلف لك شيئاً فلا ترد على كرامتي، فقال: افعل ما تريد، قال: فبعثت إليه مع ابني شربة من سويق قد لتته بسمن وعسل، فقلت: لا تبرح حتى يشربها، فلما كان من الغد جعله له نحوها فردها ولم يشربها، فعاتبته ولمته على ذلك وقلت. سبحان الله رددت على كرامتي! فلما رأى وجدي لذلك قال: لا يسوءك هذا، إني قد شربتها أول مرة وقد راودت نفسي في المرة الثانية على شربها فلم أقدر على ذلك، كلما أردت ذلك ذكرت قوله تعالى "يتجرعه ولا يكاد يسيغه" الآية قال صالح: فبكيت وقلت في نفسي: أنا في واد وأنت في واد آخر. وقال السري السقطي: نفسي منذ ثلاثين سنة تطالبني أن أمس جزرة في دبس فما أطعمتها. وقال أبو بكر الجلاء. أعرف رجلاً تقول له نفسه أنا أصبر لك على طي عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تطوى عشرة أيام ولكن اتركي هذه الشهوة. وروي أن عابداً دعا بعض إخوانه فقرب إليه رغفاناً فجعل أخوه يقلب الأرغفة ليختار أجودها فقال له العابد. مه أي شيء تصنع! أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه كذا وكذا حكمة وعمل فيه كذا وكذا صانعاً، حتى استدار من السحاب الذي يحمل الماء والماء الذي يسقي الأرض والرياح والأرض والبهائم وبني آدم حتى صار إليك، ثم أنت بعد هذا تقلبه ولا ترضى به.
وفي الخبر "لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل في ثلثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل عليه السلام الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ودواب الأرض، وآخرهم الخباز "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقال بعضهم: أتيت قاسماً الجرعي فسألته عن الزهد أي شيء هو؟ فقال: أي شيء سمعت فيه؟ فعددت أقوالاً فسكت فقلت: وأي شيء تقول أنت؟ فقال: اعلم أن البطن دنيا العبد فبقدر ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبقدر ما يملكه بطنه تملكه الدنيا وكان بشر بن الحرث قد اعتل مرة، فأتى عبد الرحمن الطبيب يسأله عن شيء يوافقه من المأكولات، فقال: تسألني فإذا وصفت لك لم تقبل مني، صف لي حتى أسمع، قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك اسفيذباجا، فقال له بشر: هل تعلم شيئاً اقل من السكنجبين يقوم مقامه، قال: لا، قال: أنا أعرف، قال: ما هو؟ قال: الهندبا بالخل، ثم قال: أتعرف شيئاً اقل من السفرجل يقوم مقامه؟ قال: لا، قال أنا أعرف قال: ما هو؟ قال: الخرنوب الشامي، قال: فتعرف شيئاً أقل من الاسفيذباج يقوم مقامه؟ قال: لا، قال: أنا أعرف؛ ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: أنت أعلم مني بالطب؛ فلم تسألني؟ فقد عرفت بهذا أن هؤلاء امتنعوا من الشهوات ومن الشبع من الأقوات، وكان امتناعهم للفوائد التي ذكرناها، وفي بعض الأوقات لأنهم كانوا لا يصفو لهم الحلال فلم يرخصوا لأنفسهم إلا في قدر الضرورة، والشهوات ليست من الضرورات حتى قال أبو سليمان: الملح شهوة لأنه زيادة على الخبز وما وراء الخبز شهوة. هذا هو النهاية. فمن لم يقدر على ذلك فينبغي أن لا يغفل عن نفسه ولا ينهمك في الشهوات، فكفى بالمرء إسرافاً أن يأكل كل ما يشتهيه، ويفعل كل ما يهواه فينبغي أن لا يواظب على أكل اللحم. وقال علي كرم الله وجهه من ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ومن داوم عليه أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل أن للمداومة على اللحم ضراوة كضراوة الخمر. ومهما كان جائعاً وتاقت نفسه إلى الجماع فلا ينبغي أن يأكل ويجامع، فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه، وربما طلبت النفس الأكل لينشط في الجماع. ويستحب أن لا ينام على الشبع فيجمع بين غفلتين فيعاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصل أو ليجلس فيذكر الله تعالى فإنه أقرب إلى الشكر. وفي الحديث "أذيبوا طعامكم بالذكر والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم وأقل ذلك أن يصلي أربع ركعات أو يسبح مائة تسبيحة أو يقرأ جزءاً من القرآن عقيب أكله. فقد كان أبو سفيان الثوري إذا شبع ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يقول: أشبع الزنجي وكده ومرة يقول: أشبع الحمار وكده. ومهما اشتهى شيئاً من الطعام وطيبات الفواكه فينبغي أن يترك الخبز ويأكلها بدلاً منه لتكون قوتاً، ولا تكون تفكها لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة. نظر سهل إلى ابن سالم وفي يده خبز وتمر فقال له: ابدأ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلا أخذت من الخبز بعده بقدر حاجتك. ومهما وجد طعاماً لطيفاً وغليظاً فليقدم اللطيف فإنه لا يشتهي الغليظ بعده. ولو قدم الغليظ لأكل اللطيف أيضاً للطافته. وكان بعضهم يقول لأصحابه: لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها فإن طلبتموها فلا تحبوها، وطلب بعض أنواع الخبز شهوة. قال عبد الله ابن عمر رحمة الله عليهما: ما تأتينا من العراق فاكهة أحب إلينا من الخبز فرأى ذلك الخبز فاكهة.
وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحات وأتباعها بكل حال فبقدر ما يستوفي العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخر بشهواته. قال بعض أهل البصرة: نازعتني نفسي خبز أرز وسمكاً فمنعتها، فقويت مطالبتها واشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، فلما مات قال بعضهم: رأيته في المنام فقلت ماذا فعل الله بك؟ قال: لا أحسن أن أصف ما تلقاني به ربي من النعم والكرامات، وكان أول شيء استقبلني به خبز أرز وسمكاً. وقال: كل اليوم شهوتك هنيئاً بغير حساب. وقد قال تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" وكانوا قد أسلفوا ترك الشهوات. ولذلك قال أبو سليمان: ترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها. وفقنا الله لما يرضيه.


[align=center]بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته
واختلاف أحوال الناس فيه [/align]


اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق: الوسط، إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وما أوردناه في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب وهيهات، ولكن من أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع فيه، على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان. والعالم يدرك أن المقصود الوسط، لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل الاعتدال، فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية؛ فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضاً ما يدل على إساءته، كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله نهى عنه فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً، فإن مقصود الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة، وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم. وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال.
ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط مثال نملة ألقيت في وسط حلقة محمية على النار مطروحة على الأرض، فإن النملة تهرب من حرارة الحلقة وهي محيطة بها لا تقدر على الخروج منها. فلا تزال تهرب حتى تستقر على المركز الذي هو الوسط، فلو ماتت ماتت على الوسط لأن الوسط هو أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة: فكذلك الشهوات محيطة بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة، والملائكة خارجون عن تلك الحلقة، ولا مطمع للإنسان في الخروج وهو يريد أن يتشبه بالملائكة في الخلاص، فأشبه أحواله بهم البعد، وأبعد الموضع عن الأطراف الوسط، فصار الوسط مطلوباً في جميع هذه الأحوال المتقابلة. وعنه عبر بقوله صلى الله عليه وسلم "خير الأمور أوساطها وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكلوا وشربوا ولا تسرفوا" ومهما لم يحس الإنسان بجوع ولا شبع تيسرت له العبادة والفكر وخف في نفسه وقوي على العمل مع خفته، ولكن هذا بعد اعتدال الطبع.
أما في بداية الأمر إذا كانت النفس جموحاً متشوقة إلى الشهوات مائلة إلى الإفراط فالاعتدال لا ينفعها بل لا بد من المبالغة في إيلامها بالجوع، كما يبالغ في إيلام الدابة التي ليست مروضة بالجوع والضرب وغيره إلى أن تعتدل، فإذا ارتاضت واستوت ورجعت إلى الاعتدال ترك تعذيبها وإيلامها. ولأجل هذا السر يأمر الشيخ مريده بما لا يتعاطاه هو في نفسه فيأمره بالجوع وهو لا يجوع، ويمنعه الفواكه والشهوات، وقد لا يمتنع هو منها، لأنه قد فرغ من تأديب نفسه فاستغنى عن التعذيب. ولما كان أغلب أحوال النفس الشره والشهوة والجماح والامتناع عن العبادة، كان الأصلح لها الجوع الذي تحس بألمه في أكثر الأحوال لتنكسر نفسه. والمقصود أن تنكسر حتى تعتدل فترد بعد ذلك الغذاء أيضاً إلى الاعتدال. وإنما يمتنع من ملازمة الجوع من سالكي طريق الآخرة: إما صديق وإما مغرور أحمق.
أما الصديق المستقيم: فلاستقامة نفسه على الصراط المستقيم واستغنائه عن أن يساق بسياط الجوع إلى الحق. وأما المغرور: فلظنه بنفسه أنه الصديق المستغني عن تأديب نفسه الظان بها خيراً. وهذا غرور عظيم وهو الأغلب. فإن النفس قلما تتأدب تأدباً كاملاً، وكثيراً ما تغتر فتنظر إلى الصديق ومسامحته نفسه في ذلك فيسامح نفسه، كالمريض ينظر إلى من قد صح من مرضه فيتناول ما يتناوله ويظن بنفسه الصحة فيهلك. والذي يدل على أن تفسير الطعام بمقدار يسير- في وقت مخصوص ونوع مخصوص - ليس مقصوداً في نفسه - وإنما هو مجاهدة نفس متنائية عن الحق غير بالغة رتبة الكمال - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له تقدير وتوقيت لطعامه.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان يدخل على أهله فيقول "هل عندكم من شيء" فإن قالوا نعم أكل وإن قالوا له قال "إني إذن صائم وكان يقدم إليه الشيء فيقول "أما إني قد أردت الصوم" ثم يأكل وخرج صلى الله عليه وسلم يوماً وقال "إني صائم" فقالت له عائشة رضي الله عنها: قد أهدي إلينا حيس فقال "كنت أردت الصوم ولكن قربيه .
ولذلك حكي عن سهل أنه قيل له: كيف كنت في بدايتك؟ فأخبر بضروب من الرياضات، منها: أنه كان يقتات ورق النبق مدة. ومنها: أنه أكل دقاق التين مدة ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين فقيل له: فكيف أنت في وقتك هذا؟ فقال: آكل بلا حد ولا توقيت. وليس المراد بقوله بلا حد ولا توقيت: أني آكل كثيراً، بل أني لا أقدر بمقدار واحد ما آكله. وقد كان معروف الكرخي يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشراً لا يأكل مثل هذا؟ فقال: إن أخي بشراً قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي فإذا أطعمني أكلت وإذا جوعني صبرت، مالي والاعتراض والتمييز؟ ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه دراهم وقال: خذ لنا بهذه الدراهم زبداً وعسلاً وخبزاً حوار يا فقيل: يا أبا إسحاق بهذا كله؟ قال ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وأصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ودعا إليه نفراً يسيراً فيهم الأوزاعي والثوري فقال له الثوري: يا أبا إسحق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال: ليس في الطعام إسراف إنما الإسراف في اللباس والأثاث.
فالذي أخذ العلم من السماع والنقل تقليداً يرى هذا من إبراهيم بن أدهم ويسمع عن مالك بن دينار أنه قال ما دخل بيتي الملح منذ عشرين سنة. وعن سري السقطي أنه منذ أربعين سنة يشتهي أن يغمس جزرة في دبس فما فعل فيراه متناقضاً فيتحير أو يقطع بأن أحدهما مخطئ. والبصير بأسرار القول يعلم أن كل ذلك حق ولكن بالإضافة إلى اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاج أو غبي مغرور. فيقول المحتاط: ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس أطوع من نفس سري السقطي ومالك بن دينار، وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات فيقتدى بهم. والمغرور يقول: ما نفسي بأعصى علي من نفس معروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي، فأنا أيضاً ضيف في دار مولاي فما لي وللاعتراض؟ ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة قامت القيامة عليه واشتغل بالاعتراض، وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى، بل رفع التقدير في الطعام والصيام وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكله إذا أكل على نية كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً لله في أكله وإفطاره، فينبغي أن يتعلم الحزم من عمر رضي الله عنه فإنه كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العسل ويأكله ثم لم يقس نفسه عليه، بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول: أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها. اعزلوا عني حسابها، وتركها.
وهذه الأسرار لا يجوز لشيخ أن يكاشف بها مريده بل يقتصر على مدح الجوع فقط، ولا يدعوه إلى الاعتدال فإنه يقصر لا محالة عما يدعوه إليه. فينبغي أن يدعوه إلى غاية الجوع حتى يتيسر له الاعتدال. ولا يذكر له أن العارف الكامل يستغني عن الرياضة،فإن الشيطان يجد متعلقاً من قلبه فيلقى إليه كل ساعة: إنك عارف كامل، وما الذي فاتك من المعرفة والكمال، بل كان من عادة إبراهيم الخواص أن يخوض مع المريد في كل رياضة كان يأمره بها، كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته. والقوي إذا اشتغل بالرياضة وإصلاح الغير لزمه النزول إلى حد الضعفاء تشبهاً بهم وتلطفاً في سياقتهم إلى السعادة. وهذا ابتلاء عظيم للأنبياء والأولياء وإذا كان الاعتدال خفياً في حق كل شخص فالحزم والاحتياط ينبغي أن لا يترك في كل حال. ولذلك أدب عمر رضي الله عنه ولده عبد الله إذ دخل عليه فوجده يأكل لحماً مأدوماً بسمن، فعلاه بالدرة وقال: لا أم لك كل يوماً خبزاً ولحماً، ويوماً خبزاً ولبناً، ويوماً خبزاً وسمناً، ويوماً خبزاً وزيتاً، ويوماً خبزاً وملحاً، ويوماً خبزاً قفاراً. وهذا هو الاعتدال، فأما المواظبة على اللحم والشهوات فإفراط وإسراف، ومهاجرة اللحم بالكلية إقتار. وهذا قوام بين ذلك والله تعالى أعلم.


[align=center]بيان آفة الرياء المتطرق
إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام[/align]


اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان هما أعظم من أكل الشهوات؛ إحداهما: أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات فتشتهيها، ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذا هو الشرك الخفي، سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد فسكت عنه فقيل له: هل تعلم به بأساً؟ قال يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذه آفة عظيمة، بل حق العبد إذا ابتلى بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال، وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال، فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان، والكذب مع الإخفاء كذبان، فيكون مستحقاً ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين. ولذلك شدد أمر المنافقين فقال تعالى "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" لأن الكافر كفر وأظهر وهذا كفر وستر، فكان ستره لكفره كفراً آخر لأنه استخف بنظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه وعظم نظر المخلوقين فمحا الكفر عن ظاهره. والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء. بل كمال العارف أن يترك الشهوات لله تعالى ويظهر من نفسه الشهوة إسقاطاً لمنزلته من قلوب الخلق. وكان بعضهم يشتري الشهوات ويعلقها في البيت وهو فيها من الزاهدين، وإنما يقصد به تلبيس حاله ليصرف عن نفسه قلوب الغافلين حتى لا يشوشون عليه حاله.
فنهاية الزهد: الزهد في الزهد بإظهار ضده وهذا عمل الصديقين. فإنه جمع بين صدقين كما أن الأول جمع بين كذبين. وهذا قد حمل على النفس ثقلين وجرعها كأس الصبر مرتين مرة بشربه ومرة برميه؛ فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا. وهذا يضاهي طريق من يعطي جهراً فيأخذ ويرد سراً ليكسر نفسه بالذل جهراً وبالفقر سراً. فمن فاته هذا فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه والصدق فيه. ولا ينبغي أن يغره قول الشيطان: إنك إذا أظهرت اقتدى بك غيرك فاستره إصلاحاً لغيرك، فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره. فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه في معرض إصلاح غيره، فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه واعلم أن من اطلع عليه ليس يقتدى به في الفعل أو لا ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات.
الآفة الثانية: أن يقدر على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به فيشتهر بالتعفف عن الشهوات، فقد خالف شهوة ضعيفة وهي شهوة الأكل وأطاع شهوة هي شر منها وهي شهوة الجاه، وتلك هي الشهوة الخفية فمهما أحس بذلك من نفسه فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام فليأكل فهو أولى له. قال أبو سليمان: إذا قدمت إليك شهوة وقد كنت تاركاً لها فأصب منها شيئاً يسيراً ولا تعط نفسك مناها، فنكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة وتكون قد نغصت عليها إذ لم تعطها شهوتها. وقال محمد بن جعفر الصادق: إذا قدمت إلى شهوة نظرت إلى نفسي فإن هي أظهرت شهوتها أطعمتها منها وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوب عنها عاقبتها بالترك ولم أنلها منها شيئاً، وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية.
وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في شهوة الرياء كان كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية؛ لأن شهوة الرياء أضر كثيراً من شهوة الطعام والله ولي التوفيق.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 03, 2006 8:35 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]القول في شهوة الفرج[/align]

اعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الإنسان لفائدتين؛

إحداهما: أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة. فإن لذة الوقاع لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد، كما أن النار وآلامها أعظم آلام الجسد. والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة، فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق.

الفائدة الثانية: بقاء النسل ودوام الوجود فهذه فائدتها. ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم ترد إلى حد الاعتدال. وقد قيل في تأويل قوله تعالى "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" معناه شدة الغلبة، وعن ابن عباس: في قوله تعالى "ومن شر غاسق إذا وقب" قال: هو قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل. وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله . وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وهني ومني وقال عليه السلام "النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال .
روي أن موسى عليه السلام كان جالساً في بعض مجالسه إذا أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألواناً؛ فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه، ثم أتاه فقال: السلام عليك يا موسى، فقال له موسى من أنت؟ فقال: أنا إبليس، فقال: لا حياك الله ما جاء بك؟ قال: جئت أسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه، قال: فما الذي رأيت عليك؟ قال: برنس أختطف به قلوب بني آدم قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه، وأحذرك ثلاثاً: لا تخل بامرأة لا تحل لك فإن ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها وأفتنها به، ولا تعاهد الله عهداً إلا وفيت به، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: علم موسى ما يحذر به بني آدم. وعن سعيد بن المسيب قال: ما بعث الله نبياً فيما خلا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء ولا شيء أخوف عندي منهن، وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي أغتسل فيه يوم الجمعة ثم أروح. وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي. فنصف جنده الشهوة ونصف جنده الغضب.
وأعظم الشهوات شهوة النساء. وهذه الشهوة أيضاً لها إفراط وتفريط واعتدال، فالإفراط: ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم عن سلوك طريق الآخرة أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش. وقد ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين: أحدهما: أن يتناولوا ما يقوى شهواتهم على الاستكثار من الوقاع -كما قد يتناول بعض الناس أودية تقوى المعدة لتعظم شهوة الطعام- وما مثال ذلك إلا كمن ابتلى بسباع ضارية وحيات عادية فتنام عنه في بعض الأوقات فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها، فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يريد الإنسان الخلاص منها فيدرك لذة بسبب الخلاص.
فإن قلت فقد روى في غريب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "شكوت إلى جبرائيل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهريسة ؟ فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان تحته تسع نسوة ووجب عليه تحصينهن بالإمتاع، وحرم على غيره نكاحهن وإن طلقهن، فكان طلبه القوة لهذا لا للتمتع.
والأمر الثاني: أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع، وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع وهي أقبح الشهوات وأجدرها أن يستحيي منه حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق فتكتفي به؟ وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين حتى يزداد به ذلاً إلى ذل وعبودية إلى عبودية، وحتى يستسخر العقل لخدمة الشهوة وقد خلق ليكون مطاعاً لا ليكون خادماً للشهوة ومحتالاً لأجلها وما العشق إلا سعة إفراط الشهوة وهو مرض قلب فارع لا هم له. وإنما يجب الاحتراز من أوائله بترك معاودة النظر والفكر، وإلا فإذا استحكم عسر دفعه. فكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج، فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا ولا يصبرون عنها البتة.
ومثال من يكثر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله، وما أهون منعها بصرف عنانها. ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثال من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها. وما أعظم التفاوت بين الأمرين في اليسر والعسر، فليكن الاحتياط في بدايات الأمور فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح.
فإذن إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جداً. وتفريطها: بالعفة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة، وهو أيضاً مذموم. وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها. ومهما أفرطت فكسرها بالجوع والنكاح قال صلى الله عليه وسلم "معاشر الشباب عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فالصوم له وجاء .

[align=center]بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله[/align]

اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك ويستجره إلى الأنس بالزوجة. ومن أنس بغير الله تعالى شغل عن الله ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى فلا تقاس الملائكة بالحدادين. ولذلك قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا؟ وقال: ما رأيت مريداً تزوج فثبت على حاله الأول. وقيل له مرة: ما أحوجك إلى امرأة تأنس بها؟ فقال: لا آنسني الله بها، أي أن الأنس بها يمنع الأنس بالله تعالى، وقال أيضاً: كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم. فكيف يقاس غير رسول الله صلى الله عليه وسلم به؟ وقد كان استغراقه بحب الله تعالى بحيث كان يجد احتراقه فيه إلى حد كان يخشى منه في بعض الأحوال أن يسري ذلك إلى قالبه فيهدمه. ولذلك كان يضرب بيده على فخذ عائشة أحياناً ويقول "كلميني يا عائشة" لتشغله بكلامها عن عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه فقد كان طبعه الأنس بالله عز وجل، وكان أنسه بالخلق عارضاً رفقاً ببدنه، ثم إنه كان لا يطيق الصبر مع الخلق إذا جالسهم فإذا ضاق صدره قال "أرحنا بها يا بلال حتى يعود إلى ما هو قرة عينه فالضعيف إذا لاحظ أحواله في مثل هذه الأمور فهو مغرور لأن الأفهام تقصر عن الوقوف على أسرار أفعاله صلى الله عليه وسلم. فشرط المريد العزبة في الابتداء إلى أن يقوى في المعرفة، هذا إذا لم تغلبه الشهوة فإن غلبته الشهوة فليكسرها بالجوع الطويل والصوم الدائم، فإن لم تنقمع الشهوة بذلك وكان بحيث لا يقدر على حفظ العين مثلاً وإن قدر على حفظ الفرج فالنكاح له أولى لتسكن الشهوة، وإلا فمهما لم يحفظ عينه لم يحفظ عليه فكره يوتفرق عليه همه، وربما وقع في بلية لا يطيقها. وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب على الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج. ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه. قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة. وقال سعيد بن جبير: إنما جاءت الفتنة لداود عليه السلام من قبل النظرة. ولذلك قال لابنه عليه السلام: يا بني امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا؟ قال: النظر والتمني. وقال الفضيل: يقول إبليس هو قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به يعني النظر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفاً من الله تعالى أعطاه الله تعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه وقال صلى الله عليه وسلم "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء وقال تعالى "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" الآية وقال عليه السلام "لكل ابن آدم حظ من الزنا فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفم يزني وزناه القبلة، والقلب يهم أو يتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه وقالت أم سلمة: استأذن ابن أم مكتوم الأعمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وميمونة جالستان، فقال عليه السلام "احتجبا" فقلنا: أوليس بأعمى لا يبصر؟ فقال "وأنتما لا تبصرانه؟ وهذا يدل على أنه لا يجوز للنساء مجالسة العميان كما جرت به العادة في المآتم والولائم، فيحرم على الأعمى الخلوة بالنساء، ويحرم على المرأة مجالسة الأعمى وتحديث النظر إليه لغير حاجة، وإنما جوز للنساء محادثة الرجال والنظر إليهم لأجل عموم الحاجة، وإن قدر على حفظ عينه عن النساء ولم يقدر على حفظها عن الصبيان فالنكاح أولى به، فإن الشر في الصبيان أكثر، فإنه لو مال قلبه إلى امرأة أمكنه الوصول إلى استباحتها بالنكاح. والنظر إلى وجه الصبي بالشهوة حرام، بل كل من يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد بحيث يدرك التفرقة بينه وبين الملتحي لم يحل له النظر إليه.
فإن قلت: كل ذي حس يدرك التفرقة بين الجميل والقبيح لا محالة ولم تزل وجوه الصبان مكشوفة؟ فأقول لست أعني تفرقة العين فقط، بل ينبغي أن يكون إدراكه التفرقة كإدراكه التفرقة بين شجرة خضراء وأخرى يابسة، وبين ماء صاف وماء كدر، وبين شجرة عليها أزهارها وأنوارها وشجرة تساقطت أوراقها، فإنه يميل إلى إحداهما بعينه وطبعه ولكن ميلاً خالياً عن الشهوة، ولأجل ذلك لا يشتهي ملامسة الأزهار والأنوار وتقبيلها، ولا تقبيل الماء الصافي، وكذلك الشيبة الحسنة قد تميل العين إليها وتدرك التفرقة بينها وبين الوجه القبيح ولكنها تفرقة لا شهوة فيها. ويعرف ذلك بميل النفس إلى القرب والملامسة. فمهما وجد ذلك الميل في قلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجيل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة والسقوف المذهبة فنظره نظر شهوة فهو حرام، وهذا مما يتهاون به الناس ويجرهم ذلك إلى المعاطب وهم لا يشعرون.
قال بعض التابعين ما أنا بأخوف من السبع الضاري على الشاب الناسك من غلام أمرد يجلس إليه. وقال سفيان: لو أن رجلاً عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجله يريد الشهوة لكان لواطاً. وعن بعض السلف قال: سيكون في هذه الأمة ثلاثة أصناف لوطيون: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون.[/B
[B]]فإذن آفة النظر إلى الأحداث عظيمة، فمهما عجز المريد عن غض بصره وضبط فكره فالصواب له أن يكسر شهوته بالنكاح، فرب نفس لا يسكن توقانها بالجوع.

وقال بعضهم: غلبت على شهوتي في بدء إرادتي بما لم أطق فأكثرت الضجيج إلى الله تعالى فرأيت شخصاً في المنام فقال: مالك؟ فشكوت إليه فقال: تقدم إلي، فتقدمت إليه فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤادي وجميع جسدي، فأصبحت وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك فأكثرت الاستغاثة فأتاني شخص في المنام فقال لي: أتحب أن يذهب ما تجده وأضرب عنقك؟ قلت: نعم، فقال: مد رقبتك، فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي فأصبح وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك أو أشد منه فرأيت كأن شخصاً فيما بين جنبي وصدري يخاطبني ويقول: ويحك كم تسأل الله تعالى رفع ما لا يحب رفعه؟ قال: فتزوجت فانقطع ذلك عني وولد لي.
ومهما احتاج المريد إلى النكاح فلا ينبغي أن يترك شرط الإرادة في ابتداء النكاح ودوامه، أما في ابتدائه فبالنية الحسنة، وفي دوامه بحسن الخلق وسداد السيرة والقيام بالحقوق الواجبة -كما فصلنا جميع ذلك في كتاب آداب النكاح فلا نطول بإعادته- وعلامة صدق إرادته أن ينكح فقيرة متدينة ولا يطلب الغنية. قال بعضهم: من تزوج غنية كان له منها خمس خصال، مغالاة الصداق، وتسويف الزفاف، وفوت الخدمة، وكثرة النفقة. وإذا أراد طلاقها لم يقدر خوفاً على ذهاب مالها. والفقيرة بخلاف ذلك. وقال بعضهم: ينبغي أن تكون المرأة دون الرجل بأربع وإلا استحقرته: بالسن، والطول، والمال، والحسب، وأن تكون فوقه بأربع: بالجمال، والأدب، والورع والخلق وعلامة صدق الإرادة في دوام النكاح الخلق.
تزوج بعض المريدين بامرأة فلم يزل يخدمها حتى استحيت المرأة وشكت ذلك إلى أبيها وقالت: قد تحيرت في هذا الرجل أنا في منزله منذ سنين ما ذهبت إلى الخلاء قط إلى وحمل الماء قبلي إليه؟ وتزوج بعضهم امرأة ذات جمال فلما قرب زفافها أصابها الجدري فاشتد حزن أهلها لذلك خوفاً من أن يستحقبحها، فأراهم الرجل أنه قد أصابه رمد، ثم اراهم أن بصره قد ذهب حتى زفت إليه فزال عنهم الحزن، فبقيت عنده عشرين سنة ثم توفيت ففتح عينيه حين ذلك، فقيل له في ذلك فقال تعمدته لأجل أهلها حتى لا يحزنوا، فقيل له: قد سبقت إخوانك بهذا الخلق. وتزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها فقيل له: لم لا تطلقها؟ فقال: أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها، فإن تزوج المريد فهكذا ينبغي أن يكون، وإن قدر على الترك فهو أولى له، إذ لم يمكنه الجمع بين فضل النكاح وسلوك الطريق وعلم أن ذلك يشغله عن حاله، كما روي أن محمد بن سليمان الهاشمي كان يملك من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم، فكتب إلى أهل البصرة وعلمائها في امرأة يتزوجها فأجمعوا كلهم على رابعة العدوية رحمها الله تعالى فكتب إليها: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله تعالى قد ملكني من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم، وليس تمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصير لك مثلها ومثلها فأجيبيني. فكتبت إليه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي هذا فهيئ زادك وقدم لمعادك وكن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك ليقتسموا تراثك؛ فصم الدهر وليكن فطرك الموت. وأما أنا فلو أن الله تعالى خولني أمثال الذي خولك وأضعافه ما سرني أن أشتغل عن الله طرفة عين.
وهذه إشارة إلى أن كل ما يشغل عن الله تعالى فهو نقصان، فلينظر المريد إلى حاله وقلبه فإن وجده في العزوبة فهو الأقرب، وإن عجز عن ذلك فالنكاح أولى به. ودواء هذه العلة ثلاثة أمور: الجوع، وغض البصر، والاشتغال بشغل يستولي على القلب. فإن لم تنفع هذه الثلاثة فالنكاح هو الذي يستأصل مادتها فقط. ولهذا كان السلف يبادرون إلى النكاح وإلى تزويج البنات، قال سعيد بن المسيب ما أيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء، وقال سعيد أيضاً -وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى- ما شيء أخوف عندي من النساء، وعن عبد الله بن أبي وداعة قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب فتفقدني أياماً فلما أتيته قال أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله تعالى ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: أنا، فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، فحمد الله تعالى وصلى النبي صلى الله عليه وسلم وزوجني على درهمين -أو قال ثلاثة- قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح؟ فصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي فأسرجت، وكنت صائماً فقدمت عشائي لأفطر -وكان خبزاً وزيتاً- وإذا بابي يقرع فقلت: من هذا؟ قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب -وذلك أنه لم ير أربعين سنة إلا بين داره والمسجد- قال: فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب فظنت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد لو أرسلت إلي لأتيتك؟ فقال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر؟ قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك، وإذا هي قائمة خلفه في طوله في أخذ بيدها فدفعها في الباب ورده فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه؛ ثم صعدت السطح فرميت الجيران فجاءوني وقالوا: ما شأنك؟ قتل: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها الليلة على غفلة فقالوا: أو سعيد زوجك؟ قلت: نعم؛ قالوا وهي في الدار؟ قلت: نعم، فنزلوا إليها وبلغ ذلك أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام؛ قال: فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها؛ فإذا هي من أجمل النساء وأحفظ الناس لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بحق الزوج؟ قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه؛ فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس، فقال: ما حال ذلك الإنسان؟ فقلت: بخير يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك منه أمر فدونك والعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم. قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب هذه قد خطبها منه عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف. فاستعجال سعيد في الزفاف تلك الليلة يعرفك غائلة الشهوة ووجوب المبادرة في الدين إلى تطفئة نارها بالنكاح رضي الله تعالى عنه ورحمه.

[align=center]بيان فضيلة من يخالف شهوة الفرج والعين[/align]

اعلم أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه، وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه، وليس في شيء من ذلك ثواب فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر. نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة وهي دفع الإثم، فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه؟ وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب، لا سيما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصديقين. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد وقال عليه السلام "سبعة يظلمهم الله يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله -وعد منهم" رجل دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها فقال إني أخاف الله رب العالمين وقصة يوسف عليه السلام وامتناعه من زليخا مع القدرة ومع رغبتها معروفة، وقد أثنى الله تعالى عليه بذلك في كتابه العزيز، وهو إمام لكل من وفق لمجاهدة الشيطان في هذه الشهوة العظيمة.
وروي أن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهاً فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه فامتنع عليها وخرج هارباً من منزله وتركها فيه. قال سليمان: فرأيت تلك الليلة في المنام يوسف عليه السلام وكأني أقول له أنت يوسف؟ قال: نعم أنا يوسف الذي هممت وأنت سليمان الذي لم تهم أشار إلى قوله تعالى "ولقد عمت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه" وعنه أيضاً ما هو أعجب من هذا. وذلك أنه خرج من المدينة حاجاً ومعه رفيق له حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئاً، وجلس سليمان في الخيمة وكان من أجمل الناس وجهاً وأورعهم، فبصرت به أعرابية من قلة الجبل وانحدرت إليه حتى وقفت بين يديه -وعليها البرقع والقفازان- فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر وقالت أهنئني؛ فظن أنها تريد طعاماً فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها فقالت: لست أريد هذا إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله؟ فقال: جهزك إبليس؟ ثم وضع رأسه بين ركبتيه وأخذ في النحيب فلم يزل يبكي فلما رأت منه ذلك سدلت البرقع على وجهها وانصرفت راجعة حتى بلغت أهلها. وجاء رفيقه فرآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه فقال ما يبكيك؟ قال: خير ذكرت صبيتي. قال: لا والله إلا أن لك قصة إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها، فلم يزل به حتى أخبره خبر الأعرابية، فوضع رفيقه السفرة وجعل يبكي بكاء شديداً فقال سليمان: وأنت ما يبكيك؟ قال: أنا أحق بالبكاء منك لأني أخشى أن لو كنت مكانك لما صبرت عنها، فلم يزالا يبكيان، فلما انتهى سليمان إلى مكة فسعى وطاف ثم أتى الحجر، فاحتبى بثوبه فأخذته عينه فنام وإذا رجل وسيم طوال له شارة حسنة ورائحة طيبة فقال له سليمان: رحمك الله من أنت؟ قال له: أنا يوسف، قال: يوسف الصديق؟ قال: نعم، قال: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعبجا! فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب.
وروي عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فقال رجل منهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون حول قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي من أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك ففرج عنها ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة عنهم غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إن استأجرت أجراء وأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد فإنه ترك الأجر الذي له وذهب فنميت له أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أعطني أجري، فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق؛ فقال يا عبد الله أتهزأ بي؟ فقلت: لا أستهزئ بك فخذه، فاستاقه وأخذه كله ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون .
فهذا فضل من تمكن من قضاء هذه الشهوة فعف وقريب منه من تمكن من قضاء شهوة العين، فإن العين مبدأ الزنا فحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ. والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها والمعاودة يؤاخذ بها قال صلى الله عليه وسلم "لك الأولى وعليك الثانية أي النظرة. وقال العلاء بن زياد. لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان. فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه هذه المعاودة عين الجهل، فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ وتألم لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه عن معصية وعن تألم وعن تحسر. ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق. فقد روي عن أبي بكر بن عبد الله المزني: أن قصاباً أولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها في حاجة لهم إلى قرية أخرى فتبعها وراودها عن نفسها فقالت له: لا تفعل لأنا أشد حباً لك منك لي ولكني أخاف الله، قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه! فرجع تائباً فأصابه العطش حتى كاد يهلك فإذا برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: مالك؟ قال: العطش، قال: تعال حتى ندعو الله بأن تظلنا سحابة حتى ندخل القرية، قال: ما لي من عمل صالح فأدعوا، فادع أنت، قال: أنا أدعو وأمن أنت على دعائي فدعا الرسول وأمن هو فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه فمالت السحابة معه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: زعمت أن ليس لك عمل صالح وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك، لتخبرني بأمرك، فأخبره فقال الرسم: إن التائب عند الله تعالى بمكان ليس أحد من الناس بمكانه. وعن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت غليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتي اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً، فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدني شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك إن جوارحي كلها مشغولة بك ف في أمري وأمرك، قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم فإذا عادة إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل وتصير الجبال كالعهن وتجثوا الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري؟ وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى "وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" فأين المهرب من هذه الآية؟ ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديداً وقالت: اسأل لك الله الذي بيده مفاتيح
قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك وأوصني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله تعالى "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار" قال: فأطرقت وبكت بكاء شديداً أشد من بكائها الأول، ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي، فيقال له: مما بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك؟ فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى فأنا أستحي منه أن أسترد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى.
تم كتاب كسر الشهوتين بحمد الله تعالى وكرمه. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب آفات اللسان، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وسلم تسليماً كثيراً.

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء يوليو 05, 2006 8:41 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]كتاب آفات اللسان
وهو الكتاب الرابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين
[/align]

[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم [/align]

الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله، وألهمه نور الإيمان فزينه وجمله، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله، ثم أرسل عليه ستراً من رحمته وأسبله، ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، ويكشف عنه ستره الذي أرسله، وأطلق بالحق مقوله، وأفصح بالشكر عما أولاه وخوله، من علم حصله ونطق سهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله، ونبيه الذي أرسله بكتاب أنزله، وأسمى فضله وبين سبله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن قبله ما كبر الله عند وهلله.

أما بعد: فإن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبه، فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذا لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ثم إنه ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق متخيل أو معلوم مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء. واللسان رحب الميدان ليس له مرد ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله وعلم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله، وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان. ونحن بتوفيق الله وحسن تدبيره نفصل مجامع آفات اللسان ونذكرها واحدة واحدة بحدودها وأسبابها وغوائلها. ونعرف طريق الاحتراز عنها، ونورد ما ورد من الأخبار والآثار في ذمها. فنذكر أولاً فضل الصمت ونردفه بذكر آفة الكلام فيما لا يعني، ثم آفة فضول الكلام، ثم آفة الخوض في الباطل، ثم آفة المراء والجدال؛ ثم آفة الخصومة، ثم آفة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه وغير ذلك مما جرت به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة، ثم آفة الفحش والسب وبذاءة اللسان، ثم آفة اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان، ثم آفة الغناء بالشعر -وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده- ثم آفة المزاح، ثم آفة السخرية والاستهزاء، ثم آفة إفشاء السر، ثم آفة الوعد الكاذب، ثم آفة الكذب في القول واليمين، ثم بيان التعارض في الكذب، ثم آفة الغيبة، ثم آفة النميمة، ثم آفة ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين فيكلم كل واحد بكلام يوافقه، ثم آفة المدح، ثم آفة الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته ويرتبط بأصول الدين، ثم آفة سؤال العوام عن صفات الله عز وجل وعن الحروف أهي قديمة أو محدثة؟ وهي آخر الآفات وما يتعلق بذلك وجملتها عشرون آفة ونسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه.

[align=center]بيان عظيم خطر اللسان وفضيلة الصمت[/align]

اعلم أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه فقال صلى الله عليه وسلم "من صمت نجا وقال عله السلام "الصمت حكم وقليل فاعله أي حمة وحزم. وروى عبد الله بن سفيان عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك قال "قل آمنت بالله ثم استقم" قال: قلت فما أتقي؟ فأوما بيده إلى لسانه وقال عقبة بن عامر: قلت يا رسول الله ما النجاة؟ قال "أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وأبك على خطيئتك وقال سهل بن سعد الساعدي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من وفى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقى الشركله القبقب: هو البطن والذبذب: الفرج، واللقلق: اللسان. فهذه الشهوات الثلاث بها يهلك أكثر الخلق، ولذلك اشتغلنا بذكر آفات اللسان لما فرغنا من ذكر آفة الشهوتين البطن والفرج، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس في الجنة فقال "تقوى الله وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل النار فقال "الأجوفان: الفم والفرج فيحتمل أن يكون المراد بالفم آفات اللسان لأنه محله، ويحتمل أن يكون المراد به البطن لأنه منفذه؛ فقد قال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول؟ فقال "ثكلتك أمك يا ابن جبل وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ وقال عبد الله الثقفي: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به فقال "قل ربي الله ثم استقم" قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسانه وقال "هذا وروي أن معاذاً قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لسانه ثم وضع عليه أصبعه وقال أنس بن مالك: قال صلى الله عليه وسلم "لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه وقال صلى الله عليه وسلم "من سره أن يسلم فليلزم الصمت وعن سعيد بن جبير مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ قال؛ هذا أوردني الموارد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته وعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يلبي ويقول: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، فقيل له يا أبا عبد الرحمن أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته؟ فقال: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه وقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كف لسانه ستر الله عورته ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره وروي أن معاذ بن جبل قال. يا رسول الله أوصني قال "اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى وإن شئت أنبأتك بما هو أملك لك من هذا كله" وأشار بيده إلى لسانه وعن صفوان بن سليم قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن. الصمت وحسن الخلق .
وقال أبو هريرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت وقال الحسن" ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "رحم الله عبداً تكلم فغنم أو سكت فسلم وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك، فقال: فلا تنطقوا إلا بخير. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. وعن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال "أطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير وقال صلى الله عليه وسلم "اخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله امرؤ علم ما يقول" وقال عليه السلام "الناس ثلاثة: غانم وسالم وشاحب. فالغانم الذي يذكر الله تعالى، والسالم الساكت، والشاحب الذي يخوض في الباطل وقال عليه السلام "إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه وقال عيسى عليه السلام: العبادة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار من الناس، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به .
الآثار: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وقال عبد الله بن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني. وقال وهب بن منبه: في حكمة آل داود؛ حق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه. وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. وقال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال بعضهم: الصمت يجمع للرجل فضيلتين؛ السلامة في دينه والفهم عن صاحبه. وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم. وقال يونس بن عبيد: ما من الناس أحد يكون منه لسان على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله. وقال الحسن تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت فقال له: مالك يا أبا بحر لا تتكلم؟ فقال له: أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت. وقال أبو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك؛ ملك الهند وملك الصين وكسرى وقيصر، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل، وقال الآخر: إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني، وقال الثالث: عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقيل: أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة أربعين سنة. وقيل: ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء.
فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه؟ فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات. فهذه آفات كثيرة وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم -كما سيأتي تفصيله- ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة. فقد قال الله تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.
وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي الربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً. ومن عرف دقائق آفات اللسان -على ما سنذكره- علم قطعاً أن ما ذكره صلى الله عليه وسلم هو فصل الخطاب حيث قال "من صمت نجا فلقد أوتى والله جواهر الحكم قطعا وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء وفيما سنذكره من الآفات وعسر الاحتراز عنها ما يعرفك حقيقة ذلك إن شاء الله تعالى. ونحن الآن نعد آفات اللسان ونبتدئ بأخفها ونترقى إلى الأغلظ قليلاً، ونؤخر الكلام في الغيبة والنميمة والكذب فإن النظر فيها أطول وهي عشرون آفة فاعلم ذلك ترشد بعون الله تعالى.


[align=center]الآفة الأولى
الكلام فيما لا يعنيك
[/align]

اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك من جميع الآفات التي ذكرناها من الغيبة والنميمة والكذب والرياء والجدال وغيرها، وتتكلم فيما هو مباح لا ضرر عليك فيه وعلى مسلم أصلاً إلا أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه ولا حاجة بك إليه، فإنك مضيع به زمانك ومحاسب على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لأنك لو صرفت زمان الكلام إلى الفكر ربما كان ينفتح لك من نفحات رحمة الله عند الفكر ما يعظم جدواه، ولو هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته لكان خيراً لك فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة؟ ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسراً خسراناً مبيناً. وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرا ونظرة وعبرة ونطقه إلا ذكراً هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم. بل رأس مال العبد أوقاته ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة فقد ضيع رأس ماله. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه بل ورد ما هو أشد من هذا قال أنس: استشهد غلام منا يوم أحد فوجدنا على بطنه حجراً مربوطاً من الجوع فمسحت أمه عن وجهه التراب وقالت هنيئاً لك الجنة يا بني، فقال صلى الله عليه وسلم "وما يدرك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره؟ وفي حديث آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كعباً فسأل عنه فقالوا مريض فخرج يمشي حتى أتاه فلما دخل عليه قال "أبشر يا كعب" فقالت أمه هنيئاً لك الجنة يا كعب فقال صلى الله عليه وسلم "من هذه المتألية على الله"؟ قال: هي أمي يا رسول الله قال "وما يدريك يا أم كعب لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه ومعناه أنه إنما تتهيأ الجنة لمن لا يحاسب ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه، وإن كان كلامه غير مباح فلا تتهيأ الجنة مع المناقشة في الحساب فإنه نوع من العذاب.
وعن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فدخل عبد الله بن سلام فقال إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به فقال: إني لضعيف وإن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني وقال أبو ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان" قلت: بلى يا رسول الله قال "هو الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك وقال مجاهد. سمعت ابن عباس يقول خمس لهن أحب إلى من الدهم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام. وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت ولا أتكلف ما لا يعنيني. وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه قالوا: وما هو؟ قال: السكوت عما لا يعنيني. وقال عمر رضي الله عنه لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل وأحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.
وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لن تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال، مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر. وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب لشخص ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك -وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها- ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك فأنت بالسؤال مضيع وقتك وقد الجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الشيء مما يتطرق إلى السؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات. فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلاً فتقول له: هل أنت صائم؟ فإن قال نعم، كان مظهراً لعبادته فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذباً، وإن سكت كان مستحقراً لك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه. فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب أو للاستحقار أو للتعب في حيلة الدفع، وكذلك سؤالك عن سائر عباداته، وكذلك سؤالك عن المعاصي وعن كل ما يخفيه ويستحي منه. وسؤالك عما حدث به غيرك فتقول له: ماذا تقول؟ وفيم أنت؟ وكذلك ترى إنساناً في الطريق فتقول: من أين؟ فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكره تأذى به واستحيا، وإن لم يصدق وقع في الكذب وكنت السبب فيه.. وكذلك تسأل عن مسألة لا حاجة بك إليها والمسئول ربما لم تسمح نفسه بأن يقول لا أدري، فيجيب عن غير بصيرة.
ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس، فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر. وإنما مثال ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رأى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله، فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال: نعم الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله، أي حصل العلم بع من غير سؤال فاستغنى عن السؤال. وقيل أنه كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك من غير سؤال. فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر هتك ستر وتوريط في رياء وكذب هو مما لا يعني وتركه من حسن الإسلام فهذا حده.
وأما سببه الباعث عليه فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها.
وعلاج ذلك كله أن يعلم أن الموت بين يديه وأنه مسئول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله. وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين. هذا علاج من حيث العلم وأما من حيث العمل فالعزلة أو أن يضع حصاة في فيه وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه، وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جداً.


[align=center]الآفة الثانية
فضول الكلام[/align]


وهو أيضاً مذموم، وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة، فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره. ومهما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فكذر كلمتين فالثانية فضول -أي فضل عن الحاجة- وهو أيضاً مذموم -لما سبق- وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر. قال عطاء بن أبي رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه. وعن بعض الصحابة قال: إن الرجل ليكلمني بالكلام لجوابه أشهى إلى من الماء البارد إلى الظمآن فأترك جوابخ خيفة أن يكون فضولاً. وقال مطرف: ليعظم جلال الله في قلوبكم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب والحمار: الله اخزه وما أشبه ذلك.
واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر بل المهم محصور في كتاب الله تعالى قال الله عز وجل "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح الناس" وقال صلى الله عليه وسلم "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق الفضل من ماله فانظر كيف قلب الناس الأمر في ذلك فأمسكوا فضل المال وأطلقوا فضل اللسان وعن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: قدمت على رسول صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر فقالوا: أنت والدنا وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلاً، وأنت أطولنا علينا طولاً، وأنت الجفنة الغراء وأنت وأنت فقال "قولوا قولكم ولا يستهوينكم الشيطان إشارة إلى أن اللسان إذا أطنب بالثناء ولو بالصدق فيخشى أن يستهويه الشيطان إلى الزيادة المستغنى عنها. وقال ابن مسعود: أنذركم فضول كلامكم؛ حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته. وقال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول، حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته. وقال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول، أبتاع لك كذا وكذا. فيكتب كذاباً. وقال الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر أو أقل. وروي أن سليمان عليه السلام بعث بعض عفاريته وبعث نفراً ينظرون ما يقول ويخبرونه، فأخبروه بأنه مر في السوق فرفع رأسه إلى السماء ثم نظر إلى الناس وهز رأسه فسأله سليمان عن ذلك فقال: عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما أسرع ما يكتبون! ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون! وقال إبراهيم التيمي: إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم وإلا أمسك، والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلا. وقال الحسن: من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر ماله كثرت ذنوبه، ومن ساء خلقه عذب نفسه، وقال عمرو بن دينار: تكلم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فأكثر فقال له صلى الله عليه وسلم "كم دون لسانك من حجاب"؟ فقال: شفتاي وأسناني، قال "أفما كان لك ما يرد كلامك؟ وفي رواية: أنه قال ذلك في رجل أثنى عليه فاستهتر في الكلام ثم قال: ما أوتي رجلاً شراً من فضل في لسانه وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: إنه ليمنعني من كثير من الكلام خوف المباهاة. وقال بعض الحكماء: إذا كان الرجل في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتكم. وقال يزيد بن أبي حبيب: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع فإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة، وفي الكلام تزيين وزيادة ونقصان. وقال ابن عمر: إن أحق ما طهر الرجل لسانه. ورأى أبو الدرداء امرأة سليطة فقال: لو كانت هذه خرساء كان خيراً لها. وقال إبراهيم: يهلك الناس خلتان: فضول المال وفضول الكلام. فهذه مذمة فضول الكلام وكثرته وسببه الباعث عليه. وعلاجه ما سبق في الكلام فيما لا يعني
.

[align=center]الآفة الثالثة
الخوض في الباطل[/align]


وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام. وأما الكلام فيما لا يعني أو أكثر مما يعني فهو ترك الأولى ولا تحريم فيه. نعم من يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل. وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض في الباطل. وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا. وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها، فقد قال بلال بن الحارث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليتكم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها أبعد من الثريا وقال أبو هريرة إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة. وقال صلى الله عليه وسلم "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكنا نخوض مع الخائضين" وبقوله تعالى "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم" وقال سلمان: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله. وقال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول لهم توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحديث. فهذا هو الخوض في الباطل وهو وراء ما سيأتي من الغيبة والنميمة والفحش وغيرها، بل هو الخوض في ذكر محظورات سبق وجودها أو تدبر للتوصل إليها من غير حاجة دينية إلى ذكرها. ويدخل فيه أيضاً الخوض في حكاية البدع والمذاهب الفاسدة وحكاية ما جرى من قتال الصحابة على وجه يوهم الطعن في بعضهم. وكل ذلك باطل والخوض فيه خوض في الباطل نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه.

[align=center]الآفة الرابعة
المراء والجدال[/align]


وذلك منهي عنه قال صلى الله عليه وسلم "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه وقال عليه السلام "ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته وقال صلى الله عليه وسلم "من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ملاحاة الرجال وقال أيضاً "ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل وقال أيضاً "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً وقال أيضاً "ست من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان: الصيام في الصيف، وضرب أعداء الله بالسيف، وتعجيل الصلاة في اليوم الدجن، والصبر على المصيبات، وإسباغ الوضوء على المكاره، وترك المراء وهو صادق وقال الزبير لابنه: لا تجادل الناس بالقرآن فإنك لا تستطيعهم ولكن عليك بالسنة. وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل. وقال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته. وقيل: ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ليس هذا الجدل من الدين في شيء. وقال أيضاً: المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تجادل العلماء فيمقتوك وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. وقال سفيان: لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة وقلت حامضة لسعى بي إلى السلطان. وقال أيضاً: صاف من شئت ثم أغضبه بالمراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش. وقال ابن أبي ليلى: لا أماري صاحبي فإما أن أكذبه وإما أن أغضبه. وقال أبو الدرداء: كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً. وقال صلى الله عليه وسلم "تكفين كل لحاء ركعتان وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث. لا تتعلمه لتتمارى به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل به. وقال عيسى عليه السلام من كثر كذبه ذهب جماله ومن لاحى الرجال سقطت مروءته ومن كثر همه سقم جسمه ومن ساء خلقه عذب نفسه. وقيل لميمون بن مهران: ما لك لا تترك أخاك عن قلى؟ قال: لأني لا أشاريه ولا أماريه. وما ورد في ذم المراء والجدال أكثر من أن يحصى.
وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه؛ إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض. فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدق به، وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه.
والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة أو من جهة العربية أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير. وذلك يكون تارة من قصور المعرفة وتارة يكون بطغيان اللسان. وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله.
وأما في المعنى: فبأن يقول ليس كما تقول؛ وقد أخطأ فيه من وجه كذا وكذا.
وأما في قصده فمثل أن يقول هذا الكلام حق ولكن ليس قصدك منه الحق وإنما أنت فيه صاحب غرض، وما يجري مجراه، وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل وهو أيضاً مذموم بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد والنكارة، أو التلطف في التعريف لا في معرض الطعن.
وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه، وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى مكروهاً عند المجادل، يحب أن يكون هو المظهر له خطأ ليبين به فضل نفسه ونقص صاحبه، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه.
وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها. أما إظهار الفضل: فهو من قبل تزكية النفس وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء وهي من صفات الربوبية. وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه، وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان، وإنما قوتهما المراء والجدال. فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة، وهذا مجاوز حد الكراهة بل هو معصية مهما حصل فيه إيذاء الغير. ولا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل، ويقدح في قائله بكل ما يتصور له؛ فيثور الشجار بين المتمارين كما يثور الهراش بين الكلبين يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه.
وأما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله، والسبعية الباعث له على تنقيص غيره -كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغضب- فإن علاج كل على بإماطة سببها. وسبب المراء والجدال ما ذكرناه، ثم المواظبة عليه تجعله عادة طبعاً حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه.
روي أن أبا حنيفة رحمة الله عليه قال لداود الطائي: لم آثرت الإنزواء؟ قال: لأجاهد نفسي بترك الجدال، فقال احضر المجالس واستمع ما يقال ولا تتكلم، قال: ففعلت فما رأيت مجاهدة أشد علي منها. وهو كما قال لأن من سمع الخطأ من غيره وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جداً. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة، لشدة ذلك على النفس وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد. فإن المراء طبع؛ فإذا ظن أن له عليه ثواباً اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه، وذلك خطأ محض، بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة، وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال. فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا، فتستمر البدعة في قلبه بالجدل وتتأكد فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه، وقال صلى الله عليه وسلم "رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه وقال هشام بن عروة: كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات: وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً قويت فيه هذه المهلكات ولا يستطيع عنها نزوعاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل. وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها؟


[align=center]الآفة الخامسة
الخصومة[/align]


وهي أيضاً مذمومة وهي وراء الجدال والمراء؛ فالمراء طعن في كلام الغير بإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير. وإظهار مزية الكياسة والجدال وعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها. والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود، وذلك تارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضاً. والمراء لا يكون إلا باعتراض على كلام سبق. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع وقال بعضهم: إياك والخصومة فإنها تمحق الدين. ويقال: ما خاصم ورع قط في الدين. وقال ابن قتيبة: مر بي بشر بن عبد الله بن أبي بكرة فقال: ما يجلسك ههنا؟ قلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي، فقال: إن لأبيك عندي يداً وإني أريد أن أجزيك بها، وإني والله ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة وأشغل للقلب من الخصومة؟ قال: فقمت لأنصرف فقال لي خصمي: ما لك؟ قلت: لا أخاصمك، قال: إنك عرفت أن الحق لي، قلت: لا ولكن أكرم نفسي عن هذا قال: فإني لا أطلب منك شيئاً هو لك.

[align=center]الآفة السادسة
التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع
والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة [/align]


وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا وأتقياء أمتي برءاء من التكلف" وقال صلى الله عليه وسلم "إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون المتفيقهون المتشدقون في الكلام وقالت فاطنة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام وقال صلى الله عليه وسلم "ألا هلك المتنطعون -ثلاث مرات- والتنطع هو التعمق والاستقصاء. وقال عمر رضي الله عنه: شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان. وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى أبيه سعد يسأله حاجة، فتكلم بين يدي حاجته بكلام فقال له سعد: ما كنت من حاجتك بأبعد منك اليوم! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بلسانها وكأنه أنكر عليه ما قدمه على الكلام من التشبب والمقدمة المصنوعة المتكلفة. وهذا أيضاً من آفات اللسان، ويدخل فيه كل سجع متكلف، وكذلك التفاصح الخارج عن حد العادة، وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات "إذ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة الجنين فقال بعض قوم الجاني: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل؟ فقال "أسجعاً كسجع الأعراب وأنكر ذلك لأن أثر التكلف والتصنع بين عليه، بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده: ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم. ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراد وإغراب، فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها، فرشاقة اللفظ تأثير فيه فهو لائق به. فأما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات فلا يليق بها السجع والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم، ولا باعث عليه إلا الرياء وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع ويزجر عنه.

[align=center]الآفة السابعة
الفحش والسب وبذاءة اللسان[/align]


وهو مذموم ومنهي عنه ومصدره الخبث واللؤم قال صلى الله عليه وسلم "إياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن تسب قتلى بدر من المشركين فقال "لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء ألا إن البذاء لؤم وقال صلى الله عليه وسلم ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي وقال صلى الله عليه وسلم "الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها وقال صلى الله عليه وسلم "أربعة يؤذون أهل النار في النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور: رجل يسيل فوه قيحاً ودماً فيقال له ما بال الأبعد قد آذاناً على ما بنا من الأذى؟ فيقول إن الأبعد كان ينظر إلى كل كلمة قذعة خبيثة فيستلذها كما يستلذ الرفث وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة يا عائشة "لو كان الفحش رجلاً لكان رجل سوء وقال صلى الله عليه وسلم "البذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق فيحتمل أن يراد بالبيان في أمور الدين وفي صفات الله تعالى، فإن إلقاء ذلك مجملاً إلى أسماع العوام أولى من المبالغة في بيانه؛ إذ قد يثور من غاية البيان فيه شكوك ووساوس فإذا أجملت بادرت القلوب إلى القبول ولم تضطرب، ولكن ذكره مقروناً بالبذاء يشبه أن يكون المراد به المجاهرة بما يستحي الإنسان من بيانه، فإن الأولى في مثله الإغماض والتغافل دون الكشف والبيان، وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يحب الفاحش المتفحش الصياح في الأسواق وقال جابر بن سمرة: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم وأبي أمامي فقال صلى الله عليه وسلم "إن الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاماً أحاسنهم أخلاقاً وقال إبراهيم بن ميسرة يقال يؤتى بالفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب أو في جوف كلب. وقال الأحنف بن قيس: ألا أخبركم بأدوإ الداء: اللسان البذي والخلق الدني.
فهذه مذمة الفحش فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها. ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها، وقال ابن عباس: إن الله حي كريم يعفو ويكنو، كني باللمس عن الجماع فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست يفاحشة. وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير، وهذه العبارات متفاوتة في الفحش وبعضها أفحش من بعض. وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة وأواخرها محظورة وبينهما درجات يتردد فيه، وليس يختص هذا بالوقاع، بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط أولى من لفظ التغوط والخراء وغيرهما، فإن هذا أيضاً مما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش، وكذلك يستحسن في العادة الكناية عن النساء فلا يقال: قالت زوجتك كذا بل يقال قيل في الحجرة، أو من وراء الستر، أو قالت أم الأولاد. فالتلطف في هذه الألفاظ محمود والتصريح فيها يفضي إلى الفحش، وكذلك من به عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها كالبرص والقرع والبواسير. بل يقال العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه فالتصريح بذلك داخل في الفحش وجميع ذلك من آفات اللسان.
قال العلاء بن هرون: كان عمر بن عبد العزيز يتحفظ في من منطقه: فخرج تحت إبطه خراج فأتيناه نسأله لنرى ما يقول؟ فقلنا: من أين خرج؟ فقال: من باطن اليد. والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم ومن عادتهم السب. وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني فقال "عليك بتقوى الله وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء فيه يكن وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئاً" قال: فما سببت شيئاً بعده وقال عياض بن حمار: يا رسول الله إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني هل علي من بأس أن أنتصر منه؟ فقال "المتسابان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم وقال صلى الله عليه وسلم "ملعون من سب والديه وفي وراية "من أكبر الكبائر أن يسب الرجال والديه" قالوا يا رسول الله كيف يسب الرجل والديه؟ قال "يسب أبا الرجل فيسب الآخر أباه".


[align=center]الآفة الثامنة
اللعن[/align]


إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن ليس بلعان وقال صلى الله عليه وسلم "لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم وقال حذيفة: ما تلاعن قوم قط إلا حق عليهم القول. وقال عمران بن حصين: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ امرأة من الأنصار على ناقة لها فضجرت منها فلعنتها فقال صلى الله عليه وسلم "خذوا ما عليها وأعروها فإنها ملعونة قال: فكأني أنظر إلى تلك الناقة تمشي بين الناس لا يتعرض لها أحد. وقال أبو الدرداء: ما لعن أحد الأرض إلا قالت: لعن الله أعصانا لله: وقالت عائشة رضي الله عنها: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وهو يلعن بعض رقيقه فالتفت إليه وقال "يا أبا بكر أصديقين ولعانين كلا ورب الكعبة -مرتين أو ثلاثاً- فأعتق أبو بكر يومئذ رقيقه وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا أعود. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة وقال أنس: كان رجل يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير فلعن بعيره فقال صلى الله عليه وسلم " يا عبد الله لا تسر معنا على بعين ملعون وقال ذلك إنكاراً عليه. واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل وهو الكفر والظلم، بأن يقول لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع فإن في اللعنة خطراً لأنه حكم على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون وذلك غيب لا يطلع عليه غير الله تعالى، ويطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلعه الله عليه.
والصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر، والبدعة، والفسق. وللعن في كل واحد ثلاث مراتب.
الأولى: اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله الكافرين والمبتدعين والفسقة.
الثانية: اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس وعلى القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة والظلمة وآكلي الربا، وكل ذلك جائز. ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطر لأن معرفة البدعة غامضة ولم يرد لفظ مأثور، فينبغي أن يمنع منه العوام لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعاً بين الناس وفساداً.
الثالثة: اللعن للشخص المعين وهذا فيه خطر كقولك: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع، والتفصيل فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولك. فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله، لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً. وأما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً فهذا فيه خطر فإنه ربما يسلم فيموت مقرباً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً؟ فإن قلت: يلعن لكونه كافراً في الحال كما يقال للمسلم: رحمه الله، لكونه مسلماً في الحال، وإن كان يتصور أن يرتد؟ فاعلم أن معنى قولنا رحمه الله: أي ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن يقال ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة فإن هذا سؤال للكفر وهو في نفسه كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر، ولا لعنه الله إن مات على الإسلام. وذلك غيب لا يدرى، والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى، فلعن الأعيان فيه خطر لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك عين قوماً باللعن فكان يقول في دعائه على قريش "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وذكر جماعة قتلوا على الكفر حتى إن من لم يعلم عاقبته كان يلعنه فنهى عنه إذ روي: أنه كان يلعن الذي قتلوا أصحاب بثر معونة في قنوته شهراً فنزل قوله تعالى "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون يعني أنهم ربما يسلمون فمن أين تعلم أنهم ملعونون؟ وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم، فإن كان لم يجز كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألا أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال: هذا قبر رجل كان عاتياً على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص، فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة فقال أبو بكر: يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم "اكفف عن أبي بكر" فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال "يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء، فكف الناس عن ذلك وشرب نعيمان الخمر فحد مرات في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال صلى الله عليه وسلم "لا تكن عوناً للشيطان على أخيك وفي وراية "لا تقل هذا فإنه يحب الله ورسوله" فنهاه عن ذلك، وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز. وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره.
فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به؟ قلنا. هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلاً عن اللعنة، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق. نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم علياً وقتل أبو لؤلؤة عمر رضيالله عنهما فإن ذلك ثبت متواتراً. فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق أو كفر من غير تحقيق قال صلى الله عليه وسلم "لا يرمى رجل رجلاً بالكفر ولا يرميه بالفسق إذا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك وقال صلى الله عليه وسلم "ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما، إن كان كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إياه وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم فإن ظن أنه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئاً لا كافراً. وقال معاذ: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنهاك أن تشتم مسلماً أو تعصي إماماً عادلاً، والتعرض للأموات أشد قال مسروق دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: ما فعل فلان لعنه الله؟ قلت توفى قالت: رحمه الله، قلت: وكيف هذا؟ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقال عليه السلام "لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء وقال عليه السالم "أيها الناس احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم، أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيراً .
فإن قيل؛ فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله؟ أو الآمر بقتله لعنه الله؟ قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة، فإن وحشياً قاتل حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة ولا تنتهي إلى رتبة الكفر، فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر وليس في السكوت خطر فهو أولى.
وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها. والمؤمن ليس بلعان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين. فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامة.
قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه وابن عون ساكت فقالوا: يا ابن عون إنما تذكره لما ارتكب منك، فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: لا إله إلا الله ولعن الله فلاناً، فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله، أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلاناً. وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني فقال "أوصيك أن لا تكون لعاناً وقال ابن عمر: إن أبغض الناس إلى الله كل طعان ولعان. وقال بعضهم لعن المؤمن يعد قتله، وقال حماد بن زيد بعد أن روى هذا لو قلت إنه مرفوع لم أبال؟ وعن أبي قتادة قال: كان يقال "من لعن مؤمناً فهو مثل أن يقتله وقد نقل ذلك حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان مثلاً: لا صحح الله جسمه ولا سلمه الله وما يجري مجراه، فإن ذلك مذموم. وفي الخبر "إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم عنده فضلة يوم القيامة .


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يوليو 06, 2006 8:03 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
[align=center]الآفة التاسعة
الغناء والشعر
[/align]

وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده، وأما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح غلا أن التجرد له مذموم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً وعن مسروق أن سئل عن بيت من الشعرفكرهه فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن يوجد في صحيفتي شعر. وسئل بعضهم عن شيء من الشعر فقال: أجعل مكان هذا ذكراً فإن ذكر الله خير من الشعر وعلى الجملة فإنشاد الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن في كلام مستكره قال صلى الله عليه وسلم "إن من الشعر لحكمة نعم مقصود الشعر المدح والذم والتشبيب، وقد يدخله الكذب، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت الأنصاري بهجاء الكفار والتوسع في المدح فإنه وإن كان كذباً فإنه لا يلتحق في التحريم بالكذب كقول الشاعر:

[poet font="Andalus,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/9.gif" border="ridge,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق اللـه سـائلـه
[/poet]

فإن هذا عبارة عن الوصف بنهاية السخاء، فإن لم يكن صاحبه سخياً كان كاذباً، وإن كان سخياً فالمبالغة من صنعة الشعر فلا يقصد منه أن يعتقد صورته. وقد أنشدت أبيات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تتبعت لوجد فيها مثل ذلك فلم يمنع منه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله وكنت جالسة أغزل، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً قالت: فبهت فنظر إلي فقال "مالك بهت؟ فقلت: يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره قال "وما يقول يا عائشة أو كبير الهذلي" قلت: يقول هذين البيتين:

[poet font="Andalus,5,teal,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/8.gif" border="double,4,darkblue" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
ومبرأ من كل غبـر حـيضة وفساد مرضعة وداء مغـيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهـه برقت كبرق العارض المتهلل
[/poet]

قال فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان بيده وقام إلي وقبل ما بين عيني وقال "جزاك الله خيراً يا عائشة ما سررت مني كسروري منك ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين أمر للعباس بن مرداس بأربع قلائص فاندفع يشكو في شعر له وفي آخره:

[poet font="Andalus,4,teal,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/4.gif" border="groove,4,teal" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وما كان بدر ولا حابـس يسودان مردسا في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع
[/poet]

فقال صلى الله عليه وسلم "اقطعوا لسانه" فذهب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى اختار مائة من الإبل ثم رجع وهو من أرض الناس، فقال له صلى الله عليه وسلم "أتقول في الشعر؟" فجعل يعتذر إليه ويقول: بأبي أنت وأمي إني لأجد للشعر دبيباً على لساني كدبيب النمل ثم يقرصني كما يقرص النمل فلا أجد بداً من قول الشعر، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال "لا تدع العرب العشر حتى تدع الإبل الحنين

[align=center]الآفة العاشرة
المزاح[/align]


وأصله مذموم منهي عنه إلا قدراً يسيراً يستثنى منه قال صلى الله عليه وسلم "لا تمار أخاك ولا تمازحه فإن قلت: المماراة فيها إيذاء لأن فيها تكذيباً للأخ والصديق أو تجهيلاً له وأما المزاح فمطايبة وفيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه؟ فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه. أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة، وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار. فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن لأمزح ولا أقول إلا حقاً إلا أن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقاً، وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى في النار أبعد من الثريا وقال عمر رضي الله عنه: من كثير ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياءه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة قال صلى الله عليه وسلم "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً وقال رجل لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ قيل فما رؤي ضاحكاً حتى مات. وقال يوسف بن أسباط: أقام الحسن ثلاثين سنة لم يضحك. وقيل أقام عطاء السلمي أربعين سنة لم يضحك ونظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر فقال: إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين؟ وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين؟ وكان عبد الله بن أبي يعلى يقول: أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار؟ وقال ابن عباس: من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي. وقال محمد بن واسع: إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ألست تعجب من بكائه؟ قيل: بلى، قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه؟ فهذه آفة الضحك والمذموم منه أن يستغرق ضحكاً، والمحمود منه التبسم الذي ينكشف فيه السن ولا يسمع له صوت. وكذلك كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاسم مولى معاوية: أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قلوص له صعب فسلم فجعل كلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله يفر به فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون منه، ففعل ذلك مراراً ثم وقصه فقتله فقيل: يا رسول الله إن الأعرابي قد صرعه قلوصه وقد هلك، فقال "نعم، وأفواهكم ملأى من دمه وأما أداء المزاح إلى سقوط الوقار فقد قال عمر رضي الله عنه: من مزح استخف به. وقال محمد بن المنكدر: قالت لي أمي يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فيجترئ عليك. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال. وقال عمر رضي الله عنه: أتدرون لم سمي المزاح مزاحاً؟ قالوا لا، قال: لأنه أزاح صاحبه عن الحق. وقيل: لكل شيء بذور وبذور العداوة المزاح. ويقال: المزاح مسلبة للنهي مقطعة للأصدقاء.
فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً ولا تؤذي قلباً ولا تفرط فيه وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد، وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار، ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار، فلا ينبغي أن يغفل عن هذا نعم روى أبو هريرة أنهم قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا فقال "إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقاً وقال عطاء: إن رجلاً سأل ابن عباس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزج؟ فقال: نعم، قال: فما كان مزاحه؟ قال: كان مزاحه أنه صلى الله عليه وسلم كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوباً واسعاً فقال هلا "البسيه واحمدي وجري منه ذيلاً كذيل العروس وقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أفكه الناس مع نسائه وروي أنه كان كثير التبسم وعن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت فقال "إنك لست بعجوز يومئذ، قال الله تعالى "إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً" وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك، قال "ومن هو أهو الذي بعينه بياض؟" قالت: والله ما بعينه بياض! فقال "بل إن بعينه بياضاً" فقالت: لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم "ما من أحد إلا وبعينه بياض" وأراد به البياض المحيط بالحدقة وجاءت امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله احملني على بعيد فقال "بل نحملك على ابن البعير" فقالت ما أصنع به إنه لا يحملني فقال صلى الله عليه وسلم "ما من بعين إلا وهو ابن بعير فكان يمزح به وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم ويقول "يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور. وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فقال "تعالي حتى أسابقك، فشددت درعي على بطني ثم خططنا خطاً فقمنا عليه واستبقنا فسبقني وقال "هذه مكان ذي المجاز وذلك أنه جاء يوماً ونحن بذي المجاز وأنا جارية قد بعثني أبي بشيء فقال "أعطينيه" فأبيت وسعيت وسعى في أثري فلم يدركني وقالت أيضاً: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما حملت اللحم سابقني فسبقني، وقال "هذه بتلك وقالت أيضاً رضي الله عنها: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة وجئت به فقلت لسودة: كلي، فقالت لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً مه فلطخت به وجههاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً قبيحاً، فلما بايعه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء -وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب- أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت؟ فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤالها إياه لأنه كان دميماً . وروى علقمة عن أبي سلمة أنه كان صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن ابن علي عليهما السلام فيرى الصبي لسانه فيهش له فقال له عيينة بن بدر الفزاري: والله ليكونن لي الإبن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط! فقال صلى الله عليه وسلم "إن من لا يرحم لا يرحم فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان وكان ذلك منه صلى الله عليه وسلم معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل وقال صلى الله عليه وسلم مرة لصهيب وبه رمد وهو يأكل تمراً "أتأكل التمر وأنت رمد؟ فقال: إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله فتبسم صلى الله عليه وسلم قال بعض الرواة حتى نظرت إلى نواجذه. وروي أن خوات ابن جبير الأنصاري كان جالساً إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة فطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا عبد الله ما لك مع النسوة؟ فقال يفتلن ضفير الجمل لي شرود، قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم عاد فقال "يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟ قال: فسكت واستحييت وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته حياء منه، حتى قدمت المدينة وبعد ما قدمت المدينة قال: فرآني في المسجد يوماً أصلي فجلس إلي فطولت فقلا "لا تطول فإني أنتظرك" فلما سلمت قال يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟" قال: فسكت واستحييت، فقام وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار وقد جعل رجليه في شق واحد فقال "أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟" فقلت والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت فقال "الله أكبر الله أكبر اللهم اهد أبا عبد الله" قال: فحسن إسلامه وهداه الله وكان نعيمان الأنصاري رجلاً مزاحاً فكان يشرب الخمر في المدينة فيؤتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم، فلما كثر ذلك منه قال له رجل من الصحابة: لعنك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله" وكان لا يدخل المدينة رسل ولا طرفة إلا اشترى منها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا رسول الله هذا قد اشتريته لك وأهديته لك فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أعطه ثمن متاعه، فيقول له صلى الله عليه وسلم "أو لم تهده لنا" فيقول: يا رسول الله إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه، فيحضك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام والمواظبة علياه هزل مذموم وسبب للضحك المميت للقلب.

[align=center]الآفة الحادية عشر
السخرية والاستهزاء[/align]


وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن" ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه: وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة وفيه معنى الغيبة. قالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت إنساناً فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم "والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا وقال ابن عباس في قوله تعالى "يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك. وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر. وعن عبد الله بن زمعة أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فوعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال "علام يضحك أحدكم مما يفعل وقال صلى الله عليه وسلم "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب فيقال له هلم هلم فلا يأتيه وقال معاذ بن جبل: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير والضحك عليها استهانة به واستصغاراً له. وعليه قوله تعالى "عسى أن يكونوا خيراً منهم" أي لا تستحقره استصغاراً فلعله خير منك.
وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به، فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح -وقد سبق ما يذم منه وما يمدح- وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به لما فيه من التحقير والتهاون. وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة كالضحك على خطه وعلى صنعته، أو على صورته وخلقته إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب. فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.

[align=center]الآفة الثانية عشر
إفشاء السر[/align]


وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف والأصدقاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة وقال مطلقاً "الحديث بينكم أمانة وقال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك. ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثه فقال لأبيه: يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً وما أراه يطوى عنك ما بسطه إلى غيرك؟ قال: فلا تحدثني به فإن من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه قال: فقلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه؟ فقال: لا والله يا بني ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر، قال: فأتيت معاوية فأخبرته فقال: يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ فإفشاء السر خيانة.
وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن في إضرار. وقد ذكرنا ما يتعلق بكتمان السر في كتاب آداب الصحبة فأغنى عن الإعادة.


[align=center]الآفة الثالثة عشر
الوعد الكاذب[/align]


فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفاً وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" وقال صلى الله عليه وسلم العدة عطية وقال صلى الله عليه وسلم الوأي مثل الدين أو أفضل والوأي: الوعد. وقد أثنى الله تعالى على نبيه اسمعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال "إنه كان صادق الوعد" قيل إنه وعد إنساناً في موضع فلم يرجع إليه ذلك الإنسان بل نسي، فبقي اسمعيل اثنين وعشرين يوماً في انتظاره. ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال: إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وقد كان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق! أشهدكم أني قد زوجته ابنتي. وعن عبد الله بن أبي الخنساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال "يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك وقيل لإبراهيم: الرجل يواعد الرجل الميعاد فلا يجيء، قال: ينتظره إلى أن يدخل وقت الصلاة التي تجيء. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعداً قال "عسى وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول إن شاء الله وهو الأولى.
ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي فهذا هو النفاق. وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه فهو منافق،وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حاجزة فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وعد أبا الهيثم بن التهيان خادماً؛ فأتى بثلاثة من السبى فأعطى اثنين وبقي واحداً، فأتت فاطمة رضي الله عنها تطلب منه خادماً وتقول: ألا ترى أثر الرحى بيدي؟ فذكر موعده لأبي الهيثم فجعل يقول "كيف بموعدي لأبي الهيثم؟ فآخثره به على فاطمة -لما كان قد سبق من موعده له- مع أنها كانت تدير الرحى بيدها الضعيفة. ولقد كان صلى الله عليه وسلم جالساً يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعداً يا رسول الله قال "صدقت، فاحتكم ما شئت، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها، قال "هي لك" وقال "احتكمت يسيراً ولصاحبه موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك وأجزل حكماً منك حين حكمها موسى عليه السلام فقالت حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة، قيل فكان الناس يضعفون ما احتكم به حتى جعلا مثلاً فقيل: أشح من صاحب الثمانين والراعي. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس الخلف أن يعد الرجل الرجل وفي نيته أن يفي وفي لفظ آخر "إذا وعد لرجل أخاه وفي نيته أن يفي فلم يجد، فلا إثم عليه".


[align=center]الآفة الرابعة عشرة
الكذب في القول واليمين[/align]


وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. قال اسمعيل بن واسط: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول -ثم بكى وقال "إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار وقال أبو أمامة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الكذب باب من أبواب النفاق وقال الحسن: كان يقال إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وإن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب. وقال عليه السلام "كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب وقال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين يتبايعان شاة ويتحالفان، يقول أحدهما: والله لا أنقصك من كذا وكذا. ويقول الآخر: والله لا أزيدك على كذا وكذا، بالشاة وقد اشتراها أحدهما فقال "أوجب أحدهما بالإثم والكفارة وقال عليه السلام "الكذب ينقص الرزق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن التجار هم الفجار" فقيل يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال "نعم ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاثة نفر لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: المنان بعطيته والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره وقال صلى الله عليه وسلم "ما حلف حالف بالله أدخل فيما مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة وقال أبو ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة يحبهم الله: رجل كان في فئة فنصب نحره حتى يقتل أو يفتح الله عليه وعلى أصحابه، ورجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن، ورجل كان معه قوم في سفر أو سرية فأطالوا السرى حتى أعجبهم أن يمسوا الأرض فنزلوا. فتنحى يصلى حتى يوقظ أصحابه للرحيل. وثلاثة يشنؤهم الله: التاجر أو البياع الحلاف، والفقير المختال والبخل المنان وقال صلى الله عليه وسلم "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القول ويل له ويل له وقال صلى الله عليه وسلم "رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي قم فقمت معه، فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله، ثم يجذبه فليقمه الجانب الآخر فيمده فإذا مده رجع الآخر كما كان، فقلت للذي أقامني ما هذا؟ فقال: هذا رجل كذاب يعذب في قبره إلى يوم القيامة وعن عبد الله بن جراد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هل يزني المؤمن؟ قال "قد يكون ذلك" قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن؟ قال "لا" ثم أتبعها صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" وقال أبو سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول في دعائه "اللهم طهر قلبي من النفاق وفرجي من الزنا ولساني من الكذب وقال صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر وقال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغيرة فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالى حتى أعطيك فقال صلى الله عليه وسلم "وما أردت أن تعطيه" قالت تمراً، فقال "أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة وقال صلى الله عليه وسلم "لو أفاء الله على نعماً عدد هذا الحصى لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً : وقال صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ثم قعد وقال "إلا وقول الزور وقال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد ليكذب الكذبة ليتباعد الملك عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به وقال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم "تقبلوا إلي بست أتقبل لكم بالجنة" فقالوا وما هن؟ قال "إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم وقال صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان كحلاً ولعوقاً ونشوقاً: أما لعوقه فالكذب، وأما نشوقه فالغضب، وأما كحله فالنوم وخطب عمر رضي الله عنه يوماً فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي هذا فيكم فقال "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين ولم يستحلف ويشهد ولم يستشهد وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وقال صلى الله عليه وسلم "من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه رد شهادة رجل في كذبة كذبها وقال صلى الله عليه وسلم "كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب وقالت عائشة رضي الله عنها: ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها . وقال موسى عليه السلام: يا رب أي عبادك خير لك عملاً؟ قال من لا يكذب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه. وقال لقمان لابنه: يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلهم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه. وقال عليه السلام في مدح الصدق "أربع إذا كن فيك لا يضرك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث وحفظ الأمانة وحسن خلق وعفة طعمة وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقامي هذا عام أول -ثم بكى- وقال "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وقال معاذ: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبذل السلام وخفض الجناح .
وأما الآثار: فقد قال علي رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري. وقال عمر رضي الله عنه: أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسماً فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقاً فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة. وعن ميمون بن أبي شبيب قال جلست أكتب كتاباً فأتيت على حرف إن أنا كتبته زينت الكتاب وكنت قد كذبت فعزمت على تركه فنوديت من جانب البيت "يثب الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" وقال الشعبي: ما أدري أيهما أبعد غور في النار الكذاب أو البخيل؟ وقال ابن السماك: ما أراني أوجر على ترك الكذب لأني إنما أدعه أنفه. وقيل الخالد بن صبيح: أيسمى الرجل كاذباً بكذبة واحدة؟ قال: نعم وقال مالك بن دينار: قرأت بعض الكتب ما من خطيب إلا وتعرض خطبته على عمله فإن كان صادقاً صدق وإن كان كاذباً قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا. وقال مالك بن دينار: الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه وكلم عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له: كذبت، فقال عمر: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.



[align=center]بيان ما رخص فيه من الكذب[/align]

اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل فيكون مأذوناً فيه، وربما كان واجباً.
قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل داراً فانتهى إليك فقال: أرأيت فلاناً؟ ما كنت قائلاً؟ ألست تقول: لم أره؟ وما تصدق به. وهذا الكذب واجب.
فنقول: الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما أن عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب. ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أن استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فبكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة.
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها وقالت أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس بكذاب من اصلح بين اثنين فقال خيراً أو نمى خيراً وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين مسلمين ليصح بينهما وروي عن أبي كامل قال: وقع بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلام حتى تصارما فلقيت أحدهما فقلت: ما لك ولفلان فقد سمعته يحسن عليك الثناء؟ ثم لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا، ثم قلت: أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين! فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يا أبا كاهل أصلح بين الناس أي ولو بالكذب. وقال عطاء بن يسار: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أكذب على أهلي؟ قال "لا خير في الكذب" قال: أعدها وأقول لها، قال "لا جناح عليك .
وروي أن ابن أبي عذرة الدؤلي وكان في خلافة عمر رضي الله عنه كان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن فطارت له في الناس من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضيني؟ قالت: لا تنشدني، قال: فإني أنشدك الله، قالت: نعم، فقال لابن الأرقم: أتسمع؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون إني أظلم النساء وأخلعهن فأسأل ابن الأرقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة بن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ فقالت: إني أول من تاب وراجع أمر الله تعالى إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي بيني على الحب ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب.
وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار؟ كل الكذب يكتب على ابن آدم لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب، فإن الحرب خدعة، أو يكون بين الرجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها وقال ثوبان الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلماً أو دفع عنه ضرراً. وقال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عني النبي صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خدعة.
فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره. أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت. وقال صلى الله عليه وسلم "من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً وعرضه بلسانه وإن كان كاذباً.
وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحد أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييباً لقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به. ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور. فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة. فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرر به؛ وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم، ثم هو لزيادات المال والجاه ولأمور ليس فواتها محذوراً، حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات، وذلك حرام. وقالت أسماء سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل أضارها بذلك فهل على شيء فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وقال صلى الله عليه وسلم "من تطعم بما لا يطعم أو قال لي وليس له أو أعطيت ولم يعط فهو كلابس ثوبي زور يوم القيامة ويدخل في هذا فنوى العالم بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يتثبته إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه، فهو لذلك يستنكف من أن يقول: لا أدري، وهذا حرم، ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد أو عيد أو تخويف كاذب كان ذلك مباحاً. نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذباً، ولكن الكذب المباح أيضاً قد يكتب ويحاسب عليه ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ويتطرق إليه غرور كبير، فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه وإنما يتعلل ظاهراً بالإصلاح فلهذا يكتب. وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا؟ وذلك غامض جداً والحزم تركه إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان.
وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي، وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطأ محض، إذ قال صلى الله عليه وسلم "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وهذا لا يرتكب إلا لضرورة ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها. وقول القائل: إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه، وما هو جديد فوقعه أعظم، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلى. والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء. نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين.


[align=center]بيان الحذر من الكذب بالمعاريض[/align]


قد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال عمر رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي الرجال عن الكذب؟ وروى ذلك عن ابن عباس وغيره. وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعويض ولا التصريح جميعاً، ولكن التعويض أهون. ومثال التعويض ما روى أن مطرفاً دخل على زياد فاستيطأه فتعلل بمرض وقال: ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله. وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيكون قوله "ما" حرف نفي عند المستمع، وعنده الإبهام. وكان معاذ بن جبل عاملاً لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم؟ وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط، قالت: كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر رضي الله عنه. فبعث عمر معك ضاغطاً؟ وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر، فلما بلغه ذلك دعا معاذاً وقال: بعثت معك ضاغطاً؟ قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً فقال. أرضها به -ومعنى قوله ضاغطاً يعني رقيباً وأراد به الله تعالى- وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكراً بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكراً؟ فإنه ربما لا يتفق له ذلك. وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذباً. وكان الشعبي إذا طلب في المنزل هو يكرهه خط دائرة وقال للجارية: ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما في غير موضع الحاجة فلا، لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذباً فهو مكروه على الجملة كما روى عبد الله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فخرجت وعلى ثوب، فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين؟ فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي يا بني اتق الكذب وما أشبهه، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريراً لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة فيه.
نعم المعاريض تباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقوله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة عجوز وقوله للأخرى "الذي في عين زوجك بياض" وللأخرى "نحملك على ولد البعير" وما أشبهه. وأما الكذب الصريح كما فعله النعمان الأنصاري مع عثمان في قصة الضرير إذ قال له إنه نعيمان، وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك، فإن كان فيه ضرر يؤدي إلى إيذاء قلب فهو حرام، وإن لم يكن إلا لمطايبته فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه. قال صلى الله عليه وسلم "لا يكمل للمرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وحتى يجتنب الكذب في مزاحه وأما قوله عليه السلام "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها الناس يهوى بها في النار أبعد من الثريا أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.
ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله طلبت كذا وكذا مرة وقلت لك كذا مائة مرة، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذباً، وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب. ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال: كل الطعام، فيقول: لا أشتهيه؛ وذلك منهي عنه وهو حرام، وإن لم يكن فيه غرض صحيح قال مجاهد: قالت أسماء بنت عميس، كنت صاحبة عائشة في الليلة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن. فشرب ثم ناوله عائشة، قالت: فاستحيت الجارية فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خذي منه، قالت: فأخذت منه على حياء فشربت منه ثم قال "ناولي صواحبك" فقلت: لا نشتهيه، فقال "لا تجمعن جوعاً وكذباً" قالت: فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذباً؟ قال "إن الكذب ليكتب كذباً، حتى تكتب الكذيبة كذيبة وقد كان أهل الورع يحترزون عن لتسامح بمثل هذا الكذب.
قال الليث بن سعد: كانت عينا سعد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، فيقال له: لو مسحت عينيك؟ فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل؟ وهذه مراقبة أهل الورع. ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر. وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع وقال: أرضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت، يا ابن أخي فصدقت؟ ومن العادة أن يقول: يعلم الله، فيما لا يعمله. قال عيسى عليه السلام: إن من عظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم، لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام، والإثم فيه عظيم إذ قال عليه السلام "إن من أعظم الفرية أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم ير أو يقول على ما لم أقل وقال عليه السلام "من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبداً .


[align=center]الآفة الخامسة عشرة
الغيبة[/align]


والنظر فيها طويل فلنذكر أولاً مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع، وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال تعالى "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه" وقال عليه السلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والغيبة تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم، وقال أبو برزة: قال عليه السلام "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً وعن جابر وأبي سعيد قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله سبحانه عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مررت ليلة سرى بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم وقال سليم بن جابر: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت علمني خيراً أنتفع به، فقال "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقى، وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإن أدبر فلا تغتابه وقال البراء: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته وقيل أوحي الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار. وقال أنس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بصوم يوم فقال "لا يفطرن أحد حتى آذن له" فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فائذن لي لأفطر فيأذن له، والرجل والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما يستحيان أن يأتياك فائذن لهما أن يفطرا! فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فقال "إنهما لم يصوما وكيف يوم من ظل نهاره يأكل لحم الناس؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستيئا" فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا، فقاءت كل واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: والذي نفسي بيده لو بقيتا في بوطنهما لأكلتهما النار وفي رواية: أنه لما أعرض عنه جاء بعد ذلك وقال يا رسول الله والله إنهما قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، فقال صلى الله عليه وسلم "ائتوني بهما" فجاءتا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فقال لإحداهما "قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح، وقال للأخرى "قيئي" فقاءت كذلك، فقال "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس وقال أنس: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الربا وعظم شأنه فقال "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثة زنية يزنيها الرجل وأربى الربا عرض المسلم وقال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله" فدعا بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر وقال "أما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين -أو ما لم ييبسا- . ولما رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً في الزنا قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب، فمر صلى الله عليه وسلم وهما معه بجيفة فقال "انهشا منها" فقالا: لا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال "ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه وكان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر ولا يغتابون عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال ويرون خلافه عادة المنافقين. وقال أبو هريرة: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة وقيل له كل ميتاً كما أكلته حياً، فيأكله فينضج ويكلح وروي مرفوعاً كذلك. وروي أن رجلين كانا قاعدين عند باب من أبواب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثاً فترك ذلك. فقالا: لقد بقي فيه منه شيء وأقيمت الصلاة فدخلا فصليا مع الناس، فحاك في أنفسهما ما قالا فأتيا عطاء فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وأمرهما أن يقضيا الصيام إن كانا صائمين. وعن مجاهد أنه قال في "ويل لكل همزة لمزة" الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. وقال قيادة: ذكر لنا عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول. وقال الحسن: والله للغيبة أسره في دين الرجل المؤمن من الأكله في الجسد. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. وقال ابن عباس: إذا أردت ان تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وكان الحسن يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تغيب في الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك الغيب فتصلحه من، فإذا فعلت ذلك كان شعلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وقال مالك بن دينار: مر عيسى عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أشد بياض أسنانه! كأنه رضي الله عنهما رجلاً يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء. نسأل الله حسن التوفيق وطاعته.

[align=center]بيان معنى الغيبة وحدودها[/align]

اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في حلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته.
أما البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان. وأما النسب: فبأن تقول أبوه نبطي أو هندي أو فاسق أو خسيس أو إسكاف أو زبال، أو شيء مما يكرهه كيفما كان. وأما الخلق: فبأن تقول هو سيئ الخلق بخيل متكبر مراء شديد الغضب جبال عاجز ضعيف القلب متهور وما يجري مجراه. وأما أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصلاة أو الزكاة أو لا يحسن الركوع أو السجود أو لا يحترز من النجاسات أو ليس باراً بوالديه أو لا يضع الزكاة موضعها أو لا يحسن قسمها أو لا يحرص صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقاً أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو أنه كثير الكلام كثير الأكل نئوم ينام في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه. وأما في ثوبه فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب.
وقال قوم: لا غيبة في الدين لأنه ما ذمه الله تعالى فذكره بالمعاصي وذمه بها يجوز، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال "هي في النار وذكرت عنده امرأة أخرى بأنها بخيلة فقال "فما خيرهم إذن فهذا فاسد لأنهم كانوا يذكرون ذلك لحاجتهم إلى تعرف الأحكام بالسؤال، ولم يكن غرضهم التنقيص ولا يحتاج إليه في غير مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. والدليل عليه إجماع الأمة على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب لأنه دخل فيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد الغيبة.
وكل هذا وإن كان صادقاً فيه فهو به مغتاب عاص لربه وآكل لحم أخيه، بدليل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال "ذكرك أخاك بما يكرهه" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقوله؟ قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وقال معاذ بن جبل: ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما أعجزه! فقال صلى الله عليه وسلم "اغتبتم أخاكم" قالوا يا رسول الله قلنا ما فيه، قال "إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه وعن حذيفة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنها قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم "اغتبتيها وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة الغيبة والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل؛ فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك وذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود، ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته. وذكر ابن سيرين غبراهيم النخعي فوضع يده على عينه ولم يقل الأعور. وقالت عائشة لا يغتابن أحدكم أحداً فإن قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه لطويلة الذيل فقال لي "الفظى الفظى" فلفظت مضغة لحم .


[align=center]بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان[/align]

اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة فما ولت أومأت بيدي أنها قصير فقال عليه السلام "اغتبتيها ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة حاكت امرأة قال "ما يسرني أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا . وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين. وذكر المصنف شخصاً معيناً وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره -كما سيأتي بيانه- وأما قوله: قال قوم كذا: فليس ذلك غيبة، وإنما الغيبة التعرض لشخص معين إما حي وإما ميت. ومن الغيبة أن تقول: بعض من مر بنا اليوم، أو بعض من رأيناه؛ إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيناً؛ لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم فأما إذا لم يفهم عينه جاز. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كره من إنسان شيئاً قال "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فكان لا يعين. وقولك: بعض من قدم من السفر، أو بعض من يدعي العلم، إن كان معه قرينة تفهم عين الشخص فهي غيبة.
وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود، ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الغيبة والرياء، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء نسأل الله أن يعصمنا منها، وإنما قصده أن يفهم عيب الغي رفيذكره بصيغة الدعاء، وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان: ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلي به كلنا وهو قلة الصبر. فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه، فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة. ولذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم فإنه يتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم. ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا! حتى يصغي إليه ويعلم ما يقول، فيذكر الله تعالى ويستعمل الاسم آلة في تحقيق خبثه، وهو يمثن على الله عز وجل بذكره جهلاً منه وغروراً "وكذلك يقول: ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به نسأل الله أن يروح نفسه، فيكون كاذباً في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته عقيب صلاته، ولو كان يغتم به لاغتم أيضاً بإظهار ما يكرهه. وكذلك يقول: ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه، فهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما تعرض له الجهال إذا جاهروا.
ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما تظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك! ما عرفته إلى الآن إلى بالخير: وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله من بلائه، فإن كل ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة بل الساكت شريك المغتاب. قال صلى الله عليه وسلم "المستمع أحد المغتابين وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: إن فلاناً لنئوم ثم إنهما طلبا أدماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكلا به الخبز فقال صلى الله عليه وسلم "قد ائتدمتما!" فقالا: ما نعلمه؟ قال "بلى إنكما أكلتما من لحم أخيكما فانظر كيف جمعهما وكان القائل أحدهما والآخر مستمعاً. وقال للرجلين اللذين قال أحدهما. أقعص الرجل كما يقعص الكلب "انهشا من هذا الجيفة فجمع بينهما فالمستع لا يخرج من إثم الغيبة غلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه، وإن قال بلسانه اسكت، وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق، ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه، ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد أي اسكت، أو يشير بحاجبه وجبينه، فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يعظم ذلك فيذب عنه صريحاً وقال صلى الله عليه وسلم من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة وقال أيضاً "من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار وقد ورد في نصرة المسلم في الغيبة وفي فضل ذلك أخبار كثيرة أوردناها في كتاب آداب الصحبة وحقوق المسلمين فلا نطول بإعادتها.


[align=center]بيان الأسباب الباعثة على الغيبة[/align]

اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ولكن يجمعها أحد عشر سبباً: ثمانية منها تطرد في حق العامة، وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة.
أما الثمانية؛ فالأول أن يشفى الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفى بذكر مساوية فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع، وقد يمتنع الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.
الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معه في ذكر العيوب والمساوي.
الثالث: أن يستشعر من إنسان أن سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.
الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.
الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف: وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.
السادس: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له، وهذا هو عين الحسد وهو غير الغضب والحقد، فإن ذلك يستدعي جناية من المغضوب عليه، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق.
السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب.
الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به.
وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها، لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير ولكن شباب الشيطان بها الشر.
الأول: أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول ما أعجب ما رأيت من فلا! فإنه قد يكون به صادقاً ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشطيان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلا كيف يحب جاريته وهي قبيحة؟ وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل؟.
الثاني: الرحمة وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقاً في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصيره به مغتاباً فيكون غمه ورحمته خيراً، وكذا تعجبه ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.
الثالث: الغضب لله تعالى فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يظهره على غيره، أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلاً عن العوام، فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذراً في ذكر الاسم وهو خطأ، بل المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم -كما سيأتي ذكره- روي عن عامر بن وائلة: أن رجلاً مر على قوم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت والله لننبئنه، ثم قالوا: يا فلان لرجل منهم -قم فأدركه وأخبره بما قال فأدركه رسولهم فأخبره فأتى الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى له ما قال وسأله أن يدعو له، فدعاه وسأله فقال: قد قلت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "لم تبغضه؟" فقال: أنا جاره وأنا به خابرن والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها؟ فسأله فقال لا، فقال: واللهما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً؟ فسأله عنه فقال: لا، فقال: والله ما رأيته يعطي سائلاً ولا مسكيناً قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم للرجل "قم فلعله خير منك .


[align=center]بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة[/align]

اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فلنفحص عن سببها. وعلاج كف اللسان عن الغيبة على وجهين: أحدهما على الجملة، والآخر على التفصيل: أما على الجملة: فهو أن يعلم تعرض لسخط الله تعالى بغيبته بهذه الأخبار التي رويناها وأن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة، فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرض، فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه، وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل ومشبه عنده بآكل الميتة، بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان ويدخل بها النار "وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب. قال صلى الله عليه وسلم "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد وروي أن رجلاً قال للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي. فهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك، وينفعه أيضاً أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه، وهذا إن كان عيباً يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمراً خلقياً فالذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها. قال رجل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه. وإذا لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب، بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب، وينفعه أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبه غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه. فهذه معالجات جملية.
أما التفصيل فهو أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد قدمنا الأسباب.
أما الغضب فيعالجه بما سيأتي في كتاب آفات الغضب وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن لجهنم باباً لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله وقال صلى الله عليه وسلم "من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه وقال صلى الله عليه وسلم "من كظم غظياً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء وفي بعض الكتب المنزلة على بعض النبيين: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق.
وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلب سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقر عيرك وتحقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلا أن يكون غضبك لله تعالى؟ وذلك لا يوجب أن نذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً على رفقائك إذا ذكروه بالسوء، فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهي الغيبة.
وأما تنزيه النف بنسبة الغير إلى الخيانة حيث يستغنى عن ذكر الغير، فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله يقيناً ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا! فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم وتهلك بالآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة ويحصل لك ذم الله تعالى نقداً وتنتظر دفع ذم الخلق نسيئة وهذا غاية الجهل والخذلان.
وأما عذرك كقولك إن أكلت الحرام ففلان يأكله وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته لسفه عقلك. ففيما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردى نفسها من قلة الجبل فهي أيضاً تردى نفسها، ولو كان لها لسان ناطق بالعذر وصرخت بالعذر وقالت: العنز أكيس مني وقد أهلكت نفسها فكذلك أنا أفعل، لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها ثم لا تعجب ولا تضحك من نفسك.
وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته به أبطلت فضلك عند الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوقين وهما، ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.
وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا وكنت في الدنيا معذباً بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة، فكنت خاسراً نفسك في الدنيا فصرت أيضاً خاسراً في الآخرة لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك وأهديت إليه حسناتك. فإذا أنت صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك، وتنفعه إذ تنقل إليه حسناتك أو تنقل إليك سيئاته ولا تنفعك وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة. وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك كما قيل:


[poet font="Andalus,4,sienna,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/10.gif" border="groove,4,gray" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
وإذا أراد الله نشر فضيلـه طويت أتاح لها لسان حسود
[/poet]

وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام، فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلتك وخزيك يوم القيامة يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك! ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منك، فإنك سخرت به عند نفر قليل وعرضت نفسك لأن يأخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار، مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله تعالى إياه عليك وتسلطه على الانتقام منك.
وأما الرحمة له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس فأضلك، واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك، فيكون جبر الإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحومماً، وتنقلب أنت مستحقاً لأن تكون مرحوماً، إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك، وكذلك الغضب لله تعالى لا يوجد الغيبة، وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لمقت الله عز وجل بالغيبة.
وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة فتعجب من نفسك أنت؟ كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك أو بدنياه وأنت مع ذلك لا تأمن من عقوبة الدنيا! وهو أن يهتك الله سترك كما هتكت بالتعجب ستر أخيك. فإذن علاج جميع ذلك المعرفة فقط والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف لسانه عن الغيبة لا محالة.


[align=center]بيان تحريم الغيبة بالقلب[/align]

اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك تسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكه على غيره بالسوء. فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضاً معفو عنه، ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب. فقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" فلا يجوز تصديق إبليس، وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد واحتمل خلافه لم يجز أن تصدق به، لأن الفاسق يتصور أن بصدق في خيره ولكن لا يجوز لك أن تصدق به، حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر لا يجوز أن يحد، إذ يقال يمكن أن يكون قد تمضمض بالخمر ومجها وما شربها، أو حمل عليه قهراً، فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة فلا يجوز تصديقها بالقلب وإساءة الظن بالمسلم بها، وقد قال صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة، فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر.
فإن قلت: فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث؟ فتقول: أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفوراً ما، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتنام بسببه؛ فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم "ثلاث في المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل ولا في القلب ولا في الجوارح. أما في القلب: فبتغيره إلى النفرة والكراهة. وأما في الجوارح: فبالعمل بموجبه. والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته.
وأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذرواً، لأنك لو كذبته لكنت جانياً على هذا العدل إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضاً من سوء الظن، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيء بالآخر. نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت فتتطرق التهمة بسببه؟ فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد للتهمة ورد شهادة العدو فلك عند ذلك أن تتوقف، وإن كان عدلاً فلا تصدقه ولا تكذبه، ولكن تقول في نفسك: المذكور حاله كان عندي في ستر الله تعالى، وكان أمره محجوباً عني وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره، وقد يكون الرجل ظاهره العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور، ولكن قد يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم، فهذا قد يظن أنه عدل وليس بعدل، فإن المغتاب فاسق، وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق.
ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة. ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستحقار وتترفع عليه، بإيذاء الواعظ. وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين، كما تحزن على نفسك إذا دخل عليلا نقصان في دينك: وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة. فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.
ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضاً منهي عنه، قال الله تعالى "ولا تجسسوا" فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة. ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلا الإطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستوراً عنه كان أسلم لقلبه ودينه. وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته.


[align=center]بيان الأعذار المرخصة في الغيبة[/align]

[b]اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور: الأول: التظلم فإن من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً إن لم يكن مظلوماً. أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال صلى الله عليه وسلم "إن لصاحب الحق مقالاً وقال عليه السلام "مطل الغنى ظلم وقال عليه السلام "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه .
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح، كما روي أن عمر رضي الله عنه مر على عثمان -وقيل على طلحة- رضي الله عنه فسلم عليه فلم يرد السلام. فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك، فجاء أبو بكر إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم. وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا جندل قا عاقر الخمر بالشام كتب إليه "بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" الآية فتاب، ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره، وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.
الثالث: الاستفتاء كما يقول المفتي؛ ظلمتي أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريق في الخلاص؟ والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته؟ ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها صلى الله عليه وسلم إذ كان قصدها الاستفتاء.
الرابع: تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره، وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق، وكذلك من اشترى مملوكاً وقد عرفت المملوك بالسرقة أو بالفسق أو بعيب آخر فلك أن تذكر ذلك، فإن سكوتك ضرر المشترى وفي ذكرك ضرر العبد، والمشترى أولى بمراعاة جانبه. وكذلك المزكي إذا سئل عن الشاهد فله الطعن فيه إن علم مطعناً، وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة: فإن علم أن يترك التزويج بمجرد قوله: لا تصلح لك، فهو الواجب وفيه الكفاية وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به، إذ قال رسول

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 09, 2006 7:35 am 
غير متصل

اشترك في: السبت فبراير 21, 2004 10:56 pm
مشاركات: 1245
مكان: يا رب مع الحبيب و آله صلى الله عليه و آله وصحبه وسلم
إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس وكانوا يقولون ثلاثة لا غيبة لهم: الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه
الخامس: أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول روى أبو الزناد عن الأعرج، وسلمان عن الأعمش، وما يجري مجراه فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به. نعم إن وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى، ولذلك يقال للأعمى: البصير، عدولاً عن اسم النقص.
السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف. من أن يذكر له ولا يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له وقال عمر رضي الله عنه ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر لا بد من مراعاة حرمته. وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق المعلن بفجوره ذكرى له بما فيه غيبة له؟ قال: لا ولا كرامة. وقال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم؛ صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر فهؤلاء الثلاثة بجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره؟ نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به إثم. وقال عوف: دخلت على ابن سيرين فتناولت عنده الحجاج فقال: إن الله حكم عدل، ينتقم للحجاج ممن اغتابه من الحجاج لمن ظلمه، وإنك إذا لقيت الله تعالى غداً كان أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج.


[align=center]بيان كفارة الغيبة[/align]

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته! وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله؟ إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارف معصية أخرى وقال الحسن. يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. وربما استدل في ذلك بما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال مجاهد كفارة أكلك لحم أخيك: أن تثني عليه وتدعو له بخير. وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له؛ كذبت فيما قلت وظلمتك وأسأت فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح، وقول القائل: العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به. بل في الحديث الصحيح ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: قد اغتبتيها فاستحليها. فإذن لا بد من الاستحلال إن قدر عليه، فإن كان غائباً أو ميتاً فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات.
فإن قلت: فالتحليل هل يجب؟ فأقول: لا، لأنه تبرع والتبرع فضل، وليس بواجب ولكنه مستحسن وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة.
وكان بعض السلف لا يحلل. قال سعيد بن المسيب: لا أحلل من ظلمني. وقال ابن سيرين: إني لم أحرمها عليه فأحللها له عن الله حرم الغيبة عليه وما كنت لأحلل ما حرم الله أبداً.
فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يستحلها وتحليل ما حرمه الله تعالى غير ممكن؟ فنقول: المراد به العفو عن المظلمة لا أن ينقلب الحرام حلالاً، وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة.
فإن قلت: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "أيعجز أحدكم أن يكون كابي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس فكيف يتصدق بالعرض ومن تصدق به فهل يباح تناوله فإن كان لا تنفيذ صدقته فما معنى الحث عليه؟ فنقول: معناه أني لا أطلب مظلمة في القيامة منه ولا أخاصمه، وإلا فلا تصير الغيبة حلالاً به ولا تسقط المظلمة عنه، لأنه عفو قبل الوجوب إلا أنه وعد، وله العزم على الوفاء بأن لا يخاصم، فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق أن له ذلك. بل صرح الفقهاء أن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف، ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا، وعلى الجملة فالعفو أفضل.
قال الحسن إذا جثت الأمم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة نودوا ليقم من كان له أجر على الله فلا يقوم إلا العافون عن الناس في الدنيا. وقد قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يا جبريل ما هذا العفو؟، قال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك . وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتباك فبعث إليه رطباً على طبق وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام.


[align=center]الآفة السادسة عشرة
النميمة[/align]


قال الله تعالى "هماز مشاء بنميم" ثم قال "عتل بعد ذلك زنيم" قال عبد الله بن المبارك: الزنيم ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث، وأشار به إلى أن كل من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة دل على أنه ولد زنا استنباطاً من قوله عز وجل "عتل بعد ذلك زنيم" والزنيم هو الدعى وقال تعالى "ويل لكل همزة لمزة" قيل الهمزة: النمام، وقال تعالى "حمالة الحطب" قيل إنها كانت نمامة حمالة للحديث وقال تعالى "فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً" قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان وامرأة نوح تخبر أنه مجنون وقد قال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة نمام وفي حديث آخر "لا يدخل الجنة قتات" والقتات هو النمام وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبرءاء العثرات وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بشراركم" قالوا: بلى، قال "المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرءاء العيب وقال أبو ذر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة وقال أبو الدرداء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار ويقال: إن ثلث عذاب القبر من النميمة. وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لما خلق الجنة قال لها تكلمي فقالت سعد من دخلني فقال الجبار جل جلاله وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس، لا يسكنك مدمن خمر ولا مصر على الزنا ولا قتات وهو النمام ولا ديوث ولا شرطي ولا مخنث ولا قاطع رحم ولا الذي يقول على عهد الله إن لم أفعل كذا وكذا لم يف به وروى كعب الأحبار أن بني إسرائيل أصابهم قحط فاستسقى موسى عليه السلام مرات فما سقوا فأوحى الله تعالى إليه: إني لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: يا رب من هو؟ دلني عليه حتى أخرجه من بيننا. قال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً، فتابوا جميعاً فسقوا. ويقال اتبع رجل حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات فلما قدم عليه قال: إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم أخبرني عن السماء وما أثقل منها؟ وعن الأرض وما أوسع منها؟ وعن الصخر وما أقسى منه؟ وعن النار وما أحر منها؟ وعن الزمهرير وما أبرد منه؟ وعن البحر وما أغنى منه؟ وعن اليتيم وما أذل منه؟ فقال له الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السموات، والحق أوسع من الأرض، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحر من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمام إذا بان أمره أذل من اليتيم.

[align=center]بيان حد النميمة وما يجب في ردها[/align]

اعلم أن اسم النميمية إنما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وليست النميمة مختصة به. بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث. وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، فأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره هو نميمة وإفشاء للسر، فإن كان ما ينم به نقصاً وعيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة. فالباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له، أو التفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل.
وكل من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل في حقك كذا أو هو يدبر في إفساد أمرك أو في ممالأة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور، الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الشهادة قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله قال الله تعالى "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر" الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. والرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتحقق، اتباعاً لقول الله تعالى "ولا تجسسوا" السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماماً ومغتاباً وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية "هماز مشاء بنميم" وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً. وذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له الحكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيت بثلاث جنايات، بغضت أخي إلي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة. وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت؟ فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.
وقال الحسن من نم إليك نم عليك. وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض؟ وقال تعالى "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" والنمام منهم. وقال صلى الله عليه وسلم "إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره والنمام منهم. وقال "لا يدخل الجنة قاطع" قيل وما القاطع؟ قال "قاطع بين الناس وهو النمام وقيل قاطع الرحم.
وروي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له: يا هذا نحن نسأل عما قلت فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين. وقيل لمحمد بن كعب القرظي أي خصال المؤمن أوضع له؟ فقال: كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد. وقال رجل لعبد الله ابن عامر -وكان أميراً- بلغني أن فلاناً أعلم الأمير أني ذكرته بسوء، قال: قد كان ذلك، قال: فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك؟ قال: ما أحب أن أشتم نفسي بلساني وحسبي أني لم أصدقه فيما قال ولا أقطع عنك الوصال.
وذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من كل طائفة من الناس إلا منهم؟ وقال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فلو كان صادقاً في قوله لكان لئيماً في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة. والسعاية هي النميمة إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية وقد قال صلى الله عليه وسلم "الساعي بالناس إلى الناس لغيرة رشدة يعني ليس بولد حلال. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذنه في الكلام وقال: إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ولا تصح إليهم فيما استحفظك الله إياه فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً وفي الأمانة تضييعاً والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة وأنت مسؤول عما أجرموا وليسوا المسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره. وسعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك فجمع بينهما للموافقة فأقبل زيادة على الرجل وقال:


[poet font="Tahoma,4,darkred,bold,italic" bkcolor="transparent" bkimage="backgrounds/9.gif" border="double,4,green" type=0 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
فأنت امرؤ إما ائتمنتك خالـياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة بين الخـيانة والإثـم
[/poet]

وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعمله أن الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يجمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها افضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق يا ملعون العيب فإن الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله. وقال لقمان لابنه: يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيداً ابسط خلقك للقريب والبعيد. وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك. وقال بعضهم: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل. وقال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك لكان المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك.
وعلى الجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى. قال حماد بن سلمة: باع رجل عبداً وقال للمشتري؛ ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً ثم قال زوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي المؤسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك، فتناوم لهام حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأى بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها. فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين. فنسأل الله حسن التوفيق.


[align=center]الآفة السابعة عشرة
كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين
ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه، وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين وذلك عين النفاق.[/align]


قال عمار بن ياسر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث وفي لفظ آخر "الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" وقال أبو هريرة: لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً عند الله. وقال مالك بن دينار: قرأت في التوارة بطلب الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين يهلك الله تعالى يوم القيامة كل شفتين مختلفتين. وقال صلى الله عليه وسلم "أبغض خليقة الله إلى الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم فإذا لقوهم تملقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بكاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً وقال ابن مسعود: لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال الذي يجري مع كل ريح. واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق، وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها.
وقد روي أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مات فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر: يموت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تصل عليه؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنهم منهم، فقال: نشدتك الله أنا منهم أم لا؟ قال: اللهم لا ولا أؤمن منها أحداً بعدك.
فإن قلت: بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك؟ فأقول: إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقاً فيه لم يكن منافقاً ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء -كما ذكرنا في كتاب آداب الصحبة والأخوة- نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة، إذ يصير نماماً بأن ينقل من أحد الجانبين فقط فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام، وإن لم ينقل كلاماً ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، وكذلك إذا أثنى على واحد منهما في معاداته. وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين. بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين. ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه.
قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره فقال: كنا نعد هذا نفاقاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا نفاق مهما كان مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه، فلو استغنى عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه فدخل لضرورة الجاه والغنى وأثنى فهو منافق. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القبل كما ينبت الماء البقل لأنه يحوج إلى الأمراء وإلى مراعاتهم ومراءاتهم. فأما إذا ابتلى به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور، فإن اتقاء الشر جائز. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو" ثم لما دخل ألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول، فقال "يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم: فأما الثناء فهو كذب صراح ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب بمثله -كما ذكرنا في آفة الكذب- بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه.


[align=center]الآفة الثامنة عشرة
المدح[/align]


وهو منهي عنه في بعض المواضع. أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها. والمدح يدخله ست آفات: أربع في المادح، واثنتان في الممدوح.
فأما المادح، فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب. قال خالد بن معدان: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه.
والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.
الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه، وروي أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام "ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" ثم قال "إن كان أحدكم لا بد مادحاً أخاه فليقل أحسب فلاناً ولا أزكى على الله أحداً حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقولة إنه متق وورع وزاهد وخير وما يجري مجراه، فأما إذا قال رأيته يصلي بالليل ويتصدق ويحج فهذه أمور مستيقنة. ومن ذلك قوله إنه عدل رضا فإن ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة. سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجل فقال: أسافرت معه؟ قال: لا، قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة؟ قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه؟ قال: لا. فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه.
الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.
وأما الممدوح فيضره من وجهين؛ أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان. قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما لي ولك أما سمعتها؟ قال: سمعتها فمه، قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك.
الثاني: هو أنه إذا أنثى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصراً. فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام "قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" وقال صلى الله عليه وسلم "إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضاً وقال أيضاً لمن مدح رجلاً "عقرت الرجل عقرك الله وقال مطرف: ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشطيان، ولكن المؤمن يراجع، فقال ابن المبارك: لقد صدق كلاهما أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام، وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص. وقال صلى الله عليه وسلم "لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيراً له من أن يثني عليه في وجهه وقال عمر رضي الله عنه: المدح هو الذبح. وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهما مهلكان كالذبح؛ لذلك شبهه به. فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً غليه. ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقال "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح وقال في عمر "لو لم أبعث لبعثت يا عمر وأي ثناء يزيد على هذا؟ ولكنه صلى الله عليه وسلم قال عن صدق وبصيرة. وكانوا رضي الله عنهم أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً وفتوراً. بل مدح الرجل نفسه قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إذ قال صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لست أقول هذا تفاخراً كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم. وذلك لأن افتخاره صلى الله عليه وسلم كان بالله وبالقرب من الله لا بولد آدم وتقدمه عليه؛ كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يفتخر بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقدمهعلى بعض رعاياه. وبتفصيل هذه الآفات تقدر على جمع بين ذم المدح وبين الحث عليه قال صلى الله عليه وسلم "وجبت لما أثنوا على بعض الموتى. وقال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم المستور عورتك أربع على نفسك واحم الله الذي ستر عورتك. فهذه آفات المدح.


[align=center]بيان ما على الممدوح[/align]

اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور، ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال، فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح. قال صلى الله عليه وسلم "احثوا التراب في وجوه المادحين وقال سفيان بن عيينة: لا يضر المدح من عرف نفسه. وأثنى على رجل من الصالحين فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني. وقال آخر لما أثنى عليه: اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته. وقال علي رضي الله عنه لما أثنى عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون. وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال: أتهلكني وتهلك نفسك؟ وأثنى رجل على علي كرم الله وجهه في وجهه -وكان قد بلغه أنه يقع فيه- فقال: أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك.

[align=center]الآفة التاسعة عشر
الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام
لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته [/align]


ويرتبط بأمور الدين فلا يقدر على تقويم اللفظ في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء، فمن قصر في علم أو فصاحة لم يخل كلامه عن الزلل لكن الله تعالى يعفو عنه لجهله. مثاله: ما قال حذيفة: قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكاً وتسوية وهو على خلاف الاحترام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت، فقال صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله عديلاً بل ما شاء الله وحده . وخطب رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال "قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ومن يعصهما، لأنه تسوية وجمع. وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك. وأن يقول: لولا الله ثم فلان؟ ولا يقول: لولا الله وفلان؟ وكره بعضهم أن يقال: اللهم أعتقنا من النار، وكان يقول: العتق يكون بعد الورود. وكانوا يستجيرون من النار ويتعوذون من النار. وقال رجل: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال حذيفة: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين. وقال إبراهيم: إذا قال الرجل للرجل يا حمار يا خنزير! قيل له يوم القيامة، حماراً رأيتني خلقته خنزيراً رأيتني خلقته؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه، فيقول: لولاه لسرقنا الليلة. وقال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها: وقال صلى الله عليه وسلم "لا تسموا العنب كرماً إنما الكرم الرجل المسلم4" وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، ولا يقول المملوك ربي ولا ربتي وليق سيدي وسيدتي فكلكم عبيد الله الرب الله سبحانه وتعالى" وقال صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا للفاسق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم وقال صلى الله عليه وسلم "من قال أنا بريء من الإسلام فإن كان صادقاً فهو كما قال وإن كان كاذباً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً فهذا وأمثاله مما يدخل في الكلام ولا يمكن حصره.
ومن تأمل جميع ما أوردنا من آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم "من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين.


[align=center]الآفة العشرون
سؤال العوام عن صفات الله تعالى وعن كلامه
وعن الحروف وأنها قديمة أو محدثة؟ [/align]


ومن حقهم الاشتغال بالعمل بما في القرآن إلا أن ذلك ثقيل على النفوس والفضول خفيف على القلب. والعامي يفرح بالخوض في العلم، إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء وأهل الفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر وهو لا يدري. وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته. وإنما شأن العوام الاشتغال بالعبادات والإيمان بما ورد به القرآن، والتسليم لما جاء به الرسل من غير بحث، وسؤالهم عن غير ما يتعلق بالعبادات سوء أدب منهم يستحقون به المقت من الله عز وجل ويتعرضون لخطر الكفر، وهو كسؤال ساسة الدواب عن أسرار الملوك وهو موجب للعقوبة. وكل من سأل عن علم غامض ولم يبلغ فهمه تلك الدرجة فهو مذموم، فإنه بالإضافة إليه عامي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقال أنس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأكثروا عليه وأغضبوه فصعد المنبر وقال "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال "أبوك حذافة" فقال إليه شابان أخوان فقالا: يا رسول الله من أبوناً؟ فقال: أبوكما الذي تدعيان إليه، ثم قام إليه رجل آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال "لا بل في النار" فلما رأى الناس غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوا فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فقال "اجلس يا عمر رحمك الله إنك ما علمت لموفق .
وفي الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وقال صلى الله عليه وسلم "يوشك الناس يتساءلون بينهم حتى يقولوا قد خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا "قل هو الله أحد الله الصمد" حتى تختموا السورة ثم ليتفل أحدكم عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم .
وقال جابر: ما نزلت آية المتلاعنين إلا لكثرة السؤال . وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام تنبيه على المنع من السؤال قبل أوان استحقاقه إذ قال "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" فلما سأل عن السفينة أنكر عليه حتى اعتذر وقال "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً" فلم يصبر حتى سأل ثلاثاً قال "هذا فراق بيني وبينك" وفارقه.
فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات وهو من المثيرات للفتن، فيجب قمعهم ومنعهم من ذلك. وخوضهم في حروف القرآن يضاهي حال من كتب الملك إليه كتاباً ورسم له فيه أموراً فلم يشتغل بشي منها، وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أو حديث؟ فاستحق بذلك العقوبة لا محالة. فكذلك تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه أهي قديمة أم حديثة؟ وكذلك سائر صفات الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.


[saa]يتبع بإذن الله[/saa]

_________________

يا خير من دفنت في التراب أعظمه فطاب من طيبهن القاع الأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته عند الصراط إذا ما زلّت القدم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 167 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 5, 6, 7, 8, 9, 10, 11, 12  التالي

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 23 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط