الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله وعلي آله وسلم تسليما كثيرا
معنا اليوم الحكمة التاسعة والثلاثون من حكم سيدي بن عطاء الله السكندري وهي :
( شعاع البصيرة يشهدك قربه منك , وعين البصيرة تشهدك عدمك لوجوده وحق البصيرة يشهدك وجوده لا عدمك ولا وجودك , كان الله ولا شىء معه وهو الآن علي ما عليه كان )
قلت : البصيرة ناظر القلب , كما أن البصر ناظر القلب , فالبصيرة تري المعاني اللطيفة النورانية , والبصر يري المحسوسات الكيفية الظلمانية الوهمية . ثم البصيرة باعتبار إدراك نور المعاني اللطيفة عل خمسة أقسام : قسم فسد ناظرها فعميت , فأنكرت نور الحق من أصله قال سيدي البوصيري : قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ***** وينكر الفم طعم الماء من سقم وهذه بصيرة الكفار . قال تعالي : " فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور "
وقسم صح ناظرها لكنها مسدودة لضعف ناظرها لمرض أصابه , فهي تقر بالنور لكنها لا تقوي علي مشاهدته , و لا تشهد قربه منها ولا بعده عنها , وهي لعامة المسلمين
وقسم صح ناظرها وقوي شيئا ما , حتي قرب أن يفتح عينه , ولكن لشدة الشعاع لم يطق أن يفتح عينه فأدرك شعاع النور قريبا منه , وهو لعامة المتوجهين , ويسمي هذا المقام شعاع البصيرة
وقسم قوي ناظرها ففتح عين بصيرته فأدرك النور محيطا به حتي غاب عن نفسه بمشاهدة النور , وهذا لخاصة المتوجهين , ويسمي هذا المقام عين البصيرة
وقسم صحت بصيرته واشتد نورها فاتصل نورها بنور أصلها , فلم تر إلا النور الأصلي , وأنكرت أن يكون ثم شىء زائد علي نور الأصل , كان الله ولا شىء وهو الآن علي ما عليه كان ويسمي هذا حق البصيرة , ووجه تسميته بشعاع البصيرة أن صاحبها لما كان يري وجود الأكوان انطبعت في مرآة بصيرته , فحجبته عن شهود النور من أصله , لكن لما رقت كثافتها وتنورت دلائلها , رأي شعاع النور من ورائها قريبا منه , فأدرك الشعاع ولم يدرك النور , وهذا هو نور الإيمان , وهو مقام علم اليقين
ووجه تسمية عين البصيرة : أن البصيرة لما صحت وقويت انفتحت عينها فرأت النور محيطا ومتصلا بها , فسميت عين البصيرة , لانفتاحها وإدراكها ما خفي علي غيرها , وهذا مقام عين اليقين
ووجه تسمية حق البصيرة : أن البصيرة لما أدركت الحق من أصله وغابت عن نور الفروع بنور الأصول , سميت حق البصيرة , لما أدركته من الحق , وغابت عن شهود الخلق , وهذا مقام حق اليقين فشعاع البصيرة هو نور الإيمان لأهل المراقبة , وعين البصيرة هو نور الإحسان لأهل المشاهدة , وحق البصيرة هو نور الرسوخ والتمكين لأهل المكالمة . أو تقول : شعاع البصيرة نور علم اليقين , وعين البصيرة هو نور عين اليقين وحق البصيرة هو نور حق اليقين . فعلم اليقين لأهل الدليل والبرهان , وعين اليقين لأهل الكشف والبيان وحق اليقين لأهل الشهود والعيان .
مثال ذلك : كمن سمع بمكة مثلا ولم يرها , فهذا عنده علم اليقين , فإذا استشرف عليها ورآها ولم يدخلها فهو عين اليقين , فإذا دخلها وتمكن فيها فهو حق اليقين , وكذلك طالب الحق , فمازال من وراء الحجاب فانيا في الأعمال فهو في علم اليقين , فإذا استشرف علي الفناء في الذات ولم يتمكن من الفناء فهو عين اليقين , فإذا رسخ وتمكن فهو في حق اليقين .
أو تقول : شعاع البصيرة لأهل عالم الملك , وعين البصيرة لأهل عالم الملكوت وحق البصيرة لأهل عالم الجبروت . أو تقول : شعاع البصيرة لأهل الفناء في الأعمال , وعين البصيرة لأهل الفناء في الذات , وحق البصيرة لأهل الفناء في الفناء . فشعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك : أي يوجب لك شهود قرب نور الحق منك .
قال تعالي : " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "
وقال تعالي : " وهو معكم أينما كنتم " .
وعين البصيرة يشهدك عدمك : أي زوالك بزوال وهمك لوجوده أي وجود الحق إذ محال أن تشهد معه سواه , فإذا زال عنك الوهم وفنيت عن وجودك , شهدت ربك بربك , وهو علامة فتح البصيرة , وعلاج السريرة كما قال الشيخ عبد الرحمن المجذوب : من رأي المكون بالكون ***** عزّه في عمي البصيرة ومن رأي الكون بالمكون **** صادف علاج السريرة فظاهره أن عامة المسلمين عميت بصيرتهم . والتحقيق هو ما تقدم من التفصيل , وأنها مسدودة فقط مع صحة ناظرها , بخلاف بصيرة الكفار فإنها عمياء وحق البصيرة يشهدك وجود الحق وحده لا وجودك , لأنك مفقود من أصلك وعدمك إذ لا يعلم إلا ما ثبت له وجود , ولم يكن مع الله موجود . كان الله ولا شىء معه وهو الآن علي ما عليه كان . وهذه الزيادة وإن لم تكن في الحديث لكن معناها صحيح , إذ التغير عليه تعالي محال .
قال محيي الدين بن محمد بن علي بن العربي الحاتمي رضي الله عنه : من شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز , ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل اه
ومن شهدهم بعين العدم فقد تمكن وصاله , وأنشدوا :
من أبصر الخلق كالسراب ***** فقد ترقي عن الحجاب إلي وجود تراه رتقا ***** بلا ابتعاد ولا اقتراب فلا خطاب به إليه ***** ولا مشير إلي الخطاب والله تعالي أعلم
وصل اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وسلم تسليما كثيرا
|