الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً معنا اليوم الحكمة الثانية و الستون من الحكم العطائية لسيدى ابن عطاء الله السكندرى وهى :
( أنت حر مما أنت عنه آيس وعبد لما أنت فيه طامع )
قلت إنما كان الإنسان حراً مما أيس منه لأنه لما أيس من ذلك الشيء رفع همته عنه وعلقها بالملك الحق فلما علق همته بالملك الحق سخر الحق له تعالي له سائر الخلق فكانت الأشياء كلها عبيداً له ومسخرة لإمره أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك فمن كان عبداً لله كان حراً مما سواه وإنما كان الإنسان عبداً لما طمع فيه لأن الطمع في الشيء يقتضي المحبة له والخضوع والإنقياد إليه فيكون عند أمره ونهيه لأنك حبك الشيء يعمي ويصم وهذه حقيقة لعبودية وفي هذا المعنى قيل:
العبد حر ما قنع--- والحر عبد ما طمع
وما أقبح الإنسان الذي يريد سيده منه أن يكون ملكاً وهو يريد أن يكون مملوكاً يريد سيده أن يجعله حراً وهو يريد أن يكون عبداً خلق له سيده الكون بأسره خادماً له عند نهيه وأمره فجعل هو يخدم الكون بنفسه ويتعبد لأقل شيء وأخسه يقول المصنف في التنوير في مناجاة الحق تعالى على ألسنة الهواتف : إنا أجللنا قدرك أيها العبد أن نشغلك بأمر نفسك فلا تضعن قدرك يا من رفعناه ولا تذلن بحوالتك على غيري يا من أعززناه ويحك أنت أجل عندنا من أن تشتغل بغيرنا , لحضرتي خلقتك وإليها طلبتك وبجواذب عنايتي لها جذبتك فإن أشتغلت بنفسك حجبتك وأن أتبعت هواها طردتك وإن أخرجت عنها قربتك وإن توددت لي بإعراضك عما سواي أحببتك اه فتحصّل أن محبة الأشياء والطمع فيها هو سبب الذل والهوان والتعبد لسائر الأكوان وأن الإياس من الأشياء ورفع الهمة عنها هو سبب العز والحرية والتيه على الأقران ولله در القائل حيث قال :
رأيت القناعة رأس الغنى ... فصرت بأذيالها ممتسك فألبسني عزها حلة ... يمر الزمان ولا تنهتك فصرت غنياً بلا درهم ... أتيه على الناس تيه الملك
قلت وهذا هو الغنى الأكبر والإكسير عند الأكياس ويسمى في أصطلاح الصوفية الورع أعني الورع الخاص وهو: رفع الهمة عن السوي قال في لطائف المنن : وأعلم رحمك الله أن ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل فإن من جملة ورعهم تورعهم أن يسكنوا لغيره أو يميلوا بالحب لغيره أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره ومن ورعهم عن الخوف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب ومن ورعهم ورعهم عن الوقوف مع العادرات , والإعتماد على الطاعات والسكون إلى أنوار التجليات ومن ورعهم ورعهم عن أن تفتنهم الدنيا أو توقفهم الآخرة تورعوا عن الدنيا وفاء وعن الآخرة صفاء قال الشيخ عثمان بن عاشوراء : خرجت من بغداد أريد الموصل فأنا أسير وإذا بالدنيا قد عرضت علي بعزها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومزيناتها ومشتهياتها فأعرضت عنها فعرضت علي الجنة بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها فلم أشتغل بها فقيل لي يا عثمان لو وقفت مع الأولى لحجبناك عن الثانية ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنا فها نحن لك وقسطك من الدارين يأتيك قال الشيخ عبد الرحمن المغربي وكان مقيماً بشرقي الأسكندرية حججت سنة من السنين فلما قضيت الحج عزمت على الرجوع إلى الإسكندرية فإذا النداء على : إنك العام القابل عندنا فقلت في نفسي : إذا كنت العام القابل ها هنا فلا أعود إلى الإسكندرية فخطر على الذهاب إلى اليمن فأتيت إلى عدن فأنا يوماً على ساحلها أمشي وإذا بالتجار قد أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم ثم نظرت فإذا رجل قد فرش سجادة على البحر ومشى على الماء , فقلت في نفسي لم أصلح للدنيا ولا للآخرة فإذا على يقال : من لم يصلح للدنيا ولا للآخرة يصلح لنا وقال أبو الحسن الورع : نعم الطريق لمن عجل ميراثه وأجل ثوابه فقد أنتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم لا يدبرون ولا يختارون ولا يريدون ولا يتفكرون ولا ينظرون ولا ينطقون ولا يبطشون ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله ولله من حيث يعلمون , هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فهم مجموعون في عين الجمع لا يفترقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى وأما أدني الأدني فالله يورعهم عنه ثواباً لورعهم مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم , ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى وميراثه التعزز لخلقه , والاستكبار على مثله والدلالة على الله بعلمه , فهذا هو الخسران المبين والعياذ بالله العظيم من ذلك , والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه , ومن لم يزدد بعلمه وعمله افتقاراً لربه واحتقاراً لنفسه وتواضعاً لخلقه فهو هالك فسبحان من قطع كثيراً من الصالحين بصلاحهم عن مصلحهم كما قطع كثيراً من المفسدين بفسادهم عن موجدهم
( فأستعذ بالله أنه هو السميع البصير ) اه.
فانظر فهمك الله سبيل أوليائه ومنّ عليك بمتابعة أحبائه هذا الورع الذي ذكره هذا الشيخ رضي الله عنه هل كان فهمك يصل إلى هذا النوع من الورع؟ ألا ترى قوله قد أنتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله والقول بالله والعمل لله وبالله على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة فهذا هو ورع الأبدال والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الواهم اه قلت هذا الورع الذي ذكره الشيخ هو ورع الخواص أو خواص الخواص وهو الذي يقابل الطمع كما تقدم في قول الحسن البصري: صلاح الدين الورع , وفساد الدين الطمع , لا ورع العوام الذي هو ترك المتشابه والحرام فإنه لا يقابل الطمع كل المقابلة وحاصله صحة اليقين وكمال التعلق برب العالمين ووجود السكون إليه وعكوف الهم عليه وطمأنينة القلب به , حتى لا يكون له ركون إلى شيء من السوى فهذا هو الورع الذي يقابل الطمع المفسد , وبه يصلح كل عمل مقرب وحال مسعد قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه : الورع على وجهين : ورع في الظاهر وهو إلا تتحرك إلا لله , وورع في الباطن: وهو أن لا يدخل قلبك إلا الله ذكرأن بعضهم كان حريصاً على أن يرى أحداً ممن صفته , فجعل يجتهد في طلبه . ويحتال على التوصل إليه بأن يأخذ الشيء بعد الشيء من ماله ويقصد به الفقراء والمساكين ويقول لمن يعطيه خذلا لك , فكانوا يأخذون ولا يسمع من أحد منهم جواباً مطابقاً لما أراده إلى أن ظفر ذات يوم ببغيته وحصل على مقصوده ومنيته , وذلك أنه قال لأحدهم : خذلا لك فقال له آخذه لا منك , فإن كان للعبد أستشراف إلى الخلق أو سبقية نظر إليهم قبل مجيء الرزق أو بعده فمقتضي هذا الورع والواجب في حق الأدب ألا ينيل نفسه شيئاً مما يأتيه على هذا الحال عقوبة لنفسه في نظره إلى أبناء جنسه كقصة أيوب الحمال مع أحمد بن حنبل رضي الله عنهما وهي معروفة . وكما روي عن الشيخ أبي مدين رضي الله عنه : أنه أتاه حمال بقمح فنازعته نفسه وقالت يا ترى من أين هذا ؟ فقال أنا أعرف من أين هو يا عدوة الله وأمر بعض أصحابه أن يدفعه لبعض الفقراء عقوبة لها لكونها رأت الخلق قبل رؤية الحق تعالى .
وقد قيل إن أحل الحلال ما لم يخطر على بال ولا سألت فيه أحداً من النساء والرجال. قال الشيخ عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه : الورع ألا تتحرك ولا تسكن إلا وترى الله في الحركات والسكون فإذا رأى الله ذهبت الحركة والسكون وبقي مع الله فالحركة ظرف لما فيها كما قال : ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه فإذا رأيت الله ذهبت
وقال أيضاً : أجمع العلماء على أن الحلال المطلق ما أخذ من يد الله بسقوط الوسائط وهذا مقام التوكل ولهذا قال بعضهم : الحلال هو الذي لا ينسي الله فيه اه علي نقل ابن عباد رضي الله عنه .
وإذا أراد الله تعالى أن يعز عبده ويرفعه إلى هذا المقام قطع عنه زمام الوهم والجزع , وحرره من رق الطمع فقاده إليه بملاطفة الإحسان أو بسلاسل الامتحان .
وصل اللهم على سيدنا محمد وغلى آله وسلم تسليماً كثيرا
|