ابو الحسن الطيب كتب:
هي قصة ابن طفيل الفيلسوف الاندلسي
وشرحه للظواهر الطبيعية من تقسيم للحيوان والنبات والتشريح
والصوت والضوء
شئ يجعل الانسان يتعجب من العلم الذي حواه وبرع به لدرجة ان
يستطيع نقله بهذه الصورة المبسطة كقصة حي بن يقظان
انتقاء جميل جدا ومتابعة بشوق
بارك الله بك الاخت الفاضلة ملهمة
اسال الله ان يلهمك الخير
اللهم آمين
أكرمكم الله و أعزكم أخي الكريم الفاضل
أبو الحسن الطيب كل عام وحضرتك بألف خير وصحة وسعادة والأسرة الكريمة
وأسعدني مروركم الطيب
******
9- دفن الجثة
وفي خلال ذلك نتن الجسم، وفاحت منه روائح كريهة. فزاد نفور ابن يقظان منه وود (أحب) ألا يراه.
وحار ابن يقظان في أمره؛ فلم يدرك كيف يواري (لم يعرف كيف يخفي) ذلك الجسم ؟
وإنه لحائر، لا يدري كيف يصنع، إذ رأى غرابين يقتتلان؛ فوقف يتأمل برهة، حتى رأى أحدهما يلقي الآخر ميتاً.
ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة؛ فوارى فيها ذلك الميت بالتراب.
فقال ابن يقظان في نفسه: "ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه (إخفاء جثته)! وإن كان قد أساء في قتله إياه.
فما كان أجدرني بالاهتداء إلى هذا الفعل! وما أشد غباوتي حيت تحيرت في دفن أمي".
ثم أسرع ابن يقظان فحفر حفرة في الأرض، وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليه التراب (رفعه بيده وأهاله، أعني: رماه عليه).
الفصل الثالث
1- جولة في الجزيرة
وبقي ابن يقظان يتفكر في ذلك الشيء المصرّف للجسد؛ أعني، الروح الذي يبعث الحياة في الجسم؛ فإذا غادره همد وفسد، ولم تبق للجسم قيمة.
وظل يطيل التأمل (التفكير) في ذلك الروح، ولا يدري ما هو؟ وقد حار في أمره، وتملكته الدهشة.
غير أنه كان ينظر إلى اشخاص الظباء كلها؛ فيراها على شكل أمه الظبية، وعلى صورتها. فكان يغلب على ظنه أن كل واحد من هذه الظباء المتشابهة الأشكال، إنما يحركه وصرّفه شيء هو مثل ذلك الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها؛ أعني ذلك الروح الذي يبعث الحياة في الجسم، ويملؤه نشاطاً وقوة؛ فإذا خرج، بطلت حرارة الجسم، وأصبح لا قيمة له ولا خطر.
فكان يألف الظباء، ويحن إليها لمشابهتها أم عزة، ويحنو عليها بطبعه لمكان ذلك الشبه.
وبقي على ذلك برهة (مدة طويلة) من الزمن، يتصفح (يتأمل) أنواع الحيوان والنبات، ويطوف بساحل تلك الجزيرة، ليعلم: هل يجد لنفسه شبيهاً في هذه الجزيرة، كما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات، أشباهاً كثيرة؟
فلا يجد شيئاً في ذلك.
وكان يرى البحر قد أحدق (أحاط) بالجزيرة من كل جهة؛ فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك.
2- الاهتداء إلى النار
واتفق في بعض الأحيان أن انقدحت (اشتعلت) نار في اجمة. فلما بصر بها، رأى منظراً هاله وأدهشه، وخلقاً لم يعتده من قبل؛ فوقف يتعجب ملياً (وقتاً). وما زال يدنو ويقترب من النار شيئاً فشيئاً حتى أصبح عن كثب (على قرب) منها. فرأى ما للنار من الضوء الثاقب (المرتفع الشديد النور)، والفعل الغالب؛ فما تتعلق وتتصل بشيء إلا أتت عليه وأهلكته، وأحالته إلى نفسها (حولته إلى طبيعتها، وجعلته ناراً).
فاشتد عجب ابن يقظان، وتعاظمته الدهشة (اشتدت به). وحمله العجب بها. وما ركّب الله تعالى في طباعه من الجرأة والقوة، على أن يمدّ يده إلى النار. وأراد أن يأخذ منها قبساً (شعلة نار)؛ فلما باشرها أحرقت يده، ولم يستطع القبض عليها.
3- فضل النار
ثم اهتدى إلى أن يأخذ عوداً لم تستول النار على جميعه. فأخذ بطرفه السليم والنار مشتعلة في طرفه الآخر، فتأتّى له ذلك (تيسر)، وسهل عليه أن يمسك بالعود، من غير أن تصل إلى يده النار. ثم حمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه (يسكنه).
وكان حي بن يقظان قد خلا (انفرد) في جحر، كان استحسنه للسكنى قبل ذلك. فصار يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل (الغليظ العظيم)، ويتعهدها (يرعاها ويتفقدها) ليلاً ونهاراً، استحساناً لها وتعجباً منها.
وكان يزيد أنسه بها ليلاً، لأنها تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء. فعظم بها ولوعه، واشتد لها حبه، وزاد عليها إقباله، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه.
4- قوة النار
وكان يراها دائماً تتحرك إلى أعلى، وتطلب السمو؛ فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية (يعني النجوم والكواكب) التي يشاهدها متألقة (مضيئة لامعة في السماء).
وكان ابن يقظان يختبر قوة النار في جميع الأشياء، بأن يلقيها فيها؛ فيراها مستولية على كل شيء، إما بسرعة وإما ببطء، بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه فيها للاحتراق أو ضعفه.
5- الشواء
وكان من جملة ما ألقى فيها على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من أصناف الحيوان البحرية، كان قد ألقاه البحر إلى ساحله.
فلما أنضجت النار ذلك الحيوان البحري، هبت على ابن يقظان رائحة ذلك الشواء (اللحم المشوي) اللذيذ، وسطع قتاره (ارتفعت رائحته وانتشرت)؛ فتحركت رغبته إليه؛ فأكل منه شيئاً، فاستطابه.
فاعتاد ابن يقظان منذ ذلك اليوم أكل اللحم، وأقبل على الشواء، وآثره (اختاره وقدمه) على غيره من ألوان الأطعمة المختلفة. فصرف الحيلة في صيد البر والبحر، حتى مهر في ذلك وأتقنه وزادت محبته في النار وشغفه بها، لما رآه من فوائدها؛ إذ تأتى له بها من وجود الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له قبل ذلك.
6- ظنون ابن يقظان
واشتد شغف ابن يقظان بها، لما رأى من حسن آثارها، وقوة اقتدارها. وقد خيل إليه ووقع في نفسه، أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي انشأته وربته كان من جوهر النار، أو من شيء يجانسه (يتحد معه في بعض صفاته).
وأكد ذلك في ظنه ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته وبرودته من بعد موته.
وكان يرى هذه القاعدة مطّردة (جارية مستقيمة) دائماً، لا تختل، ولا يستثنى منها شيء. وقد زاد وثوقه بصحة ما اهتدى إليه، أنه كان يجد في نفسه حرارة شديدة عند صدره؛ بإزاء الموضع ال ذي كان قد شقه من الظبية.
فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيواناً، وشق قلبه، ونظر إلى ذلك التجويف الذي صادفه خالياً عندما شق صدر أمه الظبية، لرآه في هذا الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه.
ثم قال ابن يقظان في نفسه: "ومن يدريني؟ لعل شيئاً في جوهر هذه النار أو ما يشابهه، أو قريباً منه، هو الذي يبعث الحرارة والحياة في قلب الحيوان. فلا بد لي من الفحص عنه، لعل في شيئاً من الضوء أو الحرارة.
يتبع بمشيئة الله تعالى