موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 355 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 20, 21, 22, 23, 24
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت مارس 01, 2025 5:49 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ١٦٦ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ١٦٧ ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ١وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ١٦٩ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ١٧٠ -ال عمران




عادة الخلق نسيان ما منهم من الخطأ والعصيان، والرجوع إلى الله بالتهمة فيما يتصل بهم من المحن والخسران، وفنون المكاره والافتتان، وإنَّ مَنْ تَعاطى (....) الإجرام فحقيق بألا ينسى حلول الانتقام.هوَّن على المؤمنين وأصحاب البصائر ما لقوا من عظيم الفتنة يوم أُحُد، بأن قال إن ذلك أجمع كان بإذن الله، وإنَّ بلاءً يصيب بإذن الله لِمَن العسلِ أحلى، ومِنْ كل نعيم أشهى. ثم أخبر أن الذين لم يكن لهم في الصحبة خلوص كيف تعللوا وكيف تكاسلوا:
وكذا المَلُولُ إذا أراد قطيعةً ملَّ الوصال وقال كان وكانا

قوله تعالى: { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } فلا جَرَم (سَقَوْا العَسَل ودَسُّوا له فيه الحنظل)، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين.الذين ركنوا إلى ما سوَّلت لهم نفوسهم من إيثار الهوى، ثم اعترضوا على من يصرف أحكام القضاء وقالوا لو تَحَرَّزُوا عن البروز للقتال لم يسقطوا عن درجة السلامة.. لمَذْمُومةٌ تلك الظنون، ولَذَاهِبَةٌ عن شهود التحقيق تلك القلوب.
قُلْ لهم - يا محمد - استديموا لأنفسكم الحياة، وادفعوا عنها هجوم الوفاة!
ومتى تقدرون على ذلك؟! هيهات هيهات!.الحياة بذكر الحق بعد ما تتلف النفوس في رضاء الحق أتَمُّ من البقاء بنعمة الخلق مع الحجبة عن الحق.
ويقال إن الذي وارثُه الحي الذي لم يزل فليس بميت - وإن قُتِل:
وإن كانت العبدان للموت أُنْشِئَتْ فقتل امرئ في الله - لا شكَّ - أفضلُ

قوله: { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ }: مَنْ علم أن أحباءه ينتظرونه وهم في الرَّفَه والنعمة لا يهنأ بعيش دون التأهب والإلمام بهم والنزول عليهم."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: وما أصابكم يا معشر الفقراء عند توجهكم إلى الحق فارين من الخلق، حين استشرفتم على الجمع وجمع الجمع فبإذن الله؛ فإن الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، وليظهر الصادق من الكاذب، فإن محبة الله مقرونة بالبلاء والطريق الموصلة إليها محفوفة بالمكاره، مشروطة بقتل النفوس وحط الرؤوس، ودفع العلائق، والفرا من العوائق.
فإذا قيل للعوام: قاتلوا أنفسكم في سبيل الله لتدخلوا حضرة الله، ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق، قالوا: قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق، ولو نعلم قتالاً بقي يُوصلنا إلى ربنا، كما زعمتم؛ لاتبعناكم ودخلنا في طريقكم. وهم للكفر يومئذ أقرب للإيمان، حيث تحكموا على القدرة الأزلية، وسدوا باب الرحمة الإلهية، وإنما يقولون ذلك احتجاجاً لنفوسهم، وأبقاء على حظوظهم، وليس ذلك من خالص قلوبهم، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية، قالوا لأخوانهم، الذين دخلوا في طريق القوم، وقد قعدوا هُم مع العوام: لو أطاعونا ولم يدخلوا في هذا الشأن، ما قتلوا أو عذبوا، فقل لهم أيها الفقير: القضاء والقدر يجري على الجميع، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه. والله تعالى. أعلم بأسرار كتابه.
لا تحسبن الذي بذلوا مُهجهم، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها، وعكس مراداتها، في طلب معرفة الله، حتى ماتت نفوسهم، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم، حياة لا موت بعدها، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات، ولو ماتوا حسّاً، بل هم أحياء على الدوام، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لا فَنَاءَ لَهَا قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ

فهم عند ربهم يشاهدونه مدة بقائهم، يرزقون من ثمار المعارف وفواكه العلوم، فرحين بما أتحفهم الله به من القرب والسر المكتوم، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم في المرتبة ممن تعلق بهم وأنهم سيصلون إلى ما وصلوا إليه من معرفة الحي القيوم، فلا يلحقهم حينئذٍ خوف ولا حزن ولا هم ولا غم، لما سكن في قلبهم من خمرة محبة الحبيب، والقرب من القريب المجيب، وفي ذلك يقول ابن الفارض.
وإِنْ خَطَرَتْ يوماً علَى خاطِر امْرِئ أقَامَتْ به الأفْرَاحُ، وارتَحلَ الهمُّ

يسبشرون بنعمة أدب العبودية، وفضل شهود أسرار عظمة الربوبية، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المحبين لطريق المخصوصين، فإن طريق محبة طريق القوم عناية، والتصديق بها ولاية، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما رجع أبو سفيان من غزوة أُحد، هو وأصحابه، حتى بلغوا الروحاء، ندم وهم بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه، وقال: "لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس" ، فخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي على ثمانية أميال من المدينة - وكان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم كي لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين، فذهبوا.

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مارس 02, 2025 5:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ١٧١ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٧٢
ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ ١٧٣ فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ١٧٤ إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ١٧٥ -آل عمران




عِلَّةُ استبشارهم وموجبه فضلٌ من الله ونعمة منه، أي لولا فضله ونعمته بهم وإلا متى استبشروا؟ فليس استبشارهم بالنعمة إنما استبشارهم بأنهم عبادُه وأنه مولاهم، ولولا فضله ونعمته عليهم لما كانت لهم هذه الحالة.للاستجابة مزية وفضيلة على الإجابة من حيث الإشارة لا من مقتضى العربية وهو أنه يستجيب طوعاً لا كرهاً، فهم استجابوا لله من غير انطواء على تحمل مشقة بل بإشارة القلب ومحبة الفؤاد واختيار الروح واستحلاء تحمُّل الحُكْم. فالاستجابة للحق بوجوده، والاستجابة للرسول - عليه السلام - بالتخلُّق بما شرع من حدوده.
استجابة الحق بالتحقق بالصفاء في حق الربوبية، واستجابة الرسول عليه السلام بالوفاء في إقامة العبودية.
{ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ }: في ابتداء معاملاتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم، وابتسام الحقائق في أسرارهم.
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ }: "الإحسان أن تعبد الله كأنَّك تراه..." - وهو المشاهدة والتقوى -... "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" - وهو المراقبة في حال المجاهدة.
{ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لأهل البداية مؤجَّلاً، ولأهل النهاية مُعجَّلاً.لم يلتَبِسْ على ظواهرهم شيءٌ مِنْ أحوال الدنيا إلا انفتحت لهم - في أسرارهم - طوالع من الكشوفات، فازدادوا يقيناً على يقين.
ومن أمارات اليقين استقلالُ القلوب بالله عند انقطاع المُنَى مِن الخَلْق في توهم الإنجاد والإعانة.كذا سُنَّة الحق - سبحانه - مع مَنْ صَدَق في التجائه إليه أن يمهد مقيله في ظل كفايته؛ فلا البلاء يمسه، ولا العناء يصيبه، ولا النَّصَبَ يُظِلُّه.الإشارة في تسليط دواعي الشيطان على قلوب الأولياء صدق فرارهم إلى الله؛ كالصبيِّ الذي يُخوَّف بشيء يفزع الصبيان، فإذا خاف لم يهتدِ إلى غير أمه، فإذا أتى إليها آوَتْه إلى نفسها، وضمَّتهُ إلى نَحْرِها، وألصقَتْ بِخَدِّه خدَّها.
كذلك العبد إذا صدق في ابتهاله إلى الله، ورجوعه إليه عن مخالفته، آواه إلى كنف قربته، وتداركه بحسن لطفه."لطائف الإشارات للقشيري"
- الإشارة: أهل القوة من المريدين إذا قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم ليردوكم أو يؤذوكم فاخشوهم، زادهم ذلك إيماناً وإيقاناً، وتحققوا أنهم على الجادة، لسلوكهم على منهاج من قبلهم؛ { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا } [العَنكبوت: 2] الآية.
واكتفوا بعلم الله ونظره وبرعايته ونصره، فانقلبوا بنعمة الشهود، وفضل الترقي في عظمة الملك الودود، لم يمسسهم في باطنهم سوء ولا نقصان، واستوجبوا من الله الرضى والرضوان، وإنما ذلكم شيطان يردهم عن مقام الشهود والعيان، فلا ينبغي لهم أن يخافوا ومطلبهم مقام الإحسان، الذي تُبْذل في طلبه الأرواح والأبدان. وبالله التوفيق."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين مارس 03, 2025 5:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٧٧ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ١٧٨ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ١٧٩ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١٨٠ عمران





زاد في قوة قلبه بما جدَّدَ من تأكيد العهد، بأنه لا يشْمِتُ به عدوًّا، ولا يُوَصِّل إليه من قِبَلِهم سوءاً.إنْ أضَرُّوا فما أضروا إلا بأنفسهم، وإنْ أصَرُّوا فما أصَرُّوا إلا على خسرانهم:
فما نحن عذِّبْنَا بِبُعْدِ ديارهم ولا نحن ساقتنا إليهم ومن تمام المكر بهم، والمبالغة في عقوبتهم أَنَّا نعذِّبهم وهم لا يشعرون؛ { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [الأعراف: 182] نملي لهم فيظنون ذلك إنعاماً، ولا يحسبونه انتقاماً، فإذا برزت لهم كوامنُ التقدير عند مغاراتها علموا أنهم لفي خسران، وقد اتَّضح لكلِّ ذي بصيرة أن ما يكون سببَ العصيان وموجبَ النسيان غيرُ معدودٍ من جملة الإنعام.جمعهم اليومَ من حيث الأشخاص والمباني، ولكنه فرَّقهم في الحقائق والمعاني؛ فَمِنْ طيِّبةٍ سجيته، وزمن خبيئةٍ طِينَتُه. وهم وإن كانوا مشائب ففي بصيرة الخواص هم ممتازون.
{ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ }: فإنَّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلَّ وقلَّ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره.مَن آثرَ شيئاً على الله لم يبارِك له فيه؛ فلا يدوم له - في الدنيا - بذلك استمتاع، ولا للعقوبة عليه - في الآخرة - عنه دفاع.
والبخل - على لسان العلماء - منع الواجب، وعلى مقتضى الإشارة إبقاءُ شيءٍ ولو ذرةً من المال أو نَفَساً من الأحوال."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: إنكار العوام على الخصوص لا يضرهم، ولا يغض من مرتبتهم، بل يزيدهم رفعةً وعلواً وعزّاً وقرباً، قال تعالى: { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [النُّور: 11]، وسَمِعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول: "كلامُ الناس في الولي كناموسة نفخت على جبل". أي: لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة، يريد الله ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئاً، ولهم عذاب البعد والنصب، في غم الحجاب وسوء الحساب، لا سيما من تمكن من معرفتهم، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام، فلا تسأل عن حرمانه التام، والعياذ بالله.إمهال العبد وإطالة عمره، إن كانت أيامه مصروفةً في الطاعة واليقطةِ، وزيادة المعرفة، فإطالتها خير، والبركة في العمر إنما هي بالتوفيق وزيادة المعرفة، وفي الحكم: "من بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمان ما لا تدركه العبارة ولا تلحقه الإشارة". وإن كانت أيام العمر مصروفة في الغفلة والبطالة وزيادة المعصية، فالموت خير منها. وقد سُئل - عليه الصلاة والسلام - أيُّ الناس خَيْرٌ؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمرُه وَحَسُنَ عَمَلُهُ، قيل: فَأَيُّ النّاسِ شر؟ قال: مَنْ طَالَ عَمُرُهُ وَسَاءَ عَمله" . والله تعالى أعلم.
ولمّا قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللهَ أطلعني على من يُؤمِنُ بي ممن يكْفُر" . قال المنافقون: نحن معه ولا يعرفنا.من سُنّة الله في المتوجهين إليه إذا كثروا، وظهرت فيهم دعوى القوى، أرسل الله عليهم ريح التصفية، فيثبت الصحيح، والخاوي تذروه الريح، وما ان الله ليذرهم على ما هم عليه من غير اختبار، حتى يميز الخبيث من الطيب، أي: مَنْ هِمَّتُه الله ومَنْ هِمَّتُه سواه، وما كان الله ليُطلعكم على الغيب حتى يعلموا من يثبت ممن يرجع، أو يعلموا ما يلحقهم من الجلال والجمال، وإنما ذلك خاص بالرسل عليهم السلام، وقد يُطلع على شيء من ذلك بعض خواص ورثتهم الكرام، فالواجب على المريد أن يُؤمن بالقدر المغيب، ولا يستشرف على الاطلاع عليه؛ "استشرافُك على ما بطن فيك من العيوب، خير من استشرافك على ما حُجب عنك من الغيوب". { وإن تؤمنوا } بمواقع القضاء والقدر، { وتتقوا } القنوط والكدر، { فلكم أجر عظيم }.لا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه، أن يبذلوها في طلب معرفة الله، وبذلها: إسقاطها وإبدالها بالخمول، والذل لله، وإسقاط المنزلة بين عباد الله، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية في أعلى عليين، وهم مع عوام أهل اليمين، محجوبون عن شهود رب العالمين، إلا في وقت مخصوص وحين.لا يحسبن الذي يبخلون بما أتاهم الله من فضل الرئاسة والجاه، أن يبذلوها في طلب معرفة الله، وبذلها: إسقاطها وإبدالها بالخمول، والذل لله، وإسقاط المنزلة بين عباد الله، فلا يظنون أن بخلهم بذلك خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، سيلزمون وبال ما بخلوا به يوم القيامة، حين يرون منازل المقربين كالشمس الضاحية في أعلى عليين، وهم مع عوام أهل اليمين، محجوبون عن شهود رب العالمين، إلا في وقت مخصوص وحين.

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مارس 04, 2025 5:39 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ١٨١ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ١٨٢ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٨٣ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ ١٨٤كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ ١٨٥ آل عمران




هذا الخطاب لو كان بين المخلوقين لكان شكوى. والشكوى إلى الأولياء من الأعداء سُنَّةُ الأحباب.
ويقال علم أن في المؤمنين مَنْ يغتاب الناس، وذلك قبيح من قالتهم، فَأَظْهَرَ قُبْحاً فوق ذلك ليتصاغر قبح قول المؤمنين بالإضافة إلى قبح قول الكفار، فكأنه قال: لئن قبحت قالتهم في الاغتياب فأقبحُ من قولهم قولُ الكفار حيث قالوا في وصفنا ما لا يليق بنعمتنا.
وفيه أيضاً إشارة إلى الدعاء إلى الخَلْق، والتجاوز عن الخَصْم، فإن الله - سبحانه - لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير في حقوقه.
قوله: { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ }: هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة؛ يعني أنهم وإنْ نَسُوا أحوالهم وأقوالَهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم:
صحائفُ عِنْدِي للعِتاب طويتها سَتُنْشَرُ يوماً والعتابُ يطولُ
سأصبر حتى يجمع الله بيننا فإنْ نلتقِ يوماً فسوف أقول

قوله: { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } هذا لو كان من مخلوقٍ مع مخلوق لأشبه العذر مما عمله به، فكأنه - سبحانه - يقول: "عبدي: هذا الذي تلقاه - اليوم - من العقوبة لأن الذنب لك، ولو لم تفعله لما عذَّبنُك".تقوَّلوا على الله - سبحانه - فيما تعللوا به من تَرْكِ الإيمان، فقالوا: لقد أُمِرْنَا ألا نصدِّق أحداً إلا لو أتانا بقربان يتقرب به إلى السماء، وتنزل نار من السماء، فتأخذ القربان عياناً ببصر، فقال تعالى قلْ لهم إن من تقدَّمني من الأنبياء عليهم السلام أَتَوْكم بما اقترحتم عليّ من القربان، ثم لم تؤمنوا، فلو أجبتكم إليه لن تؤمنوا بي أيضاً؛ فإن مَنْ أقصته السوابق - فلو خاطَبَتْه الشمسُ بلسان فصيح، أو سجدت له الجبالُ رآها بلحظٍ صحيح - لم يَلِجْ العرفان في قلبه، وما ازداد إلا شكاً على شك.أي عادة الكفار تكذيب الرسل: وعلى هذا النحو درج سَلَفُهمْ، وبهديهم اقتدى خَلَفُهم.أي كأسُ الموت توضع على كفِّ كلِّ حيٍّ فمن تحلاَّها طيِّبَةً نفُسه أوْرَثَتْهُ سُكْرَ الوَجْد، ومن تجرَّعَها على وجه التعبس، وقع في وهْدَةِ الرّدِّ، وَوُسِمَ بِكَيِّ الصَّدّ، ثم يوم القيامة: فمن أُجِير من النار وصل إلى الراحة الكبرى، ومن صُلِّيَ بالسعير وقع في المحنة الكبرى.
{ وَما ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ }: لأن ما هو آتِ فقريبٌ."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: ما زالت خواص العامة مولعةً بالإنكار على خواص الخاصة، يسترقون السمع منهم، إذا سمعوا كلمة لم يبلغها علمُهم، وفيها ما يوجب النقص من مرتبتهم، حفظوها، وحرفوها، وأذاعوها، يريدون بذلك إطفاء نورهم، وإظهار عُوَراهم، والله حفيظ عليهم، سيكتب ما قالوا وما قصدوا من الإنكار على أوليائه، ويقول لهم: ذوقوا عذاب البعد والحجاب. وما يتشبثون به في الإنكار عليهم: اقتراحهم الكرامات التي كانت للأولياء قبلهم، ويقولون: لا نصدق بهم حتى يأتون بما أتى به فلان وفلان، فقد كان من قبلهم يطعنون فيهم مع ظهور ذلك عليهم، كما هو سنة الله فيهم. { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }.كما كُذبت الأنبياء كُذبت الأولياء، بعد أن ظهر عليها من العلوم الباهرة والحكم الظاهرة والكرامات الواضحة، وأعظمها المعرفة، وهذه سنة ماضية، ولن تجد سنة الله تبديلاً.النفس، من حيث هي، كلها تقبل الموت لمن قتلها وجاهدها، وإنما وقع التفريط من أربابها، فمن زحزحها عن نار الشهوات، وقتلها بسيوف المخالفات، حتى أدخلها جنات الحضرات، فقد فاز فوزاً عظيماً، وربح ربحاً كريماً. وبالله التوفيق."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة مارس 07, 2025 5:39 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

لَتُبْلَوُنَّ فِيۤ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ ١٨٦ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ١٨٧لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ١٨٨ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٨٩ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ١٩٠




كفاهم أكثر أسباب الضر بما أخبرهم عن حلولها بهم قبل الهجوم، وعرّفهم أن خير الأمْرَيْن لهم إيثار الصبر واختيار السكون تحت مجاري الأقدار.أخبر أنهم أبرموا عهودهم أن لا يزولوا عن وفائه، ولكنهم نقضوا أسباب الذِّمام بما صاروا إليه من الكفران، ثم تبيَّن أنَّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يُبارَكْ لهم فيه.إن مَنْ باشر رؤيةَ الخلْق قلبُه، ولاَحَظَهم بِسِرِّه فلا تظننَّ أنَّ عقوبتَهم مؤخرةٌ إلى يوم القيامة، بل ليسوا من العذاب - في الحال - بمفازة، وأيُّ عذابِ أشدُّ من الردِّ إلى الخلْق والحجاب عن الحق؟الإشارة من هذا الآية ها هنا إلى غناه - سبحانه - عمَّا في الكون، وكيف يحتاج إليهم؟! ولكنهم لا يجدون عنه خَلَفاً، ولا عليه بَدَلاً.قوله جلّ ذكره: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ }.
الآيات التي تعرَّف الحق سبحانه وتعالى بها إلى العوام هي التي في الأقطار من العبَرِ والآثار، والآيات التي تعرَّف بها إلى الخواص فالتي في أنفسهم. قال سبحانه: { { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [فصلت: 53]؛ فالآيات الظاهرة توجِب علم اليقين، والآيات الباطنة توجِب عين اليقين.
والإشارة من اختلاف الليل والنهار إلى اختلاف ليالي العباد؛ فليالي أهل الوصلة قصيرة، وليالي أهل الفراق طويلة؛ فهذا يقول:
شهور ينقضين وما شعرنا بأنصافٍ لهن ولا سِرار

ويقول:
صباحك سكر والمساء خمار فنمت وأيام السرور قصار

والثاني يقول:
ليالي أقر الظاعنين (... ) شَكَوْتَ وليلُ العاشقين طويلُ

وثالث ليس له خبر عن طول الليل ولا عن قِصَرِه فهو لِمَا غَلَبَ عليه يقول:
لستُ أدري أطال لَيْلِيَ أمْ لا؟ كيف يدري بذاك من يَتَقَلَّى؟!
لو تَفَرَّغْتُ لاستطالةِ لَيْلِي ورعَيْتُ النجوم كنتُ مُحِلاَّ
"لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: كل من دخل في طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول، لا بد أن يُبتلى ويختبر في ماله ونفسه، ليظهر صدقه في طلبه، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيراً، فإن صبر ظفر، وإن رجع خسر، وهذه سنة الله في عباده: { وَلَنَبْلَوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [محَمَّد: 31]، قال الورتجبي: { لتبلون في أموالكم }؛ بجمعها ومنها والتقصير في حقوق الله فيها، { وأنفسكم }؛ باتباع شهواتها، وترك رياضتها، وملازمتها أسباب الدنيا، وخلوها من النظر في أمر الميعاد، وقيل: { لتبلون في أموالكم }؛ بالاشتغال بها أخذاً وإعطاء.هـ.أهل العلم إذا تحققوا بوجود الخصوصية عند ولي، وكتموا ذلك حسداً وخوفاً على زوال رئاستهم، دخلوا في وعيد الآية؛ لأنَّ العوام تابعون لهم، فإذا كتموا أو أنكروا تبعُوهم على ذلك، فيحملون أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم، والله تعالى أعلم.لا يظن أهل الفرق الذين يسندون الأفعال إلى أنفسهم، غائبين عن فعل ربهم، ويحبون أن يحمدهم الناس ويمدحهم بفعل غيرهم، أنهم فائزون عن عذاب الفرق، وحجاب العجب، إذ لا فاعل سوى الحق، فمن تمام نعمته عليك أن خلق فيك ونسب إليك، فإن فرح العبد بالطاعة من حيث ظهورها عليه، وهي عنوان العناية - ورأى نفسه فيها كالآلة، معزولاً عن فعلها، محمولاً بالقدرة الأزلية فيها، فلا بأس عليه، ويزيد بذلك تواضعاً وشكراً، وإن فرح بها من حيث صدورها منه، ويتبجح بها على عباد الله، فهو عين العجب، وفي الحكم:"لا تُفرحكَ الطاعة من حيث إنها صَدَرَتْ منك، وافرح بها من حيث إنها هدية من الله عليك؛ { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [يُونس: 58]".الخلق هو الاختراع والإظهار، فإظهار هذه التجليات الأربعة يدل على الحقّ - تعالى - تجلى لعباده بين الضدين، بين النور والظلمة، بين القدرة والحكمة، بين الحس والمعنى، وهكذا خلق من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار من إثنينية حسهما إلى فردية معناهما، ففرّوا إلى الله، فالسماوات والنهار نورانيان، والأرض والليل ظلمانيان، ففي ذلك دلالة على وحدة المعاني، فلا تقف مع الأواني، وخُض بحر المعاني، لعلك تراني. وبالله التوفيق."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مارس 12, 2025 5:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ١٩١ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ١٩٢ رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ ١٩٣ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ ١٩٤ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ ١٩٥-آل عمران




من ابتليته في الآجل بالحرقة فقد أخزيته، ومن ابتليته بالفرقة في العاجل فقد أشقيته، ومن أوليته بِيُمْنِ الوصلة فقد آويته وأدنيته.يعني أَجَبْنَا الداعي ولكن أنت الهادي، فلا تَكِلْنَا إلينا، ولا ترفع ظلَّ عنايتك عَنَّا.
والإيمان الدخول في مُوجِبات الأَمَان، وإنما يؤمِن بالحق من أَمَّنَه الحق، فأَمَانُ الحق للعبد - الذي هو إجارته - يوجِب إيمانَ العبدِ بالحق الذي هو تصديقه ومعرفته.
{ وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلأَبْرَارِ }: وهم المختصون بحقائق التوحيد، القائمون لله بشرائط التفريد، والواقفون مع الله بخصائص التجريد.حَقِّق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط من إكمال النُّعمى (....) وغفران كل ما سبق منا من متابعك الهوى."لطائف الإشارات للقشيري"
وأفضل القربات، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين. وفي الخبر: "تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة".
وقال الجنيد رضي الله عنه: أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر لحسن الظن بالله تعالى. ثم قال: يا لها من مجالس، ما أجلها، ومن شرابٍ ما ألذه، طوبى لمن رزقه. وقال القشيري رضي الله عنه التفكر نعت كل طالب، وثمرته: الوصول بشرط العلم، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق. هـ.
وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها، فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر. وكذلك زوجة أبي بكر قالت: كان ليله أجمع في ناحية يتفكر. وكذا زوجة أبي الدرداء، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول: طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً، ونظره عبرة. وقال الحسن رضي الله عنه: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو. هـ. وقال في الحكم: "ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة". وقال أيضاً:"الفكرة سراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له". وقال أيضاً: "الفكرة فكرتان؛ فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان، فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار".
وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين، بل وقت منها يعدل ألف سنة، كما قال الشاعر:
كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه

فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء، وفي أمثاله قال القائل:
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ

حققنا الله بمقامهم، وسقانا من منالهم، آمين.
وقوله: { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } بل هو ثابت بإثباتك، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك، فالباطل محال، وكل ما سواه باطل، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام. وقوله: { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } أي: كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان، { ربنا وآتنا ما وعدتنا } وهو الوصول إلى العيان. وبالله التوفيق.

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مارس 19, 2025 12:18 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يناير 25, 2021 8:59 pm
مشاركات: 2841

لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ ١٩٦ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ١٩٧ لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ ١٩٨ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ١٩٩ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٢٠٠ -آل عمران




لا تتداخلنك تهمة بأنَّ لهم عندنا قدراً وقيمة إنما هي أيام قلائل وأنفاس معدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة.الذين وسمناهم بذُلِّ الفرقة بئست حالتهم، والذين رفعوا قَدَماً لأجلنا فنعمت الحالة والزلفة؛ وصلوا إلى الثواب المقيم، وبقوا في الوصلة والنعيم، وما عند الله مما ادَّخرنا لهم خيرٌ مما أمَّلوه باختيارهم.يريد منْ ساعَدَتْهم القسمةٌ بالحسنى فهم مع أولياء الله نعمةً كما كانوا معهم قسمةً.الصبر فيما تفرد به العبد، والمصابرة مع العدو.
والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص.
ويقال أول الصبر التصبر، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية.
ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات، وتصابروا في ترك الهوى والشهوات، وقطع المنى والعلاقات، ورابطوا بالاستقامة في الصحبة في عموم الأوقات والحالات.
ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم، ورابطوا بأسراركم.
ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب، وصابروا على ابتغاء القربة، ورابطوا في محل الدنوِّ والزلفة - على شهود الجمال والعِزَّة.
والصبر مُرٌّ مَذَاقُه إذا كان العبد يتحسَّاه على الغيبة، وهو لذيذٌ طعمُه إذا شربه على الشهود والرؤية.
{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }: الفَلاَحُ الظَّفَرُ بالبُغْيَة، وهِمَّتُهم اليوم الظفر بنفوسهم، فعند ذلك يتم خلاصهم، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة، وصلبوها على عيدان المكابدة، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاءهم بالله."لطائف الإشارات للقشيري"
الإشارة: لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة، والفرش الممهدة، فإن الدنيا متاعها قليل، وعزيزها قليل، وغنيها فقير، وكبيرها حقير، واعتبر بحال نبيك - عليه الصلاة والسلام.
قال أنس رضي الله عنه: دَخلتُ علَى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهُو على سَرِير مرفل بالشريط - أي: مضفور به - وتحت رَأسِهِ وسَادَةٌ من أَدَم، حَشْوُهَا لِيفٌ، فدل عليه عمر، وانحرف النبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة، فرأى عمر الشريط في جَنْبِهِ، فَبكَى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما يُبْكِيكَ يا عمر" ؟ فقال: مَالِيَ لا أبْكِي وكِسْرى وقَيْصَرُ يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت على الحال الذي أرى، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا عمر أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لهُم الدُّنيا وَلَنا الآخرَةُ" . رواه البخاري.
وانظر ما أعدّ الله للمتقين الأبرار، الذين صبروا قدر ساعة من نهار، فأفضوا إلى جوار الكريم الغفار في دار القرآن، { وما عند الله خير للأبرار }، ولا سيما العارفين الكبار. قال الورتجبي: بيِّن الحق - تعالى - رفعة منزل المتقين في الجنان، ثم أبْهم لطائف العناية بقوله: { وما عند الله خير للأبرار } أي: ما عنده من نعيم المشاهدة، ولطائف القربة، وحلاوة الوصلة، خير مما هم فيه من نعيم الجنة، وأيضاً: صرح في هذه الآية ببيان مراتب الولاية، لأنه ذكر المتقين، والتقوى: تقديس الباطن عن لوث الطبيعة، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفة، وذلك درجة الأولى من الولاية، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة، وبين أن أهل التقوى في الجنة، والأبرار في الحضرة. هـ.قد رأينا بعض الفقهاء حصل لهم الإيمان بخصوص أهل زمانهم، بتحققوا بولايتهم، ونالوا شيئاً من محبتهم، لكن لم تساعفهم الأقدار في صحبتهم، فظهرت عليهم آثار أنوارهم، واقتبسوا شيئاً من أسرارهم، فتنوّرت سريرتهم، وكملت شريعتهم، وأظهر عليهم آثار الخشوع، وأخذوا حظّاً من التواضع والخضوع، متخلقين بالقناعة والورع، قد ذهب عن قلبهم ما ابتلى به غيرهم من الجزع والهلع، فلا جرم أن هؤلاء لهم أجرهم مرتين: أجر ما تحملوا من الشريعة لنفع العوام، وأجبر ما اكتسبوا من محبة القوم؛ "المرءُ مَع مَنْ أَحب" . وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.{ يا أيها الذين آمنوا } إيمان أهل الخصوص، { اصبروا } على حفظ مراسم الشريعة، { وصابروا } على تحصيل أنوار الطريقة، { ورابطوا } قلبوكم على شهود أسرار الحقيقة، أو: اصبروا على أداء العبادة، وصابروا على تحقيق العبودية، ورابطوا في تحصيل العبودة - أي: الحرية - أو: اصبروا على تحقيق مقام الإسلام، وصابروا على دوام الإيمان، ورابطوا على العكوف في مقام الإحسان، أو: اصبروا على تخليص الطاعات، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات، { واتقوا الله } فلا تشهدوا معه سواه، { لعلكم تفلحون }، بتحقيق معرفة الله. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني"

_________________
أغث يا سيدى وأدرك محبا يرى الأقدار تضربه سهاما
لكل قضية أعددت طه بغير شكية يقضى المراما
أيغدرنا الزمان وأنت فينا معاذ الله يا بدر التماما
(ﷺ)


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مايو 11, 2025 11:03 am 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء إبريل 29, 2020 1:13 pm
مشاركات: 132

سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ١ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ٢ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ ٣وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ٤ وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ٥


الناس اسم جنس، والاشتقاق فيه غير قوي. وقيل سمي الإنس إنساً لظهوره فعلى هذه الإشارة: يا مَنْ ظهرتم عن كتم العَدَم بحكم تكليفي، ثم خصصتُ مَنْ شئتُ منكم بتشريفي، وحرمتُ من شئت منكم هدايتي وتعريفي، ونقلتكم إلى ما شئتُ بل أوصلتكم إلى ما شئت بحكم تصريفي.
ويقال لم أُظْهِرٍ منَ العَدَمِ أمثالكم، ولم أُظْهِرْ على أحدٍ ما أظْهَرٍتُ عليكم من أحوالكم.
ويقال سمِّيتَ إنساناً لنسيانك، فإن نسيتني فلا شيء أَخَس منك، وإنْ نسيت ذكري فلا أحد أَحَط منك.
ويقال من نَسِيَ الحق فلا غاية لمحنته، ومن نسي الخَلْقَ فلا نهاية لعلوِّ حالته.
ويقال يقول للمُذْنِبين، يا مَنْ نسِيتَ عهدي، ورفضتَ ودي، وتجاوزت حدِّي حانَ لك أن ترجع إلى بابي، لتستحقَّ لطفي وإيجابي. ويقول للعارفين يا مَنْ نسيت فينا حظَّكَ، وصُتَ عن غيرنا لَحْظَكَ ولَفْظَك - لقد عظُم علينا حَقُّك، وَوَجَبَ لدينا نصرُك، وجلَّ عندنا قَدْرُك.
ويقال يا من أَنِستَ بنسيم قرْبي، واستروحتَ إلى شهود وجهي، واعتززت بجلال قَدْري - فأنت أجلُّ عبادي عندي.
قوله: { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ }: التقوى جماع الطاعات، وأوله ترك الشِّرْكِ وآخره اتقاء كل غير، وأولُ الأغيار لك نفسُكَ، ومَنْ اتَّقَى نفسه وقف مع الله بلا مقام ولا شهود حال، و (وقف) لله.. لا لشهود حظِّ في الدنيا والعقبى.
قوله: { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }: وهو آدم عليه السلام، وإذا كنا مخلوقين منه وهو مخلوق باليد فنحن أيضاً كذلك، لمَّا ظهرت مزية آدم عليه السلام به على جميع المخلوقين والمخلوقات فكذلك وصفُنا، قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } [البيّنة: 7].
ولفظ "النفس" للعموم والعموم يوجب الاستغراق.
قوله: { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }: حَكَمَ الحقُّ - سبحانه - بمساكنة الخْلق مع الخْلق لبقاء النسل، ولردِّ المِثْل إلى المِثْل فربَطَ الشكلَ بالشكلِ.
قوله: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }: تعرَّف إلى العقلاء على كمال القدرة بما ألاح من براهين الربوبية ودلالات الحكمة؛ حيث خَلق جميع هذا الخلق من نسل شخصٍ واحدٍ، على اختلاف هيئتهم، وتفاوت صورهم، وتباين أخلاقهم، وإن اثنين منهم لا يتشابهان، فلكلٍ وجه في الصورة والخْلق، والهمة والحالة، فسبحان من لا حدَّ لمقدوراته ولا غاية لمعلوماته.
ثم قال: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } تكرير الأمر بالتقوى يدلُّ على تأكيد حكمه.
وقوله: { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ }: أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فَمَنْ قَطَعَ الرحمَ قُطِع، ومَنْ وَصَلَها وَصَل.
{ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }: مطلعاً شهيداً، يعدُ عليك أنفاسكَ، ويرى حواسَك، وهو مُتَوَّلٍ خطراتِك، ومنشئٌ حركاتِك وسكناتِك. ومَنْ عَلِمَ أنه رقيب عليه فبالحريِّ أن يستحيَ منه.
مَنْ أُقيم بمحلِّ الرعاية فجاء على رعيَّتِه فَخَصْمُه ربُّه؛ فإنه - سبحانه - ينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه. فَوَلِيُّ اليتيم إنْ أَنْصَفَ وأَحْسَنَ فحقُّه على الله، وإنْ أَساء وتعدَّى فَخَصْمُه اللهُ.
قوله جلّ ذكره: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ وَآتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً }.
أباح الله للرجال الأحرار التزوج بأربع في حالة واحدة، وأوجب العدل بينهن، فيجب على العبد أن يراعي الواجبَ فإنْ عَلِمَ أنه يقوم بحق هذا الواجب آثر هذا المُباح، وإنْ عَلِم أنه يقصِّر في الواجب فلا يتعرَّض لهذا المباح، فإنَّ الواجبَ مسؤولٌ عنه.
قوله جلّ ذكره: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }.
دلَّ هذا على أن طعامَ الفتيان والأسخياء مريء لأنهم لا يُطعِمون إلا عن طيب نَفْسٍ، وطعام البخلاء رديء لأنهم يرون أنفسهم، وإنما يُطعِمون عن تكلّف لا عن طيب نَفْس. قال صلى الله عليه وسلم: "طعامُ السخيِّ دواء وطعام البخيل داء" .
السَّفيه من يمنعك عن الحقِّ، و يشغلك عن الربِّ.
والسَّفيه من العيال والأولاد من تؤثر حظوظَهم على حقوق الله تعالى.
قوله: { ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَٰماً }: حفظ التجمل في الحال أجدى عليكم من التعرض للتبذل والسؤال، والكدية والاحتيال. وإنما يكون البذل خيراً من الإمساك عند تَحرُّرِ القلب والثقةِ بالصبر. فأمّا على نية الكدية وأن تجعل نفسك وعيالك كَلاًّ على الناس فَحِفْظُك ما جعله الله كفايةً لنفسك أَوْلَى، ثم الجود بفاضل كفايتك.
قوله: { وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }: إذا كان ذات يدك يتسع لكفاية يومهم ويَفْضُل فلا تدَّخره عمّا تدعو إليه حاجتهم معلومك خشيةَ فقرٍ في الغد، فإِنْ ضاقت يدُك عن الإنفاق فلا يَتَّسِعَنَّ لسانك بالقبيح من المقال.
ويقال إذا دَعَتْكَ نَفْسُك إلى الإنفاق في الباطل فأنت أسفه السفهاء فلا تُطِعْ نَفْسَكَ."لطائف الاشارات للقشيرى "
-الإشارة: درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال: إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم: فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين: المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " "أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنه يَراك" " ، فقوله: " أن تعبد الله كأنك تراه" إشاره إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك" إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه: إن لم تكن من أهل المشاهدة ــ التي هي مقام المقربين ــ فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة... الخ.
وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.
أمر الحقّ جلّ جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث يَقبلون من وجدوه طيب الأخلاق، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية، ويقلبوا فيهم الأعيان، فيقبلون العاصي طائعًا، والكافر مؤمنًا، والغافل ذاكرًا، والشحيح سخيًّا، والخبيث طيبًا، والمسيء محسنًا، والجاهل عارفًا، وهكذا؛ لما عندهم من الإكسير، وهي الخمرة الأزلية، أي: التي من شأنها أن تقلب الأعيان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه في وصفها:
تُهذبُ أخلاقَ النَّدامى فيَهْتَدي بها لطريقِ العزمِ مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَنْ لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه ويحلُمُ عند الغيْظِ مَنْ لا لهُ حِلم

وقوله: { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يعني: حتى تتحققوا بوصول الغني إلى قلوبهم، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم. والله تعالى أعلم.
اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافاً عديدة؛ فمنهم من غلب عليه فيض العلوم، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كان الجنيد رضي الله عنه قطبًا في العلوم، وكان أبو يزيد رضي الله عنه قطبًا في الأحوال، وكان سهل بن عبد الله قطبًا في المقامات. هـ. أي: كل واحد غلب واحد من ذلك، مع مشاركته للآخر في الباقي، فينبغي لكل واحد أن يخوض في فنِّه الذي خصَّه الله به ولا يتصدى لغيره. فقال لهم الحق ــ جل جلاله ــ من طريق الإشاره: فإن خفتم يا مَنْ غلبت عليهم الأحوال أو المقامات، أَلاَّ تُقسطوا في يتامى العلوم التي اختص بها غيركم، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق، كثيرة أو قليلة، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال، أو التنزل في المقامات، ولا تعدلوا فيها، فالزموا حالة واحدة ومقامًا واحدًا، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به، فإن أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال؛ لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر في فنه. والله تعالى أعلم.
وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية، نحلة، ولا تكلفوها فوق طاقتها، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال، بانشراح صدر ونشاط، فكلوه هنيئًا مريئاً، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام، وهذا في حق النفوس المطمئنة، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة؛ لئلا تمل، أو تقول: من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه، وليقم حيث أقامه الحق، ويعطيه حقه، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا. فالفقير ابن وقته، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء، حتى يكمل عقله، ويتحقق أدبه، ويظهر صدقه، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا، وليقل له قولاً معروفًا، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها؛ لرجحان عقله وكمال صدقه، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه، ثم يربيه فيها، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم ــ رضي الله عنهم وأرضاهم ــ ورزقنا حسن الأدب معهم، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج، وأن يكسوهم بالشرائع، ويحتمل أن تبقى الأموال على ظاهرها، ويكون أمر الشيخ أن يمنعوا المريدين من أخذ الأموال قبل التمكين.
" البحر المديد لابن عجيبة الحسيني "




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين مايو 12, 2025 10:55 am 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء إبريل 29, 2020 1:13 pm
مشاركات: 132




إيناس الرشد العفة والديانة، والسخاء والصيانة، وصحبة الشيوخ، والحرص على مشاهدة الخير، وأداء العبادات على قضية الأمر.
ويقال الرشيد من اهتدى إلى ربِّه، وعندما تسنح له (حاجة) من حوائجه لا يتَّكل على حَوْله وقُوَّتِه، وتدبيره واختياره.حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب؛ فلو مات رجلٌ وخلف ابنين تساويا في الاستحقاق وإنْ كان أحدهما براً تقياً والآخر فاجراً عَصِياً، فلا للتقي زيادة لتقواه، ولا للفاجر بخس لفجوره، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّةٍ من قِبَل الله، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطيةً للمسلمين: قال الله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر: 32]، ثم قال: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ... } [فاطر: 32] الآية.يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان والمستحقون، وحضَرَ من لا نصيب لهم في الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحقُ مُوَّلًى عليه، فَعِدوهم وعداً جميلاً وقولوا: "إِذا بلغ الصبي قلنا له حتى يعطيك شيئاً" وهذا معنى قوله: { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }. وفي هذا إِشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غداً، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران إن شاء الله بعدما كانوا من أهل الإيمان، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضراً، ولا لَكَ استحقاق سابق فبفضله ما أهَّلَكَ لمعرفته مع علمه بما يحصل منك في مستأنف أحوالك من زلتك.بَيَّنَ في هذه الآية أن الذي ينبغي للمسلم أن يدخره لعياله التقوى والصلاح لا المال؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: { فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ } فإنه يتولى الصالحين.إنما تولَّى الحق سبحانه خصيمة اليتيم، لأنه لا أحدَ لليتيم غيرُه، وكلُّ من وَكلَ أمره إليه فَتَبَرَّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه."لطائف الاشارات للقشيرى "
-الإشارة: ينبغي للشيخ أن يختبر المريد في معرفته وتحقيق بغيته، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال، بحيث تحقق فناؤه، وكمل بقاؤه، وتمت معرفته، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله، يَفهم عن الله في كل شيء، ويأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ من نصيبه شيئًا، قد تحلَّى بحلية الورع، وزال عنه الجزع والطمع، وزال عن قلبه خوف الخلق وهَمُّ الرزق واكتفى بنظر المَلِك الحق، يأخذ الحقيقة من معدنها، والشريعة من موضعها، فإذا تحققت فيه هذه الأمور، وأنس رشده، فليُطلقُ له التصرف في نفسه، وليأمره بتربية غيره، إن رآه أهلاً لذلك، ولا ينبغي أن يحجر عليه بعد ظهور رشده، ولا يسرف عليه في الخدمة قبل رشده، مخافة أن يزول من يده.
فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى: { قُل لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } } [الأنعَام:90] { وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } } [الشُّعَرَاء:109]، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف، ولا يكلفه ما يشق عليه، فإذا دفع إليه السر، وتمكن منه، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك، ويوصي بخلافته عنه، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه، { { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً } [النساء:45].
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها: (أم كَحَّة) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون: إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقالت: يا رسول الله؛ إن أوس بن ثابت مات، وترك بنات ثلاثًا، وأنا اِمْرأته، ولَيْس عِنْدِي مال أُنْفقُه عَليهنّ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة، فَدَعاهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسُولَ الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا، ولا يَحْمِل سِلاَحًا، لا ينُكأ عَدُوًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " "انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى" "، فانْصرَفُوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن في الآية حقًا، ولم يُبِّين كم هو ــ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعَرفجَة: " لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى" ، فأنزل الله تعالى بعدُ: { { يُوصِيكُمُ اللهُ ِفي أوْلادِكُمْ } [النساء: 11]... إلى قوله... { { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } } [النساء: 13]. فأرسل إليهما: " "أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن، وإلى بناته الثُّلثين، ولكما باقي المال" .
الإشارة: كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال: { { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ } } [الأحزَاب:35] إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه: إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس، وتعاطيتهم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم، وروت منها عُروقكم، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم، فإن كان من أهل المحبة والوداد، أو من له بكم قرابة واستناد، فلا تحرموه من شراب خمرتكم، ولا من نفحات نسمتكم، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم، فارزقوه من ثمار علومكم، واسقوه من شراب خمرتكم، وذكَّروه بالله، وقولوا له ما يدله على الله، ويوصله إلى حضرة الله، وهذا هو القول المعروف، الذي هو بالنصح موصوف.
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة: يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا: يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة‍‍! فقال لهم: (هذه تركة محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.
أمر الحق ــ جل جلاله ــ أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم، أن يمدوهم بالمدد الأبهر، ويدلوهم على الغني الأكبر، حتى يتركوهم أغنياء بالله، قد اكتفوا عن كل أحد سواه، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم، فليتقوا الله في شأنهم، وليدلوهم على ربهم، وهو القول السديد.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام: " "ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته " . وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى: { { وَهُوَ يَتَوَلَّى الْصَّالِحِينَ } } [الأعرَاف:196]، وتذكر قوله تعالى: { { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } } [الكهف:82].
وقال القشيري في هذه الآية: إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال: { فليتقوا الله } فإنه يتولى الصالحين. هـ المراد منه.حذَّر الحق ــ جلّ جلاله ــ أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء؛ الذين تعلقوا بهم؛ لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!!.
فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق ــ تعالىــ أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذ إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني "



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: من رقائق التفاسير الصوفية
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين مايو 12, 2025 11:02 am 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء إبريل 29, 2020 1:13 pm
مشاركات: 132

وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً ٦لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ٧ وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ٨ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ٩ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ١٠ -النساء


إيناس الرشد العفة والديانة، والسخاء والصيانة، وصحبة الشيوخ، والحرص على مشاهدة الخير، وأداء العبادات على قضية الأمر.
ويقال الرشيد من اهتدى إلى ربِّه، وعندما تسنح له (حاجة) من حوائجه لا يتَّكل على حَوْله وقُوَّتِه، وتدبيره واختياره.حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب؛ فلو مات رجلٌ وخلف ابنين تساويا في الاستحقاق وإنْ كان أحدهما براً تقياً والآخر فاجراً عَصِياً، فلا للتقي زيادة لتقواه، ولا للفاجر بخس لفجوره، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّةٍ من قِبَل الله، فيتساوى فيه البر والفاجر. كذلك حكم الإيمان ابتداء عطيةً للمسلمين: قال الله تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر: 32]، ثم قال: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ... } [فاطر: 32] الآية.يريد إذا حضر قسمة الميراث ذوو السهمان والمستحقون، وحضَرَ من لا نصيب لهم في الميراث من المساكين فلا تحرموهم من ذلك. فإن كان المستحقُ مُوَّلًى عليه، فَعِدوهم وعداً جميلاً وقولوا: "إِذا بلغ الصبي قلنا له حتى يعطيك شيئاً" وهذا معنى قوله: { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }. وفي هذا إِشارة لطيفة للمذنبين إذا حضروا لعرصته غداً، والحق سبحانه يغفر للمطيعين ويعطيهم ثواب أعمالهم، فمن كان منكم من فقراء المسلمين لا يحرمهم الغفران إن شاء الله بعدما كانوا من أهل الإيمان، وكذلك يوم القسمة لم تكن حاضراً، ولا لَكَ استحقاق سابق فبفضله ما أهَّلَكَ لمعرفته مع علمه بما يحصل منك في مستأنف أحوالك من زلتك.بَيَّنَ في هذه الآية أن الذي ينبغي للمسلم أن يدخره لعياله التقوى والصلاح لا المال؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث بل قال: { فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ } فإنه يتولى الصالحين.إنما تولَّى الحق سبحانه خصيمة اليتيم، لأنه لا أحدَ لليتيم غيرُه، وكلُّ من وَكلَ أمره إليه فَتَبَرَّأ من حوله وقوته فالحق سبحانه ينتقم له بما لا ينتقم لنفسه."لطائف الاشارات للقشيرى "
-الإشارة: ينبغي للشيخ أن يختبر المريد في معرفته وتحقيق بغيته، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال، بحيث تحقق فناؤه، وكمل بقاؤه، وتمت معرفته، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله، يَفهم عن الله في كل شيء، ويأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ من نصيبه شيئًا، قد تحلَّى بحلية الورع، وزال عنه الجزع والطمع، وزال عن قلبه خوف الخلق وهَمُّ الرزق واكتفى بنظر المَلِك الحق، يأخذ الحقيقة من معدنها، والشريعة من موضعها، فإذا تحققت فيه هذه الأمور، وأنس رشده، فليُطلقُ له التصرف في نفسه، وليأمره بتربية غيره، إن رآه أهلاً لذلك، ولا ينبغي أن يحجر عليه بعد ظهور رشده، ولا يسرف عليه في الخدمة قبل رشده، مخافة أن يزول من يده.
فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى: { قُل لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } } [الأنعَام:90] { وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } } [الشُّعَرَاء:109]، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف، ولا يكلفه ما يشق عليه، فإذا دفع إليه السر، وتمكن منه، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك، ويوصي بخلافته عنه، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه، { { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً } [النساء:45].
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها: (أم كَحَّة) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون: إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ، فقالت: يا رسول الله؛ إن أوس بن ثابت مات، وترك بنات ثلاثًا، وأنا اِمْرأته، ولَيْس عِنْدِي مال أُنْفقُه عَليهنّ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة، فَدَعاهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسُولَ الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا، ولا يَحْمِل سِلاَحًا، لا ينُكأ عَدُوًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " "انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى" "، فانْصرَفُوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن في الآية حقًا، ولم يُبِّين كم هو ــ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُويد وعَرفجَة: " لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى" ، فأنزل الله تعالى بعدُ: { { يُوصِيكُمُ اللهُ ِفي أوْلادِكُمْ } [النساء: 11]... إلى قوله... { { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } } [النساء: 13]. فأرسل إليهما: " "أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن، وإلى بناته الثُّلثين، ولكما باقي المال" .
الإشارة: كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال: { { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَاتِ } } [الأحزَاب:35] إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله لخواص أحبابه: إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس، وتعاطيتهم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم، وروت منها عُروقكم، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم، فإن كان من أهل المحبة والوداد، أو من له بكم قرابة واستناد، فلا تحرموه من شراب خمرتكم، ولا من نفحات نسمتكم، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم، فارزقوه من ثمار علومكم، واسقوه من شراب خمرتكم، وذكَّروه بالله، وقولوا له ما يدله على الله، ويوصله إلى حضرة الله، وهذا هو القول المعروف، الذي هو بالنصح موصوف.
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة: يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا: يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة‍‍! فقال لهم: (هذه تركة محمد صلى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.
أمر الحق ــ جل جلاله ــ أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم، أن يمدوهم بالمدد الأبهر، ويدلوهم على الغني الأكبر، حتى يتركوهم أغنياء بالله، قد اكتفوا عن كل أحد سواه، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم، فليتقوا الله في شأنهم، وليدلوهم على ربهم، وهو القول السديد.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام: " "ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته " . وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى: { { وَهُوَ يَتَوَلَّى الْصَّالِحِينَ } } [الأعرَاف:196]، وتذكر قوله تعالى: { { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } } [الكهف:82].
وقال القشيري في هذه الآية: إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال: { فليتقوا الله } فإنه يتولى الصالحين. هـ المراد منه.حذَّر الحق ــ جلّ جلاله ــ أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء؛ الذين تعلقوا بهم؛ لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!!.
فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق ــ تعالىــ أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذ إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم."البحر المديد لابن عجيبة الحسيني "



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 355 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1 ... 20, 21, 22, 23, 24

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 3 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط