(في تفسير أول سورة النجم:
قال الله سبحانه وتعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم: 1: 18).
الكلام على هذه الآيات من وجوه:
الأول: في سبب نزولها: النهر: «سببه قول المشركين إن محمدا يختلق القرآن» .
الثاني: في مناسبة هذه السورة لما قبلها: قال الإمام الرازي والبرهان النسفي رحمهما الله، قد قيل: إن السّور التي تقدمت وهي التي أقسم الله تعالى فيها بالأسماء دون الحروف: الصّافّات والذاريات والطور وهذه السورة بعدها، فالقسم في الأولى لإثبات الوحدانية، كما قال: {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ} (الصافات: 4). وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء، كما قال تعالى: {إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} (الذاريات: 5، 6). وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ} (الطور:7،8). وفي هذه السورة لبيان النبوة كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} (النجم: 1) إلخ. لتكمل الأصول الثلاثة: الوحدانية والحشر والنبوة» .
والوجه الآخر في المناسبة لما قبلها هو أن الكفرة بالغوا في المكابرة والمعاندة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا فيما نطق به من الكلام، كما مرّ بيانه في تلك السورة، فقال في هذه ما يدل على صدقه في دعواه، وصدق ما نطق به وأجراه مؤكّدا بالقسم.
وأما مناسبة أول هذه السورة إلى آخر ما قبلها فمن وجوه: أحدها: أن اختتام تلك السورة بالنجم وافتتاح هذه السورة بالنجم مع القسم.
ثانيها: أنه تعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر في آخر تلك السورة، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} (الطور: 48) والصبر أمر صعب، فذكر في أول هذه السورة ما يدل على علو منزلته وعظم شأنه ليسهل عليه ذلك الأمر.
ثالثها: لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ} (الطور: 49) بيّن له أنه جزاه بخير، فقال: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم: 2] وزاد الشيخ رحمه الله تعالى، في مناسبته وجها آخر، وهو أن سورة الطور فيها ذكر ذرّية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم، وهذه فيها ذكر ذرّية اليهود في قوله تعالى: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) [النجم: 32] . فقد روى ابن المنذر وابن حبان عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: «كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبيّ صغير هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقيّ أو سعيد» . فانزل الله تعالى عند ذلك: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الآية. ولما قال الله تعالى هناك في المؤمنين: (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور: 21] أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين مع نفعهم بعمل آبائهم، قال هناك في الكفار أو في الكبار: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم: 39] ، خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار» . انتهى.
أبو حيان رحمه الله: «هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر، لأنه تعالى قال: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) [الطور: 33] أي اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشّعر، وقالوا هو كاهن، هو مجنون، فأقسم تعالى أنه صلى الله عليه وسلم ما ضلّ، وأن ما أتى به هو الوحي من الله. وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها في الحرم، والمشركون يسمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفي هذا» . قلت: ذكر أبي لهب هنا غريب.
روى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: أول سورة نزلت فيها سجدة، النجم، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته قتل كافرا وهو أمية بن خلف.
وروى ابن مردويه وابن خلف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد من حضر من الجن والإنس والشجر، زاد ابن أبي شيبة إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة، وسمى أحد الرجلين المبهمين في الرواية السابقة، والثاني الوليد بن المغيرة كما عند ابن سعد.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
الثالث: في الكلام على القسم الواقع هنا: الشيخ رحمه الله تعالى في الإتقان: وقد قيل ما معنى القسم منه تعالى؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن، فالمؤمن يصدّق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده، وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا.
وأجاب الأستاذ- بضم الهمزة وبالذال المعجمة- أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجّة فقال: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران: 18] وقال: (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس:53] وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) [الذاريات: 22-23]، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ ولا يكون القسم إلا باسم معظّم، وقد أقسم الله تعالى بنفسه، في القرآن في سبعة مواضع، بقوله: (قُلْ إِي وَرَبِّي) [يونس: 53]، (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) [التغابن: 7]، (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [مريم 68]، (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر: 92]، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [النساء: 65]، (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج: 40] ، والباقي كله قسم بمخلوقاته. فإن قيل: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟ قلنا أجيب عنه بأوجه: الأول أنه على حذف مضاف أي ورب النّجم. وكذا الباقي. الثاني: أن العرب كانت تعظّم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه. الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظّمه المقسم ويجلّه وهو فوقه. والله سبحانه وتعالى ليس فوقه شيء، فأقسم تارة بنفسه وتارة بموضوعاته لأنها تدل على بادئ وصانع.
ابن أبي الإصبع رحمه الله تعالى في كتابه أسرار الفواتح: «القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.
وروى ابن حاتم عن الحسن قال: «إن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى ... والقسم إما ظاهر وإما مضمر وهو قسمان: قسم دلّت عليه اللام نحو: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) [آل عمران: 186] وقسم دلّ عليه المعنى نحو: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم: 71] تقديره: والله ... وأكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ) [الأنعام: 109] (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ) [النساء: 62] ولا تجد الباء مع حذف الفعل، ومن ثم أخطأ من جعل قسما بالله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] ، (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) [الأعراف: 134] . (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) [المائدة: 116] .
الإمام الرازي رحمه الله تعالى: «أقسم تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى: (وَالذَّارِياتِ)، وفي بعضها بإفراد كقوله: (وَالطُّورِ)، ولم يقل والأطوار والبحار، والكلمة فيه أن أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات. والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حيث يقع القسم عليها، بل هي متبدّلة بأفرادها، مستمرة بأنواعها، والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدّل والتغيّر، فقال: وَالذَّارِياتِ إشارة إلى النوع المستمر لا إلى الفرد غير المستقر. وأما الجبل فهو ثابت غير متغيّر عادة، فالواحد من الجبال قائم زمانا ودهرا فأقسم في ذلك بالواحد. وكذلك قوله: «وَالنَّجْمِ» ، ولو قال: والريح، لما علم المقسم به وفي الطور علم. والسّور التي افتتاحها القسم بالأسماء دون الحروف، كان القسم فيها لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي: الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان. ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي: الصّافَّات، حيث قال تعالى فيها: (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الصافات: 4]؛ وذلك لأنهم وإن كانوا يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا، على سبيل الإنكار فقد كانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرّحون بالتوحيد، وكانوا يقولون: (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الزمر: 3] وقال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [العنكبوت: 61]. فلم يبالغوا في الحقيقة والإنكار المطلوب الأوّل، فاكتفي بالبرهان ولم يكثر من الأيمان في سورتين منها أقسم لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه رسولا في إحداهما بأمر، وهو قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم: 1، 2]. وفي الثانية بأمرين وهو قوله تبارك وتعالى: (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى: 1، 2، 3]؛ وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن العظيم، كما في قوله تعالى: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس: 1، 2، 3]. وقد ذكرنا الحكم فيه أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأقسم به ليكون في القسم إشارة واقعة إلى البرهان. وفي باقي السّور كان المقسم عليه الحشر والجزاء، وما يتعلق به يكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد، وعدم استيفاء ذلك في سور القسم بالحروف. وأقسم تعالى بمجموع السلامة المؤنثة في خمس سور، ولم يقسم بمجموع السلامة المذكرة في سورة أصلا. فقال: (وَالصَّافَّاتِ) [الصافات: 1] ، (وَالذَّارِياتِ) [الذاريات: 1] ، ولم يقل «والصالحين من عبادي» ، ولا المقربين، إلى غير ذلك، مع أن الذكور أشرف وذلك لأن المجموع بالواو والنون في الأمر الغالب، لمن يعقل.
وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهر الأمر فيه، وحصل الاعتراف منهم، ولا للرسالة لحصول ذلك في سورة القسم بالحروف والقرآن، بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح وعقاب الطالح، ففائدة ذلك راجعة إلى من يعقل فيلزم أن يكون القسم بغيرهم. والسّور التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال: (وَالصَّافَّاتِ) وفي السّور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات فقال: (وَالذَّارِياتِ)، (وَالْمُرْسَلاتِ)، (والنَّازِعاتِ)، (وَالْعادِياتِ)؛ وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق. وفي السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين، وهي التي تجمع وتفرّق، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تبارك وتعالى» .
وقال الإمام أيضا في موضع آخر: «اعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيرا؛ لأنه أقسم على الوحدانية في سورة الصافات، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة، وبأمرين في سورة «والضحى» ، وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به؛ فإن قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل: 1]، وقوله: (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس:1]، وقوله تعالى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) [البروج: 1]، إلى غير ذلك، كلها في الحشر وما يتعلق به؛ وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة، كلها عقلية كما قيل: وفي كلّ شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ودلائل النبوة أيضا كثيرة، وهي المعجزات المشهورة المتواترة، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل، وهذا أظهر، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع، فأكثر فيه القسم ليقطع به المكلّف ويعتقده اعتقادا جازما.
الرابع: في الكلام على النَّجْمِ: صاحب القاموس: «في المطلع النّجم الكوكب الطالع والجمع أنجم وأنجام ونجوم ونجم، والنّجم أيضا الثريّا، والنّجم من النبات ما نجم على غير ساق، والنّجم الوقت المضروب» .
اللباب لابن عادل: «سمّي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجما» ، يقال: نجم السّنّ والقرن والنّبت إذا طلع، زاد القرطبي: «ونجم فلان ببلد كذا أي خرج على السلطان» .
قال الإمام الرازي: «ففي هذا القسم استدلال بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه، وهو كقوله تعالى: (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس: 1، 2، 3] وقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية: يعني الثّريّا إذا سقطت وغابت، وهويّها مغيبها، وهو الرواية الأخرى عن مجاهد، والعرب إذا أطلقت النّجم تعني به الثريا، قال الشاعر: إذا طلع النجم عشاء ... ابتغى الرّاعي كساء وفي الحديث: «ما طلع نجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع» ، رواه الإمام أحمد، وأراد بالنجم الثريا. وهذا القول اختاره ابن جرير والزمخشري. وقال السمين إنه الصحيح، لأن هذا صار علما بالغلبة» ، وقال عمر بن أبي ربيعة: أحسن النّجم في السماء الثريا ... والثّريا في الأرض زين النّساء
قال الإمام الرازي: «ومناسبة هذا القول إن الثريا أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا تلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد. والنبي صلى الله عليه وسلم يتميز عن الكل بآيات بيّنات، فأقسم به، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبلد حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت بالشتاء أو الخريف تقل الأمراض. والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر، قلّ الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية» . وقال أبو حمزة، بالحاء المهملة والزاي: «والثمالي- بضم المثلثة وتخفيف الميم وباللام: يعني النجوم إذا انتثرت يوم القيامة. وقيل أراد به الشّعرى. وقال السدّي والثوري: «أراد به الزّهرة» . وقال الأخفش: «أراد به النّبت الذي لا ساق له، ومنه قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن: 6] وهويّه سقوطه. قال الإمام الرازي: «لأنّ النّبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوة العقلية أولى بالإصلاح، وذلك بالرسل، وإصلاح السبل، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي في السماء لأنها أظهر عند السامع. وقوله تعالى: إِذا هَوى أدلّ عليه، ثم بعد ذلك القرآن لما فيه من الظهور، ثم الثريا.
وقال جعفر بن محمد- رضي الله عنهما-، كما نقله القاضي: «أراد به النبي- صلى الله عليه وسلم- إذ نزل ليلة المعراج والهويّ النزول» .
صاحب السراج: «ويعجبني هذا التفسير لملاءمته من وجوه، فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصا لما هدي إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلة الصلاة من الدين، ومنها أنه أضاء في السماء والأرض. ومنها التشبيه بسرعة السّير، ومنها أنه كان ليلا، وهو وقت ظهور النّجم، فهو لا يخفى على ذي بصر وأما أرباب البصائر فلا يمترون كأبي بكر الصديق- رضي الله عنه.». انتهى.
وقال مجاهد في رواية عنه: «نجوم السماء كلها» . وجزم أبو عبيدة وقال: ذهب إلى لفظ الواحد بمعنى الجمع، قال الشاعر: فبانت تعدّ النّجم في مستحيرة أي تعدّ النجوم. قال ابن جرير: «وهذا القول له وجه، ولكن لا أعلم أحدا من أهل التأويل قاله» . انتهى.
قلت: قد تقدم نقله عن مجاهد، ونقله الماوردي عن الحسن أيضا.
وقال الإمام الرازي: «ومناسبة ذلك أن النجوم يهتدى بها فأقسم بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة» .
وقال ابن عباس في رواية عكرمة: أراد التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع. وهذا قول أبي الحسن الماوردي. وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورسولا، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن، كان يخبرهم بالحوادث، فسألوه عنها فقال: انظروا إلى البروج الاثني عشر فإن انقضّ منها شيء فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقضّ منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فانزل الله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى)، هوى لهذه النبوة التي حدثت.
الإمام الرازي: «إن الرجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض.
الخامس: في الكلام على «هوى»: السمين: «العامل في «إذا» إما فعل القسم المحذوف وتقديره: أقسم بالنجم وقت هويّة». قال أبو البقاء وغيره: «وهو مشكل، فإن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال. و «إذا» لما يستقبل من الزمان، فكيف يتلاقيان؟.
الطيبي نقلا عن المقتبس: «الوجه أن «إذا» قد انسلخ عنها معنى الاستقبال، وصار للوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا احمرّ البسر، أي وقت احمراره، فقد عرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقت الغيبة عنه، بقوله: آتيك» .
قال الشيخ عبد القاهر: «إخبار الله تعالى بالمتوقع مقام الإخبار بالواقع، إذا لا تكلف فيه، فيجري المستقبل مجرى المحقّق الماضي» .
السمين: «وإما مقدّر على أنه حال من النّجم، إذ أقسم به حال كونه مستقرا في زمان هويّه. وهو مشكل من وجهين: أحدهما: أن النّجم جثّة والزمان لا يكون حالا عنها، كما لا يكون خبرا. الثاني: «إذا» للمستقبل، فكيف تكون حالا؟.
وأجيب عن الأول: المراد بالنجم القطعة من القرآن، والقرآن، نزل منجّما في عشرين سنة. وهذا تفسير ابن عباس وغيره. وعن الثاني: بأنها حال مقدّرة، وأما العامل فهو نفس النجم الذي أريد به القرآن، قاله أبو البقاء. وفيه نظر؛ لأن القرآن لا يعمل في الظّرف، إذا أريد به أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص. وقد يقال إن النّجم بمعنى المنجّم كأنه قيل: والقرآن المنجّم في هذا الوقت» .
المصباح: هوى يهوي من باب ضرب هويّا بضمّ الهاء وفتحها، وزاد ابن القوطية هواء بالمدّ، سقط من أعلى إلى أسفل قاله أبو زيد وغيره» . قال الشاعر:. فشج بها الأماعز وهي تهوى ... هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء يروى بالفتح والضّمّ.
الراغب: «الهوى سقوط من علو» . ثم قال: «والهويّ ذهاب في انحدار والهويّ ذهاب في ارتفاع». وقيل: «هوى في اللغة مقصده السفل أو مصيره إليه وإن لم يقصده» . وقال أهل اللغة: هوى بفتح الواو يهوي هويا سقط من علو، وهوى يهوى هوى أي صبا.
القرطبي: هوى وانهوى فيه لغتان بمعنى وقد جمعهما الشاعر في قوله:. وكم منزل لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي النيق بكسر النون المشدّدة أرفع موضع في الجبل.
الإمام الرازي: «الفائدة في تقييد القسم بالنجم بوقت هويّه أنه إذا كان في وسط السماء بعيدا عن الأرض لا يهتدي به السّاري، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال: فإذا زال تبين بزواله، وتميّز جانب عن جانب، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم خفض جناحه للمؤمنين، وكان على خلق عظيم وخصّ الهويّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا. أما الدنيوي فلما ذكر، وأما الديني فكما قال الخليل صلى الله عليه وسلم (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام: 76] وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه، وقد كان من المشركين من يعبده، فنبّه بهويّه على عدم صلاحيته للإلهية، وهويّه أفوله.
السادس: في الكلام على قوله: (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى):
السمين: «هذا جواب القسم» .
الإمام الرازي والبرهان النسفي: أكثر المفسّرين قالوا: لا نفرّق بين الضلال والغيّ. وقال بعضهم: إن الضلال في مقابله الهدى، والغيّ في مقابله الرّشد، قال تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) [الأعراف: 146] ، وتحقيق الفرق فيه أن الضلال أعمّ استعمالا في المواضع، تقول: ضلّ بعيري ورحلي ولا تقول: غوى، فالمراد من الضلال ألا يجد السالك إلى مقصده طريقا مستقيما. والغواية ألا يكون له إلى القصد طريق مستقيم، ويدل على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السّداد: إن سعيه غير رشيد، ولا تقول: إنه ضال. فالضّالّ كالكافر، والغاوي كالفاسق، فكأنه تعالى قال: (ما ضَلَّ) أي ما كفر، ولا أقل من ذلك، فما فسق، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء: 6] الآية. أو يقال: الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.
ويحتمل أن يكون معنى «ما ضلّ» أي ما جنّ، فإن المجنون ضالّ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى: (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم: 2] الآية. فقوله: (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) [القلم: 3] ، إشارة إلى أنه ما غوى بل هو رشيد مرشد إلى حضرة الله تعالى. وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4] ، إشارة إلى قوله هنا: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم: 3] ، فإن هذا خلق عظيم. وقد أشار قوله تعالى: (ما ضَلَّ) إلى أنه على الطريق، (وَما غَوى) إشارة إلى أنه على الطريق المستقيم (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) إلى أنه مسلك الجادّة، ركب من الطريق، فإنه إذا ركب متنه كان أسرع وصولا إلى المقصد. ويمكن أن يقال: إن قوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) دليل على أنه ما ضلّ وما غوى، وتقديره: كيف يضلّ أو يغوي وهو لا ينطق عن الهوى؟ وإنما يضل من يتبع هواه، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
القرطبي: وقيل ما غوى ما خاب مما طلب قال الشاعر: فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما أي من خاب في طلبه لامه الناس، ثم يجوز أن يكون إخبارا عما بعد الوحي، ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحّدا لله. وهو الصحيح.
السابع: في الكلام على قوله: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى): قال [تعالى] أولا: «ما ضلّ» و «وما غوى» ، بصيغة الماضي، وعبّر هنا بصيغة المستقبل، وهو ترتيب في غاية الحسن، أي ما ضلّ حين اعتزلكم وما تعبدون حين اختلى بنفسه. وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل شاهدا عليكم، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا، والله سبحانه وتعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب، فقال تعالى: ما ضَلَّ في صغره لأنه لا ينطق عن الهوى.
ابن عادل: «فاعل ينطق إما ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر، وإما ضمير القرآن كقوله تعالى: (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) [الجاثية: 29] .
اللباب: قال النحاس: «قول قتادة أولى وتكون» «عن» على بابها أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله تعالى؛ لأن بعده (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم: 4] . وقيل: هو بمعنى الباء، أي ما ينطق بالهوى، أي ما يتكلم بالباطل؛ وذلك أنهم قالوا: إن محمدا يقول من تلقاء نفسه» .
المصباح: الهوى مقصور مصدر هويته من باب تعب إذا أحببته وعلقت به، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها عن الشيء ثم استعمل في ميل مذموم فيقال اتّبع هواه» .
الإمام البيهقي: «وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنه المحبة، لكن من النفس، يقال هويته بمعنى أحببته. والحروف التي في هوي تدل على الدّنوّ والنزول والسقوط ومنه الهاوية، فالنفس إذا كانت دنيّة وتركت المعالي وتعلّقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمّارة بالسوء» .
الشعبي: «إنما سمّي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه» .
وقال بعض الحكماء: «الهوى إله معبود، له شيطان شديد، يخدمه شيطان مريد، فمن عبد أوثانه، وأطاع سلطانه، واتّبع شيطانه، ختم الله تعالى علي قلبه، وحرم الرّشاد من ربّه، فأصبح صريح غيّه، غريق ذنبه. وقال عز من قائل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23] وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص: 50] . وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فالمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والحكم بالعدل في الرضا والغضب، والاقتصاد في الفقر والغنى، والمهلكات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء برأيه». رواه البرّار عن أنس. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله، أعظم عند الله من هوى متّبع». رواه الطبراني عن أبي أمامة.
وقال بعض الحكماء: «الهوى خادع الألباب، صادّ عن الصواب، يخرج صاحبه من الصّحيح إلى المعتلّ، ومن الصريح إلى المختلّ، فهو أعمى يبصر، أصم يسمع» . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حبّك الشيء يعمي ويصم».
وقال آخر: «على قدر بصيرة العقل يرى الإنسان الأشياء، فمن سلم عقله من الهوى يراها على حقيقتها، والنفس الكدرة المتبعة لهواها ترى الأشياء على طبعها.
وقيل كان على خاتم بعض الحكماء: «من غلب هواه على عقله افتضح» .
وقال ابن دريد في مقصورته: وآفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا) اهـ
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (3/ 22-34) باختصار
_________________ مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
|