موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: كلام نفيس للرازي في مشروعية الذكر باسم : { هو }
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة أكتوبر 08, 2021 8:14 am 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 03, 2010 12:20 am
مشاركات: 7603
كلام نفيس للرازي في مشروعية الذكر باسم : { هو } :
ـــــــــــــــــــــ
كلام نفيس للمفسر الرازي صاحب التفسير الكبير ... مقتطف من المجلد 1/17 في تفسير الفاتحة من تفسيره المسمى "مفاتيح الغيب" أو "التفسير الكبير"...
((الفصل التاسع : في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة :
اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة : أنا و أنت و هو. وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا :
- أنا، لأن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه و أعرف المعارف عند كل أحد نفسه، و أوسط هذه الأقسام قولنا :
- أنت، لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضرا فلأجل كونه خطابا للغير يكون دون قوله أنا و لأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضرا يكون أعلى من قوله :
- هو، فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله : أنا و أوسطها : أنت و أدناها : هو. و كلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ :


1. أما لفظ أنا ؛ فقال في أول سورة النحل : " {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا} " [ النحل : 2 ] و في سورة طه : " {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} " [ طه : 14 ]
2. و أما لفظ أنت فقد جاء في قوله : " {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت} " [ الأنبياء : 87 ]
وأما لفظ هو ؛ فقد جاء كثيرا في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله : " {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} " [ البقرة : 163 ] وآخرها في سورة المزمل و هو قوله : " {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا} " [ المزمل : 9 ]
وأما ورود هذه الكلمة مقرونا باسم آخر سوى هذه الأربعة ؛ فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال : " {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} " [ يونس : 90 ] ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه.


إذا عرفت هذا ؛ فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول : أما قوله : لا إله إلا أنا ؛ فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله ؛ لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل وذلك لا يليق إلا بالله - سبحانه - واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله : أنا و تلك المعرفة على التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه و تعالى ؛ لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به لا سيما في حق الحق تعالى فثبت أن قوله لا إله إلا أنا لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى.
و أما الدرجة الثانية و هي قوله : لا إله إلا أنت ؛ فهذا يصح ذكره من العبد ؛ لكن بشرط أن يكون حاضرا لا غائبا : لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس و هذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائبا عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة و أما الدرجة الثالثة و هي قوله : لا إله إلا هو ؛ فهذا يصح من الغائبين.


و اعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب و البعد وكمال التجلي و نقصانه وكل درجة ناقصة من درجات الحضور ؛ فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة و لما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات و النقصانات غير متناهية فكانت درجات الحضور و الغيبة غير متناهية فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب و بالعكس و عن هذا قال الشاعر :
( أيا غائبا حاضرا في الفؤاد سلام على الغائب الحاضر )



و يحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين : قل لا إله إلا الله فقال :
( كل بيت أنت حاضره غير محتاج إلى السرج )


( وجهك المأمول حجتنا

يوم تأتي الناس بالحجج )



و اعلم أن لفظ هو فيه أسرار عجيبة و أحوال عالية فبعضها يمكن شرحه و تقريره و بيانه و بعضها لا يمكن.
قال مصنف الكتاب (الإمام فخر الدين الرازي) :
و أنا بتوفيق الله كتبت أسرارا لطيفة إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة و السعادة عند ذكر كلمة هو أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيرا فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيرا عجيبا في القلب لا يصل البيان إليه و لا ينتهي الشرح إليه فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول : فيه أسرار :
الفائدة الأولى :
أن الرجل إذا قال : يا هو فكأنه يقول : من أنا حتى أعرفك و من أنا حتى أكون مخاطبا لك و ما للتراب و رب الأرباب و أي مناسبة بين المتولد عن النطفة و الدم و بين الموصوف بالأزلية و القدم ؟ فأنت أعلى من جميع المناسبات و أنت مقدس عن علائق العقول و الخيالات فلهذا السبب خاطبه العبد بخطاب الغائبين ؛ فقال : يا هو.


الفائدة الثانية :
أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة و العدم ؛ ففيه أيضا دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى ؛ فهو محض العدم ؛ لأن القائل إذا قال : يا هو فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا هو صالحا لهما جميعا فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله : هو فلما قال يا هو ؛ فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض و نفي صرف كما قال تعالى : " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : 88 ] و هذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال و لا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله : يا هو.


الفائدة الثالثة :
أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقا في معرفة الله تعالى ؛ لأنه إذا قال : يا رحمن ؛ فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها ؛ فيكون طالبا للحصة و كذلك إذا قال : يا كريم يا محسن يا غفار يا وهاب يا فتاح وإذا قال : يا ملك ؛ فحينئذ يتذكر ملكه و ملكوته و ما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئا منها و قس عليه سائر الأسماء أما إذا قال : يا هو ؛ فإنه يعرف أنه هو و هذا الذكر لا يدل على شيء غيره البتة فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره و لا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله و هناك يحصل في قلبه النور التام و الكشف الكامل.


الفائدة الرابعة :
أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق إما صفات الجلال و إما صفات الإكرام أما صفات الجلال ؛ فهي قولنا ليس بجسم و لا بجوهر و لا عرض و لا في المكان و لا في المحل و هذا فيه دقيقة ؛ لأن من خاطب السلطان فقال : أنت لست أعمى و لست أصم و لست كذا و لا كذا و يعد أنواع المعايب و النقصانات ؛ فإنه يستوجب الزجر و الحجر و التأديب و يقال : إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب و أما صفات الإكرام ؛ فهي كونه خالقا للمخلوقات مرتبا لها على النظم الأكمل وهذا أيضا فيه دقيقة من وجهين : الأول لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها فإذا شرحنا نعوت كمال الله و صفات جلاله بكونه خالقا لهذه المخلوقات ؛ فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح و البيان لكمال جلال الخالق و ذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالي بطريق في غاية الخسة و الدناءة و ذلك سوء أدب و الثاني : أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء ؛ فإنه يستوجب الزجر والحجر و معلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا فإذا كان ذلك سوء أدب ؛ فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله و ثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات إلا أن ههنا سببا يرخص في ذكر هذه المدائح وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس و الخيال ؛ فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة و لا سبيل له إلى معرفة كمال الله و جلاله إلا بهذين الطريقين أعني : ذكر صفات الجلال و صفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس و تألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة ؛ فعند ذلك يتنبه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة و عند ذلك يترك تلك الأذكار و يقول : يا هو كأن العبد يقول : أُجِلُّ حضرتك أن أمدحك و أثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك فإن كمالك أعلى و جلالك أعظم بل لا أمدحك و لا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي و لا أخاطبك أيضا بلفظة أنت ؛ لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح : إني قد بلغت مبلغا صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود ؛ و لكني لا أزيد على قولي : هو ؛ ليكون إقرارا بأنه هو الممدوح لذاته بذاته و يكون إقرارا بأن حضرته أعلى و أجل من أن يناسبه حضور المخلوقات فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي و المكاشفات. فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار.



الفائدة الخامسة :
أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله و الشوق إلى الله ألذ المقامات و أكثرها بهجة وسعادة إنما قلنا : أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله ؛ و ذلك لأن كلمة هو ضمير الغائب إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان و الجهة و إنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث و الإمكان و معيوب بعيب الكون في إحاطة المكان و الزمان فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة و علم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات و المحدثات ؛ فعند هذا يعلم أن كل المحدثات و الإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه و تعالى و عرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان و الكمال و الحاجة و الاستغناء فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحدثات و اعتقد أن تصوره غائب عن العقل و الفكر و الذكر فصارت تلك الكمالات مشعورا بها من وجه دون وجه و الشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها و مراتبها و إذا كان لا نهاية لتلك المراتب و الدرجات ؛ فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق و كلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان أسهل ؛ كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل فثبت أن لفظ هو يفيد الشوق إلى الله تعالى و إنما قلنا : إن الشوق إلى الله أعظم المقامات ؛ وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة ؛ لأن بقدر ما يصل يلتذ و بقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم و الشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ و الابتهاج و السرور، و ذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة هو تورث الشوق إلى الله تعالى و ثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات و أكثرها بهجة و سعادة ؛ فيلزم أن يقال : المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات.


الفائدة السادسة :
في شرح جلالة هذا الذكر : واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين : المقدمة الأولى : أن العلم على قسمين : تصور و تصديق. أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم البتة لا بحكم وجودي و لا بحكم عدمي ؛ و أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة، ثم إن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه. إذا عرفت هذا فنقول : التصور مقام التوحيد و أما التصديق فإنه مقام التكثير.
المقدمة الثانية : أن التصور على قسمين : تصور يتمكن العقل من التصرف فيه و تصور لا يمكنه التصرف فيه : أما القسم الأول فهو تصور الماهيات المركبة فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب و هذا التصرف عمل و فكر و تصرف من بعض الوجوه و أما القسم الثاني فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملا يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور و أن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق، و ثبت أيضا أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد و البعد عن الكثرة و إذا عرفت هذا فنقول : قولنا في الحق سبحانه و تعالى يا هو هذا تصور محض خال عن التصديق ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب و الكثرة فكان قولنا يا هو نهاية في التوحيد و البعد عن الكثرة و هو أعظم المقامات.


الفائدة السابعة :
أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه أو بالأجزاء الداخلة فيه أو بالأمور الخارجة عنه أما القسم الأول - وهو تعريفه بنفسه - فهو محال ؛ لأن المعرف سابق على المعرف فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به وذلك محال و أما القسم الثاني – و هو تعريفه بالأمور الداخلة فيه - فهذا في حق الحق محال ؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة و ذلك في حق الحق محال و أما القسم الثالث – و هو تعريفه بالأمور الخارجة عنه - فهذا أيضا باطل محال ؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئا من أحوال القديم الواجب لذاته ؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة و بهويته المعينة لكل ما سواه و لما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى و حقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة و ماهيته المعينة فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة و هو أن يوجه الإنسان حدقة عقله و روحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور فقول الذاكر يا هو توجيه لحدقة العقل و الروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.



الفائدة الثامنة :
أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب و السلطان القاهر و وقف بعقله على كمال تلك المهابة و على جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة و تلك السلطة فيصير غافلا عن كل ما سواه حتى إنه ربما كان جائعا فينسى جوعه و ربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة و ربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة و لا يعرفهما وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره فكذلك العبد إذا قال يا هو و تجلى لعقله و روحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة و على روحه الحيرة و على فكره الغفلة فيصير غائبا عن كل ما سوى تلك الهوية معزولا عن الالتفات إلى شيء سواها و حينئذ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله هو و بلسانه هو فإذا قال العبد هو و واظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها.


الفائدة التاسعة :
من فوائد هذا الذكر العالي : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من جعل همومه هما واحدا كفاه الله هموم الدنيا والآخرة فكأن العبد يقول : همومي في الدنيا و الآخرة غير متناهية و الحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية و رحمة غير متناهية و حكمة غير متناهية فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات و على تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه و تعالى فأنا أجعل همي مشغولا بذكره فقط و لساني مشغولا بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة. انتهى كلام الإمام الرازي رحمه الله


الفائدة العاشرة :
أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولا عن غيره فكأن العبد يقول : كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره فإذا كان هذا لازما فالأولى أن أجعل قلبي و فكري مشغولا بمعرفة أشرف المعلومات و أجعل لساني مشغولا بذكر أشرف المذكورات ؛ فلهذا السبب أواظب على قوله يا هو.


الفائدة الحادية عشرة :
أن الذكر أشرف المقامات، قال صلى الله عليه و سلم، حكاية عن الله تعالى : "...فإذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي و إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه". و إذا ثبت هذا فنقول : أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". إذا عرفت هذه المقدمة فنقول :
العبد فقير محتاج ؛ و الفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب و السؤال كان ذلك محمولا على السؤال فإذا قال الفقير للغني يا كريم كان معناه أكرم و إذ قال له يا نفاع كان معناه طلب النفع و إذا قال يا رحمن كان معناه ارحم فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال و قد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا عن السؤال والطلب أما إذا قال يا هو كان معناه خاليا عن الإشعار بالسؤال والطلب فوجب أن يكون قولنا هو أعظم الأذكار.

و لنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب : "يا هو يا من لا هو إلا هو يا من لا إله إلا هو يا أزلي يا أبدي يا دهري يا ديهار يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت".


و من لطائف هذا الفصل أن الشيخ أبا حامد الغزالي رحمة الله عليه كان يقول : "لا إله إلا الله" توحيد العوام و "لا إله إلا هو" توحيد الخواص و لقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان أما القرآن فإنه تعالى قال : " {ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو} " [ القصص : 88 ] ثم قال بعده " {كل شيء هالك إلا وجهه} " [ القصص : 88 ] معناه إلا هو فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة وأما البرهان فهو أن من الناس من قال إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها فقلت فالوجود أيضا ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول : تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل وإن كانت مفهوما مغايرا فذلك المفهوم المغاير لا بد وأن يكون له ماهية وحينئذ يعود الكلام فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر وينفي الصنع والصانع بالكلية وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت وعند هذا يظهر صدق قولنا لا هو إلا هو أي : لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره و تخصيصه فثبت أنه لا هو إلا هو )) اهـ .
و الله أعلم... )
ــــــــــــــــــــــــــــــ
التفسير الكبير / الفخر الرازي
ـــــــــــــــــ
اللهم صل على سيدنا محمد النور وآله وسلم

_________________
صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ مشاركة واحده ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 5 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط