اشترك في: الثلاثاء يناير 06, 2009 4:44 pm مشاركات: 6520
|
|
المقال الثانى فى 5 شعبان سنة 1353 -12 نوفمبر سنة 1934
بينا للقارىء فى العدد السابق مثلا عليا من حال الدعوة الاسلامية إبان نهضتها ، مما جعل القوم يدخلون فى الاسلام فخلقوا خلقا جديدا ، ونقلوا من البداوة الجافة الثائرة غلى الحضارة الناعمة الهادئة ، فلم يدخلوه ملجئين ولكن طائعين منصفين ، مدركين فرق ما كانوا عليه من الغى والضلال ، بعد أن غير عليهم عهد فشت فيه الفوضى وساد الفساد فى جميع مناحى حياتهم وما ذلك إلا بفضل ما آتاهم به هذا الدين القيم الذى لا عوج فيه ولا شططا ، ولم يدفعهم إلى الدخول فيه إذ ذاك رغبة فى جاه ، ولا تشوف غلى ارتقاء منصب ولا توقع ثروة ولا فقر مدقع فان السواد الأعظم منهم كانوا أوسع ثروة وأعظم جاها ، وأعز منصبا وأوقى عصبية قد تيسرت لهم اسباب العيش ومقومات الحياة – وكانوا مع ذلك أنقذ كلمة فى ذلك الفرد الذى تسامى على كل الأفراد ، والداعى الذى خضعت لدعوته أرباب دعاة الإصلاح ، فأطاعوه واتبعوا شرعه ومنهاجه واحتملوا الأذى فى تأييده ( هو الذى أيدك بنصره وبالمؤمنين ) وبذلك عمرت جزيرتهم وأقيمت لهم دولة ، أية دولة ؟ دولة دانت لها الأ كاسرة والقياصرة – دولة دالت دونها دول أتاها الله مالم يؤت أحد من العالمين قواعدها الحرية والمساواة والعدل ، دستورها الذى قامت دعائمها على اسسه ( القرآن ) كلام الله الحكيم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . فأجاب هذه الدعوة التى تكفلت بخيرى الدنيا والآخرة ، فريق قليل العدد وسيط المكانة فى المجتمع القرشى هلما أن جهر النبى صلى الله عليه وسلم بالدعوة فى ملأ قريش رأوها دعوة صريحة لا موارية فيها ولا هوادة ، فوقف القوم موقفا سلبيا محضا ، ولكن هذا الموقف ما كان ليروع تلك النفس الطاهرة ، والذات الرائعة التى تجيش غيمانا بربها لأنها آوت الى ركن شديد فكان النشاط والفصاحة ومضى العزم وصدق العزيمة مجتمعة فى نفس النبى صلى الله عليه وسلم فما أوهن ذلك عزمه وكان من جراء ذلك أن نهض الله له عاثر الآمال واخضر عود الرجاء وأفشه ضباب اليأس وانقشع سواد ذلك الظلام الحالك وأشرقت الأرض بنور ربها – فهل لدعاة الإصلاح أن يسيروا على ضوء هذا الهدى ليكون الأثرر دعوتهم صداها فى الجمعية البشرية وليكون لهم فى رسول الله اسوة ؟ ليست هذه الغاية بعيدة المنال فلما وجدت قريش نفسها بازاء رجل لا كالرجال وجاع لا كالدعاة ، لأنه راع قوى العزيمة لم تهزه رياح تلك العواصف ولا حركته تيار تلك الأبحرة رجل كامل الايمان ، الصير والثبات رائده ، فأخذت ثناوئه تارة وتسخر به أطوارا والله سبحانه وتعالى قد ابى إلا أن يرفع قوائم عزه فلم يقوض سرادق مجده ولم تتقلس ظل أمانيه لأنه لم ين رجاءه على شفير هار – فلما أن ناصيته العداء وجاهرت به وأحتشدات جموعهم على ان يفتنوا أصحابه لتتقوض حصون آماله وينضب ضحضاح رجائه ( وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون ) أمر المسلمين أن يهاجروا شفقة منه على إيذائهم فهاجر من هاجر منهم وبقى النبى صل الله عليه وسلم وحده يستنشى نسيم الأمل ويتتبع ، رائد النجح ويرصد برق الآمال ويشيم مخايل الرجاء على إدراك مبتغاه – صار يخرج فى الأسواق فيعرض نفسه على القبائل ويعظهم بما وقر فى صدره من نور الدعوة إلى الإسلام ونعما يعظهم به لأنه عزيز عليه أن يحيدوا عن الهدى ، حريص عليه أن يستقيموا ويهتدوا ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم ) لما كان منه صل الله عليه وسلم ذلك – جاءه رؤساء الأوس لما أن جاءوا إلى مكة ليحالفوا قريشا على الخزرج فقال لهم ذلك النبى الأمى – أجل .. أمى : ولكن فصح أعجز العظماء بعذوبة حديثه فصاروا بفصاحته وبراعته خاضعى الرقاب بلغ ، بهر العرب كلامه الذى برء من الكلفة وجل عن الصنعة – فما أفعله للنفس وما أملكه للحس – قال لهم هل لكم من خير مما جئتم له ؟ قالوا وماذاك ، قال : أن تؤمنوا بالله وحده ولا تشركوا به شيئا ، ثم تلا عليهم القرآن ، ذلك النور الخالد الذى ملئت به أقطار السموات وفجاج الأرضين وعمرت به قلوب من شاء الله من المؤمنين – فما كاد يصل إلى مسامعهم حتى آمن سوادهم فثارت ثائرة قريش ولسنا فى حاجة أن نذكر الأسباب فى مسارعة الأوس والخزرج إلى قبول الدعوة ومبايعة الرسول على الدفاع عنه ومما جاء به من الحق ومحالفتهم إياه – إذ يحول دون ما نريد ضيق المجال وكل ما يمكن ان نقوله : وهل يستوى ضلال قوم تسفهوا عمى – وهداة يهتدون بمهتد ؟ محال : بعد ذلك لبث النبى صل الله عليه وسلم ما شاء الله أن يلبث ثم اقتضت الحكمة أن يهاجر النبى من مكة مواطنه الذى انبثق منه ذلك النور الذى أضاءت له أرجاء العالم ( إلى المدينة ) التى كانت إذ ذاك مضطربة اشد الاضطراب قد ذابت لفائف قلوب أهلها هلعا ولعجت أفتدتهم وأرمضت جوانحهم وأقضت مضاجعهم وكان الخطب أن يتقافك لولا مقدمه ، فقدم وقد استقبلوه وهم يميدون من الطرب ويسحبون أذيال الغبطة وقد تفانوا فى نصرته وتعزيزه فأبدل الله استكانتهم عزا .
|
|