وهي سلسلة مقالات كتبها فضيلة الأستاذ الدكتور / محمد عبد الفضيل القوصي - عليه رحمة الله - وزير الأوقاف الأسبق ونائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق.وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة.*
من يتأمل النقاش الناشب بين المهتمين بقضية السلفية والفكر السلفي تعتريه الدهشة حين يلحظ أن صورة السلف الحقيقية التي احتفظت بها ذاكرة الأمة ، - والتي هي مدار القضية - قد أصابها التجريف والتشويه من كلا طرفيها ، كل على طريقته ، ولكل وجهة هو موليها.
لقد أضحى مفهوم السلف عند أحد طرفيها - وهو الطرف المتدثر بعباءة التنوير والحداثة - تعبيرًا شائعًا عن تكريس أفضلية المتقدم على المتأخر؛ لمجرد السبق الزمني ، وتعبيرًا - أيضًا -عن ترسيخ قيمة التقليد ، وغلق أبواب الاجتهاد ، ومحاصرة لروح الإبداع والابتكار في جميع المجالات - الدينية منها وغير الدينية - بل أصبح مفهوم السلف لديهم هو المسئول عن انعدام الحراك الاجتماعي ، وتجمد الحراك السياسي !! إلخ.
أما مفهوم السلف عند الطرف المقابل ، المتدثر بعباءة التجمد عند ظواهر النصوص الدينية - فقد أضحى مرادفًا لتعطيل نشاط العقل أو النفور منه ، وتوسيعًا لدائرة التحريم ، وتركيزًا على الأشكال والمظاهر إلى غير ذلك من مظاهر التصحر العقلي ، والتحجر الفكري.
نود في هذا الصدد أن نطرح على نحو مجمل عدة ركائز رئيسة في هذه القضية ، ذات الأطراف المتشابكة :
لا جدال في أن القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الأمة الإسلامية هي خير القرون كما يقرر الحديث النبوي الكريم ، لكن الصحابة الأجلاء لم يظفروا بتلك الخيرية لمجرد السبق الزمني ، أو تقادم العهد ؛ بل لأنهم السابقون بالخيرات ، ولأنهم الذين تلقوا الوحي غضاً طرياً من فيه صلى الله عليه وسلم ، فآمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.
ولأنهم الذين جاهدوا وصبروا وقاتلوا وقُتِلُوا، فالمعيار الإيماني والأخلاقي هو مصدر الخيرية ، وليس الفضل للمتقدم ، فقد يكون الفضل للمتأخر ، حين يسبق به جهده وعمله.
ثانياً : إن تلك الثلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وهم السلف - بحق - لم يكونوا نماذج متكررة ، متشابهة الصفات ، متماثلة السمات ، بل كانوا يختلفون ويتفقون ، ويجتهدون في فهم النصوص وتنزيلها على واقع الحياة ، ثم ينظر بعضهم في أقوال بعض ، ويتعقب بعضهم أقوال بعض ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة ، لكن اجتهاداتهم ونظراتهم - على اختلافها - لم تكن صادرة عن الميل والهوى ، بل كانت اجتهادات منضبطة بالفهم العميق للكتاب والسنة ، لا تنقض للإسلام عروة ، ولا تعود على الأصل بالنقض كما يقول الأصوليون ، وهاهنا يكون حق الاجتهاد مكفولًا ، وحق الاختلاف متاحًا ومفتوحًا.
فاجتهادات السلف واختلافاتهُم إذن لم تكن البتة نقضاً للثوابت أو اختراقاً للأصول.
ثالثاً : لئن كان هذا حال من يسمون بحق السلف ، فقد أتى بعدئذ على الناس حين من الدهر اصطنع فيه البعض لافتة براقة هي "السلفية" ادعى بها أصحابُها أنهم وحدهم - ودون سواهم - ورثة السلف، وأنهم -دون سواهم- المنتسبون إليهم، فقصروا وراثة السلف على اتجاه أحادي بعينه.
ثم تخيروا من الآراء والمقالات ما خيل إليهم أنه وحده رأي السلف ، وأنه الحق كل الحق ، أما غيره فهو الباطل كل الباطل ، أو البدعي - خالص البدعية ، وامتد نطاق تلك الأحادية الحادة من العقائد إلى العبادات ، إلى المعاملات ، والتصرفات الحياتية التي تحفل بها دنيا الناس ، وذلك كله من خلال منهج مصمت يتجمد عند ظواهر النصوص ، ويعطل نشاط العقل ، ويلغي وظيفة اللغة بحقيقتها ومجازها وتأويلاتها القريبة والبعيدة في فهم القرآن الكريم والسنة المطهرة، في غفلة عن أن من يهمل "مجازات القرآن الكريم ، فقد أهمل شطر الحسن فيه" كما قال بعض المتقدمين بحق.
بل في غفلة أيضاً عن أن السلف أنفسهم لم يتجمدوا على رأي واحد ، وإنما كانوا يتمتعون بضرب من السماحة العقلية التي تتيح لبعضهم أن يصوب رأي الآخر، ويتعقبه، ويختلف معه ، بل كان ذلك يحدث بمحضر منه صلى الله عليه وسلم.
رابعاً : ولئن كان موقف (السلف) الأصيل - بحق - بريئًا من التصلب والانغلاق والأحادية، فإن بعض العلمانيين يجعل الفكر السلفي برمته - دون تفرقة بين اتجاه السلف الرحب المنفتح ، وبين من ادعوه واحتكروه تحت اسم "السلفية" مسئولًا عن محاصرة روح الإبداع والابتكار ، ومسئولًا أيضًا عن جمود الحراك الاجتماعي والسياسي ، ثم يلقي بسائر تبعات التخلف التي تعاني منها الأمة على كتفي الفكر السلفي وحده دون سواه .
ترى : هل غابت عن هؤلاء تلك الروح الإبداعية التي أنتجت حضارة الإسلام العلمية والعملية خلال القرون الثلاثة الأولى حيث كانت آراء السلف فيها ملء العيون والأسماع والعقول؟!
هل غابت عن الذاكرة تلك الروح الإبداعية التي جسدتها مدرسة الرأي في كيان الفكر الإسلامي على يدي الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان (80هـ - 150هـ) وهو في طليعة السلف علمًا وهداية؟!
ثم أقول أخيراً : لعل تلك الوقفات الموجزة تسهم في إزالة الغبار عن وجه طائفة السلف ، التي لحقها التشويه والافتراء سواء ممن ادعوها واحتكروها، أو ممن أنكروا صفاءها ونقاءها، وهي من كل ذلك براء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة الأهرام : 16 / 10 / 2009م.