السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إسمحوا لى إخوانى بهذه المشاركة وهى بخصوص مصدر الفتوى
وهى كما تظهر لكم
فى آخر الصفحة المنشودة فى السؤال الرابع
http://www.shankeety.net/Alfajr01Beta/i ... =315&query
[web]http://www.shankeety.net/Alfajr01Beta/index.php?module=Publisher§ion=Topics&action=ViewTopic&topicId=315&query[/web]
دروس عمدة الفقه
توجيهات لطلاب العلم ومقدمة المصنف-رحمه الله ( لم يراجع من قبل الشيخ )
توجيهات لطلاب العلم ومقدمة المصنف-رحمه الله ( لم يراجع من قبل الشيخ )
باب الطهارة
P
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الدرس - إن شاء الله - سيكون في علم الفقـه ، وهذا العلم من أهم العلوم وأحبها إلى الله-I- ، إذ به يعرف العبد الحلال والحرام فيعبد الله-I- على بصيرة ، فما كان من أمرٍ أحله الله له عمل به ، وما كان من أمرٍ حرمه عليه اجتنبه واتقاه ، فأصاب الخير في دينه ودنيـاه وآخرته ، ولذلك قال-r- في الحديث الصحيح : (( من يرد اللهُ به خيراً يفقه في الدين )) ، فالفقه في الدين والمعرفة بشرع رب العالمين نعمةٌ من أجل النعم لايعطيها الله-I- ولايجعلها تامة كاملة إلا لخاصة أوليائه المتقين من العلماء العاملين الأئمة المهتدين ، ولذلك سُدت ثغور الإسلام وعرف الناسُ الحلال والحرام بفضل الله أولاً وآخراً ثم بفضل العلماء الأئمة الفقهاء ، الذين علموا ودرسوا وأفتـوا وقضوا فكانوا يقضون بالحق وبه يعدلون .
فما أحوج الأمة في كل زمان ومكان إلى من يسد هذا الثغر تعلماً وعملاً ودعوةً وإرشاداً وتعليماً للناس ، ولذلك نص العلماء-رحمهم الله- على أنه ينبغي أن يكون في كل زمان ومكان من يضبط مسائل الفقه حتى يُعلمَ الناس ويوجههم ، وأمر الله-تعالى- وندب عباده أن ينفـر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ، وكان لأصحاب رسول الله-r- في ذلك أوفر الحظ والنصيب ، فهم أئمة الأمة وفقهاؤها بعد نبيها-عليه الصلاة والسلام- ، فقد أمرهم النبي-r- أن يتعلموا الحـلال والحرام وأن يعلموا الشريعة والأحكام ، حتى في المناسك وفي العبادات كان يقول في الصلاة : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ، وقال لمالك بن حويرث وصاحبه حينما هاجر إلى رسول الله-r- ونظر إلى صفة الصـلاة قال له : (( صل صـلاة كـذا وقت كذا وكذا )) ثم قال له : (( وارجعوا إلى أهليكم فعلموهم وصلوا كما رأيتموني أصلي )) .
وكذلك أمر بأخذ هذا العلم المبارك وتبليغه للأمة في حجة الوداع حينما قال : (( أيها الناس خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ، فاستخلف على الأمــة عدولها من أصحابه-رضي الله عنهم وأرضاهم- ، واختارهم معلمين فقهاء مؤتمنين على الشرع والدين والحكم المبين .
فلذلك حري بكل طالب علم أن يستشعر فضـل هذا العلم ، وانظر-رحمك الله- حينما تكون عالماً بالحلال والحرام ، تعلمُ كيف تصلي وكيف تزكي وكيف تصوم وكيف تحج وكيف تتبع هدي رسول الله-r- في جميع ذلك ، وكيف يعصمك الله بفضله من وساوس الشيطان ودخل الشيطان حينما يشكك في العبادة ويجعل الإنسان في لبس من دينه وطاعته لربه ، وكذلك انظر إلى عظيم انتفاع الأمة بعلمك إذا أفتيت وعلمت وقمت على نور على صراط مستقيم تهتدي بنور مبين من رب العالمين في كتاب الله وسنة رسول الله-r- ، فتبين للناس المحجة وتقيم على عباد الله الحجة ، فتكون إماماً من أئمة الـدين ، ولكن كل ذلك لايكون ولن يكون إلا بفضل الله أولاً وآخراً ، فيسأل طالب العلم ربه أن يرزقه الفقه في الدين ، وأن يجعله عالماً بحلاله ، عالماً بحرامه ، متبعـاً لشريعته ونظامه .
ثانياً : أن يأخذ بالأسباب التي أساسها وعمادها وروحها ولبُها الإخلاص لله-جل وعلا- ، فـلا تجلس في مجلس علمٍ سواءً كان من الفقه أو غيره إلا وأنت ترجو رحمـة الله وتريد علماً يقربك إلى الله ويدنيك من رحمة الله وتفوز به بعظيم الدرجات والثواب من الله ، فأول مفتاح للعلم الإخلاص .
ثالثاً : أن تحرص على تلقي هذا العلم عن العلماء المؤتمنين على السنة والدين ، فإن هذا العلم سلاح ذو حدين فإذا أخذه طالب العلم من أهله واستنار بنوره واهتدى بهدي أئمته نال الخير والبركة من الله-I- ، ونفع الله به كما نفع بأسلافه من العلماء الذين أخذ عنهم ، وأما إذا أخـذ هذا الفقه والعلم عن كل من هب ودب ، وأصبح يخبط خبط عشواء دون أن يجد عن من يأخذ منه أهليةٌ تؤهله لهذا العلم فإنه لايبعد أن يكون له نصيب من أن يقع فيمن وصف النبي-r- من أئمة الضلال فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناسُ رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا )) ، فواجب على من يطلب الفقه ويتعلم الفقه أن يأخذ هذا الفقه بالسند المتصل عن الأئمة العدول الذين هم أهل لهذا العلم ، وأهل أن يُرجع إليهم في التعليم والتدريس والفتوى والقضاء .
رابعاً : مما يُوصى به طالبُ العلم في بداية قراءة هذا العلم المبارك، أن هذا العلم يحتاج إلى تعب وعناء ، وهو أعظم العلوم بعد علم العقيدة الذي هو أساس الدين ، فعلم الحلال والحـرام يزداد به العبد إيماناً بالله وثقةً بالله-I- ، وهذا يستلزم منه أن يضبط هذا العلم ، فإن الأحكام تبليغ عن الله-U- ، وليعلم كل إنسان أن أي مسألةٍ فقهيـة وأي مسألةٍ شرعية إذا أراد أن يتكلم فيها فلعلم أنه يتكلم عن الله ورسوله-r- ، فيكون على بينة وأنه سيُوقف بين يدي الله ويُسأل عن هذا الأمر الذي أفتى به في دين الله وشرع الله ، وهذا ما عناه الإمام عبدالله بن مسعود-t وأرضاه- حينما كان يقول : حق على من أفتى أن يقيم نفسه بين الجنة والنار فينظر منـزلته فيهما ، يعني منـزلته إن أصاب وقال بالكتاب والسُّنة ومنـزلته إذا أخطأ فقال على الله بدون علم-نسأل الله السلامة والعافية- فالحلال والحرام أمرٌ عظيم ، جثى العلماء على الركب ورجفت قلوبهم من الله-جل وعلا- خشيةً وهيبةً لمسألة من المسائل ونازلة من النوازل .
فمن أراد أن يطلب الفقه فليعظمه وليخف من الله-I- حتى كان السبعون من أئمة الصحابة يطوف السائل عليهم فيرجع إلى أولهم كل واحدٍ منهم يود أن أخاه قد كفاه المؤنة والفتوى ، فحري بطالب العلم وهو يبتدئ طلب هذا العلم أن يستشعر عظمة هذا العلم ، عظمته بالخـوف –كما ذكرنا- والرجاء ، فإنك لو أفتيت بالمسألة فسمعها السائل نفست كربه ، وما أعظـم الكرب إذا كان من الدين ، فتنفس كربه بإذن الله-U- .
ثانياً : لن تقول قولاً بحكم الله-U- فيعمل به أحد إلا كان لك مثل أجره ، فإن علمه الغير أو دعا إليه الغير كان في ميزان حسناتك .
فهذه الفضائل والعطايا والنوائل لاتكون إلا للمجدين المثابرين الحريصين على ضبط شرع رب العالمين ، ولذلك ما وجـدنا أحداً من أئمة السلف ودواوين العلم-رحمهم الله- تعب وجد ونصب في طلب العلم وضبطه خاصة الفقـه إلا سطـع نوره وأشرق ضياؤه على النـاس فانتفعت به الأمة ووضع الله له قدم الصدق وحسن الثناء والثقـة بقوله والثقـة بفتواه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
ودرجت عادة السلف الصالح-رحمهم الله- والأئمة أن هذا العلم له أناسٌ مبرَّزون به ، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- إذا سُئلت عن المسألة من السُّنة في سفر رسول الله-r- أحالت إلى عبدالله بن عمر وكان بن عمر والصحابة بل عمر بن الخطاب الخليفة الراشد إذا نزلت به النازلة من شأن رسول الله-r- في أهله وبيته أحال إلى أم المؤمنين عائشـة-رضي الله عنها- ، وكان الصحابة يحفظون حق الفقهاء ويحفظون حق العلماء الضابطين لهذا العلم حتى إن عمر بن الخطاب-t- لما أتاه أهل الكوفة يسألونه عن مسألة من المسائل ، قال -t وأرضاه- : أتسألونني وفيكم صاحب السُّوادين والنعلين ، يعني عبـدالله بن مسعود-t وأرضاه- ، أتسألونني وعندكم هذا العالم الجليل الذي كان صاحب السوادين والنعلـين ، كان صاحب سر رسول الله-r- ونجواه ، ويحمل حذاء رسول الله-r- فشهد له أنه من أقرب الناس إلى رسول الله-r- ، ولما رأه علي بن أبي طالب -t- قال : كُنيفٌ ملئ علماً.
فكان الصحابة يحفظون للفقهاء حقهم وقدرهم ، لايسخرون منهم ، ولاينتقصونهم ، ولايستهجنون آراءهم ، وإنما يجعلون آراءهم في مكانها وأقوالهم في منـزلتها إذا بُنيت على كتاب الله وسنة رسول الله-r- ، وهذا هو هدي السلف الصالح ، لأن تعظيم الفقه تعظيم لشعائر الله ، ومن سد ثغور الأمة أمة محمد-r- في علم الحلال والحرام فخليقٌ أن يدعى له بخير ، فطالب العلم يستشعر فضل هذا العلم قبل أن يأخذه وقبل أن يتعلمه .
كذلك - أيضاً - مما ينبغي أن يُوصى به طالب العلم في قراءته لهذا العلم وفي كل علم أن يحرص على اتباع الكتاب والسُّنة فإنه لافقه إلا بكتاب الله وسنة النبي-r- ، ولذلك بين الله-تبارك وتعالى- أنه هو الذي يفتح وهو الذي يهب العلم كما قال-I- في قصة داود وسليمان : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فقال : { فَفَهَّمْنَاهَا } فالله وحـده هو الذي يفهم وهو الذي يُعلم ، فثق ثقةً تامة أنه لافقه إلا بنور الكتاب والسُّنة ، والفقه الذي يبنى على كتاب الله وسنة النبي-r- فقه مبارك ، لأن الله شهد لكتابه بالبركة ، فمن تعلم علم الفقه من كتاب الله وسنة النبي-r- فإنه حري أن يُباركَ له في فقهه وعلمه .
كذلك السُّنة فإن النبي-r- جعل الله سنته بياناً لكتابه تخصص عمومه وتقيد إطلاقه وتبين إجماله ، ففيها الخير العظيم والنفع العميم ، فمن استهدى بنور الكتاب والسُّنة كان على حق وبصيرة ، فيثبت الله قدمه .
وعلى المسلم دائماً أن يتحرى الدليل ، والظن بالعلماء والأئمة أن لا يُفتوا الناس إلا بكتاب الله وسنة النبي-r- ، ولكن ينبغي أن يُفهم كتاب الله وسنة النبي الله-r- من خلال فهم السلف الصالح-رحمهم الله- ، فهم الذين شهدوا مشاهد التنـزيل ، وسمعوا ما كان من النبي-r- من قول وقيل ، ففهموا وتعلموا وفقهوا ، فمن أخذ هذا الفهم عن أصحاب رسول الله-r- والتابعين لهم بإحسان الذين ساروا على نهجهم فإنه على فقه صحيح وفهم سليم ، وحري به أن يبلغ الدرجات العلى في علمه وعمله .
تعريف بالكتاب ومؤلفه :
هذا الكتاب كتاب عمدة الفقه كتاب مختصر ، ومن عادة العلماء-رحمهم الله- في علم الفقـه أن يجعلوا الفقه على مراتب ، ففيها المتون المختصرة ، ويضعون لهذه المتون شروحاً ، ثم يضعون للشروح حواشٍ يتوسعون فيها ، وتكون بمثابة المطولات في الفقه ، ثم هذه المتون تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : قسم منها متون نثرية .
والقسم الثاني : وقسم منها متون شعرية منظومـة.
والمتون الفقهية التي تكون نثرية مثل كتابنا ، لها ميزة وهي : الوضوح ، وعدم وجود الزوائد التي يضطر إليها الشاعر في النظم فإنه يزيد حشواً ، ويزيد أموراً من باب تتمة البيت أو مراعاة القافية ، ولكن في النثر تجد المتن قد صيغ بعبارة واضحـة مختصرة دالة على المقصود.
ولا يمكن لأحد أن يتصدر لعلم متون الفقه ، أو يُبرَّز في وضع المتون الفقهية إلا إذا كان إماماً في علمه ومذهبه ، فقد كان أئمة السلف والعلماء القدماء لايمكن أن يؤلف بينهم إلا من كان أهلاً للتأليف .
ثانياً : أن تكون عنده القدرة على إيصال المعلومة مع الوضوح وعدم وجـود اللبس في العبـارة ، ولذلك تجدها متوناً معقدة دقيقة كل ذلك خشية دخول الفهم الخاطئ أو الالتباس في المعاني ، فهذه عصارة فهم العلماء وجهد الأئمة الأعلام ، ومنهم من حصل ذلك بفضل الله-U- ثم من خلال القراءة المتكررة على العلماء ، وممن جمع الله له في الفقـه بين علم النظرية وعلم التطبيق ، فأقوى ما يكون الفقيه إذا جمع الله له بين علم التدريس للفقه وبين القضاء والفُتيـا ، فهذه الثلاثة الأشيـاء إذا اجتمعت في عالم وصاغ الفقه فإنه يصوغه بقوة إذا رزقه الله -U- حسن الأسلوب ودقته.
فالشاهد : أن إمامنا الإمام الموفق أبو عبدالله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي ، وهو شيخ الإسلام ، الإمام العالم العامل الزاهد كان أحد أولئك المبرَّزين والأئمة المجتهدين الذين اجتهدوا في مذهبهم ونبغوا حتى أصبــح لهم الاجتهـاد الذي هو خـارج مذهبهم .
وكان الإمام ابن قدامة-رحمه الله- من أئمة العلم ودواوين العلم والعمل.
ولد-رحمه الله- سنة خمسمائة وإحدى وأربعين من هجرة رسول الله-r- بجمَّاعيل من أعمال نابلس بأرض فلسطين أعادها الله على الإسلام والمسلمين .
وكان-رحمه الله- مـن بيت علم وفضل وزهد وورع ، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -t وأرضاه- ، وكان بيته معروفاً بالعلم والإمامة والفقه والحـديث ، فجمع الله لهم بين علم الحديث روايةً ودراية .
وكان-رحمه الله- قد راعى في علم الفقه ثلاث مراتب :
ألف فيها كتاب : العمدة ، ثم المقنع ، ثم الكافي ، وهذه داخل المذهب الحنبلي .
ثم ألف : المغني مقارناً للمذاهب وكتاباً مطولاً جامعـاً بين فقه الحنابلة وفقه غـيرهم مع ذكر الأدلة وبعض الردود والمناقشات وبيان الاختيار .
كون هذا الكتاب في المذهب الحنبلي :
أولاً : المذاهب الأربعة :
الخلاف بينها منحصر في مسائل معينة ، وهناك عند العلماء في الفقه مسائل تسمى : مسائل الأصول ، ومسائل تسمى : مسائل الفروع .
ففي كل كتاب وكل باب من أبواب الفقه مسائل تسمى : مسائل الرؤوس أو مسائل الأمهات .
فمثلاً : في الوضوء ، تجـد المسائل التي هي الرأسية في الوضـوء شبه متفـق عليها ، فكلهم يتفـق أن الوضوء واجب ، وكلهم يتفق على فرضية الأعضاء الأربعة التي أُمـر بغسل ما أُمر بغسله ومسـح ما أُمر بمسحه منها من أعضاء الوضوء ، القواعد الأساسية في الوضوء هذه شبه متفق عليها ، في الصلاة شبه متفق عليها ، في الزكاة شبه متفق عليها ، إنما يقع الخلاف في مسائل مفرعة على هذه الأصول أو مستتبعة لهذه الأصول ، وقد يقع الخلاف في بعض الأصول في بعض الأبواب ، لكن الأكثر لو جمعت المذاهب الأربعة بالاستقراء والتتبع لمن درس الفقه وحصله ، وبالمناسبة لا يحكم على الفقه إلا من قرأه ، وقل أن تجد أحداً قرأ الفقه إلا وهو يعرف قدره ، ويعرف قدر العلماء ، ويعرف الحق الموجود فيه ، ويعرف نعمة الله على هذه الأمة بهذا الفقه .
ولذلك المذاهب الأربعة لاحرج ولاعتبى أن تقرأ مذهباً معيناً لكن بالدليل ، ولاتتعصب لهذا المذهب لأن أئمة السلف ودواوين العلم كلهم تتلمذوا على مذهب معين ، لكن لم يتعصبوا ولم يردوا نص الكتاب والسُّنة لأهواء الرجال وآراء الرجال أبداً ، إنما تقرأ فلن تجد عالماً مبرَّزاً إلا وقد قرأ فقه المذهب ثم لم يتعصب ، وتوسع من خلال هذا الفقه إلى غيره .
والسبب في هذا أن هؤلاء الأربعة والإمام الظاهري داود الظاهري ، وهو المذهب الخامس كلاهما مسلكان أقرهما رسول الله-r- أقر من أخذ بظاهر النص وأقر من أخذ بمعنى النص في قصة بني قريضة المشهورة ، فإن النبي -r- لما قال للصحابة : (( لاتصلوا إلا في بني قريضة )) اختلف الصحـابة في الطريق ، فمنهم من صلى العصر في وقته وقال : إن رسول الله-r- أراد منا أن نستعجل ، ومنهم من أخر العصر إلى بني قريضة لأنه أخذ بظاهر قوله : (( لاتصلوا العصر إلا في بني قريضة )) ، فالطائفة الأولى نظرت إلى المعنى ، والطائفة الثانية نظرة إلى اللفظ ، قال الراوي : فلم يعنف كلتا الطائفتين ، يعني لم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء ، ولكن قال للتي صلت في الوقت : (( أصابت السُّنة )) ، فدل على أن الفهم والاستنباط هو الأسـاس ، هو المهم والأهم ، ولايمنع هذا أن نقول إن الأصل أن يأخذ الإنسان بظاهر النص حتى يدل الدليل على خلافه .
على كل حال هذه المذاهب الأربعة اشتملت على متون مختلفة ، فإذا قرأ طالب العلم متنـاً من المتون وأخذ هذا المتن بالدليل ووقف بين يدي الله يسأله عما يعتقده في عبادته ومعاملتـه ، فإذا به يعتقد حكماً بالدليل فقد برأت ذمته ، المهم أنه لايعتقد شيئاً إلا وعنده حجـة من كتاب الله وسنة النبي-r- ، فالعلماء أخذوا بهذه المذاهب وقرؤوا ، كل عالم مبرز ومفتش في دواوين العلم وأئمة السلف ومن بعدهم كلهم تجدهم نبغوا من خلال هذه المذاهب لكنهم لم يتعصبوا فيمـا ظهر لنا في غالب حالهم ، وتجردوا للحق والدليل وفتح الله عليهم .
وتجـد العالم بكل رضاً وبكل طمأنينة إذا استبانت له السُّنة انشرح صدره وحمد الله-U- وعدل إليها ولو كان الذي خالفها من كان ، فهذا هو الأصل وهذا هو العدل ، فكون الإنسان يترك حصالة الأمة واجتهاد العلماء وتعب سلفنا الصالح ومن بعدهم في هذا العلم المبارك ويقول أفهم من الكتاب والسُّنة مباشرة فهذا يعـرض نفسه للزلل ، لأن الفهم من الكتـاب والسُّنة يحتاج إلى أداء ويحتاج إلى قواعد ويحتاج إلى أمور تأهله لهذا الفهم ، ثم ما الذي منعه أن يأخذ من علم هؤلاء المبني على كتاب الله وسنة النبي-r- ، وأن يبدأ من حيث انتهوا فهذا هو هدي السلف والأئمة-رحمة الله عليهم- .
ولذلك قل أن تجد عـالماً مبرزاً إلا وقد بدأ بهذا الطريق ، فأئمة العلم ، فتجد مشائخ الإسلام والأئمة الأعلام ، الإمام الحافظ ابن عبد البر قرأ مذهب الإمام مالك ونبغ فيه ثم خرج واجتهد ونظر في النصوص ، وتجد الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- قرأ مذهب الحنابلة وقعد فيه وأصل ثم خرج عنه وأصبح مجتهداً ، ثم الإمام ابن القيم-رحمه الله- وغيرهم كالحافظ ابن حجر كان فقيهاً شافعياً ، كل هؤلاء قرؤوا المذاهب وأتقنوها بالدليل ونبغوا فيها ثم علموها الناس وبينوا صوابها من خطئها ، فهذا هو المنهج الذي سار عليه العلماء-رحمهم الله- ونفع الله هذه الأمة به كثيراً .
والسبب في كون هؤلاء الأربعة يعتنى بهم أكثر من غيرهم مع وجود المجتهدين عدة أمور :
منها : أولاً وقبل كل شيء أن الله وضـع لهم القبول ما لم يضعه لغيرهم ، ولن يستطيع أحد أن يقفل باب رحمة فتحه الله على عباده .
ثانياً : أن الأهم في العلم الثقة في نسبة القول لهذا الإمام الذي بلغ درجة الاجتهاد ، والثقة في نسبته تحتاج إلى تحرير الرواية ، فغيرهم من الأئمة كالأوزاعي والثوري وابن عيينة وغيرهم من العلماء الذي كانوا لهم أنداداً لم يقيض الله لهم أصحاباً يحفظون علمهم .
فمن هنا لن تجد أحداً تُضبط الرواية عنه ويُضبط القول ويُضبط فقهه مثلما قيض الله لهؤلاء الأئمة الأربعة ، فإذا كانوا في أشخاصهم ضبطوا العلم وشُهد لهم بشهادة العلماء الأجلاء أنهم أهل للفقه وثبت لنا قولهم بالرواية والضبط والتحرير فقد كُفينا مؤنة ثبوت هذا القول عنهم ، وحينئذٍ يكون العمل بقولهم أوثق وأضبط مع أنهم أهل لهذا العلم تعليماً وكذلك اتباعاً ، لأن الله أمرنا بالرجوع إلى أهل الذكر فقال-تعالى- : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وأهل الذكر هم أهل الكتاب والسُّنة الذين فقهوا فيهما فعلِموا حلالهما وحرامهما.
ألف الإمام-رحمه الله- هذا الكتاب وجعله أول درجة في علم الفقه ، فيمتاز هذا المتن بالاختصار، ودقة العبارة ، وحسن المعنى الموجود في العبارة ، فاختار الكلمات الدالة الجامعة .
كذلك امتاز بأنه يذكر أحـاديث رسول الله-r- ويستشهد بالأدلة في مـواضـع .
وامتاز أيضاً بتحصيل مسائل الأصول في الأبواب ، فمن يبتدئ قراءة الفقه بهـذا المـتن ويركز في ضبطه وفهمه لاشك أنه يسهل عليه بناء ما بعده ، فيستطيع أن ينتقل إلى ما بعـده بسهولة بإذن الله-U- ، ولكن الأهم أن يضبط هذا المتن ويحاول فهمه قدر استطاعته.
كذلك - أيضاً - يمتاز متن عمدة الفقه بالترابط والتسلسل الفكري ، فإنه-رحمه الله- امتـاز في عرضه للمسائل الفقهية بترتيبها ترتيباً منطقياً ، فيبدأ بالأصل ويبدأ بالأساس مما تتوقف عليه ماهية الشيء ثم بعد ذلك يتبعه بأحكام الآثار والمسائل المنبنية على الأصول ، وهذا أدعى للضبط وأسهل في الحفظ ، وأسهل في الاستذكار والاستحضار.
وعلى كل حال كتب الإمام ابن قدامة-رحمه الله- كتب مباركٌ فيها ، وشُهد له بالعلم والإمامـة حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يقول : ما دخل الشام بعد الأوزاعـي أعلم من الموفق، فهو كاسمه-رحمه الله- ، كان موفقاً مسدداً عالماً صالحاً ورعاً ، ولاشك أن العـالم إذا كان أتقى لله وأخلص لله فإن الله سيبارك في علمه وينفع بعلمه ، وهذا دلائله مشهودة ومعروفة يعرف ذلك من عرفه ، فكتبه-رحمة الله عليه- كتبٌ مباركة ومنها هذا الكتاب .
الطريقة التي سنسير عليها - إن شاء الله - :
أننا نعتني ببيان معاني العبارات وما دلت عليه ، وهل هذا الحكم له أصل من كتاب الله وسنـة النبي-r- ، ودليل النقل والعقـل الصحيح ، ثم نبينه ، وبعض الأحيان قد نتعرض لبعض المسائل الخلافية .
طلاب العلم والمبتدءون :
يُنصح طالب العلم المبتدئ أن يأخذ الزبدة ، ويأخذ النتيجة والخلاصة ، ولايدخل في الخلافات، ولايحضر من المطولات لأنه يتشتت فهمه ويتشتت ذهنه ولايضبط ، وحينئذٍ أوصي أن يأخـذ الزبدة ، ويذكر لكل مسألة دليلها ، ثم يكرر هذه المسائل بأدلتها حتى يفتح الله عليه ، لأن ضبط هذه المتون المختصرة من البداية يعطي طالب العلم عمقاً فقهياً ، فتسهل عليه المسائل الصغـيرة لكي يبني بعدها المسائل الكبيرة ، وهذا هو العلم الصحيح ، ولذلك قيل في قوله-تعالى- : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ } المراد به أن يتعلم صغار العلم قبل كباره كما قال مجاهدٌ وغيره من أئمة التفسير-رحمة الله عليهم- .
فصغار العلم يبدأ بالتدرج ولكن وأوكد على أنه ينبغي على طالب العلم أن يكون متجرداً للحـق ، وأن يقرأ هذا المتن مهما اختلف مذهبه ومشربه وينظر في دليل الكتاب والسُّنة ويتجرد للحق ولايتعصب ، فإن كتاب الله وسنة النبي-r- حجة على كل أحدٍ ، ومن عمل بهما أسعده الله في الدنيا والآخـرة ، ومن تركهما أضله الله خاصة إذا تركهما على علم ، فالبصائر تطمس والقلوب-نسأل الله العافية- تزيغ إذا رأت كتاب الله وسنة النبي-r- وأعرضت عنه وأخذت تلوي بالنصوص بالآراء والأهواء والأقيسة وتترك حقاً مستنيراً قد انبلج ضياؤه كالصبح .
فالمنبغي على طالب العلم أن يتجرد للحق ، وأن يحب الحق للحق ، وأن يعرف الرجال بالحـق ، ولايعـرف الحق بالرجال .
فهذه أمـور لابد لطالب العلم أن يكون على بينة منها حتى يبني علمه على أساس متين والتوفيق من الله-جل وعلا- فهو الذي يوفق عبده ويسدده ، وإذا أخلص الإنسان لله-U- فإن الله سيجعل له من أمره يسراً ومخرجاً .
الـمـقـدمـــة
قال المصنف-رحمه الله- : [ الحمدُ لله أهل الحمد ومستحقه ] : استفتح الإمام المصنف-رحمه الله- كتاب الفقه بحمد الله-جل وعلا- ، وفي بعض النسخ استفتح بالبسملة ، وهذه سنة في كتاب الله وسنة النبي-r- إلتزمها العلماء لثبوت أصلها في الشرع أن كتب العلم يُبتدأ فيها ببسم الله وحمد الله ، قال-تعالى- : { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ @ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فابتدأ كتابه في الدعوة إلى الله بالتسمية ، قالوا : فهذا أصل في كل شيءٍ من أمور الدين أن يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم .
كذلك أيضاً استفتح الله كتابه بحمده والثناء عليه-سبحانه- بما هو أهله ، فقال في فاتحة الكتاب : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فهي أم القرآن وفاتحة الكتاب كما في الحـديث الصحيح : (( لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) فإذا كانت فاتحة الكتاب فالله استفتحها بحمده ، فدل على أن كتب العلم تستفتح بحمد الله ، والله أهلٌ أن يُستفتح الأمر بحمده ، لأن له الحمد أولاً وآخـراً وظاهراً وباطناً ، له الحمد كله أوله وآخره وظاهره وباطنه كالذي نقول وخيراً مما نقـول ، وصـح عن رسول الله-r- أنه كان يستفتح خُطبه بحمد الله-U- ، قالت عائشة كما في الصحيحين : فرقى المنبر ، ثم حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله.
قوله-رحمه الله- : [ الحمد لله ] : الحَمدُ في لغة العرب : الثناء ، يقال : حَمِدَ فلانٌ فلاناً إذا أثنى عليه .
وأما في اصطلاح العلماء وفي اصطلاح الشرع : فهو الوصف بالجميل الاختياري على المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره ، فقولهم : الوصف بالجميل الاختياري ، فكل وصف تضمن جميلاً اختيارياً فإنه يتضمن معنى الحمد ، فلو قال : فلان عالم ، فلان كريم ، فلان جواد ، فهذا حمد ، والفـرق بين الحمد والشكر : أن الحمد يكون من الإنسان للغير سواءً أحسن إليه أو لم يحسن ، فأنت ترى إنساناً كريماً فتقول : فلانٌ كريم ، وتحمده بذكر صفة الكرم فيه سواءً أكرمك أو لم يكرمك ، ولكن الشكر لايكون إلا إذا كان أنعم عليك .
ومن هنا قالوا : من جهة السبب الحمد أعم والشكر أخص .
وأما من جهة التعبير : فالشكر أعم ، لأن الشكر يكون باللسان ويكون بالقلب والجنان ، ويكون بالجوارح والأركان ، فأما شكر الجنان فأشار الله إليه بقوله : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } ، أي : اعتقدوا أنها من الله وحده ، فمن اعتقد أن النعمة لله فقد شكر الله ، كذلك يكون الشـكر باللسان ، قال-تعالى- : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ، وقال نوح : "رب كيف أشكرك وشكرك نعمةٌ تحتاج إلى شكر ؟ قال : عبدي أما وقد علمت أنك لن تستطيع شكري فقد شكرتني".
كذلك أيضاً يكون الشكر بالعمل ، كما قال-تعالى- : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } ، ومن هنـا قال الشاعر :
أفادتكم النعمــاء مني ثلاثة ************* يدي ولساني والضمير المحجب
فهذه يدي أي : اعمل في خدمتكم ، ولساني أثني عليكم ، والضمير المحجب أعتقد فضلكم .
قوله-رحمه الله- : [ الحمد لله ] : ألف الحمد للاستغراق ، أي جميع المحامد وجميع الحمد والثناء لله-U- ، وتكون اللام للاختصاص فالمحامد التامة الكاملة على أتم الوجوه وأكملها لاتكون إلا لله وحده لاشريك له ، ولذلك قال-تعالى- : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ } .
قوله-رحمه الله- : [ الحمد لله أهل الحمد ] : أي أن الله أهلٌ أن يحمـد ، ولذلك قال-عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح حينما رفع رأسه من الركوع قال : (( ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد أحـق ما قال العبد ، كلنا لك عبدٌ ، أهل الثناء والمجد )) أي أنت يا الله أهلٌ أن يُثنى عليك ، أو أهلَ الثناء والمجد حال كونه-سبحانه- أهلاً لأن يثنى عليه ويمجد .
قوله-رحمه الله- : [ مستحقه ] : الحق لايكون إلا إذا ثبت لمن يُنسب إليه ، اليد ثبتت له اليد عليه ، والله مستحق للحمد ، ولذلك قال-تعالى- : { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ } وقال-تعالى- : { ولله الحمد } فأثبت-I- لنفسه الحمد ، وهو المحمود على كل حال ، المحمود في السراء والضراء والنعماء والبأسـاء ، ولذلك كان من سنته-عليه الصلاة والسلام- حمد الله-جل وعلا- على النعمة ، وفي النقمة كان من هديه أن يقول : (( الحمد لله على كل حال ، ونعوذ بالله من أهل النار )) .
قوله-رحمه الله- : [حمـداً يفضل ] : يعني يزيد .
قوله-رحمه الله- : [ على كل حمد ] : الصفات التي لله-جل وعلا- ليست كصفات المخلوق ولذلك يقول -r- : (( إن فضل كلامِ الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه )) ، فالكلام صفة لله-جل وعلا- ، والكلام صفة في المخلوق ، فبين-r- أن صفة الخالق أفضل من صفة المخلوق كفضل الخالق على المخلوق ، كما في صحيح مسلم ، ومن هنا قال المصنف : [ يفضل على كل حمدٍ كفضل الله على خلقه ] ، وهذا شيءٌ جميلٌ مستنبط من سنة النبي-r- .
قوله-رحمه الله- : [ وأشهد أن لا إله إلا الله ] : أشهَدُ في لغة العرب الشهادة تستعمل بمعاني ، يقال : شَهِدَ إذا عَلِمَ ، والمراد هنا : أنني أعلم علماً يقينياً لاشك فيه ولامرية ، أنه : [ لا إله ] أي : لا معبود إلا الله .
وهذه الشهادة شهادة التوحيد قائمة على النفي والإثبات ، وعليهما أصل التوحيد ، ولذلك أول أمرٍ في كتاب الله بالإثبات ، وأول نهي في كتاب الله عن الشرك ، فقال-تعالى- : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } أول أمر في القرآن جاء بالتوحيد ، وأول نهي في القرآن جاء عن الشرك ، فقال الله في سورة البقرة : { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، وجعل أول نهي في قوله : { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً } وهذا معنى قوله : [ لا إله إلا الله] ، فـ { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً } هذا النفي [ لا إله ] ، والإثبات { اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ إلا الله ] .
وجـاءت نصوص القرآن والسُّنة على النفي والإثبـات ، ولذلك قال-تعالى- : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } نفي وإثبات ، وقال-تعالى- : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } ، اعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً ، اعبدوا الله إثبات ، ولاتشركوا به شيئاً نفي .
فلابد للمسلم من هذا الأساس ، فلا يكفي أن يثبت لله-U- ما أثبته ثم يصرف ما لله لغيره ، أو يرى الشرك فيقره ولايبرئ منه ، لابد أن يعتقد اعتقاداً جـازماً أنه لامعبود بحق إلا الله ، فالله هو وحده لاشريك له في أولهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، فلم يخلق الخلق أحدٌ سواه ، ولم يربهم بالنعم أحدٌ عداه ، خلق خلقه فأحصاهم عدداً ، وقسم أرزاقهم فلم ينس منه أحداً ، وقدر المقادير ، وكتب الأشياء قبل أن تكون { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ @ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } .
فهو الواحد في ربوبيته ، والواحد في أولهيته ، فلا يُستغاث إلا به ، ولايُستجارُ إلا به ، ولايُدعى إلا هو وحده لاشريك له ، ولايذبح إلا له ، ويعتقد المسلم هذه العقيدة ، فإن صُرف شيءٌ ممـا لله إلى غير الله فقد ضاد هذا الأصل وخالفه وناقضه ، لأنه يقول : لا إله ، أي : لامعبود ، فإذا استغاث بغير الله فقد عبده ، وإذا ذبح لغير الله فقد عبده ، لأن الذبح عبادة ، ولذلك يقول : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : خاصة لله رب العالمين ، { لاَ شَرِيكَ لَهُ } ، فأثبت في قوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ونفى في قوله : { لاَ شَرِيكَ لَهُ } ، فواجب على المسلم أن يلتزم هذا الأصل، وهو أصل النفي والإثبات .
قوله-رحمه الله- : [ وحده لاشريك له ] : تأكيد لهذا ، تأكيد للإثبات [ وحده ] ، وتأكيد للنفي في قوله : [ لاشريك ] .
والشريك من الشُّركة ، وأصلها : الخُلطَة ، والإختِلاط ، والله-جل وعلا- لاشريك له ، لا في أسمائه وصفاته ، قال-تعالى- : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } قيل : هل بمعنى لا ، أي لاتعلمُ له سمياً ، قيل : سمياً كاسمه، وقيل : سمياً يساميه في صفاته-I- ونعوته وجماله وجلاله وكماله ، -Y- ولا إله غيره ، ولاشريك له في ربوبيته ، فلا يستطيع أحد أن يرزق الناس من دون الله-U- ، ولايستطيع أحد أن يقفل أبواب الرزق التي فتحها الله-جل وعلا- على عباده ، ولايستطيع أحد أن يقدر شيئاً في هذا الكون يقدمه أو يؤخره ، فما قدمه الله تقدم ، وما أخره فهو المؤخر ، فالأمـر كله لله ، { قُلْ } أي : قل يا محمد ، { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } .
فالله وحده لاشريك له في جميع هذه الأمور ، هو الواحد في أولهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته-I- .
قوله-رحمه الله- : [ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ] : هذه هي الوسطية ، وَصفُ النبي-r- بالعبودية ووصفه بالرسالة ، والأمة الإسلامية بين طرفي نقيض وهو الوسط العدل ، فهي بعيدة عن الإفـراط وبعيدة عن التفريط ، اليهود احتقروا أنبياء الله ، والنصارى غلوا فيهم ، فهم في الصراط المستقيم ، صراط الله الذي أنعم الله على أوليائه به فهم غير مغضوب عليهم وليسوا بضالين .
فالمغضوب عليهم : هم اليهود الذين احتقروا أنبياء الله .
والضالون : هم النصارى الذي غلوا في الأنبيـــاء .
فأمة محمد-r- تصف النبي-r- بالعبودية حتى تخرج من غلو النصارى ، وتصفه بالرسالة حتى تخرج من احتقار اليهود ، ولذلك بعض الناس يقول : محمد بشر ، نعم هو بشر ، لكن تقول : بشرٌ رسول ، ولذلك قال-تعالى- : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } ، ما قال : إنما أنا بشرٌ مثلكم ووقف ، لا { بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } فلا ينبغي أن يقول الإنسان محمد بن عبدالله بشر ، نعم نقول بشر ، لكن نقول : بشرٌ رسول ، هو رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ، فلابد من هذه الوسطية .
فكون الإنسان يقف في مقام الاحتقار والانتقاص له-عليه الصلاة والسلام- والجفاء أو في مقـام الغلو فقد خالف شرع الله-U-.
وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي تصديقه واتباعه-عليه الصلاة والسلام- ، فإذا جاء بأمر امتثلنا أمره ، وإذا جاء بنهي انتهينا ، قال-r- : (( ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا )) وقال الله لعباده : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وكان الصحابة يعظمون ذلك حتى قال ابن عباس-رضي الله عنهما- : يـوشكُ أن تنـزلَ عليكم حجارة من السماء ، أقول لكم : قال الله ، وتقولون قال أبو بكـر قال عمـر ، فهذا كله من تعظيم الكتاب والسُّنة.
واتباع النبي-r- يستلزم أن يتبعه الإنسان مصدقاً لما جاء به وأن لايعبد الله إلا بشرعه ، لايعبد الله بهواه ولايعبد الله بالتقاليد ولايعبد الله بالعادات ، ولايعبد الله بالأهواء ولابالآراء ، ولكن يعبده بما شرع-I- .
فأي أمر يريد أن يتقرب فيه إلى الله-جل وعلا- يسأل فيه عن سنة النبي-r- هل فعله رسول الله-r- لكي يفعله ، أو لم يفعله فيتركه ويجتنبه فقد شهد أن محمـداً رسول الله صدقـاً وحقاً ، وأي إنسان يعمل العبادة ولايسأل هل لها أصل من كتاب الله أو سنة النبي-r- أو يقال له إن رسول الله-r- لم يفعل هذا فيفعلها ويخالف سنته فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله .
فما هي شهادة أن محمداً رسول الله إذا كان يقول أشهد أن محمداً رسول الله ويفعل ما شاء ويعتقـد ما شاء ويأتي ما شاء ويذر ما شاء سواءً وافق هديه-عليه الصلاة والسلام- أو خالفه ، فلابد من تحقيق هذا الأصل في شهادة أن محمداً رسول الله-r-.
ولذلك أولى الناس بسنة النبي-r- أعلمهم بالسُّنة ، فليست سنة النبي-r- بالدعاوى العريضة ، أن يأتي شخص ويقول : أنا من أهل السُّنة أو أنا سني أو كذا ، إنما تكون بالعلم والبصيرة ، إذا سألت الشخص ما هو هدي رسول الله-r- في كذا ؟ أجابك عن علمٍ وبصيرة ، وكذلك - أيضاً - يعمل بهذه السُّنة ، فعلم وعمل ، هداية في النفس واهتداء من الغير ، لأنه إذا عمل بالسنة اهتدى به غيره ، وهذا هو الذي عَناه الله بقوله : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } فشهادة أن محمداً رسول الله-r- عبدُ الله ورسوله-عليه الصلاة والسلام- وسطية بين الغلو وبين الإجحاف .
أي : أشهد أنه عبدٌ لله مخلوق ، ووصف العبودية وصف شرف لرسول الأمة-r- ، ومن وُصف بهذا الوصف فقد شُرف بنسبته إلى الله-جل وعلا- أنه عبدٌ لله .
والعبد في لغة العرب : مـادة عَبَدَ تطلق على الشيء المذلل ، الذي فيه سهولة ، والعبد تحت قهر ربه وسيده ومولاه ، فهو في ذلة وانكسار تحت رحمة الله-جل وعلا- ، فالمخلوق تحت رحمة الخالق-سبحانه- فهو عبده والمرأة أمته-I- لايملك أحدٌ لنفسه ، قال-تعالى- : { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } فهو وحده-سبحانه- مالك الملك ونحن عبيده-Y وتقدست أسماؤه- .
قوله-رحمه الله- : [ غير مرتاب ] : الرَّيبُ : هو الشك ، والرِّيبَة التُهمة ، أي : ليس عندي شك ولا دَخل في أنه رسول الله-r- ، وهذه هي العقيدة التي ينبغي للمسلم أن يعتقدها أنه رسول من الله بحق ، وإذا كان على ذلك فقد شَهد أنه عبدُ الله ورسوله حقاً وصدقاً .
قوله-رحمه الله- : [ غير مرتابٍ في صدقه ] : الصِّدقُ : مطابقة الأمر للواقع ، أي : لا أشك ولا أرتاب ولاتدخلني المرية في أنه رسول الله-r- وأن ما بلغ به عن الله-U- كله صحيح لأن الله زكاه من فوق سبع سماوات فقال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى @ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }-صلوات الله وسلامه عليه- ، ولذلك لما قالت قريش لعبدالله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- : إنك تكتب عن رسول الله-r- في غضبه وفرحه وسروره ، وأرادوا أن يمنعوه من الكتابة رجع إلى رسول الله-r- فأخذ بلسان نفسه-صلوات الله وسلامه عليه- وقال له : (( أُكتب فإنه لايقولُ إلا حقاً )) أي : إنه لايصـدر من هذا اللسان-بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إلا حقاً وصدقاً .
قوله-رحمه الله- : [ غير مرتاب ] : أي: لاريب عندي ولاشك ولامرية في صدق رسول الله-r- .
قوله-رحمه الله- : [ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه] : قوله-رحمه الله-: [ صلى] الصلاةُ في لغة العرب تطلق بمعنى الدعاء ، يقال : صلى فلان على فلان إذا دعـا ، ومنه قوله-تعالى- : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي : ادعو لهم .
وتطلق الصلاة بمعنى الرحمة ، ومنه قول الشاعر :
صل المليك على امرئٍ ودعته ****************** وأتم نعمتــه عليه وزادها
وتطلق الصلاة بمعنى البركة ، ومنه قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( اللهم صل على آل أبي أوفى)) .
وصلاة الله على نبيه-عليه الصلاة والسلام- رحمته ، وأحب الله هذا النبي الكريم-r- ، أحبه من فوق سبع سماوات وحببه إلى قلوب المؤمنين والمؤمنات ، وصلى عليه من فوق سبع سماوات وصلى على من صلى عليه عشر مرات-صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين- .
فمن عظيم شأنه وقدره عند ربه-سبحانه- أن الله-تعالى- جعل الصلاة عليه بعشرة ، فلا يصلي عليه مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا رد الله عليه الصلاة بأضعاف إلى عشرة ، وهذا فضلٌ عظيمٌ وخيرٌ كريمٌ من الله-I- .
قوله-رحمه الله- : [صلى الله عليه ] : ومن فضل هذه الصلاة تشريفاً وتكريماً لنبيه أن الله أمرنا أن ندعوه أن يصلي على نبيه ، ولم يجعل صلاتنا عليه مباشرةً وإنما جعلنا نسأله ونقول : اللهم صل على محمد ، وهـذا زيادة في تشريفه وتكريمه-عليه الصلاة والسلام- ،-صلوات الله وسلامه عليه-.
قوله-رحمه الله- : [ ما جاد سحاب بودقه ] : الوَدْقُ : هو المطر ، ولذلك قال-تعالى- : { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } وهي : قطرات الماء .
قوله-رحمه الله- : [ ما جاد سحاب بودقه ] : هذا تكرر ، الذكر المكرر بما يناسبه ، وقد يكرر الذكر وقد يضاعف ، تقول مثلاً : سبـحان الله عدد خلقه فتجعل الذكر مضاعفاً ، لأنه ثبتت السُّنة به ، وتجعله مكرراً بقولك : صلى عليه ما جاد سحاب بودقه ، أي : تكررت الصلاة عليه ، ولايعلم قـدر ذلك إلا علام الغيوب -I- ، الذي ما من حبةٍ من خردلٍ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا وهو يعلمها-I- ، ولاحبة في ظلمات الأرضِ ولارطبٍ ولايابسٍ إلا يعلمه-I- ، فهو المتكفل بذلك ، فإذا صليت عليه-صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- .
وجعل-رحمه الله- الصلاة عليه على هذا الوجه ، فهذا أسلوب يستخدمه بعض العلماء-رحمهم الله- إشارة إلى طلب كثرة الصلاة عليه-عليه الصلاة والسلام-.
ومن أحب القربات إلى الله-I- ، ومن أعظم الذكر بعد القرآن وقولِ لا إله إلا الله ، الصلاةُ على النبي-r- ، فإن كثرة الصلاة على النبي-r- سبب في رحمة العبد ، لأن الله يصلي على العبد عشر مرات ، فتصيبه الرحمة عشرة مرات ، وهذا يدل على فضلها وعظيم ما فيها من الخير والبر ، ولذلك كان العلماء يقولون : غُبط أئمة الحديث ورواة حديث رسول الله-r- بكثرة صلاتهم على رسول الله-r- .
وهذه سنة أضاعها كثيرٌ-إلا من رحم الله- ، فالموفق من يكثر من الصلاة عليه-بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- ، يستكثر من ذلك خاصة في يوم الجمعة فإنها سنة أضاعها كثيرٌ-إلا من رحم الله- ، فإن النبي-r- أمر بذلك وقـال : (( فأكثروا من الصلاة علي فيه )) فلينظر طالب العلم إذا جاء يوم الجمعة كم يصلي على النبي-r- ؟! ، بل إن منهم من لايتذكر الصلاة عليه إلا يوم الجمعة فقط في حال الصلاة أو حال الخطبة وأما ما عدا ذلك فقل أن يصلي عليه-صلوات الله وسلامه عليه- .
وهذا خيرٌ عظيم أن يصلي العبد على نبيه-عليه الصلاة والسلام- وفاءً بحقه ، فإن حفظ العهد من الإيمان ، فإن فضله على الأمة عظيم ، فإن الله I جعله رحمةً بهذه الأمة، كما قال-r- : (( أنا رحمةٌ مهداةٌ )) ، فالمنبغي أن يكثر المسلم من الصلاة عليه-عليه الصلاة والسلام-.
قوله-رحمه الله- : [ أما بعدُ فهذا كتابٌ في الفقـه اختصرته حسب الإمكان ] : هذه الكلمة [أما بعد] يؤتى بها للفصل بين المقـدمة والمضمون ، وقيل : إنها هي فصل الخطاب ، { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قيل : إنها قول أما بعد ، ولكن الصحيح أن فصل الخطاب هو الفصل بين الخصوم في حال القضاء ، لأن الله علم داود كيف يقضي بين الخصوم ، فهذا هو فصل الخطاب ، والخطاب خطاب الخصوم عند اللجاج والنـزاع في الخصومات ، فعلم الله نبيه داود ذلك .
وهذه الكلمة اختلف في أول من قالها ، قيل : داود ، وقيل : سحبان بن وائل خطيب العرب ، وقيل : علي ؛ لكن الصحيح أن قول إنه علي ضعيف جداً ، ويحكى عن بعض الغلاة في علي-t- إنهم قالوا : هذا القول ؛ لكن الصحيح أنها من قبل علي ؛ لأن النبي-r- كان يقولها ، قال : (( أما بعدُ )) كما في الصحيحين : (( أما بعدُ فما بال أقوام يشترط ون شروطاً ليست في كتاب الله )) .
فالسُّنة أن يوتى بها أما بعد ، ولا تكـرر ، يعني ما يأتي الإنسان ويقول بعد الحمد ، ويقول : أما بعد ثم يأتي ويقول : أما بعد مرة ثانية ، فالسُّنة أن يُقتصر على حمد الله والثناء عليه ، والفصل بين الحمد ومضمون الكلام بأما بعد هذا الوارد والمحفوظ عن رسول الله-r- .
قوله-رحمه الله- : [ فهذا كتابٌ في الفقه ] : الكِّتَاب : أصل الكَتْب الجَمع والضَّم ، وسمي الكتاب كتاباً لاجتماع حروفه ، ولذلك تقول العرب : تَكَّتَب القومُ إذا اجتمعوا ، وسميت كَتيبَةُ الجيشِ ، كَتيبَةٌ لاجتماع فرسانها وانضمام بعضهم إلى بعض .
قوله-رحمه الله- : [ كتابٌ في الفقه ] : الفِقْهُ في لغة العرب: الفَهْم ، يقال : فَقِهَ الشيءَ إذا فَهِمَهُ ، وقيل : إنه الفَهم لدقائق الأشياء وعويصها ، فلا يقال : فَقِه الشيءَ إلا إذا كان فهمه صعباً وعسيراً .
والفِقه في اصطلاح العلماء : هو العلمُ بالأحكامِ العملية الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية .
فهذا العلم يختص بعلم الأحكام العملية ، فخرج علم الاعتقاد ، وعلم الوعظ ، والرقائق ، وكذلك قولهم : المكتسبة من أدلتها التفصيلية تشمل طبعاً أدلة الكتاب والسُّنة والاجماع والأدلة العقلية الصحيحة من النظر الصحيـح سـواءً كان قياساً أو أصولاً معتبرة من النظر الصحيح ، هذه الأحكام مستنبطة وفق قواعد وضوابط قررها أئمة السلف-رحمهم الله- ، ولذلك يعتبر علم أصول الفقه علماً موروثاً عن السلف ، فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون بالسليقة العام والخاص والمطلق والمقيد ، وكان يفهمون حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، ولهم حوادث في ذلك ، ثم إن الإمام الشافعي-رحمه الله- لم تغيرت أحوال الناس وضعفت أفهامهم وضعف اللسان اضطر إلى تأليف هذا العلم وكتابته ، ولذلك قال الناظم :
أول من ألفـه في الكتب ************ محمد بن شافعي المطلب
وقبله كان له سليقة *************** مثل الذي للعرب من خليقـة
يعني : كان علم أصول الفقه والفهم لهذه الأدلة التفصيلية معروفاً بسليقة الصحابة وطبيعة لسانهم ، ولذلك قال كعب بن عجرة-t- كما في الصحيحين في آية الفدية نزلت في خاصة وهي لكم عامة ، وهذا معنى القاعدة التي تقول : " العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب " .
فالشاهد: أنهم كانوا يعرفون هذه القواعد ويكتسبـون الأحكام العملية من الأدلة التفصيليـة لا الإجمالية ، وهذا العلم علم الفقه تقدم أنه يختص بالأحكام العملية وهي تنقسم إلى قسمين : عبادات ، ومعاملات.
العبادات : من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وما يتبع ذلك عند بعض العلماء من الأيمان والنذر والجهاد على خلاف .
والمعاملات : سواءً كانت مالية كالبيع والإجارة والرهن والشركة والقرض والوكالة والكفالة ، أو كانت معاملة متعلقة بالأنكحة من النكاح والطلاق والخلع وآثرهما المترتبة عليها.
كذلك أيضاً المعـامـلات الجنائية القضائية ، كلها هذه تتبع الفقه وتعتبر من علم الفقه ، وكأنه يقول : فهذا كتاب في الفقه ، يعني : في علم الفقه .
قوله-رحمه الله- : [ اختصرته ] : الاختصار : أن يكون الكلام أقل من المعنى ، يعني : لايوصف الكلام بكونه مختصـراً إلا إذا كان معناه أكثر من لفظه فحينئذٍ يقال : اختصار .
وإذا كان معناه مثل لفظه ، يقال : مساواة .
وإذا كان لفظه أكثر من معناه يقال : اسهاب واطناب .
فالاختصار : هو أحمدها وأفضلها ، وهو أمرٌ عزيز صعب ، ولذلك جُعل من الخصائص التي خُص بها-عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيح من حديث أبي هريرة-t- : (( أعطيت خمس لم يعطهن أحدٌ قبلي)) ومنها : (( وأوتيت جوامع الكلم )) -r-.
فكان يتكلم بالكلمة تندرج تحتها من المسائل مالا يحصى كثرة ، فهذا من الاختصار ، وهو محمود في الكلام .
لكن قد يكون الاختصار غير لائق إذا كان من يسمع يحتاج إلى شرح ، وقد يكون الشرح مَعيباً إذا كان من يسمع على درجة من الفهم والوعي لايبسط لمثله الكلام ، فعلى كل حال لكل مقامٍ مقال ، فعلى حسب الأحوال ، وهذه درجات ذكرها العلماء في علم الخطاب أن المخاطب للغير ينبغي أن يراعي أحوال المخاطبين ، إما أن يختصر وإما أن يساوي وإما أن يسهب .
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
هل مجرد الشك في الصلاة يوجب سجود السهو حتى وإن استيقن المصلي قبل السلام بما شك فيه ؟
الجواب :
بسم الله ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أمابعد :
فالشك ، إذا كان الإنسان قد تبين له خطؤه وعرف حقيقة الأمر ألغى الشك ولم يعتد به ، ولذلك القاعدة : " لاعبرة بالظن البين خطؤه " ، يعني: الذي بان خطؤه ، فإذا شك أنه زاد ثم جلس للتشهد أتم الركعة ، مثلاً : شخصٌ يصلي الظهـر فلما كان في الركعة الرابعة وانتهى من السجدة الأخيرة في الصلاة دخله شك أنه صلى خمساً ، فحينئذٍ يتشهد ثم إذا ثبت على شكه سجد سجدتين قبل السلام ، وإن لم يثبت على شكه بحيث تجلى له الأمر وانكشف أنها أربع وليست بخمس فحينئذٍ لايسجد للسهو ، لأن هذا حديث النفس لاتأثير له في الحقيقة ولاعبرة به ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثاني :
ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة الكلام ؟
الجواب :
صفة الكلام صفة ثابتة لله-U- ، ولذلك قال-تعالى- : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } ، { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } فبين-I- أن هذه الصفة ثابتة له ، وهي صفة على الحقيقة ، ولذلك جاء في صحيح مسلم : (( يتكلم بصوت يسمعه من قرُب كمن بعُد )) ، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله-I- يكلم عباده في عرصات يوم القيامة ، وبينت نصوص الكتاب والسُّنة نفي هذه الصفة عن العصاة ممن سمى الله -U- وقال-تعالى- : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } .
فصفة الكلام ثابتة لله-U- لاتُؤوّل ، ولاتُعطل ، ولايشبه الله-U- بخلقه ، ولاتُطرب لها الأمثال ، فهو كلام حقيقي ، وما يقوله المعتزلة من أن كلام الله مخلوق-تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً- قررت طائفة من أئمة السلف أنه كفر لأنه مصادم لنص الكتاب ونفي لصفة من صفات الله-U- ، وكذلك من يُأول هذه الصفة ويصرفها عن ظاهرها ويبعدها عن حقيقتها مخالـف للأصل الذي دل عليه نص الكتاب { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } هذا كلام الله ، هذا نص القرآن ، ما يستطيع أحد أنه يقول معنى قائم بالنفس ويحرف الصفة عن ظاهرها ويبطل دلالة الآية في قوله-تعالى- : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } .
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي-r- لما عرج إلى السماء كما في حديث أنس في الصحيحين إلى ربه وانتهى إلى ربه وكلمه الله-U- وفرض عليه الصلوات الخمس وقال-تعالى- كما في الصحيحين : (( هي خمسٌ وهن خمسون ، ما يبدل القول لدي )) فكلام الله-U- ليس بمخلوق ، وتأويل هذه الصفات الصفة الثابتة بنص الكتاب والسُّنة وتعطيلها خلاف مذهب أهل الحق .
والواجب على المسلم أن يعتقد هذه الصفة لله-جل وعلا- كما ثبت بها نص الكتاب والسُّنة ولايصرفها عن ظاهرها ، ولايؤوّل فيها، ولايعطل ، ولايشبه الله-I- بخلقه ، هذا هو المقرر والذي ينبغي أن يعتقده المسلم ويلقى به ربه .
وفضل كلام الله كما ذكرنا ، هذا الكلام وصف النبي-r- أن كلام الله أفضل من كلام المخلوق كفضل الله على خلقه ، وهذا لايستلزم أن يكون كلام الله مخلوقاً ، أو يأتي إنسان معكوس الفهم يفهم منه أن كلام الله مخلوق ، هذا أمر واضح ، فضل كلام نص صحيح ، أي : أن فضل كلام الله كفضل الله على خلقه ، وهذا دليل على كمال هذه الصفة وجلالها لله-Y- .
فيدل أيضاً على صحة مذهب أهل السنة والجماعة أن إثبات الصفة لله-جل وعلا- لايقتضي تشريكه بالمخلوق ، ولايقتضي مساواته بالمخلوق-I- ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثالث :
يقول السائل : فضيلة الشيخ إذا اشتريت بيتاً أو سيارة وقال البائع : كل شيءٍ مكتمل فيه من الكماليات ، ثم وجدت فيه نقصاً مثل المكيفات ، وغيرها ، وقال لي : أنت اشتريت بناءً فقط ، فهل يلزمه ما نقص فيه ؟
الجواب :
هذا غش لأنه قال له : كل شيء من الكماليات ، هذه الكلمة يحاسب عليها ، والله-تعالى- يقول : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فالكلام الذي يقع عند التعاقد ويتفق عليه الطرفان مؤاخذ به كلا الطرفين .
فإذا قال البائع : البيت فيه كماليات يرجع إلى الكماليات في العرف ، فكل شيءٍ في ذلك العرف الذي وقع فيه البيع ليس موجوداً يُطالب بإحضاره وإتمامه وإلا كان من حق المشتري رد البيع ، يعطى الخيار .
وبناءً على ذلك هذا القول الذي قاله لما رجع وقال : أنت اشتريت بناءً هذا مخالف للأصل الذي اتفق عليه ، وخيانة وخديعة للمسلم ، ولايجوز له أن يقول له فيه كماليات ثم يقول له أنت اشتريت بناء ، فهذا من الكذب والغش ، وإذا قاضاه فإنه يؤاخذ على كلمته ومبنى العقد على ما اتفق عليه ، قال عمر بن الخطاب-t- : " مقاطع الحقوق عند الشروط " ، فإذا كان اتفق الطرفان ووقع بينهما اتفاق فهو بمثابة الشرط ، أن البيت فيه الكماليات فما نقص من كمال فهو مؤثر .
عفواً : إذا كان مثلاً : المكيف ليس من الكماليات في ذلك العرف ، مثلاً : المنطقة باردة ولايوضع فيها مكيف حينئذٍ يكون صادق ، ولذلك نحن نقول : يقيد بالعرف ، وهـذا ما يرده العلماء للقاعدة المشهورة : " العادة محكمة " ، أنه يرجع إلى الأعراف ، فإذا قال له : فيه كماليات ننظر ما هي الكماليات الموجودة في ذلك العرف ، أما إذا كان العرف جارياً بأن المكيف غير موجود في هذا البلد وهذه المدينة لطيب هوائها وقوته فحينئذٍ لايُطالب ، لكن لو جرى العرف بوجود الدفايات أو نحوها يطالب بإحضارها ويلزم بها ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الرابع :
ما حكم بيع الأكل المسمى الغـذاء حتى الإشباع أو البوفيه المفتوح ؟
الجواب :
الغذاء حتى الاشباع بيعٌ مجهول ، لأن الذي يشبع ليس له ضابط في الناس محدد ، وهذا البيع الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسُّنة أنه محرم ، لايجوز لأنه لايصح أن تشتري شيئاً إلا إذا كان معلوماً ، معلوم الصفة ، معلوم القدر ، وعلى كل حال هذا البيع ليس من بيوعات المسلمين ، ولم تعرف مطاعم المسلمين ، ولم يعرف المسلمون من قبل هذه العصور التي انفتحوا فيها على كل من هب ودب هذا النوع من المعاملات .
فينبغي التناصح في ذلك ، ولايجوز للمسلم أن يأكل في مثل هذا لأنه يعينه على أكل أموال الناس بالباطل .
الواجب : تحديد الـمَـبيع وتحديد الصفقة ، وأما إذا كانت مجهولة القدر ، أو مجهولة الصفة فإنه لايجوز .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَـْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعيــــــــــن .