[font=Tahoma][align=justify] يقول الإمام الحافظ أحمد بن حجر الهيتمي في كتابه :[الفتاوى الحديثية (صـ72-79) :
وسئل : في التصوّف ما ملخص ما يقولونه في ابن عربي وابن الفارض وطائفتهما هل هم محقون أم مبطلون وما الدليل على ذلك أوضحوا لنا الجواب وابسطوه بسطاً شافياً ؟
فأجاب : ملخص ما نعتقده في ابن عربي وابن الفارض وتابعيهما بحق الجارين على طريقتهما من غاية إتقان علوم المعاملات والمكاشفات ، ومن غاية الزهد والورع والتجرد ، والانقطاع إلى الله في الخلوات والدأب على العبادات ونسيان الخلق جملة واحدة ، ومعاملة الحق ، ومراقبته في كل نفس كما تواتر كل ذلك عن هذين الرجلين العظيمين أنهم طائفة أخيار أولياء أبرار بل مقربون ، ومن رق السوىَّ أحرار لا مرية في ذلك ولا شك إلا عند من لا بصيرة له ، وكفاك حجة على ولايتهما تصريح كثيرين من الأكابر بها ، وبأنهما من الأخيار المقربين كالشيخ العارف الإمام الفقيه المحدث المتقن عبد الله اليافعي نزيل مكة المشرفة وعالمها ، ومن ثم قال الأسنوي في ( ترجمته ) :
فاضل الأباطح وعالمها ، وقال الحمد لله الذي ابتدأ كتبنا بالشافعي وختمها باليافعي ، وكالشيخ الإمام المجمع على جلالته وعلمه بمذهب مالك وغيره ، وعلى معرفته التاج بن عطاء الله وناهيك بحكمه وَتَنْويرِهِ دليل على ذلك ، حتى قالوا : كادت الحكم أن تكون قرآناً يتلى ، وكالشيخ الإمام العلامة المحقق الشافعي الأصولي التاج السبكي وكشيخنا خاتمة المتأخرين وواسطة جمع المحققين زكريا الأنصاري وكالشيخ العلامة البرهان بن أبي شريف وناهيك أيضاً بهذين العالمين .
وقد حكى بعض الثقات الأثبات من الفقهاء أنه قال : جاورت بمكة وكان لي فيها صديق من أولياء الله فسألته أن يريني القطب ، فمكث مدة ثم قال لي : إذا رأيته لا تكلمه ، فمكثت مدة ثم رأيته فقبلت يده وجلست ساكناً ، ثم التفت القطب وقال : صاحبُ مصرَ رجل منكم معشر الفقهاء ، فخطر لي أن أسأله عنه فلم يمكني ذلك ، ثم بعد مدة اجتمعت به وكان عندي أني إذا اجتمعت به أسأله عن تعيين ذلك الرجل ، فالتفت إليّ وقال : صاحب مصر الآن الشيخ برهان الدين بن أبي شريف ، ثم يكون بعده الشيخ زكريا ، فتأمل هذه الشهادة من القطب لهذين الإمامين ولقد كانا زينة مصر بل زينة الدنيا كلها ، فإنهما كانا لا يخافان في الله لومة لائم حتى كان الشيخ زكريا يسب السلطان قايتباي صريحاً على المنبر وهو جالس يسمع خطبته وهو يومئذٍ قاضي القضاة بالديار المصرية وكان لا يهابه ولا يعبأ به ، وكيف لا وقد مدّ عليه نظر السادة الصوفية ورضع من لبان معارفهم ودخل تحت لواء إشاراتهم ، وتزيا معهم حتى اجتلى وتوقد وتفرد وانكشفت له حقائق ومعارف ، وكان يحكي عن شيخه البلقيني أنه كان يجتمع بالخضر كثيراً وبلغني عنه أنه في أيام خلواته بسطح الجامع الأزهر ، جاء ممن يعرفه رجل وقد أصاب عينيه رمد حتى أيس منهما الكحَّالون فشكا إليه ذلك فتوجه إلى الله في أمرهما فلم يجيء اليوم الثاني إلا وقد زال عنه جميع ما يجده وصار بصره الذي كان أيس منه أحسن ما كان ، ولقد آذاه بعض تلامذته ، وكان أعطى مناصب عظيمة في الدولة الرومية بحيث كانت في الدولة التركية لا يعطي كل واحد منها إلا لمن هو دون السلطان بدرجة أو درجتين فدعا الشيخ عليه فلم يمض عليه إلا زمن قليل ، وقد سلب الله عنه جميع ما كان فيه وخرج من مصر هارباً إلى اسلامبول ، فصار فيها بأرث هيئة وأسفلها كل ذلك ببركة الشيخ ، وواقعة البرهاني بن أبي شريف مع السلطان الغوري مشهورة حيث عانده وأفتى بخلاف ما لا غرض له فيه ، وهو قبول رجوع رجل أقرّ بالزنا وكان للسلطان غرض في قتله ، فأرسل يستفتي من الشيخ لنفسه بذلك موافقة لما أدخله بعض الممقوتين من الفقهاء في ذهنه من أن الشرع عدم قبول إقراره فأفتاه بخلافه ، فعقد لعلماء مصر مجلساً في قلعته فكلمهم فلم يعلنوا بالحق كما أعلن به الشيخ برهان الدين بن أبي شريف ، وشد عضُدَه شيخنا زكريا ونَصَرَ ما قاله ، وأعلن به وبأنه على الحق ، فغضب السلطان من ذلك ومن إفتائه بموافقة ذلك ، وقال في فتواه : لا يجوز قتله ومن قتله قتل به ، فغضب الغوري غضباً شديداً حتى أرسل للرجل المقر والمرأة المزني بها فصلبا على باب بيت الشيخ ، فسد الشيخ ذلك الباب وصار يخرج من باب آخر كان له ولم يعبأ بذلك ولا تأثر به مع أنه إنما ظن أولاً أنه هو المأمور بصلبه ، فاستعد لذلك بالطهارة وغيرها وسلم الله ولم يظهر عليه ما يخالف التسليم ، ومن ثم رؤي الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو يكرر قوله :
(إن كان عندي موضعٌ لسواكم .....أعددُّته يوماً فلا ألقاه .
وهو يقول : جئنا لنسلم على إبراهيم ، ورؤي تلك الليلة أيضاً وهو يقول قد قلعنا الغوري بعروقه من هذه المملكة وكان كذلك فإنه لم يمكث بعد ذلك إلا مدة قليلة وخرج على وجهه في عساكره وأجناده إلى حلب ثم إلى محل يسمى مرج دابغ ، فبينما هو سائر التقى بالسلطان سليم بن عثمان فأخذل الله الغوري وجنوده وانهزموا وتبدَّدوا ولم يقدروا على الحرب ساعة واحدة ، وفُقِد الغوري ولم يدر ما فعل الله به .
فيكفيك ما قاله هؤلاء الأئمة العارفون بالله العالمون العاملون الفقهاء الأولياء ، وما صرحوا به من أنَّ كلا الإمامين المذكورين وطائفتهما : أي التابعين لهما بحق كما قدمته أولياء أخيار أتقياء أبرار . فكيف يمتري عاقل أو متدين بعد ما صرح به أئمة الدين الذين أماطوا عن وجهه شبهة المبطلين ، وأبطلوا حجج المتمردين ، مما ذكر في ولاية هؤلاء الأئمة المذكورين ، ويا عجباً كيف نأخذ بقولهم في الأحكام ونعمل بها فيما بيننا وبين الله ونعتمد عليها في التحريم والتحليل وقتل الأنفس وقطع الأيدي وغير ذلك من العظائم ، ولا نأخذ بقولهم في أئمة مسلمين تَضلَّعوا من الكتاب والسنة وضموا إلى ذلك الفروع الاجتهادية وما يلائم ذلك من العلوم الأدبية والعربية ، ثم بعد إتقان ذلك كله اشتغلوا بصفاء قلوبهم حتى أشرقت وتنورت وصارت شفافة تحكي ما قابلته ، فكوشفوا بإبراز العلوم وأحكامها الباطنة بل وبحكم الموجودات كالعبادات وغيرها ، فدوّنوها قصداً لأن ينتفع بها من سلك طريقتهم ، وليعلموا بها المحق من غيره ، وأن المحق ينطق عن وجوده بما يضاهيها فلا يتقيد بها ، وأما المبطل فليس له منها إلا مجرد الحفظ باللسان ، ولو طلب منه تحقيقها فضلاً عن إبداء ما ماثلها لعجز عن ذلك .
ومما يدل على إتقانهم لتلك العلوم المذكورة ما حكاه الذهبي وكان من المنكرين على الشيخ محيي الدين بن عربي : أن سلطان الغرب أمر أن لا يقيم ببلاده إلا رجل يبلغ درجة الاجتهاد بحيث لا يتقيد بمذهب أحد فأجمع رأي علماء بلاده على ستة منهم ، وكان من الستة الشيخ محيي الدين .
وما قاله البقاعي ، وكان من المنكرين أو أكبرهم في كتاب للشيخ محيي الدين صنفه في أسرار المعاملات ، هذا أجلّ من تصنيف الغزالي ، فتأمل كيف هذا الرجل بهذه المرتبة العظيمة العديمة النظير ، ويُظن به سفاسف الرذائل التي لا يرضى بها أقل متدين ليس ذلك إلا محض تعصب وسعياً في تبوّء مفاوز المقت أعاذنا الله من ذلك .
[مطلب على أن من أنكر على الصوفية لا ينفع الله بعلمه]
ولقد أخبرني شيخنا العارف العلامة أبو الحسن البكري عن الشيخ العلامة جمال الدين الصابي من صريح لفظه وكان من أجلّ تلامذة شيخنا زكريا السابق أنه كان ينكر على الشرف بن الفارض فرأى القيامة قد قامت وعلى كتفه خرج وهو به في غاية التعب ، ثم سمع قائلاً يقول : أين جماعة ابن الفارض ؟ قال : فتقدمتُ لأدخل معهم فقيل لي لستَ منهم فارجع ، فانتبهت وأنا في غاية الخوف والأسف والحزن فتبتُ إلى الله من الإنكار على ابن الفارض ، وخلصت عقدي مع الله واعتقدتُ فيه أنه من أولياء الله تعالى ، فنمتُ في مثل تلك الليلة من السنة الثانية فرأيتُ ذلك المنام بعينه ، ثم سمعت القائل يقول : أين جماعة ابن الفارض يدخلون الجنة ؟ فتقدمت معهم ، فقيل لي : ادخل الآن أنت منهم ، فانظر هذه القضية من رجل فقيه ، والظاهر والله أعلم أنه إنما أرى ذلك حتى رجع ببركة شيخه زكريا وإلا فكم من منكر عليهم تركوه وعماه حتى باء بالخسارة والبوار .
فإن قلت : قد أنكر عليهم أئمة أجلاء أيضاً كالبلقيني وغيره وآخرهم البقاعي وتلامذته وبعضهم ممن أخذت عنه ، فلم رجحت تلك الطريقة دون هذه الطريقة ؟
قلت : إنما رجحتها لأمور .
منها : ما ذكره شيخنا في ( شرح الروض ) نقلاً عن السعد التفتازاني محقق الإسلام وفارس ميدانه ومميط حجة الظلام وكشَّاف شُبَهه عن علياء ضيائه ، والذي ذكره فيه ظاهر فاطلبه منه ، وحاصله ردّاً على ابن المقري حيث قال : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر ، أن الحق أنهم أخيار أئمة ، وأن اليافعي وابن عطاء الله وغيرهما صرّحوا بولاية ابن عربي وأن اللفظ المصطلح عليه حقيقة عند أهله فيما اصطلحوا عليه ، وأن العارف إذا استغرق في بحار التوحيد ربما صدرت عنه عبارات توهم الحلول والاتحاد ولا حلول ولا اتحاد .
ومنها : ما صرح به أئمتنا كالرافعي في العزيز والنووي في ( الروضة ) و ( المجموع ) وغيرهما من أن المفتي إذا سئل عن لفظ يحتمل الكفر وغيره لا يقول هو مهدر الدم أو مباحه أو يقتل أو نحو ذلك ، بل يقول يسئل عن مراده فإن فسره بشيء عمل به فانظر وفقك الله إلى هذه العبارات تجد المنكرين الذين يتهجمون على هذا الرجل العظيم ويجزمون بكفره قد ارتكبوا متن عمياء وخبطوا خَبْط عشواء ، وإن الله أعمى بصائرهم وأصم آذانهم عن ذلك حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكان سبباً لمقتهم وعدم الانتفاع بعلمهم .
ومنها : أن علمهم وزهدهم ورفضهم الدنيا والسوى جملة واحدة قاض بنزاهتهم عن هذه المقالات الشنيعة ، فترجَّح بذلك عدم الإنكار عليهم لأن عبارتهم حقيقة فيما اصطلحوا فيه ، فلا يجوز الإنكار عليهم إلا بعد معرفة مدلول كلامهم ثم معرفة اصطلاحهم ، ثم يطبق ذلك الاصطلاح على ذلك المدلول وينظر هل يطابقه أم لا ، ونحمد الله ، المنكرون عليهم كلهم جاهلون بذلك إذْ ليس منهم أحد أتقن علوم المكاشفات بل ولا شم لها رائحة ، ولا أحد منهم ملك زمامه لأحد منهم حتى أحاط باصطلاحاتهم .
فإن قلت : لا أسلم أن اللفظ حقيقة لا مجاز فيما اصطلح عليه ، فعين لي ما هو أوضح من ذلك ؟ قلت : إنكار ذلك عناد ، وعلى تقدير عدم تسليم ما ذكرنا فاالصواب للمعترض أن يقول في عبارته : هذه العبارة تحتمل وجوهاً ويبينها ، ثم يقول : إن أراد كذا فكذا أو كذا فكذا ، ولا يقول من أول وهلة هذا كفر هذا جهل وخروج عن دائرة النصيحة التي يزعم أنه أرادها ، ألا ترى أن ابن المقري لو كان غرضه النصيحة لما كان يبالغ ويقول : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر ، فانتقل من الحكم عليهم بالكفر إلى الحكم على من لم يتيقن كفرهم ، فانظر إلى هذا التعصب الذي بلغ الغاية وفارق به إجماع الأئمة ، وانتقل به إلى كفر غير المتيقن كفرهم ) وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ( [ النور : 15 16 ] وانظر أيضاً إلى ما أفهمته عبارته . من أنه يجب على الكافة اعتقاد كفرهم وإلا كفروا ، وهذا لا قائل به بل ربما يترتب عليه محذور صرح به هو قبل في رَوْضِهِ تبعاً لأصله حيثُ قال من كفَّر مسلماً لذنبه بلا تأويل كفر ، وهذا قد كفرَّ مسلمين ، ولا عبرة بما يؤوله لأن ما يقوله من التأويل إنما يُقبل في حق من أنكر عليهم ، لأن كلماتهم قد توهم ذلك في اعتقاده ، وأما من لم يرَ كلامهم إلا نوراً بين يديه واعتقد ولايتهم فكيف يتهاجم مسلم على تكفيره ولا يتهاجم على ذلك إلا مَنْ رضي لنفسه بالكفر على احتمال ، ولقد ظهر في هذه الكلمة من التعصب والتعدي على سائر المسلمين نسأل الله من فضله أن يغفر لقائلها .
ولقد تواتر وشاع وذاع أن من أنكر على هذه الطائفة لا ينفع الله بعلمه ويبتلى بأفحش الأمراض وأقبحها ، ولقد جربنا ذلك في كثير من المنكرين حتى أن البقاعي غفر الله له كان من أكابر أهل العلم ، وكان له عبادات كثيرة وذكاء مُفْرط وحفظ بارع في سائر العلوم لا سيما علم التفسير والحديث ، ولقد صنف كتباً كثيرة أبى الله أن ينفع أحداً منها بشيء ، وله كتاب في مناسبات القرآن نحواً من عشرة أجزاء لا يعرفه إلا الخواص بالسماع ، وأما غيرهم فلا يعرفونه أصلاً ، ولو كان هذا الكتاب لشيخنا زكريا أو غيره ممن يعتقد لكان يكتب الذهب لأنه في الحقيقة لم يوضع مثله لكن : ) كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلاءِ وَهَاؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ( [ الإسراء : 20 ] ولقد بالغ البقاعي في الإنكار وصنَّف فيه مصنَّفات كلُّها صريحة في غاية التعصُّب والميل عن سبيل الاستقامة ، ومن ثم جوزي بما مرَّ وبأقبح منه ، وهو أنه ضبط عليه في مناسباته فحكم بتكفيره وإهدار دمه ، ولم يبق من ذلك إلا إزهاق روحه لولا استعان ببعض الأكابر حتى خلصه من تلك الورطة ، واستتيب في الصالحية بمصر وجدد إسلامه ، ولقد قيل له آخر أمره : ما الذي تنتقد على الشيخ محيي الدين ؟ قال : أنتقد عليه مواضع في فتوحاته خمس عشر موضعاً أو أدْون ، فأنظر إلى هذا الذي يخالف ما في مصنفاته من ذكر مواضع كثيرة من الفتوحات وغيرها والتصريح بأنها كفر ، وهل هذا إلا لمزيد التعصب ، ولقد كان له تلامذة أكابر أخذوا بقوله وما يعتقده وبعضهم من مشايخي ، لكن لم يظهر لهم علم لأن بعضهم لم يتيسر له التصنيف وبعضهم صنف في فن الفقه تصانيف تضاهي تصانيف السعد التفتازاني وغيره من بلاغتها ، وحسن سبكها وجودة تراكيبها ، لكن لم يعبأ أحد بها ولم يلتفت إليها بل الناس عنها في غاية الإعراض ، ولقد وقع لي مع هذا الرجل أني كنت أقرأ عليه فاعتراه ضيق نفس ، وكنت لا أعلم إنكاره على هذه الطائفة فوقع في بعض المجالس ذكر الشيخ عمر بن الفارض قدس الله سره فقيل له : ما تقول فيه ؟ قال : شاعر مُفْلِق ، فقيل له : فماذا بعد ذلك ؟ قال : كافر ، فأخذني من ذلك المقيم المقعد ثم عدت إليه لأقرأ وتوسمت توبته فرأيته مريضاً بضيق النفس مرضاً شديداً بحيث صار مشرفاً على زهوق نفسه ، فقلت له : إن اعتقدت في ابن الفارض ضمنت لك أن الله يُشْفيك من هذا المرض فقال لي : هذا له معي مدة من السنين ، فقلت : وإن كان قال : أفعل فخُفف عنه ثم خف عنه ، فمشيت معه يوماً لأحسن عقيدته ، فقال لي : أمَّا ذات الرجل فلا أحكم عليها بكفر ، وأما كلامه ففيه ما هو كفر ، فقلت : ظلم دون ظلم ، ثم تركت القراءة عليه ، وصار ذلك المرض ملازمه لكن بخفة نسبية ، ولقد كان بعض تلامذة البقاعي أيضاً وهو الشيخ العلامة نور الدين المحلي يقول : أما ذات الرجل فلا أحكم عليها بكفر وأما كلامه ففيه ما هو كفر . فإن قلت من المنكرين من نفع الله بعلمه .قلتُ : المنكرون على قسمين :
قسم منهم لم يقصدوا بإنكارهم محض النصيحة للمسلمين بل محض تعصب ، ورأوا ذلك وغلب عليهم نوع من الحسد وحب إبداء خلاف أهل العصر قصداً لتميزهم عليه بالأشياء الغريبة والاشتهار عنهم أنهم ينكرون المنكر ولا يخافون أحداً ، ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة التي لم يصحبها نوع إخلاص .
[مطلب في قول الغزالي ليس في الإمكان أبدع مما كان]
ومنهم الشيخ البقاعي وعلاء الدين البخاري ومن ضاهاهما ، ولقد أدّى البقاعي تعصُبه إلى أن أنكر على حجة الإسلام الغزالي قوله : ليس في الإمكان أبدع مما كان ، وشنع بما أوغر منه الصدور حتى دخل ليسلم على بعض أهل العلم فوجده في مكان خال فأخذ ذلك الرجل تاسومته وضرب بها البقاعي حتى أشرف على التلف ، وصار وهو يضربه يوبخه ويقول له : أنت المنكر على الغزالي أنت القائل في حقه كذا وكذا حتى جاء الناس وخلصوه منه ولم ينتطح فيها شاتان ، وبعد ذلك قام عليه أهل عصره وعاندوه وصنفوا في الذبّ عن الغزالي والردّ على البقاعي كتباً عديدة . وحاصل الجواب عن كلام الغزالي المذكور : أن إرادة الله سبحانه وتعالى لما تعلقت بإيجاد هذا العالم وأوجده وقضى ببقاء بعضه إلى غاية ، وببقاء بعضه الآخر لا إلى غاية وهو الجنة والنار كان ذلك مانعاً مِنْ تعلق القدرة الإلهية بإعدام جميع هذا العالم ، لأن القدرة لا تتعلق إلا بالممكن وإعدام ذلك غير ممكن لا لذاته بل لما تعلق به مما ذكرناه ، ولما كان إعدامه مُحالاً لما قُلناه كان إيجاده الأول على غاية الحكمة والإتقان وكان أبدع ما يمكن أن يوجد لأنه لا يوجد غيره لما تقرّر .
والقسم الثاني : قوم قصدوا بإنكارهم محض النصيحة للمسلمين ، وذبَّ هؤلاء الجهلة المتصوّفة الذين يشتغلون بمطالعة كتب ابن عربي وأتباعه مع خلوهم عن العلوم الرسمية والأحوال الكشفية واتصافهم بالجهل المحض ، ويتخذونها ديدناً حتى يفهموا منها غير المراد ، وهؤلاء الكُفْر أقرب إليهم من الإسلام ، ولقد شاهدنا منهم جماعة يأكلون في رمضان ويختلون في نهاره بالمُرْدِ في الحمام ، ويفعلون ما هو أقبح من ذلك ويقولون : نحن لا نشهد إلا الله ، وهذه التحليلات والتحريمات إنما يخاطب بها المحجوبون عن الله كهؤلاء الفقهاء المنكرين ، وقوماً يستبيحون أكل أموال الناس ويقولون : الأشياء كلها مملوكة لله سبحانه ونحن من عبيده ، وقوماً تلهيهم مطالعة كتبه عن الجماعة وأداء الفرائض في أوقاتها وغير ذلك ، فهؤلاء لا يُمترى في سفههم وجهلهم ويجب زجرهم عن مطالعة كتب الشيخ ، لا لنقص فيها بل لنقص في هؤلاء ، ولقد شافهني بعضهم بكثير مما قدمته ، وبعضهم يقول : العالم قديم والكفار لا يعذبون في جهنم . قلت : من أين لك هذا ؟ فقال : صرح به الشيخ محيي الدين بن عربي ، فانظر كيف فهم عبارة الشيخ على ظاهرها وأعتقد ذلك ، وما درى الجاهل المغرور أن المراد بها غير ذلك كما صرّح به الشيخ في بعض كتبه ، ولقد قال قدّس الله سرّه ونوّر ضريحه : نحن قوم تحرم المطالعة في كتبنا إلا لعارف باصطلاحنا ، فانظر كيف هذا نصّ صريح من الشيخ بتحريم المطالعة على هؤلاء الجهلة المغرورين المستهزئين بالدين .
فالمنكرون إنْ قصدوا بالإنكار المبالغة في زجر مثل هؤلاء فلا حرج عليهم ، وهم في أمن من الشيخ وأتباعه ، لأنهم ساعون في غرض الشيخ من عدم مطالعة هؤلاء كتبه ، ولقد بلغني عن بعض المنكرين أنه قيل له : أترضى أن يكون خصمك يوم القيامة الشيخ محيي الدين بن عربي وهو من أولياء الله تعالى ؟ فقال : نعم ، لأن الشيخ إن كان محقاً فهو ينكشف له أن إنكاري إنما كان لله فيفرح بذلك وإن كان مبطلاً فالغلبة لي فأنا آمن منه على كل تقدير ، فتأمل كيف أنصف هذا مع أنه منحط عن درجة الكمال على كل تقدير إذ التسليم أسلم ، لكن أهل هذا القسم أحسن حالاً من أهل القسم الأول ، ومن انتشر علمه من المنكرين علمنا أنه لم يكن من القسم الأول بل من القسم الثاني .
ويا عجبا أيضاً من المنكرين كيف يقرون الغزالي ويعرفون بحقيقة ما قاله من التعصب للحلاج مع أنها صرائح لا يحتمل كثير منها التأويل القريب ، ولا يؤولون كلام الشيخ محيي الدين بن عربي ، ليس ذلك إلا لما غلب عليهم من مزيد التعصب ، نسأل الله السلامة منه وأن يحشرنا تحت مواطىء أقدام هؤلاء الأئمة الأكابر الأخيار بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم .[/align][/font]
_________________ رضينا يا بني الزهرا رضينا بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا
يا رب
إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ
|