موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 3 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: الاستغاثة بالأنبياء والأولياء :: للشيخ يوسف الدجوي
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 25, 2008 2:38 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس يونيو 14, 2007 2:19 pm
مشاركات: 5957
[center][table=width:80%;][cell=filter:;][align=right]هذان مقالان عن التوسل و الاستغاثة بالاولياء و الصالحين ومعهما اقتباس مهم من مقال (توحيد الألوهيّة وتوحيد الرّبوبيّة ) يعتمد فيهم الشيخ الدجوى على التحليل العقلى الشرعى المنطقى و ايضا الدليل النقلى و لكن بايجاز [/align][/cell][/table][/center]

[center][table=width:80%;][cell=filter:;][align=right]المقال الأوّل : من ["مقالات وفتاوى الشّيخ يوسف الدّجوي" ط دار البصائر] (1/232)

وقد عُزِيَ إلى : مجلة الأزهر - العدد الثالث - المجلد الثاني - ربيع الأول سنة 1350 هـ

المقال الثّاني : من [المصدر السّابق] (1/242)

وقد عُزِيَ إلى : مجلة الأزهر - الجزء الخامس - المجلد الثاني - جمادى الأولى سنة 1350 هـ

الاقتباس : من [المصدر السّابق] (1/335)

وقد عُزِيَ إلى : مجلة الأزهر - الجزء الخامس - المجلد الرابع - ربيع الآخر 1352 هـ
[/align]
[/cell][/table][/center]


[center][table=width:80%;][cell=filter:;][align=center]الإفحام والإفهام في مسألة الاستغاثة بالأنبياء والأولياء :: للشيخ يوسف الدجوي [/align][/cell][/table][/center]

[center][table=width:90%;][cell=filter:;][align=center]المقال الأول : التوسّل والاستغاثة [/align][/cell][/table][/center]


لا تزال ترد إلينا الرّسائل بشأن التوسّل طلبًا للتوضيح والإسهاب .

وقد ذكر بعض مرسليها أن من الناس من يكفّر المتوسّلين برسول الله  الّذي سنتوسّل به جميعًا يوم القيامة على ما نطقت به الأحاديث الصحيحة . ولو قالوا إن في المسألة تفصيلاً ، أو أنّ بعض العبارات التي يقولوها المتوسّلون ، أو الزائرون ينبغي التّحاشي عنها ، وتعليم ما يصح أن يقول في توسّله أو عند زيارته ، لقبلنا منهم ذلك وشكرناهم عليه ، ولكنهم أفرطوا كل الإفراط ، فرأينا أن نفيض القول في ذلك ، فلعلّنا بزيادة التّقرير والتّكرير نُزيل تلك العقيدة التي هي أخطر شيءٍ على الإسلام والمسلمين .

ولنجعل الكلام معهم في مقامين ، حتى نفحمهم بالمعقول والمنقول ، فنقول : الكلام معهم في جهة الدليل العقلي ، وما نضطر إليه من الدليل النقلي .

قبل أن نخوض في هذا الموضوع نحب أن نشترط على المنكرين أن يصبروا صبر المرتاضين بصناعة المنطق ، العارفين بقوانين المناظرة ، فلا يخرجوا عن الفرض الذي نفرضه حتى نتم الكلام فيه ، وأن يعرفوا موضوع البحث فلا ينتقلوا عنه إلى غيره ، وسنفرض الفروض كلها ثم نبطلها واحدًا واحدًا .

ولينظروا حتى لا يختلط المعقول بالمنقول ، ولا المنقول بالمعقول ، وسنوفّي كلاًّ حقّه إن شاء الله ، وعسى ألاّ يكونوا بعد ذلك ممن يسلّم المقدّمات ثم ينازع في النّتيجة ، فنقول:

هؤُلاء إن كانوا يمنعون التوسّل والاستغاثة ، ويجعلونهما شركًا من حيث إنّهما توسّل واستغاثة ، فاستغاثة المظلوم بمن يرفع ظلمه إذًا شرك ، واستغاثة الرجل بمن يعينه في بعض شؤونه شرك ، واستغاثة الملك بجيشه لدى الحروب شرك ، واستغاثة الجيش بالملك فيما يصلح أمره شرك .

بل نقول : يلزمهم على هذا الفرض أنَّ طلب المعونة من أرباب الحرف والصنائع التي لا غنى للناس عنها شرك ، وطلب المريض للطبيب شرك ، بل يلزم بناءً على تلك الكليات التي تقتضيها الحيثيّة أن استغاثة الرّجل الاسرائيلي بسيدنا موسى عليه السلام وإجابته إياه كما قال تعالى { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } [القصص: 15] شرك ، إلى غير ذلك مما لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل .

هذا كله إن كانوا يقولون : إنها ممنوعة من حيث إنّها استغاثة بغير الله كما فرضنا ، فإن قالوا : أنّ الاستغاثة والتوسل بالأموات شرك دون الأحياء ، قلنا لهم : لا معنى لهذا بعد أن سلّمتم أن الاستغاثة بغير الله من الأحياء ليست بشرك ، وبعد ما ورد به القرآن ووقع عليه الإجماع في كل زمان ومكان ، ولا معنى لأن يكون طلب الفعل من غير الله شركًا تارة ، وغير شرك تارة أخرى ، فإن فيه نسبة الفعل لغير الله على كل حال .

وإن قالوا : إنّنا لا نعتقد التأثير الذاتي من الأحياء الذين نطلب منهم المعونة ، قلنا لهم : يجب إذًا أن تجعلوا مناط المنع هو اعتقاد التأثير الذاتي لغير الله تعالى ، لا فرق بين الأحياء والأموات ، فإن وجد ذلك الاعتقاد كان شركًا وإلا فلا ، سواءٌ كانت الدّعوة لحي أو ميت ، وإن كان مناط المنع هو تلك السَّبَبِيَّة الظاهرة التي تفهم من ظواهر الألفاظ ، وجب أن يكون ذلك كله شركًا ، حتى طلب الرجل من أخيه أن يعينه في الحمل على دابته ، أو بناء داره ، أو حفر نهره ، إلى غير ذلك كما أوضحنا في الفرض الأوّل .

فإن قالوا : إنّنا ننسب تلك الأفعال والتأثيرات إلى غير الله تعالى من الأحياء ، معتقدين أنّ الخلق والإيجاد ليس إلا لله تعالى ، وأن الحي ليس له إلا الكسب لا غير ، قلنا لهم : كذلك من يطلب من الأموات أو يتوسّل بهم ، والقرينة فيهما واحدة ، وهو إيمان بأن الله بيده ملكوت السّموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ، وأنّ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنّه لا خالق غيره ن ولا موجد سواه .

وإن كان سرّ المنع عندهم هو أن الميت لا يقدر على شيء مما طلب منه . فنقول لهم :

أولاً - لا يلزم من ذلك أن يكون الطلب شركًا بل عبثًا فقط ، والاستغاثة بالأحياء أقرب إلى الشرك منها بالأموات ، لأنها أقرب إلى اعتقاد تأثيرهم في الإعطاء والمنع بمقتضى الحس والمشاهدة ، لولا نور الإيمان وساطع البرهان .

ثانيًا - ثم نقول لهم : ما معنى قولكم "إن الميت لا يقدر على شيء" ، وما سره وباطنه عندكم ؟ إن كان ذلك لكونكم تعتقدون أنّ الميّت صار ترابًا ، فما أضلّكم في دينكم ، وما أجهلكم بما ورد عن نبيكم ، بل عن ربكم من ثبوت حياة الأرواح ، وبقائها بعد مفارقة الاجسام ، ومناداة النبي  لها يوم بدر بقوله (( يا عَمرو بنَ هِشَام وَيَا عُتبَة بنَ ربيعَة وَيَا فُلانَ بن فلان إنَّا وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكْم حَقًّا)) فقيل له : ما ذلك ؟ فقال (( مَا أنْتُم بِأسمَعَ لِمَا أقُولُ مِنْهم )) ومن ذلك تسليمه على أهل القبور ومناداته لهم بقوله (( السَّلاَمُ عَلَيكم يَا أهْلَ الدِيَار )) . ومن ذلك عذاب القبر ونعيمه ، وإثبات المجيء والذهاب إلى الأرواح ، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي جاء بها الإسلام ، وأثبتتها الفلسفة قديمًا وحديثًا .

ولنقتصر هنا على هذا السّؤال :

أيعتقدون أن الشهداء أحياءٌ عند ربهم ، كما نطق القرآن بذلك أم لا ؟ فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم ، لأنّهم كذّبوا القرآن حيث يقول{ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ } [سورة البقرة : 154] { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون } [سورة آل عمران : 169] .

وإن اعتقدوا ذلك فنقول لهم : إن الأنبياء ، وكثيرًا من صالحي المسلمين الذين ليسوا بشهداءَ كأكابر الصحابة ، أفضل من الشهداء بلا شك ولا مرية ، فإذا ثبتت الحياة للشهداء فثبوتها لمن هو أفضل منهم أولى .

على أن حياة الأنبياء مصرّح بها في الأحاديث الصحيحة ، وقد رأى  موسى  يصلّي فوق الكثيب الأحمر ، وراجعه مرارًا عندما فرضت الصلاة خمسين في كل يوم وليلة حتى صارت خمسًا ، كما قابل آدم وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء -عليهم السلام- فهذا كلّه يثبت حياة الأرواح ، وأنه لا شك فيها .

فإذًا نقول : حيث ثبتت حياة الأرواح بالأدلة القطعيّة التي قدمنا بعضها ، فلا يسعنا بعد ثبوت الحياة إلا إثبات خصائصها ، فإن ثبوت الملزوم يوجب ثبوت اللازم كما أن نفي اللازم يوجب نفي الملزوم كما هو معروف .

وأي مانع عقلاً من الاستغاثة بها ، والاستمداد منها كما يستعين الرجل بالملائكة في قضاء حوائجه ، أو كما يستعين الرجل بالرجل ، وأنت بالروح لا بالجسم إنسان .

وتصرّفات الأرواح على نحو تصرفات الملائكة لا تحتاج إلى مماسة ولا آلة ، فليست على نحو ما تعرف من قوانين التّصرّفات عندنا ، فإنّها من عالم آخر ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [سورة الإسراء : 85] وماذا يفهمون من تصرّف الملائكة أو الجن في هذا العالم ؟!

ولا شك أنّ الأرواح لها من الإطلاق والحرِّيَّة ما يمكّنها من أن تجيب من يناديها ، وتغيث من يستغيث بها ، كالأحياء سواء بسواءٍ ، بل أشد وأعظم . وقد ذكرنا لك فيما سبق عن ابن القيم أنّ الأرواح القوية ، كروح أبي بكر وعمر ربّما هزمت جيشًا ، إلى آخر ما ذكرناه . فإن كانوا لا يعرفون إلا المحسوسات ، ولا يعترفون إلا بالمشاهدات ، فما أجدرهم أن يسموا طبيعيين لا مؤمنين .

على أنّنا نتنزل معهم ، ونسلم لهم أن الأرواح بعد مفارقة الأجساد لا تستطيع أن تعمل شيئًا ، ولكن نقول لهم : إذا فرضنا ذلك وسلّمناه جدلاً فلنا أن نقرّر : أنّه ليست مساعدة الأنبياء والأولياء للمستغيثين بهم من باب تصرّف الأرواح في هذا العالم على نحو ما قدمنا ، بل مساعدتهم لمن يزورهم أو يستغيث بهم بالدعاء لهم ، كما يدعو الرجل الصالح لغيره ، فيكون من دعاء الفاضل للمفضول ، أو على الأقل من دعاء الأخ لأخيه ، وقد علمت أنهم أحياءٌ يشعرون ويحسّون ويعلمون ، بل الشعور أتم والعلم أعم بعد مفارقة الجسد ، لزوال الحجب التّرابية ، وعدم منازعات الشهوات البشرية .

وقد جاء في الحديث أن أعمالنا تعرض عليه  ، فإن وجد خيرًا حمد الله ، وإن وجد غير ذلك استغفر لنا ، ولنا أن نقول : إن المستغاث به ، والمطلوب منه الإغاثة هو الله تعالى ، ولكن السائل يسأل متوسلاً إلى الله بالنبي أو بالولي في أنه يقضي حاجته ، فالفاعل هو الله ، ولكن أراد السائل أن يسأله تعالى ببعض المقربين لديه الأكرمين عليه ، فكأنه يقول : أنا من محبيه -أو محسوبيه- ، فارحمني لأجله . وسيرحم الله كثيرًا من الناس يوم القيامة لأجل النبي  ، وغيره من الأنبياء ، والأولياء ، والعلماء .

وبالجملة : فإكرام الله لبعض أحباب نبيه لأجل نبيه ، بل لبعض العباد لبعض أمر معروف غير مجهول ، ومن ذلك الذين يصلون على الميت ، ويطلبون من الله أن يكرمه ويعفو عنه لأجلهم بقولهم : "وقد جئناك شفعاءَ فشفعنا فيه ".

والمقصود من ذلك كله إثبات أن الله يرحم بعض العباد ببعض ، على أن توجّه الإنسان إلى النبي ، أو الولي ، والتجاءَه إليه تحس به روح النبي والولي تمام الإحساس ، وهو كريم ذو وجاهة عند الله تعالى ، كما قال تعالى في بعض أصفيائه { وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } [سورة الأحزاب : 69] وكما قال في بعض آخر : { وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [سورة آل عمران : 45] ، فتعتني تلك الروح بذلك الملتجئ أشد الاعتناء في تسديده وتأييده ، والدعاء له هي والملائكة الذين يجلونها ، ويحبون مسرتها ورضاها ، والأنبياء والأولياء محبوبون للملائكة بشاهد قوله  (( إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ فِي السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ )) ... إلى آخر الحديث ، وأن الملائكة لتقول للذين قالوا : رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ } [سورة فصلت : 31] ، كما نصّ على ذلك القرآن الشريف .

وذلك سرّ التوجّه إلى الأولياء وزيارتهم ، لتنتبه أرواحهم لحال الزائر ، وتلتفت إلى معونته بما أعطاهم الله تعالى من الخصائص ، كما تنفع أخاك بما أعطاك الله من قوة ، أو وجاهة ، أو مكانة ، أو ثروة ، أو أعوان ، أو أنصار ... إلى آخره ، وإن الإنسان هو هو في الدنيا والآخرة ، من حيث روحه التي هي باقية في العالمين جميعًا ، وليس الإنسان إنسانًا إلا بها كما شرحنا ، والأمر جلي ، ولكنها الأهواء عمَّت فأعمت .

والخلاصة :
أنه لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله تعالى ، والتّفرقة بين الأحياء والأموات لا معنى لها ، فإنه إن اعتقد الإيجاد لغير الله كفر ، على خلاف للمعتزلة في خلق الأفعال ، وإن اعتقد التسبب والاكتساب لم يكفر .

وأنت تعلم أن غاية ما يعتقد الناس في الأموات ، هو أنهم متسببون ومكتسبون كالأحياء ، لا أنهم خالقون مُوجِودون كالإله ؛ إذ لا يعقل أن يعتقد فيهم الناس أكثر من الأحياء ، وهم لا يعتقدون في الأحياء إلا الكسب والتّسبّب ، فإذا كان هناك غلط فليكن في اعتقاد التّسبّب والاكتساب ؛ لأن هذا هو غاية ما يعتقده المؤمن في المخلوق كما قلنا ، وإلا لم يكن مؤمنًا ، والغلط في ذلك ليس كفرًا ، ولا شركًا .

ولا نزال نكرر على مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد في الميت أكثر مما يعتقد في الحي ، فيثبت الأفعال للحي على سبيل التّسبّب ، ويثبتها للميت على سبيل التأثير الذّاتي والإيجاد الحقيقي ، فإنه لا شك أن هذا مما لا يعقل .

فغاية أمر هذا المستغيث بالميت -بعد كل تنزل- أن يكون كمن يطلب العون من المُقعد غير عالم أنّه مقعد ، ومن يستطيع أن يقول إن ذلك شرك ؟! على أن التّسبّب مقدور للميت وفي إمكانه أن يكتسبه كالحي بالدعاء لنا ، فإن الأرواح تدعو لأقاربهم ، كما في الحديث الشريف إذا بلغهم عنهم ما يسوؤهم ، فيقولون : (( اللهم راجع بهم أو لا تميتهم حتى تهديهم )) .

بل الأرواح يمكنها المعاونة بنفسها كالأحياء ، ويمكنها أن تلهمك وترشدك كالملائكة ، إلى غير ذلك على ماشرحناه ، وكثيرًا ما انتفع الناس برؤيا الأرواح في المنام . ولعلّنا نعود إليه.


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 25, 2008 3:05 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس يونيو 14, 2007 2:19 pm
مشاركات: 5957
[center][table=width:80%;][cell=filter:;][align=center]
المقال الثاني : التوسّل والاستغاثة [/align]
[/cell][/table][/center]


س : هل جاء في السّنّة أنّ الرّسول صلى الله عليه و سلمعَلَّم النّاس أن يسألوا الصّالحين من الأموات ويطلبوا منهم الدّعاء ؟ أرجو أن تذكر ولو حديثًا واحدًا .

الجواب : نحن نقلب عليه السّؤال أوّلاً - فنقول : هل جاء في السّنّة أنّ الرّسول صلى الله عليه و سلمنهى النّاس عن أن يسألوا الصّالحين ويطلبوا منهم الدّعاء ؟ أرجو أن تذكر لنا شيئًا من ذلك ولو حديثا واحدًا .

ثم نقول له ثانيًا : إنّ جواز الأشياء لا يتوقّف على ورود الأمر بها ، بل على عدم النّهي عنها كما هو مقرّر في علم الأصول : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [سورة الأنعام : 145] إلى آخره ، فكل ما لم يرد فيه نص بالحظر فهو مباح على ما تقتضيه الآية ، وعَلَّمَنا صلى الله عليه و سلمفي السّنّة الصّحيحة : أنّ ما أمرنا به فعلناه ولم نتركه ، وما نهى عنه اجتنبناه ولم نفعله ، وما سكت عنه فهو عفو ، فهذه هي قواعد العلم الّذي يعرفه العلماء .

وأما شبهة الموت فهي شبهة واهية ؛ لأنّكم بين أمرين : إمّا أن تنكروا إدراك الأموات ، وعلمهم ودعاءهم وسماعهم ، وإمّا أن تقرّوا بذلك ، فإن أنكرتموه ملأنا لكم الدّنيا أدلّة وبراهين على ثبوت ذلك لهم مثل : دعاء آدم ، وإبراهيم ، وغيرهما من الأنبياء عليهم السّلام لنبيّنا صلى الله عليه و سلمليلة المعراج ، كما في حديث البخاري ومسلم وغيرهما ، وكما في حديث (( تُعْرَضْ عَلَيَّ أعْمَالُكُمْ فَإنْ رَأيْتُ خَيْرًا حَمَدْتَ الله ، وَإنْ وَجَدْتُ غيْرَ ذلِكَ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ )) وكما في حديث عرض أعمال الأحياء على الأموات ودعائهم لهم ، وقد ذكره ابن تيميّة نفسه في فتاويه ، واعترف به ابن القيّم كل الاعتراف وقرّره أتمّ التّقرير .

ومن محاسن المصادفات في هذا ما يقرّره الأوربيون الآن مما يوافق ذلك ، وقد قرّره قبلهم بعشرات القرون الفلاسفة الأقدمون مثل : أفلاطون ، وغيره من الفلاسفة ، فالمسألة متّفق عليها بين علماء الدّين وعلماء الدّنيا ، أو نقول : بين المسلمين وغير المسلمين ، أو نقول : بين أهل الأثر والنّقل ، وبين أهل الفلسفة والعقل .

أمّا إذا اعترف الوهّابيّون بأنّ للأموات إدراكًا ، وعلمًا ، وسماعًا ، وأنّهم يدعون ، ويردّون السّلام إلى غير ذلك كما ورد في السّنّة ، ثم منعوا طلب ذلك منهم كانوا متناقضين ، أو نقول : كانوا ممّن يسلّم بالمقدّمات وينازع في النّتيجة ، أو ممّن يقطع باللّوازم عن ملزوماتها ، وهو ممّا لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل .

على أنّنا ذكرنا في ذلك ما يقطع الشّغب من أصله ، والمراء من أسّه ، وذلك هو الحديث الصحيح الّذي رويناه عن عثمان بن حنيف في التوسّل به في حياته صلى الله عليه و سلموبعد مماته ، وقد قال فيه : (( يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ لِي عِنْدَ رَبِّكَ )) . ولا معنى للشفاعة إلاَّ الدّعاء الّذي يكون منه صلى الله عليه و سلم، وفي الحديث الصحيح : (( اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ )) ، وفي حديث آخر : (( بِحَقِّ نَبِيَّكَ والأنْبِيَاء قَبْلَهُ )) .

فالتّوسّل بالصالحين والدعاء ثابت وواقع ، وقد قلنا في بعض ما كتبناه : لا معنى لكون هذا شريكًا ، كما يقوله الغلاة ، فإنّ الحي إذا طلب من الميّت الّذي هو حي بروحه ، متمتع بلوازم الحياة وخصائصها ، فإنّما يطلب منه على سبيل التّسبب والاكتساب ، لا على سبيل الخلق والإيجاد ؛ لأنّه ليس من المعقول أن يرفعه عن رتبة الحي ، وهو إذا طلب من الحي فإنّما يطلب منه على هذا الوجه ، لا على جهة الخلق والإيجاد ، والطلب من المخلوق على سبيل التّسبّب ليس شركًا ولا كفرًا ، فلا معنى لتكفير المسلمين بذلك ، ولو فرضنا أنّ الميّت لا عمل له ، فإنّ خطأ المنادي أو المستغيث - على هذا الفرض - إنّما هو في اعتقاد السّببيّة لا الإلهيّة ، واعتقاد السّببيّة في غير الله ليس هو اعتقاد الإلهيّة كما يظنّه الجاهلون ، وقد عرفت ممّا قدّمناه أنّه ليس غَلَطًا أيضًا ، وإنّما الغالطون هم الغلاة ، وإن كان التوسّل بمنزلته عند الله فالأمر واضح ، لأنّ الموت لا يغيّر المنزلة عند الله تعالى .

س : هل الرسول صلى الله عليه و سلمأهمل نوعًا من التّوسّل إلى الله تعالى ، أو ترك شيئًا ممّا يقرّب إلى الله تعالى ؟

ج : لم يهمل الرّسول صلى الله عليه و سلمشيئًا ممّا يقرّب إلى الله ، ولا ترك نوعًا من أنواع التّوسّل ، وقد علّمنا التّوسّل في حديث عثمان بن حنيف المتقدّم ، بل توسّل هو بحقّه وحق الأنبياء قبله ، وعرفنا أنّ آدم عليه السّلام توسّل به قبل وجوده ، وقد بُيّن ذلك كله في الأعداد السّابقة .

وبعد ، فماذا عسى أن يدل ذلك للسّائل ؟! فلو فرضنا أنّ الرّسول لم يتوسّل بالصّالحين لأمكن أن يُقَال : إن مقامه أرفع من كل مقام ، على أنّه صلى الله عليه و سلمكان عريقًا في العبوديّة ، وكان أعلم خلق الله بإطلاق الرّبوبيّة وسعتها ، وبأنّ الكل عبيدها ، وتحت قهرها ، وليس هناك إلاَّ فضلها الواسع ، وكرمها الشّامل ، وأنّه لا بد من ظهور ذل العبوديّة على كل أحد ، وذلك من تعظيم الرّبوبيّة .

ويعلم صلى الله عليه و سلمأنّ عبيد السّيّد المطلق لهم منازل عنده ، وأنّ لكل منهم مزية لديه ، وأنّ المقتضي لعطائه تعالى إنّما هو العبوديّة له صلى الله عليه و سلم، فلا بد أن يكون بينهم ارتباط العبيد وتبادل المنافع ، وعلى هذا قام بناءُ الكون .

كان صلى الله عليه و سلمأعرف النّاس بذلك كلّه ، فطلب الدّعاء من عمر وابن عمر من رسول الله ، وأمر عمر أن يطلب الدّعاء من أويس القرني ، وأين أويس من عمر ؟! وسأل الله تعالى بحق الأنبياء قبله كما في حديث فاطمة بنت أسد ، وأمرنا أن نتوسّل به إذا عرضت لنا حاجة إلى الله ، فقال ذلك للأعمى : (( فَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ)) ، وقد فعلها الرّجل الّذي كان يتردّد على عثمان بن عفّان في خلافته ، وقد بيّنا ذلك أتمّ البيان .

على أنّنا نريد منكم أن لا تكفّروا المسلمين بمثل هذا العمل الّذي لا شيء فيه ، ونكتفي منكم أن تقولوا : إنّه مباح ، أو خلاف الأولى ، أو مكروه – إذا أردتم – ولو قلتم ذلك لاحتملناه منكم ، وإن كان غير صحيح ، ولكن قومك يا حضرة السّائل الّذي يظن أنّه منصف وغير متعصّب ، يعملون على خلاف ذلك .

س : هل ثبت ما يُروى عنه صلى الله عليه و سلم(( مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ إلَى الله إلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ )) ؟ وإذا كان ثابتًا فهل الطّلب من الأموات أن يدعوا للأحياء مما قاله الرّسول صلى الله عليه و سلموأمر به وفعله أم لا ؟

ج : نعم ، ثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلمقال ذلك ، ودعاء الأموات داخل في دعاء الأخ لأخيه الّذي لا يمكنكم أن تمنعوه ، وقد عرّفتنا السّنّة الصّحيحة أنّه لا فرق بين الحي والميّت في ذلك ، وأنَّ الميّت يدعو الحي على ما سبق ، فإنَّ الموت ليس فناءً أو عدمًا كما يظنّه الجاهلون ، وإنّما هو انتقال من دار إلى دار :

لاَ تَظُنُّوا المَوتَ مَوتًا إِنَّهُ لَحَيَاةٌ وَهُوَ غَايَاتُ المُنَى

لاَ تُرِعْكُم هَجمَةُ المَوتِ فَمَا هُوَ إِلاَّ نَقْلَةٌ مِن هَاهنا



ولا نزال نكرّر أنّه قد دعا آدم عليه السّلام وغيره من الأنبياء لنبيّنا صلى الله عليه و سلم، وأنَّ النبي يدعو لأمّته في البرزخ ، بل آباؤنا يدعون لنا على ما عرفت وتعرف ، على أنّنا نكتفي منكم أن تقولوا : إنّه مباح لا قربة ، أو على الأقل لا تكفّروا به مسلمين ، وقد قلنا فيما كتبناه في العدد الثّالث من هذه السّنة : إنّه لا وجه لذلك ، ولو قلنا : إنّ الميت لا يمكنه أن يدعو ولا أن يفعل شيئًا ، فإنّ الغلط في هذا الفرض يكون غلطًا في اعتقاد التّسبّب لا الإلهيّة ، ولا نزال نكرّر أنّ معتقد السّببيّة في المخلوقات لا وجه لتكفيره ولا معنى له ، فإنّ من يجعل غير السّبب سببًا يكون جاهلاً لا كافرًا ، ويكفي هذا .


س : هل بيّن الرّسول صلى الله عليه و سلمما أمر به من الوسيلة في آية المائدة عملاً بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } سورة المائدة : [67] الآية أم لا ؟

ج : نعم بَيَّن لنا صلى الله عليه و سلمكل ما نحتاج إليه ، على أنَّ الوسيلة واضحة المعنى ظاهرة الدّلالة ، والقرآن عربي نزل بلغة العرب ، ولا وجه لقصركم إياها على نوع خاص ، فإنّه قول بلا دليل ، على أنّه لا داعي لذلك كلّه ، فقد ثبت التوسّل مصرحًا به في حديث عثمان بن حنيف وغيره ممّا قدّمناه ، وقد جاء في آخر الحديث المذكور (( فَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ )) وقد عمل به في زمن عثمان بن عفّان ، كما بيّناه فيما سبق من الأعداد .

س : هل يلزم من عدم دعاء الأموات ومخاطبتهم بغير المشروع إنكار كرامتهم ؟ وإذا قلتم بالتّلازم ، فبيّنوا لنا وجهه بالبرهان ، واذكروا لنا من الصّحابة والتّابعين والأئمّة المتبوعين من قال بجواز هذا النوع من التوسّل .

ج : نعم من كان مثلكم ينكر التوسّل والاستغاثة يجب أن ينكر كرامات الأموات ، فإنّه إذا لم يصح أن نتوسل إلى الله بالميّت ، ولا يمكنه هو أن يدعو لنا ، ولا تستطيع روحه أن تفعل شيئًا كما هو اعتقادكم ، فأي كرامة تكون له بعد ذلك ؟! وما معنى إثباتكم إياها وقد نفيتم عنه كل عمل وكل قدرة ، ومنعتم أن نتوسّل به لله تعالى ليفعل لنا ما نريد لأجله ؟ فأي شيء يبقى بعد ذلك ؟!

وأمّا طلبكم منا ذكر من جوّز ذلك من التّابعين أو الأئمّة المتبوعين فنحن نقول : إنّ الأمّة كلّها قبل ظهور ابن تيميّة على هذا الجواز ، ونتحدّاكم فنقلب السّؤال عليكم فنقول : هل يمكنكم أن تذكروا لنا من التّابعين أو الأئمّة المتبوعين من منع ذلك النّوع من التّوسّل ؟

أليست المذاهب كلّها مجمعة على توسّل الزّائرين للحجرة النبويّة به صلى الله عليه و سلم؟! وقد ذكرنا لكم نص الحنابلة في ذلك ، وكذلك جميع الأئمّة ، ولا نرى لكم سلفًا فيما تقولون ، بل جميع العلماء يصرّحون بأنّ ذلك مطلوب من كل زائر لا جائز فقط ، فهذا هو الإجماع ، وقد مرّ من الأدلّة العقليّة والنّقليّة ما يكفي ويشفي ، ثم نقول لكم : ألم يعترف ابن القيّم بأنّ الرّوح القويّة لها من الأعمال بعد الموت ما لا تستطيعه حالة الحياة ، وقد وصل الأمر إلى أئمّتكم أنفسهم ؟!

فأنتم في إثبات كرامات الأولياء وغيرها متناقضون تارةً مع الهوى ، وتارة مع الحق ، ويرحم الله من قال : المبطل لا بد أن يتناقض شاء أم أبى .

وأمّا تضليلنا إيّاكم فإنّما هو لتكفير المسلمين ، واستباحة دمائهم وأموالهم ، إلى آخر ما كان يفعله الخوارج ، وكان ينقمه عليهم الإمام علي ومن معه من الصّحابة ، ولو قلتم : إنّ الأولى أن يرجع الناس في كل أمورهم إلى الله تعالى بلا واسطة ، أو قلتم : إنّ هناك مقامًا تسقط فيه الأسباب والوسائط كما قال إبراهيم عليه السلام لجبريل عليه السّلام : "أمَّا إِلَيْكَ فَلاَ" عندما قال له : "أَلَكَ حَاجَةٌ" .

لو قلتم ذلك وسلكتم هذا المسلك لم ننكر عليكم ، ولم نشتد في مناقشتكم ، ولو كان لكم رأي في المسألة غير التّكفير لقلنا : مجتهدون ظنّوا ظنًّا وإلى الله أمرهم ، وكم مجتهد أخطأ ، ولكن أولئك الّذين أخطئوا لم يقدّسوا أنفسهم هذا التّقديس ، ولم يحملوا النّاس على مذاهبم بالسّيف ؛ لأنّهم يجوّزون أن يكون الحق في جانب غيرهم ، ويعلمون ما جاء عن الرّسول : أنّ سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ، وأنّ من رمى أخاه بالكفر فقد كفر أو كاد .

ولم يرض الإمام مالك من الخليفة المنصور العبّاسي أن يحمل النّاس على الموطّأ ، وهو هو عند مالك ، ولا من الرّشيد أيضًا أن يلزم النّاس بما فيه احترامًا للأمّة وعلمائها واتّهامًا لنفسه ، شأن أئمّة الهدى وورثة الرّسول صلى الله عليه و سلم، والجاهل لا يعرف غير تعظيم نفسه ، والعالم لا يعرف غير تعظيم ربّه ، ومن تعظيم الله تعظيم من عظّم الله ، { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }.

ثم قال السّائل : لا يمكننا أن نسيغ توجّه المسلم العارف بربّه ، الآنس بذكره إلى عبد من عباده انتقل من عالم إلى آخر ، لا يعلم حاله فيه إلاّ الله ، يسأله ويخاطبه بعد أن كان متلذذًا بخطاب الله تعالى ومناجاته ، ولا يخفى عليكم حديث أم العلاء من صحيح البخاري ، وفيه أنّها شهدت لمهاجر -وهو أبو السّائب- توفّي عندها فقالت : أمّا شهادتي فيك لقد أكرمك الله ، وأنّ الرّسول صلى الله عليه و سلمقال لها : "وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ" ... إلى غير ذلك من الأحاديث من أمثاله .

وكلّها تدل على أنّ الأموات قد أفضوا إلى ما قدّموا ، وأنّه لا يجوز لنا أن نحكم لأحد حكمًا جازمًا بأنّه من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، إلاَّ ما ورد النّص بأنّهم من أهل الجنّة ، أو من أهل النّار ، كما ورد في أهل بدر وبعض الصّحابة كعكاشة بن محصن .

ونحن نقول : إن حضرة السّائل أدمج في هذا الكلام الخطابي أشياء لا نتركها له بل نناقشه الحساب فيها .

أمّا التمويه بذكر توجّه المسلم إلى ربّه وتلذّذه بذكره ، فهو لذيذ في الأسماع يكاد يأخذ بمجامع النّفوس ، ولكن هذا مقام تحقيق علمي لا ينفع فيه التّمويه ، ولا تفيد فيه الخطابة ، وقد قلنا فيما سبق : لو كان رأي الوهّابيّين أنّ هذا هو مقام الكمال لم نتعرّض له ، ولكنّهم بدّعوا وفسّقوا وكفَّروا ، إلى آخره .

فأين هذا ممّا يقوله السّائل ، فإن كان يريد أنّ الاشتغال بذكر الله ومناجاته أولى ، فليس الخلاف بيننا وبينه في الأولويّة ، ولكن النّاس درجات بعضها فوق بعض ، ولا حرج على من يلتفت للأسباب والوسائط عالمًا أنّ الله هو الأوّل والآخر ، فهو ممد كل شيء ، والمفيض على كل شيء ، وإليه يرجع الأمر كلّه ، ولا بين من ترك الأسباب ثقةً بالمسبّب ، فكان هذا غريقًا في قدرته ، كما كان ذاك ناظرًا إلى حكمته ، عاملاً بسنّته ، فلا حرج على هذا ولا ذاك ، وإن صح أن نقول : إنّ بعضهم أفضل من بعض.

وهل ما ذكره السّائل من حديث التّلذّذ والأنس الّذي قطعه خطاب الأدوات صحيح أم هو تمويه وخيال ؟ ولماذا لا يقول مثل ذلك في الطّلب من الأحياء ؟ أليس الأنس بالله تعالى ومناجاته خيرًا من الطّلب من الأحياء أيضًا - ولو كان وزيرًا أو أميرًا – أم التّفصيل الّذي ذكره لا يتحقّق إلاَّ بين الطلب من الله ، والطّلب من الأموات ؟!

وقد أدمج كلامه ما يلهج به كثير من الجهلة ، من أنّ الميت لا ندري حاله ولا ما مات عليه ، وهو سوء ظن كبير بالمسلمين بل بالله تعالى ، فنلفت نظر السّائل إلى أنّ من عاش على شيء مات عليه ، كما في الحديث الشّريف ، فهذه هي سنّة الله الغالبة ، وما عدا ذلك فشاذ لا يقاس عليه لحكمة يعلمها هو .

ثم نقول : إنّ الأمور في هذا العالم مبنيّة على الظّن ، حتّى الأمور الشّرعيّة والأحكام الفقهيّة ، وعلى هذا يجب أن نعامل أمواتنا ، فنغسلهم ونكفّنهم وندفنهم في مقابر المسلمين ، ونورث أموالهم ... إلى غير ذلك ، ولسنا على اليقين الّذي يريده السّائل من أمرهم - ولكن ذلك اليقين لم يشترطه أحد .

فعلينا أن نعد من عاش في حياته على خير وصلاح من أهل الخير والصلاح بعد موته ، ولا يجوز لنا غير ذلك اتباعًا لتلك الوساوس الّتي ما أنزل الله بها من سلطان .

وليت شعري ، هل إذا رمينا أحدهم بأنّ أباه لا ندري حاله أمسلم هو أم كافر أفيغضب أم لا ؟! أو هل يريد أن لا نعمل شيئًا إلاَّ بناء على جزم ويقين ؟! إذًا يختلّ أمر هذا الوجود وتبطل أحكامه .

أمّا حديث عثمان بن مظعون الّذي أشار إليه السّائل : فالمراد منه أنه ينبغي الخوف من سعة التّصرّف الإلهي ، وأنّ مرتبة العبودية لا تتخطّى مقام الرّجاء والضّراعة ، وأم العلاء قد قطعت على الله أنّه مُكْرِمُهُ على سبيل الجزم ، فأخرجت ذلك مخرج الشّهادة ، وأظن أنّها لو شهدت له بالدّين والصّلاح ، لتغيّر جواب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وقد قال في آخر الحديث:((وَإِنِّي لأَرجُو لَهُ الخَيْرَ )).

فهل يفرّق السّائل بين رجاء الخير وظن الخير ؟! ولماذا لا يذكر لنا ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَجَبَتْ )) ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا . فَقَالَ: (( وَجَبَتْ )) فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَا وَجَبَتْ . قَالَ : (( هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ))؟! أو ما أخرجه عن عمر رضي الله عنه قال : "قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ )) َقُلْنَا وَثَلَاثَةٌ قَالَ (( وَثَلَاثَةٌ )) فَقُلْنَا وَاثْنَانِ قَالَ (( وَاثْنَانِ )) ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنْ الْوَاحِدِ" . ؟! أو ما أخرجه البخاري أيضًا من قوله صلى الله عليه و سلمفي شهداء أحد : (( أنا شهِيدٌ عَلى هؤلاء )) ؟!

ثم نقول للغلاة جميعًا : لماذا لا تذكرون أو لا تعملون - ولا نقول لا تصدّقون – بما أخرجه البخاري أيضًا من قوله صلى الله عليه و سلم: (( وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَ )) ... إلى آخره ، بل سارعتم إلى القول بالشّرك الّذي لا يخافه صلى الله عليه و سلمعلى أمّته ، فأوستعموهم ذبحًا وقتلاً معتقدين أنّهم مشركون خارجون عن الملّة ، وكأنّ السّائل قد أحس بذلك كلّه فقال : "على سبيل الجزم" .

ونحن نقول له : يكفينا الظّن ، وحسن الظّن بالمسلمين مطلوب - خصوصًا الصّالحين - وأمّا الجزم الّذي تريده فلم يشترطه أحد كما قلنا .

ثم قال السّائل : وإنّ من المجازفة أن نزيد على حسن الظّن فيمن لم يرد لهم شهادةً من المعصوم .

ونحن نقول له : إن من المجازفة أن تسيء الظّن بمن لم يرد فيهم نص عن المعصوم ، خصوصًا من ظهرت عليه علامات الخير وأمارات الصّلاح ، أو ظهرت له كرامات في حياته وبعد مماته ، وتجويز أن يكون قد تغيّر حاله هو من سوء الظّن بالمسلمين بل بالله تعالى ، كما أنّه عقوق للآباء والأجداد ، وما معنى الزّيادة التي زدتها حضرتك ، وليس ذلك كلّه إلاَّ أثرًا لحسن الظن ومبنيًّا عليه ؟!

ثم قال السّائل : وكم أكون مسرورًا جدًّا إذا عثرت لنا على نص صريح في هذا النّوع من الوسيلة .

وأقول : ذكرنا من الأدلّة العقليّة والنّقليّة الشّيء الكثير ، وقد كان يكفيه حديث واحد على ما يقول ، وقد قلنا : إنّ من يثبت الحياة والإدراك والعلم للأرواح ، والقربة والمنزلة للصّالحين ، ثم يمنع التوسّل والاستغاثة بهم ، متناقض غاية التّناقض ، قاطع للملزوم عن لوازمه ، وقد ذكرنا إجماع الأئمّة على التّوسّل به صلى الله عليه و سلمعند زيارته ، ولو لم يكن في الموضوع إلاَّ حديث عثمان بن حنيف لكان كافيًا شافيًا .

وعلى الجملة : فقد أجمعت الشّرائع كلّها ، والفلاسفة الأقدمون ، والفلاسفة العصريّون ، أو نقول : المسلمون ، والأوربيّون ، والأمريكيّون ، والهندوس ، على إثبات الحياة ولوازمها للأرواح ، وعلى أنّ لها من الإطلاق وسعة التّصرّف مالم يكن لها حال حياتها في هذا العالم ، وهو عين ما قرّره ابن القيم أحد أئمّتهم في "كتاب الرّوح" . أسأل الله أن يزل عنّا حجاب المادّة ، وكثافة الطّبيعة ، وظلمة الأشباح بمنّه وكرمه .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس سبتمبر 25, 2008 3:17 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس يونيو 14, 2007 2:19 pm
مشاركات: 5957
[center][table=width:80%;][cell=filter:;][align=center]اقتباس مهم [/align][/cell][/table][/center]


قال أيضًا الشّيخ يوسف الدّجوي رحمه الله تعالى :

ولا أدري كيف يُكَفِّرون بالاستغاثة ونحوها ؛ فإنّ المستغيث إن كان طالبًا من الله بكرامة هذا الميّت لديه ، فالأمر واضح ، وإن كان طالبًا من الولي نفسه فإنّما يطلب منه على اعتقاد أنّ الله أعطاه قوّة روحانيّة تشبه قوّة الملائكة فهو يفعل بها بإذن الله ، فهل في ذلك تأليه له ؟ ولو فرضنا جدلاً أنّنا مخطئون في ذلك ، لم يكن فيه شرك ولا كفر ، بل نكون كمن طلب من المقعد المعونة معتقدًا أنّه صحيح غير مقعد ، مع أنّ عمل الأرواح ومواهب الأنبياء والأولياء ثابتة في الدّلائل القطعيّة ، على الرّغم من أنوفهم .

وصفوة القول أنّنا نقول : هؤلاء المستغيثون يعتقدون أنّ الله أعطى هؤلاء الأولياء مواهب لم يعطها لغيرهم ، وذلك جائز لا يمكنهم منعه . وهم يقولون : "إنّهم اعتقدوا فيهم الألوهيّة" ! مع أنّ ذلك لا يقول به أحد ، إلاَّ عند من أساء الظّن بالمسلمين ظلمًا وعنادًا . ولو فرضنا أنّ ذلك مشكوك فيه ، فهل يجوز التّكفير والقتل بمجرّد الشّك ؟!

فالاستغاثة مبنيّة عندنا على أنّ الأنبياء والأولياء أحياءٌ في قبورهم كالشّهداءِ ، بل أعلى من الشّهداء ، ويمكنهم أن يدعو الله تعالى للمستغيث بهم ، بل يمكنهم أن يعاونوه بأنفسهم كما تعاون الملائكة بني آدم ، وللأرواح تصرّف كبير في البرزخ . وعلى ذلك دلائل كثيرة أطنب فيها ابن القيّم ، وهو من أئمّة هؤلاء ، وأثبت ابن تيميّة سماع الأموات وردّهم السّلام في فتاويه وغيرها ، مستندًا إلى الأحاديث الصّحيحة في ذلك ، وذكر سماع سعيد بن المسيب الأذان من قبره صلى الله عليه و سلم أيّام الحرّة في كتبه ، فإذا استغاث بهم كان كمن يستغيث بالحي سواء بسواءٍ ؛ لأنّهم عندنا أحياءٌ ، بل أعظم نفوذًا ، وأوسع تصرّفًا من الأحياءِ .

ولو تنزّلنا غاية التنزّل ، وفرضنا أنّنا مخطئون في ذلك ، لم يكن هناك وجه للتّكفير ، وإنّما يقال للمستغيثين : إنّكم أخطأْتم في ذلك ، فإنّهم ليسوا أحياء ولا قادرين على ما سبق لنا .

فإذًا يكون الخلاف بيننا وبينهم مبنيًّا على أنّ الأمواتَ يسمعون ويعقلون ويدعون ، أم هم كالجماد لا يستطيعون شيئًا من ذلك ، فنحن نقول بالأوّل ، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسّنّة ، والأخبار المتواترة عن كرامات الأولياء ، ومرائي الصّالحين ، وبركات النّبي صلى الله عليه و سلم الّتي حصلت للمستغيثين به ، والاستشفاع به عند زيارته صلى الله عليه و سلم، وقد نصّت على ذلك كتب المذاهب الأربعة ، حتّى الحنابلة عند ذكر آداب الزّيارة له صلى الله عليه و سلم.

وهم يقولون بالثّاني ، وأنّ الأموات قد دخلوا في عالم العدم ، كما يقول المادّيّون .

وعندما تحرجهم بالبراهين القاطعة يقولون : إنّهم أحياءٌ ، ولكنّهم مشغولون بالعذاب أو النّعيم ! وهذا كلام خيالي ، ولا نقول خطابي ، فإنّه أقل من ذلك ، وأكبر ظنّي أنّهم يقولونه بألسنتهم وليس في قلوبهم ، وليس هذا محل شرح ذلك ، فإنّ المتنعّم حر مختار ، ولا ينافي نعيمه أنّه يدعو الله لأحد المسلمين ، بل قد يرى من نعيمه أن يساعد ابنه أو محبّه بما يقدر عليه .

والدّلائل على ذلك متواترة مستفيضة ، خصوصًا المرائي في ذلك ، كحديث بلال بن الحارث الصّحابي رضي الله عنه المذكور عند البيهقي وابن أبي شيبة ، وفيه أنّه جاء قبره صلى الله عليه و سلم وقال : يا رسول الله استسق لأمّتك ، أي ادع الله لهم ، فجاءَه في المنام وقال : (( بَشِّرْ عُمرَ أَنَّهُم سَيُسْقَون)) ، وقل له : (( عَلَيْكَ الكَيسَ الكَيسَ )) ، ورؤيته صلى الله عليه و سلم جعفرًا ذا الجناحين يطير مع الملائكة يبشّرون أهل بيته المطر ، وهو في المستدرك وغيره بألفاظ مختلفة ، كرؤية أم سلمة للنبي صلى الله عليه و سلم وإخباره إيّاها بقتل الحسين ، وهو في المسند وغيره .

ويكفي في ذلك محاجّة آدم لموسى عليه السّلام ، وما رأى صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء من الحوادث الكثيرة ، خصوصًا مراجعة موسى في أمر الصّلاة ، وكفالة إبراهيم لأطفال المؤمنين . وانظر كيف رأى موسى يصلّي في قبره ، ثم رآه في السّماء السّادسة وببيت المقدس مع الأنبياء ، وأي استبعاد في ذلك ؟! وقد قلنا : إنّ لهم حالة ملكيّة لا تقاس على أحوالنا .

وإنّك لتعرف أنّ عزرائيل عليه السّلام لا يشغله قبض عن قبض ، والقبض لا يشغله عن العبادة طرفة عين ، على أن حال البرزخ بخلاف حال الدّنيا ، وقد قال أبو الطّيب المتنبّي ما يفيد هذا المعنى ، وإن لم يكن ممّا نحن فيه :

كَالبَدْرِ مِن حَيْثُ التَفَتَّ رَأَيتَهُ يُهْدِي إِلَى عَيْنَيْكَ نُورًا ثَاقِبًا


" ولكل عالم نواميس تخصّه ، ومن الغلط البيّن الحكم على عالم بأحكام عالم آخر " .
وقد نهى عمر عن رفع الصّوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، ونهى الإمام مالك المنصور عن رفع صوته كذلك ، ونهت السّيّدة عائشة عن دق الوتد بالدّور المجاورة للحجرة الشّريفة ، مخافة أن يتأذّى رسول الله صلى الله عليه و سلم، وقد كانت تدخل مشدودًا عليها إزارها بعد دفن عمر حياء من عمر ... إلى غير ذلك ممّا هو معروف في كتب السّنن والآثار .

فلو كانوا منقطعين عن هذا العالم تمام الانقطاع على ما يقول هؤلاء ، لم يكن لذلك معنى ، خصوصًا ما هو خارج عن المعقول في العادة ، كعرض الأعمال عليه ، واستغفاره لنا صلى الله عليه و سلم، ورد السّلام على كل من يسلِّم عليه ، وهو ثابت لا مراءَ فيه . وقد كتبنا فيه في العام الماضي .

وقد نهى صلى الله عليه و سلم عن أذيّة الميّت ، وكسر عظمه ، والجلوس على قبره ، مخافة تأذِّيه ... إلى غير ذلك ، وهو كثير ، ولا يمكننا في هذه العجالة إلا أن نلمح إليه ، وندل على ما وراءَه .

ولا نزال نكرّر أنّه إذا لم يكن في هذا إلاَّ ما كان في حديث المعراج : من أسف سيّدنا موسى على بني إسرائيل ، ومراجعة النّبي في أمر الصلاة ، واجتماع الأنبياء في بيت المقدس وخطبهم ، لكفى .

وقد ذكر ابن القيّم في كتاب "الرّوح" حديث مذاكرة الأنبياء في أمر السّاعة ، وأنّه إذا جاء عيسى عليه السّلام كانت كالحامل المتم فلو كانت الأرواح على ما يقولون لم يكن لهذا معنى .

ومع كل هذا نسلّم لهم صحّة ما يقولون ، ونفرض أنّنا نحن المخطئون ، فهل يوجب ذلك شركًا أو كفرًا ؟ وقد قلت لبعض أذكياء العامّة في المولد الحسيني - وقد قال يا رسول الله : إن الوهّابيّة يكفّرونك بقولك : يا رسول الله ، كما في الهدية السنية وغيرها ، فقال : "إن كنا نقول يا رسول الله على ما نريد ، فلا معنى للكفر ، وإن كنّا نقوله على ما يريدون من تأليه الرّسول ، فنحن كفّار!" . فأعجبني هذا منه ، فقلت له : وهل يسمعك وأنت هنا وهو بالمدينة ؟ فلم يجب جوابًا شافيًا .

ونحن نقول : إن هذا الاستبعاد منشؤه قياس الغائب على الشاهد ، وقد عرفنا أن سمع الأجسام لا يصل إلا إلى مسافة محدودة ضئيلة ، ولكن هل عرفنا المسافة الّتي يصل إليها سمع الأرواح ، وماذا أعطيت من ذلك ؟! وكيف ندرك أن عمر وهو بالمدينة أسمع سارية وهو "بنهاوند" من أرض العجم ؟!

وأس الغلط في هذا وأمثاله : أنّنا نعطي أحكام العوالم المختلفة بعضها لبعض ، مع أن لكل عالم أحكامًا تخصّه ، ونواميس ليست لغيره ، فقياس عالم الأرواح على عالم الأشباح من أفسد الأقيسة وأبطلها ، والواقفون عند ما عرفوا من أحكام هذا العالم فحسب ، إنّما هم المادّيون لا أتباع الرّسل { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [سورة يونس : 39] .

أمّا قولكم : "إنّهم يطلبون مالا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى" ، فكلام لا تحقيق فيه ، فهو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا .

فإنّنا نقول أوّلاً :

هب أن الأمر كذلك ، وقد أخطأ ذلك السّائل فظن غير الممكن ممكنًا ، وغير المقدور للبشر مقدورًا له ، أفيكفر بذلك ، أم يعذر بجهله وخطئه وهو لم يعتقد الألوهيّة على كل حال ؟!

وثانيًا : نقول لكم : إنّنا لم ندّع أنّه يفعل ذلك استقلالاً من عند نفسه ، بل نقول : إنّه يفعله بإذن الله ، وبعبارة أخرى نقول : أعطاه من المواهب ما لا تعقلونه .

وهل عرفتم ما يصح أن يعطيه الله عبيده المقرّبين وما لا يصح ؟!

وهل ثبتت عندكم تلك الحدود الّتي لا يصح لله أن يتجاوزها مع عبيده ؟!

وهل كان الإتيان بعرش بلقيس قبل أن يرتد الطّرف مما يقدر عليه البشر في نظركم ؟!

وهل كان رد عين قتادة رضي الله عنه وقد سالت على خدّه فجاء للنبي صلى الله عليه و سلم فردّها إليه ، فكانت أحسن عينيه ، مما يقدر عليه البشر في رأيكم ؟!

وهل رؤية عمر بن الخطّاب لسارية وجيشه ببلاد العجم مما يقدر عليه البشر ؟! وهل إسماعه صوته وهو بنهاوند مما يقدر عليه البشر ؟!

وهل قول بني إسرائيل لموسى عليه السّلام : { لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } [سورة الأعراف : 134] ، مما يقدر عليه البشر ؟! إلى غير ذلك ، وهو طويل عريض ، أم الخوارق كلّها من هذا القبيل لا يقدر عليها البشر في العادة ، ولكنه يقدر عيها بإقدار الله إيّاه ؟

وهل تقيسون الأرواح على الأشباح ؟! وهل عرفتم نواميسها وما تنتهي إليه ، أم ذلك قياس الغائب على الشاهد كما قلنا ؟ فهو قياس مع الفارق ، بل مع ألف فارق .

وهل إذا رأيتم بني إسرائيل يطلبون من عيسى عليه السّلام إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، تقولون : إن هذا مما يقدر عليه البشر ؟!

وهل إذا رأيتم النبي صلى الله عليه و سلم يضرب جبل أحد ويأمره أن يثبت ولا يتحرّك ، تقولون : إنّ ذلك يقدر عليه البشر ؟!

وهل إذا رأيتموه يأمر الشجر فيمتثل أمره ، ويخد الطّريق خدًّا ، تقولون : إنّ ذلك ممّا يقدر عليه البشر ؟!

وهل إذا رأيتموه وقد نبع الماء من بين أصابعه قلتم : إن ذلك مما يقدر عليه البشر ؟! إلى غير ذلك مما جاء في الصحيح ، ولا يمكنكم المكابرة فيه .

على أن لنا أن نقول : إن كل شيء مقدور للمبشر بالدعاء ، فما لا يقدر عليه البشر بالذّات يستطيعه بالدّعاء ، فالفاعل في الحقيقة هو الله لا غيره ، والّذي يستغيث بالنبي - مثلاً - لا يريد منه إلاّ هذا .

وقد عرفنا أنّه صلى الله عليه و سلم يستغفر لنا بعد موته ، كما في الحديث الصّحيح : (( حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ )) ... إلخ . وقد بيّنا صحّته بلا مزيد عليه في العام الماضي ، ويمكننا أن نتوسّع في هذا المقام كثيرًا ، فسماع الموتى وإدراكهم لا شك فيه لمن يؤمن بالله وما جاء عن رسوله صلى الله عليه و سلم، كما قال السّيوطي في منظومته :

سَمَعُ مَوْتَى كَلاَمَ الخَلْقِ قَاطِبَةً جَاءَتْ بِهِ عِنْدَنَا الآثَارُ فِي الكُتُبِ


وقد قدّمنا أنّ ابن تيميّة نفسه ذكر أن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان والإقامة في زمن الحرّة من قبره صلى الله عليه و سلم.

وأمّا جعلهم هذا عبادة ، وعبادة غير الله كفر
، فهو من مجازفاتهم الشّنيعة ، فإنّهم إذا فهموا أنّ كل تعظيم عبادة ، أو كل طلب عبادة ، فقد برهنوا على جهلهم ، فإنّا رأينا إخوة يوسف قد سجدوا ليوسف ، والملائكة قد سجدوا لآدم ، وليس هناك شيء أبلغ في التّعظيم من السّجود ، فإذًا ليس التّعظيم شركًا لذاته مهما بلغ أمره ، ولو كان ذلك وصفًا ذاتيًّا له لوجب ألاَّ يفارقه ، فالتّعظيم لا يكون عبادة إلاَّ إذا كان معه اعتقاد الرّبوبيّة .

وأمّا الدّعاء الّذي يتمسّكون به ، ويستدلون عليه بمثل قوله تعالى { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }[سورة الجن : 18] ... إلى آخر الآيات الكثيرة التي نزلت في المشركين ، فطبّقوها على المسلمين ، زاعمين أنّ الدّعاء عبادة ، وعبادة غير الله كفر ، فهو تلبيس لا ينبغي أن يصدر إلاَّ من غاش أو جاهل ، فإنّ الدّعاء مشترك .

فإذا قالوا : إنّ كل دعاءٍ عبادة ، رد عليهم قوله تعالى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [سورة النّور : 63] ، { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا } [سورة نوح : 5،6]، { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [سورة يونس : 25] ، { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } [سورة القصص : 25] ... إلى غير ذلك ، ورد عليهم أنّهم يدعون الأمير والوزير ، فهذا دعاء لغير الله ، فيلزمهم على هذا الفرض أن يكون ذلك شركًا ، وأن يكون الدعاء في تلك الآيات بمعنى العبادة ، وهو ما لا يقوله أحد .

وإن قالوا : إنّ الطّلب من غير الله كفر ، وهذا هو العبادة ، لزمهم كفر العالم كلّه ، ولا معنى هنا للفرق بين الحيّ والميّت كما أوضحناه ، فلا يقول : إن مجرد الطّلب من غير الله عبادة إلاَّ من لا يدري ما يقول ، وإن قالوا : إنّ الطّلب من الأولياء والأنبياء هو الكفر لا غير ، قلنا : إنّ هذا هو محل النّزاع ، وهذه هي الدّعوى الّتي لم يقم عليها دليل ، بل قام على بطلانها ألف دليل .

وإيراد الآيات النّازلة في حق المشركين العابدين لغير الله لا معنى له ولا غناء فيه ، فهل نظفر منهم بعد ذلك بشيءٍ من الإنصاف ، حتى يرحموا هذه الأمّة المسكينة ، فلا يكفّروها ولا يستبيحوا دماءَها ؟! إنّي أشك في ذلك ولا أكاد أتوقّعه ، ولكننا نكتب لغيرهم ، خشية أن ينخدعوا بترّهاتهم وضلالاتهم .


[center][table=width:80%;][cell=filter:;][align=right]انتهى النقل و الله الموفق[/align][/cell][/table][/center]


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 3 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 4 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط