موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 5 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يناير 26, 2012 12:39 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[size=200][b]الْبَابُ الْعِشْرُونَ : فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ – من كتاب : الأحكام السلطانية للماوردي –

الْحِسْبَةُ : هِيَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ إذَا ظَهَرَ تَرَكَهُ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا أُظْهِرَ فَعَلَهُ .

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } .

وَهَذَا ، وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ فَالْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُتَطَوِّعِ وَالْمُحْتَسِبِ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا أَنَّ فَرْضَهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ ، وَفَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِ دَاخِلٌ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ قِيَامَ الْمُحْتَسِبِ بِهِ مِنْ حُقُوقِ تَصَرُّفِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهُ ، وَقِيَامُ الْمُتَطَوِّعِ بِهِ مِنْ نَوَافِلِ عَمَلِهِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ .

وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِلِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ فِيمَا يَجِبُ إنْكَارُهُ ، وَلَيْسَ الْمُتَطَوِّعُ مَنْصُوبًا لِلِاسْتِعْدَاءِ .

وَالرَّابِعُ : أَنَّ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إجَابَةَ مَنْ اسْتَعْدَاهُ وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ إجَابَتُهُ .

وَالْخَامِسُ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ لِيَصِلَ إلَى إنْكَارِهَا وَيَفْحَصَ عَمَّا تُرِكَ مِنْ الْمَعْرُوفِ الظَّاهِرِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ بَحْثٌ وَلَا فَحْصٌ .

وَالسَّادِسُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى إنْكَارِهِ أَعْوَانًا ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ لَهُ مَنْصُوبٌ وَإِلَيْهِ مَنْدُوبٌ لِيَكُونَ لَهُ أَقْهَرَ وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَنْدُبَ لِذَلِكَ أَعْوَانًا .

وَالسَّابِعُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ فِي الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ لَا يَتَجَاوَزُ إلَى الْحُدُودِ ، وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يُعَزِّرَ عَلَى مُنْكَرٍ .

وَالثَّامِنُ:أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى حِسْبَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى إنْكَارِ مُنْكِرٍ.

وَالتَّاسِعُ : أَنَّ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ كَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ وَإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ فِيهِ فَيُقِرُّ وَيُنْكِرُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُتَطَوِّعِ ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ وَالِي الْحِسْبَةِ وَإِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَطَوِّعِينَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ التِّسْعَةِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ شُرُوطِ وَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَدْلًا ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَةٍ وَخُشُونَةٍ فِي الدِّينِ وَعِلْمٍ بِالْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِيمَا يُنْكِرُهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَمْ لَا ؟

عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَلَا يَقُودَهُمْ إلَى مَذْهَبِهِ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِلْكَافَّةِ ، وَفِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا.

( فَصْلٌ ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِسْبَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامِ الْمَظَالِمِ ، فَأَمَّا مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَضَاءِ فَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمَقْصُورَةٌ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَزَائِدَةٌ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :

فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي مُوَافَقَتِهَا لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ :

فَأَحَدُهُمَا جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ وَسَمَاعِهِ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى عُمُومِ الدَّعَاوَى ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الدَّعْوَى :

أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَخْسٍ وَتَطْفِيفٍ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ .

وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِغِشٍّ أَوْ تَدْلِيسٍ فِي مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ .

وَالثَّالِثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَطْلٍ وَتَأْخِيرٍ لِدَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ نَظَرُهُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الدَّعَاوَى دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى لِتَعَلُّقِهَا بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ وَاخْتِصَاصِهَا بِمَعْرُوفٍ بَيِّنٍ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى إقَامَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْحِسْبَةِ إلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ النَّاجِزِ وَالْفَصْلِ الْبَاتِّ ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ الْمُوَافَقَةِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي جَازَ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى فِيهَا ، وَإِذَا وَجَبَتْ بِاعْتِرَافٍ وَإِقْرَارٍ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَإِيسَارِهِ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ الْمُوسِرَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَدَفْعُهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ لَهَا مُنْكَرًا هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ .

وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي قُصُورِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ :

فَأَحَدُهُمَا قُصُورُهَا عَنْ سَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ الدَّعَاوَى فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَاتِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَدِبَ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى لَهَا ، وَلَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ فِيهَا لَا فِي كَثِيرِ الْحُقُوقِ وَلَا فِي قَلِيلِهَا مِنْ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهُ إلَّا أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ إلَيْهِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ يَزِيدُ عَلَى إطْلَاقِ الْحِسْبَةِ فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَامِعًا بَيْنَ قَضَاءٍ وَحِسْبَةٍ ، فَيُرَاعَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْحِسْبَةِ فَالْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ بِالنَّظَرِ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ أَحَقُّ ، فَهَذَا وَجْهٌ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُعْتَرَفِ بِهَا ، فَأَمَّا مَا يَتَدَاخَلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ ، وَلَا أَنْ يُحَلِّفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ ، وَالْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَإِحْلَافِ الْخُصُومِ أَحَقُّ .

وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي زِيَادَتِهَا عَلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ :

فَأَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِتَصَفُّحِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ مُسْتَعِدٌّ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ يَجُوزُ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْهُ ، فَإِنْ تَعَرَّضَ الْقَاضِي لِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مَنْصِبِ وِلَايَتِهِ وَصَارَ مُتَجَوِّزًا فِي قَاعِدَةِ نَظَرِهِ .



وَالثَّانِي أَنَّ لِلنَّاظِرِ فِي الْحِسْبَةِ مِنْ سَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ وَاسْتِطَالَةِ الْحُمَاةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْمُنْكَرَاتِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ لِأَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ ، فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الْمُحْتَسِبِ إلَيْهَا بِالسَّلَاطَةِ وَالْغِلْظَةِ تَجَوُّزًا فِيهَا وَلَا خَرْقًا وَالْقَضَاءُ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ فَهُوَ بِالْأَنَاةِ وَالْوَقَارِ أَحَقُّ وَخُرُوجُهُ عَنْهُمَا إلَى سَلَاطَةِ الْحِسْبَةِ تَجَوُّزٌ وَخَرْقٌ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَنْصِبَيْنِ مُخْتَلِفٌ فَالتَّجَوُّزُ فِيهِ خُرُوجٌ عَنْ حَدِّهِ .

وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ فَبَيْنَهُمَا شَبَهٌ مُؤْتَلِفٌ وَفَرْقٌ مُخْتَلِفٌ .

فَأَمَّا الشَّبَهُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى الرَّهْبَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِسَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ وَقُوَّةِ الصَّرَامَةِ .

وَالثَّانِي جَوَازُ التَّعَرُّضِ فِيهِمَا لِأَسْبَابِ الْمَصَالِحِ وَالتَّطَلُّعِ إلَى إنْكَارِ الْعُدْوَانِ الظَّاهِرِ .

وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ ، وَالنَّظَرُ فِي الْحِسْبَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا رَفَّهَ عَنْهُ الْقُضَاةُ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رُتْبَةُ الْمَظَالِمِ أَعْلَى ، وَرُتْبَةُ الْحِسْبَةِ أَخْفَضَ ، وَجَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَقِّعَ إلَى وَالِي الْمَظَالِمِ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى الْمُحْتَسِبِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَهَذَا الْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَحْكُمَ وَلَا يَجُوزُ لِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَحْكُمَ .

( فَصْلٌ ) وَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ مَوْضِعِ الْحِسْبَةِ وَوُضِعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَظَالِمِ فَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ .

وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ .

فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَالثَّانِي : مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .

وَالثَّالِثُ : مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .

فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ كَتَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا ، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا اُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فَلَهُ وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ :



أَحَدُهَا أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إلَى أَمْرِهِ بِهَا وَيَكُونَ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْ تَأْدِيبِهِ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ .

وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا وَلَا يَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ .

وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ ، وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِ تَرْكِهِ وَتَعْطِيلِ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ ، فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ ، فَقَدْ رَاعَى زِيَادٌ مِثْلَ هَذَا فِي صَلَاةِ النَّاسِ فِي جَامِعَيْ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا صَلَّوْا فِي صَحْنِهِ فَرَفَعُوا مِنْ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنْ التُّرَابِ فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحَصَى فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَقَالَ : لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيَظُنَّ الصَّغِيرُ إذَا نَشَأْ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إجْزَاءِ الْجُمُعَةِ .

وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا ، وَهَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ أَوْ مِنْ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ؟

فَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا نَدْبًا ، وَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا حَتْمًا .

فَأَمَّا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ فَمِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَعَلَامَاتِ التَّعَبُّدِ الَّتِي فَرَّقَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَتَرْكِ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ أَوْ مُحْتَسَبٌ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ؟

عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .

فَأَمَّا تَرْكُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرْكُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِصَلَاتِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً وَإِلْفًا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اسْتِرَابَةٌ أَوْ يَجْعَلَهُ إلْفًا وَعَادَةً وَيَخَافَ تَعَدِّيَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَيُرَاعِي حُكْمَ الْمَصْلَحَةِ بِهِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ

بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ وَيَكُونُ وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ ، كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :{ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا وَآمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا وَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى مَنَازِلِ أَقْوَامٍ لَا يَحْضُرُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ } .

وَأَمَّا مَا يَأْمُرُ بِهِ آحَادَ النَّاسِ وَأَفْرَادَهُمْ فَكَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَيُذَكِّرُ بِهَا وَيَأْمُرُ بِفِعْلِهَا وَيُرَاعِي جَوَابَهُ عَنْهَا ، فَإِنْ قَالَ : تَرَكْتُهَا لِنِسْيَانٍ حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ ، وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ ؛ وَإِنْ قَالَ : تَرَكْتُهَا لِتَوَانٍ وَهَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَاتُ فِي بَلَدٍ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَوَاتِهِمْ إلَى آخِرِهِ وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَمِيعِ النَّاسِ لِتَأْخِيرِهَا يُفْضِي بِالصَّغِيرِ النَّاشِئِ إلَى اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ مَا يَرَاهُ مِنْ التَّأْخِيرِ .

فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَإِنْ كَانَ يَرَى إذَا كَانَ مَا يَفْعَلُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ ، أَوْ اقْتِصَارٌ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ ، أَوْ الْعَفْوُ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ ، وَكَانَ لَهُ فِي اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَجْهَانِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى اسْتِبَاحَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رُبَّمَا آلَ إلَى السُّكْرِ مَنْ شَرِبَهُ ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ - تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

( فَصْلٌ ) فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَضَرْبَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ .


فَأَمَّا الْعَامُّ : فَكَالْبَلَدِ إذَا تَعَطَّلَ شُرْبُهُ أَوْ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ أَوْ كَانَ يَطْرُقُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَكَفُّوا عَنْ مَعُونَتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ شُرْبِهِمْ وَبِنَاءِ سُورِهِمْ وَبِمَعُونَةِ بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ ، فَأَمَّا إذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ وَإِصْلَاحِ شُرْبِهِمْ وَعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ وَمُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ فِيهِمْ مُتَوَجِّهًا إلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ ، وَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِمْ ، وَفِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ سَقَطَ عَنْ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا فِي بِنَاءِ مَا كَانَ مَهْدُومًا ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُعِيدُونَ بِنَاءَهُ مِنْ الْمُسْتَرَمِّ وَالْمُسْتَهْدَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ فِيمَا عَمَّ أَهْلَ الْبَلَدِ مِنْ سُورِهِ وَجَامِعِهِمْ إلَّا بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي هَدْمِهِ بَعْدَ تَضْمِينِهِ الْقِيَامَ بِعِمَارَتِهِ ، وَجَازَ فِيمَا خُصَّ مِنْ الْمَسَاجِدِ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ أَلَّا يَسْتَأْذِنُوهُ ، وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا اسْتَأْنَفُوهُ ، فَأَمَّا إذَا كَفَّ ذَوُو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ وَعِمَارَةِ مَا اُسْتُرِمَّ ، فَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ فِي الْبَلَدِ مُمْكِنًا وَكَانَ الشُّرْبُ وَإِنْ قَلَّ مُقْنِعًا تَارَكَهُمْ وَأَبَاهُ .

وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمَقَامُ فِي الْبَلَدِ لِتَعْطِيلِ شُرْبِهِ وَانْدِحَاضِ سُورِهِ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يَضُرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُهُ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إعْلَامَ السُّلْطَانِ بِهِ وَتَرْغِيبَ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْبَلَدُ ثَغْرًا مِصْرًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَرَ وَحُكْمُهُ أَخَفَّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَهُ جَبْرًا بِعِمَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ أَنْ يَقُومَ بِهِ ، وَلَوْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ فَيَسْتَجِدُّهُ فَيَقُولُ لَهُمْ : الْمُسْتَحَبُّ مَا اسْتَدَامَ عَجْزُ السُّلْطَانِ عَنْهُ أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوْ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دَوَامُ اسْتِيطَانِهِ ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي عَيْنِهِ أَنْ يَلْتَزِمَ جَبْرًا مَا لَا تَسْمَحُ بِهِ نَفْسُهُ

مِنْ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَيَقُولُ لِيُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ وَطَابَ نَفْسًا بِهِ : وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ حَتَّى إذَا اجْتَمَعَتْ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ يَلُوحُ اجْتِمَاعُهَا لِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ بِهِ نَفْسًا شَرَعَ حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ وَأَخَذَ كُلَّ ضَامِنٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِالْتِزَامِ مَا ضَمِنَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الضَّمَانِ لَا يَلْزَمُ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْخَاصَّةِ ، لِأَنَّ حُكْمَ مَا عَمَّ مِنْ الْمَصَالِحِ مُوسِعٌ فَكَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ فِيهِ أَوْسَعَ .

وَإِذَا عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا لِئَلَّا يَصِيرَ بِالتَّفَرُّدِ مُفْتَاتًا عَلَيْهِ ؛ إذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مَعْهُودِ حِسْبَتِهِ ، فَإِنْ قَلَّتْ وَشَقَّ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ .

وَأَمَّا الْخَاصُّ فَكَالْحُقُوقِ إذَا مُطِلَتْ وَالدُّيُونِ إذَا أُخِّرَتْ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ حُكْمٌ ، وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ ، وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِأَدَائِهَا ، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنْ الصِّغَارِ وَالِاعْتِرَاضُ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا .

وَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ فِيهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .



( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَأَخَذِ الْأَوْلِيَاءِ بِنِكَاحِ الْأَيَامَى أَكْفَاءَهُنَّ إذَا طَلَبْنَ وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إذَا فُورِقْنَ وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ النِّسَاءِ وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ .

وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ جَبْرًا وَعَزَّزَهُ عَنْ النَّفْيِ أَدَبًا ، وَيَأْخُذُ السَّادَةَ بِحُقُوقِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُطِيقُونَ ، وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْبَهَائِمِ يَأْخُذُهُمْ بِعُلُوفَتِهَا إذَا قَصَّرُوا وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ .

وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا وَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنْ الْتِزَامِ كَفَالَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ وَاجِدُ الضَّوَالِّ إذَا قَصَّرَ فِيهَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يَكُونُ بِهِ ضَامِنًا اللَّقِيطَ .

وَإِذَا أَسْلَمَ الضَّالَّةَ إلَى غَيْرِهِ ضَمِنَهَا ؛ وَلَا يَضْمَنُ اللَّقِيطَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَالثَّانِي مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .

وَالثَّالِثُ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ .

فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا مَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ .

الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ .

وَالثَّالِثُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ .

فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَكَالْقَاصِدِ مُخَالَفَةَ هَيْئَاتِهَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُتَعَمِّدِ تَغْيِيرَ أَوْصَافِهَا الْمَسْنُونَةِ مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ ، وَالْإِسْرَارَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ أَوْ يَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ ، فَلِلْمُحْتَسِبِ إنْكَارُهَا وَتَأْدِيبُ الْمُعَانِدِ فِيهَا إذَا لَمْ يَقُلْ بِمَا ارْتَكَبَهُ إمَامٌ مَتْبُوعٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَلَّ بِتَطْهِيرِ جَسَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالتُّهَمِ وَلَا بِالظُّنُونِ ؛ كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاظِرِينَ فِي الْحِسْبَةِ أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا دَاخِلًا إلَى الْمَسْجِدِ بِنَعْلَيْنِ هَلْ يَدْخُلُ بِهِمَا بَيْتَ طَهَارَتِهِ فَلَمَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ أَرَادَ إحْلَافَهُ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ تَعَدَّى فِيهِ أَحْكَامَ الْحِسْبَةِ وَغَلَبَ فِيهِ سُوءُ الظِّنَّةِ ، وَهَكَذَا لَوْ ظَنَّ بِرَجُلٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِالتُّهَمِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ بِالْإِنْكَارِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ بِالتُّهْمَةِ أَنْ يَعِظَ وَيُحَذِّرَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَالْإِخْلَالِ بِمَفْرُوضَاتِهِ .

فَإِنْ رَآهُ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى تَأْدِيبِهِ إلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْ سَبَبِ أَكْلِهِ إذَا الْتَبَسَتْ أَحْوَالُهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا ، وَيَلْزَمُهُ السُّؤَالُ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الرَّيْبِ ، فَإِنْ ذَكَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ كَفَّ عَنْ زَجْرِهِ وَأَمَرَهُ بِإِخْفَاءِ أَكْلِهِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ إحْلَافُهُ عِنْدَ الِاسْتِرَابَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى أَمَانَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا جَاهَرَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مُجَاهَرَةَ رَدْعٍ وَأَدَّبَهُ

تَأْدِيبَ زَجْرٍ ، وَهَكَذَا لَوْ عَلِمَ عُذْرَهُ فِي الْأَكْلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُجَاهَرَةَ بِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْجَهَالَةِ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ مِنْ غَيْرِهِ .

وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَعَامِلُ الصَّدَقَةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُ جَبْرًا أَخَصُّ ، وَهُوَ بِتَعْزِيرِهِ عَلَى الْغُلُولِ إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ عُذْرًا أَحَقُّ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ أَخَصَّ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لِلْعَامِلِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَخَصَّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا لَهُ أَجْزَأَهُ ، وَيَكُونُ تَأْدِيبُهُ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا سِرًّا وُكِّلَ إلَى أَمَانَتِهِ فِيهَا .

وَإِنْ رَأَى رَجُلًا يَتَعَرَّضُ لِمَسْأَلَةِ النَّاسِ فِي طَلَبِ الصَّدَقَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ إمَّا بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَأَدَّبَهُ فِيهِ وَكَانَ الْمُحْتَسِبُ بِإِنْكَارِهِ أَخَصَّ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ .

قَدْ فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ، وَلَوْ رَأَى عَلَيْهِ آثَارَ الْغِنَى وَهُوَ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْلَمُهُ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ فَقِيرًا ، وَإِذَا تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ ذُو جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ زَجَرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاحْتِرَافِ بِعَمَلِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عَزَّرَهُ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْهَا .

وَإِنْ دَعَتْ الْحَالَةُ عِنْدَ إلْحَاحِ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ لِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ إلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى ذِي الْمَالِ جَبْرًا مِنْ مَالِهِ وَيُؤَجِّرَ ذَا الْعَمَلِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ وَالْحُكَّامَ بِهِ أَحَقُّ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَتَوَلَّى ذَلِكَ أَوْ يَأْذَنَ فِيهِ .



وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَصَدَّى لِعِلْمِ الشَّرْعِ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ فَقِيهٍ أَوْ وَاعِظٍ وَلَمْ يَأْمَنْ اغْتِرَارَ النَّاسِ بِهِ فِي سُوءِ تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفِ جَوَابٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ .وَمَنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ إلَّا بَعْدَ الِاخْتِبَارِ .

قَدْ مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَاخْتَبَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ مَا عِمَادُ الدِّينِ ؟ فَقَالَ : الْوَرَعُ ، قَالَ : فَمَا آفَتُهُ ؟ قَالَ الطَّمَعُ ، قَالَ : تَكَلَّمْ الْآنَ إنْ شِئْتَ .

وَهَكَذَا لَوْ ابْتَدَعَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَوْلًا خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ فِيهِ النَّصَّ وَرَدَّ قَوْلَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَزَجَرَهُ عَنْهُ ، فَإِنْ أَقْلَعَ وَتَابَ وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ بِتَهْذِيبِ الدِّينِ أَحَقُّ وَإِذَا تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْوِيلٍ عَدَلَ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إلَى بَاطِنِ بِدْعَةٍ تَتَكَلَّفُ لَهُ غَمْضَ مَعَانِيهِ أَوْ تَفَرَّدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ تَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ أَوْ يَفْسُدُ بِهَا التَّأْوِيلُ كَانَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إنْكَارُ ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْهُ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ إنْكَارُهُ إذَا تَمَيَّزَ عِنْدَهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِقُوَّتِهِ فِي الْعِلْمِ وَاجْتِهَادِهِ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَتَّفِقَ عُلَمَاءُ الْوَقْتِ عَلَى إنْكَارِهِ وَابْتِدَاعِهِ فَيَسْتَعْدُونَهُ فِيهِ فَيَعُولُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى أَقَاوِيلِهِمْ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ .




( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مَوَاقِفِ الرَّيْبِ وَمَظَانِّ التُّهْمَةِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } .فَيُقَدَّمُ الْإِنْكَارُ وَلَا يُجْعَلُ بِالتَّأْدِيبِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ .

حَكَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ الرَّجُلُ : وَاَللَّهِ إنْ كُنْتُ أَحْسَنْتُ لَقَدْ ظَلَمْتَنِي ، وَإِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَمَا عَلَّمْتَنِي ، فَقَالَ عُمَرُ : أَمَا شَهِدْتَ عَزْمَتِي .

فَقَالَ :مَا شَهِدْتُ لَكَ عَزْمَةً فَأَلْقَى إلَيْهِ الدِّرَّةَ وَقَالَ لَهُ : اقْتَصَّ فَقَالَ : لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ ، قَالَ فَاعْفُ عَنِّي. قَالَ لَا أَعْفُو ، فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنْ الْغَدِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيكَ ؟ قَالَ أَجَلْ ، قَالَ فَأُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي قَدْ عَفَوْت عَنْكَ .

وَإِذَا رَأَى وَقْفَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرِّيَبِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ وَلَا إنْكَارٍ فَمَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا .

وَإِنْ كَانَتْ الْوَقْفَةُ فِي طَرِيقٍ خَالٍ فَخُلُوُّ الْمَكَانِ رِيبَةٌ فَيُنْكِرُهَا وَلَا يُعَجِّلُ بِالتَّأْدِيبِ عَلَيْهِمَا حِذَارًا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ ، وَلْيَقُلْ إنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلْيَكُنْ زَجْرُهُ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ .



حَكَى أَبُو الْأَزْهَرِ أَنَّ ابْنَ عَائِشَةَ رَأَى رَجُلًا يُكَلِّمُ امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ فَقَالَ لَهُ إنْ كَانَتْ حُرْمَتَكَ إنَّهُ لَقَبِيحٌ بِكَ أَنْ تُكَلِّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُرْمَتَكَ فَهُوَ أَقْبَحُ ، ثُمَّ وَلَّى عَنْهُ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يُحَدِّثُهُمْ فَإِذَا بِرُقْعَةٍ قَدْ أُلْقِيَتْ فِي حِجْرِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا ( مِنْ الْكَامِلِ ) :

إنَّ الَّتِي أَبْصَرْتَنِي سَحَرًا أُكَلِّمُهَا
رَسُولْ أَدَّتْ إلَيَّ رِسَالَةً كَادَتْ لَهَا نَفْسِي تَسِيلْ
مِنْ فَاتِرِ الْأَلْحَاظِ يَجْذِبُ خَصْرَهُ رِدْفٌ ثَقِيلْ
مُتَنَكِّبًا قَوْسَ الصِّبَا يَرْمِي وَلَيْسَ لَهُ رَسِيلْ
فَلَوْ أَنْ أُذْنَكَ بَيْنَنَا حَتَّى تَسَمَّعَ مَا نَقُولْ
لَرَأَيْتَ مَا اسْتَقْبَحْتَ مِنْ أَمْرِي هُوَ الْحَسَنَ الْجَمِيلْ

فَقَرَأَهَا ابْنُ عَائِشَةَ وَوَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى رَأْسِهَا أَبُو نُوَاسٍ،فَقَالَ ابْنُ عَائِشَةَ :مَا لِي وَلِلتَّعْرِيضِ لِأَبِي نُوَاسٍ .

وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إنْكَارِ ابْنِ عَائِشَةَ كَافٍ لِمِثْلِهِ ، وَلَا يَكُونُ لِمَنْ نُدِبَ لِلْإِنْكَارِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ كَافِيًا ، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ تَصْرِيحٌ بِفُجُورٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ وَإِنْ كَانَتْ شَوَاهِدُ حَالِهِ وَفَحْوَى كَلَامِهِ يَنْطِقَانِ بِفُجُورِهِ وَرِيبَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ مِثْلِ أَبِي نُوَاسٍ مُنْكَرًا وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ مُنْكَرًا .

فَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ فِي هَذَا الْحَالِ مَا يُنْكِرُهُ تَأَتَّى وَتَفَحَّصَ وَرَاعَى شَوَاهِدَ الْحَالِ وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إذْ رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ وَعَلَى عَاتِقِهِ امْرَأَةٌ مِثْلُ الْمَهَاةِ يَعْنِي حُسْنًا وَجَمَالًا وَهُوَ يَقُولُ ( مِنْ السَّرِيعِ ) :

قُدْتُ لِهَذِي جَمَلًا
ذَلُولًا مُوَطَّأً أَتْبَعُ السَّهُولَا
أَعْدِلُهَا بِالْكَفِّ أَنْ تَمِيلَا
أَحْذَرُ أَنْ تَسْقُطَ أَوْ تَزُولَا
أَرْجُو بِذَاكَ نَائِلًا جَزِيلًا

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنْ هَذِهِ الَّتِي وَهَبْتَ لَهَا حَجَّكَ ؟ فَقَالَ امْرَأَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا حَمْقَاءُ مِرْغَامَةٌ ، أَكُولٌ قِمَامَةٌ ، لَا يَبْقَى لَهَا خَامَةٌ .

فَقَالَ لَهُ مَا لَكَ لَا تُطَلِّقُهَا ؟

قَالَ إنَّهَا حَسْنَاءُ لَا تُفْرَكُ ، وَأُمُّ صِبْيَانٍ لَا تُتْرَكُ .

قَالَ فَشَأْنُكَ بِهَا .


قَالَ أَبُو زَيْدٍ :الْمِرْغَامُ الْمُخْتَلِطُ ، فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ حَتَّى اسْتَخْبَرَهُ فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ لَانَ لَهُ .

وَإِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا عَلَيْهِ وَأَدَّبَهُ،وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَدَّبَهُ عَلَى إظْهَارِهَا .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إرَاقَتِهَا عَلَيْهِ ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ .

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ .

وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقِرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَيَمْتَنِعُ مِنْ إرَاقَتِهِ وَمِنْ التَّأْدِيبِ عَلَى إظْهَارِهِ .

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ ، وَلَيْسَ فِي إرَاقَتِهِ غُرْمٌ ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ بِشَوَاهِدِ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْتَهِي فِيهِ عَنْ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ لِمُعَاقَرَةٍ وَلَا يُرِيقُهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إنْ حُوكِمَ فِيهِ .

وَأَمَّا السَّكْرَانُ إذَا تَظَاهَرَ بِسُكْرِهِ وَسَخُفَ بِهَجْرِهِ أَدَّبَهُ عَلَى السُّكْرِ وَالْهَجْرِ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا لِقِلَّةِ مُرَاقَبَتِهِ وَظُهُورِ سُخْفِهِ .

وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا لِتَزُولَ عَنْ حُكْمِ الْمَلَاهِي ، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ بِهَا ، وَلَا يَكْسِرُهَا إنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي .


وَأَمَّا اللُّعَبُ فَلَيْسَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَعَاصِي ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْبَنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ .

وَفِيهَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ تُقَارِنُهُ مَعْصِيَةٌ بِتَصْوِيرِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ ، فَلِلتَّمْكِينِ مِنْهَا وَجْهٌ وَلِلْمَنْعِ مِنْهَا وَجْهٌ ، وَبِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إنْكَارُهُ وَإِقْرَارُهُ .

{ قَدْ دَخَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَأَقَرَّهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا } .

وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَقَلَّدَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ فَأَزَالَ سُوقَ الدَّادِيَّ وَمَنَعَ مِنْهَا ، وَقَالَ : لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ وَأَقَرَّ سُوقَ اللُّعَبِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا وَقَالَ : قَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا ؛ وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اللُّعَبِ بِالْبَعِيدِ مِنْ الِاجْتِهَادِ .

وَأَمَّا سُوقُ الدَّادِيُّ فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّبِيذِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ نَادِرًا فِي الدَّوَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ ، فَبَيْعُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى إبَاحَةَ النَّبِيذِ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَهُ جَائِزٌ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهِ ، وَمَكْرُوهٌ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ ، وَلَيْسَ مَنْعُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْهُ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ عِنْدَهُ . وَإِنَّمَا مِنْ الْمُظَاهَرَةِ بِإِفْرَادِ سُوقِهِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِبَيْعِهِ إلْحَاقًا لَهُ بِإِبَاحَةِ مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إبَاحَةِ مَقْصِدِهِ لِيَقَعَ لِعَوَامِّ النَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إنْكَارُ الْمُجَاهِرَةِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا يُنْكَرُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُبَاحِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ .

وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنْ الِاسْتِتَارِ بِهَا ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ } .

فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ ، وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا ، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حِذَارًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ ، وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ ، وَالْإِنْكَارُ .كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ .

فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ جَمِيل بِنْتُ مِحْجَنِ بْنِ الْأَفْقَمِ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ عُبَيْدٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مَسْرُوحٍ وَسَهْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ وَزِيَادَ بْنَ عُبَيْدٍ فَرَصَدُوهُ حَتَّى إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَجَمُوا عَلَيْهِمَا وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُجُومَهُمْ . وَإِنْ كَانَ حَدَّهُمْ الْقَذْفَ عِنْدَ قُصُورِ الشَّهَادَةِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصَّرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ .

حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ ، فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنْ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ وَنَهَاكَ عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ فَدَخَلْتَ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ .

فَمَنْ سَمِعَ أَصْوَاتًا مِلْأَةً مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْبَاطِنِ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ الْمُنْكَرَةُ كَالزِّنَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ إذَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى حَظْرِهِ فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إنْكَارُهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَالزَّجْرُ عَلَيْهِ وَأَمْرُهُ فِي التَّأْدِيبِ مُخْتَلَفٌ لِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَشِدَّةِ الْحَظْرِ .

وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إنْكَارِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَرِبَا النَّقْدِ فَالْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَهَلْ يَدْخُلُ فِي إنْكَارِهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ أَوْ لَا ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .

وَفِي مَعْنَى الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا عُقُودُ الْمَنَاكِحِ الْمُحَرَّمَةِ يُنْكِرُهَا إنْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حَظْرِهَا ؛ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِإِنْكَارِهَا إنْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَالْمُتْعَةِ فَرُبَّمَا صَارَتْ ذَرِيعَةً إلَى اسْتِبَاحَةِ الزِّنَا ، فَفِي إنْكَارِهِ لَهَا وَجْهَانِ ، وَلْيَكُنْ بَدَلَ إنْكَارِهِ لَهَا التَّرْغِيبُ فِي الْعُقُودِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ غِشُّ الْمَبِيعَاتِ وَتَدْلِيسُ الْأَثْمَانِ فَيُنْكِرُهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ فِيهِ .


رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ } .

فَإِنْ كَانَ هَذَا الْغِشُّ تَدْلِيسًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَخْفَى عَلَيْهِ فَهُوَ أَغْلَظُ الْغِشِّ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا مَأْثَمًا فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ أَغْلَظُ وَالتَّأْدِيبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ أَخَفَّ مَأْثَمًا وَأَلْيَنَ إنْكَارًا ، وَيَنْظُرُ فِي مُشْتَرِيهِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ لِيَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْبَائِعِ لِغِشِّهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي بِابْتِيَاعِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِغِشِّهِ ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَرِيهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ خَرَجَ الْمُشْتَرِي مِنْ جُمْلَةِ الْإِنْكَارِ وَتَفَرَّدَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَدْلِيسِ الْأَثْمَانِ .وَيُمْنَعُ مِنْ تَصْرِيَةِ الْمَوَاشِي وَتَحْفِيلِ ضُرُوعِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّدْلِيسِ .

وَمِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعَ مِنْ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ لِوَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عِنْدَ نَهْيِهِ عَنْهُ ، وَلْيَكُنْ الْأَدَبُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ أَكْثَرَ .

وَيَجُوزُ لَهُ إذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ السُّوقَةِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى مَا عَايَرَهُ مِنْهَا طَابِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا يَتَعَامَلُونَ إلَّا بِهِ كَانَ أَحْوَطَ وَأَسْلَمَ .

فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَامَلَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ بِطَابِعِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ مَبْخُوسًا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا لِمُخَالَفَتِهِ فِي الْعُدُولِ عَنْ مَطْبُوعِهِ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ .

وَالثَّانِي : لِلْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِي الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ سَلِيمًا مِنْ بَخْسٍ وَنَقْصٍ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحْدَهَا لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ ؛ وَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابِعِهِ كَانَ الْمُزَوِّرُ فِيهِ كَالْمُهَرِّجِ عَلَى طَابِعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ .

وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ وَهُوَ أَغْلَظُ النُّكْرَيْنِ ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ السُّلْطَانِيِّ مِنْهُمَا فَكَانَ أَحَقَّهُمَا .

وَإِذَا اتَّسَعَ الْبَلَدُ حَتَّى احْتَاجَ أَهْلُهُ فِيهِ إلَى كَيَّالِينَ وَوَزَّانِينَ وَنَقَّادِينَ تَخَيَّرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ وَمَنَعَ أَنْ يُنْتَدَبَ لِذَلِكَ إلَّا مَنْ ارْتَضَاهُ مِنْ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ وَكَانَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ اتَّسَعَ لَهَا ، فَإِنْ ضَاقَ قَدْرُهَا لَهُمْ حَتَّى لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ فِيهَا اسْتِزَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الْمُمَايَلَةِ وَالتَّحَيُّفِ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ .

وَقَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ يَقُومُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَرْتِيبِهِمْ لِذَلِكَ وَيُثْبِتُونَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فِي الدَّوَاوِينِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ وَسَاطَتُهُ ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارِينَ لِلْكَيْلِ وَالْوَزْنِ تَحَيُّفٌ فِي تَطْفِيفٍ أَوْ مُمَايَلَةٌ فِي زِيَادَةِ أَدَبٍ أُخْرِجَ عَنْ جُمْلَةِ الْمُخْتَارِينَ وَمُنِعَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْوَسَاطَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اخْتِيَارِ الدَّلَّالِينَ يُقِرُّ مِنْهُمْ الْأُمَنَاءَ وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ ، وَهَذَا مِمَّا يَتَوَلَّاهُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ إنْ قَعَدَ عَنْهُ الْأُمَرَاءُ .

وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْقُسَّامِ وَالزُّرَّاعِ فَالْقُضَاةُ أَحَقُّ بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُسْتَنَابُونَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْعِيَبِ .

وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْحَرَّاسِينَ فِي الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ فَإِلَى الْحُمَاةِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاوِنِ .

وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّطْفِيفِ تَخَاصُمٌ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْتَسِبُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْخَصْمِ فِيهِ تَجَاحُدٌ وَتَنَاكُرٌ ، فَإِنْ أَفْضَى إلَى تَجَاحُدٍ وَتَنَاكُرٍ كَانَ الْقُضَاةُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُمْ بِالْأَحْكَامِ أَحَقُّ وَكَانَ التَّأْدِيبُ فِيهِ إلَى الْمُحْتَسِبِ ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ جَازَ لِاتِّصَالِهِ بِحُكْمِهِمْ .

وَمِمَّا يُنْكِرُهُ الْمُحْتَسِبُ فِي الْعُمُومِ وَلَا يُنْكِرُهُ فِي الْخُصُوصِ وَالْآحَادِ التَّبَايُعُ بِمَا لَمْ يَأْلَفْهُ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْمَكَايِيلِ وَالْأَوْزَانِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ فِيهِ إنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ تَرَاضَى بِهَا اثْنَانِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا الْإِنْكَارَ وَالْمَنْعَ ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَرْتَسِمَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَامِلُهُمْ فِيهَا مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَيَصِيرُ مَغْرُورًا .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا يُنْكِرُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُحْصَنَةِ فَمِثْلُ أَنْ يَتَعَدَّى رَجُلٌ فِي حَدٍّ لِجَارِهِ أَوْ فِي حَرِيمٍ لِدَارِهِ أَوْ فِي وَضْعِ أَجْذَاعٍ عَلَى جِدَارِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَعْدِهِ الْجَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّهُ فَيُنْصَحُ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ ، فَإِنْ خَاصَمَهُ فِيهِ كَانَ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَتَنَاكُلٌ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بِإِزَالَةِ تَعْدِيَةٍ وَكَانَ لَهُ تَأْدِيبُهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِ الْحَالِ .

فَإِنْ تَنَازَعَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ ، وَلَوْ أَنَّ الْجَارَ أَقَرَّ جَارَهُ عَلَى تَعَدِّيهِ وَعَفَا عَنْ مُطَالَبَتِهِ بِهَدْمِ مَا تَعَدَّى فِيهِ ثُمَّ عَادَ مُطَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ بِهَدْمِ مَا بَنَاهُ ؛ وَلَوْ كَانَ قَدْ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ وَوَضَعَ الْأَجْذَاعَ بِإِذْنِ الْجَارِ ثُمَّ رَجَعَ الْجَارُ فِي إذْنِهِ لَمْ يُؤْخَذْ الثَّانِي بِهَدْمِهِ .


وَلَوْ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ إلَى دَارِ جَارِهِ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَعْدِيَ الْمُحْتَسِبَ حَتَّهُ يُعَدِّيهِ عَلَى صَاحِبِ الشَّجَرَةِ لِيَأْخُذَهُ بِإِزَالَةِ مَا انْتَشَرَ مِنْ أَغْصَانِهَا فِي دَارِهِ وَلَا تَأْدِيبَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ انْتِشَارَهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَلَوْ انْتَشَرَتْ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي قَرَارِ أَرْضِ الْجَارِ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِهَا وَلَمْ يُمْنَعْ الْجَارُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي قَرَارِ أَرْضِهِ وَإِنْ قَطَعَهَا نَصَّبَ الْمَلِكُ تَنُّورًا فِي دَارِهِ فَتَأَذَّى الْجَارُ بِدُخَانِهِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَّبَ فِي دَارِهِ رَحًى أَوْ وَضَعَ فِيهَا حَدَّادِينَ أَوْ قَصَّابِينَ لَمْ يُمْنَعْ ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ التَّصَرُّفَ فِي أَمْلَاكِهِمْ بِمَا أَحَبُّوا وَمَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ مِثْلِ هَذَا بُدًّا وَإِذَا تَعَدَّى مُسْتَأْجِرٌ عَلَى أَجِيرٍ فِي نُقْصَانِ أُجْرَةٍ أَوْ اسْتِزَادَةِ عَمَلٍ كَفَّهُ عَنْ تَعَدِّيهِ ، وَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ ، وَلَوْ قَصَّرَ الْأَجِيرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَنَقَصَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ اسْتَزَادَهُ فِي الْأُجْرَةِ مَنَعَهُ مِنْهُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ إذَا تَخَاصَمَا إلَيْهِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَتَنَاكَرَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا أَحَقَّ وَمِمَّا يُؤْخَذُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ فِي الْأَسْوَاقِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ :

مِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي فِي حَالَةِ الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ .

فَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ ؛ لِأَنَّ الطَّبِيبَ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا فَيُقَرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ وَتَخْبُثُ بِهِ الْآدَابُ .

وَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ فَمِثْلُ الصَّاغَةِ وَالْحَاكَةِ وَالْقَصَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا هَرَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ ، فَيُرَاعِي أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْهُمْ فَيُقِرُّهُمْ وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ


بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحُمَاةَ وَوُلَاةَ الْمُعَاوِنِ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ ، لِأَنَّ الْخِيَانَةَ تَابِعَةٌ لِلسَّرِقَةِ .

وَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَهُوَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ ، وَلَهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي الْعُمُومِ فَسَادَ الْعَمَلِ وَرَدَاءَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ .

وَأَمَّا فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ اعْتَادَ الصَّانِعُ فِيهِ الْفَسَادَ وَالتَّدْلِيسَ فَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ قَابَلَ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ غُرْمٌ رُوعِيَ حَالُ الْغُرْمِ ، فَإِنْ افْتَقَرَ إلَى تَقْرِيرٍ أَوْ تَقْوِيمٍ لَمْ يُمْكِنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ حُكْمِيٍّ وَكَانَ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْوِيمٍ وَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْمِثْلَ الَّذِي لَا اجْتِهَادَ فِيهِ ، وَلَا تَنَازُعَ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِإِلْزَامِ الْغُرْمِ وَالتَّأْدِيبِ عَلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالتَّنَاصُفِ وَزَجْرٌ عَنْ التَّعَدِّي .

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ الْأَقْوَاتَ وَلَا غَيْرَهَا فِي رُخْصٍ وَلَا غَلَاءٍ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي الْأَقْوَاتِ مَعَ الْغَلَاءِ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا يُنْكَرُ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمَنْعِ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى مَنَازِلِ النَّاسِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَا بِنَاؤُهُ أَنْ يَسْتُرَ سَطْحَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْرِفَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ تَعْلِيَةِ أَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ مَلَكُوا أَبْنِيَةً عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا وَمُنِعُوا مِنْ الْإِشْرَافِ مِنْهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي ذِمَّتِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْغِيَارِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الْهَيْئَةِ وَتَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ وَيُمْنَعُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَبٍّ أَوْ أَذًى ، وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ .

وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ السَّابِلَةِ وَالْجَوَامِعِ الْجَفْلَةِ مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْهَا الضُّعَفَاءُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذَوُو الْحَاجَاتِ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا { أَنْكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِقَوْمِهِ وَقَالَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ } .

فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِطَالَةِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ يَسْتَبْدِلُ بِهِ مَنْ يُخَفِّفُهَا .

وَإِذَا كَانَ فِي الْقُضَاةِ مَنْ يُجِيبُ الْخُصُومَ إذَا قَصَدُوهُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ حَتَّى تَقِفَ الْأَحْكَامُ وَيَسْتَضِرَّ الْخُصُومُ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ بِمَا نُدِبَ لَهُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَ الْمُتَحَاكِمِينَ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ ، وَلَا يَمْنَعُ عُلُوُّ رُتْبَتِهِ مِنْ إنْكَارِ مَا قَصَّرَ فِيهِ .

قَدْ مَرَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ بَطْحَاءَ وَالِي الْحِسْبَةِ بِجَانِبَيْ بَغْدَادَ بِدَارِ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ فَرَأَى الْخُصُومَ جُلُوسًا عَلَى بَابِهِ يَنْتَظِرُونَ جُلُوسَهُ لِلنَّظَرِ بَيْنَهُمْ وَقَدْ تَعَالَى النَّهَارُ وَهَجَرَتْ الشَّمْسُ ، فَوَقَفَ وَاسْتَدْعَى حَاجِبَهُ وَقَالَ : تَقُولُ لِقَاضِي الْقُضَاةِ الْخُصُومُ جُلُوسٌ عَلَى الْبَابِ وَقَدْ بَلَغَتْهُمْ الشَّمْسُ وَتَأَذَّوْا بِالِانْتِظَارِ ، فَإِمَّا جَلَسْتَ لَهُمْ أَوْ عَرَّفْتَهُمْ عُذْرَكَ فَيَنْصَرِفُوا وَيَعُودُوا .

وَإِذَا كَانَ فِي سَادَةِ الْعَبِيدِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيمَا لَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ كَانَ مَنْعُهُمْ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِعْدَاءِ الْعَبِيدِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالْعِظَةِ ، فَإِذَا اسْتَعْدَوْهُ مُنِعَ حِينَئِذٍ وَزُجِرَ .

وَإِذَا كَانَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَنْ يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَنْكَرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ إلَيْهِ ، فَإِنْ ادَّعَى الْمَالِكُ احْتِمَالَ الْبَهِيمَةِ لِمَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيهِ جَازَ لِلْمُحْتَسِبِ

أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ افْتَقَرَ إلَى اجْتِهَادٍ فَهُوَ عُرْفِيٌّ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ ، وَلَيْسَ بِاجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ وَالْمُحْتَسِبُ لَا يُمْنَعُ مِنْ اجْتِهَادِ الْعُرْفِ .وَإِنْ اُمْتُنِعَ مِنْ اجْتِهَادِ الشَّرْعِ .

وَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْعَبْدُ فِي امْتِنَاعِ سَيِّدِهِ مِنْ كُسْوَتِهِ وَنَفَقَتِهِ جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِمَا وَيَأْخُذَهُ بِالْتِزَامِهِمَا ، وَلَوْ اسْتَعْدَاهُ مِنْ تَقْصِيرِ سَيِّدِهِ فِيهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ ، وَلَا إلْزَامَ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْتِزَامِ الْأَصْلِ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَلُزُومَهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ .

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ السُّفُنِ مِنْ حَمْلِ مَا لَا تَسَعُهُ وَيُخَافُ مِنْهُ غَرَقُهَا ، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَسِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ ، وَإِذَا حَمَلَ فِيهَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ حُجِزَ بَيْنَهُمْ بِحَائِلٍ .وَإِذَا اتَّسَعَتْ السُّفُنُ نُصِّبَ لِلنِّسَاءِ مَخَارِجُ لِلْبِرَازِ لِئَلَّا يَتَبَرَّجْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ .

وَإِذَا كَانَ فِي أَسْهَلِ الْأَسْوَاقِ مَنْ يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ رَاعَى الْمُحْتَسِبُ سِيرَتَهُ وَأَمَانَتَهُ ، فَإِذَا تَحَقَّقَهَا مِنْهُ أَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِنَّ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ الرِّيبَةُ وَبَانَ عَلَيْهِ الْفُجُورُ مَنَعَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِنَّ وَأَدَّبَهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لَهُنَّ ؛ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحُمَاةَ وَوُلَاةَ الْمُعَاوِنِ أَخَصُّ بِإِنْكَارِ هَذَا وَالْمَنْعِ مِنْهُ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الزِّنَا .

وَيَنْظُرُونَ إلَى الْحِسْبَةِ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ فَيُقِرُّ مِنْهَا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَارَّةِ وَيَمْنَعُ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْمَارَّةُ ؛ وَلَا يَقِفُ مَنْعُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَوْقُوفًا عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ .

وَإِذَا بَنَى قَوْمٌ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ مُنِعَ مِنْهُ ، وَإِنْ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ يَأْخُذُهُمْ بِهَدْمِ مَا بَنَوْهُ وَلَوْ كَانَ الْمَبْنِيُّ مَسْجِدًا ؛ لِأَنَّ مَرَافِقَ الطُّرُقِ لِلسُّلُوكِ لَا لِلْأَبْنِيَةِ .

وَإِذَا وَضَعَ النَّاسُ الْأَمْتِعَةَ وَآلَاتِ الْأَبْنِيَةِ فِي مَسَالِكِ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ ارْتِفَاقًا لِيَنْقُلُوهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُكِّنُوا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ الْمَارَّةُ ؛ وَمُنِعُوا مِنْهُ إنْ اسْتَضَرُّوا بِهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي إخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَسْبِطَةِ وَمَجَارِي الْمِيَاهِ وَآبَارِ الْحُشُوشِ يُقِرُّ مَا لَا يَضُرُّ وَيَمْنَعُ مَا ضَرَّ وَيَجْتَهِدُ الْمُحْتَسِبُ رَأْيَهُ فِيمَا ضَرَّ ، وَمَا لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالشَّرْعِ وَالِاجْتِهَادُ الْعُرْفِيُّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْعُرْفِ ، وَيُوَضَّحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ مَا يَسُوغُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمُحْتَسِبِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ .

وَلِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ إذَا دُفِنُوا فِي مِلْكٍ أَوْ مُبَاحٍ إلَّا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَيَكُونُ لِمَالِكِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ دَفَنَهُ فِيهَا بِنَقْلِهِ مِنْهَا ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْلِهِمْ مِنْ أَرْضٍ قَدْ لَحِقَهَا سَيْلٌ أَوْ نَدًى فَجَوَّزَهُ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبَاهُ غَيْرُهُ .

وَيَمْنَعُ مِنْ خِصَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ وَإِنْ اُسْتُحِقَّ فِيهِ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ اسْتَوْفَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَاكُرٌ وَتَنَازُعٌ .


وَيَمْنَعُ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إلَّا لِلْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَيُؤَدِّبُ مَنْ يَصْبُغُ بِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ ، فَيَمْنَعُ مِنْ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ .

وَهَذَا فَصْلٌ يَطُولُ أَنْ يُبْسَطَ لِأَنَّ الْمُنْكَرَاتِ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهَا فَتُسْتَوْفَى وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَوَاهِدِنَا دَلِيلٌ عَلَى مَا أَغْفَلْنَاهُ .

وَالْحِسْبَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، وَقَدْ كَانَ أَئِمَّةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَاشِرُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِعُمُومِ صَلَاحِهَا وَجَزِيلِ ثَوَابِهَا ؛ وَلَكِنْ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْهَا السُّلْطَانُ وَنَدَبَ لَهَا مَنْ هَانَ وَصَارَتْ عُرْضَةً لِلتَّكَسُّبِ وَقَبُولِ الرِّشَا لَانَ أَمْرُهَا وَهَانَ عَلَى النَّاسِ خَطَرُهَا ، وَلَيْسَ إذَا وَقَعَ الْإِخْلَالُ بِقَاعِدَةٍ سَقَطَ حُكْمُهَا ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْفُقَهَاءُ عَنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا مَا لَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ كِتَابِنَا هَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا قَدْ أَغْفَلَهُ الْفُقَهَاءُ أَوْ قَصَّرُوا فِيهِ فَذَكَرْنَا مَا أَغْفَلُوهُ وَاسْتَوْفَيْنَا مَا قَصَّرُوا فِيهِ .

وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقًا لِمَا تَوَخَّيْنَاهُ وَعَوْنًا عَلَى مَا نَوَيْنَاهُ بِمَنِّهِ وَمَشِيئَتِهِ ؛ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . [/b][/size]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 27, 2012 2:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
أعتذر عن صغر حجم الخط وأعيد كتابة الموضوع

الْبَابُ الْعِشْرُونَ : فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ – من كتاب : الأحكام السلطانية للماوردي –

الْحِسْبَةُ : هِيَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ إذَا ظَهَرَ تَرَكَهُ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا أُظْهِرَ فَعَلَهُ .

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } .

وَهَذَا ، وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ فَالْفَرْقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُتَطَوِّعِ وَالْمُحْتَسِبِ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا أَنَّ فَرْضَهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ ، وَفَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِ دَاخِلٌ فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ .

وَالثَّانِي : أَنَّ قِيَامَ الْمُحْتَسِبِ بِهِ مِنْ حُقُوقِ تَصَرُّفِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهُ ، وَقِيَامُ الْمُتَطَوِّعِ بِهِ مِنْ نَوَافِلِ عَمَلِهِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَتَشَاغَلَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ .

وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ لِلِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ فِيمَا يَجِبُ إنْكَارُهُ ، وَلَيْسَ الْمُتَطَوِّعُ مَنْصُوبًا لِلِاسْتِعْدَاءِ .

وَالرَّابِعُ : أَنَّ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إجَابَةَ مَنْ اسْتَعْدَاهُ وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ إجَابَتُهُ .

وَالْخَامِسُ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ لِيَصِلَ إلَى إنْكَارِهَا وَيَفْحَصَ عَمَّا تُرِكَ مِنْ الْمَعْرُوفِ الظَّاهِرِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ بَحْثٌ وَلَا فَحْصٌ .

وَالسَّادِسُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى إنْكَارِهِ أَعْوَانًا ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ لَهُ مَنْصُوبٌ وَإِلَيْهِ مَنْدُوبٌ لِيَكُونَ لَهُ أَقْهَرَ وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَنْدُبَ لِذَلِكَ أَعْوَانًا .

وَالسَّابِعُ : أَنَّ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَ فِي الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ لَا يَتَجَاوَزُ إلَى الْحُدُودِ ، وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يُعَزِّرَ عَلَى مُنْكَرٍ .

وَالثَّامِنُ:أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى حِسْبَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يَرْتَزِقَ عَلَى إنْكَارِ مُنْكِرٍ.

وَالتَّاسِعُ : أَنَّ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ كَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ وَإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ فِيهِ فَيُقِرُّ وَيُنْكِرُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُتَطَوِّعِ ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ وَالِي الْحِسْبَةِ وَإِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَطَوِّعِينَ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ التِّسْعَةِ .

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ شُرُوطِ وَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَدْلًا ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَةٍ وَخُشُونَةٍ فِي الدِّينِ وَعِلْمٍ بِالْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِيمَا يُنْكِرُهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ أَمْ لَا ؟

عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ وَلَا يَقُودَهُمْ إلَى مَذْهَبِهِ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ لِلْكَافَّةِ ، وَفِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إذَا كَانَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا.

( فَصْلٌ ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِسْبَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامِ الْمَظَالِمِ ، فَأَمَّا مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَضَاءِ فَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَمَقْصُورَةٌ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، وَزَائِدَةٌ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ :

فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي مُوَافَقَتِهَا لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ :

فَأَحَدُهُمَا جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ وَسَمَاعِهِ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى عُمُومِ الدَّعَاوَى ، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الدَّعْوَى :

أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَخْسٍ وَتَطْفِيفٍ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ .

وَالثَّانِي مَا يَتَعَلَّقُ بِغِشٍّ أَوْ تَدْلِيسٍ فِي مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ .

وَالثَّالِثُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَطْلٍ وَتَأْخِيرٍ لِدَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ نَظَرُهُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الدَّعَاوَى دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى لِتَعَلُّقِهَا بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ وَاخْتِصَاصِهَا بِمَعْرُوفٍ بَيِّنٍ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى إقَامَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْحِسْبَةِ إلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ النَّاجِزِ وَالْفَصْلِ الْبَاتِّ ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ الْمُوَافَقَةِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُ إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي جَازَ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى فِيهَا ، وَإِذَا وَجَبَتْ بِاعْتِرَافٍ وَإِقْرَارٍ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَإِيسَارِهِ فَيَلْزَمُ الْمُقِرَّ الْمُوسِرَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَدَفْعُهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ لَهَا مُنْكَرًا هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ .

وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي قُصُورِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ :

فَأَحَدُهُمَا قُصُورُهَا عَنْ سَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ الدَّعَاوَى فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَاتِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَدِبَ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى لَهَا ، وَلَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ فِيهَا لَا فِي كَثِيرِ الْحُقُوقِ وَلَا فِي قَلِيلِهَا مِنْ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهُ إلَّا أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ إلَيْهِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ يَزِيدُ عَلَى إطْلَاقِ الْحِسْبَةِ فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَامِعًا بَيْنَ قَضَاءٍ وَحِسْبَةٍ ، فَيُرَاعَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الْحِسْبَةِ فَالْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ بِالنَّظَرِ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ أَحَقُّ ، فَهَذَا وَجْهٌ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُعْتَرَفِ بِهَا ، فَأَمَّا مَا يَتَدَاخَلُهُ التَّجَاحُدُ وَالتَّنَاكُرُ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةً عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ ، وَلَا أَنْ يُحَلِّفَ يَمِينًا عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ ، وَالْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَإِحْلَافِ الْخُصُومِ أَحَقُّ .

وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي زِيَادَتِهَا عَلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ :

فَأَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِتَصَفُّحِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْهُ مِنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ خَصْمٌ مُسْتَعِدٌّ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ يَجُوزُ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْهُ ، فَإِنْ تَعَرَّضَ الْقَاضِي لِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مَنْصِبِ وِلَايَتِهِ وَصَارَ مُتَجَوِّزًا فِي قَاعِدَةِ نَظَرِهِ .



وَالثَّانِي أَنَّ لِلنَّاظِرِ فِي الْحِسْبَةِ مِنْ سَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ وَاسْتِطَالَةِ الْحُمَاةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْمُنْكَرَاتِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ لِأَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلرَّهْبَةِ ، فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الْمُحْتَسِبِ إلَيْهَا بِالسَّلَاطَةِ وَالْغِلْظَةِ تَجَوُّزًا فِيهَا وَلَا خَرْقًا وَالْقَضَاءُ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ فَهُوَ بِالْأَنَاةِ وَالْوَقَارِ أَحَقُّ وَخُرُوجُهُ عَنْهُمَا إلَى سَلَاطَةِ الْحِسْبَةِ تَجَوُّزٌ وَخَرْقٌ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَنْصِبَيْنِ مُخْتَلِفٌ فَالتَّجَوُّزُ فِيهِ خُرُوجٌ عَنْ حَدِّهِ .

وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ فَبَيْنَهُمَا شَبَهٌ مُؤْتَلِفٌ وَفَرْقٌ مُخْتَلِفٌ .

فَأَمَّا الشَّبَهُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى الرَّهْبَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِسَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ وَقُوَّةِ الصَّرَامَةِ .

وَالثَّانِي جَوَازُ التَّعَرُّضِ فِيهِمَا لِأَسْبَابِ الْمَصَالِحِ وَالتَّطَلُّعِ إلَى إنْكَارِ الْعُدْوَانِ الظَّاهِرِ .


_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 27, 2012 2:56 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
َمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ ، وَالنَّظَرُ فِي الْحِسْبَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا رَفَّهَ عَنْهُ الْقُضَاةُ وَلِذَلِكَ كَانَتْ رُتْبَةُ الْمَظَالِمِ أَعْلَى ، وَرُتْبَةُ الْحِسْبَةِ أَخْفَضَ ، وَجَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَقِّعَ إلَى وَالِي الْمَظَالِمِ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى الْمُحْتَسِبِ وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَهَذَا الْفَرْقُ الثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَحْكُمَ وَلَا يَجُوزُ لِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَحْكُمَ .

( فَصْلٌ ) وَإِذَا اسْتَقَرَّ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ مَوْضِعِ الْحِسْبَةِ وَوُضِعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْمَظَالِمِ فَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى فَصْلَيْنِ :

أَحَدُهُمَا أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ .

وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ .

فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَالثَّانِي : مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .

وَالثَّالِثُ : مَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .

فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ كَتَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَيَأْمُرَهُمْ بِفِعْلِهَا وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا ، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا اُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ فَلَهُ وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ :



أَحَدُهَا أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إلَى أَمْرِهِ بِهَا وَيَكُونَ فِي تَأْدِيبِهِمْ عَلَى تَرْكِهَا أَلْيَنَ مِنْ تَأْدِيبِهِ عَلَى تَرْكِ مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ .

وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أُقِيمَتْ أَحَقُّ .

وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ وَلَا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فِيهَا وَلَا يَأْمُرَ بِإِقَامَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ .

وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ ، وَلَا يَرَاهُ الْقَوْمُ فَهَذَا مِمَّا فِي اسْتِمْرَارِ تَرْكِهِ وَتَعْطِيلِ الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ ، فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِهَذَا الْمَعْنَى أَمْ لَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :

أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ كَمَا تَسْقُطُ بِنُقْصَانِهِ ، فَقَدْ رَاعَى زِيَادٌ مِثْلَ هَذَا فِي صَلَاةِ النَّاسِ فِي جَامِعَيْ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إذَا صَلَّوْا فِي صَحْنِهِ فَرَفَعُوا مِنْ السُّجُودِ مَسَحُوا جِبَاهَهُمْ مِنْ التُّرَابِ فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْحَصَى فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَقَالَ : لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ فَيَظُنَّ الصَّغِيرُ إذَا نَشَأْ أَنَّ مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ .

وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى اعْتِقَادِهِ ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ نُقْصَانَ الْعَدَدِ يَمْنَعُ مِنْ إجْزَاءِ الْجُمُعَةِ .

وَأَمَّا أَمْرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا ، وَهَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ أَوْ مِنْ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ؟

فَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا نَدْبًا ، وَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا حَتْمًا .

فَأَمَّا صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا لِلصَّلَوَاتِ فَمِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَعَلَامَاتِ التَّعَبُّدِ الَّتِي فَرَّقَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الشِّرْكِ فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ مَحَلَّةٍ عَلَى تَعْطِيلِ الْجَمَاعَةِ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَتَرْكِ الْأَذَانِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ كَانَ الْمُحْتَسِبُ مَنْدُوبًا إلَى أَمْرِهِمْ بِالْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ أَوْ مُحْتَسَبٌ لَهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ؟

عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهَلْ يَلْزَمُ السُّلْطَانَ مُحَارَبَتُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ .

فَأَمَّا تَرْكُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ آحَادِ النَّاسِ أَوْ تَرْكُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِصَلَاتِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَجْعَلْهُ عَادَةً وَإِلْفًا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ النَّدْبِ الَّذِي يَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ اسْتِرَابَةٌ أَوْ يَجْعَلَهُ إلْفًا وَعَادَةً وَيَخَافَ تَعَدِّيَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَيُرَاعِي حُكْمَ الْمَصْلَحَةِ بِهِ فِي زَجْرِهِ عَمَّا اسْتَهَانَ

بِهِ مِنْ سُنَنِ عِبَادَتِهِ وَيَكُونُ وَعِيدُهُ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ ، كَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :{ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا وَآمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا وَتُقَامَ ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى مَنَازِلِ أَقْوَامٍ لَا يَحْضُرُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَهَا عَلَيْهِمْ } .

وَأَمَّا مَا يَأْمُرُ بِهِ آحَادَ النَّاسِ وَأَفْرَادَهُمْ فَكَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا فَيُذَكِّرُ بِهَا وَيَأْمُرُ بِفِعْلِهَا وَيُرَاعِي جَوَابَهُ عَنْهَا ، فَإِنْ قَالَ : تَرَكْتُهَا لِنِسْيَانٍ حَثَّهُ عَلَى فِعْلِهَا بَعْدَ ذِكْرِهِ ، وَلَمْ يُؤَدِّبْهُ ؛ وَإِنْ قَالَ : تَرَكْتُهَا لِتَوَانٍ وَهَوَانٍ أَدَّبَهُ زَجْرًا وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي فَضْلِ التَّأْخِيرِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَاتُ فِي بَلَدٍ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى تَأْخِيرِ صَلَوَاتِهِمْ إلَى آخِرِهِ وَالْمُحْتَسِبُ يَرَى فَضْلَ تَعْجِيلِهَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالتَّعْجِيلِ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَمِيعِ النَّاسِ لِتَأْخِيرِهَا يُفْضِي بِالصَّغِيرِ النَّاشِئِ إلَى اعْتِقَادِ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ دُونَ مَا تَقَدَّمَ وَلَوْ عَجَّلَهَا بَعْضُهُمْ تَرَكَ مَنْ أَخَّرَهَا مِنْهُمْ مَا يَرَاهُ مِنْ التَّأْخِيرِ .

فَأَمَّا الْأَذَانُ وَالْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ إذَا خَالَفَ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَإِنْ كَانَ يَرَى إذَا كَانَ مَا يَفْعَلُ مُسَوَّغًا فِي الِاجْتِهَادِ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يُخَالِفُ فِيهِ رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ وَالْوُضُوءِ بِمَاءٍ تَغَيَّرَ بِالْمَذْرُورَاتِ الطَّاهِرَاتِ ، أَوْ اقْتِصَارٌ عَلَى مَسْحِ أَقَلِّ الرَّأْسِ ، أَوْ الْعَفْوُ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَلَا اعْتِرَاضَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ ، وَكَانَ لَهُ فِي اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ وَجْهَانِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِفْضَاءِ إلَى اسْتِبَاحَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّهُ رُبَّمَا آلَ إلَى السُّكْرِ مَنْ شَرِبَهُ ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ - تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 27, 2012 3:02 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
( فَصْلٌ ) فَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَضَرْبَانِ : عَامٌّ وَخَاصٌّ .


فَأَمَّا الْعَامُّ : فَكَالْبَلَدِ إذَا تَعَطَّلَ شُرْبُهُ أَوْ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ أَوْ كَانَ يَطْرُقُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فَكَفُّوا عَنْ مَعُونَتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمَرَ بِإِصْلَاحِ شُرْبِهِمْ وَبِنَاءِ سُورِهِمْ وَبِمَعُونَةِ بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ ، فَأَمَّا إذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ وَإِصْلَاحِ شُرْبِهِمْ وَعِمَارَةِ مَسَاجِدِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ وَمُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ فِيهِمْ مُتَوَجِّهًا إلَى كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ ، وَإِنْ شَرَعَ ذَوُو الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِمْ ، وَفِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ وَبَاشَرُوا الْقِيَامَ بِهِ سَقَطَ عَنْ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي مُرَاعَاةِ بَنِي السَّبِيلِ وَلَا فِي بِنَاءِ مَا كَانَ مَهْدُومًا ، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُعِيدُونَ بِنَاءَهُ مِنْ الْمُسْتَرَمِّ وَالْمُسْتَهْدَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ فِيمَا عَمَّ أَهْلَ الْبَلَدِ مِنْ سُورِهِ وَجَامِعِهِمْ إلَّا بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ لِيَأْذَنَ لَهُمْ فِي هَدْمِهِ بَعْدَ تَضْمِينِهِ الْقِيَامَ بِعِمَارَتِهِ ، وَجَازَ فِيمَا خُصَّ مِنْ الْمَسَاجِدِ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ أَلَّا يَسْتَأْذِنُوهُ ، وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا اسْتَأْنَفُوهُ ، فَأَمَّا إذَا كَفَّ ذَوُو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ وَعِمَارَةِ مَا اُسْتُرِمَّ ، فَإِنْ كَانَ الْمَقَامُ فِي الْبَلَدِ مُمْكِنًا وَكَانَ الشُّرْبُ وَإِنْ قَلَّ مُقْنِعًا تَارَكَهُمْ وَأَبَاهُ .

وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمَقَامُ فِي الْبَلَدِ لِتَعْطِيلِ شُرْبِهِ وَانْدِحَاضِ سُورِهِ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يَضُرُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَعْطِيلُهُ لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إعْلَامَ السُّلْطَانِ بِهِ وَتَرْغِيبَ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْبَلَدُ ثَغْرًا مِصْرًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَرَ وَحُكْمُهُ أَخَفَّ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَهُ جَبْرًا بِعِمَارَتِهِ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ أَحَقُّ أَنْ يَقُومَ بِهِ ، وَلَوْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ فَيَسْتَجِدُّهُ فَيَقُولُ لَهُمْ : الْمُسْتَحَبُّ مَا اسْتَدَامَ عَجْزُ السُّلْطَانِ عَنْهُ أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوْ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دَوَامُ اسْتِيطَانِهِ ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي عَيْنِهِ أَنْ يَلْتَزِمَ جَبْرًا مَا لَا تَسْمَحُ بِهِ نَفْسُهُ

مِنْ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَيَقُولُ لِيُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ وَطَابَ نَفْسًا بِهِ : وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ حَتَّى إذَا اجْتَمَعَتْ كِفَايَةُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ يَلُوحُ اجْتِمَاعُهَا لِضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ بِهِ نَفْسًا شَرَعَ حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ وَأَخَذَ كُلَّ ضَامِنٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِالْتِزَامِ مَا ضَمِنَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الضَّمَانِ لَا يَلْزَمُ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْخَاصَّةِ ، لِأَنَّ حُكْمَ مَا عَمَّ مِنْ الْمَصَالِحِ مُوسِعٌ فَكَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ فِيهِ أَوْسَعَ .

وَإِذَا عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا لِئَلَّا يَصِيرَ بِالتَّفَرُّدِ مُفْتَاتًا عَلَيْهِ ؛ إذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مَعْهُودِ حِسْبَتِهِ ، فَإِنْ قَلَّتْ وَشَقَّ اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ .

وَأَمَّا الْخَاصُّ فَكَالْحُقُوقِ إذَا مُطِلَتْ وَالدُّيُونِ إذَا أُخِّرَتْ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ حُكْمٌ ، وَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُلَازِمَ ، وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِأَدَائِهَا ، وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنْ الصِّغَارِ وَالِاعْتِرَاضُ لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِيهَا .

وَأَمَّا قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ فِيهَا أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ تَكُونُ أَوَامِرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .



( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَأَخَذِ الْأَوْلِيَاءِ بِنِكَاحِ الْأَيَامَى أَكْفَاءَهُنَّ إذَا طَلَبْنَ وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ إذَا فُورِقْنَ وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ النِّسَاءِ وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ .

وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أُمِّهِ وَلُحُوقُ نَسَبِهِ أَخَذَهُ بِأَحْكَامِ الْآبَاءِ جَبْرًا وَعَزَّزَهُ عَنْ النَّفْيِ أَدَبًا ، وَيَأْخُذُ السَّادَةَ بِحُقُوقِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُطِيقُونَ ، وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْبَهَائِمِ يَأْخُذُهُمْ بِعُلُوفَتِهَا إذَا قَصَّرُوا وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ .

وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا وَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنْ الْتِزَامِ كَفَالَتِهِ أَوْ تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ وَاجِدُ الضَّوَالِّ إذَا قَصَّرَ فِيهَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِهَا ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَا يَكُونُ بِهِ ضَامِنًا اللَّقِيطَ .

وَإِذَا أَسْلَمَ الضَّالَّةَ إلَى غَيْرِهِ ضَمِنَهَا ؛ وَلَا يَضْمَنُ اللَّقِيطَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ عَلَى نَظَائِرِ هَذَا الْمِثَالِ يَكُونُ أَمْرُهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى .

وَالثَّانِي مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .

وَالثَّالِثُ مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ .

فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :

أَحَدُهَا مَا تَعَلَّقَ بِالْعِبَادَاتِ .

الثَّانِي مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ .

وَالثَّالِثُ مَا تَعَلَّقَ بِالْمُعَامَلَاتِ .

فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَاتِ فَكَالْقَاصِدِ مُخَالَفَةَ هَيْئَاتِهَا الْمَشْرُوعَةِ وَالْمُتَعَمِّدِ تَغْيِيرَ أَوْصَافِهَا الْمَسْنُونَةِ مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ ، وَالْإِسْرَارَ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ أَوْ يَزِيدُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ ، فَلِلْمُحْتَسِبِ إنْكَارُهَا وَتَأْدِيبُ الْمُعَانِدِ فِيهَا إذَا لَمْ يَقُلْ بِمَا ارْتَكَبَهُ إمَامٌ مَتْبُوعٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَلَّ بِتَطْهِيرِ جَسَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَا يُؤَاخِذُهُ بِالتُّهَمِ وَلَا بِالظُّنُونِ ؛ كَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاظِرِينَ فِي الْحِسْبَةِ أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلًا دَاخِلًا إلَى الْمَسْجِدِ بِنَعْلَيْنِ هَلْ يَدْخُلُ بِهِمَا بَيْتَ طَهَارَتِهِ فَلَمَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ أَرَادَ إحْلَافَهُ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ تَعَدَّى فِيهِ أَحْكَامَ الْحِسْبَةِ وَغَلَبَ فِيهِ سُوءُ الظِّنَّةِ ، وَهَكَذَا لَوْ ظَنَّ بِرَجُلٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَمْ يُؤَاخِذْهُ بِالتُّهَمِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ بِالْإِنْكَارِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ بِالتُّهْمَةِ أَنْ يَعِظَ وَيُحَذِّرَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَالْإِخْلَالِ بِمَفْرُوضَاتِهِ .

فَإِنْ رَآهُ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى تَأْدِيبِهِ إلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْ سَبَبِ أَكْلِهِ إذَا الْتَبَسَتْ أَحْوَالُهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا ، وَيَلْزَمُهُ السُّؤَالُ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الرَّيْبِ ، فَإِنْ ذَكَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ كَفَّ عَنْ زَجْرِهِ وَأَمَرَهُ بِإِخْفَاءِ أَكْلِهِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ إحْلَافُهُ عِنْدَ الِاسْتِرَابَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى أَمَانَتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عُذْرًا جَاهَرَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مُجَاهَرَةَ رَدْعٍ وَأَدَّبَهُ

تَأْدِيبَ زَجْرٍ ، وَهَكَذَا لَوْ عَلِمَ عُذْرَهُ فِي الْأَكْلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُجَاهَرَةَ بِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ مِنْ ذَوِي الْجَهَالَةِ مِمَّنْ لَا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ مِنْ غَيْرِهِ .

وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ مِنْ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ فَعَامِلُ الصَّدَقَةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُ جَبْرًا أَخَصُّ ، وَهُوَ بِتَعْزِيرِهِ عَلَى الْغُلُولِ إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ عُذْرًا أَحَقُّ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ أَخَصَّ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لِلْعَامِلِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَخَصَّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا لَهُ أَجْزَأَهُ ، وَيَكُونُ تَأْدِيبُهُ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يُخْرِجُهَا سِرًّا وُكِّلَ إلَى أَمَانَتِهِ فِيهَا .

وَإِنْ رَأَى رَجُلًا يَتَعَرَّضُ لِمَسْأَلَةِ النَّاسِ فِي طَلَبِ الصَّدَقَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ إمَّا بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَأَدَّبَهُ فِيهِ وَكَانَ الْمُحْتَسِبُ بِإِنْكَارِهِ أَخَصَّ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ .

قَدْ فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ، وَلَوْ رَأَى عَلَيْهِ آثَارَ الْغِنَى وَهُوَ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْلَمُهُ تَحْرِيمَهَا عَلَى الْمُسْتَغْنِي عَنْهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ فَقِيرًا ، وَإِذَا تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ ذُو جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى الْعَمَلِ زَجَرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلِاحْتِرَافِ بِعَمَلِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عَزَّرَهُ حَتَّى يُقْلِعَ عَنْهَا .

وَإِنْ دَعَتْ الْحَالَةُ عِنْدَ إلْحَاحِ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ لِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ إلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى ذِي الْمَالِ جَبْرًا مِنْ مَالِهِ وَيُؤَجِّرَ ذَا الْعَمَلِ وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ وَالْحُكَّامَ بِهِ أَحَقُّ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ لِيَتَوَلَّى ذَلِكَ أَوْ يَأْذَنَ فِيهِ .



وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَصَدَّى لِعِلْمِ الشَّرْعِ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ فَقِيهٍ أَوْ وَاعِظٍ وَلَمْ يَأْمَنْ اغْتِرَارَ النَّاسِ بِهِ فِي سُوءِ تَأْوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفِ جَوَابٍ أَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّصَدِّي لِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ .وَمَنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ إلَّا بَعْدَ الِاخْتِبَارِ .

قَدْ مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَاخْتَبَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ مَا عِمَادُ الدِّينِ ؟ فَقَالَ : الْوَرَعُ ، قَالَ : فَمَا آفَتُهُ ؟ قَالَ الطَّمَعُ ، قَالَ : تَكَلَّمْ الْآنَ إنْ شِئْتَ .

وَهَكَذَا لَوْ ابْتَدَعَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَوْلًا خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ فِيهِ النَّصَّ وَرَدَّ قَوْلَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَزَجَرَهُ عَنْهُ ، فَإِنْ أَقْلَعَ وَتَابَ وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ بِتَهْذِيبِ الدِّينِ أَحَقُّ وَإِذَا تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْوِيلٍ عَدَلَ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إلَى بَاطِنِ بِدْعَةٍ تَتَكَلَّفُ لَهُ غَمْضَ مَعَانِيهِ أَوْ تَفَرَّدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ تَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ أَوْ يَفْسُدُ بِهَا التَّأْوِيلُ كَانَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إنْكَارُ ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْهُ ، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ إنْكَارُهُ إذَا تَمَيَّزَ عِنْدَهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِقُوَّتِهِ فِي الْعِلْمِ وَاجْتِهَادِهِ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَإِمَّا بِأَنْ يَتَّفِقَ عُلَمَاءُ الْوَقْتِ عَلَى إنْكَارِهِ وَابْتِدَاعِهِ فَيَسْتَعْدُونَهُ فِيهِ فَيَعُولُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى أَقَاوِيلِهِمْ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ .

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة يناير 27, 2012 3:08 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ مَوَاقِفِ الرَّيْبِ وَمَظَانِّ التُّهْمَةِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ } .فَيُقَدَّمُ الْإِنْكَارُ وَلَا يُجْعَلُ بِالتَّأْدِيبِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ .

حَكَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى الرِّجَالَ أَنْ يَطُوفُوا مَعَ النِّسَاءِ فَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي مَعَ النِّسَاءِ فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ الرَّجُلُ : وَاَللَّهِ إنْ كُنْتُ أَحْسَنْتُ لَقَدْ ظَلَمْتَنِي ، وَإِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ فَمَا عَلَّمْتَنِي ، فَقَالَ عُمَرُ : أَمَا شَهِدْتَ عَزْمَتِي .

فَقَالَ :مَا شَهِدْتُ لَكَ عَزْمَةً فَأَلْقَى إلَيْهِ الدِّرَّةَ وَقَالَ لَهُ : اقْتَصَّ فَقَالَ : لَا أَقْتَصُّ الْيَوْمَ ، قَالَ فَاعْفُ عَنِّي. قَالَ لَا أَعْفُو ، فَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ لَقِيَهُ مِنْ الْغَدِ فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَرَى مَا كَانَ مِنِّي قَدْ أَسْرَعَ فِيكَ ؟ قَالَ أَجَلْ ، قَالَ فَأُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي قَدْ عَفَوْت عَنْكَ .

وَإِذَا رَأَى وَقْفَةَ رَجُلٍ مَعَ امْرَأَةٍ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرِّيَبِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ وَلَا إنْكَارٍ فَمَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا .

وَإِنْ كَانَتْ الْوَقْفَةُ فِي طَرِيقٍ خَالٍ فَخُلُوُّ الْمَكَانِ رِيبَةٌ فَيُنْكِرُهَا وَلَا يُعَجِّلُ بِالتَّأْدِيبِ عَلَيْهِمَا حِذَارًا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ ، وَلْيَقُلْ إنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيَبِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلْيَكُنْ زَجْرُهُ بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ .



حَكَى أَبُو الْأَزْهَرِ أَنَّ ابْنَ عَائِشَةَ رَأَى رَجُلًا يُكَلِّمُ امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ فَقَالَ لَهُ إنْ كَانَتْ حُرْمَتَكَ إنَّهُ لَقَبِيحٌ بِكَ أَنْ تُكَلِّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حُرْمَتَكَ فَهُوَ أَقْبَحُ ، ثُمَّ وَلَّى عَنْهُ وَجَلَسَ لِلنَّاسِ يُحَدِّثُهُمْ فَإِذَا بِرُقْعَةٍ قَدْ أُلْقِيَتْ فِي حِجْرِهِ مَكْتُوبٍ فِيهَا ( مِنْ الْكَامِلِ ) :

إنَّ الَّتِي أَبْصَرْتَنِي سَحَرًا أُكَلِّمُهَا
رَسُولْ أَدَّتْ إلَيَّ رِسَالَةً كَادَتْ لَهَا نَفْسِي تَسِيلْ
مِنْ فَاتِرِ الْأَلْحَاظِ يَجْذِبُ خَصْرَهُ رِدْفٌ ثَقِيلْ
مُتَنَكِّبًا قَوْسَ الصِّبَا يَرْمِي وَلَيْسَ لَهُ رَسِيلْ
فَلَوْ أَنْ أُذْنَكَ بَيْنَنَا حَتَّى تَسَمَّعَ مَا نَقُولْ
لَرَأَيْتَ مَا اسْتَقْبَحْتَ مِنْ أَمْرِي هُوَ الْحَسَنَ الْجَمِيلْ

فَقَرَأَهَا ابْنُ عَائِشَةَ وَوَجَدَ مَكْتُوبًا عَلَى رَأْسِهَا أَبُو نُوَاسٍ،فَقَالَ ابْنُ عَائِشَةَ :مَا لِي وَلِلتَّعْرِيضِ لِأَبِي نُوَاسٍ .

وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إنْكَارِ ابْنِ عَائِشَةَ كَافٍ لِمِثْلِهِ ، وَلَا يَكُونُ لِمَنْ نُدِبَ لِلْإِنْكَارِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ كَافِيًا ، وَلَيْسَ فِيمَا قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ تَصْرِيحٌ بِفُجُورٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ وَإِنْ كَانَتْ شَوَاهِدُ حَالِهِ وَفَحْوَى كَلَامِهِ يَنْطِقَانِ بِفُجُورِهِ وَرِيبَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ مِثْلِ أَبِي نُوَاسٍ مُنْكَرًا وَإِنْ جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ مُنْكَرًا .

فَإِذَا رَأَى الْمُحْتَسِبُ فِي هَذَا الْحَالِ مَا يُنْكِرُهُ تَأَتَّى وَتَفَحَّصَ وَرَاعَى شَوَاهِدَ الْحَالِ وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ ، كَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إذْ رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ وَعَلَى عَاتِقِهِ امْرَأَةٌ مِثْلُ الْمَهَاةِ يَعْنِي حُسْنًا وَجَمَالًا وَهُوَ يَقُولُ ( مِنْ السَّرِيعِ ) :

قُدْتُ لِهَذِي جَمَلًا
ذَلُولًا مُوَطَّأً أَتْبَعُ السَّهُولَا
أَعْدِلُهَا بِالْكَفِّ أَنْ تَمِيلَا
أَحْذَرُ أَنْ تَسْقُطَ أَوْ تَزُولَا
أَرْجُو بِذَاكَ نَائِلًا جَزِيلًا

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَنْ هَذِهِ الَّتِي وَهَبْتَ لَهَا حَجَّكَ ؟ فَقَالَ امْرَأَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهَا حَمْقَاءُ مِرْغَامَةٌ ، أَكُولٌ قِمَامَةٌ ، لَا يَبْقَى لَهَا خَامَةٌ .

فَقَالَ لَهُ مَا لَكَ لَا تُطَلِّقُهَا ؟

قَالَ إنَّهَا حَسْنَاءُ لَا تُفْرَكُ ، وَأُمُّ صِبْيَانٍ لَا تُتْرَكُ .

قَالَ فَشَأْنُكَ بِهَا .


قَالَ أَبُو زَيْدٍ :الْمِرْغَامُ الْمُخْتَلِطُ ، فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ حَتَّى اسْتَخْبَرَهُ فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ لَانَ لَهُ .

وَإِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَرَاقَهَا عَلَيْهِ وَأَدَّبَهُ،وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا أَدَّبَهُ عَلَى إظْهَارِهَا .

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إرَاقَتِهَا عَلَيْهِ ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا لَا تُرَاقُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الْمَضْمُونَةِ فِي حُقُوقِهِمْ .

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تُرَاقُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا لَا تُضْمَنُ عِنْدَهُ فِي حَقِّ مُسْلِمٍ وَلَا كَافِرٍ .

وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ النَّبِيذِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقِرُّ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَيَمْتَنِعُ مِنْ إرَاقَتِهِ وَمِنْ التَّأْدِيبِ عَلَى إظْهَارِهِ .

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْخَمْرِ ، وَلَيْسَ فِي إرَاقَتِهِ غُرْمٌ ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الْحِسْبَةِ بِشَوَاهِدِ الْحَالِ فِيهِ فَيَنْتَهِي فِيهِ عَنْ الْمُجَاهَرَةِ وَيَزْجُرُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ لِمُعَاقَرَةٍ وَلَا يُرِيقُهُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، لِئَلَّا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ غُرْمٌ إنْ حُوكِمَ فِيهِ .

وَأَمَّا السَّكْرَانُ إذَا تَظَاهَرَ بِسُكْرِهِ وَسَخُفَ بِهَجْرِهِ أَدَّبَهُ عَلَى السُّكْرِ وَالْهَجْرِ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا لِقِلَّةِ مُرَاقَبَتِهِ وَظُهُورِ سُخْفِهِ .

وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَفْصِلَهَا حَتَّى تَصِيرَ خَشَبًا لِتَزُولَ عَنْ حُكْمِ الْمَلَاهِي ، وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ بِهَا ، وَلَا يَكْسِرُهَا إنْ كَانَ خَشَبُهَا يَصْلُحُ لِغَيْرِ الْمَلَاهِي .


وَأَمَّا اللُّعَبُ فَلَيْسَ يُقْصَدُ بِهَا الْمَعَاصِي ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْبَنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ .

وَفِيهَا وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ تُقَارِنُهُ مَعْصِيَةٌ بِتَصْوِيرِ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ ، فَلِلتَّمْكِينِ مِنْهَا وَجْهٌ وَلِلْمَنْعِ مِنْهَا وَجْهٌ ، وَبِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إنْكَارُهُ وَإِقْرَارُهُ .

{ قَدْ دَخَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهِيَ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَأَقَرَّهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا } .

وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ تَقَلَّدَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ فَأَزَالَ سُوقَ الدَّادِيَّ وَمَنَعَ مِنْهَا ، وَقَالَ : لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلنَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ وَأَقَرَّ سُوقَ اللُّعَبِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا وَقَالَ : قَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ بِمَشْهَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا ؛ وَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اللُّعَبِ بِالْبَعِيدِ مِنْ الِاجْتِهَادِ .

وَأَمَّا سُوقُ الدَّادِيُّ فَالْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّبِيذِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ نَادِرًا فِي الدَّوَاءِ وَهُوَ بَعِيدٌ ، فَبَيْعُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى إبَاحَةَ النَّبِيذِ جَائِزٌ لَا يُكْرَهُ ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى تَحْرِيمَهُ جَائِزٌ لِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهِ ، وَمَكْرُوهٌ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ ، وَلَيْسَ مَنْعُ أَبِي سَعِيدٍ مِنْهُ لِتَحْرِيمِ بَيْعِهِ عِنْدَهُ . وَإِنَّمَا مِنْ الْمُظَاهَرَةِ بِإِفْرَادِ سُوقِهِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِبَيْعِهِ إلْحَاقًا لَهُ بِإِبَاحَةِ مَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إبَاحَةِ مَقْصِدِهِ لِيَقَعَ لِعَوَامِّ النَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ إنْكَارُ الْمُجَاهِرَةِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا يُنْكَرُ الْمُجَاهَرَةُ بِالْمُبَاحِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ .

وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حَذَرًا مِنْ الِاسْتِتَارِ بِهَا ، قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ } .

فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لِأَمَارَاتٍ دَلَّتْ ، وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ :

أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا ، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ ، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حِذَارًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ ، وَالْبَحْثُ فِي ذَلِكَ ، وَالْإِنْكَارُ .كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ .

فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ تَخْتَلِفُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ جَمِيل بِنْتُ مِحْجَنِ بْنِ الْأَفْقَمِ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ عُبَيْدٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مَسْرُوحٍ وَسَهْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ وَزِيَادَ بْنَ عُبَيْدٍ فَرَصَدُوهُ حَتَّى إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَجَمُوا عَلَيْهِمَا وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُجُومَهُمْ . وَإِنْ كَانَ حَدَّهُمْ الْقَذْفَ عِنْدَ قُصُورِ الشَّهَادَةِ .

وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصَّرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عَنْهُ .

حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَالَ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ ، فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنْ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ وَنَهَاكَ عَنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ فَدَخَلْتَ ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ .

فَمَنْ سَمِعَ أَصْوَاتًا مِلْأَةً مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الْبَاطِنِ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ الْمُنْكَرَةُ كَالزِّنَا وَالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ وَمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ مَعَ تَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ إذَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى حَظْرِهِ فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إنْكَارُهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَالزَّجْرُ عَلَيْهِ وَأَمْرُهُ فِي التَّأْدِيبِ مُخْتَلَفٌ لِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَشِدَّةِ الْحَظْرِ .

وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إنْكَارِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَرِبَا النَّقْدِ فَالْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى رِبَا النَّسَاءِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، فَهَلْ يَدْخُلُ فِي إنْكَارِهِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ أَوْ لَا ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .

وَفِي مَعْنَى الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهَا عُقُودُ الْمَنَاكِحِ الْمُحَرَّمَةِ يُنْكِرُهَا إنْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى حَظْرِهَا ؛ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِإِنْكَارِهَا إنْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا ضَعُفَ الْخِلَافُ فِيهِ وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَالْمُتْعَةِ فَرُبَّمَا صَارَتْ ذَرِيعَةً إلَى اسْتِبَاحَةِ الزِّنَا ، فَفِي إنْكَارِهِ لَهَا وَجْهَانِ ، وَلْيَكُنْ بَدَلَ إنْكَارِهِ لَهَا التَّرْغِيبُ فِي الْعُقُودِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَامَلَاتِ غِشُّ الْمَبِيعَاتِ وَتَدْلِيسُ الْأَثْمَانِ فَيُنْكِرُهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ فِيهِ .


رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ } .

فَإِنْ كَانَ هَذَا الْغِشُّ تَدْلِيسًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَيَخْفَى عَلَيْهِ فَهُوَ أَغْلَظُ الْغِشِّ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُهَا مَأْثَمًا فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ أَغْلَظُ وَالتَّأْدِيبُ عَلَيْهِ أَشَدُّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ أَخَفَّ مَأْثَمًا وَأَلْيَنَ إنْكَارًا ، وَيَنْظُرُ فِي مُشْتَرِيهِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ لِيَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْبَائِعِ لِغِشِّهِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي بِابْتِيَاعِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَبِيعُهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ بِغِشِّهِ ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَرِيهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ خَرَجَ الْمُشْتَرِي مِنْ جُمْلَةِ الْإِنْكَارِ وَتَفَرَّدَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَدْلِيسِ الْأَثْمَانِ .وَيُمْنَعُ مِنْ تَصْرِيَةِ الْمَوَاشِي وَتَحْفِيلِ ضُرُوعِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّدْلِيسِ .

وَمِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعَ مِنْ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ لِوَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ عِنْدَ نَهْيِهِ عَنْهُ ، وَلْيَكُنْ الْأَدَبُ عَلَيْهِ أَظْهَرَ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ أَكْثَرَ .

وَيَجُوزُ لَهُ إذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ السُّوقَةِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى مَا عَايَرَهُ مِنْهَا طَابِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا يَتَعَامَلُونَ إلَّا بِهِ كَانَ أَحْوَطَ وَأَسْلَمَ .

فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَامَلَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ بِطَابِعِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ مَبْخُوسًا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا لِمُخَالَفَتِهِ فِي الْعُدُولِ عَنْ مَطْبُوعِهِ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ .

وَالثَّانِي : لِلْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِي الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ سَلِيمًا مِنْ بَخْسٍ وَنَقْصٍ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ بِحَقِّ السَّلْطَنَةِ وَحْدَهَا لِأَجْلِ الْمُخَالَفَةِ ؛ وَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابِعِهِ كَانَ الْمُزَوِّرُ فِيهِ كَالْمُهَرِّجِ عَلَى طَابِعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ :

أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ .

وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ وَهُوَ أَغْلَظُ النُّكْرَيْنِ ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ السُّلْطَانِيِّ مِنْهُمَا فَكَانَ أَحَقَّهُمَا .

وَإِذَا اتَّسَعَ الْبَلَدُ حَتَّى احْتَاجَ أَهْلُهُ فِيهِ إلَى كَيَّالِينَ وَوَزَّانِينَ وَنَقَّادِينَ تَخَيَّرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ وَمَنَعَ أَنْ يُنْتَدَبَ لِذَلِكَ إلَّا مَنْ ارْتَضَاهُ مِنْ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ وَكَانَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ اتَّسَعَ لَهَا ، فَإِنْ ضَاقَ قَدْرُهَا لَهُمْ حَتَّى لَا يَجْرِيَ بَيْنَهُمْ فِيهَا اسْتِزَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ فَيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الْمُمَايَلَةِ وَالتَّحَيُّفِ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ .

وَقَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ يَقُومُونَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَرْتِيبِهِمْ لِذَلِكَ وَيُثْبِتُونَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فِي الدَّوَاوِينِ حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا تُؤْمَنُ وَسَاطَتُهُ ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارِينَ لِلْكَيْلِ وَالْوَزْنِ تَحَيُّفٌ فِي تَطْفِيفٍ أَوْ مُمَايَلَةٌ فِي زِيَادَةِ أَدَبٍ أُخْرِجَ عَنْ جُمْلَةِ الْمُخْتَارِينَ وَمُنِعَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْوَسَاطَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اخْتِيَارِ الدَّلَّالِينَ يُقِرُّ مِنْهُمْ الْأُمَنَاءَ وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ ، وَهَذَا مِمَّا يَتَوَلَّاهُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ إنْ قَعَدَ عَنْهُ الْأُمَرَاءُ .

وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْقُسَّامِ وَالزُّرَّاعِ فَالْقُضَاةُ أَحَقُّ بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُسْتَنَابُونَ فِي أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْعِيَبِ .

وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْحَرَّاسِينَ فِي الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ فَإِلَى الْحُمَاةِ وَأَصْحَابِ الْمَعَاوِنِ .

وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّطْفِيفِ تَخَاصُمٌ جَازَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْتَسِبُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْخَصْمِ فِيهِ تَجَاحُدٌ وَتَنَاكُرٌ ، فَإِنْ أَفْضَى إلَى تَجَاحُدٍ وَتَنَاكُرٍ كَانَ الْقُضَاةُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُمْ بِالْأَحْكَامِ أَحَقُّ وَكَانَ التَّأْدِيبُ فِيهِ إلَى الْمُحْتَسِبِ ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ جَازَ لِاتِّصَالِهِ بِحُكْمِهِمْ .

وَمِمَّا يُنْكِرُهُ الْمُحْتَسِبُ فِي الْعُمُومِ وَلَا يُنْكِرُهُ فِي الْخُصُوصِ وَالْآحَادِ التَّبَايُعُ بِمَا لَمْ يَأْلَفْهُ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْمَكَايِيلِ وَالْأَوْزَانِ الَّتِي لَا تَعْرِفُ فِيهِ إنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي غَيْرِهِ ، فَإِنْ تَرَاضَى بِهَا اثْنَانِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا الْإِنْكَارَ وَالْمَنْعَ ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَرْتَسِمَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُعَامِلُهُمْ فِيهَا مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَيَصِيرُ مَغْرُورًا .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا يُنْكِرُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْمُحْصَنَةِ فَمِثْلُ أَنْ يَتَعَدَّى رَجُلٌ فِي حَدٍّ لِجَارِهِ أَوْ فِي حَرِيمٍ لِدَارِهِ أَوْ فِي وَضْعِ أَجْذَاعٍ عَلَى جِدَارِهِ فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ فِيهِ مَا لَمْ يَسْتَعْدِهِ الْجَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّهُ فَيُنْصَحُ مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ ، فَإِنْ خَاصَمَهُ فِيهِ كَانَ لِلْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِيهِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَتَنَاكُلٌ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بِإِزَالَةِ تَعْدِيَةٍ وَكَانَ لَهُ تَأْدِيبُهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِ الْحَالِ .

فَإِنْ تَنَازَعَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ ، وَلَوْ أَنَّ الْجَارَ أَقَرَّ جَارَهُ عَلَى تَعَدِّيهِ وَعَفَا عَنْ مُطَالَبَتِهِ بِهَدْمِ مَا تَعَدَّى فِيهِ ثُمَّ عَادَ مُطَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ بِهَدْمِ مَا بَنَاهُ ؛ وَلَوْ كَانَ قَدْ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ وَوَضَعَ الْأَجْذَاعَ بِإِذْنِ الْجَارِ ثُمَّ رَجَعَ الْجَارُ فِي إذْنِهِ لَمْ يُؤْخَذْ الثَّانِي بِهَدْمِهِ .


وَلَوْ انْتَشَرَتْ أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ إلَى دَارِ جَارِهِ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَعْدِيَ الْمُحْتَسِبَ حَتَّهُ يُعَدِّيهِ عَلَى صَاحِبِ الشَّجَرَةِ لِيَأْخُذَهُ بِإِزَالَةِ مَا انْتَشَرَ مِنْ أَغْصَانِهَا فِي دَارِهِ وَلَا تَأْدِيبَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ انْتِشَارَهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَلَوْ انْتَشَرَتْ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي قَرَارِ أَرْضِ الْجَارِ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِهَا وَلَمْ يُمْنَعْ الْجَارُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي قَرَارِ أَرْضِهِ وَإِنْ قَطَعَهَا نَصَّبَ الْمَلِكُ تَنُّورًا فِي دَارِهِ فَتَأَذَّى الْجَارُ بِدُخَانِهِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَّبَ فِي دَارِهِ رَحًى أَوْ وَضَعَ فِيهَا حَدَّادِينَ أَوْ قَصَّابِينَ لَمْ يُمْنَعْ ؛ لِأَنَّ لِلنَّاسِ التَّصَرُّفَ فِي أَمْلَاكِهِمْ بِمَا أَحَبُّوا وَمَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ مِثْلِ هَذَا بُدًّا وَإِذَا تَعَدَّى مُسْتَأْجِرٌ عَلَى أَجِيرٍ فِي نُقْصَانِ أُجْرَةٍ أَوْ اسْتِزَادَةِ عَمَلٍ كَفَّهُ عَنْ تَعَدِّيهِ ، وَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ ، وَلَوْ قَصَّرَ الْأَجِيرُ فِي حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَنَقَصَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ اسْتَزَادَهُ فِي الْأُجْرَةِ مَنَعَهُ مِنْهُ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ إذَا تَخَاصَمَا إلَيْهِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَتَنَاكَرَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا أَحَقَّ وَمِمَّا يُؤْخَذُ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ بِمُرَاعَاتِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّنَائِعِ فِي الْأَسْوَاقِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ :

مِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي فِي حَالَةِ الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ .

فَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ ؛ لِأَنَّ الطَّبِيبَ إقْدَامًا عَلَى النُّفُوسِ يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أَوْ سَقَمٍ ، وَلِلْمُعَلِّمِينَ مِنْ الطَّرَائِقِ الَّتِي يَنْشَأُ الصِّغَارُ عَلَيْهَا مَا يَكُونُ نَقْلُهُمْ عَنْهَا بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا فَيُقَرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ عَمَلُهُ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ وَيُمْنَعُ مَنْ قَصَّرَ وَأَسَاءَ مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ وَتَخْبُثُ بِهِ الْآدَابُ .

وَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ فَمِثْلُ الصَّاغَةِ وَالْحَاكَةِ وَالْقَصَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا هَرَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ ، فَيُرَاعِي أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْهُمْ فَيُقِرُّهُمْ وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ


بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْحُمَاةَ وَوُلَاةَ الْمُعَاوِنِ أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ ، لِأَنَّ الْخِيَانَةَ تَابِعَةٌ لِلسَّرِقَةِ .

وَأَمَّا مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَهُوَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ ، وَلَهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي الْعُمُومِ فَسَادَ الْعَمَلِ وَرَدَاءَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ .

وَأَمَّا فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ اعْتَادَ الصَّانِعُ فِيهِ الْفَسَادَ وَالتَّدْلِيسَ فَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ قَابَلَ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ غُرْمٌ رُوعِيَ حَالُ الْغُرْمِ ، فَإِنْ افْتَقَرَ إلَى تَقْرِيرٍ أَوْ تَقْوِيمٍ لَمْ يُمْكِنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ حُكْمِيٍّ وَكَانَ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْوِيمٍ وَاسْتَحَقَّ فِيهِ الْمِثْلَ الَّذِي لَا اجْتِهَادَ فِيهِ ، وَلَا تَنَازُعَ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ بِإِلْزَامِ الْغُرْمِ وَالتَّأْدِيبِ عَلَى فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالتَّنَاصُفِ وَزَجْرٌ عَنْ التَّعَدِّي .

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ الْأَقْوَاتَ وَلَا غَيْرَهَا فِي رُخْصٍ وَلَا غَلَاءٍ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فِي الْأَقْوَاتِ مَعَ الْغَلَاءِ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مَا يُنْكَرُ مِنْ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمَنْعِ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى مَنَازِلِ النَّاسِ ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَلَا بِنَاؤُهُ أَنْ يَسْتُرَ سَطْحَهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْرِفَ عَلَى غَيْرِهِ وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ تَعْلِيَةِ أَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ مَلَكُوا أَبْنِيَةً عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا وَمُنِعُوا مِنْ الْإِشْرَافِ مِنْهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي ذِمَّتِهِمْ مِنْ لُبْسِ الْغِيَارِ وَالْمُخَالَفَةِ فِي الْهَيْئَةِ وَتَرْكِ الْمُجَاهَرَةِ بِقَوْلِهِمْ فِي الْعُزَيْرِ وَالْمَسِيحِ وَيُمْنَعُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَبٍّ أَوْ أَذًى ، وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ .

وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ السَّابِلَةِ وَالْجَوَامِعِ الْجَفْلَةِ مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْهَا الضُّعَفَاءُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذَوُو الْحَاجَاتِ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا { أَنْكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِقَوْمِهِ وَقَالَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ } .

فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْإِطَالَةِ وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ يَسْتَبْدِلُ بِهِ مَنْ يُخَفِّفُهَا .

وَإِذَا كَانَ فِي الْقُضَاةِ مَنْ يُجِيبُ الْخُصُومَ إذَا قَصَدُوهُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ إذَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ حَتَّى تَقِفَ الْأَحْكَامُ وَيَسْتَضِرَّ الْخُصُومُ فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ بِمَا نُدِبَ لَهُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَ الْمُتَحَاكِمِينَ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ ، وَلَا يَمْنَعُ عُلُوُّ رُتْبَتِهِ مِنْ إنْكَارِ مَا قَصَّرَ فِيهِ .

قَدْ مَرَّ إبْرَاهِيمُ بْنُ بَطْحَاءَ وَالِي الْحِسْبَةِ بِجَانِبَيْ بَغْدَادَ بِدَارِ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ فَرَأَى الْخُصُومَ جُلُوسًا عَلَى بَابِهِ يَنْتَظِرُونَ جُلُوسَهُ لِلنَّظَرِ بَيْنَهُمْ وَقَدْ تَعَالَى النَّهَارُ وَهَجَرَتْ الشَّمْسُ ، فَوَقَفَ وَاسْتَدْعَى حَاجِبَهُ وَقَالَ : تَقُولُ لِقَاضِي الْقُضَاةِ الْخُصُومُ جُلُوسٌ عَلَى الْبَابِ وَقَدْ بَلَغَتْهُمْ الشَّمْسُ وَتَأَذَّوْا بِالِانْتِظَارِ ، فَإِمَّا جَلَسْتَ لَهُمْ أَوْ عَرَّفْتَهُمْ عُذْرَكَ فَيَنْصَرِفُوا وَيَعُودُوا .

وَإِذَا كَانَ فِي سَادَةِ الْعَبِيدِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيمَا لَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ كَانَ مَنْعُهُمْ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِعْدَاءِ الْعَبِيدِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالْعِظَةِ ، فَإِذَا اسْتَعْدَوْهُ مُنِعَ حِينَئِذٍ وَزُجِرَ .

وَإِذَا كَانَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي مَنْ يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَنْكَرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ إلَيْهِ ، فَإِنْ ادَّعَى الْمَالِكُ احْتِمَالَ الْبَهِيمَةِ لِمَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيهِ جَازَ لِلْمُحْتَسِبِ

أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ افْتَقَرَ إلَى اجْتِهَادٍ فَهُوَ عُرْفِيٌّ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ ، وَلَيْسَ بِاجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ وَالْمُحْتَسِبُ لَا يُمْنَعُ مِنْ اجْتِهَادِ الْعُرْفِ .وَإِنْ اُمْتُنِعَ مِنْ اجْتِهَادِ الشَّرْعِ .

وَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْعَبْدُ فِي امْتِنَاعِ سَيِّدِهِ مِنْ كُسْوَتِهِ وَنَفَقَتِهِ جَازَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِمَا وَيَأْخُذَهُ بِالْتِزَامِهِمَا ، وَلَوْ اسْتَعْدَاهُ مِنْ تَقْصِيرِ سَيِّدِهِ فِيهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ ، وَلَا إلْزَامَ لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْتِزَامِ الْأَصْلِ إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَلُزُومَهُ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ .

وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ السُّفُنِ مِنْ حَمْلِ مَا لَا تَسَعُهُ وَيُخَافُ مِنْهُ غَرَقُهَا ، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَسِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ ، وَإِذَا حَمَلَ فِيهَا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ حُجِزَ بَيْنَهُمْ بِحَائِلٍ .وَإِذَا اتَّسَعَتْ السُّفُنُ نُصِّبَ لِلنِّسَاءِ مَخَارِجُ لِلْبِرَازِ لِئَلَّا يَتَبَرَّجْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ .

وَإِذَا كَانَ فِي أَسْهَلِ الْأَسْوَاقِ مَنْ يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ رَاعَى الْمُحْتَسِبُ سِيرَتَهُ وَأَمَانَتَهُ ، فَإِذَا تَحَقَّقَهَا مِنْهُ أَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِنَّ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ الرِّيبَةُ وَبَانَ عَلَيْهِ الْفُجُورُ مَنَعَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِنَّ وَأَدَّبَهُ عَلَى التَّعَرُّضِ لَهُنَّ ؛ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحُمَاةَ وَوُلَاةَ الْمُعَاوِنِ أَخَصُّ بِإِنْكَارِ هَذَا وَالْمَنْعِ مِنْهُ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الزِّنَا .

وَيَنْظُرُونَ إلَى الْحِسْبَةِ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ فَيُقِرُّ مِنْهَا مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَارَّةِ وَيَمْنَعُ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْمَارَّةُ ؛ وَلَا يَقِفُ مَنْعُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَوْقُوفًا عَلَى الِاسْتِعْدَاءِ إلَيْهِ .

وَإِذَا بَنَى قَوْمٌ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ مُنِعَ مِنْهُ ، وَإِنْ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ يَأْخُذُهُمْ بِهَدْمِ مَا بَنَوْهُ وَلَوْ كَانَ الْمَبْنِيُّ مَسْجِدًا ؛ لِأَنَّ مَرَافِقَ الطُّرُقِ لِلسُّلُوكِ لَا لِلْأَبْنِيَةِ .

وَإِذَا وَضَعَ النَّاسُ الْأَمْتِعَةَ وَآلَاتِ الْأَبْنِيَةِ فِي مَسَالِكِ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ ارْتِفَاقًا لِيَنْقُلُوهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ مُكِّنُوا مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ الْمَارَّةُ ؛ وَمُنِعُوا مِنْهُ إنْ اسْتَضَرُّوا بِهِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِي إخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالْأَسْبِطَةِ وَمَجَارِي الْمِيَاهِ وَآبَارِ الْحُشُوشِ يُقِرُّ مَا لَا يَضُرُّ وَيَمْنَعُ مَا ضَرَّ وَيَجْتَهِدُ الْمُحْتَسِبُ رَأْيَهُ فِيمَا ضَرَّ ، وَمَا لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ الْعُرْفِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاجْتِهَادَيْنِ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الشَّرْعِيَّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالشَّرْعِ وَالِاجْتِهَادُ الْعُرْفِيُّ مَا رُوعِيَ فِيهِ أَصْلٌ ثَبَتَ حُكْمُهُ بِالْعُرْفِ ، وَيُوَضَّحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ مَا يَسُوغُ فِيهِ اجْتِهَادُ الْمُحْتَسِبِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ .

وَلِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ إذَا دُفِنُوا فِي مِلْكٍ أَوْ مُبَاحٍ إلَّا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ فَيَكُونُ لِمَالِكِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ دَفَنَهُ فِيهَا بِنَقْلِهِ مِنْهَا ، وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ نَقْلِهِمْ مِنْ أَرْضٍ قَدْ لَحِقَهَا سَيْلٌ أَوْ نَدًى فَجَوَّزَهُ الزُّبَيْرِيُّ وَأَبَاهُ غَيْرُهُ .

وَيَمْنَعُ مِنْ خِصَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ وَإِنْ اُسْتُحِقَّ فِيهِ قَوَدٌ أَوْ دِيَةٌ اسْتَوْفَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَنَاكُرٌ وَتَنَازُعٌ .


وَيَمْنَعُ مِنْ خِضَابِ الشَّيْبِ بِالسَّوَادِ إلَّا لِلْمُجَاهَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَيُؤَدِّبُ مَنْ يَصْبُغُ بِهِ لِلنِّسَاءِ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ ، فَيَمْنَعُ مِنْ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ وَالْمُعْطِيَ .

وَهَذَا فَصْلٌ يَطُولُ أَنْ يُبْسَطَ لِأَنَّ الْمُنْكَرَاتِ لَا يَنْحَصِرُ عَدَدُهَا فَتُسْتَوْفَى وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ شَوَاهِدِنَا دَلِيلٌ عَلَى مَا أَغْفَلْنَاهُ .

وَالْحِسْبَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ ، وَقَدْ كَانَ أَئِمَّةُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَاشِرُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ لِعُمُومِ صَلَاحِهَا وَجَزِيلِ ثَوَابِهَا ؛ وَلَكِنْ لَمَّا أَعْرَضَ عَنْهَا السُّلْطَانُ وَنَدَبَ لَهَا مَنْ هَانَ وَصَارَتْ عُرْضَةً لِلتَّكَسُّبِ وَقَبُولِ الرِّشَا لَانَ أَمْرُهَا وَهَانَ عَلَى النَّاسِ خَطَرُهَا ، وَلَيْسَ إذَا وَقَعَ الْإِخْلَالُ بِقَاعِدَةٍ سَقَطَ حُكْمُهَا ، وَقَدْ أَغْفَلَ الْفُقَهَاءُ عَنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا مَا لَمْ يَجُزْ الْإِخْلَالُ بِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ كِتَابِنَا هَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا قَدْ أَغْفَلَهُ الْفُقَهَاءُ أَوْ قَصَّرُوا فِيهِ فَذَكَرْنَا مَا أَغْفَلُوهُ وَاسْتَوْفَيْنَا مَا قَصَّرُوا فِيهِ .

وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَوْفِيقًا لِمَا تَوَخَّيْنَاهُ وَعَوْنًا عَلَى مَا نَوَيْنَاهُ بِمَنِّهِ وَمَشِيئَتِهِ ؛ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 5 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 5 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط