ويريك ايضا كيف اسره الصليبيون والقوا به فى شجن نابلس يعمل فى بناء الحصون ويتصبب عرقه من حمل الصخور وكيف افتداه من هذا الأسر تاجر حلبى وزوجه ابنته فكانت هذه الزوجة على جمالها وثروتها مجلبة احزانه ومثار آلامه وكيف رحل الى الهند ووقف هناك يتفرس فى صنم الوثنيين فى احد المعابد فرآه الحارس فقتله السعدى خشية ان يخبر عنه قومه فيقتلونه
ثم كيف حن بعد هذه الغربة الطويلة الى شيراز فعاد اليها وقد قارب السبعين وكيف كانت هذه الرحلات سماد عبقريته وماءها ومصدر خصبها ونمائها ، وهنا يريك كتابه العظيم وديوان اشعاره الجامع (( الكليات )) كيف بدأ بهذه العودة عهد الاثمار – كيف بدأ الروض المزهر ينفح بالعطر والعقل المخصب يجود بالحكمة والقلب المؤمن يفيض بالعبرة والقلم البليغ يرسل السحر الحلال – كيف بدأ بهذه العودة يدون آثاره الادبية واشعاره وأقاصيصه فأنشأ كتبه الاربعة الكلستان والبستان ودواوين اشعاره
وتدلنا قصيدته العظيمة التى وصف بها نكبة بغداد وبكى بها مجد العرب وبيت الخلافة انه قد رحل مرة اخرى الى هذه المدينة وما جاورها كواسط وعبادان حين سقطت فى ايدى التتار وشاهد طاولها وخرائبها بعد ان شاهدها جنة الدينا وتاج المدائن ويبدو لنا ان هذه الرحلة لم تكن طويلة وان هموم الشاعر واحزانه على هذا الملك الساقط لم تحبب اليه البقاء فهيا فهل يستهل هذه القصيدة بقوله :
حبست بجفنى المدامع لا تجرى فلما طغى الماء استطال على السكر
نسيم صبا بغداد بعد خرابها عنيت لو كانت ممر على قبرى
لأن هلاك النفس عند اولي النهى أحب له من عيش منقبض الصدر
ثم يقول :
أيا ناصحى بالصبر دعنى وزفرتى اموضع صبر والكبود على الجمر
وقفت ( بعبادان ) ارقب دجلة كمثل دم قان يسيل الى البحر
وفائض دمعى فى مصيبة ( واسط ) يزيد على مد البحيرة والجزر
فاين بنو العباس مفتخر الورى ذوو الخلق المرضى والغرر الزهر
غدا سمرا بين الانام حديثهم وذا سمر يدمى المدامع كالسمر
جرت عبراتى فوق خدى كآ بة فأنشأت هذا فى قضية ما يجرى
سطرت ولولا غض عينى من البكاء ترقرق دكعى حسرة فمحا سطرى
أحدث اخبارا تضيق بها صدرى وأحمل اوقارا ينوء بها ظهرى
ألا أن عصرى فيه عيش مكدر فليت عشى الموت بادر فى عصرى
وهو فى هذه القصيدة يملي مواجع قلبه وأحساساته الأليمة على مصير الخلافة والاسلام ويجزع من المنحدر السحيق الذى يهوى اليه تاريخ الجماعة الاسلامية يحضارتها وعلومها وعزتها وبمجدها السامى العظيم وتكاد هذه القصيدة تكون هى الوحيدة فى الشعر العربى التى صورت تصويرا رائعا هذه النازلة الكبرى التى نزلت بالمسلمين وذهبت بعظمة سلطانها ومجد خلافتهم
وأدب السعدى يتمتع بمميزات الادب الفارسى جميعها من العناية بالتشبيهات والاستعارات والجمال اللفظى والخيال الملىء بأبدع صور الجمال الطبيعى والغزل الصوفى والتأثر إلى حد ما بالثقافة الاسلامية ولكنه يمتاز عن ادب نظراته من الشعراء المعاصرين بانه استطاع على الرغم من ولوعه بروح التصوف والآداب الدينية وعيش الدراويش ان يقسم شعره ونثره بين الحاتين
الروحية والمادية ويمنح كلا منهما من ذلك نصيبه الكامل فقد وفق أثم توفيق الى أن يرضى الفقراء والأغنياء جميعا ، وهو هو الذى جعل ادبه أسير وأشهر من أدب غيره من شعراء فارس جميعهم .
وكتابات السعدى تدل على انه قد تأثر الى أبعد حد بأستاذه ابن الجوزى فهو يجرى فى الكلستان والبستان مجرى هذا الشيخ فى كتبه الاخبارية كأخبار الاذكياء والمجانين ونوادر الملوك وغيرها وكذلك تبعه فى كتبه الوعظيمة متابعة بينه ، وذلك يدلنا على ان خظ السعدى من علوم الجدل لم يكن وافرا وأن دراسته كانت تهذيبية عملية تتصل اتصالا وثيقا بالحياة ومشكلاتها وتعنى فى معالجها بأسلوب الارشاد والقصص الذى تسلكه الشرائع كثيرا فى الدعوة الى الاصلاح
ولم يترك السعدى غرضا من أغراض الشعر لم يقل فيه ، فقد مدح ورثى ووصف واشتاق وتغزل ولكن حظ الهجاء من شعره رغم تنادره وفكاهته وقسوة لسانه كان قليلا
أما غزله وهو اظهر هذه الاغراض فى شعره فانه وان لم يبلغ فى نظر النقاد ما بلغت غزليات حافظ التى تعتبر فى القمة من غزل الاداب العالمية وعلى الرغم من ان معانية عامة لا ابتكار فيها الا نادرا ، على الرغم من ذلك كله فقد تمتع بحظ وافر من الروحانية التى تجعله محبوبا مستطابا الى النفس وهو يسوق هذه المعانى مساقا وجدانيا يستهوى ويعدب ، أفلا تراه يبث السحر فى قوله :
قد اذعتم روائح المسك طيبا بهرتم محاسن الورد نشرا
فنسيم النعيم حيث حللتم حل بالواردين روح وبشرى
مقل علمت ببابل ... هارو ت على ان تعلم الناس سحرا
حمرات الخدود أحرقن قلبى وتبقين فى الجوانح جمرا
برزوا والربا تظل تنادى ما لهذا النسيم يحمل عطرا
ابدا لا افيق من سكر عيشى ان سقتنى من المراشف خمرا
وفى قوله من قصيدته التانية التى تشبه كل الشبه فى روحها ونسجها تاثية ابن الفارض المشهورة :
ألم ترنى فى روضة الحب كلما ذوت – مطرت سحب العيون فبلت
أما كان قتل المسلمين محرما لحى الله سمر الحي كيف استحلت
وها نفس السعدى اذكى تحية تبلغهم ريح الصبا حيث حلت
وفى قوله من قصيدة اخرى : حدائق روضات النعيم وطيبها تضيق على نفس يجور حبيبها
فيا ليت شعرى اى أرض ترحلوا وبينى وبين الحي بيد أجوبها
ذكرت ليالى الوصل واشتاق باطنى فيها حبذا تلك الليالى وطيبها
موضوع السعدى طويل اكتفى منه بهذه اللمحة واختتم القول فيه بذكر ابيات من قصيدته العاشرة التى يتحدث فيها حديث السكارى بخمر العشق الربانى :
يت صاحبي يوم الوصال منادما كن لى ليالى بعدهن سميرا
هل بت يا نفس الربيع بجنة ام جئت من بلد العراق بشيرا
عجبي بأنى لست شارب مسكر وأظل من سكر الهوى مخمورا
صرفا محا عقلى ورد قراءتى شعرا وثير مسجدى ماخورا
ظمأ بقلبى لا يزال يسيغه رشف الزلال ولو شربت بحورا
قطع المهامة واحتمال مشقة لرضى الأحبة لا اظن كثيرا
حسو المراة فى كؤوس ملامة حلو اذا كان الحبيب مدبرا
وهو فى هذه الهوى الالهى يذهب مذهب التصوف فى الانصراف بنفوسهم الى الذات الالهية يعشقونها وحدها ويقطعون من قلوبهم كل امل بلذائذ هذا الحب وآثاره كما رووا ذلك عن السيدة رابعة العدوية ، ويظهر هذا فى شعر السعدى فى قوله :
يا من به السعدى غاب عن الورى ارفق بمن اضحى اليك فقيرا
صلنى ودع ثم النعيم لاهله لا اشتهى الا اليك مصيرا
فلعل ان تبيض عينى بالبكاء ارتد يوما ألتقيك بصيرا