موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 13 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد إبريل 22, 2007 12:51 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
هذا كتاب موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين

دراسة نقدية لمنهج ابن تيمية

للدكتور / محمد عبد الفضيل القوصي

أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين - القاهرة

مقدمة الناشر

الحمد لله تعالى عن الإمكان وتنزهت صفاته عن النقصان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان وآله وأصحابه الكرام وبعد ..

فقد نجمت في القرون الماضية بين أهل الإسلام بدع يهودية من القول بالتشبيه والتجسيم والجهة والمكان في حق الله تعالى ، فقيض الله تعالى علماء أصول الدين للتصدي لهذه البدع ، فقاموا بتلك المهمة خير قيام ، فجزاهم الله خيرا؛ لما لهم من فضل جسيم في صيانة عقائد المسلمين بأدلة ناهضة مدى القرون أمام كل فرقة زائغة وطائفة ضالة .

وإنما يكون التعويل في كل على أئمته دون من سواهم ، ومن أجلة العلماء الذين لهم قدم صدق في نصرة معتقد أه السنة: صاحب الفضيلة العلامة المحقق الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي_ أستاذ العقيدة والفلسفة، ووكيل كلية أصول الدين ، بالقاهرة _ .

وقد أذن فضيلته لدار البصائر بإخراج أحد مؤلفاته النفيسة – لما علم الرسالة التي أخذتها على عاتقها في نشر العلم النافع المؤصل ، وحرصها على بث منهج أهل العلم المتوارث في الفهم والتلقي – وهو ذلك المؤلف الذي نقدمه اليوم للقارئ الكريم بعنوان: (( موقف السلف من المتشابهات بين المثبتين والمؤولين .. دراسة نقدية لمنهج ابن تيمية " .

وهذه الرسالة على وجازتها إلا أن من قرأها بإنعام أغنته عن المطولات ، وأخذت بيده إلى لب الحق في تلك المسائل المشكلات التي كثر فيها التلبيس .

ونسأل لله تعالى أن يجزي شيخنا خيراً وينفعنا به وبعلومه في الدارين … آمين !

والله من وراء القصد ..

يتبع إن شاء الله

[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين إبريل 23, 2007 1:20 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وبعد ..

فإنه لا يخفى على دارس التاريخ الإسلامي أن الله تعالى بعث خاتم رسله محمد (صلى الله عليه وسلم) في بيئة موغلة في الوثنية ، ضاربة بأطنابها في الخرافات والجهل ، وبمبعثه (صلى الله عليه وسلم) انقشع ذلك الليل الطويل واستنارت البصائر بأنوار التنزيل ، فلا يوجد دين بين من المعارف مثلما فعل الإسلام .

ومن أشرف تلك المعارف ما يتعلق منها بالله تعالى ووجوب تعظيمه وتنزيهه في أفعاله وصفاته ، قال الله تعالى {{ ليس كمثله شيءُ وهو السميع البصير }} [ سورة الشورى : 11 ] .

وعلماء المسلمين متفقون على وجوب تنزيه الله تعالى ونفي التشبيه عنه ومن أحظاهم بتلك المنزلة وأصلبهم في الوقوف على هذا الثغر، أهل السنة .. أهل الحق من الأشاعرة وأصحابهم الماتريدية .

يقول شيخ الإسلام تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي : " والفرقة الأشعرية هم المتوسطون في ذلك، وهم الغالبون من الشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة وسائر الناس.

وأما المعتزلة فكانت لهم دولة في أوائل المائة الثالثة ساعدهم بعض الخلفاء ثم انخذلوا وكفى الله شرهم .

وهاتان الطائفتان الأشعرية والمعتزلة هما المتقاومتان ، وهما فحولة المتكلمين من أهل الإسلام ، والأشعرية أعدلهما ؛ لأنها بنت أصولها على الكتاب والسنة والعقل الصحيح" (1) .
(1) السيف الصقيل 13 ، 14

ونحن في هذا البحث نحاول استجلاء موقف علماء أصول الدين من أهل السنة في قضية المتشابهة وتقريرهم لعقيدة التنزيه، سواء بطريق التأويل التفصيلي – كما هو مذهب المتأخرين – أو الإجمالي – كما هي طريقة المتقدمين – مع استعراض وجهة الفريق المقابل الموغل في الإثبات ممثلاً في أحد أئمته المقررين له المنافحين عنه ، وهو أبو العباس بن تيمية م 728 هـ .

ومناقشته في ضوء المنقول وما تقتضيه قواعد المعقول .. والله ولي التوفيق .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء إبريل 24, 2007 4:20 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
(1)

(( الصعوبة النفسية ، والمواقف المختلفة منها: (موقف السلف؛والمثبتين، والمؤولين ))

من يتأمل ملياً ما ذكره الأشاعرة بصدد قضية التشبيه والتنزيه ، يدرك أنهم كانوا يقودون العقل البشري إلى السير في مرتقى معرفي متصاعد، قد درج هذا العقل – لو ترك وشأنه – على هبوطه ، ولا جرم حينئذ أن يكون في مهمتهم قدر ليس باليسير من الجهد والمشقة ؛ لأنهم يغالبون الاعتياد ، ويعوقون الانقياد وما أشقها من مهمة.

أليس حقا ما قاله الفخر الرازي – وهو يشيد "أساس التقديس" - : "من أراد أن يشرع في الإلهيات ؛ فليستحدث لنفسه فطرة أخرى" ، فالإنسان – كما يتابع – " إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية ، وتأمل في صفاتها ، فلذلك له قانون . وإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية؛ وجب أن يستحدث له فطرة أخرى وعقلاً آخر ، بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات" (1) .

ومن هنا فقد استندت قضية التنزيه عند الأشاعرة على بحوث ضافية متأنية في نظرية المعرفة ، جاسوا فيها خلال النفس البشرية ، وخلال قواها الإدراكية المختلفة ، ووضعوا أيديهم على ما يمكننا تسميته بـ "الصعوبات النفسية" التي قد تعكر صفو التنزيه ، وتحول دون نقائه .

فإمام الحرمين – مثلاً – يقول في النظامية عن المشبهة: "إنهم يطلبون ربهم في المحسوسات ، وما يتشكل في الأوهام ، ويتقدر في مجاري الوساوس وخواطر الهواجس، وهذا حيد بالكلية عن صفاته الإلهية . فأي فرق بين هؤلاء وبين من يعبد بعض الأجرام العلوية ؟! إنه لو اجتمع الأولون والآخرون على أن يدركوا الروح – وهي خلق الله تعالى – بهذا المسلك ؛ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا ، فإنه معقول غير محسوس ، وقد قال تعالى : { ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } [ سورة الإسراء: 85 ] (2) .

ويقول إمام الحرمين – أيضاً – في موضع آخر : إن أحداً – من البشر – لو أراد أن يتصور الأرض برحبها براً وبحراً ؛ لما تمثل منها إلا قدراً صغيراً ومبلغاً يسيراً . وإن أحداً من الأحياء لو فكر في حياته ، وأراد أن يمثلها في فكره ؛ لتمثلت له الحياة شكلاً متشكلاً . وهكذا تزل الأوهام عن كثير من المخلوقات ، فكيف السبيل إلى أن ندرك بها الرب تعالى الذي لا يشبهه شيء ولا يشبهه شيئاً ؟! فمن صفة الإله تقدسه عن التصور ، فكيف يستقيم على منهاج الحق من يطلب معرفة من لا يُتصور بالتصور ؟! (3) .

ويقول الآمدي – متابعاً نفس المعنى - : " إنه - جل وتعالى – لا ينبغي أن يكون مقيساً بالأشباه والنظائر ، وما جاء التشبيه إلا من جهة الوهم ؛ بإعطاء الغائب حكم الشاهد ، والحكم على غير المحسوس بما حكم به على المحسوس . فاللبيب إذن – كما يضيف الآمدي – من ترك الوهم والخيال جانباً ولم يتخذ غير البرهان والدليل صاحباً " (4) .

وقرر الفخر الرازي نفس هذه الوجهة من النظر قائلاً : "إن الحكم بانحصار الموجودات كلها – إما في الحلول أو في المباينة بالجهة – إنما جاء بسبب الوهم والخيال ، لا بسبب العقل البتة " (5) .

والذي لا تخطئه العين في هذه النصوص – وكثير غيرها – هو أن النفس البشرية قد اعتادت أن تبسط على معارفها حكم الحس والخيال ، وكلاهما وليد المشاهدة وربيبها ، ومن ثم تضحي الموجودات بأسرها – ما شوهد نظيره ، وما لم يشاهد نظيره ، على حد تعبير الرازي (6) – منطوية تحت أحكام الحس والخيال ، ويصبح لزاماً على العقل – حينئذ – أن يقاوم تلك العادة الباطنة في أعماق الذات ، وأن يحاول الاعتلاء عليها ، والارتقاء فوقها ، إذا ابتغى معرفة الإلهيات .

ولقد أحسن الفخر الرازي صنعاً حين استهل كتابه "أساس التقديس" بمحاولة هدم تلك العقبة في مفتتح حديثه بصدد الجهة ، وكأنه أحس – كما أحسسنا – أن تلك هي العثرة التي ينبغي تذليلها قبل أي شروع في إقامة الأدلة أو تشييد البراهين ، وتمثل تلك الصعوبة – بصدد هذه القضية – في المقولة الآتية :

" إننا نعلم – علماً ضرورياً – بأن كل موجودين فلا بد أن يكون أحدهما إما حالاً في الآخر ( محايثاً له)، وإما أن يكون مبايناً عنه، مختصاً بجهة من الجهات المحيطة به" (7) .

ومهما يكن من شأن هذه الشبهة التي فندها الفخر (8) ، فهي خير تعبير عن تلك العقبة التي ألمعنا إليها ، وسنعود لهذه الشبهة في موضعها من البحث ، إن شاء الله .

في مقابل هذا النفر – ولنصطلح على تسميتهم بالمؤولين – الذين يبتغون تجاوز تلك العقبة ، انتهض فريق مقابل ، يتمثل في ابن تيمية ومن حذا حذوه – ولنصطلح على تسميتهم بالمثبتين – يتشبثون بتلك العقبة ، ويقبضون عليها بجمع اليدين ، ولسان حالهم يقول : إن هذه هي الفطرة ، ومخالفتهم مخالفة للضرورة المركوزة لدى الجميع ، فالقول – مثلاً – بأن الباري تعالى ليس خارج العلم ولا داخله معارض للفطرة الضرورية ، وأهل العقول السليمة التي لا هوى لها يقرون بأنه ما من موجودين إلا وأحدهما حال في الآخر أو مباين له ، ولم يخالف في هذه القضية من له في الأمة لسان صدق – على حد تعبير ابن تيمية – فكيف إذن يطالب ذلك النفر بمقاومة هذه الفطرة ومناهضتها ؟
إن غاية التحذلق – كما يقول ابن تيمية – أن يفهم هذا من قوله تعالى : { هل تعلم له سميا } [ سورة مريم: 65 ] وبالاضطرار يعلم كل قائل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ، ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله : { هل تعلم له سميا} فقد أبعد النجعة ، وهو إما ملغزٌ أو مدلس ، ولم يخاطبهم بلسان عربي مبين (9) .

في مقابل هؤلاء وأولئك _ بل فوق هؤلاء وأولئك – كان الموقف التفويضي عند السلف ، أولئك الذين لم يلتفتوا لتلك العقبة ، لا اعتلاء عليها وتجاوزا لها ، كما فعل المؤولون، ولا تشبثاً بها وانصياعاً لها كمافعل المثبتون . فلم يكن هم السلف أن ينظروا إلى الإنسان العارف ، بل ارتقوا في الأسباب إلى موضوع المعرفة، وهو مقام الألوهية الأقدس ، تنزه وتقدس .

هكذا نظر السلف إلى المسألة ، وعلى ها النحو فهم السلف هذه المتشابهات التي يتوهم منها التشبيه ، أمروها كما وردت ، واكتفوا من تفسيرها بمجرد تلاوتها ، فهو تعالى كما وصف نفسه ، لا يقال كيف ، والكيف عنه مرفوع .



(1) أساس التقديس :ص 13 ، 14 وما بعدهما .
(2) النظامية ، بتحقيق زاهد الكوثري: ص 15 .
(3) الشامل : ص 527 ، 528 .
(4) غاية المرام: ص 185 ، 186 .
(5) أساس التقديس : ص 6 .
(6) أساس التقديس : ص 14 ، 15 . وقارن : شرح الأصول الخمسة ، للقاضي عبد الجبار ، ص 225 ، 226 . وقارن كذلك : التوحيد للماتريدي : ص 74، حيث يقول : "إن الأمر قد يضيق على السامع بما يقدره عن المفهوم من الخلق في الوجود " .
(7) أساس التقديس : ص 4 ، 16 . وقارن: الفصل لابن حزم 2/117 .
(8) أساس التقديس : ص 61 ، وما بعدها .
(9) ابن تيمية : مجموع الفتاوي 5/19 ، والحموية : ص 97 .


يتبع إن شاء الله
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد إبريل 29, 2007 10:06 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
1- فهم يعرفون ما لهذه المتشابهات – من نصوص الكتاب والسنة – من معان يستطيع البشر فهمها ، سواء بمعرفة اللغة، أو بمعرفة العقل ، فلا يعقل أن يكونوا – وهو على مقربة من عصر النبوة – جاهلين بدلالات الألفاظ ، وسياق الآيات ، وسباقها ، ولحاقها .

2- ثم هم يعرفون أن لهذه المتشابهات معان أخرى حقيقية وراء مدارك البشر اللغوية أو العقلية ، وتلك المعاني قد استأثر الله تعالى بعلمها ، وتلك المعاني المكنونة هي حقائق تلك الظواهر ومآلها .

3- ثم هم يقطعون – في الآن نفسه – بعجز البشر عن إدراك هذه المعاني المكنونة ، ومن ثم فلا يجهدون أنفسهم في تفسيرها ، أو اكتناهها ، أصلاً وابتداءً .

إذن فيجب – في هذا الصدد – الانكفاف عن إعمال اللغة أو العقل في فهم هذه النصوص ، بل ينبغي – في نظر السلف – أن نضيف تلك المعاني الحقيقية المكنونة إليه تعالى ، إدراكاً ، كما نضيفها إليه – تعالى – اتصافاً . وهكذا يكون التنزيه في عين الإثبات ، أي أن السلف قد أثبتوا ونزهوا في آن معاً ، لقد أثبتوا في عين التنزيه ، ونزهوا في عين الإثبات.

أما المثبتون – كابن خزيمة والذهبي وابن تيمية ومدرسته – فقد أعملوا اللغة البشرية في فهم هذه الظواهر وأضافوا تلك الأفهام البشرية إليه تعالى اتصافاً ، ثم نزهوه تعالى بعدئذٍ عن الكيف والمماثلة .

وهكذا كان الإثبات لديهم يمثل خطوة ، تعقبها خطوة أخرى هي التنزيه ، فهم إذن قد أثبتوا أولاً ، ثم نزهوا بعدئذٍ .

أما المؤولون – كالجويني والرازي والآمدي وغيرهم – فقد أعملوا العقل في فهم هذه الظواهر ، وحين انتهى بهم العقل إلى التنزيه أضافوا إليه تعالى ما انتهى إليه العقل اتصافاً ، وبهذا كان مرتكز اهتمامهم الأول هو التنزيه ،بل إن بعض رجالات الحنابلة – كابن الجوزي مثلاً – قد جعل العقل هو أساس فهم هذه الظواهر ؛ لأنا – على حد تعبيره – قد عرفنا به الله تعالى ، فينبغي ألا يهمل ما ثبت به الأصل ، وهو العقل (1) .

فلنعد إلى موقف السلف التفويضي البسيط والعميق معا لنجد أن قد أوصد – منذ اللحظة الأولى – أما اللغة أو أمام العقل كل باب للولوج إلى حرم المتشابهات ، ولذلك فقد أصاب إمام الحرمين كبد الحقيقة حين قرر في لمحة خاطفة أن هؤلاء المفوضة " ممن لا يستبعد أن يكون في الأسرار لا يطلع عليها الخلائق ، والرب تعالى مستأثر بعلمها ، مع الاعتراف بأن المغيب عن الخلق لا يكون مما تمس إليه الحاجة في عقد أو قضية تكليف " (2) .

كما أن الرازي قد فصل هذا القول المجمل ، فجعل الأفعال التكليفية – وكذلك الأقوال قسمين : قسم نعرف فيه وجه الحكمة ، وقسم على غير ذلك .

والطاعة في الثاني تدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم ؛ لأن لباب التكليف – على حد تعبيره – اشتغال السر والتفات الذهن إلى ذكر الله تعالى ، وعدم الوقوف على المقصود أدعى لزيادة هذا الاشتغال والالتفات (3) .

موقف السلف – بهذا التقرير – موقف "عقل" متسق تمام الاتساق، نقول هذا برغم ما يبدو فيه من تناقض ؛ إذ كيف يكون موقف أولئك الذين "ألجموا" العقل عقلياً ؟!

نقول: إن الصفة – أية صفة – إنما هي صفة لذات ، وهي – إذن – لا تعلم إلا بمقدار ما تعلم الذات ، فإذا كانت تلك المتشابهات منطوية على صفات(4) فهي صفات لذات هي أجل من التصور وأرفع من الإدراك ، ولا مناص من أن تكون صفاتها كذلك .
إنه إذا كانت تلك المتشابهات منطوية على صفات ، فهي إذن صفات مكنونة أخفيت عن أفهامنا وراء حرم تلك المتشابهات ، وسترت عنا بها ،فأي دور يليق بالعقل ويجمل به سوى أن يوقن أنه عاجز عن التعقل ؟ وفيم يبذل الجهد فيما لا يمكن إماطة اللثام عنه ؟! وهكذا يكون العجز عن الإدراك هو ما يمكن إدراكه ؛ لأنه إدراك أن تلك الصفات المستورة بتلك المتشابهات ، المحجوبة عنا بها ، متعالية على التعقل ، قصية عن الإدراك .

وهكذا يكون السؤال عنها بدعة ، فهو بدعة في منطق العقل ، قبل أن يكون بدعة في مقتضى الشرع .
بهذا أجاب الإمام مالك (رضي الله عنه) سؤال من سأله: { الرحمن على العرش استوى } [ سورة طه : 5 ] كيف استوى ؟ فقال : "الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " (5) .

وموقف السلف – بهذا التقرير – أسلم وأعلم في آن معاً . أما أنه أسلم ؛ فلأنه لم يغامر بزورق العقل أو بزورق اللغة في محيط لا ساحل له ولا قرار ، بل أناط الأمر لمن هو أعلم به بدءاً وانتهاءً .

وأما أنه أعلم ؛ فلأنه عرف محدودية العارف ، ولا محدودية المعروف ، فآثر أن تظل المتشابهات : متشابهات ، وألا يطرح هذا الوصف بوساطة احتمالات لغوية أو عقلية ، وهذا شأن من لا يكفيه – في مثل هذا المقام الأجل – سوى اليقين ، ولا يقين حيث يكون الاحتمال .

ولله در الشافعي (رضي الله عنه) حين قال عن السلف: "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل ، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى" ولله در ابن قدامة حين قال: "إن هذا مما لا يحتاج إلى معرفته ؛ لأنه لا علم تحته ، ولا يدعو إلى الكلام فيه حاجة ضرورية أو غير ضرورية " .

(1)ابن الجوزي : دفع شبه التشبيه ، ص 28 .
(2)الشامل: ص 550 ، 551.
(3)أساس التقديس : ص 177 ، 177 . وقريب من هذا المعنى ما يقرره ابن قدامة المقدسي في (ذم التأويل ، ص 30 ) : "فلله – تبارك وتعالى – علم ، علمه العباد ، وعلم لم يعلمه العباد . فمن طلب الثاني لم يزدد منه تعالى إلا البعد " .
(4)نقول هذا مع أن تسمية ما تومئ إليه هذه الظواهر "بالصفات" محل مناقشة وجدل طويلين ، وبحسبنا أن نذكر ما قرره ابن الجوزي في هذا الصدد ، فقد عدد أغلاط الحنابلة في هذه القضية ، وجعل أول تلك الأغلاط " أنهم سموا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات ، فإنه تعالى قد قال : { ونفخت فيه من روحي} [ سورة الحجر: 29 ] فليس لله تعالى صفة تسمى روحاً ، فقد ابتدع من سمى المضاف صفة " . ( دفع شبه التشبيه: ص 29 ) . وقارن في هذا الصدد: إشارات المرام ، للبياضي : 188 .
(5)الأسماء والصفات للبيهقي : ص 408 ، والسيف الصقيل : ص 127 وما يليها . ولقد رويت هذه العبارة على أنحاء شتى ، فاللالكائي في شرح السنة يرويها هكذا "الاستواء مذكور" وقارن: الحموية: ص 190 ، كماتروى أيضاً في نفس المصدر : "الاستواء معقول" . وليس في العبارة – كما يقول البعض – إلا الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش كما نطق به القرآن الكريم ، وأما أن "الكيف مجهول" فمعناه كما في فرقان القرآن ، للشيخ العزامي: ص 22 ) أنه لا تعلم له ماهية بالمعنى المتعارف ، ولا يعقل له وجود فيما يتعلق بجناب الحق تعالى ، وليس معناه أن ثمة كيفاً لكنه لا يعلم اهـ .

يتبع إن شاء الله
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مايو 01, 2007 11:36 am 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
(2)

محاولة المثبتين جر مذهب السلف إلى مذهبهم

على أن موقف السلف التفويضي بهذا التقرير الذي أسلفناه ، لم يسلم من اعتراضات المثبتين – كابن خزيمة والذهبي وابن تيمية ومدرسته – من جهة ، ولم يسلم من اعتراضات المؤولين من جهة ثانية ، كل يحاول أن يجعله إلى رأيه أقرب.

لقد سمى أهل الإثبات ذلك الموقف التفويضي – على لسان ابن تيمية – "تجهيلاً لا تفويضاً ؛ إذ أن مآله – كما يقول ابن تيمية – أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يعرف معاني ما أنزل إليه من آيات الصفات ، وكذا جبريل ، وكذا السابقون الأولون : فقول ربيعة ومالك: "الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول" موافق لقول الباقين: "أمروها كما جاءت بلا كيف " .

أي أنهم – كما يستنتج ابن تيمية – إنما نفوا علم الكيفية ، ولم ينفوا حقية الصفة . ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه – على ما يليق بالله تعالى – لما قالوا: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول " فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً ، بل مجهولاً ، بمنزلة حروف المعجم .

وأيضاً ، فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى ، وإنما يحتاج إلى نفي الكيفية من أثبت الصفات .

ويتابع ابن تيمية حديثه قائلاً : فقولهم : أمروها كما جاءت ، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معانٍ ، فلو كانت دلالتها منتفية؛ لكان الواجب أن يقول : أمروا لفظها ، مع الاعتقاد بأن المفهوم منها غير مراد ، أو أمروا لفظها ، مع اعتقاد أن الله تعالى لا يوصف بما دلت عليه حقيقة ، ولا يقال حينئذ: "بلا كيف" إذ نفي الكيف عما ليس بثابت يعد لغواً من القول " (1) .

ويقول ابن تيمية في موضع آخر : " إن الله تعالى أمر رسوله بالبلاغ المبين ، وهو أطوع الناس لربه ، فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين . فالآيات التي ذكر الله تعالى أمر رسوله بالبلاغ المبين، وهو أطوع الناس لربه ، فلا بد أن يكون قد بلغ البلاغ المبين. فالآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله ، إنما نفى عن غيره علم تأويلها ، لا علم تفسيرها وعناها . وجواب مالك وربيعة الرأي بأن الاستواء معلوم والكيف مجهول ، معناه أن معنى الاستواء معلوم ، وكيفيته مجهولة ، فالكيف المجهول هو من تأويل الذي لا يعلمه إلا الله ، وأما ما يُعلم من الإستواء وغيره ، فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله . والله تعالى قد أمرنا بأن نتدبر القرآن ونتعقله ، ولا يكون التدبر والتعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده منه ، فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني كثيرة، ولم يبين مراده به ؛ فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه أو يُتعقل" (2) .

ثم يخلص ابن تيمية إلى انتقاد ما قد أضحى ذائعاً(3) من أن طريقة التأويل هي بعينها طريقة السلف . بمعنى أن الفريقين معا (السلف والمؤولين) قد اتفقوا على أن ظاهر هذه الآيات والأحاديث غير مراد ، لكن السلف قد سكتوا عن تأويلها ، بينما رأى المؤولون المصلحة في تأويلها بما يخرجها عن الظاهر غير المراد إلى معنى يليق به سبحانه ، وإذن يصبح الفرق – تبعاً لهذا الرأي الذائع بين السلف والمؤولين – أن السلف لا يعينون المراد ، أما المؤولون فيعينونه ، ويتمخض عن هذا أن السلف ما كانوا يثبتون الصفات الخبرية على النحو الذي خلص إليه ابن تيمية نفسه .

فهذا القول – كما يقول ابن تيمية – كذب صريح على السلف ، فليس في كلام أحدهم ما يدل على نفي الصفات الخبرية التي وردت بها تلك النصوص ، بل كثير من كلامهم يدل على تقرير جنس هذه الصفات (4) .

ونحن نقول :

أولاً : إن تسمية موقف التفويض – على النحو الذي قررناه :- " تجهيلاً " أمر غير مقبول، فلا يستطيع أحد أن يقول إن السلف كانوا يجهلون دلالات الألفاظ ومعانيها ، كيف وهم أكثر الناس توفراً على فهم الكتاب والسنة ، وأكثر الناس قرباً إلى فصاحة العرب وبلاغتهم ؟!

قصارى الأمر أن السلف – بعد فهمهم لدلالات الألفاظ كما هي في لسان البشر – ينفون وصفه تعالى بهذه المعاني البشرية أصلاً وابتداءً ، فهم ينزهون في عين الإثبات كما قلنا . وموقف كهذا ليس جهلاً بما تنطوي عليه الألفاظ من معانٍ ، بل وليس نفياً لما وراء هذه الظواهر من صفات تليق به سبحانه ، ولكن السلف كانوا أحرص الناس على التنزيه ، فلم يفسروا هذه المتشابهات بما تحتمله اللغة البشرية ، ثم ينفوا التكييف بعدئذ – كما فعل ابن خزيمة والذهبي وابن تيمية – لكنهم يعتقدون أن وراءها صفات ومعاني استأثر الله تعالى بعلم مراده منها ، فآمنوا بها ، لا على مقتضى أفهامهم اللغوية أو العقلية لها ، بل على مقتضى أفهامهم اللغوية أو العقلية لها ، بل على مقتضى مراد الله تعالى منها ، وفي هذا تمام التسليم، وكمال الانقياد (5) .

أقول مرة أخرى : إن عدم إقدام السلف على التفسير ليس جهلاً بدلالات الألفاظ ، ولا هو نفي لما يليق به سبحانه من معان وراء تلك الألفاظ ، بل هو إجلال لقدر الله تعالى من تدخل التفسير اللغوي البشري بما هو عليه من نقص وقصور ، حتى ولو قلنا بعد ذلك : "بلا كيف" ألف ألف مرة !

ولدينا من نصوص السلف – التي نقلها ابن تيمية نفسه ، وكذلك غيره – ما يؤكد عدم إقدامهم على التفسير ، وتهيبهم من إعمال اللغة في فهم ما يتصف به الباري تعالى من معانٍ حقيقية وراء تلك الظواهر ، فهذا محمد بن الحسن – صاحب أبي حنيفة – يقول: "اتفق الفقهاء كلهم، من المشرق إلى المغرب ، على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا وصف، ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وفارق الجماعة ، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ، بل أفتوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا" (6) .


وحين أحس ابن تيمية بتعارض هذا النص مع فهمه لموقف السلف سارع إلى التعقيب عليه بقوله: "قوله: (بغير تفسير) ، أي تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون الأثبات" (7) .. فانظر ماذا ترى !

وهذا أبو عبيد (8) يقرر في أصرح عبارة "أنه ما أدرك أحداً يفسرها" أي تلك الظواهر ، فإذا بابن تيمية يسارع إلى التعقيب عليه بقوله: "أي تفسير الجهمية" !

وهذا هو البيهقي(9) يقول : "أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب" وكذلك قال في العرش وسائر الصفات الخبرية " .

وها هو سفيان بن عيينة يقول : "ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه ، قراءته تفسيره ، وليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية" (10) .

وها هو إمام المدينة عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون يقول : "كلت الألسن عن تفسير صفته، كما احصرت العقول دون معرفة قدره ".(11)

وها هو وكيع بن الجراح يقول عن أحاديث الصفات: "كان إسماعيل بن خالد والثوري ومسعر يروون هذه الأحاديث ، لا يفسرون منها شيئاً (12) .

فالقوم – أعني السلف – لم يكونوا على غير فهم لمعنى الاستواء أو الفوقية أو غيرها كما هي في لغة العرب، لم تكن هذه الألفاظ عندهم بمنزلة حروف المعجم ، بل فهموا معانيها البشرية ، لكنهم تورعوا عن وصف الذات العلية بها وإسنادها إليها .

ثانياً: وبعبارة أكثر صراحة ، فالخلاف بين ابن تيمية وبيننا – بإزاء موقف السلف – لا يدور حول "فهم" السلف لهذه الألفاظ ، ولا حول دلالاتها البشرية، بل هو حول "إسناد" هذا المفهوم منها إلى الباري – تعالى – ووصفه به.

فابن تيمية يرى – كما أسلفناه في نصوصه – أن السلف قد فسروا معاني تلك الألفاظ بما تحتمله اللغة ، ثم أسندوا ما فهموه من هذا التفسير إلى الباري – تعالى – اتصافاً ، ثم نزهوه بعدئذٍ بقولهم: "بلا كيف" .

ونحن نرى أن السلف لم يفسروا هذه الألفاظ بما تحتمله اللغة من معان ، ثم يسندوا هذه المعاني إلى الذات العلية، ويعقبوا عليه بقولهم "بلا كيف" – كما فعل ابن تيمية – وإنما أسندوا إلى الذات العلية مرادها الخفي المكنون ابتداءً ، فالله أعلم بمراده والله أعلم بصفاته .

ويكأن السلف كانوا يفهمون الدلالة اللغوية العامة للإستواء ، فالاستواء معلوم بيد أنهم لا يفهمون – ولا يفسرون – الاستواء الخاص المسند إليه – تعالى لأن تلك الدلالة اللغوية قاصرة على الاتساع للمعنى الحقيقي الذي استأثر الله تعالى بعلمه ، ومن ثم فمن الأليق بمقام الألوهية السامي أن نكل علم ما يتصف به الله تعالى منها إليه سبحانه أصلاً وابتداءً (13) .

ثالثاً: وحينئذٍ فلا محل لما يقوله ابن تيمية من أنه لو كان الأمر كذلك لكان من الواجب أن يقول السلف : أمروا لفظها مع اعتقاد أن ما تفهمونه منها غير مراد . فالسلف فعلاً قد التزموا بهذا الذي شنع عليه ابن تيمية ، وبين أيدينا نصوص عديدة رواها ابن قدامة المقدسي في هذا المقام .

يقول ابن قدامة في "لمعة الاعتقاد" : "وما أشكل من تلك الآيات ، والأحاديث ، وجب إثباته "لفظاً" وترك التعرض لمعناه، ونرد علمه إلى قائله ، ونجعل عهدته على ناقله" . ثم ينقل ابن قدامة عن الإمام أحمد قوله : " هذه الأحاديث نؤمن بها ونصدق ، لا كيف ولا معنى ، ولا نصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه " (14) .

ثم يقول ابن قدامة في "ذم التأويل " : "أمروها كما جاءت ، وردوا علمها إلى قائلها ، ومعناها إلى المتكلم بها " . ثم يروي عن الشافعي قوله عن السلف: "علموا – أي السلف – أن المتكلم به صادق لا شك في صدقه فصدقوه ، ولم يعلموا "حقيقة" معناها فسكتوا عما لم يعلموه" (15) .

رابعاً: وحينئذٍ، فلا محل أيضاً لما قاله ابن تيمية من أن نفي الكيف آنئذٍ يكون لغواً من القول ، فالكثير من الروايات الواردة لعبارة السلف "أمروها كما جاءت" قد وردت فعلاً بدون إضافة "بلا كيف" كما نقل ابن تيمية نفسه (16) ، وأيضاً كما نقل الذهبي (17) ، وأيضاً كما نقل ابن قدامة (18) .

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن المقام مقام تفصيل لا إجمال ، والسلف كما ابتلوا بالتعطيل والتجهم ، فقد ابتلوا بالتشبيه والتمثيل ، ودرن التمثيل لا يغسله ماء البحر، كما يقول ابن الجوزي بحق .إذن فلا تثريب عن السلف إن هم اهتموا بنفي التمثيل على أكمل وجه وآكده .

خامسا:فالخلاف بيننا وبين ابن تيمية في فهم مذهب السلف إذن – وليغتفر القارئ هذا التكرار – يتبلور في أمرين: التفسير من زاوية، وإسناد هذا التفسير إليه تعالى اتصافاً وتحققاً من زاوية ثانية .

فنحن نقول في الزاوية الأولى – اعتماداً على نصوص السلف التي ذكر بعضها ابن تيمية نفسه :- إن السلف لم يطرقوا أصلاً باب التفسير لهذه الألفاظ الموهمة.

أما ابن تيمية فيقول إن السلف قد فسروها بما تقتضيه اللغة ، ولكنهم نفوا عنها مماثلة المخلوقين "فليست هذه المعاني البشرية المحدثة المستحيلة عليه تعالى هي السابقة إلى عقولهم " (19) .

ولنا حينئذ أن نرد على ابن تيمية ببضاعته ذاتها فنقول : لو كانت المعاني اللائقة بذاته تعالى هي السابقة إلى عقول السلف ؛ لكان قولهم "بلا كيف" لغواً من القول ؛ إذ ما الفائدة حينئذ من نفي الكيف إذا كانت المعاني المثبتة السابقة إلى عقولهم هي المعاني اللائقة بذاته تعالى ؟!

ونحن نقول في الزاوية الثانية : إن السلف لم يسندوا إليه تعالى اتصافاً وتحققاً أي تفسير ، فهم – كما يقول الأشعري في الإبانة – لا يتقدمون بين يدي الله بقول ، كيف وقد كلت الألسن عن تفسير صفته ، كما يقول ابن الماجشون بحق ؟!

أما ابن تيمية فيقول : إنهم – أعني السلف – قد أسندوا إليه تعالى هذا التفسير اللغوي اتصافاً وتحققاً ، مع نفي الكيفية .

هذان الأمران ينتجان نتيجتين لا محيص عنهما :

(أ) أن السلف – كما فهم ابن تيمية – قد حددوا المعنى المراد ، فقالوا مثلاً عن الاستواء إنه الفوقية والاستقرار ، ثم نفوا عن الكيفية والمماثلة بعدئذ . والسلف – فيما نزعم – لم يحددوا المعنى "المراد" أصلاً ، بل قالوا إن الله أعلم بمراده ، فلا حاجة بهم بعدئذ إلى نفي الكيفية ، وإن نفوها فذلك من باب التفصيل والتقرير في مجال تشتد فيه الحاجة إلى التفصيل والتقرير – كما أشرنا إلى ذلك فيما سلف - .

وليس ذلك استجهالاً ، ولا تجهيلاً ، كما شنع ابن تيمية ، ثم ما بالنا نخشى الاستجهال والتجهيل ، وجهل البشر بأسرهم بحقيقة صفاته تعالى ،بل بأمور غير الصفات – كالحروف المقطعة والروح والقدر – أمر لا محيص عنه ، كما أشار إلى ذلك أبو منصور الماتريدي بحق (20) ؟! وليس الجهل في مقام الألوهية إلا العلم نفسه ، وإلا فما معنى عبارة الإمام مالك : " العجز عن الإدراك إدراك ؟! " .

بل نقول فوق هذا : إن السلف قد "تميزوا" بعدم تحديد المعنى المراد عن المثبتين والمؤولين على حد سواء ، فهؤلاء وأولئك قد حددوا معنى ما ، أما المؤولون فقد حددوا بوساطة العقل معنى أخرجوا به اللفظ عن ظاهره ، كما قالوا مثلاً عن الاستواء : إنه الاستيلاء ، أما المثبتون وعلى رأسهم ابن تيمية فقد قالوا : أن الاستواء هو العلو ، بل العلو بمعنى خاص ، فحددوا – هم أيضاً – "معنى ما " ثم نفوا عنه الكيفية بعدئذ؛ لأنه "إن لم يكن استواؤه على العرش يتضمن أنه فوق العرش ؛ ولم يكن الاستواء معلوماً ، وجاز حينئذ ألا يكون فوق العرش شيء" (21) .

ويتابع ابن تيمية قالاً: "فإن قيل: فإذا كان إنما استوى على العرش بعد أن خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، فقبل ذلك لم يكن على العرش ، قيل: الاستواء علو خاص ، فكل مستوٍ على شيء عالٍ عليه ، وليس كل عال] على شيءٍ مستوٍ عليه " (22) .

ويقول ابن تيمية أيضاً في هذا الصدد : "إن معنى "استوى على العرش" : استقر ، وهو قول القتيبي . وقال غيره: استوى ، أي ظهر (23) .

نفس هذا التحديد قال به الذهبي كمثل ابن تيمية ، فالذهبي يرى أن السؤال عن النزول ما هو : عيٌّ ؛ لأنه إنما يكون السؤال عن كلمة غريبة في اللغة وإلا فالنزول والاستواء عبارات جلية واضحة للسامع ، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء ؛ فالصفة تابعة للموصوف ، وكيفية ذلك مجهولة لدى البشر (24) .

فقارن معي بين أقوال ابن تيمية هذه ، وبين قول بن المبارك مثلاً حين قال له قائل: "إني أكره الصفة عن صفة الرب" ، فقال له ابن المبارك : "أنا أشد الناس كراهية لذلك ولكن إذا نطق الكتاب بقول قلنا به" . وكذلك قول بعض السلف : " إن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالارتفاع والعلو فوق جميعما خلق ، ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه، فسبحان من بعد وقرب بعلمه !(25) .

أقول : قارن معي بين هذه الأقوال لتجد أن ابن تيمية قد حدد "معنى ما " ثم نفى الكيفية بعدئذ ، بينما تهيب السلف المقام الأجل ، فوقفوا ، وسكتوا ، وصمتوا، ولم يتقدموا بين يدي الله تعالى بقول (26) .

فالإفراط في النفي لدى الجهمية على النحو الذي حكاه – مثلاً – الملطي في التنبيه والرد (ص 69 ، وما بعدها) ، وعلى النحو المتوقح الذي حكى على الجهم نفسه (العلو للذهبي ص 162 ، والتسعينية ص23 ) هو الذي أنتج إفراطاً موغلاً لدى المثبتة ، لم يرضه حتى بعض المثبتة أنفسهم . فهذا هو الذهبي ينطق بالحق حين يقول عن الدارمي – الذي كتب كتابافي الرد على بشر المريسي : "وفي كتابه بحوث عجيبة مع المريسي يبالغ فيها في الاثبات ، والسكوت عنها أشبه بمنهج السلف " (ص 214 ، العلو ) .

أما ابن الجوزي فقد نقم على ثلاثة من أصحابه الحنابلة ، هم : أبو عبد الله بن حامد ، والقاضي أبو يعلى ، وابن الزاغواني ؛ لأنهم صنفوا كتباً شانوا فيها المذهب ، ونزلزا به إلى مرتبة العوام ، فحملوا الصفات على مقتضى الس . (دفع شبه التشبيه : ص 26 ) ، بل إنه يقول عن ابن حامد (ص 31 ): "ولقد اقشعر بدني من جرأته" !


(ب) والنتيجة الثانية التي لا محيص عنها ، هي أنه يوجد بين المؤولين من جهة ، وبين المثبتين من جهة أخرى ، وشائج قربى في الاتجاه العام ، قد لا تكون قائمة بين الفريقين جميعاً وبين السلف ، فلقد تبين لنا أن المؤولين والمثبتين قد حاولوا كشف الغطاء عن المعنى المراد ، الأولون فعلوا ذلك بمعونة العقل ، والآخرون فعلوا ذلك بمعونة اللغة ، أم السلف ، فلم يتجاسروا على تلك المحاولة أصلاً وابتداءً ، كما كررنا كثيراً .

ولقد أعطانا أبو منصور الماتريدي (27) تعليلاً حقيقياً بالتأمل لامتناع السلف عن التفسير . فالتفسير إنما هو جهد يضطلع به البشر بعد سماعهم تلك النصوص . وتحديدالبشر للمعنى المراد ، أو للمعنى الأليق بالمراد ، يتناول هذا المعنى كما هو في علم الله تعالى أولاً ، أي قبل سمعهم لتلك النصوص ، مع أن الله تعالى قد عرف قبل سمع هذا الكلام – أي عند الملائكة مثلاً – وربما كان ذلك على غير الوجه الذي عرفه البشر (28) .




(1) ابن تيمية : الحموية ،ص 112 وما بعدها ، وموافقة 1/6 (بهامش منهاج السنة) ، ومجموع الفتاوى 4/67 .

(2)موافقة 1/166 ، 197، والحموية: ص 90 ، 95 ، 102 .
(3)قارن مثلاً: الشامل، ص 512 .
(4)الحموية: ص 160 وما بعدها .
(5)قارن: ذم التأويل ، لابن قدامة: ص 41 .
(6)الحموية: ص 118 ، والتسعينية: ص 10 ، والعلو للذهبي : ص 59 .
(7)الحموية ، نفس الموضع: وكذلك فعل الألباني في مقدمة العلو: ص 59.
(8)الحموية : ص 119 ، وذم التأويل: ص 30 .
(9)الأسماء والصفات: ص 407، وأيضاً: الحموية: ص 146 .
(10)البيهقي، الأسماء والصفات: ص 314. وكذلك يروي ابن قدامة في كتابيه "لمعة الاعتقاد" و "ذم التأويل" من أقوال السلف التي تؤيد فهمنا هذا ما تقر به العين .
(11)الحموية : ص 113 – 114 ، والتسعينية، ص 78 ، والعلو للذهبي : ص 114 .
(12)العلو ، للذهبي : ص 150 . والألباني ههنا يسارع إلى ما سارع إليه ابن تيمية ، فيعقب على ذلك بقوله : "أي لا يتأولونها ، ولا يخرجون معناها عن ظاهرها" (نفس الصحيفة ) .
(13) قارن في ذلك: التوحيد ، للماتريدي : ص 74 .
(14) لمعة الاعتقاد: ص 3 .
(15)ذم التأويل : ص 25 .
(16)الحموية : ص 111 .
(17)العلو : ص 138 ، 139 .
(18)ذم التأويل : ص 30 .
(19)مجموع الفتاوي 7/356.
(20)التوحيد : ص 75
(21) مجموع الفتاوي 5/579.
(22)المصدر السابق 5/522 .
(23) نفس المصدر 5 / 519 .
(24)العلو : ص 231 .
(25)الحموية : ص 119 ، 121 ، والتدمرية : ص 26 .
(26) بهذا الموقف التفويضي السديد آوى السلف إلى ركن شديد ، ولم يخوضوا في معترك التراوح بين الأفعال ، وردود الأفعال . وإنما ليلوح لنا أن إفراط بعض الجبهات إيغالاً في معتقدها هو الذي أدى إلى إفراط في الجبهة المقابلة . ولعل الإمام الأعظم أبا حنيفة (رضي الله عنه ) كان يريد الإشارة إلى هذا التراوح بين الأفعال وردود الأفعال في عبارته المشهورة: "أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل ، ومقابل مشبه" ، وكذا قوله: "أفرط جهم في النفي حتى قال إن الله ليس بشيء ، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعل الله مثل خلقه .
(27) التوحيد : ص 74 . ذلك أنه إذا لزم القول بأن الله تعالى – كما يضيف أبو منصور – متعال على الأشباه ذاتاً وفعلاً ، فلا يجوز أن يفهم من إضافة العرش والاستواء – مثلاً – إليه سبحانه ما يفهم من الإضافة إلى غيره من الموجودات ؛ لأنه ثمة وجوها محتملة لهذه الألفاظ ، ولا يجوز صرف ذلك بالنسبة له سبحانه إلا على أحسن وجه وأليقه به سبحانه ، وهو مالا نعرفه .
(28)انظر مثلاً : ص 14 ، 15 موافقة بهامش منهاج السنة ، والتدمرية ص 22 .[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد مايو 06, 2007 9:52 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
[3 ]

مدى اختلاف موقف المثبتين عن موقف السلف .

ثم ماذا بعد ؟

هل نقول إن مذهب المثبتين يختلف "جوهرياً" عن مذهب السلف كما نفهمه ؟

إنا لنزعم – بعد طول الروية والتدبر – أنهما ، وإن اتفقنا في الغاية والمقصد ، فلقد اختلفا في المنهج والسبيل .

أما الاتفاق في الغاية والمقصد فيتمثل في "الاثبات" فما وجدنا لأكثر المثبتين من إثبات فهو إثبات تنزيهي ، غاية وقصداً ، ولا محل لاتهام المثبتين بالتشبيه أو التمثيل ، وهم يقولون بلسان ابن تيمية ( كل صفة من صفاته تعالى هي التي يستحقها فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحد ) لا محل لاتهامهم بالتشبيه أو التمثيل ، وهم – بلسان ابن تيمية – قد هدموا كثيراً من أسس الفكر اليوناني ؛ لأنه قال باشتراك الكلي في الخارج ، فالحقائق والذوات – عند المثبتين – متخالفة ، لا محل لاتهامهم بالتشبيه أو التمثيل وهم – بلسان ابن تيمية – قد رفضوا أن يشترك الخالق والمخلوقات ، لا في قياس تمثيل ، ولا في قياس شمول تستوي أفراده ، بل الأحق به هو قياس الأولى ، وهو أن كل كمال ثبت للمخلوق فهو في الخالق أولى ، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فهو في الخالق أولى ، وكل هذه الأفكار مثبوتة في مواضع يصعب حصرها من كتب ابن تيمية (1) .

أما الاختلاف في المنهج والسبيل ، فيتمثل – كما أسلفنا القول مراراً – في أن السلف – كما نفهمهم – لم يفسروا أصلاً ، بل أناطوا النصوص إلى منزلها مراداً ، واتصافاً ، أما المثبتون فقد أقدموا على كشف الغطاء وتحديد المعنى ، ثم أسندوا هذا المنى إليه تعالى اتصافاً ، ثم نفوا الكيفية بعدئذ .

وليس هذا الاختلاف بالأمر اليسير أو الهين ، بل هو اختلاف في منهج المعرفة أصلاً ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن هذا المنهج المعرفي للمثبتين قد لزمته لوازم كثيرة لا تلزم منهج السلف بحال من الأحوال :

1- فالتزام ابن تيمية بالمعاني التي نفهمها بمعونة اللغة من الألفاظ المتشابهة قد أدى به – في الكثير من الأحيان – إلى التزام ما قد يوج بين بعض هذه المعاني الظاهرة من تعارض .

فهو مثلاً قد فسر الاستواء بالعلو والفوقية كما رأينا ، فماذا يفعل بصدد قوله (صلى الله عليه وسلم) : "إذا قامأحدكم إلى الصلاة فإن الله قد قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه" ؟إنك لتراه يلتزم المعنيين جميعاً ، فيقول : "الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش ، وهو قبل وجه المصلي ، بل هذا الوصف ثبت للمخلوقات ، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس و القمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه ، وكانت أيضاً قبل وجهه ، ولا تشبيه للخالق بالمخلوق"(2) .

لقد اضطر ابن تيمية – كما ترى ، وهو يحاول أن يتخلص من لزوم التناقض – أن يتناقض ، فقد التزم المعاني الحسية التي يفهمها البشر ، ثم حاول التوفيق بينها ، ثم نفي التشبيه بعدئذ ، فما الذي أوقعه في ذلك كله إلا التفسير بمعونة اللة ، ثم إسناد التفسير إليه تعالى اتصافاً ؟!

إن الإنسان حين يناجي السماء يرفع وجهه إلى السماء ، فمن الممكن حالتئذ أن تكون السماء فوقه وأن تكون قبل وجهه ، ولكن الباري تعالى – في اعتقاد ابن تيمية – في جهة الفوق ، فكيف يكون قبل وجه المصلي ، والمصلي يركع فيطأطئ ، رأسه ، ويسجد فيضعها على الأرض ؟

كيف يقول ذلك ، وفيه من تنكب الفطرة ، وهو الذي قال : إن طلب الرب تعالى في جهة العلو فطرة لا يخرج عنها إلا من خرج على مقتضى العقول ؟

2- نفس الموقف وقفه ابن تيمية في مسألة العلو والاستواء : " فقبل خلق السموات والأرض – كما قرر – كان – جل وتعالى عما يقولون – (يجوز) أنه كان مستوياً على العرش ، وذلك حين كان العرش على الماء ، ثم حين خلق السموات والأرض كان عالياً عليه ولم يكن مستوياً عليه ، ثم بعد خلق السموات والأرض استوى عليه" (3) .

فما الذي أوقع ابن تيمية في هذه المضايق ، وألزمه هذه المعاني الحسية (4) إلا التفسير بمعونة اللغة ، ثم إسناد التفسير إليه تعالى اتصافا ً؟ ثم هل يكفي قولنا (بلا كيف) ألف ألف مرة كي يرفع من خيال السامع المعاني الحسية الازمة من هذه الحركات المتتالية ؟

ولو كان ابن تيمية قد هاجم الفطرة البسيطة الساذجة ، وحكم بغير ما تقتضيه ، لكان لنا أن نقول للسامع : إن فهمك الحسي والخيالي الفطري هو الذي أوحى إليك بهذه المعني الحسية ، ولكن ابن تيمية قد أوصد هذا الطريق ، فشيد على الفطرة البسيطة أحكاماً وقضايا هائلة ، كما اعتمد عليها في الهجوم على المؤولين كما سنرى فيما بعد ، فلا نستطيع أن نقول ههنا بما يناقض منطقه العام ، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، كما لا يفتأ ابن تيمية يقرر دائما .

3- نفس الموقف كذلك وقفه ابن تيمية في مسألة العلو والنزول ، فقد أثبت لله جل وتعالى – كما قد رأينا – جهة الفوق ، فماذا يفعل إزاء الحديث الصحيح "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة … " إلى آخر الحديث ؟

ولكي نفهم موقف ابن تيمية في هذه النقطة ينبغي أولاً أن نفهم موقف ابن منده ، وهو أحد رجالات الحنابلة ، ذلك الموقف الذي رفضه ابن تيمية رفضاً صريحاً ، وانطلق من رفضه هذا إلى بناء موقفه الخاص في المسألة .

قال ابن منده – كما روى ابن تيمية نفسه :- "إنه – جل وتعالى عما يقول الظالمون – ينزل بذاته ، وهو حين ينزل يخلو منه العرش ، وحجة ابن منده أن القول بأنه ينزل ، والقول في نفس الوقت بأنه لا يخلو منه العرش إنما هو "كيفية تهدم النزول" (5) .

لم يرض ابن تيمية عن هذا القول فانتقده انتقاداً عجيباً ، فقال : "كلام ابن منده من جنس كلام طائفة تظن أنه لا يمكن إلا أحد القولين : قول من يقول : إنه ينزل نزولاً يخلو منه العرش ، وقول من يقول : ما ثم نزول أصلاً ، وهاتان الطائفتان ليس عندهما نزول إلا النزول الذي توصف به أجساد العباد، "والذي يقتضي تفريغ مكان واشتغال مكان آخر" (6) .

ثم يقول في موضع آخر " اشتبه هذا الأمر – أي أمر العلو والنزول – على كثير من الناس؛ لأنهم صاروا يظنون أن ما وصف الله عز وجل به من جنس ما توصف به أجسامهم ، فيرون ذلك يستلزم الجمع بين الضدين ، فإن كونه فوق العرش مع نزوله يمتنع في مثل أجسامهم" .

هكذا انتقد ابن تيمية ابن منده ، متهماً إياه بأنه فهم العلو والنزول فهماً حسياً ، والحق أن ابن منده كان منطقياً مع نفسه ، متسقاً مع المنهج اللغوي في التفسير اتساقاً تاماً ، فطرد هذا التفسير حتى نهايته ، وما كان لابن تيمية أن يعترض عليه ، فإنه لم يفعل – منهجياً – إلا ما فعله ابن تيمية نفسه .

ولو كنت مكان ابن منده لرددت اتهام ابن تيمية بقولي: (بلا كيف) ، وما كان اين تيمية ليستطيع على ذلك رداً، ألم يقل: إن حكم الأمثال فيما لا يجوز وفيما لا يجوز واحد ؟

لو كنت مكان ابن منده لرددت على اتهام ابن تيمية بما يقوله ابن تيمية نفسه في الموضع نفسه (7) ، حين قال: " فمن نفى النزول والاستواء أو الرضا والغضب – يقصد الأشاعرة – فرارا بزعمه من التشبيه والتركيب والتجسيم فإنه يلزمه فيما أثبته نظير ما ألزمه لغيره فيما نفاه وأثبته المثبت ، فكل ما يستدل به على نفي النزول والاستواء والرضا والغضب يمكن لمنازعه أن يستدل بنظيره على نفي الإرادة والسمع والبصر والقدرة والعلم ، ومثال ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء ونحو ذلك من صفات الأجسام فإنه لا يعقل نزول واستواء إلا لجسم مركب ، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم ، فيلزم تنزيهه عن الملزوم، "فإنه يقال له : وكذلك الإرادة والسمع والبصر والعلم والقدرة من صفات الأجسام ، فإنا كما لا نعقل ما ينزل ويستوي ويغضب ويرضى إلا جسماً لم نعقل ما يسمع ويبصر ويريد ويعلم ويقدر إلا جسماً ، فإن قال: سمعه ليس كسمعنا ، وبصره ليس كبصرنا ، وكذا إرادته وعلمه وقدرته ، قلنا له: وكذلك نزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا ، ورضاه وغضبه ليس كرضانا وغضبنا" .

لو كنت مكان ابن منده لقلت: إنه ينزل ويخلو العرش منه ، فلو قال ابن تيمية : إنه لا يعقل نزول وخلو إلا في الأجسام لقلت له : وكذلك الاستواء ، وكذلك النزول نفسه ، وكذلك الغضب والرضا ، فلو قلت في هذه : (بلا كيف) فسأقول في الأولى (بلا كيف) أيضاً ، ففيم تفريقك بين المتماثلين ، وما التفرقة بينهما إلا محض تحكم ؟

ثم ما هو الحل الذي أدلى به ابن تيمية بعدئذ ؟

لقد قرر أنه تعالى فوق العرش ومع ذلك فلا يخلو العرش منه حين ينزل ، فإن نزوله ليس كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم ، بل الله تعالى منزه عن ذلك ، وليس ذلك يستلزم الجمع بين الضدين (8) .

فهاأنت ترى ابن تيمية أمام أحد أمرين ، فإما أن يقول : إنه تعالى فوق العرش ، وينزل نزولاً حقيقياً ، وهذا معناه أنه فوق العرش وليس فوق العرش، والجمع بين النقيضين ممتنع في بداهة العقول ، قد استخدم ابن تيمية نفسه قانون التناقض للرد على القائلين بأنه تعالى لا خارج العالم ولا داخله ، فالعلم بهذا القانون – كما يقول – علم مطلق لا يستثنى منه موجود (9) "ولا ينفع ابن تيمية ههنا ادعاؤه أن ذلك لا يستلزم الجمع بين الضدين ، فالأمر أوضح من أن يوضح .
وإما أن يؤول النزول بصرف اللفظ عن ظاهره ، وهو التأويل الذي لا يفتأ يهاجمه في قسوة وعنف ، وبرغم ذلك فهذا هو ما نراه يميل إليه في قوله: "وأما النزول الذي لا يكون من جنس نزول أجسام العباد فهذا لا يمتنع أن يقع في وقت واحد لخلق كثير ، ويكون قدره لبعض الناس أكثر ، بل لا يمتنع أن يقرب إلى خلق من عباده دون بعض ، فيقرب من هذا الذي دعاه دون هذا الذي لم يدعه" (10) .

لكن ابن تيمية سرعان ما يغلب عليه منهجية الأصيل الذي لام ابن منده على الالتزام به ، فتراه يقدر الليل الكوني أثلاثاً ، ويقرر أن النزول الإلهي لكل قوم هو بمقدار ثلث ليلهم ، فيختلف مقداره بمقدار الليل شمالاً وجنوباً ، وشرقاً وغرباً ، مستعيناًَ في ذلك بمعارف عصره الجغرافية (11) .

ففيم إذن كان ملام ابن منده ؟!

في مقابل هذا الاضطراب انظر معي إلى السلف كيف يقولون في القضية ذاتها ما يثلج الصدر ويشرح النفس، فيقول أبو عثمان النيسابوري مثلاً: "ويثبت أصحاب الحديث نزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بصفات المخلوقين ، ولا تمثيل ولا تكييف ، بل يثبتون ما أثبته رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وينتهون فيه إليه ، ويمرون الخبر الصحيح على ظاهره ، ويكلون عمله إليه سبحانه" . ويقول حرب بن إسماعيل : "لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى ونزوله كما يخوض الخوض في فعل المخلوقين " (12) .

وينقل الذهبي عن أهل السنة قاطبة قولهم : "إن كيفية الاستواء لانعقلها بل نجهلها ، وإن استواءه تعالى معلوم من كتابه، وكما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، ولا نخوض في لوازم ذلك إثباتاً ونفياً ، بل نسكت ونقف ما وقف السلف " (13) .
فانظر ماذا ترى في قول السلف، إنه انكفاف (14) عن التفسير البشري بما يلزمه من خبط وخلط واضطراب رأينا طرفاً منه ، وإسناد للعلم بالصفة إلى الموصوف بها ، وسكينة في الصدر ، وبرد على القلب ، وطمأنينة في العقل .


الهوامش

(1)المرجع السابق .
(2)حموية : ص 158 ، 159
(3)مجموع الفتاوى 5 /523 .
(4)قارن الفتاوى الحديثية لابن حجر ، ص 203 .
(5)شرح حديث النزول : مجموع الفتاوى 5/308 - 389 .
(6) مجموع الفتاوى 5 / 395 .
(7)شرح حديث النزول : مجموع الفتاوى 5/351 – 352 .
(8)شرح حديث النزول: مجموع الفتاوى 5/415 ، 460 . وكذلك العلو للذهبي : ص 192 – 193 .
(9)الحموية : ص 27 .
(10)شرح حديث النزول : مجموع الفتاوى 5/478 .
(11)المصدر السابق 5/132، 243 .
(12)مجموع الفتاوى 4/391 .
(13)الذهبي : العلو : ص 142 .
(14)وليس أدل على هذا الانكفاف من عدم تجويزهم تبديل لفظ من ألفاظ المتشابه بلفظ آخر غير متشابه ، سواء كان بالعربية أو بغيرها ، وكذلك احترازهم عن التصرف ، ومنعهم الجمع بين متفرقها، أو التفريق بين مجتمعها [ أساس التقديس ص 187 وما يليها ، وإلجام العوام للغزالي ص 14 بهامش الإنسان الكامل ] ومن هذا المنطلق قام الغزالي : [ إلجام ص 30 وما بعدها ] :ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتاباً في جمع هذه الأخبار خاصة ، ورسم في كل عضو منها باباً ،فقال : باب في إثبات الرأس ، وباب في اليد ، إلى غير ذلك وهذه كلمات متفرقة صدرت عن رسول الله (ص) في أوقات متفرقة متباعدة ، اعتماداً على قرائن مختلفة تفهم عند السامعين معاني صحيحة ، فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه ، فالكلمة الواحدة قد يتطرق إليها الاحتمال ، فإذا اتصل بها ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متوالياً فيضعف الاحتمال . اهـ .
ومن الواضح أن الغزالي يشير إلى صنيع ابن خزيمة في كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ، وكلام ابن الجوزي يومئ إلى إنكاره هو أيضاً لصنيع ابن خزيمة هذا (دفع شبه التشبيه ص 59 ) .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس يونيو 28, 2007 4:54 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[center][table=width:100%;background-color:transparent;background-image:url(backgrounds/16.gif);border:10 inset gray;][cell=filter:;][I][align=justify]
[4]

رفض ابن تيمية للقول بأن مذهب السلف هو بعينه مذهب المؤولين ، ومناقشته

ثم نأتي إلى مناقشة النقطة الأخيرة في محاولة ابن تيمية ، وهي رفضه لذلك الرأي الذائع الذي أشرنا إليه قريباً، وهو أن طريقة السلف هي بعينها طريقة المؤولين، بناء على أن الكل قد صرف اللفظ عن الظاهر ، إلا أن السلف لم يحددوا المعنى المراد ، بينما حدده المؤولون .

إننا لنزعم بداءة أن الجميع – سلفاً ومثبتين ومؤولين – متفقون في المقاصد والغايات ، إن اختلفت بينهم المناهج والسبل .

ولدينا في المقاصد والغايات مسألتان وإذا حققتا وتبينت نراميهما انكشف وجه الحق في هذه القضية :
أولهما : مسألة ظاهر اللفظ ، بمعنى ما يظهر من اللفظ من معنى بشري خالص ينطوي على مشابهة أو مماثلة بين الخالق والخلق ، وبعبارة أكثر تحديداً : اليد مثلاً بمعنى الجارحة ، أو الاستواء الحسي بكل لوازمه وملزوماته ، فمن ذا الذي جرؤ من الفئات الثلاث على القول بأن هذا الظاهر هو المراد ؟

لا السلف قالوا ذلك ؛ لأنهم لم يفتحوا باب التفسير أصلاً ، لا بالمعنى البشري دون تعقيب بقولهم : (بلا كيف) كما فعل حشوية المشبهة ، ولا بالمعنى البشري بمعونة اللغة مع التعقيب بقولهم (بلا كيف) كما فعل أهل الإثبات كابن تيمية ومدرسته ، ولا بالمعنى البشري بمعنى التأويل العقلي كما فعل أهل التأويل .

ولا المؤولون قالوا ذلك ؛ لأنهم صرفوا اللفظ عن ظاهره الموهم إلى القدرة أو النعمة ، أو الإستيلاء ، أو غيرها من معان تليق بذاته تعالى .

ولا المثبتون قالوا بذلك ، لأنهم يقررون أن القول في الذات كالقول في الصفات ، فكما أن ذاته تعالى لا تماثل سائر الذوات فكذلك صفاته ، حتى وإن نازع ابن تيمية في تسمية هذا المعنى الموهم "ظاهراً ؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح كما يقال .

يقول ابن تيمية : "لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك ، فإن كان المقصود به أن ظاهر تلك الآيات والأحاديث التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن إطلاق الظاهر على هذا المعنى فيه غلط ، لأنه يتضمن جعل المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ ، حتى يجعلونه محتاجاً إلى التأويل" [1] .
ويتابع ابن تيمية نفس المعنى في موضع آخر فيقول: "اللهم إلا إذا كان هذا المعنى صار يظهر لبعض الناس ، فيكون إطلاق الظاهر صواباً بهذا الاعتبار ، فإن الظهور والبطون من الأمور النسبية" [2].

فالظاهر بالمدلول البشري الخالص إذن غير مراد عند الجميع على سواء ، وبهذا نستطيع أن نقرر اتفاق الجميع على "مقصد" التنزيه .

ثانيهما : مسألة إثبات صفات وراء هذه الألفاظ :

من ذا الذي لم يقل من الفئات الثلاث إن وراء تلك الألفاظ معان تليق بذاته تعالى [3] ؟ .

لا السلف نفوا ذلك ، وإن كانوا يقولون بأنها مما استأثر الله تعالى بعلمه .

ولا المؤولون نفوا ذلك لأنهم يرجعون تلك الألفاظ إلى صفات تليق به تعالى ، كالقدرة وغيرها .

ولا المثبتون نفوا ذلك . لأنهم يقولون – مثلاً – بالاستواء صفة تعني الفوقية والعلو ، وإن كانت "بلا كيف" .

فنفي الصفات مرفوض عند الجميع على سواء ، وبهذا نستطيع أن نقرر اتفاق الجميع على " مقصد " الإثبات .

فعند المقاصد اتفق الجميع ، ولكن عند المناهج اختلفوا ،ولا يزالون مختلفين .

أما السلف فقد انكفوا عن التفسير ، فلم يتأولوا ،باللغة ، أو بالعقل ، بل أسندوا ما ورد إلى الله تعالى علماً واتصافاً .

أما المثبتون فقد أعلموا – كما قلنا مراراً – منهج اللغة في تفسير هذه الظواهر ، ثم عقبوا بالبلكفة .

وأما المؤولون فقد أعملوا – كما قلنا أيضاً – منهج العقل التأويلي في تفسير هذه الظواهر ، وإرجاعها إلى ما يليق بذاته المقدسة من صفات .

ولله در ابن قدامة حين انتقد المنهج العقلي والمنهج اللغوي جميعاً فقال :

"أما العقل: لأغنما يعرف صفة ما رآه أو رأى نظيره ، والله تعالى لا تدركه الأبصار ، ولا نظير له ولا شبيه ، لا تعلم صفاته ولا أسماؤه إلا بالتوقيف ، والتوقيف إنما ورد بأسماء الصفات دون كيفيتها أو تفسيرها ، فيجب الاقتصار على ما ورد به السمع منهما لعدم إمكان العلم بما سواه .

أما اللغة : فإن اللفظ إذا احتمل معاني عدة فحمله على واحد منها تخرص وقول على الله تعالى بغير علم ؛ لأن تعيين أحد المحتملات – إذا لم يكن هناك توقيف – يحتاج إلى حصر المحتملات كلها ، ولا يحصل ذلك إلا بمعرفة جميع ما يستعمل في اللفظ حقيقة أو مجازاً ، ثم يبطل جميعها إلا واحداً ، وهذا يحتاج إلى الإحاطة باللغات كلها ، ومعرفة لسان العرب جميعه ، ولا سبيل إليه ، فكيف بمن لا علم له بهذا ، ولعله لا يعرف سوى محملين أو ثلاثة بطريق التقليد ، ثم معرفة نفي المحتملات متوقف على ورود التوقيف به ، فإن صفات الله تعالى لا تثبت ولا تنفى إلا بالتوقيف، فإذا تعذر هذا بطل تعيين محمل منها على وجه الصحة ، ووجب الإيمان بها بالمعنى الذي أراده المتكلم بها " [4] .

إذن فلقد نأى ابن رشد كثيراً عن جادة الحق حين قرر أن أهل الشريعة – من أول الأمر – يثبتون كونه تعالى في جهة حتى نفتها المعتزلة ، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة .

وكان ابن رشد أكثر نأيا عن الحق حين قرر أن ظواهر الشرع كلها تقتضي إثبات الجهة ، وأن هذه الظواهر إذا سلط عليها التأويل عاد الشرع كله مؤولاً ، وإن قيل : إنها من المتشابهات ، عاد الشرع كله متشابها [5] .

ومن هذا المنطلق خلص ابن رشد إلى مسألة الجهة فقرر على نحو قريب مما سيقرره ابن تيمية فيما بعد ، فالجهة عنده غير المكان ؛ لأن الجهة إما السطوح المحيطة بالجسم نفسه ، وإما سطوح جسم آخر محيط بالجسم الأول ، فأما السطوح المحيطة بالجسم نفسه فليست مكاناً للجسم نفسه أصلاً ، لكن سطوح الجسم المحيط بذلك الجسم الأول تعتبر مكاناً له .

وبناء على هذا فإن سطوح الفلك الخارجي للعالم – تلك التي لا تحيط بها سطوح أخرى – ليست مكاناً لشيء البتة ، أي أن "سطح آخر أجسام العالم ليست مكاناً أصلاً ، فإذا وجد موجود خارج تلك السطوح فلا يمكن أن يكون جسماً ، ولا يمكن أن يكون في مكان" [6] .

وخلاصة ما انتهى إليه ابن رشد أن الجهة التي يدعى إثباتها للباري تعالى ليست أمر وجودياً، حتى يظن أنها أمر مخلوق محيط بالخالق ، بل هي أمر عدمي ، وهو رأي لا يكاد يختلف عن رأي ابن تيمية الذي سيقول في نفس المعنى: "معلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه ، فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلاً في المخلوق ، أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات ، وكذلك يقال لمن قال : (الله في جهة): أتريد بذلك أن الله فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ؟ فإن أردت الأول فهو حق ، وإن أردت الثاني فهو باطل " [7] .

وابن رشد وابن تيمية متفقان في أمر آخر ، وهو أن إثبات العلو للباري تعالى واجب بالعقل الصريح ، وبالفطرة الإنسانية الصحيحة بالإضافة إلى نصوص الشرع الدالة عليه [8] .

وابن تيمية وابن رشد متفقان قبل ذلك كله فيما هو أجل خطراً ، وأعني بالمنهج المتمثل في محاولة كشف الغطاء عن المتشابهات التي ورد بها الشرع بإعمال اللغة البشرية ، ثم التعقيب على ذلك بالقول الذائع (بلا كيف) ، واللوازم التي ذكرناها بصدد موقف ابن تيمية تلزم ابن رشد هو الآخر ، مع اختلاف في التفاصيل ، نمسك عن تناولها خشية الاستطراد والإطالة .

الهوامش

[1]التدمرية: ص 23 .
[2]الحموية: ص 159 .
[3]قارن في هذا الصدد ما سبق أن نقلناه في هامش سابق عن ابن الجوزي من إنكاره أن تكون تلك المعاني : صفات. [ دفع شبه التشبيه ص 29 ] وقارن أيضاً شرح المواقف 8 / 111 بشأن موقف الأشعري والباقلاني ، وكذلك الشيخ العزامي : فرقان القرآن ، ص108 ، وما بعدها .
[4]ذم التأويل : ص 40 – 14 .
[5]مناهج الأدلة: ص 176 .
[6]المصدر السابق : ص 177 – 178 .
[7]التدمرية: ص 28 ، ومجموع الفتاوى 5/262 ، 6/39 .
[8]مناهج الأدلة: ص 178 ، والمجموع 5/152 .
[/align][/B]
[/cell][/table][/center]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد إبريل 06, 2008 7:09 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=justify][5]

محاولة المؤولين جر مذهب السلف إلى مذهبهم .

وإذا كان المثبتون قد حاولوا – كما رأينا – تفسير مذهب السلف على النحو الذي يلتقي مع ما يعتقدون ، فإن فريق المؤولين قد حاول المحاولة ذاتها .

فهذا إمام الحرمين يقول : "إن بعض من يعزى إلى علم التوحيد ، ويتعالى بزعمه عن رذيلة التقليد قد صار إلى أن القديم مستو على عرشه ، ويأبى من تأويل الاستواء وحمله على بعض المحامل المشهورة .

وسبيل الكلام مع هؤلاء أن نقول لهم : هل تعتقدون اختصاص القديم بجهة من الجهات أم تأبون ذلك ؟

فإن صرحوا بإثبات الجهة قاطعناهم وألحقناهم بمثبتي الجهة من المشبهة ، وإن لم يثبتوها ولم ينفوها كانوا متشككين حيث لا يسوغ الشك ؛ إذ إثبات الجهة ونفيها أمران تحتوي عليهما قسمة بديهية ، ولا رتبة بين الإثبات والنفي ، والمتشكك عندنا في نفي الجهة وإثباتها بمثابة المصمم على إثبات الجهة ، فإن كل معتقد يجب العلم به ، فالمتشكك فيه بمثابة الجهل به .

وإن صرح هؤلاء بنفي الجهات فقد وافقونا في المذهب ، وقالوا بأعظم ركني التأويل ، فإن الذي يحاذره منكرو التأويل إزالة الظواهر ، والذي نفى الجهة قد أزال ظاهر الاستواء ، ولكنه لم يعين للفظ الاستواء بعد تعريته عن ظاهره محملاً ، والمتأولون عينوا له محملاً ، وإذا آل الأمر إلى ذلك فهو سهل المرام" (1) .

ويقول في موضع آخر: "والمعترف بزوال الظواهر مترق عن الوقفة ، فإنا نعلم أن الاستواء إذا لم يكن تمكنا بالذات ، وتخصصا ببعض الجهات فلابد أن يرجع إلى معنى القهر ، أو معنى علو العظمة ، وإما إلى فعل من أفعاله عز وجل ، ولا مزيد على هذه الأقسام" (2) .

ويقول إمام الحرمين في موضع آخر : "إنه إذا أزيل الظاهر قطعاً فلابد بعده من حمل الآية على محمل مستقيم في العقول ، مستقر في موجب الشرع ، والإعراض من التأويل حذراً من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام ، واستزلال العوام ، وتطرق الشبهات إلى أصول الدين ، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون" (3) .

إذن فإمام الحرمين لا يرتضي السكوت عن تحديد المعنى – بعد إزالة الظاهر الموهم – ويرى أن ذلك وقوف حيث لا ينبغي الوقوف ؛ إذ "لابد" لمن يزيل الظاهر أن يتأول ، لا مهرب من ذلك ولا مفر ، بل ينسب الفخر الرازي (4) هذا القول بوجوب التأويل إلى "جمهور المتكلمين" .

ألا ترى في هذا ما رأيناه من كونه محاولة لجر مذهب السلف إلى "التأويل" تقترب من محاولة ابن تيمية جر مذهب السلف إلى الإثبات؟ وكل يبتغي وصلاً بليلى !

ثم ألا ترى في "الوقفة" عن تحديد المعنى ما نراه من أنه الإدراك في عين العجز عن الإدراك ، وأنه الخطوة نعم الخطوة ؟

ألا ترى فيه عين ما عبر عنه الإمام الشافعي : "نؤمن بما جاء من الله تعالى ، وبما جاء من رسوله على مراد رسوله " (5) ؟

مهما يكن من أمر فإن إمام الحرمين – متحدثاً بلسان المؤولين – يحاول أن يخرج السلف
من "الوقفة" إلى التحديد العقلي، تمامً مثلما حاول ابن تيمية متحدثاً بلسان المثبتين أن يخرج السلف مما دعاه "تجهيلاً" إلى التحديد اللغوي ، ولو أنك قارنت بين حجج الفخر الرازي وحجج ابن تيمية على هذه المحاولة لأصابتك الدهشة مما انتهيت إليه من أن بين المؤولين والمثبتين من الوشائج في المنهج ما لا يوجد بينهما جميعاً وبين السلف .

فالفخر الرازي – في أساس التقديس (6) - يستدل على أنه لا يجوز أن يحصل في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لنا إلى العلم به مستنداً إلى قوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوبٍ أقفالها } [ سورة محمد: 24 ]

وقوله سبحانه: { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } [ سورة الشـعراء : 192 : 195 ]

وقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ سورة النسـاء: 83 ]

وقوله تعالى : { هذا بلغ للناس ولينذروا به } [ سورة إبراهيم : 52 ] .

وابن تيمية يستدل على نفس القضية بنفس الآيات تقريباً (7) .

والفخر يستدل – في نفس الموضع – على لسان المثبتين على القضية عينها براهين عقلية ، منها : أنه لو ورد في القرآن الكريم شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت تلك المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي بالزنجية مثلاً ، وهو غير جائز (8) .

ابن تيمية يستدل بنفي الحجة تقريباً على نفس القضية قائلاً : "إنه لو لم يكن لفظ الاستواء مثلاً معلوم المعنى لكان في منزلة حروف المعجم " (9) .

والفخر يستدل على نفس القضية بأن المقصود من الكلام الإفهام ، ولو لم يكن مفهوماً لكان عبثاً ، وبأن التحدي وقع بالقرآن كله ، وما لم يكن معلوماً لم يجز التحدي به (10) .

وابن تيمية يستدل بنفس الحجة في مواضع كثيرة مثبوتة في كتبه .

على أن وشائج القربى بين المنهجين – منهج المؤولين ومنهج المثبتين – لا تقف عند هذا الحد ، بل تتعداه إلى ما هو أكثر خطراً ، فلقد بحث ابن تيمية في عدة مواضع من كتبه نقطة جد هامة في قضية الصفات الخبرية ، تتعلق بتحديد المدى الذي يمكن أن ينتهي إليه الإثبات .

فمثلاً لماذا لا نثبت لله تعالى أكلا ، وشرباً ، وحزناً ، وبكاءً ، إلى غير ذلك مما لم يثبته الشرع ، مع التعقيب على ذلك بقولنا : (بلا كيف) فنقول: إن أكله – جل وتعالى وتقدس – لا كأكلنا ، وشربه – عز وتنزه – لا كشربنا ، وأمثال ذلك مما لم يثبته الشرع ، قياساً على أن الشرع – في فهم ابن تيمية – قد أثبت له نزولاً لا كنزولنا ، وفرحاً وضحكاً ، لا كفرحنا ولا كضحكنا ، وبعبارة ابن تيمية : "ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته ، إذا نفيت التشبيه ، وجعلت مجرد التشبيه كافياً في الإثبات" ؟

من حقك أن تتوقع – كما توقعت – أن يعول ابن تيمية على السمع في الإثبات والنفي، فيقول : إننا نثبت له – جل وتعالى – ما أثبته السمع ، وننفي ما نفاه ، ونسكت عما سكت عنه .

لكن المنهج اللغوي في تحديد المعنى قد ساق ابن تيمية إلى مساق آخر فشرع – ويا للدهشة – في انتقاد الاعتماد على السمع في هذه المسألة من جهتين ، فالسمع دليل عما يخبر عنه ، ولا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفسه ، فما المانع من أن لا يخبر السمع بهذه الأمور : "الأكل والشرب ، والحزن والبكاء ، وأمثالها" وتكون هي ثابتة في نفسها ؟ هذا من جهة .

ومن جهة ثانية ، فإن هذه الأمور التي لم يخبر السمع عنها مماثلة لما أخبر عنه: "كالفرح ، والغضب ، والنزول" وما دامتا متماثلتين فلا يجوز إثبات بعضها ونفي البعض الآخر ، وحكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد .

هكذا أبطل ابن تيمية التعويل على السمع في هذه المسألة ، فإلام لجأ ؟!

إنه – ويا للدهشة أيضاً – قد لجأ إلى العقل ، فقال : "إن كل ما ينافي صفات الكمال الثابتة له تعالى يجب نفيه " وبهذا المعيار الذي التزمه خلص إلى أن : "ما يعتقده الناس نقصاً فيجب تنزيهه عنه تعالى ، والاحتياج إلى الأكل والشرب يعد نقصاً ، بينما الأكمل هو الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب"(11) .

وما دامت القضية قد دخلت حيز الكمال والنقص في معيار العقل ، فلنا أن نرد على ابن تيمية ببضاعته ذاتها فنقول : بل عدم الأكل والشرب هو النقص ؛ لأنه صفات الجمادات ، وإذن فمن يأكل ويشرب – بعيارنا البشري – أكمل ممن لا يأكل ولا يشرب ، وإبراهيم عليه السلام لما رأى أيدي الملائكة لا تصل إلى الطعام نكرهم وأوجس منهم خيفة ، بل إن حسن الصورة وملاحة الوجه هي – بمعيارنا البشري – كمالات – وأضدادها نقائض (12) .

وليس لابن تيمية آنئذ أن يستدل على نفيها بالسمع ، فهو قد أوصد باب التعويل عليه في هذا المقام .

هذه هي نهاية الاعتماد على المنهج اللغوي البشري عند المثبتين ، وستأخذ الدهشة بمجامعك حين ترى أن شيئاً كهذا كان نهاية الاعتماد على المنهج العقلي عند المؤولين .
فالغزالي - في الاقتصاد (13) - يعتمد على المعيار العقلي في الكمال والنقص ، ويخلص إلى أن اللذة والألم نقص ، ومن ثم فإن العقل يقضي بتنزيه الباري عنهما ، وما لزم ابن تيمية يلزمه في الجملة .

والآمدي(14) يعتمد على نفس المعيار العقلي في الكمال والنقص في مسألة إثبات الشم والذوق واللمس له تعالى قائلاً : "إن هذه إدراكات تماثل السمع والبصر ، فيجب إثباتها" . ثم يورد رأيين عند "أهل الحق" فهناك من فرق بين كمال وكمال ، ففرق بين السمع والبصر من جهة ، وبين الذوق والشم واللمس من جهة ثانية ؛ بناء على أنهم رأوا في هذه الأخيرة ضروبا من الملامسات والاتصالات يتنزه الباري عنها ، وهناك من سوى بين جميع هذه الكمالات ، ورأيهم "أغوص وأعمق" .

وما لزم ابن تيمية يلزم الآمدي في الجملة أيضاُ .

بل إن إمام الحرمين – وقد اعتمد لا على قاعدة الكمال والنقص بل على قياس الغائب على الشاهد – أقول : إن إمام الحرمين بعد أن أثبت له تعالى إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات علل لعدم تسميته تعالى : ذائقاً ، شاماً ، لامساً ، لا بأن الشرع لم يرد بذلك ، بل بأنها منبئة عن ضروب من الملامسات والاتصالات يتنزه الباري عنها (15) .

وإذن فلنا أن نقول : إن السمع والبصر كذلك منبئان عن هذه الاتصالات والملامسات ، وما دامت المسألة منوطة بالعقل وحده فيمكن أن نتفهم ما فعله الذين طردوا القياس العقلي حتى نهاياته القصوى فأولوا السمع والبصر بالعلم وعدم الآفة (16) .

ثم إذا كان الجويني والغزالي والآمدي قد أثبتوا الشم والذوق واللمس عقلاً ، مع تنزيههم له تعالى عن تلك الضروب من الملامسات والاتصالات ، فلماذا لم يثبتوا له تعالى الضحك والفرح والنزول ، وهي ما وردت به النصوص ، مع تنزيههم له تعالى بقولهم: (بلا كيف) وبذلك يقفون مع المثبتين في خندق واحد ؟

وفيم هذه الضجة كلها ما دامت المسألة منوطة بالعقل وحده ؟

أليس الأسلم والأعلم والأحكم إذن هو موقف السلف ، أولئك الذين لم يتقدموا بين يدي الله تعالى بقول ، فاثبتوا ما أثبت ونفوا ما نفى وسكتوا عما سكت عنه ، دون أن يخوضوا لا في مزالق الإثبات ولا في مزالق النفي ، كما خاض الخائضون ؟

أقول بملء الفم : ألف نعم .

هوامش

[ 1 ] الشامل : ص 512 ، وما ينبغي الإشارة إليه أن لإمام الحرمين في النظامية – ص 32 ، وما بعدها – موقفا مختلفاً هو بعينه موقف السلف كما قررناه : إضراب عن التأويل ، وانكفاف عنه .
[2] الشامل: ص 551 .
[3] الإرشاد : ص 4
[4] أساس التقديس: ص 182 – 183.
[5] ذم التأويل : ص 41 .
[6] أساس التقديس : ص 173 – 175 .
[7] التدمرية : ص 36 والحموية : ص 110 .
[8] أساس التقديس : ص 176 .
[9] الحموية ص 112 وأيضاً 1 / 6 ، وما بعدها : موافقة .
[10] أساس التقديس : ص 176 .
[11] التدمرية : ص 54 – 58 وكذلك مجموع الفتاوى 6 / 85 .
[12] قارن في ذلك : المحصل للرازي : ص 172 ، وكذا التلخيص للطوسي نفس الصحيفة .
[13] الاقتصاد : ص 237 - 239 .
[14] غاية المرام : ص 55 ، والتشابه كبير بين قاعدة الكمال والنقص عند الآمدي والغزالي ، وبين ما أسماه ابن تيمية (قياس الأولى ) (قارن موافقة 1/14 - 15 بهامش منهاج السنة)، وكذلك الحال بين قياس الأولى عند ابن تيمية ، وبين قاعدة الإمكان الأشرف والإمكان الخس عند شهاب الدين السهرودي ، تلك التي كانت وسيلته إلى إثبات نظرية العقول العرضية ، بكل ما تحمله من أصداء ميثولوجية وغنوصية بادية ، نقول هذا برغم تنديد ابن تيمية بالسهرودي ونظريته تلك في مواضع لا تكاد تحصر من كتبه (على سبيل المثال: الرد على المنطقيين ص 12) ثم قارن في قاعدة الإمكان الأشرف عند السهرودي ومدرسته (حكمة الإشراق ص 346، ص 367 وما بعدهما – القسم الثاني – المقالة الثانية ) وكذلك التلويحات ط . كوربان ص 68 ، وأيضاً : الأسفار الأربعة للشيرازي ص 121 مجلد أول .
[15] الإرشاد: ص 77 ، ولعل الفخر الرازي كان أكثر سلفية مع ابن تيمية حين قال بالتوقف في إثبات صفة الإدراك (المحصل ص 187 ) وتبعه في ذلك متأخرو الأشاعرة كالدسوقي ، والبيجوري ، والأمين ، والدردير .
[16] انظر موقف الإمام الأشعري نفسه من إرجاع صفتي السمع والبصر إلى العلم في كتابنا : هوامش على النظامية : ص 395 وما بعدها .[/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء إبريل 08, 2008 6:59 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=justify]
[6]

موقف المؤولين ليس موقفاً بادئاً .

من هذا المنطلق يمكن لنا أن نضع موقف المؤولين بجملته في موضعه من منظومة الفكر الإسلامي ، فهو ليس موقفاً بادئاً يفرض معطياته على الظروف ، كما هو الشأن في موقف السلف ، وإنما هو موقف فرضته الظروف ، فهو أدنى إلى أن يكون رد فعل أكثر من أن يكون حكاية عن نفس الأمر .

إننا لنفهم موقف المؤولين كما فهمه ابن الجوزي كما قال : " إن نفيت التشبيه في الظاهر والباطن فمرحباً بك ، وإن لم يمكنك أن تتخلص من شرك التشبيه إلى خالص التوحيد وخالص التنزيه إلا بالتأويل ، فالتأويل خير من التشبيه " (1) .

وكذلك حين قال : "التشبيه داء ، والتأويل دواؤه ، فإذا لم يوجد الداء فلا حاجة إلى استعمال الدواء " .

وعلى ذلك فلا محل للاعتراض (2) بأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يشتغلوا بالتأويل ، فمثال من يعترض بذلك – كما يتابع ابن الجوزي أيضاً – مثال رجل يقول : إن الصحابة كانوا إذا أرادوا أن يقصدوا مكة لا يدخلون الكوفة ، فهم لم يدخلوها لأن مقصدهم مكة ، والكوفة ليست على طريقهم ، لا لأن دخول الكوفة في حد ذاته بدعة ، فكذلك هنا ، فإنهم إن تركوا التأويل فما تركوه ؛ لكونه محظوراً ، بل لأن هذه الشبه والبدع لم تكن في ذلك الوقت تفتقر إلى التأويل .

فمثل من لا يحتاج إلى التأويل ومن يحتاجه – كما يضيف ابن الجوزي – كمثل رجلين أحدهما صحيح والآخر مريض – فإذا ترك المريض التداوي يقال له : أنت غالط – هذا أي الآخر – صحيح ، والصحيح لا يفتقر إلى الدواء (3) .

إزاء هذا المعنى الذي كرره ابن الجوزي ، وأعنى به اعتبار التأويل دواء لداء ، وليس تعريفاً للحقيقة أو اقتراباً من عمق الحقيقة فإننا نجتزئ من قضايا المؤولين بقضية واحدة نرى فيها حقاً دواءا ناجعا لداء التشبيه الذي لا يغسله ماء البحر كله كما يقول ابن الجوزي بحق ، وأعني بهذه القضية نفي الجهة عنه تعالى .

لقد صار بعض غلاة المشبهة إلى أن الرب تعالى مماس للصفحة العليا من العرش ، وصار البعض منهم إلى أنهم مباين للعرش ، وتوقح البعض منهم ، فقالوا بإحاطة بعض جواهر العالم به – جل شأنه – إلى غير ذلك من أقوالهم التي تعج بها كتب المقالات والفرق ، وحق ما قاله إمام الحرمين بشأنهم : "وهؤلاء تقل أقدارهم وتتضائل أخطارهم عن أن يفردوا ببسط القول فيهم " (4).

لكن فرق المثبتين – وعلى رأسهم ابن تيمية ومدرسته ، وكذلك ابن رشد أيضاً – قد فصلوا القول في أمر الجهة ، كما ألمعنا إلى ذلك فيما سبق ، فهم ينفون أن يكون جل وتعالى في جهة إذا أريد بالجهة شيء موجود مخلوق ؛ أي أن الله تعالى ليس داخلاً في المخلوقات ، ولا المخلوقات محيطة به ، وهم يثبتون له تعالى الجهة إذا أريد بها أنه تعالى فوق العالم ، مباين للمخلوقات ، منفصل عنها (5) .

إذن فالفوقية والعلو صفات ثابتة له تعالى عند المثبتين ، حتى لقد قيل لابن الزاغوني – أحد رجالات الحنابلة المثبتين – هل تجددت له تعالى صفة لم تكن بعد خلق العرش ؟ فقال : لا ، إنما خلق العالم بصفة التحت، فصار العالم بالإضافة إليه أسفل ، فإذا ثبتت لإحدى الذاتين صفة التحت ثبت للأخرى استحقاق صفة الفوق (6) .

بل إن هؤلاء المثبتين لا يقول : إن العلو صفة ثابتة له تعالى ، لا بالنقل وحده ، بل بالعقل أيضاً ، ومفاد حجتهم العقلية أن الله تعالى قد كان ولا شيء ، ثم خلق العالم ، فلا يخلو إما أن يكون خلقه في نفسه ، ثم انفصل عنه ، فهذا محال ، وإما أن يكون قد خلقه خارجاً عنه ، ثم دخل فيه ، وهذا أيضاً محال ، وإما أن يكون قد خلقه خارجاً عن نفسه الكريمة ولم يحل فيه ، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره (7) .

وظل ابن تيمية مصراً على هذا الاعتقاد حتى اعتقاله في قلعة الجبل فحين طلب منه أن يقول بنفي الجهة أجاب قائلاً : "إن أراد قائلاً هذا القول أنه ليس فوق العالم رب ، ولا فوق العرش إله ، ولا فوق العالم إلا العدم المحض ، فهذا مخالف لإجماع الأمة ، وإن أراد به أن الله تعالى لا تحيط به مخلوقاته ، ولا يكون في جوف الموجودات فهذا ما صرحت به في كلامي" (8) .

إذن فالجهة قد تبلورت صراحة عند المثبتين إلى العلو والفوقية .

ونتج عن هذا القول بالعلو والفوقية عند المثبتين أمر آخر ، وهو صحة الإشارة إليه تعالى بالإشارة الحسية (9) ، فهذا لازم لذلك .

هوامش

[ 1 ] مجالس ابن الجوزي : ص 11 .
[ 2 ] ممن أورد هذا الاعتراض : القاضي أبو يعلى في كتاب :" إبطال التأويل" (الحموية: ص 46 ، وابن قدامة : ذم التأويل ص 33 وما بعدها ) .
[3] مجالس ابن الجوزي : ص 11 - 12 ، ولعل هذا هو ما أشار إليه ابن الهمام : (فإذا خيف على العامة فهم الاستواء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء ، فهو ممكن أن يراد ، لكن لا يجزم بإرادته ) ص 17 – 18 المسايرة ، وقارن أيضاً البياضي : إشارات المرام ص 189 .
[ 4 ] الشامل : ص 513 .
[ 5 ] التدمرية : ص 28 – 29 ، والتسعينية : ص 28 – 29 ، ومجموع الفتاوى 5/ 292 ، ومناهج الأدلة : ص 177 .
[ 6 ] دفع شبه التشبيه : ص 40 ، ولقد رد عليه ابن الجوزي مقرراً أنه " كلام جهل من قائلة وتشبيه محض" .
[7 ] منهاج السنة 1 /249 ، ومجموع م/152 ، 284 ، وقد نسبها ابن تيمية إلى الإمام أحمد ، وذكرها الآمدي واستقصى الجواب عنها ( غاية المرام ص 198 وما بعدها ) ، وكذلك الرازي في أساس التقديس ص 61 وما بعدها .
[8 ] مجموع الفتاوى : 5/264 ، وما بعدها .
[ 9 ] وقد يقال ههنا : وما شأن حديث الجارية التي سألها النبي (صلى الله عليه وسلم) أين الله ، فأشارت إلى السماء ، فقال أعتقوها فهي مؤمنة ؟

نقول : إنه قد وقع في بعض روايات الحديث أن حديثه (صلى الله عليه وسلم ) مع الجارية لم يكن إلا بالإشارة ، ثم سبك الراوي ما فهمه من الإشارة في لفظ اختاره ، ففي رواية عطاء بن يسار : "فمد النبي (صلى الله عليه وسلم) يديه إليها مستفهماً من في السماء ؟ " ، وهذان كما يقول الكوثري – من الدليل على أن ( أين الله) لم يكن لفظ النبي (صلى الله عليه وسلم) ، ثم يعقب الكوثري على ذلك قائلاً : (وقد فعلت الرواية بالمعنى في الحديث ما تراه من الإضراب) .

كما أن البيهقي نفسه قد أشار إلى الاضطراب إشارة واضحة (قارن الأسماء والصفات للبيهقي وهوامشها للكوثري ص 412 وما يليها ، كذلك أيضاً تكملة الرد على النونية ص 94 ).

ثم قارن – في مقابل ذلك – (العلو) للذهبي ، وتعليقات الألباني على هذا الحديث ص 81 وما بعدها ، ففيها انتقادات لاذعة لرأي الكوثري السابق الذكر .

ثم قارن أيضاً ما ذكره ابن خزيمة (التوحيد ص 80 – 81 – 82 ) لترى أثر هذا الاضطراب الذي أشار إليه الكوثري ، مما اضطر ابن خزيمة إلى الاعتذار عن هذا الاضطراب بأن الحديث حديثان لا حديث واحد .

أما أبو بكر بن فورك فتجد أنه (في مشكل الحديث ص 58 وما بعدها ) يحمل سؤال النبي (صلى الله عليه وسلم) لها على أنه "استعلام لمنزلته تعالى وقدره عندها وفي قلبها ، وليس استعلاماً عن المكان بما يقتضيه من التحديد والتمكن ، وحذا الفخر الرازي حذو ابن فورك تقريباً (أساس التقديس ص 166 ) .

ووافق إمام الحرمين ابن فورك على هذا الاتجاه ، ولكنه أضاف إلى المسألة بعداً آخر (الشامل ص 568) فقد سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) أم جميل : كم تعبدين من إله ، فقالت خمسة [ كما سأل (صلى الله عليه وسلم) أبا حصين كم تعبد اليوم من إله ، قال سبعة .. الأسماء والصفات للبيهقي ص 424 ] ، ويتابع الجويني قائلاً : فكما لا يجوز حمل سؤاله (عليه السلام) ، بكم على أنه إقرار للتعدد ، فكذا لا يجوز حمل سؤاله للجارية بأين على أنه إقرار بالمكان أو الجهة .
أما قبوله (عليه السلام) لإجابة الجارية ، فلأنها كانت عجماء لا تفصح [ كما تقول بعض روايات ابن خزيمة للحديث ] ، وليس في الروايات الصحيحة ما يفيد أنها كانت خرصاء ( البياضي ص 198 إشارات المرام ) .

ثم قارن ذلك كله بما ورد في شرح مسلم للنووي من أنه (عليه السلام أراد امتحان الجارية هل تقر بأن الخالق المتعالي هو الله الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء (البياضي ص 199 ) .[/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء إبريل 09, 2008 1:30 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=justify]
وقد ظل ابن تيمية أيضاً مصرا على هذا الاعتقاد حتى اعتقاله ، فحين طلب منه أن يتبرأ من القول بصحة إشارة الأصابع إليه تعالى إشارة حسية أجاب قائلاً : "إن أراد القائل من قوله إنه لا يشار إليه أنه تعالى ليس محصوراً في المخلوقات فهذا حقه ، وإن أراد أن من دعا الله تعالى لا يرفع يديه فهذا خلاف ما تواترت به السنن ، وإذا سمى المسمى ذلك إشارة حسية ، وقال : إنه لا يجوز ، لم يقبل ذلك منه" (1) .

ولو ضممنا إلى هذا التقرير ما قرره ابن تيمية أيضاً في الرسالة العرشية لوجدنا عجبا من الأمر ، فلقد قرر ابن تيمية في هذه الرسالة أن الجهات – وإن كانت اعتبارية للحيوان – لكنها غير اعتبارية في عالم الأفلاك ، فجهة العلو والسفل بالنسبة للأفلاك لا تتغير ، المحيط هو العلو ، والمركز هو السفل ، والأفلاك دائرية عقلاً وسمعاً ، كما يقول ، والعرش مقبب كما ورد في بعض الروايات ، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها لا أسفلها ، وهو فوقها مطلقاً فلا يتوجه الإنسان إلى العرش ، ولا إلى ما فوقه إلا من العلو ، ولا من جهاته الباقية أصلاً (2) .

ولا يحتاج الأمر هنا إلى أن نكرر أن المنهج اللغوي الذي اتبعه ابن تيمية قد أوقعه في مزالق يصعب التخلص منها .

ولكن ما موقف المؤولين من القضية؟

أقول : إنهم لم يرتضوا هذا التقرير جملة وتفصيلاً :

1- فالقول بأن الجهة أمر عدمي أم غير مقبول عن الرازي ؛ لأن الجهات تختلف بحقائقها ، وتتباين بالإشارات إليها ، فالقول بأنه تعالى في جهة الفوق معناه امتناع حصول ذاته في سائر الجهات ، فلولا أن جهة الفوق مخالفة بالماهية لسائر الجهات لما اختصت بهذا الحكم (3) .

2- ثم إن الجهات حادثة بإحداث الإنسان ونحوه مما يمشي على رجلي ، كما يقول ابن الهمام ، ثم هي اعتبارية ، فإن النملة – كما يضيف ابن الهمام – إذا مشت على سقف كان السقف بالنسبة إليها جهة الأرض ، ثم إنه – جل وتعالى – قد كان في الأزل ، ولم يكن شيء من الموجودات غيره ، إذن فقد كان لا في جهة (4) .

فهو سبحانه الأول والآخر ، وهذا يقتضي أن تكون ذاته تعالى متقدمة في الوجود على كل من سواه ، وأن يكون متأخراً في الوجود عن كل ما سواه ، وذلك يقتضي أنه كان موجوداً قبل الحيز والجهة - على أي معنى فسرتا – وهو موجود بعد فناء الحيز والجهة ،على أي معنى فسرتا (5) .

ولعل هذا هو ما أشار إليه الإمام أبو حنيفة (رضي الله عنه) حين قال: "ولو كان جل وتعالى في مكان محتاجاً إلى الجلوس والاستقرار فقبل خلق العرش أين كان ؟ " ولذلك فقد عقب البياضي على قول أبي حنيفة بقوله :

" وكيف كان سبحانه في "أين" ولا جهة في الأزل ، والجهات خواص الأجسام المحدثة؟ " (6) .

وقال أبو حنيفة (رضي الله عنه) أيضاً في نفس المعنى: "كان الله تعالى ولا مكان ، كان قبل أن يخلق الخلق ، كان ولم يكن أين ، ولا خلق ، ولا شيء ، وهو خالق كل شيء" (7) .

ولعل الرازي كان يستقي من نفس النبع حين قال : "قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض ، فلم يكن هناك فوق ولا تحت" (8) .

ولله در أبو منصور الماتريدي حين قال : " إنه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس أو القيام شرف ولا علو ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال ، فإنه لا يستحق الرفعة على من دونه " (9) .

3- أما عن كونه تعالى مشاراً إليه بالإشارة الحسية فهذا مما يقتضي كونه تعالى موجوداً في جهة موجودة ، فلا معنى للكون في جهة إلا أنه مشار إليه بالحس (10) .

ونحن نعلم أن ابن تيمية ينازع في هذا ، ويقول : إنه سبحانه فوق العالم ويشار إليه ، ولكنه ليس في حيز وجودي ، ولا في جهة وجودية (11) ، لكن كم من خواص الناس – بل عوامهم – من يستطيع أن يجرد الجهة والحيز من معناهما الحسي المعهود ؟

كم من هؤلاء من يتحصل في ذهنه الفرق الجلي بين الجهة الوجودية والجهة العدمية ؟ كم منهم من يستطيع أن يتصور إشارة حسية دون مشار إليه محسوس ؟!

إن هذه هي أحكام الفطرة البسيطة التي لا يفتأ ابن تيمية يشيد بحكمها وينزل على مقتضاها :

العلو والفوقية تقتضي حسا ومحسوساً ، الجهة والحيز تقتضي محاطا ومحاطا به ، الإشارة الحسية تقتضي مشاراً محسوساً ، والتنصل من هذه الأحكام مصادمة لتلك الفطرة بلا مراء .

إذن فلا بد من دواء !!

هوامش

[ 1] مجموع الفتاوى 5/264 : 266 ، وأيضاً منهاج السنة 1/249 – 250 .
[ 2 ] العرشية : مجموع الفتاوى 6/545 .
[ 3 ] أساس التقديس : ص 30، 47 - 48 ، وقارن هذا بما نقله الآمدي عن قبول "بعض الأصحاب " لكون الجهة أمراً عدمياً [ فإن كانت الجهة معدومة فلا جهة ؛ إذ لا فرق بين قولنا إنه في جهة معدومة ، وبين قولنا : إنه لا في جهة ، إلا في مجرد اللفظ ولا نظر إليه] [ ص 193 غاية المرام] ، بل إن الآمدي نفسه قد وافق هؤلاء الأصحاب في جواز كون الجهة عدمية ، فتراه يقول في نفس المصدر [ ص 196 ] : فإن لم يكن متحيزاً بالجهة ولا هو مما تحيطه الأبعاد والامتدادات ، ولا هو واقع في مسامته الغايات والنهايات فلا معنى لكونه فيها إلا من جهة اللفظ ولا حاصل له" .
[ 4 ] المسايرة : ص 16 – 17 .
[ 5 ] أساس التقديس : ص 31 .
[ 6 ] البياضي: إشارات المرام : ص 196 .
أما حديث أبي رزين : [ أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق ، فقال (ص) : كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء ] فقد قال فيه ابن قتيبة : [ هذا الحديث مختلف فيه ، وقد جاء من غير هذا الوجه بألفاظ تستشنع أيضاً ، والنقلة له أعراب ، ووكيع أحد رواته لا يعرف ، وأما قوله : [ فوقه هواء وتحته هواء ] فإن قوماً قد زادوا فيه: "ما" فقالوا : ما تحته هواء ولا تحته هواء ، استيحاشاً من أن يكون فوقه هواء وتحته هواء ، وهو بينهما ، والوحشة لا تزول بزيادة "ما" ؛ لأن "فوق" و "تحت" باقيان .
انظر "مختلف الحديث ص 222 " . وقال البيهقي عن الحديث نسه: "هذا حديث تفرد به يعلى بن عطاء عن وكيع ، ولا نعلم لوكيع هذا راوياً غير يعلى بن عطاء" . الأسماء والصفات ص 376 وما يليها .
[ 7 ] البياضي : ص 197 ، وبحر الكلام للنسفي ص 25 .
[ 8 ] أساس التقديس : ص 55 .
[ 9 ] التوحيد : ص 70 .
[10] أساس التقديس : ص 45 ، 50 ، وكذلك الآمدي ، كما ذكر ابن تيمية في
[ 11] منهاج السنة ص 3/131 .[/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس إبريل 10, 2008 8:34 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=justify]
[ 7 ]

"دواء" المؤولين لمسألة الجهة ، وموقفنا منه .

ثمة " دواء" وصفه المؤولون لمن لا يستطيع الفكاك من أسر الاعتقاد بالجهة ، وأهمية هذا الدواء تكمن فيما نزعم في أنه يأخذ بيد العقل لكي يتجاوز تلك الصعوبة النفسية التي أشرنا إليها في بدء الحديث ، وتكمن من جهة ثانية في أن فيه تدعيما لرأى السلف في السكوت عن التفسير ، والتوقف والتفويض .

وتتمثل تلك الصعوبة كما وصفها الفخر الرازي ، وكما كررنا مرارا ، في أننا نعلم علما ضروريا أن كل موجودين فلابد أن يكون أحدهما إما حالا في الآخر "محايثا له" وإما مباينا عنه مختصا بجهة من الجهات المحيطة به (1) .

ومضمون هذا الدواء هو أن الباري تعالى والعالم كل منهما مباين للآخر ، ومنفصل عنه لا محاله ، لكن هذه المباينة وذلك الانفصال لا يوجب أن يكون الباري تعالى في جهة . لماذا ؟

يضرب الآمدي مثالا يقرب المقصود ، فلو قيل لك : هل تتصور وجود شيء ليس بعالم ولا جاهل ؟ لقلت : إن ذلك محال ، فيقال لك : إن استحالة الخلو عن أحد المتقابلين إنما تكون فيما هو قابل لهما ، لكنك لو قلت : إن الحجر ليس بعالم ولا جاهل لكنت صادقا فيما تقول ؛ لأن الحجر ليس بقابل للاتصاف بأحد المتقابلين (2) .

وقياسا على ذلك فلا يقال أصلا عن الباري تعالى : إنه في جهة ، أو ليس في جهة ؛ لأنه ذاته تعالى غير قابلة للاتصاف بهذه البدائل أصلا ، بل هو سبحانه كما قال أبو حنيفة "كان ولا مكان ولا جهة ، كان ولم يكن شيء ، أو خلق ، بل هو خالق الخلق" .

إذن فذاته تعالى أعلى من هذه البدائل جميعاً ابتداء ، وأرفع منها جميعاً ابتداء ، ولذا فقد صدق من اقل : (لا يقال لمن أيّن الأين: أين ) .

وقياساً على ذلك أيضاً فلا يقال أصلاً : إنه تصح الإشارة إليه ، أو لا تصح الإشارة إليه ، ولا يقال : إنه في زمان ، أو ليس في زمان؛ لأن ذاته تعالى غير قابلة للاتصاف بهذه البدائل أصلاً وابتداء .

إن كل هذه البدائل بأسرها "الجهة، أو اللاجهة" "الإشارة، أو اللاإشارة" "الفوق، أو التحت"، "المكان، أو اللامكان" ، "الزمان، أو اللازمان" قد حدثت بخلق العوالم ، فبخلق العالم صارت الجهة جهة ، والإشارة إشارة ، والفوق فوقاً ، والتحت تحتاً ، والزمان زماناً ، والمكان مكاناً ، وهو جل وتعالى أزلي قديم قبل خلق العالم ، ولله در أبي حنيفة في قولته السابقة ، وليس لنا بعد قوله قول (3) .

ونحن حين نأخذ بقضية المؤولين هذه فإننا نعتبرها "تخلية" ، لا "تحلية"، فهي تدعم مذهب السلف في السكوت والانكفاف والوقفة ، وحقاً ما قاله البعض من أن السلف يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال .

بيد أن ابن تيمية لم يترك هذا الدواء يمر دون أن يحاول توهينه قائلاً :

"إن هؤلاء الذين يقولون : إنه تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه ، إذا قيل لهم : هذا ممتنع في ضرورة العقل ، قالوا: هذا إنما يكون إذا كان قابلاً لذلك ، والقبول إنما يكون من المتحيز ، فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين المتناقضين .

فيقال لهم : علم الخلق بامتناع الخلو من هذين النقيضين هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود ، ثم إن هذه الصفات " أي كونه تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه ، يمكن أن يتصف به المعدوم ، أما اصطلاح العدم والملكة فهو اصطلاح لفظي ، والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على الحقائق العقلية ، ثم إن ما لا يقبل الاتصاف بهذين أنقص مما يقبل ذلك" (4) .

فاعتراض ابن تيمية قائم على أن من لا يصح وصفه بأنه في جهة أو لا في جهة ، ومن لا يصح وصفه بأنه لا يشار إليه أو لا يشار إليه أنقص ممن يصح وصفه بأحدهما "فإذا اعتبرنا الموجودات فما يقبل الحركة مثلاً أكمل ممن لا يقبلها ، فإذا كان عدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها صفة نقص فكونه لا يقبل الحركة أصلاً أعظم نقصاً ، ومثل ذلك في سائر الصفات" (5) .

لقد فات ابن تيمية في هذا الصدد أن ثمة أوصافاً متقابلة يعتبر الخلو عن الاتصاف بها أكمل من إمكان الاتصاف بأحدها " فالعلم الحادث المخلوق مثلاً منقسم إلى الضروري والكسبي ، وهما متقابلان ، وعلم الله القديم أعلى من الاتصاف بهذين المتقابلين ، فلا يصح وصف علمه تعالى بأنه ضروري أو كسبي (6).

ثم إن ابن تيمية نفسه قد حكم بتنزيه الباري تعالى عن الاتصاف بالشبع أو الجوع مثلاً – لا لعدم ورود النصوص السمعية بهما ؛ لأنه قد أبطل الاعتماد على السمع في الإثبات كما رأينا – بل لأن الاتصاف بهما نقص ، وبهذا فقد نزه الله تعالى عن المتقابلين ، اللذين يعتبر الخلو عنهما - في الشاهد – نقصاً ، فالجمادات لا تشبع ولا تجوع ، بل الحق تنزيهه تعالى عن كثير من الأمور المتقابلة التي هي من لوازم مخلوقاته المحدثة المصنوعة ، فهو – جل ثناؤه – ليس بطويل ولا بغير طويل ، ولا بقائم ولا قاعد ، وكلامه جل ثناؤه ليس سراً ولا جهراً ، ولذلك فقد أضاف السر والجهر إلينا في قوله: { يعلم سركم وجهركم } [ سورة الأنعام: 3] (7) .

ونقول آخراً : لقد أصاب الغزالي حين قال : لما كان زمان السلف الأول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب ، فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة وألقى الشكوك في القلوب مع الاستغناء عنه ، فباء بالإثم ، أما الآن فقد فشا ذلك ، فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر ، واللوم عن قائله أقل (8) ، ولا نبتغي من حديثنا هذا إلا أن يكون اللوم عنا أقل ، وعلى الله قصد السبيل .

تم بحمد الله تعالى

هوامش

[1] أساس التقديس : صـ 4.
[2] غاية المرام : 199-200 ، وكذلك الشهرستاني : نهاية الأقدام ص 110-111 ، وإن كان بينهما قليل من الاختلاف أساسا في تقرير القضية ، وعلى أية حال فهذا هو ما يسميه المناطقة تقابل العدم والملكة ، وهما أمران أحدهما وجودي والآخر عدمي ، لا يجتمعان ، ويجوز أن يرتفعا في موضع لا تصح فيه الملكة .
[3] لو وضعت مقولة أبي حنيفة هذه بجانب ما قاله ابن قتيبة بشأن حديث أبي رزين (أين كان ربنا … الخ " والذي نقلناه في هامش سابق لأنتج لك القولان معا تلك القضية التي أخذناها عن المؤولين .
[4] التدمرية : ص 18 و ص 27 ، منهاج السنة: ص 4/7 ، 8 ، والتسعينية: ص 28 .
[5] منهاج السنة ص 4/134 .
[6] بل لقد نقل الرازي عن "البعض" ما هو أكثر مما ذهبنا إليه ، فعندهم أن ما لا يجوز على الله تعالى من "جنس" هذه الأوصاف فالمراد به نفي صحة الاتصاف ، لا مجرد النفي فحسب ، فما ذكره الله تعالى في كتابه من مثل قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ سورة البقرة: 255 ] وقوله { لم يلد ولم يولد } [سورة الإخلاص : 3 ] فهو وإن كان في سورة النفي ، لكنه ليس في الحقيقة كذلك ، بل المراد به نفي صحة الاتصاف . ثم ناقش الفخر جوانب المسألة كلها بالتفصيل . وانتهى فيها إلى ما هو موضع مناقشة ، كشأنه في بعض المسائل التي تناولها في أساس التقديس ، والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .(أساس التقديس ص 148وما بعدها ) .
[7] الغزالي : إلجام العوام ص 28 بهامش الإنسان الكامل .
[8] شرح المواقف 1/90.[/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 26, 2009 4:56 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد سبتمبر 18, 2005 12:40 am
مشاركات: 14712
مكان: مصـــــر المحروسة
[font=Tahoma][align=justify]
يرفع للتذكير[/align]
[/font]

_________________
رضينا يا بني الزهرا رضينا
بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا



يا رب

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ
فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: جزاك الله كل الخير
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين يوليو 27, 2009 4:27 pm 
غير متصل

اشترك في: الأربعاء فبراير 04, 2009 5:31 pm
مشاركات: 10
بوركت ياسهم النور

جعلت سهماً للنور منطلقاً
يدق أعناق البطلان والظلَم


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 13 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 5 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط