اعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، ولا يزال بعدهم إلى يومنا هذا على ذلك، وجواز هذا الأمر يعرف من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قسم شعره حين حلق في حجة الوداع وأظفاره.
أما اقتسام الشعر فأخرجه البخاري (2) ومسلم(3) من حديث أنس، ففي لفظ مسلم عنه قال: لما رمى صلى الله عليه وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقه الأيمن ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال:" احلق"، فحلق فأعطاه أبا طلحة فقال:" اقسمه بين الناس".
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه البخاري في صحيح: كتاب الوضوء: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج: باب بيان أن السنّة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق والابتداء بالجانب الأيمن من رأس المحلوق.
وفي رواية: فبدأ بالشق الأيمن فوزّعه الشعرة والشعرتين بين الناس ثم قال: " بالأيسر " فصنع مثل ذلك، ثم قال:" ههنا أبو طلحة"، فدفعه إلى أبي طلحة.
وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال للحلاق:" ها" وأشار بيده إلى الجانب الأيمن فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم.ا.هـ.
فمعنى الحديث أنه وزّع بنفسه بعضا بين الناس الذين يلونه، وأعطى بعضا لأبي طلحة ليوزعه في سائرهم، وأعطى بعضا أم سليم. ففيه التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الشعر لا يؤكل إنما يستعمل في غير الأكل، فأرشد الرسول أمته إلى التبرك بآثاره كلها حتى بصاقه، وكان أحدهم أخذ شعرة واآخر أخذ شعرتين، وما قسمه إلا ليتبكوا به في حياته وبعد وفاته، حتى إنهم كانوا يغمسونه في الماء فيسقون هذا الماء بعض المرضى تبركا بأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في البخاري (1) ومسلم(2) وأبي داود(3). وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم بصق في الطفل المعتوه، وكان يعتريه الشيطان كل يوم مرتين وقال:" اخرج عدو الله أنا رسول الله " رواه الحاكم(4).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الوضوء: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.
(2) صحيح مسلم: كتاب الحج: باب بيان أن السنّة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الجانب الأيمن من رأس المحلوق.
(3) سنن أبي داود، كتاب المناسك: باب الحلق والتقصير.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التاريخ: باب اجتماع الشجرتين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/618). وصححه وأقرّه الذهبي في تلخيصه.
فقسّم صلى الله عليه وسام شعره ليتبركوا به، وليستشفعوا إلى الله بما هو منه، ويتقربوا بذلك إليه، قسم بينهم ليكون باقية بينهم وتذكرة لهم، ثم تبع الصحابة في خطتهم في التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم من أسعده الله، وتوارد ذلك الخلف عن السلف. فلو كان التبرك به في حال الحياة فقط لبيّن ذلك.
وخالد بن الوليد رضي الله عنه كانت له قلنسوة وضع في طيّها شعرا من ناصية رسول الله أي مقدّم رأسه لما حلق في عمرة الجعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان يلبسها يتبرك بها في غزواته. روى الحافظ ابن حجر في المطالب العالية(1) عن خالد بن الوليد أنه قال:" اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة اعتمرهافحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجه إلا فتح لي"ا.هـ. وعزاه الحافظ إلى أبي يعلى.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية عند ذكره محنة الإمام أحمد ما نصه(2): قال أحمد: فعند ذلك قال- يعني المعتصم - لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين.اهـ.
(1) انظر المطالب العالية(4/90). قال الشيخ المحدث حبيب الرحمن الأعظمي في تعليقه على الحديث: كذا في الأصلين وفي الإتحاف: فما وجهته في وجه إلا فتح له، وفي الزوائد: فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصرة. قال البوصيري: رواه أبو يعلى بسند صحيح، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه ورجالهما رجال الصحيح (9/349)، انظر مسند أبي يعلى(13/139).
(2) انظر البداية والنهاية(10/334).
وأما الأظفار فأخرج الإمام أحمد في مسنده (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قلّم أظفاره وقسمها بين الناس.
وأما جبته صلى الله عليه وسلم فقد أخرج مسلم في الصحيح (2) عن عبد الله بن كيسان مولى أسماء بنت أبي بكر قال:" أخرجت إلينا جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفرجاها مكفوفان، وقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها". وفي رواية " نغسلها للمريض منّا".
وعن حنظلة بن حذيم قال: وفدت مع جدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي بنين ذوي لحى وغيرهم هذا أصغرهم، فأدناني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح رأسي وقال:" بارك الله فيك"، قال الذيّال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالرجل الوارم وجهه أو الشاة الوارم ضرعها فيقول:" بسم الله على موضع كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمسحه فيذهب الورم". رواه الطبراني في الأوسط والكبير(3).
(1) أخرجه الإمام في مسنده (4/42) من حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الهيثمي في المجمع (3/19) بعد عزوه لأحمد:" ورجاله رجال الصحيح".
(2) صحيح مسلم: كتاب اللباس والزينة: باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم تاذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع.
(3) عزاه الهيثمي في المجمع (9/408) للطبراني في الأوسط، وفي الكبير (4/16) بنحوه، وأحمد في مسنده (5/67- 68). في حديث طويل ورجال أحمد ثقات، وكذا في (4/221) عزاه لأحمد وقال: ورجاله ثقات.
وعن ثابت قال: كنت إذا أتيت أنسا بخبر بمكاني فأدخل عليه، فآخذ بيديه فأقبّلهما وأقوا: بأبي هاتان اليدان اللتان مستا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبّل عينيه وأقول: بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو يعلى(1).
وهذا سيدنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي هو أحد مشاهير الصحابة والذي هو أول من نزل الرسول عنده لما هاجر من مكة إلى المدينة، جاء ذات يوم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع وجهه على قبر النبي تبركا وشوقا، روى ذلك الإمام أحمد عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا ةجهه على القبر فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه أبو أيوب فقال: نعم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ءات الحجر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تيكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله". رواه أحمد (2) والطبراني في الكبير (3) والأوسط (4).
وروى ابن أبي شيبة (5) عن أبي مودودة قال: حدثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال:" رأيت نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك" ا.هـ.
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/211). وقال الهيثمي في المجمع (9/325): " رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة".
(2) أخرجه أحمد في مسنده(5/422).
(3) المعجم الكبير (4/189)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/515). وصححه ووافقه الذهبي.
(4) عزاه الهيثمي في المجمع (5/245) له.
(5) مصنف بن أبي شيبة، باب مس قبر النبي (4/121).
وفي كتاب سؤالات عبد الله بن أحمد بن حنبل لأحمد (1) قال:" سألت أبي عن مس الرجل رمانة المنبر يقصد التبرك، وكذلك عن مس القبر "، فقال:" لا بأس بذلك".
وفي كتاب العلل ومعرفة الرجال ما نصه(2): سألته عن الرجل يمس منبر النبي (صلّى الله عليه و سلّم) و يتبرك بمسّه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد التقرب إلى الله جل وعز فقال: لا بأس بذلك.
وروى ابن الجوزي في مناقب أحمد(3) بالإسناد المتصل إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:" رأيت أبي - يعني أحمد بن حنبل - يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه ويقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه، ويغمسها في الماء ثم يشربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها... ".ا.هـ.
وفي كتاب الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (4) ما نصه: ذكر إباحة التبرك بوضوء الصالحين من أهل العلم إذا كانوا متبعين لسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، عن أبي جحيفة عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء ورأيت بلالا أخرج وضوءه فرأيت الناس يبتدون وضوءة يتمسّحون.
(1) انظر كشاف القناع (2/150).
(2) العلل لأحمد بن حنبل (2/492).
(3) مناقب الإمام أحمد بن حنبل (ص/186- 187).
(4) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان:(2/282).
وفيه(1) عن جابر بن عبد الله أنه قال: جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب من وضوئه عليّ فعقلت.ا.هـ.
قال الحافظ ابن حجر في قصائده المسمات السبع:
يا سيد الرسل الذي منهاجه
حاو كمال الفضل والتهذيب
إلى أن قال:
فاشفع لمادحك الذي بك يتقي
أهوال يوم الدين والتعذيب
فلأحمد بن علي الأثري في
مأهول مدحك نظم كلّ غريب
قد صحّ أن ضناه زاد وذنبه
أصل السقام وأنت خير طبيب
ثم قال في قصيدة أخرى:
يا سيدي يا رسول الله قد شرفت
قصائدي بمديح فيك قد رصفا
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان:(2/281).
إلى أن قال:
بباب جودك عبد مذنب كلف
يا أحسن الناس وجها مشرقا وقفا
بكم توسل يرجو العفو عن زلل
من خوفه جفنه الهامي لقد ذرفا
وإن يكن نسبة يعزى إلى حجر
فطالما فاض عذبا طيبا وصفا
ثم قال في قصيدة أخرى:
اصدح بمدح المصطفى واصدع به
قلب الحسود ولا تخف تفنيدا
واقصد له واسأل به تعط النى
وتعيش مهما عشت فيه سعيدا
خير الأنام ومن لجا لجنابه
لا بدع أن أضحى به مسعودا
ثم قال في قصيدة أخرى:
فما تبلغ الأشعار فيه ومدحه
به ناطق نص الكتاب وناقل
إلى أن قال:
ولي إن توسلت الهناء بمدحه
لأني مستجد هناك وسائل
ثم قال في قصيدة أخرى:
فإن أحزن فمدحك لي سروري
وإن أقنط فحمدك لي رجائي
ثم قال في قصيدة أخرى:
نبي براه الله أشرف خلقه
وأسماه إذ سماه في الذكر أحمدا
فرج نداه أنه الغيث في الندى
وخف من سطاه إنه الليث في العدا
إلى أن قال:
حليم فقيس في الندى مجهل
كريم ودع ذكر ابن مامة في الندى
فكم حمدت منه الفوارس صولة
وعاد فكان العود أحمى وأحمدا
ثم قال في قصيدة أخرى:
وإن قنطت من العصيان نفس
فباب محمد باب الرجاء.
_________________
كميشى حسينى من آل بيت النبوة
