[font=Tahoma][align=justify] يقول الإمام الحافظ أحمد بن حجر الهيتمي في كتابه :[ الفتاوى الحديثية (صـ 151-154 ) :
[مطلب: هل يجوز أن يقال الله في السماء؟]
66 - وسئل نفع الله به: هل يجوز أن يقال الله تعالى في السماء، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، وما حكم من يقول ذلك ويستدل عليه بحديث السوداء، وما حكم الله في ذلك مع بسط القول والجواب لمسيس الحاجة إليه؟ [فأجاب بقوله: هذه المسألة كما قال القاضي عياض وإن تساهل في الكلام فيها بعض الشيوخ المعتبرين هي من عويصات مسائل التوحيد، واللائق بالزمان عدمُ ذكرها، وإن كان ولا بد فالحاصل من الكلام فيها أن المسلمين قاطبة أجمعوا على استحالة التجسيم، والحلول، والاستقرار على الله تعالى وحكم بذلك صريح العقل. وأجمعوا أيضاً على استحالة إرادة الحقيقة فيما ورد من ظواهر الآي والأخبار مما يوهم ذلك.
واختلفوا بعد ذلك في مسألة منها، وهي هل يصح إطلاق جهة الفوقية والعلوّ من غير تكييف ولا تحديد عليه تعالى؟ فمذهب جميع المتكلمين وفحول العلماء وأهل أصول الديانات إلى استحالة ذلك كما نص عليه أبو المعالي إمام الحرمين في الإرشاد وغيره من المتكلمين والفقهاء، وقالوا: إن ذلك ملزم للتجسيم والحلول والتحيز والمماسَّة والمباينة والمحاذاة، وهذه كلها حادثة، وما لا يَعْرى من الحوادث أو يفتقر للحوادث فهو حادث، والله سبحانه وتعالى يستحيل عليه الحدوث شرعاً وعقلاً كما هو مبين في كتب الأصول.
واختلف هؤلاء فيما ورد من ظواهر الآيات والأحاديث الصحيحة مما يوهم ذلك. فذهب بعض السلف كالشعبي وابن المُسيِّب وسفيان إلى الوقف عنها، وقالوا: يجب الإيمان بها كما وردت ولا نتعدى إلى تفسيرها. وضُعِّف هذا القول بما مر من الإجماع على عدم إرادة حقيقتها في عرف اللسان، فقد تكلموا فيها بصرفها عن ظواهرها فالسكوت عنها موهم للعوام وتنبيه للجهلة. وذهب الجمهور على ما نقل إلى الكلام عليها وصرفها عن ظواهرها بحملها على محامل قريبة المأخذ منها بينة تليق بها من جهة الشرع والعقل، ولسان العرب وتقتضي تنزيه الرب جل وعلا عما يوهم ظاهرها، وقد نص على هذا الإمام أبو المعالي إمام الحرمين وغيره من حذاق المتكلمين. وذهب القاضي الباقلاني وغيره في بعضها إلى أنها دالة على صفة زائدة تليق بجلاله تعالى من غير تكييف ولا تحديد، ولكل فريق تأويلات ومآخذ تليق بجلاله تعالى تطول، ومن أرادها فلينظرها في كتب التفسير ومُشْكِل الأحاديث كابن فورك وغيره، مع أن البارزي حكى عن القابسي أنه كان يدعو على ابن فورك من أجل أنه أدخل في كتابه أحاديث مشكلة، وتكلف الجواب عنها مع ضعفها فكان في عدم ذكرها غناء عن ذكرها انتهى.
وليس هذا الدعاء في محله بل هو من بعض التعصب وكيف وابن فورك إمام المسلمين والذابّ عن حمى حومة الدين، وإنما تكلف الجواب عنها مع ضعفها لأنه ربما تشبث بها بعض من لا علم له بصحيح الأحاديث من ضعيفها فطلب الجواب عنها بفرض صحتها إذ الصحة والضعف عن أئمة الحديث ليسا من الأمور القطعية بل الظنية، والضعيف يمكن أن يكون صحيحاً فبهذا الغرض يحتاج إلى الجواب عنه فما فعله ابن فورك هو الصواب فجزاه الله عن المسلمين خيراً. والمذهب الثاني: جواز إطلاق فوق من غير تكييف ولا تحديث نقله أبو المعالي إمام الحرمين في الإرشاد عن الكرامية وبعض الحشوية، ونقله القاضي عياض عن الفقهاء والمحدثين وبعض المتكلمين من الأشعرية .
قال الإمام البرزلي المالكي: وأنكر عليه شيخنا الإمام نقله عن بعض الأشعرية إنكاراً شديداً، وقال: لم يقله أحد منهم فيما علمته واستقريْتُه من كتبهم، وسمعته يقول القاضي ضعيف في علم الأصول ويعرف ذلك من تأليفه وكان عالماً بالأحاديث ورجالها وضبطها ولغاتها مقدَّماً في ذلك فلا يلتفت لنقله عن أهل الأصول في هذه المسألة، وكلامه في الشفاء يدل على علمه في هذا الفن وغيره وتَضَّلُّعه ولم ينقله فيه عن بعض الأشعرية وحكاه ابن بزيزة في شرح الإرشاد عن القلانسي من مشايخ الأشعرية وعن البخاري وغيره، غير أن هذا محدث، واختار هذا المذهب ابن عبد البرّ في "الاستذكار" واشتد نكير شيخنا المذكور عليه وقال: لم تزل فقهاء المذهب ينكرونه عليه بحمل ما ورد على ظاهره ولتدافع مذهبه في نفسه عند تحقيقه وهو ظاهر كلام الشيخ أبي محمد بن أبي زيد في رسالته.
وفي أسئلة الشيخ عز الدين: ما تقول في قول ابن أبي زيد، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه هل يفهم منه القول بالجهة وهل يكفر معتقدها أم لا؟.
فأجاب الشيخ عز الدين: بأن ظاهره ما ذكر من القول بالجهة، لأنه فرق بين كونه على العرش وكونه مع خلقه بعلمه، والأصح أن معتقد الجهة لا يكفر لأن علماء المسلمين لم يخرجوهم عن الإسلام، بل حكموا لهم بالإرث من المسلمين وبالدفن في مقابر المسلمين، وتحريم دمائهم وأموالهم وإيجاب الصلاة عليهم، وكذا سائر أرباب البدع لم يزل الناس يجرون عليهم أحكام الإسلام ولا مبالاة بمن كفرهم لمراغتمه لما عليه الناس انتهى كلام عز الدين. وقال بعض من ينسب إلى الطلب: هذا كلام كفر والقائل به كافر، لأن من اعتقد الجهة في حق الله جل وعلا فهو كافر بالإجماع، ومَنْ توقف في كفره فهو كافر، فعورض هذا الطالب في ذلك بما وقع بين الأئمة من الاختلاف في تكفير أهل الأهواء، وبما قال القاضي في "الشفاء" وغيره من جريان الخلاف في المشبهة وغيرهم، وبما ذكره ابن التلمساني في عين المسألة من الخلاف فلم يقبل شيئاً من هذا، واستدل لنقله الإجماع في المسألة بالحلولية وجعلها أنها هي عين جواب عز الدين وأن الحلولية كفار بالإجماع.
وأجاب بعض المفتين عن كلام هذا الطالب بما نصه: الصحيح قول الشيخ عز الدين ولا إجماع في المسألة والخلاف فيها على وجه آخر، وهو أن المُشبِّهة هل عرفوا أم لا؟ واحتجاج هذا الرجل بمسألة الحلولية على المسألة من أدل دليل على أنه لا يعرف الحلولية ولا المشبهة، وأن الإجماع على تكفير القائل بالحلول يلزم منه الإجماع على تكفير القائل بالتشبيه كلام غير محصل.
والحق أنه يلزم من صحة الملزوم صحة اللازم ومن بطلان اللازم بطلان الملزوم، لا أنه يلزم من الإجماع على قضية الإجماع على لازمها، ولا من الإجماع على بطلان لازم قضية الإجماع على بطلان ملزومها فإن الإجماع طريقه النقل لا العقل، ويبعد ممن له أدنى مسكة من عقل ودين أن يحكم للأمة التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالإيمان، وأن يتجاسر على الشهادة عليها بالكفر، فكيف بحكاية الإجماع على ذلك، ومسألة التكفير بالحلول شهيرة، ولو قال مبتدع: إن الله غير عالم أو غير قادر كفر إجماعاً مع أنه ينفي صحة العلم والقدرة وغيرها من الصفات، ويلزمه قطعاً أن يكون الباري غير عالم، ولا قادر، مع شهرة الخلاف في تكفيره وأنه غير كافر، وقد جمع الخوارج من الأقوال الفاسدة والآراء الباطلة ما لم يحفظ لغيرهم. وقال سُحنون: إنه يخاف على من كفرَّهم بمقالتهم أن يسلك مسلكهم في التكفير بالذنوب أو كلاماً هذا معناه، فقد حصل من حكاية هذا السؤال أنهم ليسوا بكفار مع حكاية الخلاف فيهم، وأنه جاز على الخلاف في لازم القول هل هو كالقول أم لا؟
ومذهب ابن رشد وغيره أنه ليس كالقول وأنه لا يلزم من الإجماع على قضية الإجماع على لازمها، ولا من الإجماع على بطلان لازم قضية الإجماع على بطلان ملزومها.
إذا تقرر هذا فقائل هذه المقالة التي هي القول بالجهة فوق إن كان يعتقد الحلول والاستقرار والظرفية أو التحيز فهو كافر، يُسلك به مسلك المرتدين إن كان مظهراً لذلك، وإنْ كان اعتقاده مثل أهل المذهب الثاني فقد تقرر الخلاف فيه، فعلى القول بالتكفير يرجع لما قبله وعلى الصحيح ينظر فيه، فإن دعا الناس إلى ما هو عليه وأشاعه وأظهره فيصنع به ما قال مالك رضي الله عنه فيمن يدعو إلى بدعته ونص على ذلك في آخر الجهاد من المدونة وتأليف ابن يونس، وإنْ لم يَدْعُ إلى ذلك وكان يظهره فعلى من ولاَّه الله أمر المسلمين رَدْعَه وزَجْره عن هذا الاعتقاد والتشديد عليه حتى ينصرف عن هذه البدعة، فإنّ فَتْحَ مِثْلِ هذا الباب للعوام وساوك طريق التأويل فيه إفساد لاعتقادهم، وإلقاء تشكيكات عظيمة في دينهم وتهييج لفتنتهم، وأرى هذا مثل الرجل الذي سأل مالكاً عن معنى قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه: 5] فقال مالك: الاستواء معلوم أو معقول والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن هذا بدعة وأراك رجل سوء أخرجوه عني، وزاد بعضهم في الحكاية: فأدبر الرجل وهو يقول: يا أبا عبد الله لقد سألتُ عنها أهل العراق وأهل الشام فما وقف أحد فيها توقيفك، وأنت ترى مالكاً كيف أدب هذا الرجل وزجره الزجر التام وهو لم يصدر منه إلا السؤال عن بعض المتشابه فما ظنك بمن صرح بما صرح به. وقضية عمر رضي الله عنه مع ضُبيع وضربه إياه المرّة بعد المرّة لسؤاله عن المتشابهه مشهورة حتى قال له: إن كنت تريد قتلي فاقتلني وإلا فقد أخذت أربي.
واختلف في تأويل قول مالك المذكور فصرفه ابن عبد البرّ إلى مذهبه، وظاهر حكاية غيره أنه وقف عن الكلام فيها كمذهب الواقفية، ومنهم من نحابه مذهب المتكلمين، وأشار ابن التلمساني في شرح المعالم فقال: يعني أن محامل الاستواء في اللغة معلومة بعد القطع بأن الاستقرار غير مراد، بل المراد به القهر والاستيلاء أو القصد إلى التناهي في صفات الكمال، وقوله والكيف مجهول: يعني أن تعيين محمل من المحامل اللائقة مجهول لنا، وقوله والإيمان به واجب: أي التصديق بأن له محملاً يصحّ واجب، وقوله والسؤال عنه بدعة أي تعيينه بالطرق الظنية فإنه تصرف في أسماء الله تعالى وصفاته بزعم الظنون وما لم يعهد زمن الصحابة رضي الله عنهم فهو بدعة انتهى، وهو يشير إلى ما قدمناه من الخلاف فيما ورد من مثل هذه الظواهر هل يتكلم فيها أم لا؟
واختلف تأويل حديث السوداء المذكور في السؤال، فقال المازري: أراد صلى الله عليه وسلّم أن يطلب دليلاً على أنها مُوَحِّدة فخاطبها بما يفهم من قصدها لأن علامة الموحدين التوجه إلى السماء عند الدعاء وطلب الحوائج، فإن من كان يعبد الأصنام يطلب حوائجه منها ومن يعبد النار يطلب حوائجه منها أيضهاً، فأراد صلى الله عليه وسلّم الكشف عن معتقدها أهي مؤمنة أم لا؟ فأشارت إلى الجهة التي يقصدها الموحدون وقيل وقع السؤال لها بأين لأجل أنه أراد السؤال عما تعتقده من جلالة الباري وعظمته جل وعلا، فأشارت إلى السماء إخباراً عن جلالته سبحانه في نفسها لأنها قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين، وكذلك اختلف في تأويل ما ذكره ابن أبي زيد في رسالته وقد مر آنفاً على أنه ذكره في المختصر على وجه لا يشكل، والله أعلم.] اهـ[/align][/font]
_________________ رضينا يا بني الزهرا رضينا بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا
يا رب
إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ
|