مصادر التصوف س: هل التصوف يخالف الكتاب والسنة ومصادره غير إسلامية كما نسمع؟! الجواب: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد..، فقد اتـهم التصوف بـمخالفته للكتاب والسنة، ولعل من أسباب هذا الاتـهام أن أقوامًا نظروا إلى ما أحدثه بعض مدعي التصوف، وظنوا أن ما يفعلونه هو التصوف، فقاموا في تسرع بغير روية، وبغير اطلاع على مبادئ التصوف وأقوال أئمته بإصدار الأحكام العامة مـما تسبب فيما نحن فيه؛ لذا كان أهل الله من الصوفية الـمخلصين يعتنون ببيان أن هذه الـمظاهر ليست هي التصوف، فها هو أبو نصر سراج الطوسي يقول(1): لا تسأمنَّ مقالتي يا صاح واقبل نصحية ناصحٍ نصَّاح ليس التصوف حيلة وتكلفًا وتقشفًا وتواجدًا بصياح ليس التصوف كذبة وبطالة وجهالة ودعابة بـمزاح بل عفة ومروءة وفتوة وقناعة وطهارة بصلاح وتقى وعلم واقتداء والصفا ورضى وصدق والوفا بسماح وعبارات أئمة الصوفية تؤكد على أنه لا تصوف إلا بـموافقة الكتاب والسنة، ومن ذلك ما قاله إمام الصوفية الإمام الجنيد- (ت 297) رحمه الله-: «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام»(2) وقال: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة»(3). وقال شاه الكرماني (ت 300): «من غَضَّ بصره عن الـمحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعَمَّر باطنه بدوام الـمراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعَوَّد نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فِراسة»(4). وقال ذو النون الـمصري: «من علامات الـمحبة لله عز وجل متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته»(5). وقد أنصف التصوف علماء لم ينتسبوا إليه كابن خلدون- رحمه الله- حيث أكَّد على أن أصل التصوف متابعة الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة، فقال في مقدمته: «وأصله -أي التصوف- أن طريقه هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة، وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والـهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍ وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسَّلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختصَّ الـمقبلون على العبادة باسم الصوفية والـمتصوفة»(6). ويؤكد ابن خلدون على هذا الـمعنى، حيث يرى أن تدوين التصوف لم يكن بدعة ابتدعها القوم، وإنـما كان كتدوين العلوم الشرعية الأخرى، فيقول: «فلما كتبت العلوم ودونت، وألفت الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقهم، فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله الـمحاسبي في كتاب [الرعاية] له، ومنهم من كتب في أدب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب [الرسالة]، والسهروردي في كتاب [عوارف الـمعارف] وأمثالـهم. وجمع الغزالي بين الأمرين في كتاب [الإحياء]، فدوَّن فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بيَّن آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتـهم في عباراتـهم. وصار علم التصوف في الـملة عِلمًا مُدونًا، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط، وكانت أحكامها إنـما تُتَلقى من صدور الرجال، كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك»(7). كما أن الـمستشرقين شهدوا أن التصوف أصوله إسلامية، ومتابعة الكتاب والسنة من أسسه، وقد نقل ذلك الأستاذ الدكتور/ أمين يوسف عودة في بحثه(8)، حيث قال: «ولم يستطع الـمستشرقون أنفسهم، على كثافة دراساتـهم للتصوف، واختلاف أهدافهم(9)، إلا أن يقروا بالـمصدر الإسلامي له. ولعل تجربة نيكولسون في هذا الـمجال، تكون مثالا جيدًا على ذلك حينما تراجع عن آرائه السابقة التي أعلنها سنة 1906، والتي يذكر فيها أن التصوف وليد الأفلاطونية الـمحدثة والـمسيحية والغنوصية. وقد كتب سنة 1921 مقالا يثبت فيه تراجعه، وينفي أن يكون التصوف وليد الثقافات الأجنبية، ويشير إلى أن ظاهرتـي الزهد والتصوف اللتين نشأتا في الإسلام، كانتا إسلاميتين في الصميم(10). أما ماسينيون، فإنه يرى بعد دراسته لـمصطلحات التصوف أن مصادرها أربعة: 1- القرآن الكريم، وهو الـمصدر الرئيسي للمصطلحات الصوفية. 2- العلوم العربية الإسلامية، كالحديث والفقه وغيرها. 3- مصطلحات الـمتكلمين الأوائل. 4- اللغة العلمية التي تكونت في الشرق في القرون الستة الـمسيحية الأولى من لغات أخرى، كاليونانية والفارسية وغيرهما وأصبحت لغة العلم والفلسفة. ثم يشير في نـهاية الأمر إلى أن التصوف الإسلامي قد نشأ من صميم الإسلام نفسه، على الأقل في القرون الثلاثة الأولى(11)، بل إن بعض الـمستشرقين يرى أنه «لا صوفية من غير إسلام»(12).
قائمة المصادر والمراجع: ----------------------- 1- مقدمة ابن خلدون للعلامة عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق: د. حامد أحمد الطاهر، ط1 2004 دار الفجر للتراث. 2- عوارف الـمعارف، عبد القاهر بن عبد الله السهروردي البغدادي، ملحق بنهاية الجزء الخامس من إحياء علوم الدين للغزالي- دار الفكر- بيروت. 3- في التصوف الإسلامي وتاريخه، رينولد نيكلسون - ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة- القاهرة 1956. 4- الرسالة القشيرية في علم التصوف،عبد الكريم بن هوازن القشيري، دار الجيل- بيروت 1990. 5- في أصل مصطلح التصوف ودلالاته [بحث]، أ.د. أمين يوسف عودة، مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول 2003، مجلة تصدر عن الـمركز العلمي الصوفي بالعشيرة المحمدية- القاهرة. 6- ديوان الحلاج (أشعار نسبت إلى الحلاج)، د. كامل مصطفى، دار آفاق عربية، ط2 بغداد 1984.
الهوامش: --------------- (1) ديوان الحلاج (أشعار نسبت إلى الحلاج)، صنعه وأصلحه: د. كامل مصطفى الشيبي، ط2، دار آفاق عربية، بغداد، 1984، صـ107.. (2) نفسه، ص 430. (3) نفسه، ص 433. عوارف الـمعارف ، ص 78.. (4) الرسالة القشيرية، ص 428. (5) الرسالة القشيرية، ص 433. (6) مقدمة ابن خلدون، للعلامة عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق د. حامد أحمد الطاهر، ص(576، 577) الطبعة الأولى 2004، دار الفجر للتراث. (7) الـمرجع السابق، ص 578، 579. (8) بحث أصل مصطلح التصوف ودلالته، للدكتور أمين يوسف عودة،ص 131: 132 [بحث نشر بـمجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول 2003، مجلة تصدر عن الـمركز العلمي الصوفي بالعشيرة الـمحمدية – القاهرة]. (9) يكشف أربري عن أن عددًا لا بأس به من الـمستشرقين، انطلاقًا من موقف منحاز، يرون أن كل فكرة سليمة أو ذات طابع متميز في الإسلام، هي من أصل أجنبي، ويجب أن ينسبوها إلى مصدر من الـمصادر غير الإسلامية، وهذا على حد قوله ليس بالعلم الصادق النزيه. بل هو من أسوأ أشكال التعصب الطائفي. انظر: Arebrry , a . j , An Introduction to the History of Sufism , Oxford , 1942 p.55 (10) في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة: د. أبو العلا عفيفي. الـمقدمة، ص: س – ع.. (11) Introduction to the History of Sufism p.48. ( 12) Stoddart , William , The Mystical Doctrines and Methods of Islam New Delhi , Jaj Company , 1983 , p19-
المصدر: قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية
_________________ أنا الذى سمتنى أمى حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
|