سريان نور الإيمان في القلب : ـــــــــــــــــــــــــــ ( الإيمان : الإيمان كما مر هو الدور الثاني (الطابق الثاني) المندرج في البناء العظيم المسمى بالإسلام. وهو رتبة من الرتب, سَمهِ رتبة أو مرحلة أو درجة أو مقاماً, كما شئت فلا مشاحة في المصطلح ... فالمعنى قريب باعتبارات. وهو بذلك أعلى من الإسلام بدرجة, وليس أعلى من الإسلام كدين, فالإسلام كدين يشمل الإيمان ... والإيمان كدرجة يشمل الإسلام كدرجة لأنه أعلى منه, وقد فرق الله عز وجل بين الإسلام كدرجة (مرحلة ـ مقام ـ رتبة) والإيمان كدرجة (مرحلة ـ مقام ـ رتبة) في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (الأحزاب 35). وعلمنا من قول سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الإمامان البخاري ومسلم أن بينهما فرقاً, فعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم أَعْطَى رَهْطًا، وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ، فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا».فَسَكَتُّ قَلِيلاً، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ: «أَوْ مُسْلِمًا».ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي، وَعَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم. ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ، إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ». ويستفاد من هذا الحديث الآتي: 1 ـ أن الرجل شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالإسلام, وهي شهادة تعتبر فضيلة لهذا الرجل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: «أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ» فهذا الرجل لم يأخذ من العطاء فهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من غيره. 2 ـ هذا الرجل هو جُعيل بن سُراقة زكاه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ووكله النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى ما في قلبه من إسلام, وقال صلى الله عليه وآله وسلّم: «إن جعيلاً خير ملء الأرض من عيينة بن حصن والأقرع بن حابس». فعَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم قَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَرَى جُعَيْلًا؟»، قُلْتُ: مِسْكِينًا كَشَكْلِهِ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: «وَكَيْفَ تَرَى فُلَانًا؟»، قُلْتُ: سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ النَّاسِ، قَالَ: «فجُعَيْلٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا مِلْءَ الْأَرْضِ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَفُلَانٌ هَكَذَا وَلَيْسَ تَصْنَعُ بِهِ مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ رَأْسُ قَوْمِهِ، فَأَنَا أَتَأَلَّفُهُمْ» وفي رواية لمحمد بن إسحاق أَنَّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بن حَابِس مائَة مائَة، وَتَرَكْتَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضَّمْرِيَّ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ، كُلُّهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَلَكِنِّي تَأَلَّفْتهمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ». ومع ذلك حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم له بالإسلام كدرجة ولم يحكم له بالإيمان كدرجة. كما قلنا الإسلام هنا كمرحلة أو درجة يتضمن الإيمان بمعنى التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ... إلى آخره. 3 ـ أن سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أشار إلى التريث في الحكم. 4 ـ أن في أصحاب سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من هو في درجة الصديقية كسيدنا أبي بكر ومنهم الأبرار كسيدنا عبد الرحمن بن عوف ومنهم من هو مؤمن ومنهم من هو مسلم ومنهم المؤلفة قلوبهم. 5 ـ نستفيد من تكرار قول سيدنا سعد بن أبي وقاص: " مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا" أن الصحابة عندهم اعتقاد سليم راسخ بأن العطاء على قدر الإيمان, فدلهم سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن العطاء في الآخرة على قدر الإيمان, وعطاء القلوب على قدر الإيمان هذا حق. أما العطاء الدنيوي من مال وبنون ومتاع وما شابه لا يُشترط فيه الإيمان, بل يكون العكس أحياناً. *ـ كل الأحاديث والآثار التي وردت بنفي الإيمان مقصود بها نفي كمال الإيمان الذي هو درجة (مرحلة ـ رتبة ... ) , وليس مقصوداً بها نفي الإسلام وأصل الإيمان الذي هو الإقرار والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله ... إلى آخره كما جاء عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ». فالمقصود أن من فعل ذلك فهو مسلم عاصٍ وما رواه الإمام البخاري في صحيحه عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، «أَنَّ رَجُلاً كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم، كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم: لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إلا أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ». دال على أن مرتكب هذه الكبيرة لم يخرج عن الإيمان, وأنه وإن كان قد وقع في كبيرة إلا أنه في الوقت نفسه يحب الله ورسوله, ومن يحب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم فقلبه فيه إيمان لا شك في ذلك, ومن الأمثلة الأخرى في أن نفي الإيمان يُقصد به نفي الإيمان كدرجة وليس نفي أصل الإيمان الذي هو معنى الإسلام (فلو كان ذلك لترتب عليه الخروج من الإسلام كما يقول الخوارج والعياذ بالله) قول النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ». وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إذا زَنَى الرَّجُلُ خَرجَ منه الإيمانُ كان عليه كالظُّلَّة، فإذا أقلَعَ رَجَعَ إليه الإيمان». فكل ذلك راجع للإيمان كدرجة وليس أصل الإيمان, وما أجمل ما قاله بعض أهل الله أن الزاني حين يزني خرج منه الإيمان وكان فوق رأسه يظل عليه ويستره حتى لا يتعرض لمقت الله, فإذا تاب العبد رجع إليه الإيمان ودخل قلبه بحال جديد. ومما يدلك على أن نفي الإيمان في هذه الأحاديث معناه نفي كمال الإيمان (كدرجة ورتبة ومرحلة) لا نفي الإسلام وأصل الإيمان ما جاء عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ». فلو فعل المسلم ما يستحق حداً كالقتل أو الزنى أو السرقة لم يخرج من الإسلام, ولم ينتف عنه أصل الإيمان لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ». وذلك دال على أنه على إسلامه وأصل إيمانه في الدنيا والآخرة. وبعد أن كتبت مثال الإسلام وأنه بناء عظيم وطوابق ومثال نقطة مركز الدائرة وما تحتويه الدوائر حسب قربها وبعدها من سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قرأت رواية عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الصادق مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَذَا الْإِسْلَامُ وَدَوَّرَ دَارَةً كَبيرَةً، وَهذَا الْإِيمَانُ وَدَوَّرَ دَارَةً صَغيرَةً فِي وَسْطِ الْكَبِيرَةِ، قَالَ: وَالْإِيمَانُ مَقْصُورٌ فِي الْإِسْلَامِ فَإِذَا زَنَى وَسَرَقَ خَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ففرحت فرحاً شديداً وسجدت لله سجدة شكر, ثم سجدت سجدة شكر أخرى, أن وفقني الله لمثلين أحدهما مطابق والآخر قريب من أمثال أهل البيت الأوائل رضوان الله عليهم الذين قال فيهم سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً, كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وقد ضرب سيدنا ومولانا محمد الباقر المثل بدوائر أكبرها دائرة الإسلام, في وسطها دائرة الإيمان, فإذا وقع العبد في زنا أو سرقة ـ نسأل الله العفو والعافية ـ خرج من الدائرة الصغيرة ولم يخرج من الدائرة الكبيرة, فنعم المثال. وأصل الإيمان: التصديق, وهو ما وقر في القلب بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, أما الإيمان كدرجة أعلى من الإسلام (أو مرحلة) , فسريان نور الإيمان في القلب, هذا السريان يجده المؤمن لا عن استدلال بدليل, ولا عن إقناع عالم ولا فقيه, بل بنور هداية يقذفه الله في قلب عبده المؤمن. بنسبة كبيرة, يبدد هذا النور ظلمات حظ النفس المستولية على القلب, إلا أنه توجد آثار واضحة للنفس, فبصماتها لا زالت منطبعة على جدران القلب, ولا تقر بأن عرشها وصولجانها المغروز في القلب قد اهتز, فتتمرد وتقبل وتدبر وتهجم وتهرب في معركة طويلة, مالم يحدث للمؤمن ترقية وينتقل إلى مقامات ما بعد الإيمان فإن هذه المعركة لا تنتهي إلا بخروج آخر نفس.) ــــــــــــــــــــــــــ من كتاب / على أعتاب الحضرة المحمدية / للأستاذ الدكتور السيد الشريف محمود صبيح حفظه الله ـــــــــــــــــــــــ اللهم صل على سيدنا محمد النور وآله وسلم
_________________ صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله
|