بسم الله الرحمن الرحيم
إن علم الحديث رفيع القدر ، عظيم الفخر ، شريف الذكر ، لا يعتني به إلا كل حبر ، ولا يحرمه إلا كل غمر ، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر ، وكيف لا يكون وهو بيان طريق خير الخلق وأكرم الأولين والآخرين سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ
الحديث : . صحيح ، وحسن ، وضعيف .
ينقسم عند أهله على ثلاثة أقسام : ( صحيح ، وحسن ، وضعيف ) لأنه إما مقبول أو مردود ، والمقبول إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أو لا ، والأول : الصحيح ، والثاني : الحسن ، والثالث المردود .
الأول الصحيح لغة وهو فعيل - بمعنى فاعل - من الصحة ، وهي حقيقة في الأجسام ، واستعمالها هنا مجاز . أو استعارة تبعية .
الصحيح اصطلاحا، وهو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة .
(ما اتصل سنده ) عدل عن قول ابن الصلاح : المسند الذي يتصل إسناده ؛ لأنه أخصر وأشمل للمرفوع والموقوف .
( بالعدول الضابطين ) جمع باعتبار سلسلة السند ، أي بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه ، كما عبر به ابن الصلاح ، وهو أوضح من عبارة المصنف إذ توهم أن يرويه جماعة ضابطون عن جماعة ضابطين ، وليس مرادا .
من غير شذوذ ولا علة ) فخرج بالقيد الأول المنقطع والمعضل والمعلق والمدلس والمرسل على رأي من لا يقبله ، وبالثاني ما نقله مجهول عينا أو حالا ، أو معروف بالضعف ، وبالثالث ما نقله مغفل كثير الخطأ ، وبالرابع والخامس الشاذ والمعلل .
وإذا قيل صحيح فهذا معناه ، لا أنه مقطوع به ، وإذا قيل غير صحيح فمعناه لم يصح إسناده
( أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح ) الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، والسبب في ذلك ما رواه عنه إبراهيم بن معقل النسفي قال : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح .
وعنه أيضا قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه ، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح . قال : وألفته في بضع عشرة سنة .
وقد كانت الكتب قبله مجموعة ممزوجا فيها الصحيح بغيره ، وكانت الآثار في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة ولا مرتبة ، لسيلان أذهانهم وسعة حفظهم ، ولأنهم كانوا نهوا أولا عن كتابتها ، كما ثبت في صحيح مسلم ؛ خشية اختلاطها بالقرآن ، ولأن أكثرهم كان لا يحسن الكتابة ، فلما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين وغيرهم .
فأول من جمع ذلك : ابن جريج بمكة ، وابن إسحاق أو مالك بالمدينة ، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثوري بالكوفة ، والأوزاعي بالشام ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ، وجرير بن عبد الحميد بالري ، وابن المبارك بخراسان . قال العراقي وابن حجر : وكان هؤلاء في عصر واحد فلا ندري أيهم سبق . وقد صنف ابن أبي ذئب بالمدينة موطأ أكبر من موطأ مالك ، حتى قيل لمالك : ما الفائدة في تصنيفك ؟ قال : ما كان لله بقي . قال شيخ الإسلام : وهذا بالنسبة إلى الجمع بالأبواب ، أما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي ، فإنه روي عنه أنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم ، وساق فيه أحاديث ، ثم تلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن تفرد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وذلك على رأس المائتين ، فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا ، وصنف مسدد البصري مسندا ، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا . وصنف نعيم بن حماد الخزاعي المصري مسندا ، ثم اقتفى الأئمة آثارهم ، فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم . . قلت : وهؤلاء المذكورون في أول من جمع ، كلهم في أثناء المائة الثانية ، وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره ، ففي صحيح البخاري في أبواب العلم : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء . وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ : كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق : انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجمعوه . و يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي ، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عمر بن عبد العزيز : ابن شهاب الزهري .
وهما أصح الكتب بعد القرآن ، والبخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ، وقيل : مسلم أصح ، والصواب الأول .
قال ابن الصلاح : وأما ما رويناه عن الشافعي من أنه قال : ما أعلم في الأرض كتابا أكثر صوابا من كتاب مالك ، وفي لفظ عنه : ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك ، فذلك قبل وجود الكتابين .
( والبخاري أصحهما ) أي المتصل فيه دون التعاليق والتراجم وأكثرهما فوائد لما فيه من الاستنباطات الفقهية ، والنكت الحكمية وغير ذلك .
( وقيل مسلم أصح ، والصواب الأول ) وعليه الجمهور ؛ لأنه أشد اتصالا وأتقن رجالا ، وبيان ذلك من وجوه : أحدها : أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلا ، المتكلم فيهم بالضعف منهم ثمانون رجلا ، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون ، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون . ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه ، إن لم يكن ذلك الكلام قادحا .
ثانيها : إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم ، وليس لواحد منهم نسخة كثيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس ، بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر ، وسهيل عن أبيه ، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، وحماد بن سلمة عن ثابت ، وغير ذلك .
ثالثها : إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيهم أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم ، واطلع على أحاديثهم عرف جيدها من غيره ، بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدم عن عصره من التابعين فمن بعدهم ، ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه ممن تقدم عنهم .
رابعها : إن البخاري يخرج عن الطبقة الأولى البالغة في الحفظ والإتقان ، ويخرج عن طبقة تليها في التثبت وطول الملازمة اتصالا وتعليقا ، ومسلم يخرج عن هذه الطبقة أصولا كما قرره الحازمي .
خامسها : إن مسلما يرى أن للمعنعن حكم الاتصال إذا تعاصرا وإن لم يثبت اللقى ، والبخاري لا يرى ذلك حتى يثبت كما سيأتي ، وربما أخرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب أصلا ، إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه أخرج له قبل ذلك معنعنا .
سادسها : إن الأحاديث التي انتقدت عليهما نحو مائتي حديث وعشرة أحاديث ، اختص البخاري منها بأقل من ثمانين ، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر .
وقال المصنف في شرح البخاري : من أخص ما يرجح به كتاب البخاري اتفاق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم ، وأصدق بمعرفة الحديث ودقائقه ، وقد انتخب علمه ولخص ما ارتضاه في هذا الكتاب .
وقال شيخ الإسلام : اتفق العلماء على أن البخاري أجل من مسلم في العلوم ، وأعرف بصناعة الحديث ، وأن مسلما تلميذه وخريجه ، ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره ، حتى قال الدارقطني : لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء . ولم يستوعبا الصحيح ولا التزماه . قيل : ولم يفتهما إلا القليل وأنكر هذا . والصواب أنه لم يفت الأصول الخمسة إلا اليسير ، أعني الصحيحين ، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي .
ولم يستوعبا الصحيح في كتابيهما ولا التزماه أي استيعابه . فقد قال البخاري : ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحاح خشية أن يطول الكتاب وقال مسلم : ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا ، إنما وضعت ما أجمعوا عليه ، يريد ما وجد عنده فيها شرائط الصحيح المجمع عليه ، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم ، قاله ابن الصلاح .
ورجح المصنف في شرح مسلم ، أن المراد ما لم تختلف الثقات فيه في نفس الحديث متنا وإسنادا ، لا ما لم يختلف في توثيق رواته ، قال : ودليل ذلك أنه سئل عن حديث أبي هريرة : " فإذا قرأ فأنصتوا " هل هو صحيح ؟ فقال : عندي هو صحيح ، فقيل لم لم تضعه هنا ؟ فأجاب بذلك .
وقال البلقيني : قيل : أراد مسلم إجماع أربعة : أحمد بن حنبل ، وابن معين وعثمان بن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور الخراساني .
قال المصنف في شرح مسلم : وقد ألزمهما الدارقطني وغيره إخراج أحاديث على شرطهما لم يخرجاها ، وليس بلازم لهما ، لعدم التزامهما ذلك ، قال : وكذلك قال البيهقي : قد اتفقا على أحاديث من صحيفة همام وانفرد كل واحد منهما بأحاديث منها ، مع أن الإسناد واحد .
قال المصنف : لكن إذا كان الحديث الذي تركاه أو أحدهما مع صحة إسناده في الظاهر أصلا في بابه ، ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه ، فالظاهر أنهما اطلعا فيه على علة ، ويحتمل أنهما نسياه أو تركاه خشية الإطالة أو رأيا أن غيره يسد مسده . .
قال ابن الصلاح : والمستدرك للحاكم كتاب كبير يشتمل مما فاتهما على شيء كثير ، وإن يكن عليه في بعضه مقال فإنه يصفو له منه صحيح كثير . قال العراقي : في هذا الكلام نظر . لقول البخاري : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح ، قال : ولعل البخاري أراد بالأحاديث المكررة الأسانيد والموقوفات ، فربما عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين .
زاد ابن جماعة في المنهل الروي : أو أراد المبالغة في الكثرة ، قال : والأول أولى ، قيل : ويؤيد أن هذا هو المراد ، أن الأحاديث الصحاح التي بين أظهرنا - بل وغير الصحاح - لو تتبعت من المسانيد والجوامع والسنن والأجزاء وغيرها لما بلغت مائة ألف بلا تكرار ، بل ولا خمسين ألفا ، ويبعد كل البعد أن يكون رجل واحد حفظ ما فات الأمة جميعه ، فإنه إنما حفظه من أصول مشايخه وهي موجودة .
وقال ابن الجوزي : حصر الأحاديث يبعد إمكانه ، غير أن جماعة بالغوا في تتبعها وحصروها .
قال الإمام أحمد : صح سبعمائة ألف وكسر ، وقال : جمعت من المسند أحاديث انتخبتها من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفا .
قال شيخ الإسلام : ولقد كان استيعاب الأحاديث سهلا لو أراد الله تعالى ذلك ، بأن يجمع الأول منهم ما وصل إليه ، ثم يذكر من بعده ما اطلع عليه مما فاته من حديث مستقل أو زيادة في الأحاديث التي ذكرها ، فيكون كالذيل عليه ، وكذا من بعده فلا يمضي كثير من الزمان إلا وقد استوعبت وصارت كالمصنف الواحد ، ولعمري لقد كان هذا في غاية الحسن .
قلت : قد صنع المتأخرون ما يقرب من ذلك ، فجمع بعض المحدثين عمن كان في عصر شيخ الإسلام زوائد سنن ابن ماجه على الأصول الخمسة ، وجمع الحافظ أبو الحسن الهيثمي زوائد مسند أحمد على الكتب الستة المذكورة في مجلدين ، وزوائد مسند البزار في مجلد ضخم ، وزوائد معجم الطبراني الكبير في ثلاثة ، وزوائد المعجمين الأوسط والصغير في مجلدين ، وزوائد أبي يعلى في مجلد ، ثم جمع هذه الزوائد كلها في كتاب محذوف الأسانيد ، وتكلم على الأحاديث ، ويوجد فيها صحيح كثير ، وجمع زوائد الحلية لأبي نعيم في مجلد ضخم ، وزوائد فوائد تمام وغير ذلك .
وجمع شيخ الإسلام زوائد مسانيد إسحاق ، وابن أبي عمر ، ومسدد ، وابن أبي شيبة ، والحميدي ، وعبد بن حميد ، وأحمد بن منيع ، والطيالسي في مجلدين ، وزوائد مسند الفردوس في مجلد ، وجمع صاحبنا الشيخ زين الدين قاسم الحنفي زوائد سنن الدارقطني في مجلد .
وجمعت زوائد شعب الإيمان للبيهقي في مجلد وكتب الحديث الموجودة سواها كثيرة جدا ، وفيها الزوائد بكثرة فبلوغها العدد السابق لا يبعد ، والله أعلم .
والصحيح أقسام : أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم مسلم ، ثم على شرطهما ، ثم على شرط البخاري ، ثم مسلم ، ثم صحيح عند غيرهما . يتبع إن شاء الله ـ تعالى ـ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تدريب الراوي
_________________ يارب بالــمــصـطــفى بــلـغ مـقـاصــدنا --- واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
واغفر إلهى لكل المسلمين بما --- يتلون فى المسجد الأقصى وفى الحرم
بجاه من بيته فى طيبة حرم --- واسمه قسم من أعظم القسم
|