[b]قال الشيخ العارف القدوة المحقق ، تاج العارفين. ، ولسان المتكلمين ، إمام وقته ، ووحيد عصره ، تاج الدين أبو الفضل ، أحمد بن محمد بن عبدالكريم بن عطاء الله السكندري ونفعنا به ، آمين.... الحمد لله . المنفرد بالخلق والتدبير . الواحد في الحكم والتقدير . الملك الذي ليس له في ملكه وزير ، الملك الذي لا يخرج عن ملكه صغير ولا كبير. المتقدس في كمال وصفه عن الشبيه و النظير . المنزَّه في كمال ذاته عن التمثيل والتصوير . العليم الذي لا يخفى عليه ما في الضمير ، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. العالم الذي أحاط علمه بمبادئ الأمور ونهاياتها . السميع الذي لا فضل في سمعه بين ظاهر الأصوات وخفيَّاتها. الرازق وهو المنعم على الخليقة بإيصال أقواتها . القيوم المتكفل بها في جميع حالاتها . الوهاب وهو الذي منّ على النفوس بوجود حياتها. القدير وهو المعيد لها بعد وجود وفاتها. الحسيب وهو المجازي لها يوم قدومها عليه بحسناتها وسيئاتها. فسبحانه من إله ؛ منّ على العباد بالجود قبل الوجود. وقام بهم بأرزاقهم على كلتى حالاتهم من إقرار وجحود. ومدّ كل موجود بوجود عطاءه. وحفظ وجود العالم بإمداد بقائه. وظهر بحكمته على أرضه وقدرته في سمائه. ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة عبد مفوِّض لقضائه ، مسلَّم له في حكمه وإمضائه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. المفضَّل على جميع أنبيائه ، المخصوص بجزيل فضله وعطائه ، الفاتح الخاتم ، وليس ذلك لسوائه ، الشافع لكل العباد حين يجمعهم الحق لفصل قضائه . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، المستمسكين بولائه ، وسلم تسليماً كثيراً. اعلم يا أخي ! جعلك الله من أهل حبه ‘ وأتحفك بوجود قربه ‘ وأذاقك من شراب أهل وده ، وأمنَّك بدوام وصلته من إعراضه وصده ، ووصلك بعباده الذين خصهم بمراسلاته ، وجبر كسر قلوبهم لمَّا علموا أنه لا تدركه الأبصار لنور تجلياته ، وفتح لهم رياض القرب ، وهب منها على قلوبهم واردات نفحاته ، أشهدهم سابق تدبيره فيهم ؛ فسلموا إليه القياد ، وكشف عن خفي لطفه في منعه ؛ فتركوا المنازعة والعناد ، فهم مستسلمون إليه ومتوكلون عليه . أما بعد... فقد قال : يحشر المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل . فإذا علمت أيها الأخ الشقيق : فلا تخالل إلا من ينهضك حاله ، ويدلك على الله مقاله . وذلك هو الفقير المتجرد عن السوى ، المقبل على المولى . فليست اللذة إلا مخاللته ، ولا السعادة إلا خدمته ومصاحبته . فلذلك قال الشيخ العارف المتمكن أبو مدين رضي الله عنه : ما لــذة العيش إلا صحبة الفقــرا هــم السلاطين والسادات والأمــرا أي ما لذة عيش السالك في طريق مولاه ، إلا صحبة الفقرا - والفقراء جمع فقير - والفقير هو المتجرد عن الخلائق ، المعرض عن العوائق ، لم يبق له قبلة ولا مقصد إلا الله تعالى ، وقد أعرض عن كل شيء سواه ، وتحقق بحقيقة لا إله إلا الله محمد رسول الله . فمثل هذا مصاحبته تذيقك لذة الطريق ، وتريق في جميع فؤادك من شراب القوم أهنى رحيق ، ويعرِّفك الطريق ، ويقطع لك العتاب ، ويزيل عن قلبك التعويق ، وينهضك بهمته ، ويرفعك إلى أعلى الدرجات . ومن كان كذلك ؛ فهو السلطان على الحقيقة ، والسيد على أهل الطريقة ، والأمير على أهل البصيرة . فلا تخالف أيها السالك طريقه ؛ فاجتهد أيها السالك المجد في تحصيل هذا الرفيق ، واصحبه وتأدب في مجالسه ، يزيل عنك ببركة صحبته كل تعويق ، كما قال رضي الله تعالى عنه : فاصحبهم وتأدب فــي مجالســهم وخلِّ حظــك مهمــا قدموك ورا أي اصحب الفقراء ، وتأدب معهم في مجالستهم ؛ فإن الصحبة شبح والأدب روحها ، فإذا اجتمع لك بين الشبح والروح ؛ حزت فائدة صحبته ، وإلا كانت صحبتك ميتة ! ؛ فأي فائدة ترجوها من الميت ..!!. ومن أهم أدب الصحبة : أن تخلَّف حظوظك وراك ، ولا تكن همتك مصروفة إلا لامتثال أوامرهم ؛ فعند ذلك يشكر مسعاك . فإذا تخلقت بذلك فبادر ، واستغنم الحضور ، وأخلص في ذلك ؛ ترفع درجتك ، وتعلو همتك . والحضور كما قال رضي الله عنه : واستغنم الوقــت واحضر دائماً معهــم واعلــم بأن الرضا يختص مــن حضرا أي واستغنم وقت صحبة الفقرا ، واحضر دائماً معهم بقلبك ، وقالبك ؛ تسري إليك زوائدهم ، وتغمرك فوائدهم ، وينضح ظاهرك بالتأدب بآدابهم ، ويشرق باطنك بالتحلي بأنوارهم . فإن من جالس جانس ؛ فإن جلست مع المحزون حزنت ، وإن جلست مع المسرور سررت ، وإن جلست مع الغافلين سرت إليك الغفلة ، وإن جلست مع الذاكرين انتبهت من غفلتك ، وسرت إليك اليقظة ، فإنهم القوم لا يشقى جليسهم ؛ فكيف يشقى خادمهم ، ومحبهم ، وأنيسهم . وما أحسن ما قيل : لي سادةٌ من عزِّهم ... أقدامهم فوق الجبـاه إن لم أكن منهم فلي ... في حبهم عزٌّ وجــاه واعلم أن هذا الرضا ، وهذا المقام ، يخصُّ من حضر معهم بالتأدب ، وخرج عن نفسه ، وتحلى بالذلة والإنكسار . فأخرج عنك إذا حضرت بين أيديهم ، وانطرح ، وانكسر ، إذا حللت بناديهم ؛ فعند ذلك تذوق لذة الحضور . واستعن على ذلك بملازمة الصمت ؛ تشرق لك أنوار الفرح ، ويغمرك السرور . كما قال رضي الله عنه : ولازم الصمت إلا إن سئلــت فقــل لا علــم عندي وكن بالجهل مســتترا الصمت عند أهل الطريقة ؛ من لازمه ارتفع بنيانه ، وتم غراسه ، وهو نوعان : صمت باللسان ، وصمت بالجنــان ، وكلاهما لا بد منه في الطريق . فمن صمت قلبه ، ونطق لسانه ؛ نطق بالحكمة . ومن صمت لسانه ، وصمت قلبه ؛ تجلى له سره ، وكلمه ربه ، وهذا غاية الصمت ، وكلام الشيخ قابل لذلك . فالزم الصمت أيها السالك ، إلا إن سئلت . فإن سئلت ؛ فارجع إلى أصلك ووصلك ، وقل لا علم عندي ، واستتر بالجهل ؛ تشرق لك أنوار العلم اللدني . فانك مهما اعترفت بجهلك ، ورجعت إلى أصلك ؛ لاحت لك معرفة نفسك . فإذا عرفتها ؛ عرفت ربك ، كما روى في الحديث : " من عرف نفسه ؛ عرف ربه " . وكل ذلك من فوائد الصمت ، ولزوم آدابه . فاصمت ، وتأدب ، ولازم الباب ؛ تكن من أحبابه . وما احسن ما قيل: لا أبرح البــاب حتى تصلحوا عوجــي وتقبــلوني عــلى عيبي ونقصاني فإن رضيتــم فيا عزِّي ويا شرفــــي وإن أبيتــم فمن أرجــو لعصياني فانهض أيها الأخ إلى باب مولاك بهمة علية ، وتحقق بعبوديتك ؛ تشرق عليك أنواره السنية ، كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله : ولا تــرى العيب إلا فيــك معتقداً عيبــاً بدا بيناًً لكنه اســتترا أي تحقق بأوصافك من فقرك ، وضعفك ، وعجزك ، وذِلَّتك . فإذا تحققت بأوصافك ، وشهدت لنفسك عيوباً - لكنها مستترة - فعند ذلك تحظى بظهور أوصاف مولاك فيك ، كما قيل : "سبحان من ستر سر الخصوصية في ظهور البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية ، وافهم من هنا سـر معنى قوله : سبحان الذي أسرى بعبده ولم يقل برسوله ، ولا بنبيه . أشار إلى ذلك المعنى الرفيع الذي لا يُنال إلا من العبودية ، ولذلك قيل : لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي فانكسر أيها الأخ ، وانطرح بالطريق ، ولا ترَ لك حالاً ولا مقالاً ؛ يزل عنك كل تعويق . واستغفر من كل ما يخطر بقلبك في عبوديتك ، وقم على قدم الاعتراف ، وانصف من نفسك ؛ تبلغ أعلى درجات المنازل ، وتفنى بشريتك . كما قال - رضي الله تعالى عنه - : وحط رأســك واستغفر بلا ســبب وقف عــلى قدم الإنصاف معتــذراً أي تواضع وانكسر ، وحط اشرف ما عندك - وهو رأسك - في أخفض ما يكون - وهي الأرض - لتحوز مقام القرب . كما ورد في الحديث : " أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى وهو ساجد " ، لأن قرب العبد بتواضعه ، وانكساره ، وخروجه عن أوصاف بشريته . واشهد نفسك دائماً مذنباً ، ولو لم يظهر عليك سبب الذنب ، فإن العبد لا يخلو من تقصير . وقف على قدم الإنصاف من ذنوبك ، خجلاً من سيئاتك وعيوبك . فإن من عامل المخلوق هذه المعاملة ؛ أحبَّه ، ولم يشهد له ذنباً ، وكانت مساويه عنده محاسن . فكيف إذا عامل بهذه المعاملة صاحبه الحقيقي ، الذي إذا تحققه ليس له صاحبٌ سواه ، كما ورد في الحديث : " اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل والمال والولد " . فتأهب أيها الأخ لهذه المعاملة مع إخوانك الفقراء ؛ لتصير لك معراجا تتوصل بها إلى معاملة رب السماء ، وتكون مقبولا عند الخلق والخالق ، وتصفو لك المعاملة ، وتشرق عليك أنوار الحقائق . قال رضي الله عنه : وإن بــدا منــك عيب فاعتذر وأقم وجه اعتــذارك عمَّــا فيك منك جرى وقـل عبيدكمــو أولى بصفحكمــو فســامحوا وخذوا بالرفــق يا فقــرا هــم بالتفضِّـل أولى وهو شيمتهــم فــلا تخـف دركـا منهــم ولا ضررا أي ليكن شأنك دائماً التواضع ، والانكسار ، وطلب المعذرة والاستغفار ، سواء وقع منك ذنب ، أولم يقع . وإن بدا منك عيب ، أو ذنب ، فاعترف واستغفر ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له . وليس الشأن أن لا تذنب ، إنما الشأن أن لا تصرَّ على الذنب ، كما ورد : " أنين المذنبين عند الله ، خيرٌ من زجل المسبحين " عجباً وافتخارا . ولذلك قلتُ في الحكم : ربما فتح لك باب الطاعة ، وما فتح لك باب القبول وقضى عليك بالذنب ؛ وكان سببا للوصول . معصيةٌ أورثت ذلا وانكسارا ، خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً . ومع اعترافك ، واستغفارك ، أقم وجه اعتذارك عما جرى منك ؛ فيكون ذلك ممحي للذنب، وادخل في القبول . وذِل ، وتواضع ، وانكسر ، وقل عبيدكم أولى بصفحكم ، لأن العبد ليس له إلا باب مولاه . وما احسن ما قيل : ألقيت في بابكم عنانـي ... ولم أبالِ بما عنانـــي فزال قبضي وزاد بسطي ... وانقلب الخوف بالأمانِِ فسامحوا عُبيْدَكم يا فقرا ، وخذوا بالرفق ، وعاملوني به ، فإني عبد فقير ، لا يصلحني إلا المعاملة بالرفق والفضل ، ولا اعتماد لي إلا على الفضل ، لا بحولي ، ولا قوتي ،... مذهبي العجز ، والسلام . ثم قال رضي الله عنه : إنهم أولى بهذا الشيء - وهو شيمتهم - ولم يزالوا متفضلين ، وهذه معاملتهم مع أصحابهم - وهي سجيتهم . وكيف لا تكون سجيتهم ، وهم متخلقون بأخلاق مولاهم ، كما ورد : " تخلقوا بأخلاق الله " . فلا تخف منهم ضرراً أيها السالك المصاحب لهم ، وتمسك بأذيالهم ، فإنهم القوم لا يشقى جليسهم . فإذا عرفت ذلك أيها السالك : فتخلق بأخلاقهم الكريمة ، وجُـد بالتفتِّي على الإخوان ، وغض الطرف عن عثرتهم ؛ تكن آخذا من أوصافهم أحسن هيئة . قال رضي الله عنه: وبالتفتِّي علــى الإخوان جد أبــدا حســاً ومعنىً وغض الطــرف إن عثرا أي وتكرم على إخوانك ، وجد عليهم أبداً ، بما في الحس فببذل الأموال ، وأما في المعنى فبصرف همة الأحوال . ولا تبخل عليهم بشيء يمكنك إيصاله إليهم ، فإن السماحة لب الطريق ، ومن تخلق بها ؛ فقد زال عن قلبه كل تعويق . قال الشيخ عبدالقادر - رضي الله عنه : إخواني ،... ما وصلت إلى الله تعالى بقيام ليل ، ولا صيام نهار ، ولا دراسة علم ، ولكن وصلت إلى الله بالكرم ، والتواضع ، وسلامة الصدر . فدل كلام الشيخ - رضي الله عنه - أن الكرم هو الأساس ، وأن التواضع يتم للسالك به الغراس . فإذا تم له هذان الأمران ؛ سلم صدره من العلائق ، وزال عن طريقه كل عائق . ولذلك ورد في الحديث : " إن في الجنة لغرفاً ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " . فتأمل هذا الحديث يا أخي ، حيث بدأ بإلانة الكلام : وهو إشارة إلى التواضع ، ثم ثنى بإطعام الطعام : وهو إشـارة إلى الكرم ، ثم أتى بعد ذلك بالصلاة والصيام ، كما أشار إليه الشيخ عبدالقادر . فانهض أخي إلى هذه المآثر وبادر .واجمع معها حسن مكارم الأخلاق . وغض الطرف عن مساوئ الإخوان - إن وقفت منهم على عثرة - ولا تشهد إلا محاسنهم ، كما قال - رضي الله عنه - في حكمه الفتوحية : " رؤية محاسن العبيد ، والغيبة عن مساويهم ؛ ذلك شيء من كمال التوحيد " .كما قيل: إذا ما رأيت الله في الكل فاعلاً ... رأيت جميع الكائنات ملاحاً فإذا تخلقت أيها الأخ بهذه الخصال الشريفة ، فقد تأهلت للإقبال على الشيخ ؛ فانهض إلى عتبة بابه ، وراقبه بهمَّة منيفة ، كما أشار إلى ذلك الشيخ رضي الله عنه بقوله: وراقــب الشيخ في أحواله فعــسى يرى عليك مــن استحســانه أثرا أي إذا تخلقت بما تقدم من الآداب ، ووصلت بافتقارك وانكسارك إلى الشيخ ، وتمسكت بأثر تلك الأعتاب ، فراقب أحواله ، واجتهد في حصول مراضيه ، وانكسر ، واخضع له في كل حين ؛ فإنه الترياق والشفا ، وإن قلوب المشايخ ترياق الطريق . ومن سعد بذلك ؛ تم له المطلوب ، وتخلص من كل تعويق . واجتهد أيها الأخ في مشاهدة هذا المعنى ، فعسى يرى عليك من استحسانه لحالك أثرا . قال بعضهم : " من أشد الحرمان ، أن تجتمع مع أولياء الله تعالى ولا ترزق القبول منهم ، وما ذلك إلا لسوء الأدب منك ، وإلا فلا بخلٌ من جانبهم ، ولا نقصٌ من جهتهم " . كما قلت في الحكم : ما الشأن وجود الطلب ، إنما الشأن أن تورث حسن الأدب. زار بعض السلاطين ضريح أبي يزيد - رضي الله عنه - وقال : هل هنا أحد ممن اجتمع بأبي يزيد ؟ فأشير إلى شيخ كبير في السن - كان حاضراً هناك - فقال له : هل سمعت شيئاً من كلامه ؟ فقال : نعم ..!.. قال : " من زارني لا تحرقه النار " . فاستغرب السلطان ذلك الكلام !.. ؛ فقال : كيف يقول أبو يزيد ذلك ، وأبو جهل رأى النبي وهو تحرقه النار ، فقال ذلك الشيخ للسلطان : أبو جهل لم يرَ النبي ، إنما رأى يتيم أبي طالب ، ولو رآه ..!..لم تحرقه النار... ففهم السلطان كلامه ، وأعجبه هذا الجواب منه ، أي أنه لم يره بالتعظيم والإكرام واعتقاد أنه رسول الله ، ولو رآه بهذا المعنى ؛ لم تحرقه النار . ولكنه رآه باحتقار واعتقاد أنه يتيم أبي طالب ؛ فلم تنفعه تلك الرؤية . وأنت يا أخي ! لو اجتمعت بقطب الوقت ، ولم تتأدب ؛ لم تنفعك تلك الرؤية ! ؛.... بل كانت مضرتها عليك أكثر من منفعتها !. إذا فهمت ذلك أيها السالك : فتأدب بين يدي الشيخ ، واجتهد أن تسلك أحسن المسالك ، وخذ ما عرفت بجد واجتهاد ، وانهض في خدمته ، وأخلص في ذلك ؛ لتسد مع من ساد . كما قال : وقــدّم الجـد وانهـض عند خدمتـه عســاه يرضى وحـاذر أن تكـن ضجرا
ففي رضـاه رضـى البـارى وطاعـته يرضــى عليـك فكن من تركه حـذرا أي وانهض في خدمة الشيخ بالجد فعساك تحوز رضاه ؛ فتسود مع من ساد . واحذر أن تضجر ، ففي الضجر الفساد ، ولازم أعتاب بابه في الصباح والمساء ، لتحوز منه الوداد . وما أحسن ما قيل: اصبر علــى مضض الإدلاج في السَّــحَر وللنذور علــى الطــاعات بالبكــر وقل من جــدَّ في أمــر يؤمِّلُــــه ما استصــحب الصبر إلا فــاز بالظفر فإن ظفرت أيها السالك برضاه ؛ رضي الله تعالى عنك ، ونلت فوق ما تمنيت . فاستقم أيها الأخ في رضى شيخك ، وطاعته ؛ تظفر بطاعة مولاك ورضاه ، وتفوز بجزيل كرامته . فعض أيها الأخ بالنواجذ على خدمة الشيخ ، إن ظفرت بالوصول إليه ، واعلم أن السعادة قد شملتك من جميع جهاتك إذا عرفك الله تعالى به ، وأطلعك تعالى عليه ، فإن الظفر به لا سيما في هذه الأيام أعز من الكبريت الأحمر . واعلم أن طريق القوم دارسة ، وحال من يدعيها كيف ترى ، لكن إذا ساعدتك العناية ؛ ظفرت ، وشممت من نفحة طيبه ما يفوق المسك الأذفر . ولذلك قال - رضي الله تعالى عنه وعنَّا به - آمين: واعلــم بأن طريق القوم دارســة وحــال من يدعيها اليــوم كيف ترى متى أراهــم وأنى لي برؤيتهـــم أو تســمع الأذن مني عنهم خبـــرا من لي وأنى لمثــلي أن يزاحمهــم عــلى موارد لم آلف بهــا كــدرا أحبــهم وأداريهـم وأوثرهــم بمهــجتي وخصــوصاً منهم نفــرا شرع الشيخ رضي الله عنه يشوِّق السالكين إلى طريق أهله ، ويخبرهم أن طريقهم دارسةٌ ، وحال من يدعيها اليوم كما ترى في الفترة ؛ حتى كادت الهمم أن تكون من الطلب آيسة . وهكذا شأن طريق القوم لعزتها ، كأنها في كل عصر مفقودة ، ولا يظفر بها إلا الفرد بعد الفرد ، وهذه سنة معهودة . وذلك أن الجوهر النفيس لا يزال عزيز الوجود ، يكاد لعزته يُحْكَم بأنه ليس بموجود ، والطريق أهلها مخفيُّون في العالم خفاء ليلة القدر في شهر رمضان ، وخفاء ساعة الجمعة في يومها ؛ حتى يجتهد الطالب في طلبه بقدر الإمكان ، فإن من جدَّ وجد ، ومن قرع الباب ولج . قلتُ بعد أن ذكر " لا بد من الشيخ في الطريق " - على سبيل السؤال والجواب - كيف تأمرنا بذلك ! وقد قيل " إن وجود الشيخ كالكبريت الأحمر ! وكالعنقاء ! من ذا الذي بوجودها يظفر ! "..كيف تأمرني بتحصيل من هذا شأنه ؟ فقال : لو صدقتَ في الطلب ! وكنتَ في طلبه كالطفل والظمآن ! لا يقر لهم قرار ! ولا تسكن لوعتهم حتى يظفروا بمقصودهم ! . فأشار الشيخ - رضي الله تعالى عنه - إلى أن الشيخ موجود ، وكيف لا يكون موجودا ، وعمارة العالم إنما هي بأمثاله . فإن العالم شخص ، والأولياء روحه ، فما دام العالم موجودا ؛ لا بد من وجودهم . لكن لشدة خفائهم ، وعدم ظهورهم ؛ حكم بفقدانهم . فاجتهد أيها الأخ ، واصدق في الطلب ؛ تجد المطلوب. واستعن على ذلك الطلب بمدد علام الغيوب . فإن الظفر لا يحصل إلا بمجرد فضله. وإذا أوصلك للشيخ ؛ فقد أوصلك إليه، كما قلت في الحكم : " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " . ثم إن الشيخ - رضى الله عنه - لما ذكر عزَّة الطريق وفقدان أهلها ؛ شرع يتأسف على الاجتماع بهم ، ويتمناه ، ويستبعد من نفسه حصول ذلك ، والتشرف بلقائه - تواضعاً منه وانكساراً ، وهضماً لنفسه واحتقاراً- ، ولذا قال بعد ذلك : من لي وأنَّى لمثلي أن يزاحمهم.. إلخ ، وهذا شأن العارف لنفسه بنفسه ، الممتلي بمعرفة ربه ، المتحلي بواردات قدسه ؛ لأنه لا يرى لنفسه حالاً ولا مقالاً ، بل يرى نفسه أقل من كل شيء ، وهذا هو النظر التام ، كما قيل: إذا زاد علم المرء زاد تواضعـاً...وإذا زاد جهل المرء زاد ترفَّعاً وفي الغصن من حمل الثمار مثاله...فإن يعزُّ عن حمل الثمار تمنعـاً فانظر إلى الشيخ أبي مدين ورفعته في الطريق ، مع أنه وصل من تربيته اثني عشر ألف مريد ، وانظر إلى هذا التنزل منه والتدلي بأغصان شجرة معرفته ، إلى أرض الخضوع والانكسار حتى أنه لم ير نفسه أهلاً للاجتماع بأهل هذه الطريقة ، ويزيده هذا الانخفاض من الارتفاع ؛ لأن الشجرة لا يزيدها انخفاضها في عروقها إلا ارتفاعا في رأسها . فتواضع أيها الأخ في الطريق ، وخذ هذا الأصل العظيم من هذا العارف المتمكن ؛ يزل عنك كل تعويق . ثم قال - رضي الله تعالى عنه - بعد ذلك : " أحبهم .... الخ " ، أي : وإن لم أكن أنا منهم ، فإني أحبهم ، ومن احب قوماً فهو منهم ، كما ورد في الحديث : " المرء مع من أحب " ، وكما قيل : أحب الصالحين ولستُ منهــم....لعلى أن أنالَ بهم شفاعـة وأكره من كانت بِضَاعته المعاصي....وإن كنا سواء في البضاعة وهذا أيضاً منه - رضي الله تعالى عنه - من تمام التنزل السابق ، وتكميلاً وتتميماً ؛ ولهذا تواضع الذي لم يلحق جواد شرفه في ميدانه لاحق . نفعنا الله تعالى ببركاته ، ووفنا من معاملاته ، لأن هذه خصال القوم وصفاتهم ؛ ولذلك ارتفعت رتبهم ، وجزلت عطيتهم ، كما وصفهم - رضى الله تعالى عنه – بقوله : قوم كــرام السجايا حيث ما جلســوا يبــقى المكان على آثارهم عطــرا يهــدى التوصف من أخلاقهم طــرقا حســن التألف منهــم راقني نظرا هم أهــل ودي وأحبابي الذين هـــم ممــن يجر ذيــول العز مفتخــرا لا زال شملــي بهــم في الله مجتمعــا وذنبنــا فيه مغفــورا ومغتفــرا ثم الصــلاة على المختـــار سيدنا محمــد خير من أوفى ومن نـــذرا أي قوم سجاياهم كريمة، وهمتهم عظيمة ، حيثما جلسوا ؛ تبقى آثار نفحات عطرهم في المكان ظاهرة ، وأينما توجهوا ؛ تسطع شمس معارفهم ؛ فتشرق القلوب ، وتصلح بهم الدنيا والآخرة . يهدي التصوف للسالك المشتاق من أخلاقهم طرقا مجيدة ، تدل على الطريق ، ويسير في سلوكه سيرة حميدة . فلذلك جمعوا أحسن تأليف ؛ حتى راق كل ناظر ، وجد وفي أكمل معنى لطيف ؛ حتى اكتحلت بكحل أثمدهم أنوار البصائر . ولذلك قال الشيخ - رضي الله تعالى عنه - بعد ذلك : " هم أهل ودي وأحبابي ..الخ " ، فإن الشخص لا يحب إلا من جانسه ، ولا يود إلا من كان بينه وبينه مؤانسة ، وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه - رضي الله تعالى عنه - من جملتهم ، وطينته من طينتهم ، وما تقدم منه في التواضع والانكسار ؛ دليل على التحقيق في هذا المجد والفخار ، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك ؛ فنسأل الله تعالى أن يسلك بنا أحسن المسالك . ثم دعا وسأل ، أنه لا يزال شمله مجتمعا بهم في الله تعالى ، وذنبه مغفورا . ونحن نسأله أيضاً ، إتمام الصلاة والسلام على سيدنا محمد المختار ، خير من أوفى ، ومن نذر ، ومن أكرم الجار، وعلى آله وصحبه السادة الأبرار ، والتابعين ، وتابعيهم بإحسان إلى يوم القرار. وهذا الرَقْم ، لمن تعطش ليله في معاني هذه الأبيات ، وإلا فنحن معترفون بالعجز والتقصير عن معانيها ، وانما الأعمال بالنيات ، والله أعلم. ( من كتاب للسيد / فوزي ابو زيد)
[/-
_________________ في كل رواق للحسين يوجد سيف و بطلين
|