من كتاب بحر الدموع لابن الجوزى
الفصل الأول يا أسير دنياه، يا عبد هواه، يا موطن الخطايا، ويا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك: إليك عنا فما تحظى بنجوانا ... يا غادرا قد لها عنا وقد خانا أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا ... وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا بأي وجه نراك اليوم تقصدنا ... وطال ما كنت في الأيام تنسانا يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع ... إلا لمجتهد بالجدّ قد دانا يا من باع الباقي بالفاني، أما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الوصال، وما أمرّ أيام الهجران، ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدا وقياما. عن عبد العزيز بن سلمان العابد، قال: حدثني مطهر، وقد كان بكى شوقا إلى الله تعالى ستين عاما، قال: رأيت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الإذفر، وحافاته شجر اللؤلؤ، وطينة العنبر، وفيه قضبان الذهب، وإذا بجوار مترنمات يقلن بصوت واحد: سبحانه وتعالى سبحان، سبحان المسبّح بكل لسان سبحان الموجود في كل مكان نحن الخالدات فلا نموت أبدا. نحن الراضيات، فلا نغضب أبدا. نحن الناعمات، فلا نتغيّر أبدا. قال: فقلت لهن: من أنتن؟! فقلن: خلق من خلق الله تعالى. قلت: ما تصنعن هاهنا؟ فقلن بصوت واحد حسن مليح: ذرانا اله الناس رب محمد ... لقوم على الأطراف بالليل قوم
يناجون رب العالمين إلههم ... ونسرى هموم القوم والناس نوم فقلت: بخ بخ! من هؤلاء الذين أقر الله أعينهم؟ قلن: أما تعرفهم؟! قلت: لا والله ما أعرفهم. فقلن: هم المجتهدون بالليل، أصحاب السهر بالقرآن. وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إذا أذنب العبد، وتاب إلى الله، وحسنت توبته، تقبل الله منه كل حسنة عملها، وغفر له كل ذنب اقترفه، ويرفع له بكل ذنب درجة في الجنة، ويعطيه الله بكل حسنة قصرا في الجنة، ويزوجه الله حورا من الحور العين". وفي الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود، بشر المذنبين، وأنذر الصديقين، فتعجب داود عليه السلام، فقال: يا رب، فكيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟! قال الله تعالى: يا داود، بشر المذنبين ألا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر الصديقين إلا يعجبوا بأعمالهم، فأني لا أضع حسابي على أحد إلا هلك. يا داود، إن كنت تزعم أنك تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك، فان حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد. يا داود، من أحبني، يتهجد بين يدي إذا نام البطالون، ويذكرني في خلوته إذا لها عن ذكري الغافلون، ويشكر نعمتي عليه إذا غفل عني الساهون". وأنشدوا: طوبى لمن سهرت بالليل عيناه ... وبات في قلق من حب مولاه وقام يرعى نجوم الليل منفردا ... شوقا إليه وعين الله ترعاه قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "البرّ لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديّان لا يفنى. كن كيف شئت كما تدين تدان". ما هذا، أتدري ما صنعت؟ بعت القرب بالبعد، والعقل بالهوى والدين بالدنيا.
يتبع
_________________
مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم
|