موقع د. محمود صبيح
https://www.msobieh.com:443/akhtaa/

من مقومات الرجولة (علو الهمة)
https://www.msobieh.com:443/akhtaa/viewtopic.php?f=4&t=21385
صفحة 1 من 1

الكاتب:  هارون [ الجمعة فبراير 27, 2015 10:41 pm ]
عنوان المشاركة:  من مقومات الرجولة (علو الهمة)


تعريف الهمة

فالهمة مأخوذة من الهم، والهم هو ما هُمَّ به من أمر ليفعل، والهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فتكون همة عالية وهمة سافلة، وفي المصباح: الهمة بالكسر هي: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية.
وقيل: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني: أن الهمة العالية هي عبارة عن نشدان الكمال الممكن، فالإنسان لا يرضى إلا بأعلى المراتب في كل شيء، ولا يصبو إلا إلى ما أمكنه أن يصل إليه من الكمالات في كل الأحوال، وينظر إلى كل ما دون هذا الكمال نظرة استصغار.
فإذاً: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وقيل: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.

ويقول الجرجاني في التعريفات: الهم هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، سواءً كان هذا الهم هماً بخير أم هماً بشر.
أما الهمة فهي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره.


علو الهمة

علو الهمة شرف عظيم، لا يبلغه إلا عظماء الرجال وأساطينهم، وقد بلغ سلف الأمة إلى ذروة العزة والمجد؛ وما ذاك إلا بإيمانهم وعلو همتهم، فيجب على كل مسلم أن يكون عالي الهمة، مترفعاً عن سفاسف الأمور، عزيزاً بدينه لا يقبل فيه المساومة.


تفاوت الناس في علو الهمة

والناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً؛ حسب حظهم من الهمة، يقول الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، فالهمة هي رزق من الله عز وجل، فـ {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن فاضل بين خلقه في قواهم العملية، كما فاضل بينهم في قواهم العلمية، يقول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب بن الزبير: أتمنى ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله.
فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه -أي: أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الفقه- وأن يحمل عنه الحديث.
فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه.
فانظر إلى الهمة كيف تتفاوت، ولعلها كانت -والله أعلم- ساعة إجابة، فكل من تمنى نال ما تمنى، فـ مصعب طلب الإمارة والزوجتين، مع صعوبة تحصيل زواج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، كما هو معروف، لكن مع ذلك نالهما، وعروة طلب الفقه والحديث، فآتاه الله ذلك، وعبد الملك طلب الخلافة فنالها، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه طلب الجنة، ولعله قد نالها.
فهذا يدل على تفاوت الهمم في الناس؛ فمن الناس من ينشط للسهر في سماع سمر، حتى لو كان سمراً حلالاً؛ ليتحدث مع أصدقائه ومجالسيه، وينشط لهذا، وتأتيه همة، وما يشتكي التثاؤب ولا النوم ولا غير ذلك، وبعض الناس عنده قوة وتصميم في الشر، فيسهر إلى الواحدة أو الثالثة صباحاً أمام الأفلام والفيديو والمسرحيات وهذه الأشياء، فانظر كيف واقع الناس يصدق قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
ومنهم من يحفظ بعض القرآن، ثم يتوقف، ولا يستمر إلى التمام، ومنهم من يعرف الفقه، ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليل، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيقها، ومن كان هذا حاله فهو مغتر بالأماني الكاذبة، قال الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركاباً ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص، فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر: ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي أي: أنه كان نحيلاً، فيعلل سر هذا النحول فيقول: ولكل جسم في النحول بلية أي: ممكن أن الإنسان يكون هزيلاً بسبب مرض أو بسبب سوء تغذية أو غير ذلك من الأسباب، ويمكن أن يكون بسبب همته العالية التي تستخدم بدنه وترهقه في سبيل تحصيل مطالبه، ولذا قال: وبلاء جسمي من تفاوت همتي يعني: من علو همتي.
وقال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وآخر يقول: وقائلة لم غيرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت ذريني على غصتي فإن الهموم بقدر الهمم ولما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الخلافة خيَّر امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على شرط أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكت جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره من شدة البكاء، ثم اختارت رحمها الله تعالى مقامها معه على كل حال.
وقال رجل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما ولي الخلافة: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين! فأجابه قائلاً: قد جاء شغل شاغل وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا غ لنا إلى يوم القيامه وهذا الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله يقول: الجسم تذيبه حقوق الخدمة والقلب عذابه علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب والراحة ماتت فعليها الرحمة

فائدة الهمة ونتائجها

والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها، قال أحد الصالحين: همتك تحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال.
وعن عبيد الله بن زياد بن ضبيان قال: كان لي خال من كلب كان يقول لي: يا عبيد! هم؛ فإن الهمة نصف المروءة.
وقد بين الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الهمة مولودة مع الآدمي يقول رحمه الله: وما تقف همة إلا لخساستها، يعني: المفترض في الهمة أنها تظل تطلب طلباً معيناً، فتحققه، ثم تصبو إلى ما هو أعلى، فإذا أنجزته تصبو إلى ما هو أعلى، وهكذا.
فالهمة لا تعرف السكون أبداً، بل تتطلع إلى ما هو أعلى وأسمى، فإذا وقفت فهذه علامة خساستها وخبث طبع صاحبها.
يقول: وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزاً فاسأل المنعم، أو كسلاً فاسأل الموفق؛ فلن تنال خيراً إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه ثم مضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟ وقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، بسبب عجز أو كسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان والهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، بأن يذكرها ويسألها: رضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه، فعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا، فحضر العدو، فصيح في الناس -يعني: نودي بالجهاد- فوثبوا إلى مصافهم، وكان هناك رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه.
وكان هذا الرجل واقفاً، ولا يشعر بأن هذا يقف ويسمعه، وكان يخاطب نفسه ويقول: ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك.
فقلت: لأرمقنه اليوم -أي: سأراقب هذا الرجل إلى ما ينتهي أمره- قال: فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا -يعني: انهزموا- فكان في حماتهم، أي كان مع الطائفة التي تحميهم وتدافع عنهم، ثم إن الناس حملوا مرة ثانية، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس، فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.رحمه الله تعالى.
فلابد لكل من يسلك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى من هذين الجناحين؛ ليطير بهما، ولا يستقيم حال المرء إذا اقتصر على واحد منهما.
فالمرء لابد له من همة تحمله، وعلم يبصره ويهديه، فالقوة العلمية مع القوة العملية لا بد منهما، فمثلاً: من يريد أن يسافر إلى بلد معين لا شك أنه يحتاج إلى خريطة بالموقع والمكان الذي يريد أن يقصده، وفي نفس الوقت يحتاج إلى دابة أو سيارة، وهذه السيارة لابد لها من وقود، فالخريطة هي القوة العلمية التي تدله لكي يصل إلى هذا المكان، والوقود هذا هو القوة العملية، أو قوة الإرادة التي تمكنه من الحركة والانبعاث؛ لتحصيل هذا المقصود.


بعض خصائص عالي الهمة

من خصائص كبير الهمة: أنه يعلم تماماً أنه بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى، يعني: أن ثمن الهدف العالي الذي يصبو إليه أن يكون هناك جهد جهيد يبذله؛ كي يصل إلى هذا الهدف، فلا يغرق في أحلام اليقظة والأماني الكاذبة، ولا يغتر بالأماني وهو لا يسعى في تحصيلها؛ فلابد لكل سلعة من ثمن يليق بها، فعالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر عليها إلا على جسر من التعب، كما يقول الشاعر: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب ويقول آخر: فقل لمريد معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا ويقول آخر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ويقول آخر: والذي يركب بحراً فيرى قحم الأهوال من بعد قحم أي: قد تروم هذه الغاية.
ويقول آخر: الذل في دعة النفوس ولا أرى عز المعيشة دون أن يشقى لها كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يصوم حتى يعود كالخلال، أي: حتى يصبح نحيفاً كالأعواد التي يخلل بها الأسنان، فقيل له: لو أجممت نفسك؟ يعني: أرح نفسك، فقال: (هيهات؛ إنما يسبق من الخيل المضمرة)، فالفرس الذي يسبق لا يكون فرساً سميناً مليئاً بالشحوم، لكن كلما كان هزيلاً ورشيقاً كان أقوى على أن يسبق.
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
وقيل: فيا وصل الحبيب أما إليه بغير مشقة أبداً طريق يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: تعالى: وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، ومن تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله! يعني: أن كل ما فيه أهل الجنة هو عبارة عن أنهم صبروا في الدنيا ساعات، كما قال عز وجل حاكياً عن المجرمين: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113].
وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي: وإذا كانت النفوس كباراً تبعت في مرادها الأجسام وقال ابن الرومي: قلب يظل على أفكاره وئد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة البدن.
ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، أما في هذه الدار فكلا، ولا يمكن أبداً؛ فمن أراد الراحة والنعيم واللذة فلن ينالها هاهنا في الدنيا؛ لأن الدنيا لابد أن تنغص بالمشاق والكدور والآلام والعناء، ولا يمكن أن تكون دار راحة ونعيم ولذة، وآية ذلك أن الأنبياء الذين هم أكرم الخلق على الله منهم من قتل، ومنهم من عانى المرض كأيوب عليه السلام، ومنهم من عانى الفقر، ومنهم من لقي الأذى، فجميع الأنبياء بلا شك عانوا وبذلوا وتعبوا في هذه الدنيا، وأوذوا فيها؛ لهوانها على الله سبحانه وتعالى، فليست هي دار إكرام عباد الله سبحانه وتعالى.
وهنا يذكر الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كلاماً في غاية الجودة والإفادة في هذه النقطة بالذات، يقول رحمه الله: كبير الهمة دوماً في عناء، وهو أبداً في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولن تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن.
ثم يرى أن المراد من العلم العمل، وهو يتكلم هنا عن عذاب عالي الهمة، وبنفس الوقت تجد أن هذا عذاب له لذة، وله هذا الطعم الحسن.
يقول: ثم يرى أن المراد العمل؛ فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، فهو محتاج أيضاً من المال والنفقة إلى ما لابد منه لقوام عيشه، ويحب الإيثار، أي: أن من أخلاق عالي الهمة الإيثار، فحتى لو كان معه مال فسيؤثر غيره، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، فصفة الكرم تدعوه إلى البذل، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم.





صفحة 1 من 1 جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين
Powered by phpBB © 2000, 2002, 2005, 2007 phpBB Group
http://www.phpbb.com/