أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم الدورقي ، أخبرنا جعفر بن محمد بن أحمد المؤدب ، حدثنا محمد بن يونس ، حدثنا شداد بن علي الهزاني - وكان من العباد ، قد لصق بطنه بظهره : حدثنا عبد الواحد بن زيد ، قال : مررت براهب فناديته : يا راهب ، من تعبد ؟ قال : الذي خلقني وخلقك . قلت : فعظيم هو ؟ . قال : عظيم المنزلة ، قد جاوزت عظمته كل شيء . قلت : فمتى يروق العبد الإنس بالله ؟ قال : إذا عفا الود وخلصت المعاملة . قلت : فمتى يصفو الود ؟ . قال : إذا اجتمع الهم فصار في الطاعة . قلت : فمتى تخلص المعاملة ؟ . قال : إذا كان الهم هما واحدا . قلت : كيف تخليت بالوحدة ؟ . قال : لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك . قلت : ما أكبر ما يجد العبد من الوحدة ؟ . قال : الراحة من مداراة الناس ، والسلامة من شرهم . قلت : بما يستعان على قلة المطعم ؟ . قال : بالتحري في المكسب ، والنظر في الكسرة . قلت : زدني ؟ . قال : كل حلالا وإن قل حيث شئت . قلت : فأين طريق الراحة ؟ . قال : خلاف الهوى .
قلت : ومتى يجد العبد الراحة ؟ . قال : إذا وضع قدمه في الجنة . قلت : لم تخليت من الدنيا وتعلقت في هذه الصومعة ؟ . قال : لأنه من مشى على الأرض عثر وخاف اللصوص ، فتعلقت فيها وتحصنت بمن في السماء من فتنة أهل الأرض ، لأنهم سراق العقول ، فخفت أن يسرقوا عقلي ، وذلك أن القلب إذا صفا ضاقت عليه الأرض ، وأحب قرب السماء ، وفكر في قرب الأجل ، فأحب أن يوكل إلى ربه . قلت : يا راهب ، من أين تأكل ؟ . قال : من زرع لم أبذره ، بذره اللطيف الخبير الذي نصب الرحا ، يأتيها بالطحين ، وأشار إلى ضرسه . قلت : كيف ترى حالك ؟ قال : كيف يكون حال من أراد سفرا بلا أهبة ، ويسكن قبرا بلا مؤنس ، ويقف بين يدي حكم عدل . ثم أرسل عينيه فبكى / . قلت : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت أياما مضت من أجلي لم أحقق فيها عملي ، وفكرت في قلة الزاد ، وفي عقبة هبوط إلى جنة أو إلى نار . قلت : يا راهب ، بما يستجلب الحزن ؟ قال : بطول الغربة ،وليس الغريب من مشى من بلد إلى بلد ، ولكن الغريب صالح بين فساق . ثم قال : إن سرعة الاستغفار توبة الكذابين ، لو علم اللسان مما يستغفر الله لجف في الحنك ، إن الدنيا منذ يوم ساكنها الموت ما قرت لها عين ، كلما تزوجت الدنيا زوجا طلقه الموت ، والدنيا من الموت طالق لم تقض عدتها ، فمثلها كمثل الحية لين مسها والسم في جوفها . ثم قال الراهب : يا هذا ، كما لا يجوز الزائفة من الدراهم كذلك لا يجوز كلامهم إلا بنور الإخلاص ، إن الفضة السوداء لتزخرف بالفضة
البيضاء ، ثم قال : عند تصحيح الضمائر يغفر الله الكبائر ، فإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته من السماء الفتوح ، والدعاء المستجاب الذي تحركه الأحزان . قلت : أكون معك يا راهب وأقيم عليك . قال : ما أصنع بك ؟ ومعطي الأرزاق وقابض الأرواح يسوق إلي الرزق ، في وقت لم يكلفني جمعه ، ولم يقدر على ذلك أحد غيره ، والسلام عليك .
المصدر: المنتخب للخطيب البغدادي (94\97)