حديث الرجل الصالح ....
هو رجل مغربى منقطع للعبادة فى جبل .
لم يشأ أن يذكر اسمه ولا مكانه ...
هو عبد الله فى أرض الله .
يلبس بردا من الصوف ، ويجلس على الأرض بغير فراش ، ويتوسد الحجر ...
وما رأيت معه إلا بعض كتب مخطوطة ...وما رأيتن ضاحكا ...
وما رأيته رافعا بصره فى طريق .
يكسب حياته من غزل الصول .
ولا يأكل إلا بضع ثمرات ...فإذا إرتحل ...فأعشاب الطريق زاده...
وهو مورد الوجه يفيض صحة وإشراقا .
قال لى :
أكثر من صحبة الصالحين فإن فيهم الشفعاء .
قلت له :
ومن هم الصالحون ؟
قال :
لباسهم ما ستر ...وطعامهم ما حضر ... أبرار ، أخفياء ، أتقياء ...
إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا .... تحابوا فى روح الله على غير أموال ولا أنساب ...
يتعارفون فى الله ، ويحبون فى الله ، ويكرهون فى الله .
يقول الله عنهم يوم القيامة : أين المتحابون بجلالى ....اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى .
قلت له :
هل لهم وجود فى هذه الأيام ؟
قال :
خلت الديار ، وباد القوم ، وأرتحل أرباب السهر ، وبقى أهل النوم ، وأستبدل الزمان بآكلى الشهوات أهل الصوم ...
لم يبقى إلا أقزام مهازيل ، خثالة كخثالة الشعير أمثالنا لا يبالى الله بهم .
قلت له :
ما رأيك فى أهل هذا الزمان ؟
قال فى حسرة :
إعترفوا بالله وتركوا أمره ، وقرءوا القرآن ولم يعملوا به ، وقالوا نحب الرسول ولم يتبعوا سنته ، وقالوا نحب الجنة وتركوا طريقها ،
وقالوا نكره النار وتسابقوا إليها ، وقالوا أبليس لنا عدو وأطاعوه ، ودفنوا أمواتهم ولم يعتبروا بهم ، واشتغلوا بعيوب إخوانهم ونسوا عيوبهم ،
وجمعوا المال ونسوا الحساب ، وبنوا القصور ونسوا القبور .
لقد كنا فى زماننا نحلم بالحج إلى مكة والقدس والموت بهما ...
وأنتم جاءتكم فرصة الشهادة إلى بابكم بالقدس ..فماذا فعلتم ؟
ولم أجد إجابة أجيبه بها .
أما هو فراح يبكى ويغمغم بين دموعه .
والله لولا عباد ركع ، وصبية رضع ، وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا .
وحينما تركته كان قد بدأ ينشد :
وشمس على المعنى مطالع أفقها ......فمغربها فينا ومشرقها منا
وحينما كانت نغمات انشاده تذوب فى الهواء كانت ذاكرتى تعود بى إلى لقائى بالمتصوف الهندى براهما واجيسوارا الذى رويت حديثه فى كتابى
"الخروج من التابوت "..ولا أدرى لماذا أحسست أنى أمام نفس الرجل ...
كان كلاهما يقول كلاما واحدا ، ويتكلم نفس اللغة ، وكأنما يجلسان على مائدة واحدة ...ويقرآن من نفس الكتاب .
وتذكرت حديثى مع المتصوف المغربى ، عبد العزيز بن عبد الله ...وكيف كان يقول لى إن التصوف الهندى هو الذى أخذ منا ولم نأخذ منه ،
وإن تجار بابل وفارس وعلماءها كانوا ينقلون دياناتنا الشرقية إلى الهند من أيام إبراهيم الخليل ، بدليل دخول الكلمات العربية
فى الكلمات السنسكريتية ...
لقد كنا نعطى دائما ..
ولقد أخذ منا الكل ..
واحتوت دياناتنا على الحق كله ...
والتصوف الإسلامى إحتوى بين دفتيه على كل الطرائق بما فيها البوذية واليوجا .
كنت أسير مستغرقا فى التفكير .. وكان إنشاد الفقير الماربى مازال يرن فى أذنى :
وشمس على المعنى مطالع افقها .....فمغربها فينا ومشرقها منا .
نعم ...إن الشمس تغرب فينا الآن....
فمتى يكون مشرقها منا ؟؟..
من كتاب / مغامرة فى الصحراء
مصطفى محمود .
