موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 7 مشاركة ] 
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: الفرق بين الغنى وعبد الغنى
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأحد يوليو 29, 2007 11:42 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يونيو 19, 2006 6:59 pm
مشاركات: 143
مكان: هنانتغا
القلب يتعلق بالمال والفلوس

وبظن صاحب القلب المحجوب عن الله

ان من عنده بعض من المال يعنى غنى انه يستطيع ان يجلب عليه نفع او رفع ضر

فيحاول ان يتقرب الى هذا الشخص باى طريق

و يحاول ان يصرف عنه اى شخص يظن انه ياخذ مكانه

وانتم اعلم ان هناك ناس تفعل الحرام من اجل هذا

مثل الغيبة والنميمة وغيره الكثير

الله يا احباب نبغى لا سوى الله الله الله

هو الغنى

هذا الرجل الذى لا حول له

لا يملك المالك هو الله

هذا الرجل الغنى هو فقير الى الله

فلماذا نخوض فى بعض ونكره بعض لماذا لا نقدم النصح بالمعروف

كما هو معلوم للجميع من نصح فى جمع فقد شانه

الله قال تكرار أنه مالك الارض ومن فيها والسماء ومن فيها

الله قال عن نفسه انه هو الغنى

الله قال انا الرزاق

ما علينا احبابى ان نقراء كتاب اسقاط التدبير لابن عطاء الله رضى الله عنه وما احلى الجلوس فى مقامة هناك ما لا اقدر ان أصف


اخوكم والصلاة والسلام على رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء أغسطس 01, 2007 4:51 pm 
غير متصل

اشترك في: الأحد يونيو 19, 2005 3:33 pm
مشاركات: 2280
مكان: الحسين
[fot][font=Tahoma]الله سبحانه وتعالى مالك الارض ومن فيها والسماء وما فيها

الله سبحانه وتعالى هو الغنى

الله سبحانه وتعالى الرزاق [/font]
[/fot]


[fot][font=Tahoma]وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى }الضحى8

ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ
فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا
وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }التغابن6

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى }النجم48

قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }البقرة267


{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }آل عمران97


وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً }النساء131

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ }الأنعام133

َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة28

قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }يونس68

وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ }إبراهيم8

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }الحج64
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ }النمل40

وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ }العنكبوت6

{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }لقمان12

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }لقمان26

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }فاطر15

إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }الزمر7

َاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد
38
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }الحديد24


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }الممتحنة6


{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }التغابن6
[/font]
[/fot]

_________________
انا فى جاه رسول الله


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت أغسطس 04, 2007 1:04 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يونيو 19, 2006 6:59 pm
مشاركات: 143
مكان: هنانتغا
لا تعقيب بعد كلام الله


بوركتى أسأل الله العظيم أن تكونى من أهل النعيم فى الدارين وكل الاحباب


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 06, 2007 3:28 am 
غير متصل
Site Admin

اشترك في: الاثنين فبراير 16, 2004 6:05 pm
مشاركات: 24573

بغض النظر عن المقصود بكلام الفاضل محمد عيد ,

روى الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" لا بأس بالغني لمن اتقى

والصحة لمن اتقى خير من الغني

وطيب النفس من النعيم"



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين أغسطس 06, 2007 5:58 pm 
غير متصل

اشترك في: الثلاثاء مارس 09, 2004 7:41 pm
مشاركات: 1823
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

قد يكون حجاب الولى كثرة الغنى و إنبساط الدنيا عليه .
من كتاب لطائف المنن لإبن عطاء الله السكندرى رضى الله عنه ، الباب التاسع ...

قد يكون حجاب الولى كثرة الغنى و إنبساط الدنيا عليه .
قال بعض المشايخ ، كان رجل بالمغرب من الزاهدين فى الدنيا و من أهل الجد و الإجتهاد. و كان عيشه مما يصيده من البحر، و كان الذى يصيده يتصدق ببعضه و يتقوت ببعضه. فأراد بعض أصحاب هذا الشيخ أن يسافر إلى بلد من بلاد المغرب فقال له هذا الشيخ : إذا دخلت إلى بلد كذا فاذهب الى أخى فلان فأقرئه منى السلام و تطلب الدعاء منه لى فإنه ولى من أولياء الله تعالى.
قال: فسافرت حتى قدمت تلك البلدة فسألت عن ذلك الرجل فدللت على دار لا تصلح إلا للملوك فتعجبت من ذلك و طلبته فقيل لى : هو عند السلطان فإزداد تعجبى فبعد ساعة ، و إذا هو أتى فى أفخر ملبس و مركب ، و كأنما هو ملك فى موكبه قال فإزداد تعجبى أكثر من الأول ، قال فهممت بالرجوع و عدم الإجتماع به ثم قلت لا يمكننى مخالفة الشيخ فاستأذنت فأذن لى فلما دخلت رأيت ما هالنى من العبيد و الخدم و الشارة الحسنة.
فقلت له : أخوك فلان يسلم عليك .
قال : جئت من عنده ؟
قلت : نعم .
قال : إذا رجعت اليه قل له : إلى كم إشتغالك بالدنيا ؟ و إلى كم إقبالك عليها ؟ و إلى متى لا تنقطع رغبتك فيها ؟
فقلت : هذا و الله أعجب من الأول.
فلما رجعت الى الشيخ قال : إجتمعت بأخى فلان؟ ، قلت : نعم ، قال : فما الذى قال لك ؟ قلت : لا شئ ، قال : لا بد أن تقول لى ، فأعدت عليه ما قال ، فبكى طويلاً ، و قال : صدق أ خى فلان ، هو غسل الله قلبه من الدنيا و جعلها فى يده و على ظاهره و أنا أخذها من يدى و عندى إليها بقايا التطلع .


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أغسطس 07, 2007 2:07 am 
غير متصل
Site Admin

اشترك في: الاثنين فبراير 16, 2004 6:05 pm
مشاركات: 24573

قد يكون

قد يكون

قد يكون

وقد يكون الحجاب شدة الفقر؟؟

روى الإمام مسلم 4/2098) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

" إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها

فينظر كيف تعملون

فاتقوا الدنيا

واتقوا النساء

فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت في النساء"

وفى رواية أحمد والترمذى وغيرهما " فناظر كيف تعملون"

وما أجمل مارواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" لا بأس بالغني لمن اتقى

والصحة لمن اتقى خير من الغني

وطيب النفس من النعيم"

وقول ابن عطاء الله رضى الله عنه

"قد يكون حجاب الولى كثرة الغنى و إنبساط الدنيا عليه"

له شرح طويل, فلا تفهم المعنى اللفظى للكلام .



أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة:
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء أغسطس 07, 2007 9:36 am 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يونيو 19, 2006 6:59 pm
مشاركات: 143
مكان: هنانتغا
[size=150]الفهرســــــــت
مقدمة التحقيق
التدبير عند أولي البصائر

مقدمة المؤلف
طريان التدبير

التسليم وعدم التدبير
تنبيه وإعلام

تقوية الحق لعبده
هدم قواعد التدبير

فقدان الحرج ووجود التسليم
سر خلق التدبير والاختيار

مقامات اليقين
التدبير في شأن الرزق

من أسباب إسقاط التدبير
حكمة اختبار الله للإنسان

بيان وإعلام
وما خلقت الجن والإنس إلا..

التدبير والاختيار
ضمان الله للعباد

أكل آدم لم يكن عنادا
اقتران الخلق والرزق

تنبيه واعتبار
وجوب أمر الأهل بالصلاة

ترتيب وبيان
الصبر والصلاة

مقام العبودية
أسرار الصلاة

بنو إسرائيل والتيه
قم بخدمتنا ونحن نقوم لك بقسمتنا

أفضل الكرامات
أهل المعرفة بالله

الموقنون العابدون
أمر الرزق

ولاية الله للمؤمنين
تفضيل الآدمي

رعاية الله لمن وجهوا هممهم إليه
شأن الرزق

قواعد التدبير ومنازعة المقادير
وجود السبب لا ينافي التوكل

إظهار الفاقة إليه تعالى
حكمة الأخذ بالأسباب

سر قول إبراهيم "حسبي من سؤالي"
أوجه الإجمال في الطلب

إظهار رتبة الخليل
التوكل والأخذ بالأسباب

تنبيه وإعلام
حكم الادخار

عبرة وهداية
ادخار الأنبياء إمساك بالأمانة

أقسام التدبير
طالب العلم تكفل الله برزقه

الناس على قسمين
شرح ما قاله الشيخ أبو العباس

ذم الأشياء ومدحها
أحوال العبد بالنسبة إلى الرزق

الموازنة بين المتسبب والمتجرد
أمثلة للمدبرين مع الله تعالى

ما ينبغي للمتسببين
مناجاة الحق

من غض بصره فتح الله بصيرته
خاتمة ودعاء

بسم الله الرحمن الرحيم


منشورات منتديات دار الإيمان
http://www.daraleman.org/forum



كتاب
التنوير في إسقاط التدبير

لتاج العارفين ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه






بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
مقدمة التحقيق
↑↑
اللهم أنا نضرع إليك، ونهرول نحوك، ونجاهد نفوسنا في خدمتك وطاعتك، ونركب الصراط القويم الذي رسمته لنا إلى مرضاتك، فقونا بقوتك، وأعزنا بعزتك، واحفظنا بقدرتك، وألهمنا رشدك وتوفيقك، وبلغنا الدرجة العليا، وارحمنا برحمتك التي وسعت بها كل شيء علما.

وامنحنا اللهم برك وجودك، وإحسانك وإنعامك، واجعلنا من القاصدين إليك، ومن المتوكلين عليك، ومن الداعين بدعوتك والسالكين صراطك المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
اللهم لك الحمد حمدا يوافي نعمك، ويليق بكمالك، ونسألك اللهم أن تصلي وتسلم على خير أحبابك، وخاصة أنبيائك، عبدك ونبيك، وخيرتك من خلقك ورسولك، سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسلته بالحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

فكان صلوات الله عليه، للعالمين رحمة، وبالمؤمنين رؤوفا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه، ونصره واتبعوا النور الذي أنزل معه، فسلكوا طريقه، وكرعوا من بحر شريعته وحقيقته، حتى صاروا بصفائهم وخوفهم من مولاهم في أمن وسلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
↑↑
فـ (الحمد لله الذي خلع على أوليائه خلع إنعامه فهم بذلك له حامدون، واختصهم بمحبته، وأقامهم في خدمته، فهم على صلاتهم يحافظون، ودعاهم إلى حضرته، وأظهر فيها مراتبهم، فالسابقون السابقون، أولئك المقربون، وفتح لهم أبواب حضرته، ورفع عن قلوبهم حجاب بعده فهم بين يديه متأدبون. ولاطفهم بوده، وأمنهم من إعراضه وصده، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ونور بصائرهم بفضله، وطهر سرائرهم، وأطلعهم على السر المصون. وصانهم عن الأغيار، وسترهم عن أعين الفجار، لأنهم عرائس ولا يرى العرائس المجرمون. فإذا مر عليهم ولي من أولياء الله ينسبونه إلى الزندقة والجنون وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون. فمنهم المنكر لكراماتهم، ومن المنقص لمقاماتهم، ومنهم الثالب لأعراضهم، ومنهم المعترضون يعترضون على أحوالهم، ويخوضون بجهلهم في مقالهم، وبهم يستهزئون، {الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}. فسبحان من قرب أقواما، واصطفاهم لخدمته، فهم على بابه لا يبرحون. وسبحان من جعلهم نجوما في سماء الولاية، وجعل أهل الأرض بهم يهتدون. وسبحان من أباحهم حضرة قربه، والمنكرون عليهم عنها مبعدون. فالأولياء في جنة القرب متنعمون، والمنكرون في نار الطرد والبعد معذبون، لا يسئل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة شهد بها المؤمنون. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، عبده ورسوله النور المخزون، والسر المصون. اللهم فصل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وصحبهم أجمعين.
↑↑
وبعد: فيقول صلوات الله وسلامه عليه، فيما رواه البخاري ومسلم:
(ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ويقول أيضا فيما رواه البخاري:
(الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا اله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).

ويقول الفقيه العالم ابن عابدين في حاشيته:
"إن علم الإخلاص والحب، والحسد، والرياء، فرض عين، ومثلها غيرها من آفات النفوس، كالكبر، والشح، والحقد، والغش، والغضب، والعداوة، والبغضاء، والطمع، والبخل، والبطر، والخيلاء، والخيانة، والمداهنة، والاستكبار عن الحق، والمكر، والمخادعة، والقسوة، وطول الأمل، ونحوها مما هو مبين في ربع المهلكات من الإحياء، قال فيه: ولا ينفك عنها بشر، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجا إليه". ويقول صاحب الهداية العلائية أيضا: "وقد تظاهرت نصوص الشرع والإجماع على تحريم الحسد واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، والكبر، والعجب، والرياء والنفاق، وجملة الخبائث، من أعمال القلوب، بل السمع والبصر والفؤاد، كل ذلك: كان عنه مسئولا مما يدخل تحت الاختبار".
↑↑
أما صاحب مراقي الفلاح فانه يقول:
"لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة بالإخلاص والنزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد وتطهير القلب عما سوى الله من الكونين، فيعبده لذاته لا لعلة، مفتقرا إليه وهو يتفضل بالمن لقضاء حوائجه المضطر بها عطفا عليه، فتكون عبدا فردا للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه، ولا يستملك هواك عن خدمتك إياه".

هاهي نصوص وآثار، تبين بحق أن صلاح القلب للجسد، وفساد القلب فساد للجسد، وأن ذكر الله تعالى ـ يعني قوله لا اله إلا الله أعلا شعب الإيمان، وأن العجب، والحسد، والرياء، والكبر، والشح، والحقد، والغش، والغضب، والعداوة.. الخ من الخصال الممقوتة، والخبائث المحرمة، التي نهى الله عنها، وأمرنا باجتنابها، وجهاد النفس من أجلها، وتنقية القلب من أوضارها.

بيد أن الطهارة الظاهرة لا تنفع إلا مع الطهارة الباطنة، وأن الطهارة الباطنة لا تكون إلا بالإخلاص والنزاهة عن الغل والغش، والحقد والحسد، وتطهير القلب عما سوى الله تعالى. ذلك: أن الإجماع، ونصوص الشرع الحكيم، تظاهرت على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين... الخ.
↑↑
ولما كان علم التصوف هو العلم الذي اختص بمعالجة هذه الأمراض القلبية، وتزكية النفس والتخلص منها. لما كان علم التصوف كذلك، بل لما كان علم التصوف هو الذي اهتم بهذا الجانب القلبي، فضلا عما يقابله من العبادات البدنية والمالية الأخرى، أثرنا أن يكون عملنا الذي نبتغي به وجه الحق سبحانه، إبراز أحد كنز علم من أعلام التصوف الذي يعالج ذلك كله.
↑↑
هذا الكنز الذي جمع بين علمي الشريعة والحقيقة، والذي يعد بحق: دليلا واضحا للحائرين، ومنهجا قويما للسالكين، ودربا واسعا يسير فيه العارفون بالله رب العالمين هو كتاب: "التنوير في إسقاط التدبير" الذي يقول الشيخ ابن عباد في وصفه، وفي وصف الحكم العطائية: "... وهما أخوان من أب واحد، وأم واحدة"، والذي قال عنه ابن عجيبة حينما أراد أن يتحدث عن ابن عطاء الله، وعدم تدبيره: (... وقد ألف الشيخ رضي الله عنه فيه كتابا سماه: "التنوير في إسقاط التدبير" أحسن فيه وأجاد.

وكتاب التنوير الذي بين أيدينا، انفرد بهذا الإعجاب حتى افتتن به الكثير من رجال القلوب والبصائر، وأسلموا قيادهم لله سبحانه، بسبب ما كشف لهم فيه من غوامض سر عدم تدبيرهم، وسقوط اختيارهم، وذلك لما اشتمل عليه من فوائد مفيدة، في التوجيه والإرشاد إلى التسليم، وعدم منازعة المقادير، والتزام الخلق بإسقاط التدبير مع الخالق.
↑↑
من هذه الفوائد المفيدة التي أوضحت مفهوم التدبير الذي قصد إليه الكتاب، والذي نؤيده عن إقناع: "اعلم أن الأشياء إنما تذم وتمدح بما تؤدي إليه، فالتدبير المذموم: ما شغلك عن الله، وعطلك عن القيام بخدمة الله، وصدك عن معاملة الله. والتدبير المحمود: هو الذي يؤديك إلى القرب من الله، ويوصلك إلى مرضاته."
ولم يقف ابن عطاء الله عند هذا الحد، بل انه استفاض في وضوح: التباين بين التوكل والتواكل، فعاب على التواكل وحذر منه، ورغب في العمل وحث عليه، انظر إليه وهو يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدنيا)، يقول: "أي التي توصلكم إلى طاعة الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (فنعمت مطية الدنيا)".
فمدحها من حيث كونها مطية، لا من حيث أنها دار اغترار. وإذ قد علمت هذا فقد فهمت إن إسقاط التدبير ليس هو الخروج عن الأسباب حتى يعود الإنسان ضيعة فيكون كلاً على الناس، فيجهل حكمة الله في إثبات الأسباب وارتباط الوسائط، وقد جاء عن عيسى عليه السلام، أنه مر بمتعبد فقال له: من أين تأكل؟
فقال أخي يطعمني. فقال: أخوك أعبد منك.
أي أخوك وإن كان في سوقه، أعبد منك، لأنه هو الذي أعانك على الطاعة وفرغك لها.
وكيف يمكن أن ينكر الدخول في الأسباب بعد أن جاء قوله تعالى:
{وأحل الله البيع وحرم الربا}.
وقوله: {واشهدوا إذا تبايعتم}
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(أحل ما أكل المرء من كسب يمينه وإن داود نبي الله كان يأكل من كسب يمينه).
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(أفضل الكسب عمل الصانع بيده إذا نصح).
وقال صلى الله عليه وسلم:
(التاجر الأمين الصدوق المسلم مع الشهداء يوم القيامة).
↑↑
فكيف يمكن أحد بعد هذا أن يذم الأسباب؟
لكن المذموم منها ما شغلك عن الله وصدك عن معاملته.
هذا وقد اتسع حرص صاحب التنوير على الأخذ بالأسباب والحث على العمل فقال: (إن في الأسباب صيانة للوجوه عن الابتذال بالسؤال وحفظا لبهجة الإيمان أن تزول بالطلب من الخلق، فما يعطيك الله من الأسباب فلا منة فيه لمخلوق عليك، إذ لا يمن عليك أحد إن اشترى منك أو استأجرك على عمل شيء، فانه في حظ نفسه سعى، ونفع نفسه قصد، فالسبب أخذ منه بغير منة).
وقبل أن أنهي القول أقول:
إن معنى التدبير الذي عناه صاحب التنوير هو تدبير الدنيا للدنيا، ومعنى ذلك: أن يدبر الإنسان في أسباب جمعها افتخارا بها واستكثارا، وكلما ازداد فيها شيئا ازداد غفلة واغترارا.
أما تدبير الدنيا للآخرة: كأن يدبر الإنسان المتاجر والمكاسب والغراسات، ليأكل منها حلالا ولينعم بها على ذوي الفاقة أفضالا وليصون بها وجهه عن الناس إجمالا فذلك هو التدبير المحمود الذي يحبه الله ورسوله، وحث عليه ابن عطاء الله في كتابه الذي نحن بصدده.
ومهما يكن من شيء، فحسب ما جاء من كتاب التنوير في إسقاط التدبير تأييدا قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
(إن الله جعل الروح والراحة في الرضا واليقين).
وقول أحمد بن مسروق:
"من ترك التدبير فهو في راحة".
وقول سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه:
"لا تختر من أمرك شيئا، واختر أن لا تختار، وفر من ذلك المختار ومن فرارك ومن كل شيء، إلى الله تعالى، وربك يخلق ما يشاء ويختار".
وقول سهل بن عبد الله:
"ذروا التدبير والاختيار فإنهما يكدران على الناس عيشهم".
أما الشيخ أبو محمد عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه، فله في هذا المعنى كلام نفيس أيضا يقول فيه:
"من لم يكن في دعائه تاركا لاختياره، راضيا باختيار الحق تعالى له، فهو مستدرج وهو ممن قيل فيه:(اقضوا حاجته فإني أكره أن أسمع صوته)". فإن كان مع اختيار الله تعالى، لا مع اختياره لنفسه كان مجابا وإن لم يعط، والأعمال بخواتيهما.
↑↑
ها هو كتاب (التنوير في إسقاط التدبير) الذي اخترنا إبرازه في صورة واضحة، لما له من أهمية يعجز الوصف عن توضيحها، ذلك لما احتوى عليه من تنوير الأذهان، وتهذيب النفوس، وتوطين القلوب على الإذعان لله، والتسليم لأحكامه، وإسقاط التدبير في أي شيء معه سبحانه، وعدم منازعة مقاديره تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
أما العلم العامل، الولي الزاهد العارف، القطب الشهير الواصل، الذي عرف ربه فهرول إليه، ورغب الحق سبحانه وتعالى، فأعرض عن كل شيء دونه انه العلم التقي الصافي، الذي عرف مولاه فجد وشد المئزر في خدمته سبحانه، لا لشيء سوى مشاهدته، حتى فني من أجله في ذاته لا عن ذاته، وشاهد بعين البصيرة جلاله سبحانه. وذلك العلم الوضاء، والقبس المضيء في سماء الولاية، هو:
الشيخ الإمام تاج الدين، وترجمان العارفين، أبو الفضل احمد بن محمد بن عبد الكريم، بن عبد الرحمن، بن عبد الله بن احمد بن عيسى بن الحسين، بن عطاء الله، الجذامي نسبا، المالكي مذهبا، الإسكندري دارا، القاهري مزارا، الصوفي حقيقة الشاذلي طريقة. أعجوبة زمانه، ونخبة عصره وأوانه، المتوفى في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعمائة.
↑↑
مكانته العلمية:
أما مكانة مؤلف "التنوير في إسقاط التدبير" العلمية، فإن صاحب الديباج المذهب يقول: "كان جامعا لأنواع العلوم من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو وأصول، وغير ذلك. كان رحمه الله متكلما على طريق أهل التصوف، واعظا انتفع به خلق كثير، وسلكوا طريقه".
ومما يؤيد مكانة ابن عطاء الله السكندري، العلمية على نحو ما ذكر صاحب الديباج، أن شيخه أبا العباس المرسي رضي الله عنهما، شهد له بالتقديم، كما ذكر في كتاب "لطائف المنن" قائلا:
قال لي الشيخ: "الزم فو الله لئن لزمت لتكونن مفتيا في المذهبين، يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن". وقال فيه أيضا: "والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعيا يدعو إلى الله". وقال فيه كذلك: "والله ليكونن لك شأن عظيم، والله ليكونن لك شأن عظيم، قال: فكان بحمد الله ما لا أنكره".
وازدادت مكانة ابن عطاء الله العلمية، وقوي شأنه فيها، حتى ألف من الكتاب ما يعد قمة في التصوف ومرجعا لمن قصد الأخذ منه والاستدلال به. وله في هذا الفن مؤلفات مشهورة، حازت السبق في ميدان العلماء والتقدير الفائق من المحققين، والإعجاب الفذ من الأدباء.
↑↑
مع التنوير في إسقاط التدبير:
حينما عقدنا العزم، وصممنا الإرادة على تحقيق هذا الكتاب النفيس، وإبرازه في صورة طيبة، ووضوح واضح لأصحاب الحال والقال خاصة، وللشغوفين بأعمال القلوب والجوارح عامة، حينما اعتزمنا ذلك. أخلصنا النية، ووجهنا القلب إلى العلي الأعلى، أن يهبنا التوفيق والسداد، وأن يمنحنا النجاح والرشاد، وأن يتم علينا نعمته الكبرى، ويبسط يده ليأخذ بأيدينا في إنجاز هذا العمل الجاد الذي لن يتحقق إلا لمن ذاق فعرف، وشاهد فوصل.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فقد قمنا بالبحث والتنقيب في دور الكتب والمكتبات، نبحث عن الأصول المخطوطة، وننقب عن النسخ الدقيقة، وبعد جهد وزمن وصلنا، بفضل الله تعالى ـ إلى ما أحببنا أن نصبوا إليه، فوجدنا مخطوطات عدة: بدار الكتب بالقاهرة ومكتبة الأزهر، ومكتبة سيدي أحمد البدوي رضي الله عنه.
وبعد: فإننا نقدم هذا الكنز الثمين ونحن نضرع إلى الله العلي القدير، أن يجعله عملا خالصا ابتغاء وجهه سبحانه، وأن ينفع به، وأن يقدر له الخير والعمل به، وأن يجازي مؤلفه الجزاء المشكور عنده، إنه سميع مجيب، وهو حسبنا عليه توكلنا، وإليه أنبنا، واليه المصير.
موسى محمد علي ↑↑


مقدمة المؤلف
↑↑
قال الشيخ الإمام العارف القدوة المحقق تاج العارفين لسان المتكلمين إمام وقته وأوحد عصره حجة السلف وإمام الخلف قدوة السالكين وحجة المتقين تاج الدين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله السكندري رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا به ونفع به كافة المسلمين إنه سميع قريب مجيب:

الحمد لله المنفرد بالخلق والتدبير، الواحد في الحكم والتقدير، الملك الذي {ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير}. ليس له في ملكه وزير. المالك الذي لا يخرج عن ملكه كبير ولا صغير. المقدس في كمال وصفه عن الشبيه والنظير. المنزه في كمال ذاته عن التمثيل والتصوير. العليم الذي لا يخفى عليه ما في الضمير.
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

العالم: الذي أحاط علمه بمباديء الأمور ونهاياتها.
السميع: الذي لا فضل في سمعه بين جهر الأصوات وإخفاتها.
الرزاق: وهو المنعم على الخليقة بإيصال أقواتها.
القيوم: وهو المتكفل بها في جميع حالاتها.
الوهاب: وهو الذي منّ على النفوس بوجود حياتها.
القدير: وهو المعيد لها بعد وجود وفاتها.
الحسيب وهو المجازي لها يوم قدومها عليه بحسناتها وسيئاتها.
↑↑
فسبحانه من إله منّ على العباد بالجود قبل الوجود، وقام لهم بأرزاقهم مع كلتا حالتيهم من إقرار وجحود. وأمد كل موجود بوجود عطائه، وحفظ وجوده ووجود العالم بإمداد بقائه، وظهر بحكمته في أرضه، وبقدرته في سمائه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة عبد مفوّض لقضائه، مستسلم له في حكمه وإمضائه. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، المفضَّل على جميع أنبياءه، المخصوص بجزيل فضله وعطائه، الفاتح الخاتم، وليس ذلك لسِوائه، الشافع في كل العباد حتى يجمعهم الحق لفصل قضائه، صلى الله عليه وعلى سائر أنبيائه، وعلى آله وصحبه المستمسكين بولائه، وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد..
اعلم يا أخي جعلك الله من أهل حبه، وأتحفك بوجود قربه، وأذاقك من شراب أهل وده، وأمنك بدوام وصله من إعراضه وصده، ووصلك بعباده الذين خصّهم بمراسلاته، وجبر كسر قلوبهم لمّا علموا أنه لا تدركه الأبصار بأنوار تجلياته، وفتح رياض القرب وأهب منها على قلوبهم واردات نفحاته، وأشهدهم سابق تدبيره فيهم، فسلموا إليه القياد، وكشف لهم عن خفي لطفه في صنعه، فخرجوا عن المنازعة والعناد. فهم مستسلمون إليه، ومتوكلون في كل الأمور عليه، علما منهم أنه لا يصل عبدٌ إلى الرضا إلا بالرضا، ولا يبلغ إلى صريح العبودية إلا بالاستسلام إلى القضا، فلم تطرقهم الأغيار، ولم ترد عليهم الأكدار.. كما قال قائلهم:
لا تهتدي نُوَبُ الزمان إليهمُ *** ولهم على الخطب الشديد لجامُ
↑↑
تجري عليهم أحكامه وهم لجلاله خامدون، ولحكمه مستسلمون.
كما قال:
تجري عليك صروفه *** وهموم سِرِّكَ مُطرِقة

وإن من طلب الوصول إلى الله تعالى، فحقيق عليه أن يأتي الأمر من بابه، وأن يتوصل إليه بوجود أسبابه. وأهم ما ينبغي تركه والخروج عنه والتطهر منه: وجود التدبير ومنازعة المقادير. فصنّفتُ هذا الكتاب مبيّنا لذلك، ومُظهرا لما هنالك. وسميته: "التنوير في إسقاط التدبير" ليكون اسمه موافقا لمسماه ولفظه مطابقا لمعناه. والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبله بفضله العميم، وأن ينفع به الخاص والعام، بمحمد عليه الصلاة والسلام، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. ↑↑

التسليم وعدم التدبير
↑↑
قال الله سبحانه وتعالى:
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
وقال تعالى:
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى}.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أعبد الله بالرضا، فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير).
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على ترك التدبير ومنازعة المقادير، إما نصا صريحا، وإما إشارة وتلويحا.
وقد قال أهل المعرفة: "من لم يُدبِّر دُبِّرَ له".
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: "إن كان ولا بد من التدبير، فدبروا أن لا تدبروا".
وقال أيضا: "لا تختر من أمرك شيئا، واختر أن لا تختار، وفرّ من ذلك المختار، ومن فرارك، ومن كل شيء إلى الله تعالى، وربك يخلق ما يشاء ويختار". فقوله تعالى في الآية الأولى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، فيه دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه، قولا وفعلا، وأخذا وتركا، وحبا وبغضا، ويشمل ذلك حكم التكليف، وحكم التصريف والتسليم، والانقياد واجب على كل مؤمن في كليهما. فأحكام التكليف: الأوامر والنواهي المتعلقة باكتساب العباد. وأحكام التصريف: هو ما أورده عليك من قهر المراد. فتبين من هذا أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بأمرين: بالامتثال لأمره، والاستسلام لقهره.
↑↑
ثم إنه سبحانه وتعالى، لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكّم، أو حكّم ووجد الحرج في نفسه على ما قضى، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم، رأفة وعناية، وتخصيصا ورعاية، لأنه لم يقل: {فلا والرب}، وإنما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم}.

ففي ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد في المقسم عليه. علما منه سبحانه بما النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة، سواء كان الحق عليها أو لها. وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم، إذ جعل حُكمه حُكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره؛ ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه كما وصفه ربه: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى}. فحُكمه حُكم الله، وقضاؤه قضاء الله. كما قال: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}. وأكد ذلك بقوله: {يد الله فوق أيديهم}.
وفي الآية إشارة أخرى لعظيم قدره، وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى:
{فلا وربك}. فأضاف نفسه تعالى إليه، كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص. ذكر رحمة ربك عبده زكريا}. فأضاف الحق سبحانه اسمه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضاف زكريا إليه، ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين، وتفاوت ما بين الرتبتين. ثم إنه لم يكتف بالتحكيم الظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج، وهو الضيق في نفوسهم من أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهوائهم أو يخالفها. وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فمنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك، إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم، فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيأة لواردات أحكامه، مفوضة إليه في نقضه وإبرامه. ↑↑

تقوية الحق لعبده فيما يورده عليه
↑↑
فائدة: اعلم أن الحق سبحانه، إذا أراد أن يقوّي عبدا على ما يريد أن يورده عليه من وجود حكمه، ألبسه من أنوار وصفه، وكساه من وجود نعته، فتنزلت الأقدار وقد سبقت إليها الأنوار، فكان بربه لا بنفسه، فقوي لأعبائها، وصبر للأوائها.
وإنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار. وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الأفهام. وإن شئت قلت: وإنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا. وإن شئت قلت: وإنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره. وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على وجود حكمه، علمهم بوجود علمه. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على ما جرى، علمهم بأنه يرى. وإن شئت قلت: وإنما يصبّرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على القضا، علمهم بأن الصبر يورث الرضا. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على الأقدار، كشف الحجب والأسفار. وإن شئت قلت: وإنما قواهم على حمل أثقال التكليف، ورود أسرار التصريف. وإن شئت قلت: وإنما صبّرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره. ↑↑
فهذه عشرة أسباب توجب صبر العبد وثبوته لأحكام سيده، وقوته عند ورودها. وهو المعطي لكل ذلك بفضله، والمانّ بذلك على ذوي العناية من أهله. ولنتكلم الآن على كل قسم منها لتكمل الفائدة وتحصل الجدوى والفائدة.

فأما الأول وهو: "إنما يعينهم على حمل الأقدار، ورود الأنوار":
وذلك أن الأنوار إذا وردت كشفت للعبد عن قرب الحق سبحانه وتعالى منه، وأن هذه الأحكام لم تكن إلا عنه، فكان علمه بأن الأحكام إنما هي من سيده سلوة له، وسبب لوجود صبره. ألم تسمع لما قال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا}. أي: ليس هو حكم غيره فيشق عليك، بل هو حكم سيدك القائم بإحسانه إليك، ولنا في هذا المعنى:
وخفف عني ما ألاقي من العنا *** بأنك أنت المبتلي والمقدر
وما لأمري عما قضى الله معدل *** وليس له منه الذي يتخير
ومثال ذلك: لو أن إنسانا في بيت مظلم، فضُرب بشيء ولا يدري من الضارب له، فلما أدخل عليه مصباح: نظر فإذا هو شيخه أو أبوه أو أميره. فإن علمه بذلك مما يوجب صبره على ما هنالك.
↑↑
الثاني: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل الأحكام، فتح باب الإفهام":
إذا أورد الله تعالى على عبده حُكما، وفتح له باب الفهم عنه في ذلك الحكم فاعلم أنه أراد سبحانه أن يحمله عنه، وذلك أن الفهم يرجعك إلى الله، ويحثك إليه، ويجعلك متوكلا عليه، وقد قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. أي كافيه وواقيه، وناصره على الأغيار وراعيه، لأن الفهم عن الله يكشف لك عن سر العبودية فيك، وقد قال سبحانه وتعالى: {أليس الله بكاف عبده}. وكل هذه الوجوه العشرة ترجع إلى الفهم عنه، وإنما هي أنواع فيه.
↑↑
الثالث: وهو قوله: "إنما يعينهم على حمل البلايا، واردات العطايا":
وذلك أن واردات العطايا السابقة من الله إليك، تذَكُرك لها مما يعينك على حمل أحكام الله، إذ كما قضى لك بما تحب، اصبر له على ما يحب فيك. ألم تسمع قوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها}. فسلاهم الحق فيما أصيبوا بما أصابوا؛ وهذا من العطايا السابقة. وقد يقترن بالبلايا في حين ورودها، ما يخففها على العباد المقربين، من ذلك أن يكشف لهم عن عظيم الأجر الذي ادخره لهم في تلك البلية. ومنها ما ينزل على قلوبهم من التثبيت والسكينة. ومنها ما يورده عليهم من دقائق اللطف وتنزلات المنن، حتى كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقول في بعض مرضه: "أشدد خنقك".
وحتى قال بعض العارفين: لقد مرضت مرضة، فأحببت أن لا تزول، لما ورد علي فيها من أمداد الله تعالى، وانكشف فيها من وجود غيبته" أه. وللكلام في سبب ذلك موضع غير هذا.
↑↑

الرابع، وهو: "إنما يقويهم على حمل أقداره، شهود حسن اختياره":
وذلك أن العبد إذا شهد حسن اختيار الله تعالى له، علم أن الحق سبحانه لا يقصد ألم عبده لأنه به رحيم {وكان بالمؤمنين رحيما}. وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة معها ولدها فقال: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها). غير أنه سبحانه يقضي عليك بالآلام لما يترتب عليه من الفضل والإنعام، ألم تسمع قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}.
ولو وكل الحق سبحانه العباد إلى اختيارهم لحرموا وجود منته، ومنعوا الدخول إلى جنته، فله الحمد على حسن الاختيار. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم}. وإن الأب المشفق يسوق لابنه الحجام لا بقصد الإيلام. وكالطبيب الناصح، يعانيك بالمراهم الحادة، وإن كانت مؤلمة لك، ولو طاوع اختيارَك لبَعُد الشفاء عليك. ومن مُنع وعَلِم أن المنع إنما هو إشفاق عليه، فهذا المنع في حقه عطاء. وكالأم المشفقة تمنع ولدها كثرة المأكل خشية التخمة.
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
"اعلم أن الحق سبحانه وتعالى إذا منعك لم يمنعك عن بخل، وإنما يمنعك رحمة لك، فمنع الله لك عطاء، ولكن لا يفهم العطاء في المنع إلا صديق". وفي كلام أثبتناه في غيره هذا الكتاب: إنه ليخفف عنك ألم البلايا، علمك بأنه سبحانه وتعالى المبتلي، لك فالذي واجهتك من الأقدار، هو الذي له فيك حسن الاختيار.
↑↑
الخامس: وهو قوله: "إنما صبرهم على وجود حكمه: علمهم بوجود علمه":
وذلك: أن علم العبد بأن الحق سبحانه مطلع عليه فيما ابتلاه يخفف عنه أعباء البلايا، ألم تسمع قوله تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}. أي ما تلقاه يا محمد من كفار قريش من المعاندة والتكذيب فليس بخاف علينا. والحكاية المشهورة: أن إنسانا ضرب تسعة وتسعين سوطا ولم يتأوه، فلما ضرب السوط الذي هو تمام المائة تأوه، فقيل له في ذلك؟ قال: كان الذي ضربت من أجله في الحلقة في التسعة والتسعين فلما ولى عني أحسست بالألم).

السادس: وهو "إنما صبرهم على أفعاله، ظهوره عليهم بوجود جماله":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا تجلى على عبده في حين ملاقاته، لمر غلبة البلايا، حمل حرارتها عنه لما أذاقه من حلاوة التجلي، فربما غيبهم ذلك على الإحساس بالألم، ويكفيك في ذلك قوله تعالى: (فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن).
↑↑
السابع: وهو "إنما صبرهم على القضا علمهم بأن الصبر يورث الرضا":
وذلك: أن من صبر على أحكام الله، أورثه ذلك الرضا من الله، فتحملوا حرارتها طلبا لرضاه، كما يتحسى الدواء المر لما يرجى فيه من عاقبة الشفاء.

الثامن: وهو "إنما صبرهم على الأقدار: كشف الحجب والأستار":
وذلك: أن الحق سبحانه وتعالى، إذا أراد إن يحمل عن عبد ما يورده عليه، كشف الحجاب عن بصيرة قلبه فأراه قربه منه، فغيبه أنس القرب عن إدراك المؤلمات. ولو أن الحق سبحانه وتعالى تجلى لأهل النار بجماله وكماله لغيبهم ذلك عن إدراك العذاب، كما انه لو احتجب عن أهل الجنة لما طاب لهم النعيم. فالعذاب إنما هو: وجود الحجاب، وأنواع العذاب مظاهره، والنعيم إنما هو: بالظهور والتجلي، وأنواع النعيم مظاهره.

التاسع: وهو "إنما قواهم على حمل أثقال التكاليف، ورود أسرار التصريف":
وذلك: لأن التكاليف شاقة على العباد، ويدخل في ذلك امتثال الأوامر، والانكفاف عن الزواجر، والصبر على الأحكام، والشكر عند وجود الأنعام. فهي إذن أربعة: طاعة، ومعصية، ونعمة، وبلية. وهي أربع لا خامس لها: والله عليك في كل واحدة من هذه الأربع عبودية يقتضيها منك بحكم الربوبية.
فحقه عليك في الطاعة: شهود المنة منه عليك فيها.
وحقه عليك في المعصية: الاستغفار لما ضيعت فيها.
وحقه عليك في البلية: الصبر معه عليها.
وحقه عليك في النعمة: وجود الشكر منك فيها.
ويحمل عنك أعباء ذلك كله: الفهم. وإذا فهمت أن الطاعة راجعة إليك وعائدة بالجدوى عليك، صبرك ذلك على القيام بها. وإذا علمت أن الإصرار على المعصية والدخول فيها، يوجب العقوبة من الله آجلا، وانكشاف نور الإيمان عاجلا، كان ذلك سببا للترك منك لها.
وإذا علمت إن الصبر تعود عليك ثمرته، وتنعطف عليه بركته، سارعت إليه، وعولت عليه.
وإذا علمت أن الشكر يتضمن المزيد من الله لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}، كان ذلك سببا لمثابرتك عليه، ونهوضك إليه.
وسنبسط الكلام على هذه الأربع في آخر الكتاب، ونفرد لها فصلا إن شاء الله تعالى.
↑↑
العاشر: وهو "إنما صبرهم على أقداره، علمهم بما أودع فيها من لطفه وإبراره":
وذلك أن المكاره أودع الحق تعالى فيها وجود الألطاف. ألم تسمع قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}. وقوله عليه الصلاة والسلام: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وفي البلايا والأسقام والفاقات من أسرار الألطاف ما لا يفهمه إلا أولوا البصائر. ألم تر أن البلايا تخمد النفس وتذلها، وتدهشها عن طلب حظوظها ويقع من البلايا وجود الذلة، ومع الذلة تكون النصرة: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة). وبسط القول في ذلك، يخرجنا عن قصد الكتاب.

فقدان الحرج ووجود التسليم
↑↑
انعطاف: لنرجع الآن إلى الآية، وهي قوله سبحانه وتعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
اعلم أن الأحوال ثلاثة:
قبل التحكم، وفيه، وبعده.
فأما قبل التحكيم: فعبوديتهم التحكيم، وأما في الحكم، وبعده فعبوديتهم: عدم وجدان الحرج في أمورهم.
فان قلت: إن ذلك لازم من قوله تعالى: {حتى يحكموك}. قيل: ليس كل من حكم فقد الحرج عنه، إذ قد يحكم ظاهرا والكراهة عنده موجودة فلا بد إن ينضم إلى التحكيم، فقدان الحرج ووجود التسليم.
فإن قال القائل: إذا لم يجدوا الحرج فقد سلموا تسليما، فما فائدة الإتيان بقوله: {ويسلموا تسليما} بعد نفي الحرج المستلزم لقبول التسليم، الذي من صفته وجود التأكيد؟
فالجواب عنه: أن قوله تعالى: {ويسلموا تسليما} أي في جميع أمورهم فان قلت: إن ذلك لازم من قوله: {حتى يحكموك؟}. فالجواب: أن التحكيم ما أطلقه بل قيده بقوله تعالى: {فيما شجر بينهم} فصارت الآية تتضمن ثلاثة أمور:
أحدها: التحكيم فيما اختلفوا فيه.
الثاني: عدم وجدان الحرج في التحكيم.
والثالث: وجود التسليم المطلق، فيما شجر بينهم، وفيما نزل في أنفسهم، فهو عام بعد خاص فافهم.
الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة سبحانه الله وتعالى عما يشركون} تتضمن فوائد: ↑↑
الفائدة الأولى: قوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} يتضمن ذلك الإلزام للعبد بترك التدبير مع الله، لأنه إذا كان يخلق ما يشاء فهو يدبر، ما يشاء، فمن لا خلق له لا تدبير له: {أفمن يخلق كمن لا يخلق، أفلا تذكرون}.
ويتضمن قوله: ويختار، انفراده بالاختيار وأن أفعاله ليست على الإلجاء والاضطرار، بل هو على نعت الإرادة والاختيار، وفي ذلك إلزام للعبد بإسقاط التدبير والاختيار مع الله تعالى، إذ ما هو له لا ينبغي أن يكون لك.
وقوله: (ما كان لهم الخيرة) يحتمل الوجهين:
أحدهما: لا ينبغي أن تكون الخيرة لهم، وأن يكونوا أولى بها منه سبحانه وتعالى.
وثانيهما: ما كان الخيرة أي ما أعطيناهم ذلك، ولا جعلناهم أولى بما هنالك.
وقوله: (سبحان الله وتعالى عما يشركون) أي تنزيها لله أن يكون لهم الخيرة معه. وبينت الآية: أن من ادعى الاختيار مع الله، فهو مشرك مدعي للربوبية بلسان حاله، وإن تبرأ من ذلك بما قاله.
الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {أم للإنسان ما تمنى، فلله الآخرة والأولى} فيها دلالة على إسقاط التدبير مع الله
بقوله أم للإنسان ما تمنى.(أي لا يكون ولا ينبغي له لانا ما جعلناه له)، وأكد ذلك بقوله: {فلله الآخرة والأولى}.
ففي ذلك أيضا إلزام العبد، ترك التدبير مع الله. أي إذا كان لله الآخرة والأولى فليس فيهما للإنسان شيء فلا ينبغي له التدبير في ملك غيره، وإنما ينبغي أن يدبر في الدارين من هو مالكهما وهو الله سبحانه وتعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا..) فيه دليل على أن من لم يكن كذلك، لا يجد حلاوة الإيمان، ولا يدرك مذاقه، وإنما يكون إيمانه صورة لا روح فيها وظاهرا لا باطن له، ومرتسما لا حقيقة تحته.
↑↑
وفيه إشارة: إلى إن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تتنعم بملذات المعاني كما تنعم النفوس بملذوذات الأطعمة. وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، لأنه لما رضي بالله ربا، استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه خارجا عن تدبيره واختياره، إلى حسن تدبير الله واختياره، فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض.
ولما رضي بالله ربا، كان له الرضا من الله، كما قال تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه).

وإذا كان له الرضا من الله: أوجده الله حلاوة ذلك، ليعلم ما من به عليه، وليعلم إحسان الله إليه. ولا يكون الرضا بالله: إلا مع الفهم. ولا يكون الفهم: إلا مع النور. ولا يكون النور: إلا مع الدنو. ولا يكون الدنو: إلا مع العناية.

فلما سبقت لهذا العبد العناية، خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته، لصحة إدراكه ولسلامة ذوقه. ولو سقم قلبه بالغفلة عن الله لم يدرك ذلك، لأن المحموم ربما وجد طعم السكر مرا، وليس هو في نفس الأمر كذلك.
فإذا زالت أسقام القلوب، وأدرك الأشياء على ما هي عليه، فتدرك حلاوة الإيمان ولذاذ الطاعة، ومرارة القطيعة والمخالفة. فيوجب إدراكها لحلاوة الإيمان اغتباطها به، وشهود المنة من الله عليها فيه، وتطلب الأسباب الحافظة للإيمان والجالبة له. ويوجب إدراك لذاذة الطاعة: المداومة عليها، وشهود المنة من الله فيها. ويوجب إدراكها لمرارة الكفران والمخالفة، الترك لهما، والنفور عنهما، وعدم الميل إليهما، فيحمل على الترك للذنب وعدم التطلع إليه، وليس كل متطلع تاركا، ولا كل تارك غير متطلع. وإنما كان كذلك، لأن نور البصيرة دال على أن المخالفة لله، والغفلة عنه، سم للقلوب مهلك، فنفرة قلوب المؤمنين عن مخالفة الله تعالى كنفرتك عن الطعام المسموم.
↑↑
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبالإسلام دينا) لأنه من رضي بالإسلام دينا، فقد رضي بما رضي به المولى واختاره لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}. وقوله تعالى: {ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه}. ولقوله تعالى: {إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. وإذا رضي بالإسلام دينا، فمن لازم ذلك: امتثال الأوامر والانكفاف عن وجود الزواجر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والغيرة إذا رأى ملحدا يجادل أن يدخل فيه ما ليس منه، فيدمغه ببرهانه، ويقمعه بتبيانه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبمحمد نبيا)، فلازم من رضي بمحمد نبيا، أن يكون له وليا، وأن يتأدب بآدابه، وأن يتخلق بأخلاقه زهدا في الدنيا، وخروجا عنها، وصفحا عن الجناية، وعفوا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقق المتابعة، قولا وفعلا، وأخذا وتركا وحبا وبغضا وظاهرا وباطنا. فمن رضي بالله: استسلم له، ومن رضي بالإسلام: عمل لهو ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم: تابعه. ولا تكون واحدة منها إلا بكلها. إذ محال أن يرضى بالله ربا، ولا يرضى بالإسلام دينا، أو يرضى بالإسلام دينا ولا يرضى بمحمد نبيا، وتلازم ذلك بين لا خفاء فيه.

مقامات اليقين
↑↑
وإذ قد تبين هذا فاعلم أن مقامات اليقين تسعة وهي:
التوبة، والزهد، والصبر، والشكر، والخوف، والرضا، والرجاء، والتوكل، والمحبة.
ولا تصح كل واحدة، من هذه المقامات إلا بإسقاط التدبير مع الله، والاختيار، وذلك: أن التائب كما يجب عليه أن يتوب من ذنبه، كذا يجب عليه أن يتوب عن التدبير مع ربه.
لأن التدبير والاختيار من كبائر القلوب والأسرار والتوبة هي الرجوع إلى الله تعالى: (من كل ما لا يرضاه لك) لأنه شرك بالربوبية، وكفر لنعمة العقل، ولا يرضى لعباده الكفر. وكيف تصح توبة عبد مهموم بتدبير دنياه. غافل من حسن رعاياه؟
وكذلك لا يصح الزهد: إلا بالخروج عن التدبير، لأن مما أنت مخاطب بالخروج عنه، والزهد فيه: تدبيرك.
إذ الزهد زهدان: زهد ظاهر جلي، وزهد باطن خفي.
فالظاهر الجلي: الزهد في فضول الحلال، من المأكولات والملبوسات وغير ذلك.
والزهد الخفي: الزهد في الرياسة، وحب الظهور، ومنه الزهد في التدبير مع الله.
وكذلك لا يصح صبر ولا شكر، إلا بإسقاط التدبير، وذلك: لأن الصابر من صبر عما لا يحبه الله، ومما لا يحبه الله تعالى التدبير معه والاختيار لأن الصبر على أقسام:
صبر عن المحرمات.
وصبر عن الواجبات.
وصبر عن التدبيرات والاختيارات.
وان شئت قلت: صبر عن الحظوظ البشرية، وصبر على لوازم العبودية، ومن لوازم العبودية، إسقاط التدبير مع الله تعالى.
وكذلك لا يصح الشكر إلا لعبد ترك التدبير مع الله، لأن الشكر - فيما قال الجنيد رحمه الله تعالى:
"الشكر أن لا تعصي الله بنعمه."
ولولا العقل الذي ميزك الله به على أشكاله، وجعله سببا لكمالك لم تكن من المدبرين معه، إذ الجمادات والحيوانات لا تدبير لها مع الله، لفقدان العقل الذي من شأنه النظر إلى العواقب والاهتمام بها.
ويناقض أيضا مقام الخوف والرجاء: إذ الخوف إذا توجهت سطواته إلى القلوب منعها أن تستروح إلى وجود التدبير، والرجاء أيضا كذلك: إذ الراجي قد امتلأ قلبه فرحا بالله، ووقته مشغول بمعاملة الله تعالى، فأي وقت يسعه التدبير مع الله تعالى؟ ↑↑
ويناقض أيضا مقام التوكل: وذلك أن المتوكل على الله من ألقى قياده إليه، واعتمد في كل أموره عليه، فمن لازم ذلك: عدم التدبير والاستسلام لجريان المقادير.
وتعلق إسقاط التدبير بمقام التوكل والرضا، أبين من تعلقه بسائر المقامات.
ويناقض أيضا مقام المحبة: إذ المحب مستغرق في حب محبوبه، وترك الإرادة معه هي عين مطلوبه، وليس يتسع وقت المحب للتدبير مع الله أنه قد (شغله عن ذلك حبه لله) ولذلك قال بعضهم: (من ذاق شيئا من خالص محبة الله، ألهاه ذلك عما سواه).
ويناقض أيضا مقام الرضا: وهو بين لا إشكال فيه، وذلك: أن الراضي قد اكتفى بسابق تدبير الله فيه، فكيف يكون مدبرا معه وهو قد رضي بتدبيره؟ ألم تعلم أن نور الرضا يغسل من القلوب غثاء التدبير.
فالراضي عن الله، بسطه نور الرضا لأحكامه، فليس له تدبير مع اللهو وكفى بالعبد حسن اختيار سيده له. فافهم.

من أسباب إسقاط التدبير
↑↑
فصل: اعلم إن الذي يحملك على إسقاط التدبير مع الله والاختيار أمور.
الأول: علمك بسابق تدبير الله فيك: وذلك أن تعلم إن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك، فكما كان لك مدبرا قبل أن تكون ولا شيء من تدبيرك معه، كذلك هو سبحانه وتعالى مدبر لك بعد وجودك.
فكن له كما كنت له، يكن لك كما كان لك.
ولذلك قال الحسين الحلاج: (كن لي كما كنت لي، في حين لم أكن).
فسأل من الله أن يكون له بالتدبير بعد وجوده: كما كان له بالتدبير قبل وجوده، لأنه قبل وجود العبد كان العبد مدبرا بعلم الله، وليس هناك للعبد وجود فتقع الدعوى منه لتدبير نفسه، فيقع الخذلان لأجل ذلك.
فإن قلت: فإنه في حين لم يكن عدم، فكيف يتعلق التدبير؟
فاعلم أن للأشياء وجودا في علم الله، وان لم يكن لها وجود في أعيانها، فالحق سبحانه وتعالى يتولى تدبيرها من حيث أنها موجودة في علمه، وفي هذه المسألة غور عظيم ليس هذا الموضوع محلا لبسطه.

بيان وإعلام
↑↑
اعلم أن الحق سبحانه وتعالى تولاك بتدبيره على جميع أطوارك وقام لك في كل ذلك بوجود إبرازك، فقام لك بحسن التدبير يوم المقادير، يوم: {ألست بربكم؟ قالوا بلى}.
ومن حسن تدبيره لك حينئذ، أن عرفك به فعرفته، وتجلى لك فشهدته، واستنطقك وألهمك الإقرار بربوبيته فوحدته، ثم انه جعلك نطفة مستودعة في الأصلاب، وتولاك بتدبيره هنا لك، حافظا لك، وحافظا لما أنت فيه. مواصلا لك المدد بواسطة من أنت فيه من الآباء إلى أبيك آدم، ثم قذفك في رحم الأم، فتولاك بحسن التدبير حينئذ وجعل الرحم قابلة أرضا يكون فيها نباتك ومستودعا يعطى فيها حياتك، يم جمع بين النطفتين، وألف بينهما فكنت عنهما، لما بنيت عليه الحكمة الإلهية من أن الوجود كله مبني على سر الازدواج، ثم جعلك بعد النطفة علقة مهيأة لما يريد سبحانه وتعالى، إن ينقلها إليه، ثم بعد العلقة مضغة، ثم فتق سبحانه وتعالى في المضغة صورتك، وأقام بنيتك، ثم نفخ فيك الروح بعد ذلك، ثم غذاك بدم الحيض في رحم الأم حتى قويت أعضاؤك، واشتدت أركانك ليهيئك إلى البروز إلى ما قسم لك أو عليك، وليبرزك إلى دار يتعرف فيها بفضله وعدله إليك.
ثم لما أنزلك إلى الأرض علم سبحانه وتعالى أنك لا تستطيع تناول خشونات المطاعم، وليس لك أسنان ولا أرحاء تستعين بها على ما أنت طاعم، فأجرى الثديين بغذاء لطيف، ووكل بهما مستحث الرحمة في قلب الأم كلما وقف اللبن عن البروز استحثته الرحمة التي جعلها لك في الأم مستحثا لا يفتر، ومستنهضا لا يقصر، ثم انه شغل الأب والأم بتحصيل مصالحك، والرأفة عليك والنظر بعين المودة منهما إليك، وما هي إلا رأفة ساقها إليك، والى العباد في مظاهر الآباء والأمهات، تعريفا بالوداد، وفي حقيقة الأمر ما كفاك إلا ربوبيته، وما حضنك إلا ألهيته.
ثم ألزم الأب القيام بك إلى حين البلوغ، وأوجب عليك ذلك رأفة منه بك، ثم رفع قلم التكليف عنك إلى أوان تكمل الأفهام، وذلك عند الاحتلام، ثم إلى إن صرت كهلا لم يقطع عنك نوالا ولا فضلا، ثم إذا انتهت إلى الشيخوخة، ثم إذا قدمت عليه، ثم إذا حشرت إليه، ثم إذا اقامك بين يديه ثم إذا أسلمك من عقابه، ثم إذا أدخله دار ثوابه، ثم إذا كشف عنك وجود حجابه وأجلسك مجلس أوليائه وأحبابه، قال سبحانه وتعالى: {إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر}. ↑↑
فلأي إحسانه تشكر، وأي آلائه وأياديه تذكر؟ واسمع قوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله}. تعلم أنك لم تخرج، ولن تخرج عن إحسانه (ولن يعدوك وجود فضله وامتنانه}. وان أردت البيان في نقليات أطوارك فاسمع ما قاله سبحانه:
{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر، فتباك الله أحسن الخالقين، ثم إنكم بعد لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}. تبدو لك بوارقها وتبسط عليك شوارقها، وفي ذلك ما يلزمك أيها العبد: الاستسلام إليه، والتوكل عليه، ويضطرك إلى إسقاط التدبير وعدم منازعة المقادير، والله الموفق.
الثاني: أن تعلم أن التدبير منك لنفسك جهل منك بحسن النظر لها، فإن المؤمن قد علم أنه إذا ترك التدبير مع الله، كان له بحسن التدبير منه، لقوله تعالى:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
فصار التدبير في إسقاط التدبير، والنظر للنفس ترك النظر لها فافهم ها هنا قوله تعالى:
{وأتوا البيوت من أبوابها}.
فباب التدبير من الله لك، هو إسقاط التدبير منك لنفسك.
الثالث: علمك بأن القدر لا يجري على حسب تدبيرك، بل أكثر ما يكون ما لا تدبر، وأقل ما يكون ما أنت له مدبر والعاقل لا يبني بناء على غير قرار فمتى تتم مبانيك والأقدار تهدمها؟
وعن التمام قصدها شعرا:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
↑↑
وإذا كان التدبير منك والقدر يجري على خلاف ما تدبر، فما فائدة تدبيره لا تنصره الأقدار؟ وإنما ينبغي أن يكون التدبير لمن بيده أزمة المقادير، ولذلك قيل شعر:

ولما رأيت القضا جاريا *** بلا شك فيه ولا مرية
توكلت حقا على خالفي *** وألقيت نفسي مع الجرية

الرابع: علمك بان الله تعالى هو المتولي لتدبير مملكته، علوها وسفلها، غيبها وشهادتها.
وكما سلمت له تدبيره في عرشه وكرسيه، وسمواته وأرضه، فسلم له تدبيره في وجودك (إلى هذه العوالم) فان نسبة وجودك إلى هذه العوالم نسبة توجب تلاشيك، كما أن نسبة السماوات السبع، والأرضين السبع، بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي والسموات السبع والأرضون السبع، بالنسبة إلى العرش كالحلقة الملقاة في فلاة من الأرض، فماذا عسى أن تكون أنت في مملكته؟ فاهتمامك بأمر نفسك وتدبيرك لها منك جهل بالله، بل الأمر كما قال سبحانه:
{وما قدروا الله حق قدره}.
فلو أن العبد عرف ربه، لاستحى أن يدبر معه، ولا قذف بك في بحر التدبير إلا حجبتك عن الله، لأن الموقنين لما كشف عن بصائر قلوبهم، شهدوا أنفسهم مدبرين لا متدبرين، ومصرفين لا متصرفين، ومحركين لا متحركين.
وكذلك عمار الصفيح الأعلى، مشاهدون لظهور القدرة، ونفوذ الإرادة.
↑↑
وتعلق القدرة بمقدورها، والإرادة بمرادها، والأسباب معزولة في مشهدهم، فلذلك طهروا من الدعوة لما هم عليه من وجود المعاينة، وثبوت المواجهة، فلذلك قال سبحانه:
{إنا نحن نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون}.
ففي هذا تزكية للملائكة، وإشارة إلى أنهم لم يكونوا مع الله مدعين لما خولهم ولا منتسبين لما نسب إليهم، إذ لو كان كذلك لقال: {إنا نحن نرث الأرض والسماء}.
بل نسبتهم إليه، وهيبتهم له، وولههم من عظمته، منعهم أن يركنوا لشيء دونه.
فكما سلمت لله تدبيره في سمائه وأرضه، فسلم له تدبيره في وجودك: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس}.
الخامس: علمك بأنك ملك لله، وليس لك تدبير ما هو لغيرك فما ليس لك ملكه، ليس لك تدبيره. وإذا كنت أيها العبد لا تنازع فيما تملك، ولا ملك لك إلا بتمليكه إياك، وليس لك ملك حقيقي، وإنما هي نسبة شرعية، أوجبت الملك لك من غير شيء قائم بوصفك تستوجب به أن تكون مالكا، فأن لا تنازع الله فيما يملكه أولى وأحرى.
لا سيما وقد قال سبحانه وتعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة}.
فلا ينبغي لعبد بعد المبايعة، تدبير ولا منازعة، لأن ما بعته وجب عليك تسليمه، وعدم المنازعة فيه، فالتدبير فيه نقض لعقد المبايعة.
↑↑
ودخلت على الشيخ أبي العباس المرسي رحمه الله يوما، فشكوت إليه بعض أمري فقال:
إن كانت نفسك لك فاصنع بها ما شئت، ولن تستطيع ذلك أبدا، وان كانت لبارئها فسلمها له يصنع بها ما شاء) ثم قال: (الراحة في الاستسلام إلى الله، وترك التدبير معه، وهو العبودية).
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: نمت ليلة عن وردي فاستيقظت فندمت، فنمت بعد ذلك ثلاثة أيام عن الفرائض، فلما استيقظت سمعت هاتفا يقول شعرا:
كل شيء لك مغفور سوى الإعراض عنا *** قد غفرنا لك ما فات بقي ما فات منا
ثم قيل لي يا إبراهيم: كن عبدا، فكنت عبدا فاسترحت.
السادس: علمك بأنك في ضيافة الله، لأن الدنيا دار الله، وأنت نازل فيها عليه، ومن حق الضيف أن لا يعول هما مع رب المنزل.
قيل للشيخ أبي مدين رحمه الله: ما لنا نرى المشايخ يدخلون في الأسباب، وأنت لا تدخل فيها؟
فقال: يا أخي أنصفونا: الدنيا دار الله، ونحن ضيوفه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الضيافة ثلاثة أيام).
قلنا عند الله ثلاثة أيام ضيافة، وقد قال تعالى: {وان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون}.
قلنا عند الله ثلاثة آلاف سنة ضيافة، مدة إقامتنا في الدنيا منها وهو مكمل ذلك بفضله في الدار الآخرة، وزائد على ذلك الخلود الدائم. ↑↑
السابع: (نظر العبد إلى قومية الله تعالى في كل شيء) ألم تسمع قوله تعالى: {الله لا اله إلا هو الحي القيوم}.
فهو سبحانه وتعالى قيوم الدنيا والآخرة، قيوم الدنيا بالرزق والعطاء، والآخرة بالأجر والجزاء.
فإذا علم العبد قيومية ربه به، وقيامه عليه، ألقى قياده إليه، وانطرح بالاستسلام بين يديه، فألقى نفسه بين يدي ربه مسلما، ناظرا لما يرد عليه من الله حكما.
الثامن: هو اشتغال العبد بوظائف العبودية التي هي مبتغاة بالعمر، لقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.
فإذا توجهت همته إلى رعاية عبوديته، شغله ذلك عن التدبير لنفسه والاهتمام لها قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
(اعلم أن لله تعالى عليك في كل وقت سهما في العبودية، يقتضيه الحق سبحانه وتعالى، وعن أنفاسه التي هي أمانة الحق عنده، فأين الفراغ لأولى البصائر عن حقوق الله حتى يمكنهم التدبير لأنفسهم، والنظر في مصالحها باعتبار حظوظها ومآربها، ولا يصل أحد إلى منة الله إلا بغيبته عن نفسه، وزهده فيها، مصروفة همته إلى محاب الله تعالى) متوفرة دواعيه على موافقته، دائبا على خدمته ومعاملته، فبحسب غيبتك عن نفسك، فناء عنها، يبقيك الله به، لذلك قال الشيخ أبو الحسن:
(أيها السابق إلى سبيل نجاته الشائق إلى حضرة جنابه، أقلل النظر إلى ظاهرك إن أردت فتح باطنك لأسرار ملكوت ربك). ↑↑
التاسع: وهو أنك عبد مربوب، وحق العبد أن لا يعول هما مع سيده، مع اتصافه بالا فضال، وعدم الإهمال، فإن روح مقام العبودية: الثقة بالله والاستسلام إلى الله تعالى، وكل واحد منهما يناقض التدبير مع الله تعالى والاختيار معه، بل على العبد أن يقوم بخدمته، والسيد يقوم له بمنته، وعلى العبد القيام بالخدمة، والسيد يقوم له بوجود القسمة، فافهم قوله تعالى:
{وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقا، نحن نرزقك}.
أي قم بخدمتنا، ونحن نقوم بإيصال قسمتنا. ↑↑
العاشر: عدم علمك بعواقب الأمور: فربما دبرت أمرا ظننت أنه لك، فكان عليك. وربما أتت الفوائد من وجود الشدائد، والشدائد من وجوه الفوائد، والأضرار من وجوه المسار والمسار من وجوه الإضرار، وربما كمنت المنن في المحن، والمحن في المنن. وربما انتفعت على أيدي الأعداء، وأرديت على أيدي الأحباب.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن عاقلا إن يدبر مع الله، ولا يدري المسار فيأتيها، ولا المضار فيتقيها؟
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: (اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا، من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم، بما لا نعلم). ↑↑
ويكفيك قوله تعالى:
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى إن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
وكم مرة أردت أيها العبد أمرا فصرفه عنك فوجدت لذلك غما في قلبك وحرصا في نفسك حتى إذا كشف لك عن عاقبة ذلك علمت انه سبحانه نظر لك بحسن النظر من حيث لا تدري، وخار لك من حيث لا تعلم، وما أقبح مريدا لا فهم له، وعبيدا لا استسلم له، فكن كما قيل:
وكم رمت أمرا خرت لي في انصرامه *** فلا زلت بي مني أبر وأرحما
عزمت على أن أحس بخاطر *** على القلب إلا كنت أنت المقدما
وأن لا تراني عند ما قد نهيتني *** لكونك في قلبي كبيرا معظما
↑↑
ويحكى: أن بعضهم كان إذا أصيب بشيء. أو ابتلى به يقول: خيرة، فاتفق ليلة أن جاء ذئب فأكل ديكا له، فقيل له به فقال: خيرة ثم ضرب في تلك الليلة كلبه فمات، فقيل له فقال: خيرة، ثم نهق حماره فمات، فقال: خيرة.
فضاق أهله بكلامه هذا ذرعا، فاتفق أن نزل في تلك الليلة عرب أغاروا عليهم، فقتلوا كل من بالمحلة، ولم يسلم غيره وأهل بيته. استدل العرب النازلون (على الناس بصياح الديك) ونباح الكلب، ونهيق الحمار، وهو قد مات له كل ذلك، فكان هلاك هذه الأشياء سببا لنجاته، فسبحان المدبر الحكيم.
وإن العبد لا يشهد حسن تدبير الله، إلا إذا انكشفت له العواقب، وليس هذا مقام أهل الخصوص في شيء لأن أهل الفهم عن الله، شهدوا حسن تدبير الله قبل أن تنكشف له العواقب وهم في ذلك على أقسام ومراتب:
فمنهم من حسن ظنه بالله، فاستسلم له لما عوده من جميل صنعه، ووجود لطفه.
ومنهم من حسن ظنه بالله علما منه، أن الاهتمام والتدبير والمنازعة، لا تدفع عنه ما قدر عليه، ولا تجلب له ما لم يقسم له:
ومنهم من حسن الظن بالله تعالى، لقوله عليه السلام حاكيا عن ربه: (أنا عند ظن عبدي بي).
فكان متعاطيا بحسن الظن بالله وأسبابه، رجاء أن يعامل بمثل ذلك فيكون الله له عند ظنه ولقد يسر الله للمؤمنين سبيل المنن إذ كان عند ظنونهم: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بك العسر}. ↑↑
وارفع من هذه المراتب كلها، الاستسلام إلى الله تعالى، والتفويض له، بما يستحق الحق من ذلك لا لأمر يعود على العبد، فان المراتب الأول لم تخرج العبد عن رق العلل، إذ من استسلم له بحسن عوائده استسلامه معلول بعوائد الألطاف السابقة.
فلو لم تكن لم يكن استسلامه، والثاني أيضا كذلك لأن ترك التدبير مع الله لكونه لا يجدي شيئا ليس هو تركا لأجل الله، لأن هذا العبد، لو علم أن تدبيره يجدي شيئا فلعله كان غير تارك للتدبير وأما الذي استسلم إلى الله تعالى، وحسن ظنه به ليكون له عند ظنه، فهو إنما يسعى في حظ نفسه مشفقا عليها، أن يفوتها الفضل بعدوله عن الاستسلام (وحسن الظن بالله ومن استسلم إلى الله وحسن ظنه به) لما هو عليه من عظمة الألوهية ونعوت الربوبية فهذا هو العبد الذي دل على حقيقة الأمر، وجرى إن يكون هذا من الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن لله عبادا التسبيحة الواحدة منهم مثل جبل أحد). ↑↑
ولقد عاهد الله سبحانه وتعالى العباد أجمع، على إسقاط التدبير معه، بقوله تعالى:
{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى}
لأن إقرارهم بأنه ربهم، يستلزم ذلك إسقاط التدبير معه، فهذه معاقدة كانت قبل أن تكون النفس التي هي محل الاضطراب المدبرة مع الله تعالى، ولو بقي العبد على تلك الحالة الأولى التي هي كشف الغطاء ووجود الحضرة، لما أمكنه أن يدبر مع الله.
فلما أسدل الحجاب، وقع التدبير والاضطراب فلأجل ذلك أهل المعرفة بالله المشاهدون لأسرار الملكوت، لا تدبير لهم مع الله. إذ وجود المواجهة أبى لهم ذلك وفسخ عزائم تدبيرهم، وكيف يدبر مع الله عبد هو في حضرته ومشاهد لكبرياء عظمته. ↑↑

التدبير والاختيار
↑↑
فائدة: اعلم أن التدبير والاختيار، وباله عظيم، وخطره جسيم وذلك: أنا نظرنا فوجدنا أن آدم عليه السلام، إنما حمله على أكل الشجرة تدبيره لنفسه، وذلك أن الشيطان قال لآدم وحواء عليهما السلام، كما قال الله تعالى:
{وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}.
ففكر آدم عليه السلام في نفسه، فعلم أن الخلود في جوار الحبيب هو المطلوب الأسنى وانتقاله من الآدمية إلى وصف الملكية إما أن يكون لن وصف الملكية أفضل أو ظن آدم عليه السلام أن ذلك أفضل.
فلما دبر عليه السلام في نفسه هذا التدبير، أكل من الشجرة (فما أتى إلا من عين وجود التدبير)، وكان مراد الحق منه ذلك لينزله إلى الأرض ويستخلفه فيها، فكان هبوطا في الصورة، وترقيا في المعنى، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله:
(والله ما أنزل الله آدم إلى الأرض لينقصه، وإنما أنزله إلى الأرض ليكمله).
فلم يزل آدم عليه السلام راقيا إلى الله تعالى، تارة على معراج التقريب والتخصيص، وتارة على معراج الذلة والمسكنة، وهو في التحقيق أتم، ويجب على كل مؤمن إن يعتقد إن النبي ولرسول لا ينتقلان من حالة إلا إلى حالة أكمل منها. ↑↑
وافهم ههنا قوله سبحانه وتعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى}.
قال ابن عطية: (وللحالة الثانية خير لك من الأولى).
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن الحق سبحانه وتعالى له التدبير والمشيئة وكان قد سبق من تدبير مشيئته، أنه لا بد أن يعمر الأرض ببني آدم، وأن يكون منهم كما شاء.
(منهم محسن، وظالم لنفسه مبين).
وكان من تدبير حكمته: أن لا بد من تمام ذلك، وظهوره إلى عالم الشهادة، فأراد الحق سبحانه أن يكون تناول آدم للشجرة سببا لنزوله إلى الأرض، ونزوله إلى الأرض سببا لظهور مرتبة الخلافة التي من عليه بها، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:
(أكرم بها معصية أورثت الخلافة وسنت التوبة لمن بعده إلى يوم القيامة).
وكان نزوله إلى الأرض بحكم قضاء الله تعالى، قبل أن يخلق السماوات والأرض.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه:
(والله لقد أنزل آدم إلى الأرض، قبل أن يخلقه، كما قال سبحانه: {إني جاعل في الأرض خليفة}.)
فمن حسن تدبير الله تعالى لآدم، أكله من الشجرة ونزوله الأرض وإكرام الله تعالى إياه بالخلافة والإمامة.
وإذ قد انتهى بنا المقال إلى ها هنا، فلنتبع الفوائد والخصائص التي منحها آدم عليه السلام في هذه الواقعة، لنعلم أن لأهل الخصوص مع الله ليست لمن سواهم، ولله فيهم تدبير لا يتوجه به لما عداهم. ↑↑
ففي أكل آدم من الشجرة ونزوله إلى الأرض فوائد، منها: أن آدم وحواء عليهما السلام كانا في الجنة فتعرفا أليهما بالرزق والعطايا، والإحسان والنعماء، فأراد الحق سبحانه وتعالى، من خفي لطفه في تدبيره أن يأكلا من الشجرة ليتعرف لهما بالحلم والستر والمغفرة والتوبة والاجتبائية.
أما الحلم: فلأنه لم يعاجلهما بالعقوبة حين فعلا والحليم هو الذي لا يعاجل بالعقوبة على ما صنعت، بل يمهلك، إما إلى عفوه وإنعامه، وإما إلى سطوته وانتقامه.
الثاني: هو أن الله سبحانه وتعالى، تعرف لهما بالستر، وذلك أنهما لما كلا منها، وبدت لهما سوآتهما بزوال ملابس الجنة سترهما بورقها، كما قال الله تعالى:
{وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}.
فكان ذلك من وجود ستره. ↑↑
الثالث: هو انه أراد الحق سبحانه وتعالى، أن يعلمه باجتبائه له، وينشأ عن اجتبائه مقامان:
التوبة إليه، والهداية من عنده.
فأراد الحق سبحانه أن يعرف آدم عليه السلام باجتبائه له وسابق عنايته فيه، فقضى عليه بأكل الشجرة، ثم لم يجعل أكله إياها سبيلا لإعراضه عنه، ولا لقطع مدده منه، بل كان في ذلك إظهار لوده سبحانه وتعالى فيه، وعنايته به، كما قالوا:
(من سبقت له العناية لم تضره الجناية). ↑↑
ورب ود تقطعه المخالفة، والود الحقيقي: هو الذي يدوم لك من الواد لك موافقا كنت أو مخالفا، وليس في قوله تعالى: {ثم اجتباه ربه} دليل على حدوث اجتبائية الحق فيه بل كان قبل وجوده، وإنما الذي حدث بعد الذنب، ظهور أثر الاجتبائية من الله له، فهو الذي قال فيه الحق سبحانه وتعالى: {ثم اجتباه ربه}.
أي أظهر له أثر الاجتبائية فيه، والعناية به بتسييره للتوبة إليه، والهداية من عنده، فصار في قوله تعالى: {ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى} تعريفات ثلاث:
الاجتبائية، والتوبة التي هي نتيجتها والهدى الذي هو نتيجة التوبة فافهم.
ثم أنزله إلى الأرض فتعرف له بحكمته كما تعرف له في الجنة ببواهر قدرته، وذلك لأن الدنيا محل الوسائط والأسباب، فلما نزل آدم عليه السلام إلى الأرض علم الحراثة، والزراعة، وما يحتاج إليه من أسباب عيشته ليحققه الله تعالى بما أعلمه به من قبل أن ينزل بقوله: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}. ↑↑
والمراد بقوله تعالى: {فتشقى} تعب الظواهر لا الشقاوة التي هي ضد السعادة والدليل على ذلك قوله تعالى: {فتشقى} ولم يقل فتشقيا. لأن المتاعب والكلف، إنما هي على الرجال دون النساء، كما قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء، بما فضل الله}.
ولو كان المراد شقاء بالقطيعة، أو وجود الحجبة لقال: (فتشقيا) فدل الإفراد على انه ليس الشقاء هنا بقطيعته ولا أبعاده مع انه لو ورد كذلك لحملناه على الظن الجميل وأرجعناه إلى المتاعب الظاهرة على التأويل.

أكل آدم لم يكن عنادا
↑↑
فائدة جليلة: اعلم أن أكله عليه السلام للشجرة لم يكن عنادا ولا خلافا، فإما أن يكون نسي الأمر فتعاطى الأكل وهو له غير ذاكر، وهو قول بعضهم، ويحمل عليه قوله تعالى:
{ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما}. أو إن كان تناوله ذاكرا للأمر، فهو إنما تناوله لأنه قيل له: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين}. فلحبه في الله، وشغفه به، أحب ما يؤديه إلى الخلود في جواره، والبقاء عنده، أو ما يؤديه إلى الملكية. لأن آدم صلى الله عليه وسلم عاين قرب الملكية من الله، فأحب أن يأكل من الشجرة لينال رتبة الملكية التي هي أفضل أو التي هي في ظنه كذلك على اختلاف أهل العلم وأهل المعرفة أيضا، أيهما أفضل؟ الملكية، أم النبوة لا سيما وقد قال سبحانه وتعالى: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}. قال آدم عليه السلام: (ما ظننت أن أحدا يحلف بالله كاذبا). فكان كما قال تعالى: {فدلاهما بغرور}.
↑↑
فائدة: اعلم أن آدم عليه السلام لم يكن لشيء مما كان يأكله أذى، بل كان رشحا كرشح المسك، كما يكون أهل الجنة في الجنة، إذا دخلوها، لكنه لما أكل من الشجرة المنهي عنها، أخذته بطنه، فقيل له: يا آدم أين؟ على الأسرة أم الحجال، أم على شاطىء الأنهار؟ انزل إلى الأرض التي يمكن ذلك فيها فإذا كان ما به المعصية، وصلت إليه آثارها، فكيف لا تؤثر المعصية في الفاعل بها فافهم.

تنبيــه واعتبار
↑↑
اعلم أن كل شيء نهى عنه، فهو شجرة، والجنة هي حضرة الله، فيقال لآدم قلبك، ولحواء نفسك، ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. لكن آدم عليه السلام محفوف بالعناية لما أكل من الشجرة أنزل إلى الأرض للخلافة، وأنت إذا أكلت من شجرة النهي أنزلت إلى الأرض القطيعة فافهم. فان تناولت شجرة النهي، أخرجت من جنة الموافقة، إلى وجود أرض القطعية، فيشقى قلبك، وإنما يلاقي الشقاء وقت القطيعة القلب لا النفس، لأن وقت القطيعة يكون فيه ملائمات النفوس من ملذوذاتها وشهواتها، وانهماكها في غفلاتها.

ترتيب وبيان
↑↑
اعلم أن الله تعالى تعرف لآدم عليه السلام، بالإيجاد فناداه يا قدير ثم تعرف له بتخصيص الإرادة فناداه يا مريد.
ثم تعرف له بحكمه في نهيه عن أكل الشجرة، فناداه يا حاكم ثم قضى بأكلها، فناداه يا قاهر.
ثم يعاجله بالعقوبة إذا أكلها، فناداه يا حليم.
ثم لم يفضحه في ذلك فناداه يا ستار.
ثم تاب عليه بعد ذلك فناداه يا تواب.
ثم أشهده أن أكله من الشجرة لم يقطع عنه وده فيه، فناداه يا ودود.
ثم أنزله إلى الأرض، ويسر له أسباب المعيشة، فناداه يا لطيف.
ثم قواه على ما اقتضاه منه، فناداه يا معين.
ثم أشهده سر الأكل والنهي والنزول فناداه يا حكيم.
ثم نصره على العدو، والمكائد لهو فناداه يا نصير.
ثم ساعده على أعباء تكاليف العبودية، فناداه يا ظهير.
فما أنزله إلى الأرض إلا ليكمل له وجود التصريف ويقيمه بوظائف التكليف، فتكلمت في آدم عليه السلام العبوديتان. عبودية التصريف، وعبودية التكليف، فعظمت منة الله عليه، وتوفر إحسانه إليه، فافهم.

مقام العبودية
↑↑
انعطاف: اعلم أن أجل مقام أقيم العبد فيه: مقام، قول الله سبحانه وتعالى:
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا}.
{وما أنزلنا على عبدنا}.
{كهيعص، ذكر رحمة ربك عبده زكريا}.
{وانه لما قام عبد الله يدعوه}.
ولما خير رسول صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، اختار العبودية لله تعالى، ففي ذلك أدل دليل أنها من أفضل المقامات، وأعظم القربات.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد لا آكل متكئا، إنما أنا عبد الله، آكل كما يأكل العبيد).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر).
سمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله يقول:
(ولا فخر، أي لا أفتخر بالسيادة، إنما الفخر لي بالعبودية لله تعالى ولأجلها كان الإيجاد).
وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
والعبادة ظاهر العبودية، والعبودية روحها:
وإذ قد فهمت هذا فروح العبودية وسرها إنما هو ترك الاختيار وعدم منازعة الأقدار، فتبين من هذا إن العبودية ترك التدبير والاختيار مع الربوبية. فإذا كان لا يتم مقام العبودية الذي هو أشرف المقامات إلا بترك التدبير، فحقيق على العبد أن يكون له تاركا، وللتسليم لله تعالى وللتفويض له سالكا، ليصل إلى مقام الأكمل، والمنهج الأفضل.
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يقرأ ويخفض صوته وعمر رضي الله عنه يقرأ ويرفع صوته فقال لأبي بكر: لم خفضت صوتك، فقال: قد أسمعت من ناجيت.
وقال لعمر: لم رفعت صوتك؟ فقال: أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان. ↑↑
فقال لأبي بكر: ارفع قليلا وقال لعمر: اخفض قليلا.
فكان شيخنا أبو العباس رحمه الله تعالى يقول: ها هنا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج كل واحد منهما عن مراده لنفسه لمراده صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: تفطن رحمك الله لهذا الحديث، تعلم منه أن الخروج عن الإرادة هي أفضل العبادة: لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كل واحد منهما قد أبان لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحة قصدهما، وبعد ذلك أخرجهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أراد لأنفسهما مع صحة قصده إلى اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بنو إسرائيل والتيه
↑↑
فائدة: اعلم أن بني إسرائيل لما دخلوا التيه، ورزقوا المن والسلوى، واختار الله تعالى لهم ذلك رزقا رزقهم إياه، يبرز من عين المنة من غير تعب منهم ولا نصب، فرجعت نفوسهم الكثيفة لوجود إلف العبادة والغيبة عن شهود تدبير الله تعالى إلى طلب ما كانوا يعتادونه، فقالوا:
{ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها، وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله}.
وذلك لأنهم تركوا ما اختار الله لهم مما يليق لما اختاروه لأنفسهم فقيل لهم على طريق التوبيخ لهم:
{أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا}. فظاهر التفسير: أتستبدلون الثوم والبصل والعدس بالمن والسلوى وليس النوعان سواء في اللذة ولا في سقوط المشقة؟ وسر الاعتبار: أتستبدلون مرادكم لأنفسكم بمراد الله لكم؟ ↑↑
أتستبدلون الذي هو أدنى، وهو ما أردتموه، بالذي هو خير، وهو ما أراد الله لكم؟
اهبطوا مصر فإن ما أنتم اشتهيتموه لا يليق أن يكون إلا في الأمصار.
وفي سر الاعتبار: اهبطوا عن سماء التفويض، وحسن الاختيار والتدبير منا لكم إلى أرض التدبير والاختيار منكم لأنفسكم موصوفين بالذلة والمسكنة لاختياركم مع الله وتدبيركم لأنفسكم مع تدبير الله.
ولو أن هذه الأمة هي الكائنة في التيه، لما قالت مقال بني إسرائيل لشفوف أنوارهم ونفوذ أسرارهم.
ألا ترى أن بني إسرائيل في ابتداء الأمر قالوا لموسى عليه السلام، وهو كان سبب التيه لهم:
{اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون}.
وقالوا في آخره: {ادع لنا ربك}.
فأبوا في الأول عن امتثال أمر الله، وفي الآخرة، اختاروا لأنفسهم غير ما اختار الله بهم، وكثيرا ما تكرر منهم ما يدل على بعدهم عن مصدر الحقيقة. ↑↑
وسواء الطريقة في قولهم: {أرنا الله جهرة} وفي قولهم لموسى عليه السلام بعد، ولم ينشف بلل البحر عن أقدامهم حين فرق لهم لما عبروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}.
فكانوا كما قال موسى عليه السلام: {قال إنكم قوم تجهلون}.
وكذلك قوله تعالى: {وإذ نتفنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه وقع بهم، خذوا ما أتيناكم بقوة}.
وهذه الأمة نتق فوق قلوبها جبال الهيبة والعظمة، فأخذوا الكتاب بقوة الإيمان، فثبتوا لذلك وأيدوا لما هنالك، وحفظوا من عبادة العجل وغير ذلك، لأن الله تعالى اختار هذه الأمة واختار لها وأثنى عليها بقول:
{كنتم خير أمة أخرجت للناس}. وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}. أي عدولا خيارا.

أفضل الكرامات وأجل القربات
↑↑
فقد تبين لك من هذا أن التدبير والاختيار، من أشد الذنوب والأوزار.
فإذا أردت أن يكون لك من الله اختيار فاسقط معه الاختبار، وان أردت أن يكون لك حسن التدبير فلا تدع معه وجود التدبير وان أردت الوصول إلى المراد، فذلك بأن لا يكون معه مراد ولذلك لما قيل لأبي يزيد ما تريد؟ قال: (أريد أن لا أريد).
فلم تكن أمنيته من الله، ولا طلبته منه إلا سقوط الإرادة معه، لعلمه أنها أفضل الكرامات وأجل القربات.
وقد يتفق للمخصص الكرامات الظاهرة، وبقايا التدبير كامنة فيه.
فالكرامة الكامنة الكاملة الحقيقية، إنما هي: ترك التدبير مع الله، والتعويض لحكم الله.
ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى: إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان.
كرامة الإيمان لمريد الإيقان، وشهود العيان، وكرامة العمل على الاقتداء والمتابعة ومجانبة الدعاوى والمخادعة.
فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب وخطأ بالعلم والعمل بالصواب وكل كرامة لا يصحبها الرضا من الله تعالى وعن الله فصاحبها مستدرج مغرور، أو ناقص، أو هالك مثبور.
فاعلم أن الكرامة لا تكون كرامة حتى يصحبها الرضا عن الله، ومن لازم الرضا عن الله، ترك التدبير معه، وإسقاط الاختيار بين يديه. ↑↑
واعلم أنه قد قال بعضهم: (إن أبا يزيد رحمه الله، لما أراد أن لا يريد، فقد أراد).
وهذا قول من لا معرفة عنده، وذلك: لأن أبا يزيد إنما أراد أن لا يريد. لأن الله تعالى اختار له وللعبد أجمع، عدم الإرادة معه، فهو في إرادته أن لا يريد، موافق لإرادة الله تعالى، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى: (وكل مختارات الشرع وترتيباته، ليس لك منها شيء واسمع وأطع.
وهذا موضع الفقه الرباني والعلم اللدني، وهو أرض لتنزل علم الحقيقة المأخوذ عن الله لمن استوى.
فأفاد الشيخ بهذا الكلام: أن كل مختار للشرع ولا يناقض اختياره مقام العبودية المبني على ترك الاختيار، لئلا ينخدع عقل قاصر عن درك الحقيقة بذلك، فيظن أن الوظائف والأوراد، ورواتب السنن، وإدارتها، ويخرج بها العبد عن صريح العبودية، لأنه قد اختار. ↑↑
فبين الشيخ رحمه الله تعالى، أن كل مختارات الشرع، وترتيباته ليس لك منها شيء، وإنما أنت مخاطب أن تخرج عن تدبيرك لنفسك، واختيارك لها، لا عن تدبير الله ورسوله لك، فافهم.
فقد علمت إذا أن أبا يزيد ما أراد أن لا يريد إلا لأن الله تعالى أراد منه ذلك. فلم تخرجه هذه الإرادة، عن العبودية المقتضاة منه، فقد علمت أن الطريق الموصلة إلى الله تعالى هي محور الإرادة ورفض المشيئة حتى قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
(لن يصل الولي إلى الله، ومعه تدبير من تدبيراته، واختيار من اختياراته).
وسمعت شيخنا أبا العباس رحمه الله تعالى يقول:
(ولن يصل العبد إلى الله تعالى، حتى تنقطع عنه شهوة الوصول إلى الله تعالى).؟
يريد والله أعلم: أن تنقطع عنه انقطاع أدب، لا انقطاع ملل. ↑↑
أو لأنه يشهد إذا قرب إبان وصوله، عدم استحقاقه لذلك، واستحقاره لنفسه أن يكون أهلا لما هنالك، فتنقطع عنه شهوة الوصول لذلك، لا مللا، ولا سلوا، ولا اشتغالا عن الله تعالى بشيء دونه.
فإذا أردت الإشراق والتنوير فعليك بإسقاط التدبير، واسلك إلى الله كما سلكوا، تدرك ما أدركوا.
أسلك مسالكهم وانهج مناهجهم وألق عصاك فهذا جانب الوادي
ولنا في هذا المعنى في ابتداء العمر، ما كتبت به لبعض أخواني:

أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعا *** ونحن قعود ما الذي أنت صانع
أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم *** صريع الأماني والغرام منازع
وهذا لسان الكون ينطق جهرة *** بأن جميع الكائنات قواطع
وأن لا يرى السبيل سوى امرئ ** رمى بالسوء لم تختدعه المطامع
ومن أبصر الأشياء والحق قبلها *** فغيب مصنوعا بمن هو صانع
بواده أنوار لمن كان ذاهبا *** وتحقيق أسرار لمن هو راجع
فقم وانظر الأكوان والنور عمها *** ففجر التداني نحوك اليوم طالع
وكن عبده والق القياد لحكمه *** وإياك تدبيرا فما هو نافع
أتُحْكِم تدبيرا وغيرُك حاكمٌ *** أأنت لأحكام الإله تنازع
فمحو إرادة وكل مشيئة *** هو الغرض الأقصى فهل أنت سامع
كذلك سار الأولون فأدركوا *** على إثرهم فليسر من هو تابع
على نفسه فليبك من كان طالبا *** وما لمعت ممن يحب لوامع
على نفسه فلبيك من كان باكيا *** أيذهب وقت وهو باللهو ضائع
↑↑
الموقنون العابدون
↑↑
أعلم وفقك الله أن لله عبادا خرجوا عن التدبير مع الله بتأديبه الذي أدبهم، وبتعليمه لذي علمهم، ففسخت الأنوار عزائم تدبيرهم، ودت المعارف والأسرار جبال اختيارهم فنزلوا منزل الرضا، فوجدوا نعيم المقام، فاستغاثوا بالله، واستصرخوا به، خشية أن يشغلهم حلاوة الرضا فيميلوا إليها بمساكنة، أو يجنحوا لها بمراكنة.
قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى:
كنت في ابتداء أمري، أدبر مع أصنع من الطاعات وأنواع الموافقات، فتارة أقول: ألزم البراري والقفار وتارة أقول: ارجع إلى المدائن والديار لصحبة العلماء والأخيار.
فوصف لي ولي من أولياء الله بأرض المغرب بجبل هنالك، فطلعت إليه، فوصلت إليه ليلا، فكرهت أن أدخل عليه حينئذ، فسمعته يقول: (اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك، فرضوا منك بذلك.
اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق علي حتى لا يكون ملجئ إلا إليك.
فقلت: يا نفس انظري من أي بحر يغترف هذا الشيخ؟
فأقمت حتى إذا كان الصباح دخلت عليه، فسلمت عليه، ثم قلت: يا سيدي كيف حالك؟ فقال:
أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم، كما تشكوا أنت من حر التدبير والاختيار.
فقلت: يا سيدي أما شكواي من حر التدبير والاختيار، فقد ذقته، وأنا الآن فيه وأما شكواك من برد الرضا والتسليم، فلم أفهمه. ↑↑
فقال: (أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله).
فقلت: يا سيدي سمعتك البارحة تقول: اللهم إن قوما سألوك أن تسخر لهم خلقك فأعطيتهم ذلك فرضوا منك بذلك، اللهم وإني أسألك اعوجاج الخلق حتى لا يكون ملجئ إلا إليك.
فتبسم ثم قال: يا بني، عوض ما تقول: سخر لي خلقك، قل: يا رب كن لي، أترى إذا كانوا لك، أيغنوك بشيء؟ فما هذا الجبن.
فائدة: اعلم إن هلاك ابن نوح عليه السلام إنما كان لأجل رجوعه إلى تدبير نفسه، وعدم رضاه بتدبيره الله، الذي اختاره لنوح عليه السلام، ومن كان معه في السفينة، فقال له نوح عليه السلام: {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. ↑↑
قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء.
قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}.
فآوي في المعنى إلى جبل عقله، ثم كان الجبل الذي اعتصم به صورة ذلك في المعنى القائم به، فكان كما قال الله تعالى:
{وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
في الظاهر بالطوفان، وفي الباطن بالحرمان، فاعتبر أيها العبد بذلك.
فإذا تلاطمت عليك أمواج الأقدار، فلا ترجع إلى جبل عقلك الباطل لئلا تكون من المغرقين في بحر القطيعة ولكن ارجع إلى سفينة الاعتصام بالله، والتوكل عليه.
{ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}.
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
فإنك إذا فعلت ذلك استوت بك سفينة النجاة على جودي الأمن، ثم تهبط بسلامة القربة، وبركات الوصلة عليك، وعلى أمم ممن معك وهو عوالم وجودك، فافهم ذلك ولا تكن من الغافلين، واعبد ربك ولا تكن من الجاهلين.
فقد علمت أن إسقاط التدبير والاختيار، أهم ما يلتزمه الموقنون، ويطلبه العابدون، وأشرف ما يتحلى به العارفون.
سألت بعض العارفين ونحن تجاه الكعبة، فقلت له: من أي الناحيتين يكون رجوعك؟ فقال:
(لي مع الله عادة أن لا تجاوز إرادتي قدمي).
وقال بعض المشايخ: (لو دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وبقيت أنا ولم يقع عندي تمييز في أي الدارين يكون قراري). ↑↑
فهذا حال عبد محيت اختياراته وإرادته، فلم يبق له مع الله مراد إلا ما أراد كما قال السلف.
(أصبحت وهواي في موقع قدر الله).
قال أبو حفص الحداد رحمه الله تعالى: (لي منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ولا نقلني إلى غيره فسخطته).
وقال بعضهم: (لي منذ أربعين سنة أشتهي، أن لا أشتهي لأترك ما أشتهي فلا أجد ما أشتهي).
فهذه قلوب تولى الله رعايتها، وأوجب حمايتها، ألم تسمع قوله تعالى:
{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
لأن تحققهم بمقام العبودية أبى لهم الاختيار مع الربوبية، وأن يقارفوا ذنبا، وأن يلابسوا عيبا.
وقال سبحانه وتعالى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}.
فقلوب ليس للشيطان عليها سلطان، من أين يطرقها وساوس التدبير؟ أو يرد عليها وجود التكدير؟
وفي الآية بيان أن من صحح الإيمان بالله، والتوكل على الله، فلا سلطان للشيطان عليه، لأن الشيطان إنما يأتيك من أحد وجهين:
إما بتشكيك في الاعتقاد، وإما بركون إلى الخلق والاعتماد فأما التشكيك في الاعتقاد: فالإيمان ينفيه وأما السكون إلى الخلق والاعتماد عليهم فالتوكل عليه ينقيه.

ولاية الله للمؤمنين
↑↑
تنبيه: اعلم أن المؤمن قد ترد عليه خواطر التدبير، ولكن الله تعالى لا يدعه لذلك، ولا يتركه لما هنالك، ألم تسمع قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}.
فالحق سبحانه وتعالى، يخرج المؤمنين من ظلمات التدبير إلى إشراق نور التفويض، ويقذف بحق تثبيته ع


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 7 مشاركة ] 

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: [AhrefsBot] و 37 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط