في ذكر ليلة النصف من شعبان هذه خطبة للامام المفسر المحدث الفقيه الحنبلي المتكلم الأشعري عبدالرحمن الجوزي رحمه الله :
في ذكر ليلة النصف من شعبان
الحمد لله الذي لا ناقض لما بناه ، ولا حافظ لما أفناه ، ولا مانع لما أعطاه ، ولا راد لما قضاه ولا مظهر لما أخفاه ، ولا ساتر لما أبداه ، ولا مضل لمن هداه ، ولا هادي لمن أعماه ، أنشأ الكون بقدرته وما حواه ، ورزق الصون بمنته ومَنّه من والاه ، " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " .
خلق آدم بيده وسواه ، وأسكنه في حرم قربه وحماه ، وأمره كما شاء ونهاه ، وأجرى القضاء بموافقته هواه ، فنزعت يد التفريط ما كساه ، ثم تاب عليه فرحمه واجتباه ، وحاله ينذر من يسعى فيما اشتهاه ، وطرد إبليس وكانت السموات مأواه ، فأصمه بمخالفته كما شاء وأعماه ، وأبعده عن بابه للعصيان وأشقاه ، وفي قصته نذير لمن خالفه وعصاه ، ألان الحديد لداود كما تمناه ، يأمن لابسه من يلقاه ، ثم صرع صانعه بسهم قدر ألقاه ، فلما تسور المحراب خصماه ، أظهر جدال التوبيخ فخصماه " وظن داود أنما فتناه " وذهب ذو النون مغاضباً فالتقمه الحوت وأخفاه ، فندم إذ رأت عيناه ، ما جنت يداه فلما أقلقه كرب ظلام تغشاه ، تضرع مستغيثاً ينادي مولاه " إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه " .
تعالى ربنا وسبحانه ، وحاشاه أن يخيب راجيه وينسى من لا ينساه ، أخذ موسى من أمه طفلاً وراعاه ، وساقه إلى حجر عدوه فرباه ، وجاد عليه بنعم لا تحصى وأعطاه ، فمشى في البحر وما ابتلت قدماه ، وتبعه العدو فأدركه الغرق وواراه ، فقال آمنت : فإذا جبريل يسدّ فاه ، وكان من غاية شرفه ومنتهاه ، أنه خرج يطلب ناراً فناداه : " يا موسى إني أنا الله " وشرّف أمته شرفاً بينا أولاه ، " وأني فضلتكم على العالمين " بكنتم خير أمة أخذناه .
خلق سيدنا محمداً - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - واختاره على الكل واصطفاه ، وكشف له الحجاب عند قاب قوسين فرآه ، وأوحى إليه من سِرّه المستور ما أوحاه ، ووعده المقام المحمود وسيبلغه مُناه .
فالحمد لله الذي دلنا بنبيه عليه وعرّفناه ، وأجلنا بالقرآن العظيم القديم وعلمناه ، وهدانا إلى بابه بتوفيق أودعناه ، حمداً لا ينقضي أولاه ولا ينفد أخراه .
وصلى الله على سيدنا محمد ما تحركت الألسن والشفاه ، وعلى آله وصحبه صلاة دائمة تدوم بدوام ملك الله ، وسلم تسليماً .
عباد الله إن ليلتكم هذه النصف ، عظيمة القدر وعجيبة الوصف ، يطلع الله فيها على العباد ، فيغفر لكلٍ ما خلا أهل العناد .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات ليلة فخرجت ، فإذا هو بالبقيع رافع رأسه إلى السماء فقال : كنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله ؟ قلت : يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك . فقال : إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب.
وعنها أيضا قالت : كانت ليلة النصف من شعبان ليلتي ، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ، فلما كان في جوف الليل فقدته ، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة ، فتلفعت بمرطي ، أما والله ما كان مرطي خزاً ولا قزاً ، ولا حريراً ، ولا ديباجاً ولا قطناً ، ولا كتاناً . قيل : فمم كان ؟ قالت : كان سداه شعراً، ولحمته من أوبار الإبل . قالت : فطلبته في حجر نسائه فلم أجده ، فانصرفت إلى حجرتي ، فإذا به كالثوب الساقط على وجه الأرض ساجدا وهو يقول في سجوده : سجد لك سوادي وخيالي ، وآمن بك فؤادي ، هذه يداي وما جنيت بهما على نفسي ، يا عظيما يرتجى لكل عظيم اغفر الذنب العظيم ، أقول كما قال داود عليه السلام أعّفر وجهي بالتراب لسيدي ، وحُقّ له أن يسجد وجهي للذي خلقه ، وشق سمعه وبصره . ثم رفع رأسه صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم ارزقني قلبا نقيا من الشرك لا كافرا ولا شقيا . ثم سجد وقال :أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من معاقبتك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك . قالت: ثم انصرف ودخل معي في الخميلة ولي نفس عال فقال : ما هذا النفس يا حميراء ؟ قالت : فأخبرته فطفق يمسح بيده على ركبتي ويقول: ويح هاتين الركبتين ماذا لقيتا في هذه الليلة ليلة النصف من شعبان ، إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيغفر لعباده إلا لمشرك أو مشاحن .
وفي رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : يا حميراء أما تدرين ما هذه الليلة ؟ هذه ليلة عتقاء الله من النار بعدد شعر غنم كلب . قلت : يا نبي الله وما بال غنم كلب ؟ قال : ليس في العرب قوم أكثر غنما منهم ، لا أقول فيهم ستة : مدمن خمر ، ولا عاق والديه ، ولا مصر على ربا ، أو زنا ، ولا مُصارم ولا مصور ولا قتات .
وروي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " يطلع الله إلى خلقه ليلة النصف من شعبان ، فيغفر لعباده إلا لاثنين : مشاحن وقاتل نفس " . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " ليلة النصف من شعبان يغفر الله لعباده إلا لمشرك أو مشاحن " .
قلت : والظاهر من المشاحن أنه الذي بينه وبين أخيه المسلم عداوة ، وقد قال الأوزاعي : هو الذي في قلبه شحناء لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " يَسحُ الله الخير في أربع ليال سحا : الأضحى ، والفطر، وليلة النصف من شعبان ، تُنسخ فيها الآجال والأرزاق ويكتب فيها الحاج ، وفي ليلة عرفة إلى الأذان " .
وفي حديث عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : خمس ليال لا يرد فيهن الدعاء . فذكر منهن ليلة النصف من شعبان .
وروى ابن كردوس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال " من أحيا ليلتي العيدين وليلة النصف من شعبان ، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب " .
وعن علي - عليه السلام - أنه قال : إذا كان ليلة النصف من شعبان قال الله تعالى : هل من سائل فأعطيه ؟هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من مسترزق فأرزقه ؟ حتى ينفجر الفجر . فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقيام ليلتها ، وصيام نهارها .
وقال حكيم بن كيسان : يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان ، فمن طهّره في تلك الليلة زكّاه إلى مثلها من قابل .
روي عن عكرمة في قوله تعالى " فيها يفرق كل أمر حكيم " قال : في النصف من شعبان يدبر الله أمر السنة ويُنسخ الأحياء من الأموات ، ويكتب حاج بيت الله الحرام ، فلا يزيد فيهم أحدا ، ولا ينقص منهم أحدا .
واعلم أن الرواية بهذا عن عكرمة مُضطربة ، فتارة يروى هكذا وتارة يروى أنها ليلة القدر كباقي المفسرين . وقد سبقت الأحاديث أن الآجال تكتب في شعبان ، فجائز أن يختص شعبان بما يتعلق بالآجال ، ويكون القدر العام في ليلة القدر.
_________________ مدد ياسيدى يارسول الله مدديااهل العباءة .. مدد يااهل بيت النبوة اللهم ارزقنا رؤية سيدنا رسول الله فى كل لمحة ونفس
|