(- الأَصْل الْمِائَة فِي حَقِيقَة النصح لله تَعَالَى وَبَيَان سره
عَن أبي أُمَامَة رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: {قَالَ الله عز وَجل: أحب مَا تعبدني بِهِ عَبدِي النصح لي}.
فالنصح لَهُ الإقبال عَلَيْهِ بالعبودية، وَأَن يرفض جَمِيع مشيئاته بِمَشِيئَة مَوْلَاهُ، وَأَن لَا يخلط بالعبودية شَيْئا من شَأْن الْأَحْرَار وأفعالهم فَيكون فِي سره وعلانيته قد آثر أَمر الله تَعَالَى على هَوَاهُ وآثر حق الله الْكَرِيم على شهوات نَفسه فَهَذَا هُوَ النصح لله تَعَالَى.
روى أَبُو أمامة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: "قَالَ الحواريون لعيسى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام مَا الناصح لله؟ قَالَ الَّذِي يبْدَأ بِحَق الله قبل حق النَّاس ويؤثر حق الله تَعَالَى على حق النَّاس وَإِذا عرض أَمْرَانِ أَحدهمَا للدنيا وَالْآخر للآخرة بَدَأَ بِأَمْر الْآخِرَة قبل أَمر الدُّنْيَا".
وَهَذَا دَرَجَة الْمُقْتَصِدِينَ، وَأما المقربون فقد جاوزوا هَذِه الخطة بِجَمِيعِ أُمُورهم كلهَا للآخرة؛ لِأَنَّهَا صَارَت لله تَعَالَى وَقد مَاتَت نُفُوسهم عَن أَن تَأْخُذ بحظها من الْأَعْمَال وحَيَت قُلُوبهم بِاللَّه تَعَالَى فَاسْتَوَى عِنْدهم عمل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَحُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق النَّاس فَصَارَت كلهَا حُقُوق الله تَعَالَى عِنْدهم؛ وَلِهَذَا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب فَإذا سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ رَفعهَا.
وروى شَدَّاد بن الْهَادِي عَن أَبِيه قَالَ: {خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِحْدَى صَلَاتي الْعشَاء وَهُوَ حَامِل إِحْدَى ابْني ابْنَته الْحسن أَو الْحُسَيْن فَتقدم فَوَضعه عِنْد قدمه الْيُمْنَى ثمَّ صلى فَسجدَ بَين ظهراني صلَاته سَجْدَة أطالها قَالَ أبي: فَرفعت رَأْسِي من بَين النَّاس وَإِذا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساجد وَإِذا الْغُلَام على ظَهره فعدت فسجدت، فَلَمَّا قضى صلَاته قيل: يَا رَسُول الله لقد سجدت سَجْدَة مَا كنت تسجدها أفشيء أمرت بِهِ أم كَانَ يوحي إِلَيْك قَالَ كل لم يكن وَلَكِن ابْني ارتحلني فَكرِهت أَن أعجله حَتَّى يقْضِي حَاجته}.
وَعَن عَلْقَمَة قَالَ: {قدم وَفد ثَقِيف على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُمْ هَدِيَّة فقبضها ثمَّ جَلَسُوا وشغلوه بِالْمَسْأَلَة فَمَا صلى الظّهْر إِلَّا عِنْد الْعَصْر}.
فالأنبياء والأولياء المقربون عَلَيْهِم السَّلَام قد تخلصوا من نُفُوسهم فأعمالهم خَالِصَة لله تَعَالَى دنيا كَانَت أَو آخِرَة حق الله تَعَالَى كَانَ أَو حق النَّاس لِأَن الْأُمُور قد صَارَت لَهُم مُعَاينَة بِنور يقينهم وَعَلمُوا أَن الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لله تَعَالَى وَأَن حق النَّاس هُوَ حق الله تَعَالَى أوجبه عَلَيْهِم وهم فِي قَبْضَة الله تَعَالَى يستعملهم فِي أُمُور دنياهم وأخراهم وحقوقه وَحُقُوق النَّاس كَيفَ شَاءَ وَقد فارقهم المقتصدون فِي ذَلِك؛ لأَنهم قد احتاجوا إِلَى تَقْدِيم الْأَمريْنِ وتمييز الْحَقَّيْنِ؛ لأَنهم لما يفارقوا أنفسهم فَأَي عمل عملوه من دنيا وآخرة فحظوظ نُفُوسهم فِيهَا قَائِمَة؛ لِأَن شهواتهم عاملة تَأْخُذ بحظها، فَإِذا اجْتمع عَلَيْهِم أَمْرَانِ أَحدهمَا للدنيا وَالْآخر للآخرة، أَو حقان أَحدهمَا لله تَعَالَى وَالْآخر للنَّاس فشهواتهم عاملة فِي أَمر دنياهم منزوعة فِي أَمر آخرتهم، فَمن نصيحتهم لله تَعَالَى أَن يؤثروا الْأَمر الَّذِي لَا شَهْوَة لنفوسهم فِيهِ ويؤخروا مَا فِيهِ حَظّ للنَّفس.
كَمَا يرْوى عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت: {يَا رَسُول الله إِن بني أبي سَلمَة فِي حجري وَلَيْسَ لَهُم شَيْء إِلَّا مَا أنفقت عَلَيْهِم أفلي أجر إِن أنفقت عَلَيْهِم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أنفقي عَلَيْهِم فَإِن لَك أجر مَا أنفقت عَلَيْهِم}.
فَإِذن المقتصد إِذا صلى أَو قَرَأَ الْقُرْآن أَو عمل شَيْئا من هَذِه الْأَعْمَال عدهَا آخِرَة، وَإِذا أكل أَو شرب أَو نَام أَو جَامع عدهَا دنيا؛ لِأَنَّهُ لَا يقدر أَن يخلصها حَتَّى يصفو من الشَّهْوَة النفسية فافترق أمراه دنيا وآخرة فَمَا كَانَ من أَمر الْآخِرَة أمكنه تصفيته على حسب طاقته وَمَا كَانَ من أَمر دُنْيَاهُ فالشهوة غالبة عَلَيْهِ قاهرة لَهُ فَمن النصح لَهُ أَن يبْدَأ بِأَمْر الْآخِرَة، وَأما المقرب فقد صَارَت شَهْوَته منية، فَالْفرق بَين الشَّهْوَة والمنية أَن النَّفس صَارَت حَيَّة بشهوتها فَإِذا عرض لَهَا مَا تلتذ بِهِ اهتشت النَّفس بالعجلة إِلَيْهِ حرصا وشرها فَتلك شَهْوَة، والمنية لما مَاتَت شَهْوَة النَّفس حييّ الْقلب بِاللَّه تَعَالَى فَإِذا عرض لَهَا مَا تلتذ بِهِ بِاللَّه تَعَالَى لحظت إِلَى الله تَعَالَى وراقبت تَدْبيره فَإِن أَعْطَيْت أخذت وَإِن منعت قنعت فَتلك منية، فالمقرب منيته فِيمَا دبر الله تَعَالَى لَهُ يراقب مَا يَبْدُو لَهُ من غيب الملكوت فيتلقاه بالرضاء والذلة والانقياد وَالْقَبُول عبودة لله تَعَالَى ومسكنة فَصَارَت الْأُمُور كلهَا آخِرَة عِنْده والحقوق كلهَا حُقُوق الله تَعَالَى، فالغالب على أُمُور المقرب ذكر الله تَعَالَى، وَالْغَالِب على أُمُور المقتصد ذكر النَّفس. قَالَ عَليّ كرم الله وَجهه فِي وصف الشَّيْخَيْنِ: "إن أَبَا بكر كَانَ أَواه الْقلب منيبا وَإن عمر كَانَ عبدا ناصحا لله تَعَالَى فنصحه".
فالأواه لَا يُمَيّز بَين الْأَمريْنِ؛ لِأَنَّهُمَا كلهما لله تَعَالَى وَلَيْسَ فيهمَا ذكر النَّفس، والناصح لله عبد تفرد لله تَعَالَى بِقِيَام حُقُوقه فَكلما اجْتمع أَمْرَانِ للنَّفس فِي أَحدهمَا نصيب آثر الَّذِي لَا نصيب لَهَا فِيهِ وَبَدَأَ بِهِ، فَفعل عمر رَضِي الله عَنهُ فِي الظَّاهِر فعل الْمُقْتَصِدِينَ وَفِي الْبَاطِن من المقربين لِأَن المقربين صنفان: صنف مِنْهُم قد انفردوا فِي فردانيته فخلت قُلُوبهم من ذكر نُفُوسهم وَالله تَعَالَى يستعملهم ووحدانيته تملك قُلُوبهم وَهَذِه صفة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وصنف مِنْهُم لم يصلوا إِلَى هَذِه الخطة قد انْكَشَفَ على قُلُوبهم من جلال الله تَعَالَى وعظمته مَا مَلَأت قُلُوبهم من هيبته فهم القائمون على نُفُوسهم فَلَا يدعونها تلحظ إِلَّا إِلَى حق، فَالْحق يستعملهم والهيبة تملك قُلُوبهم وَعمر رَضِي الله عَنهُ مِنْهُم.
روى كَعْب بن مَالك: "أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ أَتَى من الْيمن بِثَلَاثَة سيوف أَحدهَا محلي، فَقَالَ ابْنه عبد الله بن أبي بكر: مر لي بِهَذَا السَّيْف الْمحلي، فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: فَهُوَ لَك، فَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: بل إيَّايَ فاعطني، فَقَالَ أَبُو بكر: فَأَنت أَحَق بِهِ، فَأَخذه عمر رَضِي الله عَنهُ، فَانْقَلَبَ عمر بِالسَّيْفِ إِلَى منزله فراح وَقد جعل حلية السَّيْف فِي ظَبْيَة والنصل مَعَه فَقَالَ عمر: يَا أَبَا بكر اسْتَعِنْ بِهَذِهِ الْحِلْية على بعض مَا يعروك وَرمى بالنصل إِلَى عبد الله ابْن أبي بكر وَقَالَ: وَالله مَا صنعت هَذَا نفاسة عَلَيْك يَا أَبَا بكر وَلَكِن للنَّظَر لَك فَبكى أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ يَرْحَمك الله يَرْحَمك الله".
دق عِنْد أبي بكر شَأْن ذَلِك السَّيْف وحليه فَلم يظْهر على قلبه قدر ذَلِك فَاسْتَوَى عِنْده سُؤال وَلَده وسؤال الْأَجْنَبِيّ فأنعم ثمَّ لما سَأَلَهُ الأولى آثره عَلَيْهِ، وَعمر نظر إِلَى الْحق وَإِلَى تَدْبِير الْحق فَإِن من تَدْبِير الْحق جلّ جَلَاله أَن ينْزع الْحِلْية فيستعين بهَا فِي النوائب وَفِي النصل بِلَا حلية كِفَايَة وَتَابعه أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْحق وَبكى فَرحا بِمَا وجد من التأييد والعون فِيمَا قَلّدهُ الله تَعَالَى عِنْد أَخِيه وَصَاحبه ودعا لَهُ بِالرَّحْمَةِ لما وجده ناصحا لله تَعَالَى ولإمامه مشفقا عَلَيْهِ وَلَكِن فعل أبي بكر فعل الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام فالرسول وَمن فِي دَرَجَته قريب مِنْهُ فِي سَعَة عَظِيمَة من ملكه وَفعل عمر رَضِي الله عَنهُ فعل المحقين لأَنهم فِي أَمر عَظِيم من الْقيام بِحقِّهِ حزما واحتياطا وَصِحَّة وتقويما.
وَقد روى زيد بن أسلم عَن أَبِيه قَالَ: "قدم عبد الله وعبيد الله ابْنا عمر رَضِي الله عَنْهُم على أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ من مغربي لَهما، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: وددت أَنِّي قدرت أَن أنفعكما، قَالَ: ثمَّ قَالَ هَهُنَا من مَال الله فخذاه فاشتريا بِهِ تِجَارَة من تِجَارَة الْمَدِينَة واضمناه فَإِذا قدمتما فأديا المَال إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَكتب إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ أَن اقبض مِنْهُمَا كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قدما على عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ لَهما: أديا المَال وَربحه، فَأَما عبد الله فَسكت، وَأما عبيد الله فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَأَيْت لَو تلف هَذَا المَال أما كنت تَأْخُذهُ منا؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: فَلم تَأْخُذ الرِّبْح؟ فَقَالَ رجل فِي مَجْلِسه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو جعلته قراضا، قَالَ: فقاسمهما الرِّبْح وَأخذ المَال". فَهَذِهِ مُعَاملَة عمر مَعَ وَلَده وَمَعَ سَائِر الْخلق إِقَامَة الْحق ونصرته فِي الْأُمُور كلهَا.
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {إِن الله ضرب الْحق على لِسَان عمر وَقَلبه}.
وَقَالَ فِي رِوَايَة: {الْحق بعدِي مَعَ عمر وَقَلبه}.
وَقَالَ فِي رِوَايَة: {الْحق بعدِي مَعَ عمر حَيْثُ كَانَ}.
وَوَصفه ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَقَالَ: "كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ كالطير الحذر الَّذِي يرى أَن لَهُ فِي كل طَرِيق شركا". فَهَذَا شَأْن النصحاء لله تَعَالَى.
وروى جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: {دخل أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ يُضْرب بالدف عِنْده فَقعدَ وَلم يزْجر لما رأى من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فجَاء عمر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا سمع رَسُول الله صَوته كف عَن ذَلِك، فَلَمَّا خرجا قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: يَا رَسُول الله كَانَ حَلَالا فَلَمَّا دخل عمر صَار حَرَامًا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عَائِشَة لَيْسَ كل النَّاس مرخيا عَلَيْهِ}.
فَهَذِهِ كلمة تكشف لَك أَن المقربين صنفان: صنف مِنْهُم قُلُوبهم فِي جَلَاله وعظمته هائمه فقد ملكتهم هيبته فَالْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يستعملهم فِي كل أَمر فهم مشرفون على الْأُمُور مشمرون لَهَا. وصنف آخر قد أرْخى من عنانه فَالْأَمْر عَلَيْهِ أسهل لِأَنَّهُ قد جَاوز قلبه هَذِه الخطة فقلبه فِي مَحل الشَّفَقَة فِي ملك الوحدانية وَكلما كَانَ الْقلب مَحَله أَعلَى وَمن الْقرْبَة أوفر حظا كَانَ الْأَمر عَلَيْهِ أوسع وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى تلطف بِلُطْفِهِ بِعَبْدِهِ الْمُؤمن فَإِذا علم مِنْهُ أَن نَفسه صعبة وَأَنه مُحْتَاج إِلَى اللجام ألجمها بلجام الهيبة وَأبْدى على قلبه من سُلْطَانه وعظمته لِئَلَّا يفْسد وَإِذا علم أَن نَفسه لينَة كَرِيمَة أرْخى من عنانه فأبدى على قلبه من الوحدانية والفردانية مَا انْفَرد لَهُ قلبه وَنَفسه وَمَاتَتْ شَهْوَته وَذهل عَن ذكر نَفسه فَهُوَ يَسْتَعْمِلهُ وَهُوَ يكلؤه فالمحق فِي الظَّاهِر أعلا فعلا عِنْد أَهله والأواه فِي الْبَاطِن أعلا ) اهـ .
نوادر الأصول 2|27-32
_________________ مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
|