(القبلة والأدلة عليها
وفيه فصول:
الفصل الأول: في أقوال الفقهاء
وهو ما يحتاج إليه الظاعن والمقيم، ويقال قبلة البشر الكعبة، وقبلة أهل السماء البيت المعمور، وقبلة الكروبيين الكرسي، وقبلة حملة العرش العرشُ، ومطلوب الكل وجه الله تعالى. ذكره المرغيناني.
واستقبال القبلة شرط لصلاة القادر إلا في شدة الخوف وثقل السفر، ومن أمكنه علم القبلة حرم عليه الاجتهاد والتقليد. واليقين يحصل بالمعاينة وبغيرها، كالناشئ بمكة العارف يقينا بأمارات، ويتعذر التحرير إلا بأخذ الارتفاع بالاسطرلاب المسمت، وفي هذا الباب تأليفات كثيرة.
وبين الفقهاء خلاف، هل يشترط إصابة العين أو الجهة؟ وفي مذهب الشافعي قولان، وكذلك في مذهب مالك قولان، والأرجح في مذهب الشافعي إصابة العين، اتفق عليه القفال والعراقيون وصححه النواوي.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: والفرض في القبلة إصابة العين فمن قرب منها لزمته ذلك بيقين، ومن بعُد لزمه ذلك بالظن في أحد القولين. وفي القول الآخر الفرض لمن بَعُدَ الجهة، والأرجح في مذهب مالك إصابة الجهة لا العين للتعذر، ورجح الباجي إصابة العين، واستدل بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} قال أي سمته، قال: وهو المشهور من مذهب مالك. ومذهب أبي حنيفة الجهة لا العين للتعذر وقالوا: هو للبعيد تكليف ما لا يطاق، وكذلك مذهب أحمد بن حنبل إصابة الجهة لا العين، واستدل بحديث ما بين المشرق والمغرب قبلة.
وقال المرغيناني من أصحاب أبي حنيفة: وإن تَيَامن أو تياسرَ يجوز؛ لأن وجه الإنسان مقوس، فعند التيامن أو التياسر يكون أحد جوانبه إلى القبلة، حكاه عنه قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس السروجي في تأليفه في معرفة القبلة. وهذا خلاف للصحيح من قولي الشافعي؛ لأنه يدل على أن استقبال القبلة بجميع جسده ليس بشرط.
وقال النواوي : إذا انحرف المصلي على الأرض عن القبلة، نظر إن استدبرها وتحول إلى جهة أخرى عمدا بطلت صلاته، وإن فعله ناسيا وعاد إلى الاستقبال على قرب لم تبطل، وإن عاد بعد طول الفصل بطلت على الأصح، وأما من هو في مدينة أو قرية ولو كانت صغيرة بها محراب منصوب تداول المسلمون الصلاة إليه قرنا بعد قرن فلا يجوز له العدول عنه إلى الاجتهاد، بخلاف المحاريب المنصوبة في القرى الخربة التي لا ساكن بها، أو ما لا يعلم هل هو من بناء المسلمين أو الكفار، أو ما هو كالأعلام، أو على قوارع الطريق ممر المسلمين والكفار، والاجتهاد في ذلك أولى.
قال النواوي : وتصح داخل الكعبة صلاة الفريضة والنافلة. قال: وله أن يستقبل أي جدار شاء، وله استقبال الباب إن كان مردودا أو مفتوحا وله عتبة تقدير ثلثي ذراع تقريبا. والواقف على سطحها إن لم يكن بين يديه شئ شاخص لم تصح، وإن كان الشاخص من نفس الكعبة فحكمه حكم العتبة، ومن هو خارج المسجد إن عاين الكعبة صلى إليها، ومن لم يعاين ولا تيقن الإصابة فله اعتماد الأدلة. ومن صلى في محراب صلى به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كمحراب المدينة أو قباء استقبله ولم يجتهد، و لا يجوز التيامن و لا التياسر فيها، ولا في المحاريب التي كثر إليها دخول الصحابة – رضي الله عنهم – وصلاتهم إليها كالكوفة والبصرة. ويجوز فيما سوى ذلك الاجتهاد. و لا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة وأضعفها الرياح لاختلافها، والجبال والأنهار لتعاريجها، وأقواها القطب وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى كان مستقبلا للقبلة إن كان يتاخم الكوفة وبغداد وهمدان وقزوين وطبرستان وجرجان وما والاها، وإذا تيقن الخطأ في الاجتهاد قبل الشروع في الصلاة أعرض إلى الجهة التي يعلمها أو يظنها، وإن تيقن بعد الفراغ أعاد، وإن ظهر وهو متلبس بالصلاة استأنف على الصحيح. لخصت هذا عن كلام النواوي رحمه الله تعالى، وزدت قولي: والجبال والأنهار لتعاريجها.
قال ابن الشاطر : والذي ذكره النواوي وقالته الفقهاء في هذه البلاد التي جعلوا سَمْتَها واحدا فيه نظر؛ وذلك لأنها مختلفة الانحراف؛ لأن الكوفة (مح ل) وهو ثلاث عشرة درجة ونصف، وبغداد (نح ب) وهو ثلاث عشرة درجة ونصف، وثلث همدان (له ل) وهو خمس وعشرون درجة ونصف، وقزوين (له د) وهو خمس وعشرون درجة وثلث، وطبرستان (له ل) وهو اثنتان وثلاثون درجة ونصف، وجرجان (لذ ل) وهو سبع وثلاثون درجة ونصف، وبين مقادير الانحراف في ذلك تفاوت كبير أقله (نح ل) وهو ثلاث وعشرون درجة ونصف، وأكثره (لز د) وهو سبع وثلاثون درجة وثلث. فيكون التفاوت (لح ل) وهو ثلاث وعشرون درجة ونصف وثلث، وذلك تفاوت كثير، فكيف تكون الجهة واحدة، وكأن المراد بهذا التسمية دون الحقيقة.
قلت : وعلى هذا ذهب الجويني رحمه الله قال : وسَمْتُ القبلة لمن بَعُد الجهة دون العين، ولأن إطلاق التسمية في اللغة لا حقيقة المسامتة، ولو كان الفرض المسامتة كان من تكليف لا يطاق وهذا غير واقع في الشرع، ومثَّل له مثالاً ملخصه أن الصف إذا كان بإزاء البيت حتى خرج عن مسامتة جِداره لا يكون الخارج مستقبلا ولا تصح صلاته فلو كان الصف في أخريات مسوّر المسجد صحت صلاته ولو كان الصف ألفا مع كون أكثرهم خارجين عن المسامتة وكانوا كلهم مستقبلين، ثم قال: فالفرض في الشرع التسمية ذكر هذا بمعناه إن لم يكن كله بلفظة الجويني في غاية المطلب في دراية المذهب.
قلت : ووجه الفرق أن القريب لا يتسع بصره بل لا يتعدى ما تلقاءه، والبعيد يتسع بصره، وإن كان الفرض في استقبال القبلة مع البعد انطباق المصلى على الخط المستقيم المار بالمصلّي وبالبيت فلا سبيل إلى تحقيق ذلك بوجه من الوجوه إلا بما أخذ توقيعا من الشارع عليه الصلاة والسلام وإلا فهو كما قال الجويني من تكليف ما يطاق وليس ذلك شرعا.
قال ابن الشاطر : واعلم أن مخروط شعاع البصر يتسع مع البعد؛ لأن الإنسان إذا بَعُد عن جدار بمقدار طول ذلك الجدار واستقبل وسطه أدرك بصره طرفيه من غير أن يتيامن أو يتياسر، وإذا توهمنا خروج خطين مستقيمين من البصر إلى طرفي الحائط إلى غير نهاية كان ما وقع بين هذين الخطين من وراء الجدار أن بَعُد أو قرب محجوبا عن البصر، فإذ توهمنا زوال الحائط كان البصر مدركا لجميع ما كان محجوباً، فعلى هذا التقدير إذا وقعت مكة المعظمة فيما بين هذين الخطين كان البصر لا محالة واقعاً عليها، وعلى ذلك أيضاً إذا تيامن أو تياسر بمقدار نصف سدس دور الأفق وهو ثلاثون درجة عن حقيقة المسامتة عُرفت باستقراء التجريب كان مع ذلك بصره واقعا على البيت ويسمى مستقبلا، فإن زاد المقدار عما ذكرنا لم يكن البصر واقعاً على البيت و لا يسمى مستقبلا، وإذ تقدَّر هذا فلا يجوز التيامن و لا التياسر عن حقيقة المسامتة بأكثر من هذا المقدار إذ لا يكون معه مستقبلاً، وذلك في التيامن والتياسر بستين درجة، ثلاثون متيامناً، وثلاثون متياسراً) اهـ
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار 2\243-246
يتبع إن شاء الله
_________________ مددك يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الغوث يا سيدي رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
الشفاعة يا سيدي يا رسول الله صلى الله عليك و على آلك و سلم
|