تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام:تسفكون: تصبون؛تقول العرب: سفك دمه, أي: صبه, وسفك الزق,أي: هراقه, قال الشاعر:
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا سفكنا دماء البدن في تربة الحال
قال ابن هشام:يعني بالحال: الطين الذي يخالطه الرمل, وهو الذي تقول له العرب:السهلة؛وقد جاء في الحديث: ((أن جبريل لما قال فرعون: ((ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنوا إسرائيل أخذ من حال البحر (وحمأته) فضرب به وجه فرعون)), (والحال: مثل الحمأة).
قال ابن إسحاق: ((ولاتخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون)) على أن هذا حق ميثاقي عليكم, ((ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان)) أي: أهل الشرك حتى يسفكوا دماءهم معهم, ويخرجوهم من ديارهم معهم,((وإن يأتوكم اسرى تفادوهم)) وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم, وهو محرم عليكم في كتابكم إخراجهم؛ ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)) ,(أي) أتفادونهم مؤمنين بذلك؟! وتخرجونهم كفارا بذلك؟! ((فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا بالأخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون)),فأنبهم الله عز وجل بذلك من فعلهم؛ وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم,وافترض عليهم فيها فداء أسراهم.فكانوا فريقين: منهم بنو قينقاع ولفهم حلفاء الخزرج, والنضير وقريظة ولفهم حلفاء الأوس؛ فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب.
خرجت بنو قينقاع مع الخزرج, وخرجت النضير وضريظة مع الأوس: يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه, حتى يتسافكوا دماءهم بينهم, وبايديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم, والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان؛ لايعرفون جنة ولا نارا, ولا بعثا ولا قيامة, ولا كتابا, ولا حلالا ولا حراما, فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أساراهم تصديقا لما في التوراة , وأخذ به بعضهم من بعض: يفتدي بنو قينقاع من كان من اسراهم في ايدي الأوس, وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم, ويطلبون ما اصابوا من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم؛ مظاهرة لأهل الشرك عليهم؛ يقول الله تعالى لهم حين أنبهم بذلك: ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض))؟! أي: تفاديه بحكم التوراة, وتقتله, وفي حكم التوراة أن لاتفعل, تقتله وتخرجه من داره وتظاهر عليه من يشرك بالله, ويعبد الأوثان من دونه؛ ابتغاء عرض الدنيا؛ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج-فيما بلغني-نزلت هذه القصة.
ثم قال تعالى: ((ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وءاتينا عيسى ابن مريم البينات)) أي: الآيات التي وضعت على يديه: من إحياء الموتى, وخلقه من الطين كهيئة الطير, ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله, وإبراء الأسقام, والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهمم, وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه, ثم ذكر كفرهم بذلك كله,فقال: ((أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون)).
ثم قال تعالى: ((وقالوا قلوبنا غلف)) أي: في أكنة؛ يقول الله عز وجل: ((بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)).
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة, عن أشياخ من قومه,قال: قالوا: فينا والله وفيهم نزلت هذه القصة: كنا قد علوناهم ظهرا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم اهل كتاب, فكانوا يقولون لنا: إن نبيا يبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه نقتلكم معه قتل عاد وإرم, فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم من قريش فاتبعناه كفروا به؛ يقول الله تعالى: ((فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده)) أي: أن جعله في غيرهم, ((فباءو بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين)).
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام: ((فباءو بغضب)), أي: اعترفوا به واحتملوه؛ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
أصالحكم حتى تبوءوا بمثلها كصرخة حبلى يسرتها قبيلها
(قال ابن هشام: يسرتها: أجلستها لوالدة) وهذا البيت في قضيدة ل ه.
قال ابن إسحاق: فالغضب على الغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة, وهي معهم, وغضب بكفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم الذي أحدث الله إليهم.
ثم أنبهم برفع الطور عليهم, واتخاذهم العجل إلها دون ربهمح يقول الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم: ((قل إن كانت لكم الدار الأخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)) أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب عند الله, فأبوا ذلك على رسول الله ص لى الله عليه وسلم يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وعلى اله وسلم: ((ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)) أي: يعلمهم بما عندهم من العلم بك, والكفر بذلك, فيقال: لو تمنوه يوم قال ذلك لهم, ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات, ثم ذكر رغبتهم في الحياة الدنيا وطول العمر؛ فقال تعالى: ((ولتجدنهم احرص الناس على حياة)) اليهود, ((ومن الذين أشرموا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)) أي: ما هو بمنجيه من العذاب؛ وذلك ان المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت, فهو يحب طول الحياة, وأن اليهود قد عرف ماله في الآخرة من الخزي بما ضيع مما عنده من العلم, ثم قال اله تعالى: ((قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)).
سؤال اليهود الرسول, وإجابته لهم صلى الله عليه وعلى اله وسلم:
قال ابن غسحاق: حدثني عبد الله بن (عبد) الرحمن بن أبي حسين المكي, عن شهر بن حوشب الأشعري؛ أن نفرا من احبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم فقالوا: يا (سيدنا - لفظه من الناقل)محمد, أخبرنا عن أربع نسألك عنهن, فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك وآمنا بك, قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم: ((عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن انا أخبرتكم بذلك لتصدقنني؟!)) قالوا: نعم, قال: ((فاسألوا عما بدا لكم)) قالوا: فأخبرنا كيف يشبه الولد أمه, وإنما النطفة من الرجل؟!, قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم ((أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة, ونطفة المرأة صفراء رقيقة, فأيتهما علت صاحبتها كان له الشبه)) قالوا: اللهم نعم, قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ فقال: ((أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون ان نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان؟!)) فقالوا: اللهم نعم, قال: ((فكذلك نومي: تنام عيني وقلبي يقظان)) قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه, قال: ((أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون انه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها, وأنه اشتكى شكوى, فعافاه الله منها, فحرم على نفسه احب الطعام والشراب إليه؛ شكرا لله فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟!)) قالوا: اللهم نعم, قالوا: فأخبرنا عن الروح, قال: ((أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل, هل تعلمون جبريل وهو الذي ياتيني؟!)) قالوا: اللهم نعم, ولكنه يا (سيدنا - ناقل)محمد لنا عدو, وهو ملك, إنما ياتي بالشدة, وبسفك الدماء ولولا ذلك لأتبعناك؛ قال: فأنزل الله عز وجل فيهم: ((قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين)) إلى قوله تعالى: ((أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله ورآء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)) أي: السحر, ((وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر)).
_________________ أنا الذى سمتنى أمى حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
|