حب ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عتبة من الأعتاب . لكن هناك مشكلة حقيقية : ـــــــــــــــــــــــــــــ (حب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: عند تذوق المؤمن بدايات الأحوال وتسري فيه بدايات حلاوة المقامات تحدث له حالة شديدة من العطش لما شربه من خمر الأحوال وعسل المقامات وما صاحبهم من لبن الفطرة, فيطلب المزيد والمزيد, فيُدمن الذكر والتقرب بأنواع الطاعة, المؤمن لا يزال في حالة شرب غير أنه في حالة حزن شديدة, فإن الدنيا تضيق عليه والهوى والنفس ووساوس الشيطان يقولون له: لا أنت وصلت للمشاهدة, ولا أنت قد استمتعت بمتع الحياة الدنيا وزينتها, وأنت عاجز عن نيل مرادك ولو سرت ألف ألف سنة, فلذة الأعمال لها منتهى, وعند الصادقين نوع استدراج, أفتعبد الله لوجود اللذة فتجد حظ نفسك, أم تعبد الله وحده مخلصاً له العبودية دون حظ نفسك! فإن صُمت ما صُمت إلا لراحة تجدها أفإن لم تجد هذه الراحة تركت الصيام واجتهدت في الذكر؟ , وإن كانت راحتك في نوع ذكر أتترك بقية التسبيح والتحميد والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لما وجدته في ذكر تقوله؟ هذا عند الصادقين شبهة رياء ومكر إن لم يكن استدراجاً ومكراً شديداً. المؤمن تمنعه رغبة التقرب إلى الله من الاطمئنان إلى زينة الحياة الدنيا وزخرفها, ولا يستطيع الرجوع إلى أحضان الدنيا ما احتفظ بإيمانه. فنفسه لوامة, تلومه على ما يفعل, فتسره حسناته وتسيئه سيئاته. المؤمن في سجن ... المؤمن في سجن الدنيا الدنيا سجن المؤمن, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ». المؤمن يشعر أنه عالق بين مرحلتين, قلبه مطمئن بموعود الله, قلبه يجذبه إلى الشرب من بحر الإيمان, فقد ذاق وقد وجد, ولكن هواه ونفسه والشيطان والدنيا يكبلونه بالأصفاد, ويقولون له يكفيك الصلوات الخمس والفرائض فإن فعلت ذلك فزت فوزاً عظيماً! كلام حق أريد به باطل, فمن فعل ذلك فلن يلبث إلا قليلاً حتى يراودوه في التقليل من العبادات والإخلال بمواقيتها ومن ثم ترك أو نوع ترك, ثم الغرق في بحر الملذات, ومن لم يجد ملذات غرق في بحر التأسف والندم على ما فاته من الدنيا, فيحقد على أهل الدنيا ويحسدهم, وأهل الدنيا يخافون منه ويحرمونه أكثر فأكثر فيعرض الشيطان الصلح بينهما, ويدخل الدجال ببرامج يسميها للكل عدالة اجتماعية وحريات ومساواة, والغرض طبعاً سوق الكل كقطيع يلهث وراء أمور لن تكون إلا على يد سيدنا عيسى عليه السلام والإمام المهدي. المهم أن المؤمن في هذه المرحلة يدرك أنه بنفسه لن يصل إلى أعلى من درجته وحاله هذا, مع وجود حظ النفس ونيل الشيطان منه أحياناً. كما قلنا المؤمن يتحرك تحركاً عرضياً, ولا يستطيع الارتقاء إلى ما هو أعلى وقد أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كما قدمنا أنه لن يؤمن حق الإيمان حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلّم , وأنه لن يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. المؤمن يخلق الله في قلبه حنيناً إلى سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم , فهو لم يتلوث كثيراً بما يقوله قساة القلوب الذين لم يشربوا من حنان سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم , المؤمن يبدأ رحلة البحث عن سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم , فأول ما يصطدم به هي نظرته القديمة القاصرة في مفهوم لا إله إلا الله محمد رسول الله, ثم يأخذه الشوق والحنين إلى غير ما هو مكتوب في كتاب أو مسطور في أوراق, يخرج من مرحلة العلم إلى مرحلة الإيمان, فمن لا يعلم حديث الآن يا عمر؟ عن عَبْد اللهِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلّم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم: لاَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم: الآنَ يَا عُمَرُ». سبحان الله, ما أشد قوة سيدنا عمر, في أقل من لحظة يملك كله, نفسه وعقله وروحه وكل شيء ويأخذ قراراً في الظاهر والباطن بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أحب إليه من نفسه, وسيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يحكم له بأنه فعلاً حدث ذلك, مراحل رجولة لا تتسنى إلا لكبار الرجال الذين غذاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالنظر إليهم وملامستهم ووجوده بينهم, غذاهم بأنفاسه الطاهرة. العلم شيء, والإيمان شيء وحدوث ما تؤمن به وتأثيره في باطنك وظاهرك شيء آخر, ما يحدث في باطنك هو الحقيقة, أما ما عدا ذلك فعليك لا لك, من منا أيضاً لا يعلم حديث أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ». سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يدلنا على أنك لا بد أن يتخلل حبه فيك حقاً حتى تحبه صلى الله عليه وآله وسلّم أكثر من ثلاثة أنواع من الحب , حب والدك الذي هو أصلك وسبب وجودك بإذن الله, وحب ولدك الذي أنت سبب وجوده, فترى فيه امتدادك، وجعلك الله فطرياً تحوطه وترعاه وتنعم عليه وتتجاوز عنه وتتذكر كيف أحب الله الآدميين وكيف سماحه لهم, وأنعم عليك بفهم معنى رب البيت ورب الأسرة. والحب الثالث هو جميع أنواع الحب النابع من الخلق تجاه بعضهم، حب الإعجاب, والتقدير والاحترام, والتعلق والألفة, وحب النساء وحب النكاح, وحب النظر إلى أناس بذاتهم, وكل ما شاكل ذلك. سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقول ما معناه, اجعلني عندك كل شيء بدلاً من البشر أجعلك شيئاً عظيماً بإذن الله. إذا أحببت سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم هكذا, فإن الأنوار تتخللك وتسري إلى كل عروقك, ألم ترَ قول سيدنا النبي لعمار بن ياسر! قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم: «مُلِئَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ» سرى الإيمان إلى مشاشه والمشاش هو الغضاريف وما يماثلها من تكلسات بين العظم واللحم والعصب, يعني أن الإيمان لم يصل فقط إلى اللحم والدم والعظام, ولكن وصل إلى المشاش, ولم يصل فقط, بل ملأ المشاش وقر الإيمان في القلب واستقر ثم تم ضخه وتشعب في كل أنحاء جسم الإنسان حتى وصل إلى كل العروق والمشاش. هذا الحب, استدعاه نوع إيمان نوراني فطرد ظلمات النفس, وأثر في النفس وحولها من عاصية متمردة أمارة بالسوء إلى نفس لوامة تلوم صاحبها حتى يفعل الخير, وها هي على أعتاب التغير وتترقى من نفس لوامة إلى نفس ملهمة ببركة وقوفها على الأعتاب المحمدية. فحب ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عتبة من الأعتاب, فيا سعد من أحب سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بصدق. لكن هناك مشكلة حقيقية وهي أن سيدنا عمر وسيدنا عماراً وسيدنا أنساً حظوا بالوقوف بين يدي الحضرة المحمدية, فلا شيطان يوسوس ولا دنيا تفتن ولا هوى متبع ولا نفساً أمارة بالسوء كلهم يفر من أمام نور سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فكانت تلين قلوب المؤمنين له كما يلين الذهب في النار فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أَبَا أُمَامَةَ، إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُهُ» ". النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم شيء عظيم, والصحابة سمعوا من فم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والإسلام كله سماعي, فحصلوا أعلى مقامات الإسلام, والإيمان القلبي له البصر, فالقلب يبصر بإذن الله والصحابة رأوا سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فحدث لهم عظيم الإيمان, فكيف بمن بعدهم؟ من بعدهم رأوا أهل البيت , وكفى بها نعمة ورأوا من رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم , لكن حقيقة النظر إلى سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم متعة الأولياء والعارفين وقوت الأرواح والأسرار, حتى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم دعا لمن آمن به ولم يره سبع مرات ودعا لمن رآه مرة واحدة وذلك لتعويض من لم يره صلى الله عليه وآله وسلّم , َعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي، وَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَنِي سَبْعَ مَرَّاتٍ».…قَالَ: أَبُو جُمُعَةَ: قَالَ: «تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلّم وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ قَالَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا أَسْلَمْنَا مَعَكَ وَجَاهَدْنَا مَعَكَ قَالَ: نَعَمْ قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي». فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى عظمة رؤيته وأنه سبب مباشر في الإيمان ودلالة على أنه حتى تعلم قوة وفعل وأثر النظرة المحمدية فعليك التعجب كيف آمن من آمن ولم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلّم , هناك أمر آخر أن الكلام ليس على إطلاقه فلا أحد أخير من السابقين السابقين, ولكن المقصود بعض الموجودين في هذه الحضرة, وأن هناك من آحاد الناس في العصور التي تلى عصر الصحابة أخير من بعضهم, فمجموع الصحابة أخير من أي مجموع في العصور التي تلتهم ببركة سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. المؤمن تدرج من الإسلام إلى بدايات الإيمان وبدأ التذوق وأحس بوجود شيء مختلف طعماً وحلاوة, وتدرج من ترك هواه حتى أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ثم تدرج في المحبة حتى كان حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ثم يتدرج حتى يكون سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أحب إليه من نفسه, المؤمن خرج من مرحلة ما يقوله الناس بالعامية "الهوا مالهوش دوا", إلى مرحلة حب سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته. المؤمن فرغ نفسه من نفسه, وطلب التشرف بنور النبي صلى الله عليه وآله وسلّم , ونور النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لن يدخل إلا على طهارة, ولكن من باب جبر الخاطر يدخل النور على قدر إيمان الإنسان, وينتشر في العروق على قدر هذا الطهر, يسري نور سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فيعينك على إظهار النور الداخلي الخاص بك, كان المشايخ الكبار ينظرون بطريقة معينة لبعض المريدين, الغرض من هذه النظرة إظهار ما بطن من نور الذات المستودع في هذا المريد فيشرق ظاهره بالطاعة وباطنه بالمعرفة. المؤمن كما قلنا عالق بين مرحلتين, يحتاج إلى شيء جديد في رؤيته, محتاج إلى سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أكثر من أي وقت مضى! ولكن كيف الوصول إليه؟ سيره منفرداً محكوم عليه بالعجز, وإلا مقامك حيث مقامك, المؤمن لا يجد أمامه إلا أن يبحث عن من يأخذ بيده إلى من سار قبله وسمح له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالدخول إلى الحضرة المحمدية, ومجاوزة الأعتاب. قبلها تلوح اللوائح, وتهب النسمات ويتم تعديل القوى, فالسمع أعلى، وبصر القلب أوضح، وقد تحدث إطلالة على عالم الملكوت, فالمراحل السابقة محصورة في أجزاء من عالم الملك الذي يدرك بحاسة السمع والبصر العاديين, أما عالم الملكوت فلا يدرك إلا بالقلب نسبياً ويدرك بالفؤاد, المؤمن قد يدرك إطلالة أو شيئاً من إطلالة, ولو كلمح البصر أو هو أقرب (ولمح البصر في عالم الملكوت عظيم جداً جداً جداً، فإنك إن أغمضت جفنك وفتحته كان بإمكانك رؤية كواكب بعيدة جداً مثل الزهرة والمريخ وترى النجوم التي هي أبعد، وكل ذلك يدرك بالبصر، حال بينك وبين رؤية هذه الكواكب جدار رقيق اسمه الجفن, جفن العين, فإذا ما فتح الله لك جفن القلب نظر الفؤاد إلى عالم الملكوت وفتحت له عين البصيرة, لكن كلٍ على قدره. ) ــــــــــــــــــــــــــ من كتاب / على أعتاب الحضرة المحمدية / للأستاذ الدكتور السيد الشريف محمود صبيح حفظه الله ـــــــــــــــــــــــ اللهم صل على سيدنا محمد النور وآله وسلم
_________________ صلوات الله تعالى تترى دوما تتوالى ترضي طه والآلا مع صحب رسول الله
|