اشترك في: الاثنين مارس 29, 2004 4:05 pm مشاركات: 7388
|
من درر جمال حمدان في عشـق شخصية مصـر
د . نادر فرجانى http://www.ahram.org.eg/NewsQ/205879.aspx
يقوم هذا المقال, من جزءين, علي استعادة مقتطفات من مقدمة سفر الراحل العظيم جمال حمدان الموسوعي المعنون: شخصية مصر, دراسة في عبقرية المكان, والذي يقع في قرابة ألف صفحة من القطع الكبير
وذلك بمناسبة الذكري العشرين لوفاته وليس للكاتب من ثمة فضل إذن إلا الانتقاء وقليل من التنسيق علي صورة المقال وبعض التشكيل لتيسير القراءة عسي أن ينتفع عامة المصريين. لاسيما الأجيال الشابة بما أنتج هذا الجهبذ من معرفة معمقة تسبر أغوار الموقع والذات وتحض علي النهضة والفلاح ويكفيني جزاء أن يحض هذا المقال علي قراءة شخصية مصر الذي أعده واجبا علي كل مصري وعربي يروم أن يكون مثقفا, وإن حدث فلعلنا نوفي الراحل الكريم نذرا يسيرا من حقه علينا, وعسي من يحكمون مصر بالهمجية والغوغاء يقدرون أي درة من البلاد يحكمون. وإن كان هناك من لا يعرف جمال حمدان, خاصة من الأجيال الأصغر, فهذه جريمة التخلف المعرفي الذي نعاني, وذنب نسقي تعليم وإعلام منحطين فجمال حمدان هو العبقري المتفرد سيد شيوخ الجغرافيين المصريين وصاحب أهم الأعمال قاطبة عن جغرافية مصر في المنظور الشمولي الراقي لعلم الجغرافيا, باعتباره علم وفن وفلسفة. وهو فوق ذلك عاشق مصر المدله صبابة في حبها والذي فقدناه غيلة ومازلنا لا نعرف علي وجه اليقين كيف ولماذا؟ ومما يزكي عمل جمال حمدان الفريد للقراءة مرارا وتكرارا هو لغته العربية السليمة والجزلة, آسرة البلاغة التي تنفذ الي القلب وتخلب اللب, وهي ميزات نفتقدها بمرارة في الكتابات المصرية المعاصرة, طيب الله ثراه وأكثر من تابعيه علي الطريق ذاته, وهنا أود أن ألفت النظر فقط لاستعماله البديع لثلاثية المكان, والموضع والموقع التي تميز عمله تميزا عبقريا. وأصل المقتطفات المقدمة هنا هو طبعة دار الكتب, القاهرة,1980, وتيسيرا للنشر هنا فقدأسقطت علامات الاقتطاف ولكن ذكرت أرقام الصفحات المقتطف منها بين قوسين تعميما للفائدة. وينهي جمال حمدان مقدمته الثرية بالعبارة التالية: عسي دعنا نأمل ـ أن يجد كل مصري نفسه في هذا الكتاب, ولسوف يرضي ولقد صدق! وإن دار هذا المقال حول مقدمة العمل, فما بالك بمتن السفر الرائع حقا؟. مصر متوسطة الدنيا و قلب الأرض هي أولا دون مدارية بعروضها وإن لا مست أطرافها المدار, ولكنها متوسطية بعرضها وإن تماست معه بالكاد. وهكذا جمعت مصر في آن واحد بين قلب إفريقيا وقلب العالم القديم. إفريقية هي إذن بالموضع, متوسطية بالموقع, بيد أنها كذلك آسيوية بالوقع, فكما أنها تقم بالجغرافيا في إفريقيا, فإنها تمت أيضا الي آسيا بالتاريخ, فهي البلد الوحيد الذي تلتقي فيه القارتان ويقترب في الوقت نفسه من أوروبا, بمثل ما أنها الأرض الوحيدة التي يجتمع فيها البحران المتوسط والأحمر, الأول قلب البحار وبحر الأنهار, والثاني بحر بلا أنهار ولكنه بطولة وامتداده وموقعه كالنهر بين البحار, مصر إذن, وهذا من نافلة القول, مجمع اليابس ومفرق البحار, أرض الزاوية في العالم القديم, قلب الأرض و متوسطة الدنيا كما وصفها المقريزي. أضف بالمثل أنها البلد الوحيد الذي يلتقي فيه النيل بالمتوسط, الأول بالطول والثاني بالعرض الأول بعد رحلة سحيقة شاقة مفعمة بالأخطار والمخاطر وبالعقبات والسدود, الجيولوجية والطبوغرافية والمناخية والنباتية ـ والهيدرولوجية, كل منها كان يمكن وحده أن يشتته, يجهضه, يقطع عليه الطريق, ولكنه يجتازها جميعا بإلحاح ثم بنجاح ـ لمصر يجتازها والثاني يصلنا في أقصي نهايته ونهاية مطافه, الأول أوسط أنهار الدنيا موقعا وأطولها وأعظمها, والثاني أوسط بحار الدنيا, سيد البحار وأعرقها, إنه لقاء الاكفاء والأنداد والأفذاذ جغرافيا: ابو الأنهار وابو البحار, مهد الفلاحة ومدرسة الملاحة, نهر الحضارة وبحر التاريخ( أو نهر التاريخ وبحر الحضارة ـ سيان). وبهذا اللقاء, مع التحام القارتين وتقارب البحرين, فكأنما كل أصابع الطبيعة تشير الي مصر وكأن خطة علوية قد رتبها الجغرافي الأعظم لتجعل منها قطبا جغرافيا أعظم في العالم القديم. وبالفعل تحقق الوعد الجغرافي تاريخيا, فكانت حضارة مصر النيل الفرعونية, الحضارة الأولي في التاريخ, الرائدة والمشعل وسواء أكانت مصادفة أو نتيجة حتمية, فتلك ملحمة جغرافية ترجمت الي ملحمة حضارية وسواء أكانت هذه الحضارة البكر الخلاقة من ايجاد النيل المعلم أو الفلاح المصري الملهم, فإنها ثمرة الزواج الموفق السعيد ـ بين أبي الأنهار وأم الدنيا وسواء كانت الزراعة اكتشافا مصريا محليا مستقلا كما كان الرأي السائد أصلا أو مستوردا من الخارج ـ الهلال الخصيب أو الشرق القديم كما هو الاتجاه الحديث فإن مصر الحضارة هي ثمرة زواج النيل بالمتوسط أو الموضع بالموقع. وفي جميع الأحوال فإن مصر هي واسطة كتاب الجغرافيا تحولت إلي فاتحة كتاب التاريخ, وفي جميع الأحوال ايضا فإن السبق الحضاري ملمح أساسي بلا نقاش في شخصية مصر, وأخيرا وليس آخرا, فلقد أبدت هذه الحضارة استمرارية ونادرة, فعمرت بصلابة وتماسك آلاف السنين ولم يقطعها أو ينسخها إلا الحضارة الحديثة وحدها في القرنين الأخيرين فقط, ولئن كانت مصر قد تحولت بعد ذلك من السبق إلي التخلف الحضاري, فقد عادت سباقة إلي البعث الحضاري في العصر الحديث, وإن يكن في إطار النقل لا الخلق. غير أن مصر, بعد ألفي سنة من السيادة العالمية أو الاقليمية, عاشت ألفي سنة أخري في ظل التبعية الاستعمارية وتحت السيطرة الأجنبية, حتي تساءل البعض: أعرق أمة في التاريخ أم في التبعية؟ وسواء صح السؤال أو لم يصح, فإن هذا قد ألقي من أسف ظلالا كثيفة علي الشخصية المصرية وعد أسوأ نقطة سوداء فيها بجانب الطغيان الداخلي, والحقيقة أنه لا وسط في تاريخ مصر, إما قوة عظيمة سائدة رادعة, وإما تابعة خاضعة عاجزة. هي بجسمها النهري قوة بر, ولكنها بسواحلها قوة بحر, وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء. وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوي, ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم, وما زالت تلك بالدقة مشكلة مصر المعاصرة, ففي عصر لم تعد فيه أم الدنيا, فإنها تبدو اليوم وقد أصبحت مشكلة سياسية للعالم ولنفسها. فهي اصغر من أن تفرض نفسها علي العالم كقوة كبيرة, ولكنها أيضا أكبر من أن تخضع لضغوط العالم لتنكمتش علي نفسها كقوة صغيرة, أعجز من أن تلفظ العدو الإسرائيلي ولكنها أكرم ـ نرجو, أو كنا ـ من أن تركع له ولعل الراحل العظيم اغتيل بسبب مثل تلك المقولة الأخيرة!ونتناول في المقال القادم ما أنعم به علينا جمال حمدان في تحليل النواحي السياسية في شخصية مصر.
|
|