موقع د. محمود صبيح

منتدى موقع د. محمود صبيح

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين



إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 23 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2
الكاتب رسالة
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الجمعة مارس 01, 2024 8:17 pm 
غير متصل

اشترك في: الاثنين يونيو 17, 2013 2:03 pm
مشاركات: 2786
هي قصة ابن طفيل الفيلسوف الاندلسي
وشرحه للظواهر الطبيعية من تقسيم للحيوان والنبات والتشريح
والصوت والضوء
شئ يجعل الانسان يتعجب من العلم الذي حواه وبرع به لدرجة ان
يستطيع نقله بهذه الصورة المبسطة كقصة حي بن يقظان
انتقاء جميل جدا ومتابعة بشوق
بارك الله بك الاخت الفاضلة ملهمة
اسال الله ان يلهمك الخير

_________________
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد واله واحشرنا بزمرتهم انك سميع مجيب


أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مارس 06, 2024 1:42 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070
ابو الحسن الطيب كتب:
هي قصة ابن طفيل الفيلسوف الاندلسي
وشرحه للظواهر الطبيعية من تقسيم للحيوان والنبات والتشريح
والصوت والضوء
شئ يجعل الانسان يتعجب من العلم الذي حواه وبرع به لدرجة ان
يستطيع نقله بهذه الصورة المبسطة كقصة حي بن يقظان
انتقاء جميل جدا ومتابعة بشوق
بارك الله بك الاخت الفاضلة ملهمة
اسال الله ان يلهمك الخير


اللهم آمين
أكرمكم الله و أعزكم أخي الكريم الفاضل
أبو الحسن الطيب كل عام وحضرتك بألف خير وصحة وسعادة والأسرة الكريمة
وأسعدني مروركم الطيب

******

9- دفن الجثة

وفي خلال ذلك نتن الجسم، وفاحت منه روائح كريهة. فزاد نفور ابن يقظان منه وود (أحب) ألا يراه.

وحار ابن يقظان في أمره؛ فلم يدرك كيف يواري (لم يعرف كيف يخفي) ذلك الجسم ؟

وإنه لحائر، لا يدري كيف يصنع، إذ رأى غرابين يقتتلان؛ فوقف يتأمل برهة، حتى رأى أحدهما يلقي الآخر ميتاً.

ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة؛ فوارى فيها ذلك الميت بالتراب.

فقال ابن يقظان في نفسه: "ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه (إخفاء جثته)! وإن كان قد أساء في قتله إياه.

فما كان أجدرني بالاهتداء إلى هذا الفعل! وما أشد غباوتي حيت تحيرت في دفن أمي".
ثم أسرع ابن يقظان فحفر حفرة في الأرض، وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليه التراب (رفعه بيده وأهاله، أعني: رماه عليه).

الفصل الثالث
1- جولة في الجزيرة


وبقي ابن يقظان يتفكر في ذلك الشيء المصرّف للجسد؛ أعني، الروح الذي يبعث الحياة في الجسم؛ فإذا غادره همد وفسد، ولم تبق للجسم قيمة.

وظل يطيل التأمل (التفكير) في ذلك الروح، ولا يدري ما هو؟ وقد حار في أمره، وتملكته الدهشة.

غير أنه كان ينظر إلى اشخاص الظباء كلها؛ فيراها على شكل أمه الظبية، وعلى صورتها. فكان يغلب على ظنه أن كل واحد من هذه الظباء المتشابهة الأشكال، إنما يحركه وصرّفه شيء هو مثل ذلك الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها؛ أعني ذلك الروح الذي يبعث الحياة في الجسم، ويملؤه نشاطاً وقوة؛ فإذا خرج، بطلت حرارة الجسم، وأصبح لا قيمة له ولا خطر.

فكان يألف الظباء، ويحن إليها لمشابهتها أم عزة، ويحنو عليها بطبعه لمكان ذلك الشبه.

وبقي على ذلك برهة (مدة طويلة) من الزمن، يتصفح (يتأمل) أنواع الحيوان والنبات، ويطوف بساحل تلك الجزيرة، ليعلم: هل يجد لنفسه شبيهاً في هذه الجزيرة، كما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات، أشباهاً كثيرة؟

فلا يجد شيئاً في ذلك.

وكان يرى البحر قد أحدق (أحاط) بالجزيرة من كل جهة؛ فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك.

2- الاهتداء إلى النار

واتفق في بعض الأحيان أن انقدحت (اشتعلت) نار في اجمة. فلما بصر بها، رأى منظراً هاله وأدهشه، وخلقاً لم يعتده من قبل؛ فوقف يتعجب ملياً (وقتاً). وما زال يدنو ويقترب من النار شيئاً فشيئاً حتى أصبح عن كثب (على قرب) منها. فرأى ما للنار من الضوء الثاقب (المرتفع الشديد النور)، والفعل الغالب؛ فما تتعلق وتتصل بشيء إلا أتت عليه وأهلكته، وأحالته إلى نفسها (حولته إلى طبيعتها، وجعلته ناراً).

فاشتد عجب ابن يقظان، وتعاظمته الدهشة (اشتدت به). وحمله العجب بها. وما ركّب الله تعالى في طباعه من الجرأة والقوة، على أن يمدّ يده إلى النار. وأراد أن يأخذ منها قبساً (شعلة نار)؛ فلما باشرها أحرقت يده، ولم يستطع القبض عليها.

3- فضل النار

ثم اهتدى إلى أن يأخذ عوداً لم تستول النار على جميعه. فأخذ بطرفه السليم والنار مشتعلة في طرفه الآخر، فتأتّى له ذلك (تيسر)، وسهل عليه أن يمسك بالعود، من غير أن تصل إلى يده النار. ثم حمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه (يسكنه).

وكان حي بن يقظان قد خلا (انفرد) في جحر، كان استحسنه للسكنى قبل ذلك. فصار يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل (الغليظ العظيم)، ويتعهدها (يرعاها ويتفقدها) ليلاً ونهاراً، استحساناً لها وتعجباً منها.

وكان يزيد أنسه بها ليلاً، لأنها تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء. فعظم بها ولوعه، واشتد لها حبه، وزاد عليها إقباله، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه.

4- قوة النار

وكان يراها دائماً تتحرك إلى أعلى، وتطلب السمو؛ فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية (يعني النجوم والكواكب) التي يشاهدها متألقة (مضيئة لامعة في السماء).

وكان ابن يقظان يختبر قوة النار في جميع الأشياء، بأن يلقيها فيها؛ فيراها مستولية على كل شيء، إما بسرعة وإما ببطء، بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه فيها للاحتراق أو ضعفه.

5- الشواء

وكان من جملة ما ألقى فيها على سبيل الاختبار لقوتها، شيء من أصناف الحيوان البحرية، كان قد ألقاه البحر إلى ساحله.

فلما أنضجت النار ذلك الحيوان البحري، هبت على ابن يقظان رائحة ذلك الشواء (اللحم المشوي) اللذيذ، وسطع قتاره (ارتفعت رائحته وانتشرت)؛ فتحركت رغبته إليه؛ فأكل منه شيئاً، فاستطابه.

فاعتاد ابن يقظان منذ ذلك اليوم أكل اللحم، وأقبل على الشواء، وآثره (اختاره وقدمه) على غيره من ألوان الأطعمة المختلفة. فصرف الحيلة في صيد البر والبحر، حتى مهر في ذلك وأتقنه وزادت محبته في النار وشغفه بها، لما رآه من فوائدها؛ إذ تأتى له بها من وجود الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له قبل ذلك.

6- ظنون ابن يقظان

واشتد شغف ابن يقظان بها، لما رأى من حسن آثارها، وقوة اقتدارها. وقد خيل إليه ووقع في نفسه، أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي انشأته وربته كان من جوهر النار، أو من شيء يجانسه (يتحد معه في بعض صفاته).

وأكد ذلك في ظنه ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته وبرودته من بعد موته.

وكان يرى هذه القاعدة مطّردة (جارية مستقيمة) دائماً، لا تختل، ولا يستثنى منها شيء. وقد زاد وثوقه بصحة ما اهتدى إليه، أنه كان يجد في نفسه حرارة شديدة عند صدره؛ بإزاء الموضع ال ذي كان قد شقه من الظبية.

فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيواناً، وشق قلبه، ونظر إلى ذلك التجويف الذي صادفه خالياً عندما شق صدر أمه الظبية، لرآه في هذا الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه.

ثم قال ابن يقظان في نفسه: "ومن يدريني؟ لعل شيئاً في جوهر هذه النار أو ما يشابهه، أو قريباً منه، هو الذي يبعث الحرارة والحياة في قلب الحيوان. فلا بد لي من الفحص عنه، لعل في شيئاً من الضوء أو الحرارة.

يتبع بمشيئة الله تعالى






_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الثلاثاء مارس 12, 2024 2:28 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070


7- قلب الوحش

ولم يستقر في نفسه هذا الخاطر، حتى عمد إلى بعض الوحوش، وأوثق فيه كتافاً (أوثقه في كتاف؛ شده في حبل. والكتاف حبل تشد به اليدان إلى خلف الكتفين).

ولما تم له ذلك، شقه على الصفة التي شق بها صدر الظبية، حتى وصل إلى القلب. فقصد أولا إلى الجهة اليسرى منه، وشقها؛ فرأى ذلك الفراغ مملوءا بهواء بخاريّ يشبه الضباب الأبيض. فأدخل إصبعه فوجده من الحرارة بحيث يكاد يحرقه. ومات ذلك الحيوان على الفور (من غير بطء ولا تأخير).

فصحّ عند ابن يقظان أن ذلك البخار الحار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان، وأن في كل شخص من أشخاص الحيوان مثل ذلك، ومتى انفصل عن الحيوان، مات!

ثم تحركت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها، وأوضاعها وكمياتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض. وكيف تستمد الحياة من هذا البخار الحار، وكيف يستمر هذا البخار، ويبقى طول مدة بقائها، ومن أين يستمده الحيوان، وكيف لا تنفد حرارته ولماذا لا تفنى.

وظل يسائل نفسه هذه الأسئلة وأشباهها، ويتتبع ذلك كله بتشريح أنواع الحيوان كله من الأحاديث والأموات، لعله يهتدي إلى سر الحياة، ومصدر الحركة والقوة.

ولم يزل ينعم النظر فيها، ويجيل الفكرة، حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار العلماء!

8- الروح والجسد

فتبين أن كل شخص من أشخاص الحيوان وإن كان كثيراً بأعضائه، وتفنن حواسه وحركاته، واحد بذلك الروح الذي يتماثل في كل كائن حي. ورأى أن مبدأ هذا الروح من قرار واحد، وأن انقسامه في سائر أعضاء الجسم منبعث منه، وأن جميع الأعضاء على اختلاف أعمالها، وتباين أشكالها، وتفاوت أخطارها (تباين أقطارها، واختلاف قيمة كل منها)، إنما هي خادمة لهذه الروح، أو مؤدية عنه رغباته، ومنفذة لإرادته، ومحققو لمشيئته.

وأدرك ابن يقظان أن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد كمنزلة الانسان من الأدوات والآلات التي يستعملها، أو كمنزلة من يحارب الأعداء بالساح التام، أو يصيد جميع صيد البحر والبر؛ فيعدّ لكل جنس آلة ليصيده بها، ويقسم أدوات الحرب التي يحارب بها إلى أقسام مختلفة؛ فيتخذ بعضها لحمايته والدفاع عن نفسه ممن يهاجمه، ويتخذ بعضها الآخر لمهاجمة غيره والتغلب عليه، والنكاية به (إيضائه والكيد له).

وكذلك آلات الصيد، تنقسم إلى ما يصلح لحيوان البحر، وإلى ما يصلح لحيوان البر.

وكذلك الأشياء التي يشرّح بها أجساد الحيوان (يقطعها)، تنقسم أقساماً: ما يصلح للشق، وما يصلح للكسر، وما يصلح للثقب.

ورأى أن تلك الأدوات المختلفة، والأعمال المتنوعة، إنما يقوم بها شخص واحد، ويقوم بأدائها بمفرده بدن واحد، ويصرفها أنحاء من التصريف، بحسب ما تصلح له كل آلة، وبحسب الغايات التي تلمس (تطلب) بذلك التصرف.

9- أدوات الحياة

وأطال ابن يقظان تأمله في هذه الحقائق التي هداه إليها عقله وتفكيره، فرآها صحيحة، لا يتطرق إليها الشك، ورأى ذلك المثل منطبقاً أشد الانطباق على ذلك الروح الحيواني، الذي يصرّف كل أعضاء الجسد، ويشعّ الحياة (يوزعها ويفرقها) في كل جزء من أجزائه.

وأيقن ابن يقظان أن الروح الحيواني واحد، ولكن أفعاله تختلف باختلاف الأدوات التي يباشر بها أعماله، ويحقق بما مشيئته.

فإذا عمل بآلة العين كان فعله إبصاراً.
وإذا عمل بآلة الأذن كان فعله سمعاً.
وإذا عمل بآلة الأنف كان فعله شماً.
وإذا كان فعله بآلة اللسان كان فعله ذوقا.
وإذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمساً.
وإذا عمل بأحد الأعضاء كان فعله حركة.
وإذا عمل بالكبد كان فعله غذاء.

10- فضل الروح

ولكل واحد من هذه أعضاء تخدمه، ولا يتم لشيء من هذه جميعاً فعل إلا بما يصل إليها من ذلك الروح على الطرق التي تسمى عصباً.

ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت تعطل فعل ذلك العضو.

وهذا الروح يسري في جميع الأعضاء؛ فأي عضو منها عدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله، وصار بمنزلة الآلة الطّرحة (المتروكة المهملة) التي لا يصرفها أحد، ولا ينتفع بها.

فإن خرج هذا الروح بجملته من الجسد، أو فني بوجه من الوجوه تعطل الجسد كله وصار إلى حالة الموت.


يتبع بمشيئة الله تعالى


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس مارس 14, 2024 12:45 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070



الفصل الرابع
1- في الحادية والعشرين

ومضى على حي بن يقظان إحدى وعشرون سنة. وقد تفنن في خلال هذه المدة في وجوه حيله، واكتسى بجلود الحيوانات التي كان يعنى بتشريحها ودرسها، وضع له من تلك الجلود أحذية ينتعلها ويحتذيها في أثناء المشي والتجوال.

واتخذ الخيوط من أشعار الدواب، وقصب القنّب (وهو نبات تفتل من قشره الحبال)، وكل نبات ذي خيط.

وصنع الأمشاط من الشوك الوقي، والقصب المحدد (المسنون حدّه) على الحجارة.

2- بيت ابن يقظان

وقد اهتدى إلى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف (والخطاف: طائر أسود طويل الجناحين قصير الرجلين)؛ فقلد الخطاطيف في بناء مساكنها وأوكارها (عشاشها)، واتخذ له مخزناص لفضلة غذائه (بقية أهله) وبيتاً لسكناه. وحصنها بباب من القصب المربوط بعضه ببعض؛ لئلا يصل إليه شيء من الحيوان، عند مغيبه عن تلك الجهة من بعض شئونه.

وهكذا وفق ابن يقظان إلى بناء بيته، وتنظيم أموره، بفضل رجاحة عقله، ودقة ملاحظته وحسن تأمله.


3- أدوات الصيد

واستأنف ابن يقظان جوارح الطير (جعلها بالتعليم أليفة. وجوارح الطير هي التي تأكل مما تصيده من الحيوان)، ليستعين بها في الصيد.

واتخذ الدواجن (الطيور التي تألف البيوت) لينتفع ببيضها وفراخها.

واتخذ من صياصي البقر الوحشية (قرونها) أشباه الأسنة (والسنان: حديدة الرمح المدببة)، وركّبها في القصب القوي، وفي عصيّ الزان وغيرها. واستعان في صقلها بالنار، وبحروف الحجارة، حتى صارت شبه الرماح.

واتخذ ترسه (الثوب الذي يحفظ جسده من أن يجرح) من جلود مضاعفة (بعضها فوق بعض).

وإنما اضطره إلى اتخاذها ما رآه من عجزه عن مقاومة الوحوش القوية، لفقدان السلاح الطبيعي.

4- تذليل الدواب

ورأى ابن يقظان أن يده تفي له بكل ما فاته من ضروب النقص والحاجة. وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها. فعرف منذ ذلك اليوم فضل يده عليه، وأكبرهما إكباراً عظيما.

ولكنه رأى أن بعض الحيوانات يفر منه فيعجزه هرباً، ولا يستطيع اللحاق به، مهما يجهد نفسه في العدو خلفه، والجري وراءه.

ففكر ابن يقظان في وجه الحيلة في ذلك، وأنعم النظر (أطال التأمل والتفكير)؛ فلم ير أنجح له من أن يتألف (يستميل) بعض الحيوانات الشديدة العدو، ويحسن إليها بالغذاء الذي يصلح لها، حتى يتأتى له الركوب عليها، ومطاردة سائر الحيوان بها.

وكان بتلك الجزيرة خيل برية، وحمر وحشية، فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها (دربها ومرنها) حتى كمل له بها غرضه، وعمل عليها من الجلود أمثال السروج والشكائم (وهي الحديد المقوس الذي يوضع في فم الخيل).

فتأتى له بذلك ما أمله في اللحاق بالحيوانات التي صعبت عليه الحيلة من قبل في مطاردتها وأخذها.

وإنما تفنن في هذه الامور كلها في وقت اشتغاله بالتشريح ورغبته في الدرس، رغبة في الوقوف على خصائص أعضاء الحيوان وبماذا تختلف؟

وما بلغ الحادية والعشرين كما أسلفنا في أول هذا الفصل، حتى برع في ذلك وأتقنه ومهر فيه.

5- بعد الحادية والعشرين

ثم إنه بعد ذلك أخذ في مآخذ (مناهج ومسالك) من النظر. فتصفح جميع ما حوله من الحيوانات على اختلاف أنواعها والنبات، والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء، والبخار والثلج والبرد والحر والدخان واللهيب. فرأى لها أوصافاً كثيرة، وأفعالاً مختلفة، وحركات متفقة ومتضادة.

وأنعم النظر في ذلك، وأطال التثبت، فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض، وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة، ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة. فكان تارة ينظر في خصائص الأشياء، وما ينفرد به بعضها عن بعض؛ فكثر عنده كثرة تخرج من الحصر (الإحاطة).

وكان إذا تأمل في نفسه وأنعم النظر في أمره، تكثرت ذاته أمامه، لأنه كان ينظر إلى اختلاف أعضائه، ويرى أن كل واحد منها منفرد بفعل وصفة تخصه. وكان ينظر إلى كل عضو منها؛ فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جداً.

فحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء.

6- وحدة الإنسان

ثم كان ابن يقظان يجيل بصره (يدير نظره)، ويمعن فكره (يطيل تأمله)، راجعاً إلى نظر آخر، من طريق غير الطريق الأول.

فيرى أن أعضاءه وإن كانت كثيرة، فهي على كثرتها واختلاف أعمالها متصل بعضها ببعض، وليس بينها أقل انفصال.

فهي لذلك واحدة، أو هي تكاد تكون شيئاً واحداً؛ لأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها. وقد نشأ ذلك الاختلاف بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني الذي ينتظمها جميعاً.

وقد عرف ابن يقظان أن ذلك الروح الحيواني واحد وأنه يجري في سائر الأعضاء؛ فيبعث فيها الحياة، وتصبح كلها أشبه بالآلات. فأيقن ابن يقظان حينئذ أن ذاته واحدة، وإذا اختلفت أعضاؤها، وتعددت أفعالها وصورها.




يتبع بمشيئة الله تعالى

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: السبت مارس 16, 2024 1:25 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070


7- وحدة الحيوان

ثم أجال بصره (أدار عينه)، وأطال تأمله في جميع أنواع الحيوان، وظل ينظر إلى كل نوع منها بمفرده، كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفاً صنفاً فماذا رأى؟

لقد رأى عجباً، وهداه فكره إلى نتائج غاية في السداد (الصواب) والصحة. فقد كان يرى أشخاص كل نوع من أنواع الحيوان يشبه بعضه بعضاً، في أعضائه الظاهرة والباطنة، والإدراكات والمنازع (المذاهب والغايات)، ولا يرى بينها اختلافاً إلا في أشياء يسيرة بالإضافة إلى ما اتفقت فيه. وكان يحكم بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع: شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا لأنه انقسم على أجساد كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك الأجساد منه، ويجعله في وعاء واحد، لكان كله شيئاً واحداً. فكان يرى نوع الظباء كلها واحداً بهذا النظر، ويرى نوع البقر كله واحداً، ونوع الجياد كلها واحداً، وهكذا.

وكان يشبّه أشخاص الحيوانات الختلفة بأعضاء الشخص الواحد، التي ينتظمها ويسلكها (يجمعها ويضمها) روح واحد، وتسري فيها حياة واحدة. فهي واحدة وإن تكثّرت آحادها، وتعددت أفرادها.

8- الصفات العامة

ثم كان يحصر جميع أنواع الحيوانات كلها في نفسه، ويجيل بصره فيها، ويطيل تأملها، فماذا يرى؟

يرى أنها تتفق جميعاً في أنها تحس، وتغتذي (تنمو بالغذاء)، وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت.

وكان ابن يقظان قد علم أن الحس، والاغتذاء والحركة: هي أخص أفعال الروح الحيواني، وأن سائر الأشياء التي تختلف فيها أنواع الحيوان –بعد هذا الاتفاق- ليست جوهرية (ليست أصيلة ذات شأن)، وليس لها خطر يذكر، ولا قدر يؤثر، لأنها ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني.

فظهر له بهذا التأمل أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان هو واحد بالحقيقة، وإن كان فيه اختلاف يسير، اختصّ به نوع دون نوع.

وقد شبه ذلك تشبيهاً رائعاً، فقال:

"إن مجموع هذه الأرواح الكثيرة التي وزعت على أفراد الحيوانات أشبه بماء واحد، تفرّق على أوان كثيرة، فهو في حالة تفرقه وجمعه شيء واحد. وغذا كان بعضه أبرد من بعض، فإنه في أصله واحد".

فكان ابن يقظان يرى جنس الحيوان كله واحداً، بهذا النوع من النظر.

9- وحدة النبات

ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها، فيرى أنواعها يشبه بعضها بعضاً، في الأغصان، والورق والزهر والثمر وما إلى ذلك، فكان يقيسها بالحيوان، ويعلم أن لها شيئاً واحداً اشتركت فيه، وهو لها بمنزلة الروح للحيوان، وأنها بذلك الشيء واحد. وكذلك أصبح ينظر إلى جنس النبات كله، فيحكم باتحاده، بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أن يغتذي وينمو.
10- الحيوان والنبات

ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان، وجنس النبات؛ فيراهما جميعاً متفقين في الاغتذاء والنمو، إلا أن الحيوان يزيد على النبات بفضل الحس والإدراك والانتقال.

وربما ظهر في النبات شيء شبيه بالحيوان، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى جهة الغذاء، وأشباه ذلك.

فظهر له بهذا التأمل أن في النبات والحيوان شيئاً واحداً مشتركاً بينهما، هو في احدهما: أتم وأكمل، وفي الآخر، قد عاقه عائق ومنعه مانع. وأن ذلك بمنزلة ماء واحد، قسم إلى قسمين: أحدهما جامد والآخر سيّال.

وبذلك يرى ابن يقظان أن الحيوان والنبات متحدان.

10- خصائص الجماد

ثم ينظر ابن يقظان إلى الأجسام ا لتي لا تحس ولا تتغذى ولا تنمو؛ ويطيل تأمله في تلك الأجسام مثل الحجارة والتراب والماء والهواء واللهب، فيرى أنها أجسام مقدر لها طول وعرض وعمق، وأنها لا تختلف إلا أن بعضها ذو لون، وبعضها لا لون ، وبعضها حار وبعضها بارد، وما إلى ذلك من وجوه الاختلاف.

وكان يرى أن الحار منها: يصير بارداً، البارد: يصير حاراً. وكان يرى الماء: يصير بخاراً، والبخار يصير ماء، والأشياء المحترقة تصير جمراً ورماداً، ولهيباً ودخاناً، والدخان إذا لاقى في صعوده حجراً انعقد (جمد) فيه، وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية.

فيظهر له بهذا التأمل أن جميعها شيء واحد في الحقيقة.

وعرف أنها على كثرة أشكالها، وتعدد صفاتها تلتقي في أوصاف عامة؛ وذلك كما يلتقي الحيوان والنبات، على ما لحقهما من الكثرة والتنوع والاختلاف.

11- خصائص عامة

وبقي ابن يقظان بحكم هذه الحالة مدة، ثم إنه تأمل جميع الأجسام حيّها وجمادها، فرأى أن كل واحد منها لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتحرك جهة العلو، مثل الدخان واللهب، ومثل الهواء إذا حصل تحت الماء، وإما أن يتحرك إلى الجهة المضادة تلك وهي جهة السفل مثل الماء وأجزاء الأرض، وأجزاء الحيوان والنبات. ورأى أن كل جسم من هذه الأجسام لن يعرى (لن يخلص) عن هاتين الحركتين، وأنه لا يسكن إلا إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه مثل الحجر النازل: يصادف وجه الأرض صلباً؛ فلا يمكنه أن يخترقه (ينفذ منه، وينزل فيه)، ولو أمكنه ذلك لما انثنى (لو استطاع النفاذ فيه لما امتنع) عن حركته فيما يظهر.
ولذلك، إذا دفعته وجدته يتحامل عليك مائلاً إلى جهة السفر، طالباً للنزول، وكذلك الدخان في صعوده لا ينثني إلا أن تصادفه قبة صلبة تحبسه؛ فيحنئذ ينعطف (يميل) يميناً وشمالاً، ثم إذا تخلص من تلك القبة خرق الهواء صاعداً؛ لأن الهواء لا يمكنه أن يحبسه.

وكان ابن يقظان يرى أن الهواء إذا ملئ به زقّ (سقاء، وهو وعاء من الجلد)، وربط، ثم غوّص تحت الماء؛ طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي سطح الماء، ويشرف (يرتفع) على موضع الهواء. ومتى تم خروجه من تحت الماء، فإنه يسن حينئذ ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي كان يوجد قبل ذلك.

12- خصائص الماء

وأدى ذلك بـ ابن يقظان إلى التأمل في الماء. فماذا رأى؟

1- رأى أنه إذا خلّى وما تقتضيه صورته، ظهر منه برد محسوس، وطلب النزول إلى أسفل.

2- فإذا سخن الماء إما بالنار، وإما بحرارة الشمس، زال عنه البرد أولاً، وظل باقياً فيه طلب النزول إلى أسفل.

3- فإذا اشتد تسخينه، زال عنه طلب النزول إلى أسفل، وصار يطلب الصعود إلى فوق.

وثمة (هناك) تزول عنه البرودة، وطلب النزول إلى أسفل؛ وهما الوصفان اللذان امتاز بهما الماء.

وعجب ابن يقظان مما وصل إليه من النتائج التي هداه إليها تأمله وملاحظته؛ فقد رأى حينئذ أن الماء بعد أن اتخذ له صورة جديدة أخرى، لم تكن له قبل التسخين- صدر عنه بها أفعال جديدة أخر، لم تكن تصدر عنه وهو بصورته الأولى؛ فأصبح بعد السخونة يطلب الصعود وقد كان في حال البرودة يطلب النزول.

13- مصدر الوجود




يتبع بمشيئة الله تعالى

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الاثنين مارس 18, 2024 1:15 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070


13- مصدر الوجود


فعلم ابن يقظان حينئذ أن كل حادث: لا بد له من محدث. فارتسم (مثل وتصوّر) في نفسه بهذا الاعتبار فاعل الصور.

ثم إنه تتبع الصور التي كان قد علمها قبل ذلك: صورة صورة؛ فرأى أنها كلها حادثة، وأنها لا بد لها من فاعل.

ثم إنه نظر إلى ذوات الصور؛ فلم ير أنها أجسام مستعدة لأن تصدر عنها الأفعال؛ مثل الماء: فإنه إذا أفرط وزاد عليه التسخين استعد للحركة إلى فوق.

فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض هو استعداده الخاص لقبولها. ولاح لابن يقظان مثل ذلك في جميع الصور؛ فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها، وإنما هي لفاعل أكسبها الأفعال المنسوبة إليها.

وهكذا اهتدى بذكائه وحسن التفاته ودقة ملاحظته إلى الإيمان بالله: خالق الخلق ومصدر الوجود.

الفصل الخامس
1- بعد الخمسين

وما زال ابن يقظان ينعم (يبالغ) في النظر، ويمعن (يزيد) في الفكر، ويطيل التأمل، حتى بلغ مرتبة الفلاسفة. ولم يبلغ حالته تلك، حتى أناف (أشرف وزاد) على الخمسين. وحينئذ انتقلت حياته من العزلة (الوحدة) إلى الاتصال. وأتاح (يسر) له حسن الحظ مصاحبة عالم تقي، ورع (مبتعد عن المعاصي)، كريم النفس، نبيل الخلق، فكان له في حياة ابن يقظان أكبر الأثر، كما ترى فيما يلي من حوادث هذه القصة العجيبة.

2- الصديقان

ذكروا: أن جزيرة قريبة من الجزيرة التي نشأ فيها حي ابن يقظان كان أهلها يعبدون الله سبحانه ويطيعونه. وقد ذاعت في تلك الجزيرة (انتشرت) تعاليم الدين الصحيحة، آمن سكانها بما جاء به الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.

فما زال الدين ينتشر بتلك الجزيرة، وتقوى أواصره (روابطه) حتى قام به ملكها، وحمل الناس على التزامه والأخذ به.

وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من أهل الفضل والرغبة في الخير؛ يسمى أحدهما "أسال" والآخر "سلامان". فتلقيا ذلك الدين، وقبلاه أحسن قبول، وأخذا نفسيهما بالتزام جميع شرائعه، والمواظبة على تنفيذ أوامره، والانتهاء (الكف والاجتناب) بنواهيه وزواجره، وجعلا يتفهمان دقائقه بعناية نادرة.

فأما أسال فكان أشد غوصاً على الباطن وأعمق، وأكثر تفقهاً لأسرار الدين ودقائقه الخفية.

وأما سلامان صاحبه، فكان أكثر احتفاظاً بظاهر ألفاظ الدين، وأشد بعداً عن التعمق في فهم أسراره، وكان لا يطيل الفكر والتأمل.

وكلاهما مجدّ في العبادة، مخلص لدينه، دقيق في محاسبة نفسه، ومجاهدة أهوائها ومحاربة نزعاتها الضارة.

وكان أسال يؤثر العزلة (يختارها)، ويميل إلى البعد عن الناس، ويرى أن في ذلك الفوز والنجاة. ولكن سلامان كان يرى في ذلك رأياً آخر؛ فهو يؤثر المعاشرة وملازمة الجماعة، ويرى في ذكل تمام سعادته، لأنه يتيح له الفرصة في إرشاد جمهرتهم (جماعتهم) إلى طريق الخير، وتحذيرهم عواقب الشر، وإنارة سبيل الهدى، وإخراجهم من الغير والضلال.

أما أسال فقد أخذ نفسه بالعزلة، لما كان في طباعه من دوام الفكرة، وملازمة العبرة والغوص على المعاني.

وأكثر ما كان يتأتى له أمله من ذلك: بالانفراد.

وتعلق سلامان بملازمة الجماعة، وأخذ نفسه بهذا المذهب؛ لما كان في طباعه من البعد عن التعمق، والانصراف إلى التصفح (التأمل والتعرف). فكانت ملازمة الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس عنه ويدفعه. ويزيل الظنون المعترضة، ويعيذه من همزات الشياطين ويحفظه من وساوسهم ونخساتهم ومكائدهم.

3- سبب الفرقة

وكان اختلاف أسال وسلامان في هذا الرأي: سبب افتراقهما. ولما سمع أسال بتلك الجزيرة التي ذكرنا أن حي بن يقظان قد حل بها، وعرف ما فيها من الخصب والهواء المعتدل، ورأى أن الانفراد بها يتأتى لملتمسه، ويتيسر لطالبه؛ أجمع أمره (عزم وقرر) أن يرتحل إليها، ويعتزل الناس بها، بقية عمره.

4- مقدم أسال

فجمع أسال ما كان له من المال، واكترى (استأجر) ببعضه سفينة تحمله إلى تلك الجزيرة، وفرّق ما بقي من ماله على المساكين، وودع صاحبه سلامان وركب متن اليم (ظهر البحر)؛ فحمله الملاحون (النوتيون) إلى تلك الجزيرة، ووضعوه بساحلها وانفصلوا عنه (تركوه).

5- عيش النساك

وبقي أسال بتلك الجزيرة، يعبد الله عز وجل ويعظمه ويقدسه، ويفكر في أسمائه الحسنى، وصفاته العليا؛ فلا ينقطع خاطره ولا تتكدر فكرته.

وإذا احتاج إلى الغذاء، تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد به جوعته. وأقام على تلك الجزيرة مدة، وهو في أتم غبطة، وأعظم أنس بعبادة ربه ومناجاة خالقه.

وكان يشاهد كل يوم من ألطافه ومزايا تحفه وتيسيره عليه في مطالبه وغذائه: ما يثبت يقينه ويقر عينه.

وكان حي بن يقظان في تلك المدة شديد الاستغراق في أفكاره الفلسفية، وتأملاته العميقة. فكان لا يبرح مغارته إلا مرة في الأسبوع لتناول ما سنح (ما ظهر له وسهل عليه أن يظفر به) من الغذاء. فلذلك لم يعثر عليه أسال بأول وهلة (بأول الأمر)؛ بل كان يطوف بأكناف تلك الجزيرة (نواحيها)، ويسبح في أرجائها؛ فلا يرى إنسياً، ولا يشاهد أثراً، فيزيد بذلك أنسه، وتتبسط نفسه لفرط غرامه بالعزلة، وإيثاره (اختياره) للانفراد، وتناهيه (تغاليه في بلوغ الغاية البعيدة) في طلب البعد عن الناس.

6- لقاء فجائيّ

واتفق في بعض تلك الأوقات أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه، وكان أسال قد ألمّ (مر) بتلك الجهة، فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر.

فأما أسال فلم يرض إلا أن يكون من العباد المنقطعين، وقد وصل إلى تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس، فخشي إن هو تعرض لابن يقظان وتعرف به أن يكون ذلك سبباً لفساد حاله وعائقاً بينه وبين أمله.

وأما حي بن يقظان فلم يدر: من هو أسال؟ لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك.

7- فرار أسال

وكان على أسال ثياب من شعر وصوف؛ فظن ابن يقظان أنها لباس طبيعي أنبته جسمه، فوقف يتعجب منه ملياً (وقتاً) وجرى أسال فاراً منه خيفة أن يشغله عن حاله.

فاقتفى ابن يقظان أثره (تبعه)، لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء. فلما رآه يشتد في الهرب، تباطأ ابن يقظان وخنس عنه (تأخر) وتوارىله (استخفى عن ناظره)؛ حتى ظن أسال أن صاحبه الذي يقتفيه: قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة.

8- ورع أسال

فشرع أسال في الصلاة والقراءة والدعاء والبكاء والتضرع (الابتهال إلى الله والتذلل له)، حتى شغله ذلك عن كل شيء. فجعل حي بن يقظان يقترب منه قليلاً وأسال لا يشعر به، حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته، وتسبيحه، وبكاءه، ويشاهد خضوعه؛ فسمع صوتا حسناً، وحروفاً منظمة، لم يعهد مثلها من أصناف الحيوان. ونظر إلى أشكال هذا الحيّ الغريب، وتخطيطه؛ فرآه على صورته، وتبين له أن الثياب التي عليه ليست جلداً طبيعياً؛ وإنما هي لباس متخذ مثل لباسه هو.

ولما رأى بكاءه وحسن خشوعه وتضرعه، لم يشك في أنه من الذوات العارفة بالحق. فتشوق إليه، وأراد أن يرى ما عنده وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه؟


يتبع بمشيئة الله تعالى

_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الأربعاء مارس 20, 2024 3:44 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070

9- مطاردة

فزاد حي بن يقظان في الدنو والقرب، حتى أحسّ به اسال، فاشتد في العدو واشتد حي بن يقظان في أثره؛ حتى التحق به، لما كان أعطاه الله من القوة، والقدرة على السبق. فالتزمه (اعتنقه)، وقبض عليه، ولم يمكنه من البراح (الانتقال والتحول). فلما نظر إليه أسال وهو مكتس بجلود الحيوانات ذوات الأوبار، وشعره قد طال حتى جلل (غطى وستر) كثيراً منه، ورأى ما عنده من العدو (الجري) وقوة البطش والفتك والعنف؛ فرق (خاف) منه فرقاً شديداً، وجعل يستعطفه (يسأله أن يعطف عليه ويرق له)، ويرغب إليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان، ولا يدري: ما هو؟ غير أنه يميز فيه شمائل الجزع (طباع القلق وعدم الصبر وسرعة الحزن).

فكان ابن يقظان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من بعض الحيوانات، ويربت كتفه (يلاطفه ويضرب بيده على كتفه في رفق تسكيناً له)، ويمر يده على رأسه، ويمسح أعطافه (ما يثنيه من جنبيه)، ويتملق إليه (يتودد ويتحبب)، ويظهر البشر والفرح به؛ حتى سكن جأش أسال واطمأن قلبه، (والجأش: فزع القلب)، وعلم أنه لا يريد به سوءاً.

10- دهشة الغريبين

وكان أسال لمحبته في علم التأويل (التعرف والتفسير) قد تعلم قديماً أكثر الألسن ومهر فيها، فجعل يكلم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه، ويعالج إفهامه؛ فلا يستطيع. وكان حي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع، ولا يدري: ما هوي؟ غير أنه يظهر له البشر والقبول؛ فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه.

11- طعام أسال

وكان عند أسال بقية من زاد، كان قد استصحبه من الجزيرة المعمورة! فقربه إلى حي بن يقظان؛ فلم يدر: ما هو؟ لأنه لم يكن شاهده قبل ذلك. فأكل منه أسأل وأشار إلى صاحبه ليأكل. فتفكر حي بن يقظان في هذا، ولم يكن يدري أصل ذلك الشيء الذي قدمه له أسأل ، ولم يعرف ما هو؟ وهل يجوز له تناوله، أم لا؟ فامتنع بادئ الامر عن الأكل. ولم يزل أسال يرغّب إليه ويستعطفه (يستميله).

وكان حي بن يقظان قد أولع بـ أسال، وشغف به حباً؛ فخشي إن دام على امتناعه، أن يوحشه ويشعره بغرابته. فأقدم على ذلك الزاد، وأكل منه. فلما ذاقه واستطابه، بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده وخشي أن يصيبه مكروه، بعد أن أكل من ذلك الطعام الذي لم يألفه من قبل. وندم على ما فعله، وأراد الانفصال عن أسال، والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم. ولكنه كان شديد الرغبة في تعرف حقيقة هذا الغريب؛ فتريّث في أمره (تمهل)، ورأى أن يقيم مع أسال وقتاً قصيراً؛ حتى يقف على حقيقة شأنه، ويتعرف جلية أمره. فإذا تم له ذلك، عاد إلى طريقته الأولى، وانصرف إلى تأملاته وتفكيره، دون أن يشغله شاغل. وثمة رأى حاجته إلى مصاحبة أسال؛ فقرر في نفسه ملازمته حتى يدرك طلبته (ينال قصده).

12- معلم ابن يقظان

ولما رأى أسال أيضاً أن صاحبه ابن يقظان لا يتكلم، أمن على دينه من غوائله (شروره وفتكاته المؤذية)، ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين؛ فيكون له بذلك أعظم أجري وزلفى (قربى) عند الله. فشرع أسال في تعليم صاحبه الكلام أولاً، بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات، وينطق بأسمائها، ويكرر ذلك عليه، ويحمله على النطق؛ فينطق بها مقترناً بالإشارة، حتى علمه الأسماء كلها.

ولما تم له ذلك، شرع يدرجه قليلاً قليلاً، حتى تكلم ابن يقظان في أقرب مدة. فجعل أسال يسأل صاحبه عن شأنه، ومن أين صار إلى تلك الجزيرة؟ فأعلمه حي بن يقظان أنه لا يدري لنفسه ابتداء، ولا أباً ولا أماً، أكثر من الظبية التي ربته. ووصف له شأنه كله، وكيف ترقى إلى بالمعرفة، حتى وصل إلى تلك المرتبة العالية من البحث والإدراك.

فلما سمع أسال منه وصف تلك الحقائق، ورأى من حسن فهمه ما أدهشه، وملأ نفسه إعجاباً به، ورفع مكانته في عينيه.

وازداد إيمان أسال، وقوي يقينه، وانفتح بصر قلبه، وانقدحت نار خاطره (اتقدت)، ولم يبق عليه مشكل (ملتبس غير واضح) في الدين إلا تبين له، ولا مغلق في الشريعة إلا انفتح، ولا غامض إلا اتضح؛ وصار من أولي الألباب.

وعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير والإجلال، وتحقق عنده أنه من أولياء الله الصالحين؛ الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالتزم خدمته، والاقتداء به، والأخذ بإشارته، وأصبح أصفى أصفيائه، وأخص خلصائه، منذ ذلك اليوم.

الفصل السادس
1- فضل الشرائع

وظل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه. فجعل أسال يصف له شأن جزيرته، وما فيها من العالم، وكيف كانت سيرهم وأخبار حياتهم السالفة، وشؤونهم الماضية، قبل وصول الدين إليهم، وكيف هي الآن بعد أن اهتدوا بنور الدين. ووصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحساب والميزان، والصراط. ففهم حي بن يقظان ذلك كله، ولم ير فيه شيئاً على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم! فعلم أن الذي جاء بذلك الدين القيم نبي أمين، ذو قوة عند ذي العرش مكين. وأيقن أنه محق في وصفه صادق في قوله، وأنه رسول من عند ربه. فآمن به وصدّقه، وشهد برسالته، وأقرّ بنبوته وأصبح في عداد الصالحين الأخيار.

ثم جعل ابن يقظان يسأل صاحبه أسال عما جاء به من الفرائص، وما فرضه على الناس من العبادات. فوصف له صاحبه أسال الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبهها؛ وشرح له حكمة هذه الفروض والواجبات. فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه؛ امتثالاً للأمر الذي صحّ عنده صدق قائله.

2- آراء ابن يقظان

ولكن بقي في نفس ابن يقظان أمر كان يتعجب منه، ولا يدري وجه الحكمة فيه. وذلك أنه فيما فهمه من أسال رأى الناس يستبيحون لأنفسهم اقتناء الاموال، والتوسع في المآكل؛ حتى تفرعوا للباطل بالباطل، وأعرضوا عن الحق. وكان رأيه هو ألا يتناول أحد شيئاً إلا ما يقيم به الرمق، ويمسك الحياة. وأما الأموال فلم تكن عنده بمعنىً.

وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال كالزكاة وتشعبها والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب ذلك كله، ويراه مفهوماً بالبداهة. ويقول إن الناس لو فهموا الأمر على حقيقته، لأعرضوا عن أباطيلهم، وأقبلوا على الحق، وزهدوا في المال، ولم يدخروه، ولم يتكالبوا عليه (لم يقبلوا ولم يحرصوا)، ولم يحتاجوا إلى من يرشدهم إلى واجب إخراج الزكاة منه. ولم يقدم السارقون على سرقته فتقطع أيديهم. وكان الذي أوقعه في ذلك، ظنه أنه الناس كلهم ذوو فطرة (طبيعة) فائقة، وأذهان ثاقبة (نافذة متقدة)، ونفوس حازمة (آخذة بما تثق به). ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة، والنقص وسوء الرأي، وضعف العزم، وأنهم كالأنعام (كالإبل والبقر والغنم)؛ بل هم أضل سبيلاً.


يتبع بمشيئة الله تعالى


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
 عنوان المشاركة: Re: ☀ الغربة الغربية(حي بن يقظان) ☀
مشاركة غير مقروءةمرسل: الخميس مارس 21, 2024 2:18 am 
غير متصل

اشترك في: الخميس مايو 30, 2013 5:51 am
مشاركات: 35070

الأخيرة
*******


3- مفاوضة أسال

فلما اشتد إشفاق ابن يقظان على الناس، وطمع أن تكون نجاتهم على يديه، حدثت له نية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبيينه. ففاوض في ذلك صاحبه أسال وسأله: هل تمكنه حيلة في الوصول إلى تلك الجزيرة؛ ليرشده الناس إلى طريق النجاة، ويهديهم إلى سواء السبيل؟ فأعلمه أسال بما عليه سواد الناس (عامتهم وكثرتهم)، من نقص الفطرة والاعراض عن أمر الله؛ فلم يتأتّ لابن يقظان فهم ذلك وبقي في نفسه تعلق بما كان قد أمّله.

4- على ساحل البحر

ثم طمع أسال أن يهدي الله على يدي ابن يقظان طائفة من معارفه المريدين، الذين كانوا أقرب إلى الاخلاص من سواهم. فساعده على رأيه، وأقرّه على اقتراحه، ودعا الله أن يحقق أمله، ويظفره بأمنيته.

ورأيا أن يلتزما ساحل البحر، ولا يفارقاه ليلاً ولا نهاراً؛ لعل الله يسنى (يسهل وييسر) لهما عبور البحر. فالتزما ذالك، وابتهلا إلى الله تعالى بالدعاء أن يهيء لهما من أمرهما رشدا.

5- في المركب

وكان من أمر الله عز وجل أن سفينة في البحر ضلت مسلكها، ودفعتها الرياح وتلاطم الأمواج إلى ساحل جزيرتهما. فلما رقت هذه السفينة من البر، رأى أهلها أسال وابن يقظان على الشاطئ؛ فدنوا منهما. فكلمهم أسال وسألهم أن يحملوهما معهم؛ فأجابوهما إلى ذلك، وأدخلوهما السفينة. فأرسل الله إليهم ريحاً رخاءً (خفيفة هينة لينة)، حملت السفينة في أقر مدة إلى الجزيرة التي قصداها.

6- سواد الخاصة

فنزلا بها، ودخلا مدينتها، واجتمع أصحاب أسال به، فعرفهم شأن حي بن يقظان؛ فاشتملوا عليه اشتمالاً شديداً، والتفوا حوله وأحاطوا به من كل جانب، وأكبروا أمره، واجتمعوا إليه، وأعظموه وبجّلوه. وأعلمه أسال أن تلك الطائفة: هم سواد الخاصة من عقلاء الجزيرة، وأنهم لذلك أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وأنه إن عجز عن تعليم هؤلاء الخاصة العقلاء فهو عن تعليم الجمهور أعجز. وكان رأس تلك الجزيرة وكبيرها: سلامان وهو صاحب أسال الذي ذكرناه آنفاً.

وكان كما أسلفنا يرى ملازمة الجماعة وينفر من العزلة.

7- السخط بعد الرضا

فشرع ابن يقظان في تعليم جمهرة الناس وإرشادهم، وبث أسرار الحكمة فيهم. ثم ترقى بهم قليلاً، وشرع في نشر آرائه ومبادئه الجديدة بينهم، فاجترأ على مصارحتهم بالحق، وتوخى (قصد وتعمد وتطلب) إرشادهم إلى الطريق القويم، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وتحذيرهم من تلك البدع (الأشياء المستحدثة) الممقوتة التي ألصقها الجهلاء بالدين؛ فشوهت من جماله، وبدلت من محاسنه ومزاياه. وما هو إلا أن أقدم على ذلك، حتى جعلوا ينفضون عنه، وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطون (يغضبون ويكرهون) في قلوبهم وإن أظهروا له الرضا في وجهه؛ إكراماً لغربته فيهم، ومراعاة لحق صاحبهم أسال.

8- خيبة أمل يقظان

على أن حي بن يقظان لم يدبّ اليأس (لم يمش) إلى قلبه، بادئ الأمر. وما زال يتلطف لهم ليلاً ونهاراً، ويبين لهم الحق سراً وجهاراً؛ فلا يزيدهم ذلك إلا نفوراً وإصراراً، ولا يلقى منهم على نصيحته إلا عتواً واستكباراً. مع أنهم كانوا محبين في الخير، راغبين في الحق؛ إلا أنهم كانوا لنقص فطرتهم، وضيق عقلهم وقصر نظرهم لا يطلبون الحق من طريقه، ولا يأخذونه بجهة تحقيقه، ولا يلتمسونه من بابه، ولا يريدون معرفته من طريق أربابه. فلما رأى ابن يقظان من عنادهم وإصرارهم ما رأى يئس من إصلاحهم، وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم.

9- ضلال الناس

وتصفح ابن يقظان (تعرف وتأمل) بعد ذلك طبقات الناس؛ فوجد من اختلاف آرائهم، وتعدد مذاهبهم، وولوعهم بالجدل العقيم والمناقشات التي لا تثمر، ما زهّده في لقائهم. وزاد يأسه من هدايتهم، إذ رأى أن كل حزب بما لديهم فرحون، ورأى من غفلتهم عن الآخرة وتفانيهم في جمع حطام الدنيا الفانية (جمع ما فيها من الأموال) ما حيره، وبلبل خاطره. فقد ألهاهم التكاثر، حتى زاروا المقابر. ولم تنجع (لم تجد ولم تنفع) فيهم الموعظة الحسنة، ولم تعمل فيهم الكلمة الطيبة، ولم يزدادوا بالجدال إلا اصراراً وعناداً. ولم تجد الحكمة إلى قلوبهم سبيلاً، بعد أن غمرتهم الجهالة، وران (غلب واشتد) على قلوبهم ما كانوا يكسبون؛ وجعل الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة (غطاء) ولهم عذاب عظيم.



10- ظلمات الجهل

فلما رأى ابن يقظان أن سرادق العذاب (دخانه) قد أحاط بهم، وظلمات الحجب قد تغشتهم (غطتهم)، وأن جميعهم إلا اليسير لا يتمسكون من دينهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أحكامه وسننه، وتركوها على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً، وألهاهم عن ذكر الله تعالى بيعهم وتجارتهم، ولم يخافوا يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار: بان له (تحقق) على القطع أن مخاطبتهم لا غناء فيها (لا جدوا ولا فائدة)، وأن تقويم اعوجاجهم لا يتفق، وأن حظ أكثر الجمهور من الانقطاع بالشريعة إنما هو في حياتهم الدنيا؛ ليستقيم لهم معاشهم، ولا يتعدى أحد منهم على سواه فيما اختص به.

11- طريق النجاة وطريق الهلاك

ورأى ابن يقظان أن الفائزين بالسعادة الأخروية أقل من القليل وأنه لا يظفر إلا الشاذ النادر؛ وهو من أراد حرث الآخرة (العمل لها)، وسعى لها سعيها. وأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى. وأي تعب أدهى وأعظم وشقاوة أطم (أكثر وأغلب) وأعم وأكبر، ممن إذا تصفحت أعماله طول يومه من وقت انتباهه من نومه، إلى حين رجوعه إلى الكرى، واستسلامه للنوم، لا ترى له هماً يشغل باله ويؤرق نومه، إلا أعراض الحياة الزائلة: من مال يجمعه أو دنيا يصيبها، أو لذة ينالها، أو كيد يتشفى به، أو جاه يحرزه، أو عمل من أعمال الشرع يتزين به، أو تقوى يتظاهر بها رئاء الناس (تظاهراً بغير حقيقة). وهي كلها ظلمات في بحر لجّيّ (عظيم الموج) بعضها فوق بعض.

12- خاتمة القصة

فلما فهم ابن يقظان أحوال الناس، أدرك أن أكثرهم بمنزل الحيوان غير الناطق، وأن لكل عمل رجالاً، وأن كلاً ميسر لما خلق له. فانصرف ابن يقظان إلى سلامان وأصحابه؛ فاعتذر لهم عما تكلم به معهم، وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم، واهتدى بمثل هديهم، وأوصاهم بالخير والبر، والاقتداء بالسلف الصالح.

ثم ودعهم ابن يقظان وأسال وتلطفا في العودة إلى جزيرتهما، حتى يسّر الله عز وجل لهما العبور.

وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم، على النحو الذي طلبه أولاً؛ حتى عاد إليه. واقتدى به أسال حتى ساواه أو كاد.

وما زالا يعبدان الله في تلك الجزيرة، حتى أتاهما اليقين (الموت).

وهكذا عاشا عيشة النساك الزاهدين، وماتا ميتة الأبرار المقربين، وكتبت لهما السعادة في الدنيا والآخرة.

جواري الوقواق
للكيلاني


_________________



مولاي صل وسلم دائما أبداعلى حبيبك خير الخلق كلهم
اللهم صل على هذا النبى الأمين وأجعلنا من خاصة المقربين لديه السعداء وعلى آله وسلم حق قدره ومقداره العظيم




أعلى
 يشاهد الملف الشخصي  
 
عرض مشاركات سابقة منذ:  مرتبة بواسطة  
إرسال موضوع جديد الرد على الموضوع  [ 23 مشاركة ]  الانتقال إلى صفحة السابق  1, 2

جميع الأوقات تستخدم GMT + ساعتين


الموجودون الآن

المستخدمون المتصفحون لهذا المنتدى: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 15 زائر/زوار


لا تستطيع كتابة مواضيع جديدة في هذا المنتدى
لا تستطيع كتابة ردود في هذا المنتدى
لا تستطيع تعديل مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع حذف مشاركاتك في هذا المنتدى
لا تستطيع إرفاق ملف في هذا المنتدى

البحث عن:
الانتقال الى:  
© 2011 www.msobieh.com

جميع المواضيع والآراء والتعليقات والردود والصور المنشورة في المنتديات تعبر عن رأي أصحابها فقط