بسم الله وصلاة ربي وسلامه على خير الخلق محمد وعلى أله وصحبه ومن اتبعه الى يوم الدين.
اقرؤوا هذا الرد الذي كتبه الاستاذ الشيخ سعيد فودة على الكلام الساقط لبابا الفتيكان المدعو بندكت السادس الذي انتقد فيه الاسلام ونبيه عليه السلام..
( تجدون هذا الرد بموقع الاستاذ فودةhttp://www.aslein.net/showthread.php?t=4746*************************************************
البيان الواضح
لما في كلام زعيم النصارى من الخطأ والزيف
ردٌّ على محاضرة البابا بنديكت السادس عشر: "الإيمان والعقل والجامعة ذكريات وانعكاسات"
التي ألقاها في جامعة ريجينسبورج بولاية بافاريا الألمانية، الثلاثاء: 12-9-2006م
بقلم
الأستاذ المحقق سعيد فودة
حفظه الله تعالى
البيان الواضح لما في كلام زعيم النصارى من الخطأ والزيف
بقلم: الأستاذ المحقق سعيد فودة
حقوق نشر هذا الكتيب محفوظة لكل المسلمين
ويسمح بنشره بكل الصور والإمكانيات المتاحة وترجمته إلى أي لغة أخرى،
بشرط العزو والأمانة العلمية في النقل والاقتباس
للاتصال بالمؤلف:
[email protected]
للاطلاع على مزيد من مؤلفات الأستاذ المحقق انظر:
www.aslein.net *
www.al-razi.net
*************************
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
ا
لحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد،
فإن الدفاع عن الدين واجب على القادر على الذبِّ عنه، ومتعيِّن على أهل العلم والمقدرة، والدفاع يشمل البيان والشرح والتوضيح، والردَّ على الآخرين المخالفين، ومنه بيان الأغاليط التي يقعون فيها، ويوهمون القراء أو المستمعين أنها الحقُّ، وليست كذلك.
ومما سمعناه مؤخراً ما انتقده البابا بنديكت، بابا الفاتيكان على الإسلام، وتعلّق بأوهامٍ، واعتمد على أمورٍ لا تصح، وعلى تفسيرات غريبة شاذة، أو آراء قبيحة مردودة، إضافة إلى ما اخترعه من عند نفسه، ظانَّاً أنه بهذا سوف يخدع الناس ويصل إلى مبتغاه.
ولكن هيهات!
فاندفعنا إلى القيام بالأمر الواجب، من بيان اضطراب كلامه وشذوذ أفكاره، وضعف معارفه وعلومه، مع تبجُّحه بأن كلامه في غاية التعقيد، ونهاية الدقة، وأنَّ من اعترض عليه فإنه لم يحصِّله على وجهه، ولم يرق إليه مستوى فهمه! وهذا منه علوُّ بلا مُرَجِّح، واستعلاء بما يُقَبِّح.
والعجيب أني لم أسمع أحداً ممن ردَّ عليه أشار إلى خطل آرائه، وضعف أقواله، على نحو علمي رصين، إلا إشارات هنا وعبارات هناك، لا تكفي لشفاء الغليل، وكان الواجب على أهل المعرفة القيام بانتقاد أصول دعواه، والكشف عن اندفاعه في المغالطة إلى منتهاه.
وأدعو الله تعالى أن يكون كلامي هذا الذي دوَّنته على عجل، سادَّا شيئاً من ذلك، ودافعاً لأوهام ذلك الفهم المتهالك.
وها نحن نبدأ في المقصود.
معنى قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)،
وعلاقة ذلك بانتشار الإسلام بالسيف!!
قال البابا بنديكت:
"ففي جولة الحوار السابعة كما أوردها البروفيسير خوري تناول الإمبراطور موضوع الجهاد، أي الحرب المقدسة. من المؤكد أن الإمبراطور كان على علم بأن الآية 256 من السورة الثانية بالقرآن (سورة البقرة) تقول: لا إكراه في الدين.. إنها من أوائل السور، كما يقول لنا العارفون، وتعود للحقبة التي لم يكن لمحمد فيها سلطة ويخضع لتهديدات. ولكن الإمبراطور من المؤكد أيضا أنه كان على دراية بما ورد، في مرحلة لاحقة، في القرآن حول الحرب المقدسة".
وقال: "وبدون أن يتوقف عن التفاصيل، مثل الفرق في معاملة (الإسلام) للمؤمنين وأهل الكتاب والكفار، طرح الإمبراطور على نحو مفاجئ على محاوره (...) السؤال المركزي بالنسبة لنا عن العلاقة بين الدين والعنف بصورة عامة. فقال: أرني شيئا جديدا أتى به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف".أقول:
يشير البابا في هذا الكلام إلى أمورٍ نوجزها فيما يلي:
الأول: أن الإسلام لم يأت بجديد إلا وهو موصوف بأنه شرٌّ، ومثال هذا أنه أمر بنشر الدين بالسيف، أي بالقتال.
الثاني: يقول إن آية (لا إكراه في الدين)، لا يجوز الاحتجاج بها على أن الدين الإسلامي لا يجيز الإكراه ويمنع جبر الناس على الإيمان، لأنَّ هذه الآية إنما نزلت لما كان المسلمون ضعفاء، فهي آية مرحلية قد تم إلغاء حكمها لاحقا بآية السيف وقتال الأعداء.
الثالث: الدين يبيح استعمال العنف مع المخالفين له.
وسوف نحلِّل كلامه ونبين مواضع الغلط فيه بتوفيق الله تعالى، ونبدأ ببيان ما قاله العلماء في الآية التي أشار إليها، وما يتعلق بموضوعها:
قال الله تعالى:( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)البقرة 256
وقد ذكر الإمام الطبري في تفسيره الوجوه التي يمكن أن تقال في الآية، وها هي:
الوجه الأول: قال الطبري في تفسيره (3/14): "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام."اهـ
وهذا الوجه مؤكِّد لنفي الإكراه على الدين، خلافاً لما يزعمه البابا، ومن الغريب أنه لم يلتفت إلى أن هذا هو المشهور المعلوم في تفسير الآية الكريمة! ومقصده واضح بلا ريب.
الوجه الثاني: قال الطبري (3/16): "وقال آخرون: بل معنى ذلك لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم ، وقالوا: الآية في خاصٍّ من الكفار ولم ينسخ منها شيء." اهـ.
ومعلوم أن الجزية مبلغ ضئيل من المال يدفعه أهل الكتاب ومن في حكمهم لدولة الإسلام ويترتب على ذلك وجوب حماية المسلمين لهم، ويقَرّون على دينهم ولا يجبرون على التزام دين الإسلام، وهذه الأحكام صريحة مشهورة بين الناس.
الوجه الثالث: قال الطبري (3/17): "وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال"اهـ.
وهذا القول ضعيف كما سنبينه بذكر كلام العلماء المتبعين.
الوجه الرابع: قال الطبري (3/17): "وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس، وقال عنى بقوله تعالى ذكره (لا إكراه في الدين) أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق وأخذ الجزية منه.
وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخاً.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب لما قد دللنا عليه في كتابنا -كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام- من أن الناسخ غير كائن ناسخاً إلا ما نفى حكم المنسوخ فلم يجز اجتماعهما.
فأمَّا ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي وباطنه الخصوص فهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
وإذ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أنَّ تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعاً قد نقلوا عن نبيهم أنه أَكرَهَ على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابَين ومن أشبههم، كان بَيِّنَاً بذلك أن معنى قوله: (لا إكراه في الدين) إنما هو لا إكراه في الدين لأحدٍّ ممن حلَّ قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام.
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم بالإذن بالمحاربة."اهـ
وذكر الإمام الرازي وجوهاً ملخصة في تأويل هذه الآية، فقال في تفسيره الكبير (7/13):
"أحدها: وهو قول أبي مسلم والقفال -وهو الأليق بأصول المعتزلة- معناه أنه تعالى مَا بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ثم احتجَّ القفال على أنَّ هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر قال بعد ذلك: إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) الكهف 29، وقال في سورة أخرى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) الشعراء 34، وقال في سورة الشعراء: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ). ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)، يعني ظهرت الدلائل ووضحت البينات ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز؛ لأنَّه ينافي التكليف، فهذا تقرير هذا التأويل.
القول الثاني: في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر: إن آمنت وإلا قتلتك، فقال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ)، أمَّا في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم، وأمّا سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم: فقال بعضهم: إنه يقرّ عليه، وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية، وعلى مذهب هؤلاء كان قوله: (لا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ) عامّاً في كل الكفار، أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم، وكان قوله (لا إِكْرَاهَ) مخصوصاً بأهل الكتاب.
والقول الثالث: لا تقولوا لمن دخل في الدِّين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه: لا تنسبوهم إلى الإكراه، ونظيره قوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً)النساء 94.." اهـ.
وهذه الوجوه التي لخصها الإمام الرازي هي خلاصة ما يقال في الآية.
ويفهم من هذا كله أنَّ ما قيل من أن الآية منسوخة بآية السيف، غير قوي، كما صرَّح به الطبري، وممن صرَّح بذلك ابنُ جزي في التسهيل لعلوم التنزيل، حيث قال (1/90): "وقيل: معناها الموادعة وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف"اهـ.
وأشار إليه الإمام السمرقندي في تفسيره (1/195): "قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) يعني لا تكرهوا في الدين أحداً بعد فتح مكة وبعد إسلام العرب (قد تبين الرشد من الغي) يعني قد تبين الهدى من الضلالة، ويقال: قد تبين الإسلام من الكفر فمن أسلم وإلا وضعت عليه الجزية، ولا يكره على الإسلام."اهـ.
إذن نعرف من هذا أن القول بكون الآية منسوخة ليس صحيحاً، ولا قوياً.
ثم إنَّ المفسرين مصرِّحون بأن اليهود والنصارى خارجون جملة من هذه الآية، أي إنهم لا يجبرون ولا يكرهون على الإيمان مطلقاً، بل محل الخلاف إنما هو في المشركين، إما معينين أو لغاية زمان معين.
وبهذا يتضح أنَّ ما قاله البابا ليس صحيحاً، وإنما هو تعلق بأمور متوهمة، ويبدو أنَّ قوله مقصود ليس مصادفة، فإنه يريد أن يقول إن آية (لا إكراه في الدين) إنما كانت معمولاً بها لما كان المسلمون ضعفاء، ليس معهم القوة المادية، ولكن لما أنْ صاروا أقوياء لم يعد العمل بهذه الآية جائزاً، بل نسخت وصاروا يكرهون الناس على الإيمان بالسيف! وهذا القول باطل كما رأينا.
والبابا يشير في كلامه إلى أنَّ الآية نزلت في العصر المكي، وهذا غلطٌ، ومبني على محض الجهل، فإن الآية مدنية، و سورة البقرة مدنية كما هو معلوم، ويظهر للذكي من سبب نزولها وهو إجلاء اليهود أن المسلمين كانوا وقتذاك أقوياء وليسوا بضعفاء، خلافا لما زعمه البابا!
وهذا الذي يزعمه البابا إنما يقصد منه أن يقول: إن الإسلام ينشر بالسيف لا بالحجة والإقناع! ونحن نعلم أنَّ كلامه باطل، فإن القتال لليهود والنصارى، وحتى لو ترتب عليه فرض الجزية، فإنهم يقرون على دينهم ولا يكرهون على الدخول في الإسلام، وهذا الحكم الثابت الذي يصرح به علماء الإسلام، يعارض ما يزعمه هذا البابا.
وبالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نسلِّم أن الإكراه على الدين الحق يكون ظلماً ومخالفاً للعقل، بل إنه قد يكون حسناً، ولا تلازم بين الإكراه وبين القبح العقلي، فلو تمَّ إكراه بعض الناس على الدين الحق، بعد العلم بأنه الحق (قد تبين الرشد من الغي) فهذا يكون من باب الإكراه على مصلحتهم، وكيف يقال بأن الإكراه على ما هو مصلحة قبيح عقلاً، بل هو حسن.
فلو صحَّ هذا القول شرعاً، أي الإكراه على الحق الواضح، فإنه لا نسلم أنَّ أصل الإكراه على الحق الواضح قبيح عقلاً، وبذلك لا يصح للبابا أن يشنع على من قال بذلك من المسلمين.
************
دعوى انتشار الإسلام بالسيف!
وأما ما نقله البابا بعد ذلك على لسان ذلك الإمبراطور الذي يبدو التعصب والتجاهل باديا في كلامه:" فقال: أرني شيئا جديداً أتى به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف."اهـ. فهو في غاية البهت والإنكار، فهو ينكر أن يوجد في دين الإسلام أي شيء جديد حسن، بل لم يأت بجديد إلا ما هو شرير، وهذا غاية الكذب والافتراء، فكيف صحَّ لهذا الرجل أن ينكر كل تلك الأحكام الخيرة التي جاء بها الإسلام، سواء في مقام العبادات أو تصحيح العقائد، وتكريم الإنسان أو في مقام المعاملات الشخصية أو الدولية، والعجيب أن هذه الأحكام التي لا يستطيع العقلاء إنكار حسنها، قد صارت مشهورة معلومة، ومع ذلك فإنا نرى البابا الذي نصَّبه الكاثوليك رئيساً عليهم، يتجاهلها، فكيف يصحُّ له هذا وهو يزعم أنه يتكلم باسم الأب والابن والروح القدس!! وكان ينبغي أن تكون كلماته حقاً لا باطلاً واضحاً كما نرى.
وهل هذه هي الوراثة للرئاسة الكنسية التي يتوارثها الكاثوليك، أفعلى مثل هذه التجاهل للحقائق تقوم الرئاسة الدينية؟
************
الإسلام دين العنف ويخالف العقل!!
ثم قال البابا بنديكت: "الإمبراطور يفسر بعد ذلك بالتفصيل لماذا يعتبر نشر الدين عن طريق العنف أمراً منافياً للعقل. فعنف كهذا يتعارض مع طبيعة الله وطبيعة الروح. فالرب لا يحب الدم والعمل بشكل غير عقلاني مخالف لطبيعة الله، والإيمان هو ثمرة الروح وليس الجسد؛ لذا من يريد حمل أحد على الإيمان يجب أن يكون قادرا على التحدث بشكل جيد والتفكير بشكل سليم وليس على العنف والتهديد.. لإقناع روح عاقلة لا نحتاج إلى ذراع أو سلاح ولا أي وسيلة يمكن أن تهدد أحدا بالقتل".اهـ
في هذا الكلام اتهام صريح للإسلام بأنه إنما انتشر بالعنف والقوة، وهذا القول لا يصدر إلا من قلب غافل، وعقل لا يمت إلى العلم بصلة.
فإنا لو تمعنا في البلاد التي انتشر فيها الإسلام، لرأينا أن أكثر البلاد التي وصلها وانتشر فيها لم يكن هذا الانتشار بالسيف والقتال، بل لم تصل إلى تلك البلاد جيوش الإسلام، وبلاد ماليزيا ووسط أفريقيا وأندونيسيا وغيرها من البلاد تشهد على ذلك.
وأما أنَّ الدين الصحيح يجب أن يكون حامله قادراً على الحوار والتواصل مع البشر بصورة عقلانية، فإنَّ الدين الوحيد الذي تحقق فيه ذلك إنما هو الإسلام، فإننا نجد في القرآن العديد من الآيات التي تحض على النظر ومجادلة الأقوام الآخرين من اليهود والنصارى، ومحاولة هدايتهم عن طريق بيان الحق من الباطل، ثم دعوتهم إلى الالتزام بالدين باختيارهم المحمود.
وتشهد سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام على ذلك، فمنها ما حدث من نقاشه ومحاورته للنصارى على اختلاف طوائفهم ومللهم، وكذلك محاورته لليهود، بل محاوراته للمشركين وإفحامهم بالحجة والبرهان بعد إقامة الدليل على تهافت آرائهم.
ونحن نعجب فعلاً من قدرة البابا على تجاهل كل هذه المعلومات التاريخية الثابتة، ثم التعلق هو وإمبراطوره بمجرد كلام عارٍ عن الدليل مخالفٍ للواقع.
وأما قوله: إن الربَّ لا يحب الدم؟ فهو يبعث على الاستغراب، فهل هذا هو عين الربِّ الذين تزعمون أنه أجاز لابنه! أن يُصلب وتسيل دماؤه، ثم جعل هذا كله فداء على ما تزعمون لخطايا البشر! أهذه هي العقيدة التي تبشرون بها، أن يصلب الرب ابنه وتسيل دماؤه، ويتحمل كل تلك الآلام على ما تزعمون؟!
وهل هو عين الرب الذي تصفه التوراة بأنه يأمر بإبادة الأقوام المخالفة واستعبادها! هل هو الرب عينه الذي يعبده اليهود ويأمرهم بالقتل لكل من يخالفهم، وبناء على تعليمات ذلك الرب المزعوم فإنهم أجازوا لأنفسهم أن يحتلوا دياراً ليست لهم وأن يشرِّدوا أهلها، ويعملوا فيهم تقتيلاً وتشريداً، والغرب النصراني كله من ورائهم يساعدونهم على ذلك ويشدون على أيديهم.
كيف يقدر البابا على أن يتغافل عن كلِّ هذه الحقائق؟ ثم يزعم أنه موصول بالإله الحق، وفوق ذلك يتهم الآخرين أنهم غير قادرين على الحوار!! ولا موافقين لأحكام العقل!! إنه يبالغ في اتباع الهوى...
ثم عجبا لكم لمَ لم تنعكس هذه العقيدة على أفعالكم أيها الغربيون فأتيتم إلى بلاد الشرق وديار الإسلام مستعمرين لها ناهبين لثرواتها، ولا تزالون كذلك، تمتصون خيراتها!!
ولم أيها البابا لم تقل كلمتك هذه في وجه أتباعك الذي ما يزالون يتآمرون على ديار الإسلام تارة بعد أخرى، لا لهدايتهم إلى الحق، بل نهباً لخيراتهم، واستعباداً لهم.
لِـمَ نرى أن صوتك يعلو في انتقاد الإسلام، ويختفي في تصحيح أتباعك مع ما هم عليه من ظلم وانتهاك لحقوق البشر، وهم أولى بنصحك إن كان هذا نصحاً!
أنتم أيها النصارى من أبعد الناس عن روح الإقناع التي تعلو أصواتكم بها الآن، فإن أساس دينكم كما تصرحون أنتم وكبراؤكم لا يعتمد على الإقناع بالحجة والبرهان، بل إنه يعتمد على مجرد ما تسمونه بالمحبة، تستعيضون بذلك عن الحجة والبرهان اللذين هما طريق الإقناع الذي تطالب به المسلمين، وما المحبة التي تتمسكون بها –زعماً منكم- إلا هروبٌ من قدرتكم على الإقناع، ولذلك فأنتم تتوسلون إلى استجلاب هذه المحبة بوسائل غير أخلاقية، وبعيدة عن الهداية الربانية، فأنتم تارة تنتهزون فقر الناس تغرونهم بشيء من المال، ثم تشترطون بصورة أو أخرى لأخذهم المال أن يصيروا نصارى، وتارة تتوسلون بالمحبة لتقاتلوا الآخرين لتسرقوا خيراتهم، وتكابرون باسم المحبة فتغزوا قواتكم الأمم الأخرى، لتزعموا أنكم بهذا الغزو تجبرونهم على اختيار الديمقراطية، فهل الديمقراطية تكون بالإجبار بقوة القتال والجيوش؟
أين هي هذه المحبّة التي تتعلقون بها حين نرى كتاباتكم عن الدين وتشويه المستشرقين حقائق الإسلام، وكذبهم على النبي عليه الصلاة والسلام، وتعلقكم بآراء شاذة أنتم تعرفون شذوذها وعدم رضى علماء الإسلام بها، ثم تتعلقون بها لتشنعوا على أصل الدين، وقد فعل البابا هذا الأمر في محاضرته، اتّباعاً للمنهج الذي يسير عليه أساتذته ومعلموه عبر التاريخ! وسوف نبين ذلك بعد قليل.
أهذه الأساليب كلها من نتائج المحبة والعقلانية التي تزعمون التمسك بها؟
************
دعوى النصارى أن الإيمان عندهم مبني على الفكر السليم
وأما قول البابا:" لذا من يريد حمل أحد على الإيمان يجب أن يكون قادراً على التحدث بشكل جيد والتفكير بشكل سليم وليس على العنف والتهديد"اهـ
فإن الديانة النصرانية على صورتها التي وضعها عليها أحبار النصارى من أبعد الديانات عن العقل والعقلانية، وهي بالتالي من أبعد الديانات عن أن تكون محلاً قابلاً للإقناع، أي لكي يتم إقناع الناس بها عن طريق التفكير السوي، ولذلك تراهم جميعاً -أعني النصارى- يلجأون دائماً لا إلى وسائل عقلية حقيقية، بل إلى وسائل عاطفية، فتراهم يستجلبون عطف الناس عليهم حين يصورون مأساة قتل المسيح، ثم يخلطون الحابل بالنابل، فينقلبون بعد ذلك إلى ضرورة اتباع الديانة على الصورة التي هي عليها الآن، وهم بذلك يوهمون الناس بأن الديانة على ما هي عليه الآن هي التي أنزلها الله تعالى على السيد المسيح، وشتان بين هذه وتلك، فلو كانت كذلك لما وجدنا فيها ما يتعارض مع العقل الصريح، فمن أين يجيز العقل أن يصلب الإله، أو أن يكون للإله ابن؟! ومن أين يجيز العقل هذا الثالوث الوهم الذي يدعونه؟!
هل هذه الديانة قادرةٌ فعلاً على إقناع الناس، وهل حاملو تلك الديانة قادرون على التفكير الصحيح وهداية الناس إلى ما يعتقدون به بواسطة التفكير الصحيح؟
كيف يقال ذلك والحال أن العقائد لا يمكن الوصول إليها عن طريق التفكير الصحيح قط؟
إذن، فإنا نقول: لو قدرنا وجود دين يستطيع أتباعه أن يخاطبوا الناس بالعقل والتفكير الصحيح، لما كان إلا دين الإسلام....
************
هل يخالف المسلمون مبادئ العقل في نشر دينهم؟
ثم قال البابا: "الجملة الفاصلة في هذه المحاججة ضد نشر الدين بالعنف هي: العمل بشكل مناف للعقل مناف لطبيعة الرب، وقد علق المحرر تيودور خوري على هذه الجملة بالقول: بالنسبة للإمبراطور وهو بيزنطي تعلم من الفلسفة الإغريقية، هذه المقولة واضحة. في المقابل، بالنسبة للعقيدة الإسلامية، الرب ليست مشيئته مطلقة وإرادته ليست مرتبطة بأي من مقولاتنا ولا حتى بالعقل".
"ويستشهد (تيودور) خوري في هذا الشأن بكتاب للعالم الفرنسي المتخصص في الدراسات الإسلامية (روجيه) ارنالديز (توفي في إبريل الماضي) الذي قال إن ابن حزم (الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر) ذهب في تفسيره إلى حد القول إن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه على أن يطلعنا على الحقيقة. ويمكن للإنسان إذا رغب أن يعبد الأوثان".اهـ
ربما كانت الترجمة تشتمل على الخطل، فإنه يقول:"بالنسبة للعقيدة الإسلامية، الرب ليست مشيئته مطلقة وإرادته ليست مرتبطة بأي من مقولاتنا ولا حتى بالعقل".اهـ
فقوله الرب ليست مشيئته مطلقة، لا تتناسب مع ما بعدها، فربما كان الكلام أن الرب مشيئته مطلقة في العقيدة الإسلامية.
ويظهر ما قلناه من مراجعة ترجمة أخرى لمحاضرته فإنه يقول في هذا المقطع: " ويستشهد خوري بكلام الفرنسي المتخصص في الإسلام أرلاندز الذي يقول أن ابن حزم جرى به الأمر حتى قال أن الله لا يوجب عليه التقيد بكلامه ولا يلزمه ولا يجب عليه أن يظهر لنا الحق في الوحي. ولو أراد الله أن يوجبه علينا لوجب علينا أن نعبد الأوثان."اهـ
وعلى كل حال، فإن المقصود من الكلام، أن الله تعالى في نظر النصارى لا يفعل إلا ما كان حسناً في نظر العقل، فإرادته مربوطة ومقيدة بنظر العقل، لا يتعداها عندهم، وهذا مبني على ثبوت الحسن والقبح الذاتيين، وهي مسألة معروفة في علم التوحيد، أعني علم الكلام، وقد أثبت متكلمو أهل السنة أن من قال بذلك، فإنه قائل لا محالة بأن الله تعالى لا إرادة له، أي إنَّ كلَّ من يزعم أن الله تعالى لا يفعل إلا ما كان حسناً في العقل، أو في ذاته، فإنه يقول إنه يجب أن يفعل الحسن والقبيح، فإرادته فعل له لا صفة له، فهو نافٍ لإرادة الله تعالى على الحقيقة، فالله تعالى غير مريد عنده، بل فاعل بحسب طبيعة الأشياء التي يزعمونها.
ومن الواضح أن هذا القول الزائف متوقف على أنَّ للأشياء حسناً وقبحاً ذاتيين، وأنهما ثابتان لا بإرادة الله تعالى، وأن الله تعالى لا يصدر منه الفعل إلا على وفاق هذا الحسن الثابت.
ولا يستطيع أحدٌ أن يثبت أن للحسن والقبح تأثيراً على أفعال الله تعالى، فإنَّ الله تعالى فاعل كل شيء من العدم، أي إنه خالق كل شيء بعد أن لم يكن شيئاً، فقبل أن يكون العالم شيئاً، كيف يكون للأشياء طبائع بها ينفعل الله تعالى ويكون فعله تابعا لها؟
وأما متكلمو أهل السنة فقد بيَّنوا أن الله تعالى له إرادة هي صفته، وأن إرادته غير متقيدة بالحسن والقبح العقليين أو الذاتيين، لأنه لا ثبوت لذلك في نفس الأمر، وإن ثبت فهو ثابت على سبيل الكلية التي لا يمكن أن تكون علة لفعل الله تعالى، فعلمُ المخلوق كمال للمخلوق مثلاً، والعلم بأن هذا كمال عقلي محض، ولكن من أين لزم أنه إن كان كذلك فيجب أن يخلق الله تعالى المخلوق عالماً، أو أن يخلق المخلوق قادراً على العلم. فلا تلازم إذن بين كون الشيء حسناً في نفسه، بمعنى أنه صفة كمال لمن ثبت له، وبين فعل الله تعالى لهذا الكمال.
ولذلك فقد قال متكلمو أهل السنة: إنَّ إرادة الله تعالى لا تتّحدد بشيء مما يقال إنه حسن وقبح عقليان، فهو فاعلٌ لما يريد، ولا يقبح منه شيء مطلقاً، بل كل ما يفعله فهو حسن، على معنى أنه أعلى من أن يتوجه عليه ذم أصلاً،والحسن هنا معناه أن العقل لا يوجد عنده ما يمنع الإله من فعل شيء من الأشياء، أو تركها، فلا وجوب على الله تعالى فهو فاعل مختار.
وهذا هو معنى قولنا أن إرادة الله تعالى مطلقة.
فهل هذا القول مخالف للعقل والمنطق كما يزعم هذا البابا؟
إنَّ من يزعم أن إرادة الله تعالى مقيّدة بما ذكرناه فهو المخالف للعقل والمنطق، وهو الذي لا يقدر جلال الله تعالى.
************
احتجاج البابا بكلام شاذ مردود على صاحبه
وأما ما ذكره عن ابن حزم، فإنما يشير إلى قول هذا بأن الله تعالى لا يستحيل عليه الكذب.
فسوف نبين ذلك فيما يلي.
بيان قول ابن حزم
قال ابن حزم في الفصل في الملل (2/143): "قال أبو محمد: ثم سألناهم فقلنا لهم: من أين علمتم أن الله تعالى لا يقدِرُ على الكذب أو المحال أو الظلم أو غير ما فعل؟
فلم تكن لهم حجة أصلاً، إلا أن قالوا: لو قدر على شيء من ذلك لما أَمِنَّا أن يكون فعله أو لعله سيفعله.
فقلنا لهم: ومن أين أمنتم أن يكون قد فعله أو لعله سيفعله؟
فلم تكن لهم حجة أصلاً إلا أن قالوا لأنه لا يقدر على فعله.
قال أبو محمد: فحصل من هذا أنَّ حجتهم أنه تعالى لا يقدر على الظلم والكذب والمحال وغير ما فعل أنه لا يقدر على شيء من ذلك، فاستدلوا على قولهم بذلك القول نفسه، وهذه سفسطة تامة، وحماقة ظاهرة، وجهل قوي لا يرضى به لنفسه إلا سخيف العقل ضعيف الدين، فلا ضرورةَ من أن يرجعوا إلى قولنا في أنَّه بالضرورة علمنا أنه تعالى لا يفعل شيئاً من ذلك، كما علمنا أن زريعة العنب لا يخرج منها الجوز وأن ماء الفرس لا يتولد منها جمل.
قال أبو محمد: وأما نحن فإن برهاننا على صحة قولنا أن البرهان قد قام على أنه تعالى لا يشبهه شيء من خلقه في شيء من الأشياء، والخلق عاجزون عن شيء كثير من الأمور، والعجز من صفة المخلوقين فهو منفي عن الله عز وجل جملةً، وليس في الخلق قادرٌ بذاته على كل مسئول عنه، فوجب أنَّ الباري تعالى هو الذي يقدر على كل مسئول عنه، وكذلك الكذب والظلم من صفات المخلوقين، فوجب يقيناً أنهما منفيان عن الباري تعالى، فهذا هو الذي آمننا من أن يظلم أو يكذب أو يفعل غير ما علم أنه يفعله وإن كان تعالى قادراً على ذلك" اهـ.
فابن حزم يقول: إن الله تعالى يقدر على المحال العقلي ويقدر على الظلم ويقدر على الكذب، ولكنه لا يفعل ذلك، وسبب علمنا وقطعنا بأنَّه لا يفعل ذلك إنما هو عادي، بسبب ملاحظة ما نشاهده، لا لأنه عاجز عن ذلك، بل لو شاء لفعل.
أما قوله: بأن الله تعالى قادر على الظلم والمحال، فهو من تَسَرُّعه وجهله بحقيقة الظلم والمحال، فلا يقول أحد بإمكان ذلك على الله تعالى إلا إذا كان يقول بالحسن والقبح العقليين(الذاتيين)، وقد ذكرنا أن التحقيق عدم ثبوتهما، وهو لا يميز بين الحقيقة في نفسها، وإيجاد حقيقة أخرى، أو جعل المشاهد يعتقدها حقيقة أخرى، أو نفي تلك الحقيقة وإيجاد حقيقة أخرى محلها، وبين أن تنقلب حال كونها هي هي.
فلا أحدَ يحيل على الله تعالى أن ينفي حقيقة ما، ويوجد حقيقة غيرها، أما أن تبقى تلك الحقيقة هي هي، ومع ذلك يجعلها غيرها، فهذا جميع بين النقيضين أو الضدين، وهو محال في نفسه لا تتعلق قدرة الله تعالى به، ولا يقال إن الله تعالى لا يقدر عليه.
وإنما قلنا: إنَّ قدرة الله تعالى لا تتعلق به، لأنه في نفسه غير مقدور، ولا يقال إن الله تعالى لا يقدر عليه إلا إذا كان في نفسه مقدوراً، وكان الله تعالى عاجزاً عن التأثير به، تعالى الله عن ذلك.
وابنُ حزمٍ يرى أنَّ التفريق بين الأمرين مجرد تعاجز وهروب وتلاعب، وهو مخطئ في ظنِّه هذا.
وأما الكذب فهو أيضاً محالٌ على الله تعالى، فإنَّ الكلام صفة نفسية له جل شأنه، وصفاته لا تترتب في وجودها على الإرادة والقدرة، فلا يقال: إنَّ الله يتكلم إذا شاء، فكلامه الذي يوصف به لا يكون إلا صدقاً وحقاً، لأنه صفة نفسه التابعة لعلمه، وعلمه لا يكون إلا حقاً، وهذا هو الكلام النفسي الثابت لله تعالى عند أهل الحق.
وأما الألفاظ التي يوجدها الله تعالى وتكون دالة على كلامه النفسي، فهي فعل من أفعاله، وليس كلاماً يوصف به الله، وأفعال الله تعالى التي من هذا الباب علمنا عن سبيل القطع العادي أنه لا يكون إلا مطابقاً لكلامه النفسي المطابق للعلم، فلا يكون أيضاً إلا حقاً وصدقاً؛ لأنه حال إيجاده فإنه يوجده على سبيل أنه كلام له، أي يوجده على سبيل أنه دال على كلامه، وما كان كذلك فلا سبيل إلى القول بأنه غير مطابق، وبأنه محتمل للكذب، أمَّا لو أوجده لا على سبيل أنه كلام له، فلا إشكال في كونه غير مطابق للواقع، ولا إشكال في كونه كذباً، لأنه لا يكون كلاماً له جل شأنه.
والنكتة في ذلك كله أن الله تعالى لا يوصف بالألفاظ المحدَثة، ولكن ما أوجده منها على سبيل أنه دالٌّ على كلامه، فلا يمكن إلا أن يكون مطابقاً للعلم، صادقاً غير كاذب.
وقد اغتر ابن حزم حين اعتقد أن الله تعالى قادر على الكذب، بأن يوجد كلاماً غير مطابق للواقع، لأنه لم يُثْبِت الكلام النفسي، ولم يلاحظ هذه النكتة الدقيقة التي تنبه إليها أهل السنة الأشاعرة، فأحالوا الكذب على الله تعالى من أساسه.
وقد تبع ابن حزم على ذلك أيضاً بعض المجسمة فأجازوا على الله تعالى الظلم والكذب، ولكنهم قالوا إنه لا يفعله.
والحاصل من ذلك كله، أنا نقول: مع أن ابن حزم أجاز الكذب إلا أنه جزم بأنه غير واقع من الله تعالى، وهذا معناه أنه ينفي وقوع الكذب من الله تعالى، وهو يقطع بذلك.
ولكن قال البابا ناقلا عن تيودور:" إن ابن حزم (الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر) ذهب في تفسيره إلى حد القول إن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه على أن يطلعنا على الحقيقة."اهـ، يريد أن يوهم القراء والسامعين أن الله تعالى يمكن أن يقع منه الكذب، أو قد يكون واقعا فعلاً، وهذا غير صحيح.
ولذلك فقد قال البابا بعد ذلك: "هنا يمكن ملاحظة أنه في نهايات العصر الوسيط ظهرت اتجاهات في التفسير الديني تجاوزت التركيبة اليونانية والمسيحية. فتميزت مواقف تقترب مما قاله ابن حزم وتتأسس على صورة تعسف الرب الذي لا يرتبط بحقيقة أو بخير."اهـ
إذن هو يزعم أن آراء ابن حزم تستلزم أن الله تعالى يتعسف ولا يرتبط بحق ولا بخير، وأن هذا الاعتقاد قد أنتج في الواقع مواقف مبنية على ذلك.
فنقول: إن وجد بعض الناس يقولون بذلك، فهل العدالة التي تزعمونها تصحح لكم أن تنسبوا ذلك كله إلى الإسلام وتجعلوه مُتَعَلَّقاً تتمسكون به لكي تقدحوا في الإسلام؟!
نعم، إنَّ قول ابن حزم باطل، ولكن استعمال البابا له أبطل منه.
فإن مذهب ابن حزم لا يمثل مذهب أهل السنة ،فإن العلماء قد اعترضوا عليه في أقواله هذه، وأبطلوها، وبينوا أن الله تعالى لا يصح عليه الكذب أصلا، ولا يتصور في حقه الظلم، ولا تتعلق قدرته أصلا بالمحال، لكون المحال غير مقدور، لا لكون الله تعالى عاجزاً. فإن هذا هو المذهب الذي يعتمده أهل السنة، وهو الوصف الصحيح للإسلام، وكان على البابا أن لا يعتمد في نقده للدين الإسلامي على أحد الآراء الشاذة كرأي ابن حزم، ثم ينسب ذلك إلى الدين نفسه.
والبابا لا يمكن أن يكون غافلا عن حقيقة قول أهل السنة الأشاعرة، فهو يعرف قول ابن حزم، فلا يتصور أن لا يعرف قول الأشاعرة وهم جماهير أهل السنة، ولكنه لما اعتمد على رأي ابن حزم تبين لنا أنه يتقصد إظهار الإسلام بصورة منفرة، ولو بالاعتماد على آراء يرفضها جماهير المسلمين! وهذا الصنيع من البابا لا يليق بمن يمثل البحث عن الحقيقة، وبمن يزعم أنه مرتبط بالروح القدس، فالروح القدس لا يتبع أساليب هابطة كهذه الأساليب!!
وكذلك فإنَّ الله تعالى لا يمكن أن يأمر الناس بعبادة الأوثان، لأنَّ عبادة الأوثان إن وقع الأمر بها، فإنَّ معنى ذلك الإخبار بأن الوثن إله يستحق أن يعبد، وهذا باطلٌ بطلاناً مطلقاً، ويستحيل أن يصدر من الله تعالى كلام يفيد هذا المعنى، فهو مخالف للعقل ومخالف للواقع، وهي مسألة تابعة لما مضى.
فأنت ترى إذن أنَّ البابا يعتمد على آراء باطلة غير سديدة ليلفق بعض التهم للإسلام، وليحرض العالم في ضمن الحملة الشديدة على المسلمين التي تقودها أمريكا.
وليس شعري إن كان البابا يعتقد بطلان عقيدة الإسلام، فهو إذن يعتقد بطلان كون الإسلام ديناً، فلم بعد ذلك يدعون إلى تقارب الأديان وهم لا يعترفون بالإسلام، ولم يعترضون على المسلمين عندما يصرحون أيضاً بمثل هذا في حق دين النصارى! أليس هذا مطلق التعنت والظلم والعدول عن الحق والتسامح الذي يتحذلق به هذه البابا وأمثاله. أين هو هذا التسامح وأنت تجيز لنفسك الحكم على دين الإسلام بالبطلان، في أحكامه وعقائده، وتصرخ وتنادي بأعلى صوتك كالنساء، وتتباكى عندما ينقد المسلمون بعض مبادئ ما تزعمون أن دين أنزله الله تعالى؟
إن عبارات التسامح التي يتحذلق بها هؤلاء ما هي إلا سراب وعماء لا طائل من ورائه.
وأما ما قاله من أن العقل والدين لا يتنافيان، فهذا ما نقول به، ونعتقد أن النصارى من أبعد الناس عنه، عندما يقولون بأن الثلاثة واحد ويعتقدون بابن للرب، أو أن الرب تجسد، وأنه حصل منه الفداء، أو غير ذلك من عقائد.
ونحن دائما نصرح بأنَّ التحاور والجدال بالتي هي أحسن هو من أهم دعائم الدين الإسلامي، وهذا المعنى لا يخفى على البابا ولا على غيره من مساعديه، ولكنه يتغافل عنه.
************
النصرانية والفكر اليوناني
وقد قال البابا بعد ذلك:" وفي هذه النقطة وفيما يتعلق تطبيق الدين نجد أنفسنا أمام أمر صعب النوال، هل الفهم أن التصرف خارج ما يقتضيه الحكم العقلي شيء ينافي ماهية الإله فهم مقصور على الفكر اليوناني أم هل هو أمر حقيقي."اهـ
يعني أن الممثل الحقيقي للعقل وأحكام العقل هو الفكر اليوناني! وأنه يعتقد أن الفكر النصراني مطابق تماماً للفكر اليوناني، ولذلك فإن العقيدة النصرانية مطابقة تماماً للعقل.
وقد أكَّد هذا المعنى بقوله:" أنا أعتقد أن هنالك انسجاماً تاماً بين الفكر اليوناني بأحسن معنى تعنيه الكلمة والفهم الإنجيلي للرب."اهـ
ولنا هنا اعتراض لا بدَّ منه، فمن الذي يستطيع أن يثبت أن الفكر اليوناني هو الفكر الذي يطابق العقل وأحكام العقل! إن هذه القضية لا يمكن الاستدلال عليها بأي شكل كان، فإنه قد أثبت المتكلمون الإسلاميون -وأخصُّ أهل السنة- في نقدهم للفكر اليوناني أن ثمة مخالفات عديدة فيه للعقل وللأحكام العقلية، وكلُّ من عنده أي معرفة بعلم الكلام ونقد المتكلمين للفلسفة اليونانية يعرف هذا.
وأنا لا أعتقد أن البابا جاهل بذلك، ولكن لا ريب أنه في غفلته واستغراقه في اندفاعه للتنقيص من الإسلام مواكبة للهجمة السياسية الأمريكية عليه وعلى الإسلاميين، باتهامهم بالعنف، تغافل عن هذه المعلومات الضرورية لكل من درس اللاهوت والفلسفة.
ثم إن الذي يقرأ كلام البابا فإنه يفهم منه أن البابا يعتقد أن الفكر اليوناني فكر واحد، وأن فلسفته واحدة، وأنه لا خلاف مطلقاً بين فلاسفة اليونان مطلقاً، ولا تعارض بين فلسفاتهم، ولذلك فإن البابا يقول إن الدين النصرانيَّ مطابق للفكر اليوناني! ولكن جميع من يعرف مدى الاختلاف الحاصل بين فلاسفة اليونان، فضلاً عن الخلاف بين الفلاسفة عموماً، يعلم تهافت الكلام الذي خرج من في هذا البابا.
فهل الفكر النصراني مطابق لفلسفة أرسطو أو سقراط أو أفلاطون أو أرخميدس أو غيرهم من الفلاسفة الذين يعدون بالعشرات....! وتعدد فلاسفاتهم ونظراتهم لهذا العالم بعددهم.
إن الفكر الذي أنتجه الإسلام وظهر على أيدي المتكلمين من أهل السنة قد أبطل العديد من مقولات اليونان، وأظهر بوضوح أن العديد من فلسفاتهم تخالف أحكاماً عقلية ثابتة، أو أنها مجرد أحكام قائمة على الوهم الذي حسبوه عقلاً!
فقد أنتجت الحضارة الإسلامية أفكاراً ورؤى عقلية عالية، واكتشفوا مسائل لم يكن اليونان ليلتفتوا إليها، وقد زادت عدد المسائل الفلسفية والكلامية على أيدي مفكرين وعلماء تحت رعاية الإسلام أضعافاً مضاعفة عما كانت عليه على أيام اليونان!
ونحن نعجب من البابا إذا كان غير عالم بذلك، وأما إن كان عالماً وتجاهل ما يعلمه، فإن عجبنا منه أشدُّ.
وما قاله البابا بعد ذلك "كان هناك تلاق بين الإيمان والعقل، بين التنوير الحقيقي والدين. مانويل الثاني كان يمكنه القول، من خلال الإحساس بطبيعة الإيمان المسيحي، وفي الوقت نفسه بطبيعة الفكر اليوناني الذي اختلط بالعقيدة وامتزج بها، من لا يتحاور بالكلمة فإنه يعارض طبيعة الرب"اهـ.
فإننا نقول نعم، فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، تعالوا لكي نتحاور بالكلمة الطيبة وبالتي هي أحسن، ولا داعي لأن نتراشق من وراء ستار، ولا داعي لأن نلفق لبعضنا البعض تهما جاهزة، معتمدة على آراء مبتورة، أو أفكار مقتطعة من هنا وهناك، كما تفعل يا حضرة البابا!
نحن الذين كنا طوال عهدنا بالنصارى ننادي بالحوار وندعوهم إليه، والآن ندعوكم إلى عين ذلك، فهل أنتم فاعلون؟
وبغض النظر عن جعل الفكر اليوناني هو المقياس للعقل، فإنا لا نسلم ذلك، بل إن في الفكر اليوناني آراء عديدة مخالفة للعقل، نقول بغض النظر عن ذلك، فإنا نقول: إنا مستعدون للحوار العقلاني المسؤول والجاد، المعتمد على التدقيق والتحقيق والتعمق في المسائل الخلافية بيننا وبينكم، وذلك على معيار ما نسلم به معكم أنه العقل الصحيح، والحكم السديد.
ثم إن ميلَ البابا لليهود وتأثره بهم وانقياده لهم يظهر جليا عندما يحاول أن يجعلهم أول من اكتشف فكره الإله المطابق للفكر اليوناني، مدعياً أن أول من ظهر له هذا الأمر كان موسى عليه السلام، فانظر قوله: "إن الاسم المكنون الذي أوحى الإله به لموسى من قِبَل الشجرة يفصل بين اسم الإله وأسماء كل إله سواه، حيث أوحى لموسى ’أنا‘، وهي عبارة تمثل تحدياً للأساطير التي كان يتحداها سقراط، إذ إن الأسطورة تقتضي قياساً تماثلياً. وإننا نجد في العهد القديم تطوراً للأمر الذي بدأ عند الشجرة في طور سيناء إلى أن وصل إلى مرحلة النضج لدى خروج بني إسرائيل - وكانوا آنئذ شعباً لا أرض له ولا معبود – وذلك عندما أعلن إله بني إسرائيل أنه إله السموات والأرض. هذا الفهم الجديد للإله صاحبه نوع تنوير أوجد بينهم تعبيراً ساخراً من الآلهة التي هي مجرد آلهة من صنع البشر."اهـ
فانظر كيف قرر أن القول بالإله الذي هو إله السموات والأرض، إنما هو فهم جديد صاحَبَه نوع تنوير، وأن هذا ظهر لليهود أول ما ظهر، وكأنه غافل عن أنَّ كل الديانات الإلهية كانت تقرر للناس مفهوم الإله الواحد القادر العالم، الذي ليس كمثله شيء، وأن هذه العقيدة كانت قبل موسى عليه السلام، وإنما جاء مكملاً شرائع من سبق، وداعيا بني إسرائيل إلى الإيمان بالإله القادر الواحد العالم، الذي كانوا كافرين به غير عالمين به، فعجباً كيف صارت هذه العقيدة السماوية التي تواتر عليها الأنبياء والرسل جميعاً من لدن آدم عليه السلام إلى اكتشاف لموسى عليه السلام، ومفهوم جديد ظهر على يديه، أي إنه ظهر لليهود لا لغيرهم، فأصل التنوير –في نظر البابا- إنما ظهر من اليهود، فتأمل كيف تمتزج السياسة بالديانة في عُرف هؤلاء!! واعرف لماذا تقارَنَ تصريحُ البابا بهذه الأفكار مع تصريحات السياسيين من الأمريكان كبوش عندما قال قبل حوالي الشهر أن الإسلام فاشي، أي إنه لا ينتشر إلا بالسيف، ولا يتحرك إلا بالعنف.
فإنك إذا جمعت بين هذا وذاك، وألفت بينهما عرفت ما بينهما من تآلف بل تحالف.
وقال البابا:" إن المذهب العقلانــــي الذي تبناه كل من أوغســــتين وتوماس ‘Saint Augustine and Saint Thomas Aquines’ متباين شيء ما مع مدرسة دون سكوتوس ‘Duns Scotus’ الذي كان يقول بأنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإله إلا باختيار الإله و وراء ذلك عالم حرية الإله المطلقة والتي تقتضي أن الإله كان يمكنه أن يفعل عكس كل شيء فعله. هذا الموقف قريب شيء ما من وجهة نظر ابن حزم الأندلسي؛ والذي قد يؤدي بالبعض أن يظن أن الإله قد يسيء لخلقه وهو غير مقيد بالخير ولا بالحق."اهـ
ها هو يرجع إلى ابن حزم ويرتب النتائج عليها، والمسائل التي يعتمد عليها هي عينها التي ذكرناها سابقا:
مسألة الحسن والقبح العقليين!
عموم الإرادة وعدم تقيدها بالحسن والقبح العقليين!
هل العقل يمكن أن يتوصل إلى معرفة الله تعالى دون إنزال الشرائع؟
هل يمكن أن يفعل الله تعالى الشرَّ؟
هل الظلم من الله تعالى لخلقه متصور ومعقول؟
وقد قلنا إن هذه المسائل قد أشبعها المتكلمون بحثاً وتدقيقاً، وبينوا أنه مع ثبوت مفهوم للحسن والقبح العقليين في بعض الأمور، إلا أن هذا لا يستلزم أن الله تعالى يجب أن يفعل ما هو حسن في نفسه، وقد مثلنا على ذلك بوجود العالم بعد أن لم يكن موجوداً، فلا شك أن الوجود حسن والعدم قبيح، بمعنى أن الوجود كمال والعدم نقص، ولكن كون الوجود كمالاً لا يستلزم بالمرة أن يجب على الله تعالى إيجاد العالم، ولا يوجب عليه جلَّ شأنه إذا أوجد العالم أن يبقيه، ولا يوجب عليه أن يوجد العالم على هذه الصورة دون غيرها، فلا تلازم بين الكمال والنقص وبين فعل الله تعالى له.
وهذا هو مراد أهل السنة عندما قالوا: إنه لا يجب على الله تعالى شيء.
وأما مسألة الإرادة، فإنه قد قامت الأدلة على ضرورة كون إرادة الله تعالى عامة التعلق بكل شيء، وهذه المسألة لها نوع انبناء على المسألة السابقة، فالله تعالى فاعل لما يريد، وليس فاعلاً لما يجب عليه أن يفعله، وهذا هو المقصود من كون إرادة الله تعالى غير متقيدة بأمر. ولا يكون الله تعالى فاعلا مختاراً إلا إن قلنا بذلك.
وأما معرفة الإنسان لله تعالى وإثبات وجوده وصفاته، فقد قرر أهل السنة الأشاعرة والماتريدية أن هذا ممكن بل واقع، فالعقل يستدل على وجود الله تعالى، ولا تتوقف معرفة الله تعالى على إنزال الشرائع، ولكن هل يستلزم هذا أن يجب الإيمان الذي يترتب عليه الثواب والعقاب في الآخرة على مجرد إمكانية هذه المعرفة! إنَّ من يتأمل في هذه المعاني يعلم قطعاً أنه لا تلازم بين مجرد معرفة العقل لله تعالى وبين إيجاب الثواب والعقاب الأخرويين.
وليس في هذا تناقض مطلقاً.
أما أن يقال: إن الله تعالى يأمر بالشرِّ وأنه يمكن أن يظلم، فقد أوضح العلماء أنه لا يتصور الظلم في حق الله تعالى بناء على أنه لا حسن ولا قبح عقليين، ولا واجب على الله تعالى، بل الله تعالى فاعل لما يريد، لا يمنعه من فعله شيء، ولا يدفعه إلى فعله شيء.
ولو شاء الله تعالى أن لا يخلق هذا العالم على هذا النحو لفعل، ولا تحجير على الله جلَّ شأنه.
ولو شاء أن لا يثيب أحداً بعد خلقه لهم لفعل، بل إثابته مجرد تفضل منه ومِنَّةٍ له على خلقه، ومن أين يجب على الله الثواب والعقاب، وقد أوجد أصل الأشياء بعد أن لم تك شيئا!
وأما كلام توماس أكويناس وأوغسطين وغيرهما ممن خالف في هذه المقولات، فلسنا متعبدين بما قالاه ولا بما ادعاه دون سكوتس، إنما نحن متعبدون بما بينه لنا ربنا في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يدين ولا من خلفه، وقد أوضح محققو علماء الكلام من أهل السنة بطلان مقولة من يخالف ما ذكرناه.
والحوار الذي يدعو إليه الناس مع الآخر لا يستقيم إلا مع احتمال سماع آرائه وأفكاره واستدلاله على ما يقول، ولا يصح أن يتم استثناء مقولات علماء الإسلام ثم التشبث بمجرد كلمة صدرت من واحد هنا أو هناك، وقد ردَّها علماء الدين عليه، فإن هذا الأسلوب لا يتوافق مطلقاً مع الحوار المدعى، فهل هذه هي الصورة التي يريدها البابا من حوار الحضارات؟!
************
تمسك البابا بمقولة مردودة لابن حزم
ثم قال البابا:"هذا الموقف قريب شيء ما من وجهة نظر ابن حزم الأندلسي؛ والذي قد يؤدي بالبعض أن يظن أن الإله قد يسيء لخلقه وهو غير مقيد بالخير ولا بالحق."اهـ
أرأيت كيف يتمسك البابا بمقولة مردودة لابن حزم ثم يبني عليها -مع فهمه الخاطئ لها- موقفاً عامّاً من الدين الإسلامي!
إن اتهام المسلمين بأنهم يعتقدون أن الله تعالى قد يفعل الشر لا يتم إلا على من يجيز ذلك، أمَّا من يمنع صحة نسبة الشر أصلاً إلى الله تعالى، ويمنع أن يكون ثمة حسن وقبح بمعنى الواجب على الله أن يفعله، والواجب عليه أن لا يفعله، فلا يستقيم اتهامه بمثل هذا الأمر، ولا شك أن البابا غير غافل عن هذه الترتيبات العقلية، ولكنه لغلوه في اعتقاده، لا يبالي بمخالفته لكل هذا.
وانظر إلى سوء هذه الكلمة التي نطق بها، إنه يريد أن يلزم الإله بما يسميه حقاً وخيراً، فيفترض أن هناك طريقاً معينة لا يصح للإله أن يتعداها، ولعمري إن مجرد افتراض ذلك مخالف لمفهوم الإله لو كانوا يعقلون.
ثم قال البابا: "وإن تنزيه الإله ومخالفته لكل ما سواه أمر يقتضي أن عقلنا وفهمنا لمعنى الخير والشر لا يعكس حقيقة الإله والذي لا نستطيع أن نخوض في غوامض أفعاله وحكمته مطلقاً."اهـ.
إن البابا يحاول أن ينقض هنا ما يقوله المسلمون من أهل السنة أنه الله تعالى مخالف للغير، أي إنه لا يماثل شيئاً من مخلوقاته في أمر من الأمور في ذاته وصفاته وأفعاله، ويزعم أن هذا القول يقتضي أنا لا يمكن أن نتأمل في أفعال الله تعالى، لما يقتضيه ذلك من عدم الالتزام بالحسن والقبح العقليين! ويشير من بعد إلى أن هذا الفهم يحكم على مقولات العقل بالدمار، وعدم إمكانية اللجوء إلى العقل في الحوار مع من يعتقد ذلك.
وما هذه الاستلزامات إلا من قصور الفهم، وعدم دقة النظر عنده.
فإنَّ ما قاله أهل السنة من المخالفة بين الله تعالى وبين المخلوقات، معناه أن ذاتيات الله تعالى وحقيقته لا تماثل بينها وبين شي من مخلوقاته، وهذا حق واجب الاتباع. ومعناه أن الله تعالى متفرد بحقيقة ذاته، ومتفرد بحقيقة صفاته ومتفرد بحقيقة أفعاله؛ فلا فعل مثل فعله ولا صفة مثل صفته ولا ذات مثل ذاته.
فمن أين يقتضي ذلك انهدام مقولات العقل؟
إنَّ البابا ومن يوافقه في الفكر والفلسفة، يعتقد أنه لا يمكن للعقل أن يفكر إلا بناء على حصول مثل الصورة الثابتة في الخارج فيه، وهذا قد تم إبطاله في الكلام الإسلامي.
وذلك أنَّا قد بيَّنا أن العلم يمكن تحصيله ولا يشترط في ذلك التماثل الماهوي بين المعلوم والعلم، بل يكفي في حصوله التطابق الماصدقي، أي صدق الحمل، فمجرد إثبات صدق الحمل، فهذا يعني تحقق العلم.
وصدق الحمل لا يشترط فيه العلم بحقيقة ما في الخارج، بل ببعض أحكامها، ونسبها الحاصلة لها، ولو تفكرنا في المعارف والعلوم الحاصلة للبشر لوجدناها من هذا الباب، وبناء على ذلك فإن مجرد القول بأن الله تعالى مخالف لحقيقة البشر في ذاته وصفاته وأفعاله، لا يقتضي مطلقاً عدم إمكان العلم بأحكام ثابتة لله تعالى، وما يجوز وما لا يجوز له جلَّ شأنه.
والغفلة عن هذا الفرق يوقع الناظر فيما وقع فيه البابا من التخابط.
************
هل يخالف المسلون العقل؟
ثم قال البابا: "وبالمقابل، فقد كان موقف الكنسية المعتاد هو الإصرار على أن بين الإله وبيننا، بين روح الإله الخالق وبين عقلنا المخلوق، تماثلاً حقيقياً."اهـ
إن هذا القول معناه إثبات التشبيه بين الله تعالى وبين خلقه، وهذا بلا شك مأخوذ من زعمهم أن الله تعالى خلق البشر على صورته، وهم يأخذون هذا القول على حقيقته ويعتقدون بها كذلك.
ويريد البابا أن يقول إن نظرة الكنيسة إلى الإله مطابقة للعقل، وأما نظرة المسلمين إليه فهي مخالفة للعقل، وهذا القول مما يهتز له الجسد ضحكاً واستغراباً.
فقد جاء الزمان الذي يجرؤ هؤلاء فيه على القول بأن نظرتهم موافقة للعقل وأن نظرة المسلمين مخالفة للعقل، ولعمري إن هذا وقد صدر من رجل في أعلى منصب عندهم، يدل على مدى التردي الذي صار إليه حال المسلمين حتى جرؤ هؤلاء على التصريح بمثل ذلك.
ولو كان أهل الإسلام متمسكين بأصول المعرفة كما فعل متقدموهم وجلّة علماء الإسلام من المتكلمين والأصوليين، لما تجرأ أحد على إظهار نحو هذا القول، في حقِّ الإسلام.
************
المسلمون يعتقدون بدين فيه روح غير متوافقة مع روح الرب!!
ثم قال البابا: "الاستعلاء، الذي هو الطبيعة المخالفة للرب، تجاوزت المدى لدرجة أن رشدنا وفهمنا للحقيقة والخير لم يعد المرآة الحقيقية للرب، وتظل إمكانياتها غير المحدودة مخفية وغير متاحة لنا إلى الأبد. في مقابل ذلك تمسك الاعتقاد الكنسي بحقيقة أنه يوجد بيننا وبين الرب وبين روح الخلق الأبدية وبين عقلنا تطابق."اهـ
يشير البابا في هذه الكلمة إلى انتقاد المسلمين الذين يتهمهم بأنهم يعتقدون بدين فيه روح غير متوافقة مع روح الرب، أي غير متوافقة مع الأحكام الإلهية الحقيقية، لأنَّ البابا يعتقد في قرارة نفسه أن الدين الإسلامي ليس بدين صحيح أصلاً، وإنما إطلاقه اسم الدين عليه -إن كان- تماشياً مع الواقع الذي لا يملك الواحد إلا أن يخضع له، وهو أن الدين الإسلامي من أكثر الأديان انتشاراً في الأرض.
لا أحد يستعلي على غيره أكثر من استعلاء الغرب على غيرهم، وهذه سمة بارزة فيهم على امتداد العصور والقرون، ولا أحد على ظهر الأرض امتص خيرات الآخرين كما فعل الغربيون، وما يزالون يفعلون ذلك حتى الآن.
وأما الاعتقاد الكنسي الموافق لروح الرب كما يقول البابا، فإنَّا لم نرها إلا نادراً في الثقافة النصرانية، ولم تسيطر على حضارة النصارى إلا خلال فترات نادرة، تكاد تكون كإيماضات الشعاع المنكتم.
وأما ما يشير إليه البابا من التطابق، فإنما يريد أن الحقيقة الإلهية لا تثبت إلا على وفق اعتقادهم النصراني فقط، وأما ما يعتقده الآخرون في الرب فلا أساس له.
وهو من جهة أخرى، ينزل بمقام الألوهية إلى الإنس، وهذا متوافق مع ما يعتقدون به من الفداء والتجلي في جسد المسيح، واعتقاداتهم الأخرى. وهم إن رضوا بتلك الاعتقادات، فإنا لا نرضى بها، ونعتقد أنها مخالفة لروح العقل، مع مخالفتها للدين الإسلامي الحق.
وما هو هذا التطابق بين روح الخلق الأبدية وبين عقلنا، هل يمكن أن يوجد تطابق بين الخالق والمخلوق، إلا إذا ترفع المخلوق إلى رتبة الخالق فتعدى عليها، أو تنزل الخالق إلى رتبة المخلوق فتردى إليها.
************
هل هو حوار للحضارات؟ثم قال البابا: "وختاماً فرغم كل السرور الذي نرى به الإمكانيات الجديدة التي أدخلها الإنسان، نرى أيضاً التهديدات التي تتنامى من هذه الإمكانيات. ويجب أن نسأل أنفسنا كيف يمكن أن نسيطر عليها. ولن يمكننا ذلك إلا إذا تلاقى العقل والإيمان بصورة جديدة. ومن خلال ذلك فقط يمكننا أن نكون مؤهلين لحوار حقيقي بين الحضارات والأديان الذي نحن في أمس الحاجة إليه".اهـ
إن الذي يريد أن يمضي في حوار الحضارات لا يعتمد على آراء شاذة لبعض أفراد حضارة معينة، ثم يلزمهم جميعا بها، وهل ترى الحضارة الإسلامية قد قامت على رأي ابن حزم حتى تعتمد عليه في محاورتها؟؟!
إن هذا لعمري من المضحكات المبكيات.
نعم إننا في أمسِّ الحاجة إلى حوار الحضارات، ولكن بناء على أسس علمية رصينة، لا على مجرد اختيارات لآراء من هنا وهناك ثم التنكيت عليها.
قال البابا: "العقل الذي يكون فيه الجانب الرباني أصم والدين ينتمي إلى الثقافات الثانوية هو عقل غير صالح لحوار الحضارات. وقد قال مانويل الثاني إنه ليس من العقل أن ألا يكون التحاور بالكلمة؛ لأن ذلك سيكون معارضا لطبيعة الرب، قال ذلك من خلال منظوره لصورة الرب المسيحية، لمحاوره الفارسي.. بهذه الكلمات وبهذا البعد من العقل ندعو لحوار الحضارات مع شركائنا". اهـ
ها أنت تراه يبني مباشرة على كلام ذلك الإمبراطور، الذي رأينا كم هو مستواه في الفكر الرفيع! ثم إن البابا لما واجهه الإعلاميون والمعترضون بما نقله عن الإمبراطور، زعم إنه كان مجرد نقل، ولا يعبر عن وجهة نظره! فكيف لا يعبر عن وجهة نظره ونحن نراه يبني أغلب محاضرته عليه، ويستمد منه؟!
فها هو في آخر المحاضرة يرجع إليه، ويعيد اتهامه للحضارة الإسلامية بأنها لا تعتمد الكلمة، بل السيف والعنف، فإنه يذكر بكلمات الإمبراطور لمحاوره الفارسي، ولذلك فإننا يمكن أن نفهم أنه يريد بالدين الذي يخالف العقل، ويخالف الرب على زعمه، الدين الإسلامي لا غيره!! وهذا واضح من كلامه لا يحتاج إلى مزيد تفسير.
إنَّ الحضارة الإسلاميَّةَ بما تمتلكه من رصيد ضخم في مختلف المعارف والعلوم، قادرة على الحوار مع سائر الحضارات، بل إنَّ الفكر الإسلامي الرفيع قادر على إظهار مستوى عالٍ من التحليل والنقد والتواصل مع الآخرين، وليس من شرط التواصل أن يتم التوافق، بل أن يتم التفاهم، على الاختلاف والاتفاق.
وقد كان المسلمون متمرسين بالقيام بهذا الدور العظيم الذي لا يقدر على القيام به إلا الأفذاذ، ونحن ندعو ورثة العلوم الإسلامية والحضارة والقائمين على نشر الدين الإسلامي من علماء وفقهاء ومفكرين على الاستمرار بهذا الدور العظيم الذي قام به أجدادنا العلماء العظام من المتكلمين والفقهاء والأصوليين وغيرهم، مع أصحاب الحضارات الأخرى، وأتباع الديانات والملل والنحل. ولن نستطيع أن نقوم بدورنا المطلوب نما شرعاً وعقلاً إلا بالتصدي على نحو لائق لهذه الوظيفة العظيمة.
ونحن لا نرضى بما يلمح إليه كلام البابا من أن الجانب الديني في فكرنا الإسلامي علومنا، أصمّ، يعني لا يستمع للآخرين، ومن كان أصمَّ، فإنه لا يستطيع الحوار معهم!!
هذا مجرد اتهام من هذا البابا قائم على محض التعصب الأعمى، والعجيب أنه يظهر كلامه بمظهر الفكر المتنور! مع بعده التام عن النور الحقيقي! ولكن؛ على هذا درج هؤلاء المخالفون للدين الإسلامي من النصارى واليهود، والقليل منهم فقط هو المنصف، وهذا هو الذي ذكره القرآن الكريم عنهم، ووصفه صادق بلا ريب. ولا بدَّ أن نعرف أن علاقة هذا البابا وطيدة الصلة باليهود، ومن كان يخدم أهدافهم فلا نستغرب صدور هذا الكلام عنه.
إننا نستطيع أن نقول: إن حوار الحضارات لا يمكن أن يتم إلا بالتجرد الذي لا نراه في كلمات البابا بنديكت، ومن شروط الحوار العلم بمفاهيم وأفكار الآخر، وقد رأينا بوضوح عدم وجوده عند البابا بنديكت، فإنَّ الحوار من شرطه العلم الصحيح، والمعرفة التامة عن الآخر، وأيضاً فلا بدَّ للحوار من أن يكون القصد هو الوصول إلى الحق، وهذا وإن كان أمراً قلبياً خفياً إلا أن عليه أمارات وعلامات هي ضوابط الالتزام بآداب الحوار وأصول المعرفة الصحيحة.
وبناء على ذلك فإننا ندعو البابا ومن يمثله إلى إعادة النظر بأحوال نفسه، ومراجعة معارفه وتصحيح مقاصده، والتحصيل الصحيح قبل الخوض في هذا البحر الواسع الذي لا يطيقه إلا الأفراد من الناس.
************
وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب
سعيد فودة
20/9/2006
************