بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا وملانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
[font=Traditional Arabic]فهذا بحث لأحد المشايخ في الجزائر المسمى الشيخ عبد الوهاب مهية حفظه الله المعروف بالرد العلمي على الوهابية وأذناب المتمسلفين [/font]
قال رحمه الله
الحمد لله ذي الفضل والمنة والطول والنعمة ، حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه . وصلى الله وسلم وبارك على نبي الهدى وإمام التقى ، محمد المجتبى ، وآله وصحبه ومن اتبع واقتفى .
اعلم هداني الله وإياك إلى الحق ووفقنا لقَبوله والعمل به ، أن صلاة الليل نافلة مطلقة ولا حدّ لركعاتها ، وهذا برهانه:
حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه : قال :" قلت : أي الليل أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر؛ فصلِّ ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح ثم اقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قدر رمح أو رمحين ، فإنها تطلع بين قرني الشيطان وتصلي لها الكفار ثم صلِّ ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله ثم اقصر فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها ، فإذا زاغت الشمس فصلى ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي العصر ثم اقصر حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان وتصلي لها الكفار… الحديث".
رواه ابن خزيمة في صحيحه (260) والحاكم في المستدرك ( 584) وأبو داود (1277) و غيرهم ، وهو عند مسلم ( 832) من وجه آخر ولكن هذا أشفى وأتمّ كما قال الحاكم . وقال الشوكاني في ( النيل 3/69) :’’ الحديث رجال إسناده رجال الصحيح ‘‘
وقوله صلى الله عليه وسلم : " صلِّ ما شئت " دليل واضح على أنّ عدد ركعات الصلاة موكل للمصلي ، على حسب نشاطه وطاقته وما عنده من قرآن . ليس في ذلك حد يقف عنده المصلي إلى أن يصلي الصبح .
قال الفقيه الهيتمي في " الفتاوى الكبرى " ( 1/193) : " والفرق بين النفل المطلق وبين غيره ؛ أنّ الشارع لم يجعل له عددًا ، وفوّضه إلى خيرة المتعبّد ".اهـ
وقال الحافظ رحمه الله في الفتح (3/19) و هو يعلّق على حديث صلاة ابن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في الحديث دليل إلى اختيار النبي صلى الله عليه وسلم تطويل صلاة الليل وقد كان ابن مسعود قويًا محافظًا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده ، وأخرج مسلم من حديث جابر: " أفضل الصلاة طول القنوت " ، فاستدل به على ذلك ويحتمل أن يراد بالقنوت في حديث جابر الخشوع ، وذهب كثير من الصحابة وغيرهم إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل ولمسلم من حديث ثوبان :" أفضل الأعمال كثرة السجود " ، والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والاحوال " . اهـ
وعن كعب بن مرة البهزي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الليل أسمع ؟ قال : " جوف الليل الآخر إن الصلاة مكتوبة حتى تصلي الفجر ثم لا صلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح أو رمحين ثم الصلاة مشهودة حتى ينتصف النهار ثم لا صلاة حتى تزول الشمس ثم الصلاة مشهودة حتى تصلى العصر ثم لا صلاة حتى تغرب الشمس ... الحديث " ، من مسند الحارث – زوائد الهيثمي - (67) و (219)
وعن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا رسول الله أمن ساعات الليل والنهار ساعة تأمرني أن لا أصلي فيها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا صليت الصبح فأقصرعن الصلاة حتى ترتفع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان ، ثم الصلاة مشهودة محضورة متقبلة حتى ينتصف النهار ، فإذا انتصف النهار فأقصر عن الصلاة حتى تميل الشمس ، قال : حينئذ تسعر جهنم وشدة الحر من فيح جهنم ، فإذا زالت الشمس فالصلاة محضورة مشهودة متقبلة حتى تصلي العصر ، فإذا صليت العصر فأقصر عن الصلاة حتى تغيب الشمس ، ثم الصلاة مشهودة محضورة متقبلة حتى تصلي الصبح " . رواه أبو يعلى في مسنده (6581)
ففي هذين الحديثين والذي قبلهما دليل بيّنٌ، على أن العدد لو كان له اعتبار لبيّنه – صلى الله عليه و سلم - للسائل ولم يتأخر.
وفي المقابل ، فقد ورد التصريح بجواز تجاوز الإحدى عشرة ركعة في أكثر من حديث ، منها :
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب ، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك " .
رواه الحاكم في المستدرك (1137) و البيهقي ( 4594) و محمد بن نصر في كتاب الوتر (54) وقال : إسناد صحيح . والحديث قد صححه العراقي الحافظ ، كما في ( نيل الأوطار 3/43 ) وجزم بصحته الإمام ابن القيم كما في ( أعلام الموقعين 2/373 ) ... و ليس ذلك ببعيد ، فإن رواته كلهم ثقات إلا أبا الحسين طاهر بن عمرو بن الربيع ابن طارق بن قرة بن نهيك بن مجاهد الهلالي بمصر ، ولم أر أحدَا ضعفه ، ولم يذكره صاحب الميزان ولا اللسان . قلت: وذكر الشيخ إسماعيل الأنصاري في تصحيح حديث ابن خصيفة (33) ، أنه هو: حبشي بن عمرو ، وروى عنه الإمام ابن خزيمة ، والحسن بن حبيب الدمشقي ، مع الحافظ الأصم ، فهو معروف وحديثه مقارب . وقد أخرجه البيهقي في الكبرى (3/31) من طريق جعفر بن ربيعة عن عراك به موقوفًا على أبي هريرة ، ورواته ثقات ، و هذا لا يضر بل هو في حكم المرفوع . من حاشية السنن الصغرى (1/309) .
قلت : طاهر بن عمرو هو حبشي كما ذكر عن الشيخ الأنصاري ، و ترجمته موجودة في ( موضح أوهام الجمع و التفريق للخطيب البغدادي 2/190) ، وكتاب ( تهذيب مستمر الأوهام لابن ماكولا 1/223) ، و ( نزهة الألباب في الألقاب للحافظ العسقلاني 1/193) ،
و له شواهد كثيرة ، منها...
عن عتبة بن محمد بن الحارث أن كريبًا مولى ابن عباس أخبره : " أنه رأى معاوية صلى العشاء ثم أوتر بركعة واحدة لم يزد عليها فأخبر ابن عباس ، فقال : أصاب أي بنى ليس أحد منا أعلم من معاوية . هي واحدة أو خمس أو سبع إلى أكثر من ذلك ، الوتر ما شاء" .
أخرجه البخاري في الصحيح (3764) ، والبيهقي في الكبرى (4572) و اللفظ له ، ورواه عبد الرزاق في المصنف (4641) والشافعي في مسنده (547) ، ورجاله رجال الصحيح ما خلا عتبة بن محمد بن الحارث ، وحديثه حسن في الشواهد .
عن يحيى بن أبي كثير قال :كتب إليّ أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود أما بعد فإني أخبرك عن هدي عبد الله بن مسعود في الصلاة وفعله وقوله فيها.... حتى إذا كان من آخر الليل قام فأوتر ما قدر الله من الصلاة إما تسعًا وإما سبعًا أو فوق ذلك ...الحديث " ، رواه الطبراني في الكبير (9942) ، و قد صحح جمع من الأئمة حديث عبيدة عن أبيه و إن لم يسمع منه .
وعن عطاء قال :" ثلاث أحب إليّ من واحدة ، وسبع أحب إليّ من خمس ، وما كثر فهو أحب إليّ " رواه عبد الرزاق في المصنف (4649) .
و مما يدل على إطلاق نافلة الليل ؛
حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل ؟ فقال رسول الله عليه السلام : " صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى " متفق عليه
قال الحافظ العراقي رحمه الله في ( طرح التثريب ) : " المراد أنه يسلم من كل ركعتين من غير حصر في عدد ، ولهذا عقبه بقوله :" فإذا خشيت الصبح " فدل على أنه يصلي من غير حصر بحسب ما يتيسر له من العدد ، إلا أنه يكون على هذا الوجه ؛ وهو السلام من كل ركعتين إلا أن يخشى الصبح فيضيق حينئذ وقت صلاة الليل فيتعين الإتيان بآخرها وخاتمتها وهو الوتر وهذا هو الذي فهمه منه جميع الناس ".اهـ
و قال الباجي رحمه الله في ( المنتقى1/220) :- ولا غاية لأكثرها ، و إنما ذلك على قدر طاقة المصلي ، والدليل على ذلك أنه قال : " مثنى مثنى ، فلم يحدّ بحدّ . والثاني أنه قال : " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة " ، فجعل غاية ذلك أن يخشى الصبح ، ولم يجعل غايته عددًا .اهـ
وقد ورد بلفظ :" فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة...إلخ " ، وهنا علقه بإرادة الانصراف وهو أعم من أن يكون لخشية طلوع الفجر أو غير ذلك " . وفي كل الأحوال فإنه لم يعتبر بعدد ، بل جعل غاية الصلاة وأقصاها طلوع الفجر ، سواء قلّت الركعات أو كثرت .
وهذا هو الذي فهمه عبد الله بن عمر نفسه من الحديث ، وهو راويه ، و تفسيره أولى ، حيث قال :" إذا كنت لا تخاف الصبح ولا النوم فاشفع ثم صل ما بدا لك ثم أوتر " ، ذكره الحافظ في ( الفتح 2/481) عن سعيد بن منصور.
وروى نافع عنه - رضي الله تعالى عنه -: " أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع أسْحَرْنا ؟ فيقول : لا . فيعاود الصلاة ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فيقول : نعم . فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح " .
رواه الحافظ أبو نعيم في الحلية (1/303) ، قال : حدثنا سليمان بن أحمد ثنا ابن يزيد القراطيسي ثنا أسد بن موسى ثنا الوليد بن مسلم ثنا ابن جابر حدثني سليمان بن موسى عن نافع به . ورجاله كلهم ثقات عدول وفيهم أئمة حفاظ .
وقوله " أَسْحَرْنا ؟ " يعني هل دخلنا في السحر؟ . وفيه من البيان أنه لم يكن منشغلا بغير الوقت الذي وضعه الشارع كعلامة للكف عن الصلاة ، وفي هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذان السحر: " ليَرْجِعَ قائمكم " ، أي : ليعود من قيامه فيبادر إلى صلاة الوتر قبل حلول الفجر. فجعل اقتراب نهاية الصلاة إلى أذان الفجر الأول وليس إلى عدد .
ويبيّن هذا أكثر حديثُ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام ؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا " . رواه البخاري (3238) و مسلم (1159) وغيرهما .
ففي هذا الحديث إرشاد من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الوقت الذي يستحب أن يشغله المتعبد بالصلاة ولم يوقت له بعدد .
ومما يدلك على عدم التفات السلف إلى عدد ، ما رواه الأنف بن قيس ، قال : " دخلت مسجد دمشق فإذا رجل يكثر الركوع والسجود ، قلت : لا أخرج حتى أنظر أَعَلى شفع يدري هذا ينصرف أم على وتر ؟ فلما فرغ قلت : يا عبد الله أعلى شفع تدري انصرفت أم على وتر؟ فقال : إن لا أدري فإن الله يدري ثم قال : إني سمعت خليلي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة . قلت : من أنت رحمك الله ؟ قال : أنا أبو ذر . قال : فتقاصرت إليّ نفسي " .
أخرجه أحمد في المسند (21490) والدارمي في سننه (1461) واللفظ له .قال الهيثمي في الزوائد (2/248-249): رواه أحمد والبزار بنحوه بأسانيد وبعضها رجاله رجال الصحيح .
وهو الأمر الذي كان عليه العُمَران رضي الله عنهما وأقرّهما عليه النبي صلى الله عليه و سلم ؛ فقد روى عبد الرزاق في المصنف (4615) عن ابن جريج قال : أخبرني ابن شهاب عن ابن المسيب : " أن أبا بكر وعمر تذاكرا الوتر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أما أنا فأنام على وتر ، فإن استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح . وقال عمر : لكني أنام على شفع ثم أوتر من السحر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: حذر هذا ، وقال لعمر : قوي هذا " .
ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/342) من طريق الليث عن ابن شهاب به . و هو حديث صحيح على شرط الشيخين .
و هذا أمر لم يختلف فيه إثنان من الصحابة رضي الله عنهم ؛ فعن عمار بن ياسر وقد سئل عن الوتر؟ فقال :" أما أنا فأوتر قبل أن أنام فإن رزقني الله شيئا صليت شفعًا شفعًا إلى أن أصبح "
وسئل رافع بن خديج رضي الله عنه عن الوتر ؟ فقال :" أما أنا فإني أوتر من أول الليل فإن رزقت شيئا من آخره صليت ركعتين ركعتين حتى يدركني الصبح "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه و قد سئل عن الوتر فقال : " أما أنا فأوتر ههنا بخمس ثم أرجع فأرقد فإن استيقظت صليت شفعًا حتى أصبح "
روى ذلك عبد الرزاق في المصنف برقم (4620 و4621 و 4622)
وهذا أمر يطول لو استقصيناه ، وحسبنا أن الأخبار كلها متفقة على أن السلف لم ينقل عن أحد منهم أنه منع من الزيادة على عدد معيّن ، بل كلهم قد جعل لها أمدًا وهو صلاة الفجر . وما لم تُصَلَّ الصبح فإنّ المصلي له أن يصلي من الركعات ما يشاء ، لا يمنعه من ذلك إلا الوقت ، كما ورد عند ابن خزيمة (1091) و غيره : " فإذا كان الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر"
فعن أبي مجلز ، أن أسامة بن زيد وابن عباس قالا : " إذا أوترت من أول الليل ثم قمت تصلي ، فصل ما بدا لك واشفع بركعة ثم أوتر " ، رواه ابن أبي شيبة (6728).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " أصلي كما رأيت أصحابي يصلون ؛ لا أنهى أحدًا يصلي بليل ولا نهار ما شاء ، غير أن لاتحرّوا طلوع الشمس ولا غروبها " ، أخرجه البخاري في صحيحه (564) .
وعن سمرة رضي الله عنه قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي من الليل ما قل أو كثر ونجعل آخر ذلك وترًا " .
رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير وأبو يعلى ، وللبزار في رواية : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نصلي كل ليلة بعد الصلاة المكتوبة " ، نحوه وإسناده ضعيف كذا في ( الزوائد 2/252) . والأمر هنا للندب .
هذا ، و قد ورد الترغيب في الإكثار من الصلاة مطلقًا في أحاديث عديدة منها ؛ حديث أبي ذر رضي الله عنه : " الصلاة خير موضوع فمن شاء أقل ومن شاء أكثر ...الحديث " رواه ابن حبان (361) وصححه كما في الفتح (2/479) والحاكم في المستدرك (2/652) وصححه الشوكاني في النيل (3/373)
قال المناوي رحمه الله ( 4/247) : الصلاة خير موضوع بإضافة خير إلى موضوع أي أفضل ما وضعه الله أي شرعه من العبادات فمن استطاع أن يستكثر منها فليستكثر".اهـ
ويحسن أن أذكر في هذا المقام شبهة نقلها الشيخ الألباني رحمه الله عن الشيخ علي محفوظ من كتابه ( الإبداع ) وهي قوله : " وعلمت أن التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول بفعله وتركه ، هو اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه ، ولو عوّلنا على العمومات و صرفنا النظر عن البيان لانفتح بابٌ كبير من أبواب البدعة لا يمكن سدّه أ و لا يقف الإختراع في الدين عند حد ... ثم ضرب مثالاً بحديث " الصلاة خير موضوع " فقال : لو تمسكنا بعموم هذا الحديث ، كيف تكون صلاة الرغائب بدعة مذمومة ؟ وكيف تكون صلاة شعبان بدعة مذمومة مع دخولهما في عموم الحديث ؟ " اهـ
قلت: ليست هذه من تلك ؛ فصلاة الليل قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعيتها بفعله وقوله وتقريره ، بل ورغّب في الإكثار منها كما قال عليه السلام : " إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل " ، قال الزهري : وكان عبد الله بعد ذلك يكثر الصلاة من الليل " رواه البخاري (6626) . و أما الذم في صلاة الرغائب وغيرها فليس متعلقًا بالصلاة وإنما هو متعلق بما قُصد بها ، من فضيلة خاصة بتلك الليلة . ولذلك فلو أن أحدًا كان له ورد بالليل ووافق ليلة النصف من شعبان أو ليلة الجمعة ، فإنه لا يتعلق به ذمّ و لا تعتبر صلاته تلك بدعة ، ذلك لأنّ الصفة إنما هي تبع للمقاصد في العبادات ؛ وهذا كمن أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل الشروق أو أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب فإنه لا يقال عنه أنه يشارك المشركين و عُبّاد الشمس في شركهم ، على الرغم من ورود النهي عن الصلاة في ذينك الوقتين خاصة .
هذا ، وتمسك مَن منع من الزيادة على إحدى عشرة ركعة بظاهر حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الشيخان وغيرهما وفيه : " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ؛ يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا . فقالت عائشة : فقلت : يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي ".
قالوا :- اقتصاره صلى الله عليه و سلم على الإحدى عشرة ركعة دليل على عدم جواز الزيادة عليها .
وهذا شيء لم يقل به أحد من السلف ؛
فعن ابن جريج عن عطاء قال : قلت له : " أنقتصر على وتر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بل زيادة الخير أحبّ إليّ " رواه عبد الرزاق في مصنفه (4716).
وقال ابن القاسم: " وسألت مالكا عن الرجل يوتر في المسجد ثم يريد أن يتنفل في المسجد ؟ قال : يترك قليلا ثم يقوم فيتنفل ما بدا له ، قلت : فإن أوتر في المسجد ثم انقلب إلى بيته أيركع إن شاء ؟ قال : نعم " .اهـ من المدونة ( 1/437)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله : " ... وليس في شيء من هذا ضيق ، و لا حدّ يُنتهى إليه لأنه نافلة..." اهـ من كتاب ( قيام رمضان لابن نصر ص 96)
وقال الإمام أحمد في الرجل يصلي شهر رمضان بقوم فيوتر بهم وهو يريد يصلي بقوم آخرين : " يشتغل بينهم بشيء بأكل أو شرب أو يجلس " ، رواه المروزي وذلك لأنه يكره أن يوصل بوتره صلاة فيشتغل بينهم بشيء ليكون فصلاً بين وتره وبين الصلاة الثانية . وهذا إذا كان يصلي بهم في موضعه ، أما في موضع آخر فذهابه فصلٌ ، ولا يعيد الوتر ثانية " لا وتران في ليلة " .اهـ من (بدائع الفوائد 4/919)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، فقد أخطأ " .اهـ من ( مجموع الفتاوى 22/272)
وقال الحافظ ابن عبد البر في ( التمهيد 13/214) : " أكثر ما روي عنه من ركوعه في صلاته بالليل صلى الله عليه وسلم ما روي في هذا الخبر عن ابن عباس من حديث كريب هذا وما كان مثله ، وليس في عدد الركعات من صلاة الليل حد محدود عند أحد من أهل العلم لا يتعدى ، وإنما الصلاة خير موضوع وفعل برّ وقربة ، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل ، والله يوفق ويعين من يشاء برحمته لا شريك له " .اهـ
وقال القاضي عياض رحمه الله : " ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر ، وإنما الخلاف في فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه والله أعلم ".اهـ من شرح مسلم للنووي (6 /19) .
وقال الحافظ العراقي في ( طرح التثريب ) : " وقد اتفق العلماء على أنه ليس له حد محصور" يعني قيام الليل .
يقول العبد الضعيف: ومع ذلك ، فإنّ كون النبيّ صلى الله عليه وسلم اقتصر على إحدى عشرة ركعة فيه نظر ، فقد ثبت أنه صلى أكثر من ذلك ؛
صلى ثلاث عشرة ركعة ، والحديث في ذلك عن عائشة نفسها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين " ، رواه البخاري برقم ( 1117) من طريق عروة . و مسلم برقم ( 738) من طريق أبي سلمة .
ولما كان هذا الحديث مخالفًا لحديث الإقتصار على الإحدى عشر ، فقد حاول بعض العلماء الجمع بينهما بما لا يوافَق عليه ؛ قال الحافظ رحمه الله في ( الفتح 3/21) : " فظاهره يخالف ما تقدم ، فيحتمل أن تكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته ، أو ما كان يفتتح به صلاة الليل فقد ثبت عند مسلم من طريق سعد بن هشام عنها أنه كان يفتتحها بركعتين خفيفتين ، وهذا أرجح في نظري لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند المصنف وغيره " يصلي أربعا ثم ثلاثا " ،فدل على أنها لم تتعرض للركعتين الخفيفتين وتعرضت لهما في رواية الزهري ، والزيادة من الحافظ مقبولة ، وبهذا يجمع بين الروايات " .اهـ
قلت : لكن قد ورد في الرواية التي دلّت على الحصر من وجه آخر عند مسلم وغيره : " يسلم بين كل ركعتين " .
واستظهر الشيخ الألباني رحمه الله في رسالته ( صلاة التراويح ص17) أن تكون الركعتان الخفيفتان اللتان ذُكرتا في بعض الأحاديث ضمن الثلاث عشرة ركعة ، هما سنة العشاء . ولا يخفى بُعد هذا القول وذاك ، خاصة مع قول عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يخلو – وفي رواية : يفرغ - من صلاة العشاء ، وهي التي يدعو الناس العتمة ، إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة " ، رواه مسلم (736) وغيره .
ففي هذا الحديث أغلقت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كل المنافذ فلم تدع مجالاً لحشر أي صلاة ، مهما كانت خفيفة . وعليه فلا سبيل إلى الخروج من هذا التعارض إلا بالقول بتنوّع الصلاة وتعددها على أحوال وأوقات مختلفة .
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله (2/193) : " قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بعض الليالي أكثر مما يصلي في بعض ، فكلُّ مَن أخبر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو من أزواجه أو غيرهن من النساء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى من الليل عددًا من الصلاة أو صلى بصفة فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة في بعض الليالي بذلك العدد وبتلك الصفة ".اهـ
وقال ابن حبان رحمه الله (6/365) : " هذه الأخبارليس بينها تضاد وإن تباينت ألفاظها ومعانيها من الظاهر ، لأنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل على الأوصاف التي ذُكرت عنه ؛ ليلة بنعت وأخرى بنعت آخر، فأدّى كلُّ إنسان منهم ما رأى منه وأخبر بما شهد ".اهـ
وصلى خمس عشرة ركعة ، والحديث في ذلك عن عائشة رضي الله عنها كذلك ، وفيه صفتان :
الأولى ؛ ركعتان بعد العشاء ، ثم ركعتان خفيفتان بعد الإستيقاظ مع إحدى عشرة ركعة ، روى ذلك ابن خزيمة في صحيحه (1104) ومن طريقه ابن حبان ( 2635) وفيه : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء تجوز بركعتين ثم ينام وعند رأسه طهوره وسواكه فيقوم فيتسوك ويتوضأ ويصلي ويتجوز بركعتين ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يسوي بينهن في القراءة ويوتر بالتاسعة ويصلي ركعتين وهو جالس . فلمّا أسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم جعل الثمان ستا ويوتر بالسابعة ويصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وإذا زلزلت " .
والحديث رواه الطحاوي في ( شرح مشكل الآثار 1/280) بإسناد صحيح كما قال الشيخ الألباني رحمه الله في " رسالته ص 88 " ، والعجيب أنه قال بعده - تبعًا للطحاوي - : " وهذا اللفظ صريح في أنّ عدد الركعات ثلاث عشرة " .اهـ ، و الذي أوقع الشيخ رحمه الله في هذا ، هو الطيّ الذي ورد في لفظ الطحاوي حيث قال : " كان يصلى العشاء ثم يتجوز بركعتين وقد أعد سواكه وطهوره فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه فيتسوك ويتوضأ ثم يصلى ركعتين ثم يقوم فيصلى ثمان ركعات يسوى بينهن في القراءة ثم يوتر بالتاسعة - فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم جعل تللك الثمانى ستا ثم يوتر بالسابعة - ثم يصلى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بقل يا أيها الكافرون وإذا زلزلت الأرض " .
فظاهر هذه الرواية يوهم أنّ الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر ، إنما صلاهما بعد السابعة وليس بعد التاسعة ، و هذا خطأ لأنّ قوله : " فلما أسنّ ... ثم يوتر بالسابعة " جملة اعتراضية في سياق الكلام ، وهو من تصرف الراوي ، والمعنى : أن صلاته بعد الإستيقاظ كانت على تلك الهيئة ؛ ثلاث عشرة ركعة ، فلما أسنّ أنقص ركعتين من الثمانية ، وقد بيّنت ذلك رواية ابن خزيمة .
الصفة الثانية: صلاة أربع ركعات بعد العشاء مع إحدى عشرة بعد النوم ، والحديث في ذلك عن عائشة رضي الله عنها أيضًا قالت : " كان يصلي صلاة العشاء في جماعة ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات ثم يأوي إلى فراشه وينام وطهوره مغطى عند رأسه وسواكه موضوع حتى يبعثه الله ساعته التي يبعثه من الليل فيتسوك ويسبغ الوضوء ثم يقوم إلى مصلاه فيصلي ثمان ركعات يقرأ فيهن بأم الكتاب وسورة من القرآن وما شاء الله ولا يقعد في شيء منها حتى يقعد في الثامنة ولا يسلم ويقرأ في التاسعة ثم يقعد فيدعو بما شاء الله أن يدعو ويسأله ويرغب إليه ويسلم تسليمة واحدة شديدة يكاد يوقظ أهل البيت من شدة تسليمه ثم يقرأ وهو قاعد بأم الكتاب ويركع وهو قاعد ثم يقرأ الثانية فيركع ويسجد وهو قاعد ثم يدعو ما شاء الله أن يدعو ثم يسلم " ، أخرجه أبوداود في سننه (1346 و 1348 و 1349) من طريق بهز بن حكيم .
وصلى سبع عشرة ركعة ؛ أربعة قبل النوم وثلاث عشرة ركعة بعد الإستيقاظ ، و الحديث في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " بتّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها ، فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام ثم قال: نام الغليم ؟ أو كلمة تشبهها . ثم قام فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه [ فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثماني ركعات ] فصلى خمس ركعات ، ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه ثم خرج إلى الصلاة " .
رواه البخاري في صحيحه برقم (117 و 665) وما بين المعقوفين لأبي داود (1358) و النسائي ( 406 و 1342) وغيرهما من طريق سعيد بن جبير . وقد اتفقت الرواية عنه أنه صلى أربعًا بعد العشاء ، كما اتفقت الرواية عن كريب وغيره الثلاثة عشر بعد الإستيقاظ . وهذا حديث صحيح ثابت لا مطعن فيه لأحد . و هو يصدّق قول الحافظ المنذري رحمه الله – فيما نقله الحافظ في ( التلخيص 2/14) – : " قيل أكثر ما روي في صلاة الليل سبع عشرة وهي عدد ركعات اليوم والليلة " .
ثم وجدت مِن السلف مَن جزم بذلك ؛ فقد روى عبد الرزاق في مصنفه (4710) عن طاووس قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي سبعة عشر ركعة من الليل " ، وهذا مرسل صحيح على شرط الشيخين ، ولعله تلقى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وفي ( مجمع الزوائد 2/272) : " عن علي رضي الله عنه قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ست عشرة ركعة سوى المكتوبة " رواه عبد الله بن أحمد من زياداته ورجاله ثقات .اهـ
وروى محمد بن نصر من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس في حديث المبيت زيادة أربع ركعات على ما ذُكر ؛ فإنّ فيه : " فصلى العشاء ثم صلى أربع ركعات بعدها حتى لم يبق في المسجد غيره ثم انصرف " ذكره في ( الفتح 2/484) فيكون مجموع ما صلى في تلك الليلة فيما بين صلاة العشاء إلى الفجر ، إحدى وعشرين ركعة . و الله تعالى أعلم .
وعليه ، فإن دعوى اقتصاره على إحدى عشرة ركعة دعوى ضعيفة ، لا يسعفها أثر ولا يؤيّدها نظر... نعم ، أكثر الأحاديث في صلاته – صلى الله عليه و سلم – هي بين الإحدى عشر والثلاثة عشر ، وهذا ليس تقييدًا منه ، كما بيّنّا سابقًا ، و إنما هو اختيار لما يناسب قراءته وقيامه والزمن الذي يستغرقه في المناجاة . وعليه ، فينبغي أن نفرّق بين ما هو من هدْيه وهو ما يختاره لنفسه ، و ما هو سنة و تشريع واختيار منه لأمته .
قال ابن القيم رحمه الله في ( الزاد 1/275) موضحًا هذا المعنى : " وليس مقصودنا إلا ذكر هديه الذي كان يفعله هو فإنه قبلة القصد وإليه التوجه في هذا الكتاب وعليه مدار التفتيش والطلب ، وهذا شيء والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء ، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز ولما لا يجوز ، وإنما مقصودنا فيه هدي النبي الذي كان يختاره لنفسه فإنه أكمل الهدي وأفضله ، فإذا قلنا :لم يكن من هديه المداومة على القنوت في الفجر ولا الجهر بالبسملة،لم يدل ذلك على كراهية غيره ولا أنه بدعة ..." .اهـ
قلت : وقد ثبت أنه قال لمن سأله عن صلاة الليل : " صلِّ ما شئت " ، وقال لآخر : " فإن الصلاة مشهودة متقبلة " يعني ما بين المغرب إلى الفجر ... ومن المعلوم لدى طلبة العلم أنّ السنة القولية قاضية على السنة الفعلية ، كما هو مقرر في الأصول. خاصة إذا ورد ما يثبت أن ذلك خاصّ به . والشيخ الألباني رحمه الله نفسه قال في الركعتين اللتين صلاهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر : " هاتان الركعتان يتنافيان في الظاهر مع قوله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا " رواه الشيخان وغيرهما ، فاختلف العلماء في التوفيق بينهما وبين هذا الحديث على وجوه لم يترجح عندي شيء منها ، والأحوط الوقوف عند هذا القول لأنه شريعة عامة، وفعله صلى الله عليه وسلم للركعتين يحتمل الخصوصية ."اهـ من رسالة ( صلاة التراويح ص:93).
قلت : ولذلك اتفقوا على أن الأفضل في كيفية صلاة الليل أن تكون ركعتين ركعتين ؛ على الرغم من ثبوت صفات أخرى عنه. قال الحافظ في ( الفتح 3/20) : " أنه الأفضل في حق الأمة لكونه أجاب به السائل " ، وقال ابن نصر في ( الوتر ) : " فاخترنا ما اختار هو لأمته وأجزنا فعل من اقتدى به ففعل مثل فعله " ، وكذلك قال الإمام أحمد من قبل و سائر الأئمة سلفًا وخلفًا.
ومن هديه - صلى الله عليه و سلم – الذي كان يختاره ولا يلزم به غير نفسه ، طول القيام في صلاة الليل ، وما وقع لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليلةَ صلى معه دليل على أنّ الصحابة لم يعتادوا ذلك وقد نُقل عنهم أنهم كانوا يصلون بالمئين . ومنهم من كان يصلي بما دون ذلك .
فالإحدى عشرة ركعة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب من أحايينه لم تكن مقصودة لذاتها ، و إنما لمّا كانت مناسبة لطول قيامه والوقت الذي رتّبه للصلاة . و هذا العدد قد ينقص أو يزيد على حسب طول القراءة وقصرها ، وسعة الوقت وضيقه . كما حدث أنّ صلى ليلة كاملة بأربع ركعات ، وصلى أخرى بركعة واحدة ... ولو أنه اختار تخفيف القراءة لزاد في عدد الركعات على ما كان معهودًا ، كما صلى الضحى يوم الفتح ثماني ركعات مع التخفيف عوض ركعتين طويلتين . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ومما يناسب هذا ، أن الله تعالى لما فرض الصلوات الخمس بمكة ، فرضها ركعتين ركعتين ، ثم أقرت فى السفر وزيد فى صلاة الحضر ، كما ثبت ذلك فى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها ، أنها قالت : " لما هاجر إلى المدينة زيد فى صلاة الحضر وجعلت صلاة المغرب ثلاثا لأنها وتر النهار وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها فأغنى ذلك عن تكثير الركعات ".اهـ من مجموع الفتاوى (23/11)
والدليل على أنه كان يختار لنفسه من التطويل ما لا يختار لأمته ؛ ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه ليلة في رمضان وصلى لهم فخفف ثم دخل فأطال الصلاة ، ثم خرج فصلى بهم ثم دخل فأطال الصلاة ، ففعل ذلك مرارًا ، فلمّا أصبح قالوا : يا رسول الله أتيناك ففعلت كذا وكذا ، فقال: من أجلكم فعلت ذلك ".
رواه أحمد في المسند (13236 ، 13087 ، و في مواطن أخرى ) بسندين صحيحين كما قال الشيخ الألباني رحمه الله في " رسالته ص10 ".
ورواه مسلم في صحيحه ( 1104) بلفظ :" فلما حسّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّا خلفه ، جعل يتجوز في الصلاة ثم دخل رحله فصلى صلاة لا يصليها عندنا ".
وفي رواية : " فلما أصبح قالوا : يا رسول الله صلينا معك ونحن نحب أن تمد في صلاتك . قال : قد علمت بمكانكم وعمدًا فعلت ذلك ".
وهذا الأمركان مستقرًّا في أذهان الصحابة رضي الله عنهم ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه - في حديث يذكر فيه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل - قال : " ... وصلى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهن بالرحمن والواقعة ، قال أنس : ونحن نقرأ بالسور القصار إذا زلزلت وقل يا أيها الكافرون ونحوهما " رواه ابن خزيمة في صحيحه ( 1079)
والمتأمل في رواية أحمد سالفة الذكر، يلاحظ التصريح بالصلاة مرتين بالناس في المسجد ومرتين في بيته ، ويعني ذلك أنه صلى ثماني ركعات على أقل تقدير ، ثم أخبر الراوي أنّ ذلك تكرر منه "مرارًا " ، على صيغة الجمع ، يعني ثلاث مرات كأقل الجمع ، فيتحصل من ذلك ؛ ثلاثة و عشرون ركعة إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أوتر في آخر دخلة ؛ منها إحدى عشرة ركعة صلاها في بيته . وأما الصحابة فصلوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتي عشرة ركعة ...
والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد عددًا بعينه ، لا يجاوزه ولا ينقص عليه ، وإنما كان ينظر إلى الوقت والحال فيصلي بما يناسبهما ، ولذلك ، فإنه لم ينقل عنه أنه أمر بعدد معيّن في صلاة الليل إلا ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين " ، أخرجه مسلم ( 768)
أو ما رواه ثوبان رضي الله عنه قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقال : إن هذا السفر جهد وثقل ، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن استيقظ وإلا كانتا له ".
رواه ابن خزيمة في صحيحه ( 1106) وغيره ، وفيه من الفقه ؛ جواز التنفل بعد الوتر. و هذا ما كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم و يطبقونه ؛
فعن قيس بن طلق قال : " زارنا أبي في يوم رمضان فأمسى عندنا وأفطر وقام بنا تلك الليلة وأوتر بنا ، ثم انحدر إلى مسجده فصلى بأصحابه حتى بقي الوتر ، ثم قدّم رجلا من أصحابه فقال : أوتر بأصحابك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا وتران في ليلة " .
أخرجه أبو داود (1439) والترمذي (470) مختصرًا وحسّنه والنسائي (1679) وابن خزيمة ( 1101) وابن حبان (2449) في صحيحيهما ورواه الضياء المقدسي في ( المختارة 166) و قال : إسناده صحيح .
فالشاهد مما تقدم ، أن السلف لم يكونوا يلاحظون في صلاة الليل عددًا ، بقدر ما كانوا يهتمون بالأوقات الفضيلة والأحايين المشهودة ، ليعمروها بالعبادة ، ويظهر هذا جليًّا في أحاديث قيام رمضان ؛
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال : " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا من الشهر شيئًا ، حتى إذا بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثم لم يقم بنا الليلة الرابعة وقام بنا التي تليها حتى ذهب نحو من شطر الليل ، قلنا : يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه ؟ قال: إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسبت له بقية ليلته . ثم لم يقم بنا السادسة وقام بنا السابعة ، وبعث إلى أهله واجتمع الناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور".
رواه ابن الجارود في ( المنتقى 403) وأبو داود ( 1375) والترمذي (806) وصححه والنسائي ( 1364) وابن ماجة ( 1327) ، ورواه ابن خزيمة ( 2205) وفيه أنه كان يقول في كل ليلة : " ما أحسب ما تطلبون إلا وراءكم " يريد ليلة القدر ، قال : " ثم قمنا ليلة سبع وعشرين إلى الصبح " .
وفي هذا من البيان ؛ أنهم كانوا يصلون في تلك الليالي صلاة مفتوحة يطلبون بها ليلة القدر ، ولم يكن غايتهم فيها عددًا ينتهون عنده . و أن صلاتهم في الليلة الثالثة كانت بلا شك أضعاف صلاتهم في الليلة الأولى ، وهذا يشبه النصّ ، خاصة إذا استحضرنا حديث أنس سالف الذكر ، وتذكّرنا أنه في هذه الليلة انتدب إليه الناس للصلاة معه ، وفيهم الضعفة والنساء .
وأنّ قوله : " إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف حسبت له بقية ليلته " ، ليس دليلاً على عدم جواز الزيادة ، بقدر ما هو إخبار عن فضل الله تعالى على عباده المؤمنين لمن أراد الإقتصاد ، ويبقى فضله ممدودًا لمن أراد الإجتهاد . ولو كانت الصلاة مكروهة أو ممنوعة لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وبيّن لهم ذلك . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه من صلى العشاء والصبح جماعة كتب له قيام ليلة ، ومع ذلك فلم يقل أحد من أهل الملة بعدم جواز الصلاة فيما بينهما .
واعلم أن الأحاديث التي ذكرت صلاة التراويح مع رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يأت في شيء منها بيان عدد الركعات التي صلاها إلا ما رُوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ثمان ركعات وأوتر . فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج فلم نزل فيه حتى أصبحنا ثم دخلنا فقلنا :يا رسول الله اجتمعنا البارحة في المسجد ورجونا أن تصلي بنا . فقال : إني خشيت أن يكتب عليكم " .
رواه ابن خزيمة ( 1070) وابن حبان ( 2409) بلفظ : " كرهت أن يكتب عليكم الوتر " ، و السياق الأول للطبراني في " الأوسط " (525) وقال : لا يروى عن جابر بن عبد الله إلا بهذا الإسناد تفرد به يعقوب وهو ثقة .اهـ
قلت : لكن قال الدارقطني في ( العلل 3/91) : ليس بالقوي .اهـ فلا يقبل تفرده ولا يحتج به ، ومع ذلك فالحديث ينفرد به أيضًا شيخه ( عيسى بن جارية ) ، قال ابن معين : عنده مناكير ، وقال النسائي: منكر الحديث ، بل و قال عنه في رواية : متروك . وقال أبو زرعة : لا بأس به .اهـ من الميزان (5/374) .
قلت : وقولهم في راوٍ " لا بأس به " لا يعني أنهم يصححون حديثه ؛ قال ابن أبي حاتم : من قيل فيه ذلك هو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية . قال ابن الصلاح : وهو كما قال ، لأن هذه العبارة لا تشعر بالضبط فيعتبر حديثه بموافقة الضابطين .اهـ من ( تدريب الراوي 1/343)
والخلاصة ؛ أن الحديث إسناده ضعيف كما قال ابن نصر في ( كتاب الوتر1/36) . فلا حجة فيه .
وبالإسناد نفسه رُوي عن جابر رضي الله عنه قال : "جاء أبي بن كعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن كان مني الليلة شيء يعني في رمضان ، قال : وما ذاك يا أبي ؟ قال : نسوة في داري قلن إنا لا نقرأ القرآن فنصلي بصلاتك ، قال : فصليت بهن ثمان ركعات ثم أوترت . قال : فكان شبه الرضا ولم يقل شيئًا " . رواه أبو يعلى ( 1801) وغيره ، ومداره كسابقه ، على ( يعقوب القمي ) عن ( عيسى بن جارية ) ، و قد تبيّن لك حالهما .
فلم يبق في الباب إذن إلا حديث عائشة رضي الله عنها الذي تقول فيه : " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة " ، وهذا الحديث فيه إجمال . ومن سياقه ، يظهر أنها كانت تصف صلاته التي كان يؤديها في بيته وفي أوقات عادية . وكما ثبت عنها غير العدد الذي ذكرتْ في هذا الحديث ، وغير الصفة التي بيّنت ، جاز أن يكون صلى بالناس بأكثر مما ذكرتْ . و انظر مثلاً حين ذكرت صلاته – صلى الله عليه و سلم – في إحدى ليالي رمضان ، فإنها لم تذكر عددًا و لكنها قالت : " فاجتمع إليه مَن في المسجد فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً طويلاً ... الحديث " . رواه الشيخان وغيرهما و السياق لأحمد .
واعلم أنّ الصلاة بأكثر من إحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان ثابت عن الصحابة رضي الله عنهم و مَنْ بَعدهم . فقد روى البيهقي في السنن الكبرى (4393) عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال : " كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ، قال : وكانوا يقرؤون بالمئتين وكانوا يتوكؤن على عصيهم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه من شدة القيام ".
وهذا سند صحيح جدًّا ، صححه أئمة منهم النووي رحمه الله في ( الخلاصة ) و ( شرح المنهاج ) وغيره . وقد اعترف الشيخ الألباني رحمه الله بذلك لكنه اعتذر عن العمل به و قال : إن له عللاً تمنع القول بصحته وتجعله ضعيفًا منكرًا ، و ذلك من وجوه ؛
الأول : أن ( ابن خصيفة ) هذا ، و إن كان ثقة ، فقد قال فيه الإمام أحمد ، في رواية عنه " منكر الحديث " ، ولهذا أورده الذهبي في ( الميزان ) ، وفي قول أحمد هذا إشارة إلى أن ( ابن خصيفة ) قد ينفرد بما لم يروه الثقات ... وهذا الأثر مداره على ( السائب بن يزيد) وقد رواه عنه ( محمد بن يوسف ) و ( ابن خصيفة ) فاختلفا عليه في العدد ، فالأول قال عنه : (11) والآخر قال : (20) . قال : والراجح قول الأول ؛ لأنه أوثق منه فقد وصفه الحافظ بأنه " ثقة ثبت" ، واقتصر في الثاني على قوله " ثقة " فهذا التفاوت من المرجحات عند التعارض ، كما لا يخفى على الخبير بهذا العلم الشريف .اهـ
و الجواب عن هذا :
أولاً : إذا كان هناك أكثر من رواية عن إمام واحد في راوٍ ، فقواعد هذا العلم الشريف تقتضي النظر في هذه الروايات والتحقيق فيها . وها أنا ذا أذكر ما ورد عن الإمام أحمد في ( ابن خصيفة ) :
قال أبو بكر الأثرم : سألت أبا عبد الله عن يزيد بن خصيفة ؟ فقال :" ثقة ثقة " اهـ من ( الجرح و التعديل 9/274) .
وقال أحمد في ( العلل و معرفة الرجال 2/490) : " ما أعلم إلا خيًرا "
وفي ( بحر الدم 1/474) : " وثقه أحمد "
وانفرد أبو عبيد الآجري برواية أبي داود عن أحمد أنه قال : " منكر الحديث " .
فالأكثر – كما ترى - والأشهر عن أحمد توثيقه والرواية الأخرى فردة ، ولذلك قال الحافظ في ( لسان الميزان 7/441) : " وثقه أبو حاتم والنسائي وابن معين وأحمد " ، و لم يعرّج على رواية الآجري ، وهذا هو مقتضى التحقيق .
ثانيًا : كون الذهبي أورده في ( الميزان ) فهذا يردّ عنه الذهبي نفسه ، حيث قال في مقدمة الميزان ( 1/2) : " وفيه – أي الكتاب – مَن تُكُلّم فيه مع ثقته وجلالته بأدنى لين وبأقل تجريح ، فلولا أنّ ابن عدي أو غيره من مؤلفي كتب الجرح ذكروا ذلك الشخص لما ذكرته لثقته ... " .اهـ
ثالثًا : قول الشيخ رحمه الله : " محمد بن يوسف أوثق منه فقد وصفه الحافظ بأنه " ثقة ثبت" ، واقتصر في الثاني على قوله " ثقة " . فهذا غير جيّد ، لأنّ الترجيح في مثل هذه المسائل لا يؤخذ من المختصرات ، بل لا بد من الرجوع فيه إلى الأصول والأمهات . ومثل هذه العبارات نسبية تتفاوت من إمام إلى آخر .
فانظر مثلاً إلى الإمام أحمد فإنه يقول في محمد بن يوسف : " ثقة " وكفى ، ولكنه يقول في يزيد بن خصيفة : " ثقة ثقة " ، وهذه رتبة أعلى من الأولى . والإمام الذهبي رحمه الله - وهو من أهل الإستقراء - يقول في ( الكاشف 2/232) عن ابن يوسف : " صدوق مُقلٌ " . وابن سعد لا يذكره في طبقاته ، وفي المقابل يقول في ابن خصيفة (1/274) : " كان عابدًا ناسكًا ثقةً كثير الحديث ثبتًا "
الوجه الثاني : قال الشيخ الألباني رحمه الله : " أنّ قوله في رواية إسماعيل بن أمية : " حسبتُ أنّ السائب قال: أحد وعشرين " دليل على اضطراب ابن خصيفة في رواية هذا العدد ، وأنه كان يرويه على الظن لا على القطع لأنه لم يكن قد حفظه جيّدًا ".اهـ
والجواب : أنّ هذا لا يضرّه ؛ فقد رواه عنه غير إسماعيل بصيغة الجزم ، ومثل هذا يحدث لكثير من المحدثين . وأحيانًا يقول الراوي ذلك من باب شدة الإحتراز و التوقي .
الوجه الثالث : قال الشيخ الألباني رحمه الله : أنّ محمد بن يوسف هو ابن أخت السائب بن يزيد ، فهو لقرابته للسائب أعرف بروايته من غيره وأحفظ ، فما رواه من العدد أولى ممّا رواه مخالفه ابن خصيفة . قال ويؤيّده أنه موافق لما روته عائشة في حديثها المتقدم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة ، وحملُ فعل عمر رضي الله عنه على موافقة سنته – صلى الله عليه و سلم – خير وأولى من حمله على مخالفتها .اهـ ( ص:51)
والجواب عن هذا من جهتين ؛
الجهة الأولى: أنّ ابن خصيفة يشترك مع محمد بن يوسف في القرابة للسائب ؛ فقد ذكر الحافظان المزي في ( تهذيب الكمال 10/195) و ابن حجر في ( تهذيب التهذيب 3/391) في ترجمة ( السائب بي يزيد ) ممن يروي عنه فقالا : " .... وابن أخته يزيد بن عبد الله بن خصيفة وجماعة " .
وقال الباجي في ( التعديل والجرح 3/1231) : " قال أبو بكر : وسمعت مصعبا يقول : هو ابن أخي السائب بن يزيد ".
وقال الذهبي رحمه الله في ( أعلام النبلاء 6/157) : " يزيد بن عبد الله بن خصيفة وخصيفة هو أخو السائب ابني يزيد بن سعيد بن أخت نمر سنان . المدني الفقيه حدث عن السائب بن يزيد وعروة بن الزبير وبسر بن سعيد ويزيد بن قسيط ".
وقال ابن سعد في ( الطبقات الكبرى 1/273 – 274) ، وكان من أعرف النّاس بأنساب المدنيين : " يزيد بن خصيفة ابن يزيد بن سعيد بن ثمامة وهو ابن أخي السائب بن يزيد وروى عن السائب بن يزيد وغيره ...".
فهما في القرابة سواء ...
والجهة الثانية : التنبيه على الخطإ الذي يقع فيه مَن يقول أن " العشرين ركعة " مخالفة لحديث عائشة رضي الله عنها ، وقد بيّنت بطلان ذلك فيما سبق ، ومن ثمَّ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه ، فقد أخطأ " .اهـ من ( مجموع الفتاوى 22/272). وكلّ الأئمة والعلماء على هذا ؛ يرون اسحباب تعمير الأوقات بالصلاة من غير توقيت ولا حدّ . قال الشوكاني رحمه الله في ( النيل 3/64) : " ... قصر الصلاة المسماة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة ".
فالوجوه التي ذكرها الشيخ الألباني رحمه الله لتوهين رواية ابن خصيفة ، ضعيفة وغير وجيهة . وإذا كان لا بد من ترجيح بين الروايتين – مع أنّ الجمع ممكن – فإنّ رواية ابن خصيفة أرجح ؛ لأنّ محمد بن يوسف منفرد برواية الإحدى عشرة ركعة ولا متابع له فيها ، بل وقد ثبت عنه مثل رواية ابن خصيفة ؛ رواها عبد الرزاق في المصنف برقم (7730) عن داود بن قيس وغيره عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد :" أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة ، يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر".
وأمّا ابن خصيفة فله ما يشهد لروايته ويقوّيها ؛ من ذلك :
ما رواه الضياء المقدسي في " المختارة " (1161) من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب : " أن عمر أمر أبيّا أن يصلي بالناس في رمضان ، فقال: إن الناس يصومون النهار ولا يحسنون أن يقرؤا ، فلو قرأت القرآن عليهم بالليل ؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن . فقال : قد علمت ولكنه أحسن . فصلى بهم عشرين ركعة ".
قال : حديث حسن .
إلاّ أنّ الشيخ الألباني رحمه الله ضعّف الحديث بأبي جعفر الرازي ، قال : " أورده الذهبي في ( الضعفاء ) ... ثم أعاده في ( الكنى ) وقال : " جرحوه كلهم " . وجزم الحافظ في ( التقريب ) بأنه " سيّء الحفظ " ...إلخ من رسالة ( التراويح ص 69) .
والجواب :
أنّ ما ذكره هو وغيره في أبي جعفر الرازي فيه شيء من الظلم والشطط . فالرجل كما قال ابن عبد البر رحمه الله : " هو عندهم ثقة ، عالم بتفسير القرآن " اهـ من ( تهذيب التهذيب 12/59) ، وقال ابن عدي في ( الكامل 5/254) : " ولأبي جعفر الرازي أحاديث صالحة مستقيمة يرويها ، وقد روى عنه الناس وأحاديثه عامتها مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به " ، وهذا هو الصواب . وقال الذهبي في ( الميزان 5/385) : " صالح الحديث " . ومَن انتقده من الأئمة إنما انتقده من قِبَل اتقانه ، وبيّنوا جهة خطئه فقالوا : " يغلط فيما يرويه عن مغيرة ".
وقد اختصر الحافظ ترجمته في ( التقريب 1/629) فقال : " صدوق سيء الحفظ خصوصًا عن مغيرة ، من كبار السابعة " ، وقوله : " خصوصًا عن مغيرة " لم يذكرها الشيخ الألباني رحمه الله و اكتفى بالشطر الأول من العبارة وهو قوله : " سيء الحفظ " فاختلّ البيان وتشوّه المعنى . فالحديث إذن لا ينزل عن درجة الحسن كما قال الضياء المقدسي رحمه الله .
ومن الشواهد التي ترجح رواية " العشرين"، الآثار الصحيحة المستفيضة عن السلف منها :
ما رواه مالك ومن طريقه البيهقي (4394) عن عن يزيد بن رومان قال : " كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة "
وما رواه البيهقي ( 7682) كذلك عن يحيى بن سعيد : " أن عمر بن الخطاب أمر رجلا يصلي بهم عشرين ركعة "
وما رواه ( 7684) أيضًا بسند صحيح عن عبد العزيز بن رفيع قال : " كان أبي بن كعب يصلي بالناس في رمضان بالمدينة عشرين ركعة ويوتر بثلاث "
فهذه الآثار – وإن كان فيها إرسال – فإنها تدلّ على ثبوت الصلاة بعشرين ركعة في عهد عمر رضي الله عنه ، وهذا يشبه التواتر ...
ومن الآثار الصحيحة عن السلف :
ما رواه البيهقي ( 4395) عن أبي الخصيب قال : " كان يؤمنا سويد بن غفلة في رمضان فيصلي خمس ترويحات عشرين ركعة "
وما رواه ابن أبي شيبة ( 7683) عن نافع بن عمر قال : " كان ابن أبي مليكة يصلي بنا في رمضان عشرين ركعة ويقرأ بسورة الملائكة في ركعة "
وما رواه كذلك ( 7688) عن عطاء قال : " أدركت الناس وهم يصلون ثلاثة وعشرين ركعة بالوتر"
فهؤلاء هم أئمة التابعين وقرّاؤهم ، وقد أخذوا الشرائع عن جِلّة الصحابة ، وهم المقتدى بهم . فهل بقي شك بعد هذا في صحة حديث " العشرين ركعة " ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإنه قد ثبت أن أبى بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة فى قيام رمضان ويوتر بثلاث ، فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة لأنه أقامه بين المهاجرين والانصار ولم ينكره منكر .
واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم . وقال طائفة : قد ثبت فى الصحيح عن عائشة أن النبى لم يكن يزيد فى رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة .
واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين .
والصواب أن ذلك جميعه حسن كما قد نص على ذلك الامام أحمد رضى الله عنه وأنه لا يتوقت فى قيام رمضان عدد ، فإن النبيّ لم يوقت فيها عددا وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره ، فإن النبيّ كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه فى الصحيح من حديث حذيفة أنه كان يقرأ فى الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات . وأبيّ بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضا عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعا وثلاثين " .اهـ من ( مجموع الفتاوى 23/112 و 113)
وتأمل هداك الله قوله رحمه الله : " واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين " ، وقد بيّنت ولله المنة بالدليل أن لا تعارض بينهما ، و أنّ منشأ هذا الوهم إنما هو عدم استيعاب ما ورد من الأفعال والأقوال .
وقال الحافظ العراقي في ( طرح التثريب ) : " وبهذا أخذ أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد والجمهور. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر وعلي وأبي وشكيل بن شكل وابن أبي مليكة والحارث الهمداني وأبي البختري . قال ابن عبد البر : وهو قول جمهور العلماء وهو الاختيار عندنا انتهى وعدوا ما وقع في زمن عمر رضي الله عنه كالإجماع ".اهـ
ومما سبق نخلص إلى أنّ صلاة الليل نافلة مطلقة ، سواء كانت تهجداً أو وترًا أو صلاة تراويح ، ليس لها عدد تقف عنده و لا يمنع منها إلا دخول الفجر أو إرادة المتعبد .
فإذا عرفت هذا تبيّن لك مجازفة الأصوات التي تتعالى في شهر رمضان من كل عام ، لمنع الناس من الزيادة على الإحدى عشرة ركعة التي تصلى في التراويح وحرمان الخلق من الخير في مواسم الخير.
وقد مر حديث قيس بن طلق قال : " زارنا أبي في يوم رمضان فأمسى عندنا وأفطر وقام بنا تلك الليلة وأوتر بنا ، ثم انحدر إلى مسجده فصلى بأصحابه حتى بقي الوتر ، ثم قدّم رجلا من أصحابه فقال : أوتر بأصحابك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا وتران في ليلة " .
وقال ابن قدامة في (المغني 1/457) : " فأما التعقيب ؛ وهو أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة ، أو يصلي التراويح في جماعة أخرى . فعن أحمد : أنه لا بأس به ؛ لأن أنس بن مالك قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه ، أو لشر يحذرونه . وكان لا يرى به بأسا . ونقل محمد بن الحكم عنه الكراهة ، إلا أنه قول قديم ، والعمل على ما رواه الجماعة . وقال أبو بكر : الصلاة إلى نصف الليل ، أو إلى آخره ، لم تكره رواية واحدة . وإنما الخلاف فيما إذا رجعوا قبل النوم , والصحيح أنه لا يكره ؛ لأنه خير وطاعة ، فلم يكره كما لو أخره إلى آخر الليل ".اهـ
وقال النووي رحمه الله في ( المجموع شرح المهذب ) : " إذا استحببنا الجماعة في التراويح استحبت الجماعة أيضا في الوتر بعدها باتفاق الأصحاب ، فإن كان له تهجد لم يوتر معهم بل يؤخره إلى آخر الليل كما سبق ، فإن أراد الصلاة معهم صلى نافلة مطلقة وأوتر آخر الليل ".اهـ
وقال الحافظ العراقي في ( طرح التثريب ) : " ولما ولي والدي رحمه الله إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم القديمة في ذلك مع مراعاة ما عليه الأكثر فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين واستمر على ذلك عمل أهل المدينة بعده فهم عليه إلى الآن ".اهـ
وقال ابن الحاج في ( المدخل ) - وقد ذكر ما كان عليه السلف من إحياء ليالي رمضان بالصلاة -: " وإذا كان ذلك كذلك فيتعين على المكلف اليوم أن لا يخلي نفسه من هذه السنة البتة بل يفعلها في المسجد مع الناس على ما هم يفعلون اليوم من التخفيف فيها فإذا فرغوا ورجع إلى بيته فينبغي له أن يغتنم بركة اتباعهم في قيام الليل إلى آخره إن أمكنه ذلك فيصلي في بيته بمن تيسر معه من أهله أو وحده فتحصل الفضيلة الكاملة إن شاء الله تعالى ، ويكون وتره آخر تنفله اقتداء بهم ".اهـ
فليتق الله هؤلاء الذين يقفون في وجوه الناس ليصدوهم عن التهجد بعد التراويح ، وخاصة في الليالي العشر الأخيرة . وليعلموا أنّ تصرفهم هذا مخالف لهدي السلف وصريح السنة . وقد بيّنت بما فيه كفاية ما كان عليه القوم من الإجتهاد و التحاظّ على الإكثار من الصلاة والطاعة . ولم يؤثَر عن أحد منهم أنه منع الناس من الخير والصلاة . أسأل الله تعالى أن ييسر لنا الحق ويوفقنا إلى العمل به ، ويرزقنا سلامة القلوب ونور البصيرة ، و الحمد لله رب العالمين وصلى الله و سلم على محمد وآله وصحبه أجمعين .
وكتب : أبو محمد عبد الوهاب مهية
هذا ما أردت نقله.
_________________ وصلى الله على النور الذاتي والسر الساري في سائر الأسماء والصفات وعلى آله وصحبه وسلم.
|