[align=center][font=Tahoma] [ تابع ][/font][/align]
[font=Tahoma][align=justify]قال الغزالي في جواهر القرآن: مقاصد القرآن ستة, سادسها: تعريف منازل الطريق, وإليه الإشارة بقوله في الفاتحة: (إياك نعبد وإياك نستعين).
وقال الطيبي في حاشية الكشاف: العلوم التي هي مناط الدين أربعة, كلها في الفاتحة: علم الأصول وعلم الفروع وعلم القصص وعلم ما يحصل به الكمال, وهو علم الأخلاق, وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية, والالتجاء إلى جنات الفردانية, والسلوك لطريقه, والإستقامة فيها, وإليه الإشارة بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين* اهدنا الصراط المستقيم}.
ويؤخذ من بقية السورة بطريق الإشارة أن ثم طرقا أخرى متشعبة, خارجة عن سنن الاستقامة, فليحذر منها, وهي طريق {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}.
قال ابن القاص ـ من كبار أصحابنا ـ في كتابه "التلخيص" في الفقه, لما عد خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الواجبة عليه دون سائر الأمة: منها أنه صلى الله عليه وسلم كان مطالبا برؤية مشاهدة الحق مع معاشرة الناس بالنفس والكلام.
وذكر هذه الخصيصة أيضا القضاعي في سيرته وابن سبع في خصائصه, وحمل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله".
وقد ذكر هذه الخصيصة أيضا ابن الملقن في الخصائص. وقال البيهقي في شعب الإيمان: ذكر بعض أهل العلم أن الغين شيء يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية, ويحجبه عما يشاهده, وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهوى, ولا يكاد يحجب عين الشمس, ولا يمنع ضوءها, والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يغشى قلبه ما هذه صفته, وذكر أنه يستغفر الله منه كل يوم مئة مرة.
ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ـ يعني شيخه الحاكم صاحب المستدرك ـ قال: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان ـ يعني الصعلوكي أحد أئمة الشافعية, وهو المبعوث على رأس المئة الرابعة فيما ذكر الأصحاب, يقول: قوله "ليغان على قلبي" له تأويلات. أحدها يختص به أهل الإشارة, وهو حملهم إياه على غشية السكرة, التي هي الصحو في الحقيقة ومعنى الاستغفار عقبها: على التحسر للكشف عنها. وأهل الظاهر يحملونها على الخطرات العارضة للقلب, والطلبات الواردة عليه, الشاغلة له بهذه الغشية الملابسة.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: سمعت هذا الحديث فأشكل علي معناه, فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: يا مبارك ذاك غين أنوار, ولا غين أغيار.
قال شارح منازل السائرين: حقيقة الشيء عند أهل الشأن علاماته الدالة عليه, ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لحارثة رضي الله عنه: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال: إن لكل قول حقيقة, فما حقيقة إيمانك؟ فقال: (عزفت نفسي عن الدنيا.. ) الحديث . فأخبره بعلامات صحة الإيمان.
ويظهر لي أن أهل هذا الشأن إنما سموا علمهم علم الحقيقة أخذا من لفظ الحقيقة في هذا الحديث, وقد ظهر لي أن نسبة علم الحقيقة إلى علم الشريعة كنسبة علم المعاني والبيان إلى علم النحو, فهو سره ومبني عليه فمن أراد الخوض في علم الحقيقة من غير أن يعلم الشريعة فهو من الجاهلين, ولا يحصل على شيء, كما أن من أراد الخوض في أسرار علم المعاني والبيان من غير أن يحكم النحو فهو يخبط خبط عشواء, وكيف يدرك أحوال الإسناد والمسند إليه والمسند ومتعلقات الفعل من لم يعرف المبتدأ من الخبر, والفاعل من المفعول؟ هذا بين لكل أحد. والحقيقة سر الشريعة ولبها الخالص, كما أن المعاني والبيان سر النحو ولطائفه.
والتصوف فقه بلا شك, فإن أكثره تكاليف واجبة ومندوبة, ومنها محرمة ومكروهة. وقد نص على أن أبواب التصوف من الفقه جماعة من أهل الأصول حيث ذكروا حد الفقه, ووافقهم ابن السبكي في جمع الجوامع, وضم إليه مسائل أصول الدين التي يجب اعتقادها, فقال: إنها عندي فقه.
واعلم أن دقائق علم التصوف لو عرضت معانيها على الفقهاء, بالعبارة التي ألفوها في علومهم لاستحسنوها كل الاستحسان وكانوا أول قائل بها, وإنما ينفرهم منها إيرادها بعبارة مستغربة لم يألفوها, ولهذا قال بعضهم: الحقيقة أحسن ما تعلم, وأقبح ما يقال. وأنا أورد لك مثالا تعرف (منه) صحة ذلك.
قال في منازل السائرين: حقيقة التوبة ثلاثة أشياء: تمييز الثقة من العزة, ونسيان الجناية, والتوبة من التوبة أبدا. فإذا سمع الفقيه هذا اللفظ, وهو "التوبة من التوبة" استغربه جدا, وقال: كيف يتاب من التوبة, وهي عمل صالح, وإنما يتاب من المعاصي.
وتقرير معناه: أن العبد إذا كمل في رجوعه إلى الله لم يلتفت إلى أعماله, ولم يسكن إليها بقلبه, توبة كانت أو غيرها, فيتوب من سكونه إلى توبته.
ويزاد إيضاحا أن التوبة وإن كانت من كسب العبد فهي من خلق الله وتوفيقه, فهو التائب عليه, ولو لم يتب عليه لما تاب, قال تعالى: {ثم تاب عليهم ليتوبوا} فأي صنع للعبد في التوبة أو غيرها, وهو الذي وفقه الله لفعلها؟ فرؤية العبد التوبة من نفسه ذنبه يستغفر منه, بل عليه أن يشهد محض منة الله عليه بها, وتوفيقه لها, ويلغي نفسه أصلا عن درجة الاعتبار. وهذا مقام الفناء في التوبة, وهي أول منازل السائرين, ويقاس به مقام الفناء في التوحيد, فلا يشهد في توحيده صنعا, بل محض منة الله عليه به, وتوفيقه.
وهذا المعنى إذا عرض على الفقيه بهذه العبارة المألوفة كان أول قائل به وناصر له, لأن الفقيه السني يقاتل على إثبات الأفعال لله ونفيها عن العبد, مخالفة للمعتزلة والقدرية ونحوهم, ممن زعم أن العبد يخلق أفعاله, وأن الانتقال مخالفة.
كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يقول: إذا عرضت لكم إلى الله حاجة فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد الغزالي. وكان يقول: كتاب الإحياء يورثك العلم, كتاب القوت يورثك النور. وكان يقول: عليكم بالقوت فإنه قوت. وكان يعظم الإمام أبا عبد الله محمد بن علي الترمذي, ويقول: انه أحد الأوتاد الأربعة وكان لكلامه عنده الحظوة التامة.
وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قول العلماء في الإحياء لما ذكر معرفة الله تعالى والعلم به, قال: والرتبة العليا في ذلك للأنبياء ثم الأولياء العارفين ثم العلماء الراسخين, ثم الصالحين.
فقدم الأولياء على العلماء, وفضلهم عليهم.
وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته: أما بعد, فقد جعل الله سبحانه هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة بعد رسله وأنبيائه.
فهذا كنحو قول أبي حامد.
وهل هذا المذهب صحيح أم لا؟ فإن بعض الناس قال: لا يفضل الولي على العالم, لأن تفضيل الشخص على الآخر إنما هو برفع درجته لكثرة ثوابه المرتب على عمله, فلا فضل إلا بتفاوت الأعمال, وقد ثبت أن العلم أفضل من العمل, لأنه متعد, والعمل قاصر, والمتعدي خير من القاصر, وثوابه أكثر, فصاحبه أفضل.
قال هذا القائل: وأما تخصيص الله سبحانه وتعالى من شاء بشيء من المنح والمواهب فليس ذلك برفع درجته له بمجرده, ولا يفضل ذلك على غيره وإنما فضل الشيء غيره بكثرة ثوابه المرتب على أعماله الشاقة التي كلف القيام بها. ولو تجردت عن التكاليف لم يفضل بذلك غيره. فما حكم هذا الكلام؟
فأجاب الشيخ عز الدين بقوله: "أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الشرع فقول الأستاذ وأبي حامد فيه متفق, ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال وبما يستحيل عليه من العيب والنقصان أفضل من العارفين بالأحكام, بل العارفون بالله أفضل من أهل الفروع والأصول, لأن العلم يشرف بشرف المعلوم وبثمراته, فالعلم بالله وصفاته أشرف من العلم بكل معلوم, من جهة أن متعلقه أشرف المعلومات وأكملها, ولأن ثماره أفضل الثمرات, فإن معرفة كل صفة من الصفات توجب حالا عليه, وينشأ عن تلك الحال ملابسة أخلاق سنية ومجانبة أخلاق دنية. فمن عرف سعة الرحمة أثمرت معرفته سعة الرجاء, ومن عرف شدة النقمة أثمرت معرفته شدة الخوف, وأثمر خوفه الكف عن الإثم والعصيان والفسوق, مع البكاء والأحزان والورع وحسن الانقياد والإذعان. ومن عرف أن جميع النعمة منه أحبه, وأثمرت المحبة آثارها المعروفة, وكذلك من عرف تفرده بالنفع والضر لم يعتمد إلا عليه ولم يفوض إلا إليه, ومن عرفه بالعظمة والإجلال هابه وعامله معاملة الهائبين من الانقياد والتذليل وغيرهما. فهذه بعض ثمار معرفة الصفات.
ولا شك أن معرفة الأحكام لا تورث شيئا من هذه الأحوال, ولا من هذه الأقوال والأعمال, ويدل على ذلك الوقوع, فإن الفسوق فاش في كثير من علماء الأحكام, بل أكثرهم مجانبون الطاعة والاستقامة. بل قد اشتغل كثير منهم بأقوال الفلاسفة في النبوات والإلهيات, فمنهم من خرج عن الدين, ومنهم من شك, فتارة تترجح عنده الصحة, وتارة يترجح عنده البطلان (فهم في ريبهم يترددون).
والفرق بين المتكلمين من الأصوليين وبين العارفين أن المتكلم نقيت عنه علومه بالذات والصفات في أكثر الأوقات, ولا تدوم له تلك الأحوال, ولو دامت لكان من العارفين, لأنه شاركهم في دوام العرفان الموجب للأحوال الموجبة للاستقامة. وكيف يساوى بين العارفين وبين الفقهاء, والعارفون أفضل الخلق وأتقاهم لله, والله سبحانه وتعالى يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ومدحه في كتابه المبين أكرم مدحه للعالمين. وأما قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فإنما أراد العارفين به وبصفاته وأفعاله دون العارفين بأحكامه, لا يجوز حمل ذلك على علماء الأحكام, لأن الغالب عليهم عدم الخشية, وخبر الله تعالى صدق, فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه.
وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ترجمان القرآن.
ثم نقول: إن العلماء بالأحكام أقسام.
أحدها: من تعلم لغير الله, وعلم لغير الله. فعلم هذا وتعليمه وبال عليه.
والثاني: من تعلم لغير الله, وعلم لله, فهذا ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. ولا أدري: هل يقوم إحسانه بإساءته أم لا؟
الثالث: من تعلم لله وعلم لغير الله. فهذا كالأول أو اشد إثما منه.
الرابع: من تعلم لله, وعلم لله. وهو ضربان:
أحدهما: أن لا يعمل بعلمه, فهذا شقي لا يفضل على أحد من أولياء الله تعالى.
وان عمل بعلمه, فإن كان عالما بالله تعالى وبأحكامه فهذا من السعداء, وإن كان من أهل الأحوال العارفين بالله فهذا من أفضل العارفين, إذ حاز ما حازوه, وفضل عليهم بمعرفة الأحكام وتعليم أهل الإسلام.
وأما قول من يقول: العمل المتعدي خير من العمل القاصر فإنه جاهل بأحكام الله تعالى, بل للعمل القاصر أحوال:
إحداهن أن يكون أفضل من المتعدي كالتوحيد والإسلام والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وكذلك الدعائم الخمس إلا الزكاة, وكذلك التسبيح عقيب الصلاة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قّدمه على التصدق بفضول الأموال, وهو متعد, وقال: "اقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا" وقال: "خير أعمالكم الصلاة".
وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله" قيل: ثم ماذا؟ قال:"حج مبرور". فهذه كلها أعمال قاصرة وردت الشريعة بتفضيلها.
القسم الثاني: ما تكون متعدية, كبر الوالدين, إذ سئل صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ فقال: "بر الوالدين".
وليست الصلاة بأفضل من كل عمل متعد, فلو رأى المصلي غريقا يقدر على إنقاذه, أو مؤمنا يقتل ظلما, أو امرأة يزنى بها, أو صبيا يؤتى منه الفاحشة, وقدر على التخليص والإنقاذ لزمه ذلك مع ضيق الوقت, لان رتبته عند الله أفضل من رتبة الصلاة, والصلاة أن قيل ببطلانها أمكن تداركها بالقضاء.
فهذان القسمان مبنيان على رجحان مصالح الأعمال فإن كانت مصلحة القاصر أرجح من مصلحة المتعدي فالقاصر أفضل من المتعدي, وإن كانت مصلحة المتعدي أرجح قدمت على القاصر. فتارة نقف على الرجحان فنقدم الراجح, وتارة ينص الشرع على تفضيل أحد العملين فنقدمه وإن لم نقف على رجحانه, وتارة لا نقف على الرجحان ولا نجد نصا يدل على التفضيل فليس لنا أن نجعل القاصر أفضل من المتعدي, ولا أن نجعل المتعدي أفضل من القاصر لأن ذلك موقوف على الأدلة الشرعية, فإذا لم يظهر شيء من الأدلة الشرعية لم يجز أن نقول على الله ما لا نعلمه أو نظنه بدلالة شرعية.
فائدة:
إذا استوى الناس في المعارف بحيث لا يفضل بعضهم على بعض في ذلك, فلا فضل لبعضهم على بعض إلا بتوالي العرفان واستمراره, لأن توالي ذلك شرف, فقد فات البعض وفاز به البعض.
وكذلك لا تدوم الأحوال الناشئة عن هذه المعارف إلا بدوام المعارف, ولا تدوم الطاعات الناشئة عن الأحوال إلا بدوام الأحوال, فإذا دام صلاح القلب بدوام المعارف والأحوال دام صلاح الجسد بحسن الأقوال واستقامة الأعمال, وإذا غلبت الغفلة على القلب فسدت الأحوال الناشئة عن المعارف, ففسد القلب بذلك وفسدت بفساده الأقوال والأعمال.
والمعارف رتب في الفضل والشرف, يترتب فضل الأحوال الناشئة عنها على رتبها في الفضل والكمال, وكذلك ما يترتب عليها من الأقوال والأعمال.
والحال الناشئة عن معرفة الجلال والكمال ينشأ عنها أعظم الأعمال, وهو التعظيم والإجلال.
وملاحظة شدة الانتقام ينشأ عنها أفضل الأعمال, وهو التعظيم والخوف.
وملاحظة سعة الرحمة ينشأ عنها الطمع والرجاء.
وملاحظة التوحيد بالنفع والضر ينشأ عنها التوكل على الله في جميع الأحوال.
فالهائب أفضل من المحب, والمحب أفضل من المتوكل, والمتوكل أفضل من الخائف, والخائف أفضل من الراجي, فهذه من أوصاف العارفين بالله.
ومما يدل على فضلهم على الفقهاء ما يجريه الله تعالى عليهم من الكرامات الخارقة للعادات, ولا يجري شيء من ذلك على يد الفقهاء إلا أن يسلكوا طريق العارفين ويتصفوا بأوصافهم, و"ما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بصوم ولا صلاة, ولكن بشيء وقر في صدره".
ولا يصح قول من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فضل بأعماله الشاقة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل بتكليم الله إياه, تارة على لسان جبريل. وتارة من غير واسطة. وكذلك فضل بالمعارف والأحوال. ولقد قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله, وأشدكم لله خشية".
وكذلك لما احتقر بعضهم قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيامه وصلاته إلى صلاته أنكر ذلك صلى الله عليه وسلم.
فذكر أن تفضيله عليهم إنما كان بمعرفته بالله تعالى, وهذا أكثر جهات تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا مشقة عليه فيها.
وكيف لا يكون ذلك والله تعالى يقول لموسى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي).
وكيف يفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعماله الشاقة مع أنه لا نسبة لأعماله وصبره وتأذيه تقوم بأعمال نوح وصبره وتأذيه من قومه.
وما أسرع الناس بأن يقولوا ما ليس لهم به علم, ولو أنهم سألوا إذا جهلوا لكان خيرا لهم.
قال أبو طالب المكي في قوت القلوب: اعلم أن العبد إذا كان يذكر الله تعالى بالمعرفة وعلم اليقين لم يسعه تقليد أحد من العلماء, وكذلك كان المتقدمون إذا افتتحوا هذا المقام خالفوا من حملوا عنه العلم لمزيد اليقين والإفهام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس أحد إلا يأخذ من قوله ويترك ألا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان (ابن عباس رضي الله عنهما) تعلم من زيد بن ثابت الفقه, وقرأ على أبي بن كعب, ثم خالف زيداً في الفقه, وأبيا في القراءة.
وقال بعض الفقهاء من السلف: ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعين, وما جاءنا عن الصحابة فنأخذ منه ونترك. وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال. قالوا, ونقول, ولأجل ذلك كان الفقهاء يكرهون التقليد, ويقولون: لا ينبغي للرجل أن يفتي حتى يعرف اختلاف العلماء فيختار منها الأحوط للدين والأقوى لليقين, فلو كانوا يحبون أن يفتي العالم بمذهب غيره لم يحتج أن يعرف الاختلاف, ولكان إذا عرف مذهب صاحبه كفاه.
ومن ثم قيل: إن العبد يسأل غدا فيقال له: ماذا علمت فيما علمت؟ ولا يقال له: فيما علم غيرك. وقال تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم ولإيمان} فقرن بينهما, فدل على انه من أوتي إيمان ويقينا أوتي علما, كما أن من أوتي علما نافعا أوتي إيمانا. وهذا أحد الوجوه في معنى قوله تعالى: {كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} أي قواهم بعلم الإيمان, فعلم الإيمان هو روحه, وتكون الهاء عائدة على الإيمان.
وكذا العالم الذي هو من أهل الاستنباط والاستدلال في الكتاب والسنة ومعرفة أداء الصنعة وآلة الصنع لأنه ذو تمييز وبصيرة, ومن أهل التدبر والعبرة.
ثم قال: وقد كان من هدي أهل العلم في قعودهم أن يجتمع أحدهم في قعوده, وينصب ركبتيه, ومنهم من كان يقعد على قدميه ويضع مرفقيه على ركبتيه. كذلك كانت شمائل كل من تكلم في هذا العلم إلى وقت أبي القاسم الجنيد ولذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقعد القرفصاء ويحتبي بيديه.
وأول من قعد على كرسي يحيى بن معاذ الرازي, وفي زمن الجنيد أبو حمزة البغدادي, فعاب الأشياخ ذلك عليه, ولم يكن ذلك سيرة العارفين الذين يتكلمون في علم المعرفة واليقين, إنما كان جلوسهم الاحتباء, وإنما يجلس متربعا النحاة وأهل اللغة وأبناء الدنيا من علماء المفتين, وهي جلسة المتكبرين, ومن التواضع الاجتماع في الجلسة.
ثم قال: وأصول مقامات اليقين تسعة : التوبة, والصبر, والشكر, والرجاء, والخوف, والزهد, والتوكل, والرضى, والمحبة. هذا آخر ما لخصته من كتاب القوت.
وقال صاحب التعرف في خطبته مشيراً إلى هذه الطائفة:
جعل الله فيهم صفوة وأخيارا, ونجباء أبرارا, سبقت لهم منه الحسنى, وألزمهم كلمة التقوى, وعزف بنفوسهم عن الدنيا, وصدقت مجاهداتهم فنالوا علوم الدراسة, وخلصت عليها معاملاتهم فمنحوا علوم الوراثة, وصفت أسرارهم فأكرموا بصدق الفراسة, ثبتت أقدامهم وزكت أفهامهم , ونارت أعلامهم. فهموا عن الله, وساروا إلى الله, وأعرضوا عما سوى الله. خرق الحجب أنوارهم. جالت حول العرش أسرارهم, وجلت عند ذي العرش أخطارهم, وعميت عما دون العرش أبصارهم. أجسام روحانيون, وفي الأرض سماويون, ومع الخلق ربانيون, سكوت نُظّار, غيب حضُار, ملوك تحت أطمار, نزّاع قبائل, وأصحاب فضائل, وأنوار دلائل, آذانهم واعية, وأسرارهم صافية, ونعوتهم خافية, صفوة صوفية, نورية صفية, ودائع الله بين خليقته, وصفوته في بريّته, ووصاياه لنبيه, وخباياه عند صفيّه, هم في حياته أهل صفّته, وبعد وفاته خيار أمّته, لم يزل يدعو الأول الثاني, والسابق التالي, بلسان فعله, أغناه ذلك عن قوله, حتى قل الرغب, وفقد الطلب, فصار الحال أجوبة ومسائل, وكتبا ورسائل, فالمعاني لأربابها قريبة, والصدور لفهمها رحيبة, إلى أن ذهب المعنى, وبقي الاسم, وغابت الحقيقة, وحصل الرسم المفرد[/align][/font]
[align=center][font=Tahoma]أمّا الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحيّ غير نسائها[/font][/align]
[align=justify][font=Tahoma]فصار التحقيق حلية, والتصديق زينة, وادّعاه من لم يعرفه, وحلي به من لم يصفه, وأنكره بفعله من أقر به بلسانه, وكتمه بصدقه من أظهره ببيانه, وأدخل فيه ما ليس منه, ونسب إليه ما ليس فيه, فجعل حقه باطلا, وسمي عالمه جاهلا, وانفرد المتحقق به ضنّا به, وسكت الواصف له غيرةً عليه, فنفرت القلوب منه, وانصرفت النفوس عنه, وذهب العلم وأهله والبيان وفعله.
يتبع إن شاء الله[/font][/align]
_________________ رضينا يا بني الزهرا رضينا بحبٍ فيكمو يرضي نبينــــا
يا رب
إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِــــنٌ فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ
|