موقع د. محمود صبيح

باب في الحمل به عليه الصلاة والسلام
وما وجد عند ذلك من الآيات العظام

لما أراد الله تعالى أن يظهر خيرته من خلقه وصفوته من جميع عباده وأن ينير الأرض بعد ظلامها وأن يغسلها من دنسها وآثامها وأن يزيل طواغيتها وأصنامها ، أمر الله سبحانه وتعالى ملائكته الكرام أن يخبروا بشأنه ويبشروا بمولده وقرب أوانه ، فنادى طاووس الملائكة في السموات وعند حملة العرش وفي الرفيع الأعلى وعند سدرة المنتهى وعند جنة المأوى : ألا إن الله عز وجل قد تمت كلمته ونفذت مشيئته وآن أوان وعده الذي وعد به عباده من إظهار النبي الكريم والرسول العظيم البشير النذير والسراج المنير والشفيع المشفع في اليوم العسير ، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله وهو صاحب الديانة والأمانة والرسالة والصيانة والمجاهد في سبيل الله حق جهاده وخيرة الله من خلقه وعباده ونوره اللائح في أرضه وبلاده من ختم الله به النبيين وتمم به المرسلين وجعله رحمة للعالمين وسماه أحمد ومحمداً وطه ويس وأعطاه الشفاعة في المذنبين ونسخ بشريعته ودينه كل دين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .

وقد آن أن ينزل من صلب أبيه إلى أمه ، وهو الذي عرض عليكم من قبل خلق آدم عليه السلام ، فضجت الملائكة بالتسبيح والتهليل والتقديس والتحميد والتكبير والثناء لله الملك الجليل ، وفتحت أبواب الجنان وغلقت أبواب النيران وأزهرت أشجار الجنة وأثمرت وتعطرت الحور وتزينت الولدان ، وتدفقت الأنهار بالخمور والأعسال والألبان ، وترنمت الأطيار وتكلمت باللغات على الأغصان موحدة بتقديس الرحمن ، وضجت بالاستبشار فرحاً بظهور محمد المختار صلى الله عليه وسلم ما دام الليل والنهار ، ورفعت لهم الحجب والأستار وتجلى لهم علام الغيوب ومكور الليل على النهار ، فلما فرغ جبريل من أهل السماء أمره الله أن ينزل إلى الأرض في مائة ألف من الملائكة يتفرقون في الأرض وعلى الجبال والجزائر والبحار وسائر الأقطار حتى يبشروا أهل الأرض السابعة ومستقر الحوت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن علم الله منه القبول جعله طاهراً زكياً ببركة سيد الأكوان وحبيب الرحمن .

فلما آن وفاء عهده طلع في الأكوان طالع سعده ، نشر علم الفتوة لظهور خاتم النبوة ، شخصت لعبد الله الأبصار وأشرقت عليه الأنوار ، ألبس ثوب الملاحة نطق بالبيان والفصاحة ، ناداه لسان المشيئة يا عبد الله ما يصلح كنزاً لما حملت من الوديعة التي خرجت من خزائن الأصلاب الرفيعة إلا كنز أحشاء آمنة المنيعة المطهرة من الدنس والأكدار سيدة نساء بني النجار ، ثم خرج عبد الله إلى بعض شعاب مكة فنظر بين يديه نهراً من ماء أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج لم يكن لعهده قبل ذلك ، وإذا هاتف يقول له : يا عبد الله اشرب من هذا النهر واغتسل وواقع زوجتك فإنها تحمل بأكرم الخلق وسيد الأولين والآخرين ، فاغتسل وشرب منه فلما فرغ عادت الأرض يابسة وغار الماء فأسرع عبد الله إلى منزله فنظر إلى الجبال قد تطاولت ونارت أقطار الأرض وأشرقت وخاطبه الحجر والمدر والشجر وقالوا : أيها العبد الكريم أسرع إلى زوجتك آمنة فواقعها فقد آن أوان ظهور سيد الأنام ومصباح الظلام ، وكان سن عبد الله يومئذ ثلاثين سنة .

قال ابن اسحق : فمر عبد الله على إمرأة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مرة وكانت أجمل النساء وأعفها وقد قرأت الكتب وسمعت أنه كائن في هذه الأمة نبي وأن من دلائله أن يكون نور في وجه أبيه وعلمت باليوم الذي تحمله أمه فيه ، فلما رأت نور النبوة في غرة عبد الله قالت له : يا فتى من أنت ؟ قال : أنا عبد الله بن عبد المطلب ، وقد علمت أن الذي يشرق في جبينه هو نور عروس يوم القيامة فأرادت أن تكون منه قريباً لتنال منه حظاً ونصيباً فأبذلت إليه ما حوت يدها من المال ليجود لها بالوصال وقالت : هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل مثل التي نحرت عنك ؟ ورجت بذلك أن تحمل بهذا النبي الكريم وطمعت أن يكون ذلك النبي منها ، فأعرض وقال : نحن قوم لا نركن إلى ضلال ولا نودع هذا السر إلا في المطهرات من النساء ليصل إلى المطهرين من الرجال ، ولسان حاله يقول :

والحل لا حل فاستبينه

يحمي الكريم عرضه ودينه

ثم مضى عبد الله إلى زوجته آمنة فوجدها قد تطهرت وتزينت فواقعها في شعب أبي طالب عند الحرة الوسطى فحملت بمحمد صلى الله عليه وسلم من ساعتها وانتقل ذلك النور الذي كان معه إليها فزادت به آمنة حسناً وجمالاً وكمالاً ، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه قبل ذلك فقال لها : ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت علي بالأمس ؟! قالت : من ، من أنت ؟ قال : أنا عبد الله ، قالت له : ما أنت هو ولا حاجة لي فيك اليوم إنك مررت وبين عينيك نور ساطع إلى السماء ما أراه الآن ، ما صنعت بعدي ؟ قال : وقعت على زوجتي آمنة بنت وهب وقد انتقل النور مني إلى جبهتها ، فقالت : والله إني لست بصاحبة ريبة ولكني رأيت نور النبوة في وجهك فأردت أن يكون ذلك النور في وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد ، اذهب فاخبر آمنة أنها حملت بخير أهل الأرض .

فما زلت منحدراً ترتقي

ولما انتقل النور من عبد الله إلى آمنة آمنت به من المخاوف الكامنة ، وظهر لحمله عجائب ووجد لإيجاده غرائب ، وظهرت لانتقال نوره الآيات وتباشرت به جميع المخلوقات ونودي في جميع أقطار الأرض والسموات بمنادي القدرة بسائر اللغات : لكم الأمان والبشارات فقد آن أوان ظهور سيد السادات ومعدن السعادات صاحب البركة والكرامات والدلائل والمعجزات ، وذكروا أنه لما استقرت نطفته الزكية ودرته المحمدية في صدفة آمنة القرشية ، نودي في الملكوت ومعالم الجبروت : أن عطروا جوامع القدس الأسنى وبخروا جهات الشرف الأعلى ، وافرشوا سجادات العبادات في صفف الصفا لصوفية الملائكة المقربين أهل الصدق والصفا ، يا عرش تبرقع بالوقار ويا كرسي تدرع بالافتخار ، يا سدرة المنتهى ابتهجي يا أنوار المهابة تبلجي وبالأنوار تمنطقي وبالعرش حفي ، يا رضوان افتح أبواب الجنان وزين الحور والولدان واطلق مباخر الطيب والند وعطر الأكوان ، يا مالك أغلق النيران ، يا جبريل صفد كل مارد وشيطان وناد بأعلى صوتك الأمان الأمان من كل شدة وخوف ووجل فإن النور المكنون والسر المصون المخزون الذي منه النبي الهادي يكون ، وقد كان في قدرة الله من الأزل في هذه الليلة من عبد الله قد انفصل وإلى بطن أمه الوهبية قد اتصل وإلى أحشائها في هذه الساعة قد انتقل التي يتم فيها خلقه تماماً جلياً ويخرج إلى الناس بشراً سوياً قد خصها الله تعالى القريب المجيب بهذا السيد المصطفى الحبيب لأنها أفضل قومها حسباً وأنجب وأزكاهم أصلاً وفرعاً وأطيب ، فيا طوبى لها ثم طوبى لها .

وقال كعب الأحبار وغيره : لما أراد الله تعالى خلق محمد صلى الله عليه وسلم في بطن أمه آمنة اهتزت الملائكة فرحاً وأمر الله تعالى في تلك الليلة رضوان خازن الجنان أن يفتح الفردوس ونادى مناد في السموات وصفاحها والأرض وبطاحها : ألا إن النور المخزون والسر المصون الذي يكون منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة يستقر في بطن أمه آمنة ذات العقل الباهر والفخر المصون الذي فيه يتم خلقه ويخرج إلى الناس بشيراً ونذيراً ، ولم يبق في تلك الليلة دار إلا أضاءت ولا مكان إلا دخله النور ..

قال ابن عباس : وكان من دلائل حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة وقالت : حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة وهو أمان الدنيا وسراج أهلها ، حكي أنه كان عند أبي جهل لعنه الله دواب فوضع لهم علفهم على عادته فلم يأكلوا شيئاً فقال لهم : لما لا تأكلون ؟ فأنطقهم الله الذي أنطق كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون وقالوا له : أنت غافل عما جرى والله لقد حملت آمنة بمحمد خير الورى في هذه الليلة ، ولم تبق كاهنة في قريش ولا في قبيلة من قبائل العرب إلا علمت بحمله وحجبت عن صاحبتها وانتزع علم الكهنة منها ، ومرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات وكذلك حيتان البحار يبشر بعضها بعضاً ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً قد صار أعلاه أسفله وأصبح كل ملك أخرس عابس النفس سيء الخلق لا ينطق يومه ذلك ولا يتكلم بشيء وأصبح عرش إبليس لعنه الله منكوساً والملك على رأسه يغطسه في مضيق البحار أربعين صباحاً حتى انقلب أسود محترقاً ثم أدبر إبليس هارباً على وجهه حتى وصل إلى جبل أبي قبيس فصاح صيحة عظيمة ورن رنة جسيمة فاجتمعت عليه الشياطين من كل جانب ومكان فقالوا : ما الخبر ؟ وما الذي نزل بك ؟ وما الذي دهاك ؟ فقال : ويلكم قد جاءت دولة السفاك الهتاك الذي تقاتل معه الأفلاك وهو محمد قد استقر في بطن أمه يبعثه الله بالسيف القاطع فيغير الأديان ويكسر الصلبان ويبطل عبادة الأوثان ولا يأتي موضعاً من المواضع إلا وجدنا ذكر الواحد علانية ، وهذه أمته لعنني الله من أجلهم ، فقالوا له : طب نفساً وقر عيناً فإن بني آدم كانوا سبع طبقات فاستوفينا الطبقات الست وما غلبونا ولا بد أن نستوفي الطبقة السابعة ، فقال : وكيف ذلك وفيهم الخصال الحميدة الجميلة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقالوا : نأتي العالم من جهة علمه والزاهد من جهة زهده وصاحب الرياء من قبل ريائه ، قال : فإنهم يغلبونكم ، قالوا : بماذا ؟ قال : يعتصمون بالله وحده ، قالوا : إن اعتصموا بالله وحده أتيناهم من قبل التهاون بالصلاة ومنع الزكاة والبخل والظلم فإنهم يهلكون لا محالة ، قال : الآن أقررتم عيني .

قال العلماء : وكانت قريش في جدب شديد وضيق عظيم من قلة المعاش فاخضرت الأرض بالنبات وحملت الأشجار بالثمار وجاءهم الخير الكثير من كل جانب ومكان فسميت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج وكان قد أذن الله تعالى لنساء الدنيا الحوامل أن يحملن ذكوراً في هذه السنة كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان له صلى الله عليه وسلم في كل شهر من شهور حمله نداء في السماء ونداء في الأرض أن ابشروا فقد آن أوان ظهور أبي القاسم صلى الله عليه وسلم سيد السادات ومعدن السعادات من يخرج إلى الدنيا ميموناً مباركاً ، وسارت آمنة لا يمضي عليها يوم ولا شهر ولا جمعة إلا ومناد ينادي في أقطار السموات والأرض يقول : قد مضى لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وبقي عن ظهوره كذا وكذا ، فكانت آمنة تخبر بذلك بعلها فيقول لها : اكتمي سرك فسيكون لولدك شأن عظيم ، وصارت آمنة تزداد كل يوم حسناً وجمالاً وتتبختر في أردية الكمال تيهاً ودلالاً ونساء مكة يتعجبن من ذلك ويقلن إن المرأة إذا حملت يغيرها سقم الوحام وإن لبنت وهب شأناً عظيماً ، وكانت آمنة إذا مشت في الدار يلين الحجر الأسود تحت قدميها وغمامة تظل عليها والماء يعلو من البئر ويجري خلفها وحواليها ولسان الحال يقول :

في ليلة مقرونة بالأمان

وهو الذي بالحسن فاق الزمان

وزخرفت فيه قصور الجنان

المجتبى الهادي وفخر الزمان

من له في الحشر قدر وشان

إلى جميع الخلق إنس وجان

ما أشرقت شمس بنور العيان

حملت به في شهر رجب فبشرت في شعبان بنيل المنى وقيل لها في رمضان لقد حملت بالمطهر من الدنس والرجس والخنا وسمعت تسبيح الملائكة في شوال معلنا ورأت الخليل في شهر ذي القعدة فقال لها : بشراك يا آمنة بصاحب البهاء والنور والسنا ، وحجت الملائكة في ذي الحجة إلى كعبة بيتها فما انقطع السرور عنها ولا ونى ، وناداها في محرم جبريل بشير الهنا واصطفت الملائكة وقالوا : هذا الشفيع لنا ، وفي ربيع الأول أضاءت الأرض وأشرق الصفا والبيت ومنى

نور الحقيقة للخليقة قد بدا

خير البرية والشفيع لنا غدا

أكرم به شهراً وأكرم مولدا

نلنا به الأفراح في طول المدا

وقت سعيد لا يزال مجددا

جلت فلن تحصى ولن تتعددا

بأشرف منه في الوجود وأنجدا

أبر وأوفى من تقمص وارتدى

بمكة نوراً في السماء تصعدا

بأن له عزاً وفخراً مخلدا

وجدت له عند المخاض تنكدا

ولربهم خروا جميعاً سجدا

أو صاح طير في الغصون وغردا

قال في شرف الأنام : لما حملت آمنة به صلى الله عليه وسلم وظهر صفاء يقينها وانطوت الأحشاء على جنينها سطع نور النبي صلى الله عليه وسلم في جبينها ففي أول شهر من شهورها أتاها في المنام آدم وأعلمها أنها حملت بأجل العالم ، وفي الشهر الثاني أتاها إدريس وأخبرها بفخر محمد وقدره النفيس ، وفي الشهر الثالث أتاها في المنام نوح وقال لها : إنك حملت بصاحب النصر والفتوح ، وفي الشهر الرابع أتاها في المنام إبراهيم الخليل وذكر لها فضل محمد ومحله الجليل ، وفي الشهر الخامس أتاها في المنام إسماعيل وبشرها أن ابنها صاحب المهابة والتبجيل ، وفي الشهر السادس أتاها في المنام موسى الكليم وأعلمها برتبة محمد وجاهه العظيم ، وفي الشهر السابع أتاها في المنام داود وأخبرها أنها حملت بصاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء المعقود والكرم والجود وأعلمها أن ابنها صاحب العز الممدود ، وفي الشهر الثامن أتاها في المنام سليمان وأخبرها أنها حملت بنبي آخر الزمان ، وفي الشهر التاسع أتاها في المنام عيسى المسيح وقال : إنك قد خصصت بمظهر الدين الصحيح واللسان الفصيح ، وكل واحد منهم يقول لها في نومها : يا آمنة إذا وضعت شمس الفلاح والهدى فسميه محمدا .

فوزاً ويدعى في غد من حزبه

وحديث آمنة وقد حملت به

في ليلة جاءت بعز مقبل

وبأحمد الهادي البشير تأبدت

وبه من الله المهيمن قد غدت

تزهو على الحور الحسان بلا حلي

وحوت به عزاً ومجداً عالياً

وغدا الوجود بنوره متلالياً

بقدوم أحمد في ربيع الأول

لما دنا بعد التباعد قربها

ضاءت لها شرق البلاد وغربها

وتألقت بالعز والفخر الجلي

وأطل بالبشرى الكريمة مولد

شهر كريم جاء فيه محمد

فجلا ظلاماً للضلال المسبل

خير البرية ركن أرباب الصفا

طه النبي الهاشمي المصطفى

وهو الذي من حبه قلبي ملي

حتى الجماد أجاب رغماً للعدا

سماه مولاه الكريم محمدا

ودعاه بالمدثر المزمل

ولما تم لآمنة من حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم شهران قال عبد المطلب لولده عبد الله : يا بني إني أريد أن أعمل وليمة عند ولادة آمنة يأكل منها العرب والعجم والبادي والحاضر فتوجه مع القوافل إلى الشام واشتر لنا قمحاً كثيراً وتمراً غزيراً ، فخرج عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم في تجارة إلى الشام مع جماعة من قريش فمرض في سفره ثم رجع فمر بالمدينة وهو مريض فتخلف بها عند أخواله بني عدي بن النجار فأقام عندهم مريضاً شهراً فتوفى بها وله من العمر خمسة وعشرون سنة وقيل أكثر ودفن بالأبواء وقيل بدار رجل من بني عدي بن النجار يقال له النابغة ، ولما بلغت وفاته إلى زوجته آمنة بكت بكاء شديداً ولسان الحال أعلن بالمقال :

ومن فارقت بعدك لا أبالي

فوا أسفاً على فقد الرجال

فكيف يكون بعد البعد حالي ؟

وما علمي بتصريف الليالي

وقدر بالفراق فما احتيالي ؟

فأجابها عبد المطلب وبكى بكاء شديداً ولسان حاله يقول :

ممن أحب ولم يكن بمرادي

رحلوا وقلبي معهمو وفؤادي

وتبدلت أنوارهم بسواد

أيامنا تزهو على الأعياد

لعلمت كيف تفتت الأكباد

ما حلت عن شغفي بهم وسهادي

قد زاد وجدي فيكمو ومرادي

ومدامعي تجري كسيل الوادي

أسمعت من سكن القبور ينادي

اشمتم ببعادكم حسادي

ولما مات أبوه صلى الله عليه وسلم قالت الملائكة : إلهنا وسيدنا ومولانا وعالم سرنا ونجوانا بقي نبيك يتيماً لا أب له ، فقال الله تعالى : يا ملائكتي اسكنوا فأنا أولى به من أمه وأبيه وأنا خالقه ورازقه وراعيه وناصره ومظهره على أعاديه ، يا ملائكتي الموت حتم على عبادي فكونوا منه على حذر لأنه لا يبقي ولا يذر ، يا ملائكتي افتحوا أبواب السموات وزينوا الجنان والولدان فقد آن أوان ظهور سيد ولد عدنان المشرف على جميع الخلق من إنس وجان صلى الله عليه وسلم .

ولما تم لها من حملها خمسة أشهر قالت آمنة : رأيت في منامي كأني في مروج خضراء وإذا في وسطها جوهرة فنظرت إليها فسقطت في حجري فهبت أن ألمسها من كثرة الأنوار التي غطتها وسمعت قائلاً يقول : هذا النبي المصطفى وابن زمزم والصفا ، ثم نظرت إلى الجوهرة وإذا هي كالهلال العظيم فكبر وعلا حتى بقي بدراً عظيماً فأشرقت منه الأنوار وسطعت إلى ناحية اليمن وبلغ منه نور عظيم إلى ناحية الشام فرأيت خضرة الشام وبساتينها إلى حدود الفرات وبلغ منه نور عظيم إلى ناحية السماء وسطع منه نور إلى ناحية المغرب فرأيت مصر وأعمالها إلى حدود المغرب وسطع منه نور إلى ناحية المشرق فرأيت نواحي السدين إلى حدود العجم ، فانتبهت فقصصت رؤياي على عبد المطلب فقال : يا آمنة قومي إلى خليفة بن عتاب وكان من علماء الأحبار فقمت إليه فقصصت رؤياي عليه فقال لي خليفة : أما الرياض فهي رياض الإسلام وأما الخضرة فهو إبراهيم عليه السلام وأما الجوهرة فهو محمد بدر التمام وأما الهلال فهو الذي في فؤادك وسيعلو شأنه ويقوى برهانه ويؤمن على يديه أهل المشرق والمغرب وأهل اليمن ويقاتل الخلق على الدين حتى يردهم مسلمين فطوبى لمن عاش إلى زمانه وبقي من كان من حزبه وأعوانه ويا فوز من رآه في حياته وزاره بعد مماته وطوبى لمن عاش على محبته وعمل بهديه وسنته ، قالت آمنة : فرجعت إلى بيتي فرحة مسرورة فدخل علي عبد المطلب فأخبرته بما جرى ففرح بذلك فرحاً عظيماً .

قال أهل الأخبار : وكانت مدة حمله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر لا تجد أمه فيها مغصاً ولا وجعاً ولا ما يعرض لذوات الحمل ، قالت آمنة : ما شعرت بأني حملت به ولا وجدت له ثقلاً ولا وحماً كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي وأتاني آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال : هل شعرت بأنك حملت بسيد الأنام ؟ ثم أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني فقال لي : قولي أعيذه بالواحد من شر كل حاسد ثم سميه محمداً وعلقي عليه هذه التميمة ، فانتبهت وعند رأسي صحيفة من ذهب مكتوب فيها أعيذه بالواحد من شر كل حاسد وكل خلق زائد من قائم وقاعد عن السبيل حائد على الفساد جاهد من نافث وعاقد وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد في طرق الموارد ، وفي رواية : إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدتيه فسميه محمداً واكتمي شأنك .

بأتم بدر في ربيع الأول

يهدي الأنام فيا له من مقبل

والله قد سماه بالمزمل

من قبل آدم في الزمان الأول

حتى استقر ببطن آمنة الجلي

وأتت لها البشرى بخير مرسل

من فضله بصحيح نص منقل

فكأنه كالذاكر المتهلل

فلقد حملت بصاحب القدر العلي

والآل ما ناح الحمام بمنزل

باب ولادته صلى الله عليه وسلم
وما ظهر عندها من الغرائب
وما وجد لديها من العجائب

لما حان زمان إيجاده وقربت أوقات ميلاده تواترت البشارات بولادته وهتفت الأحبار بأخبار بروز سعادته وجرى ذلك على ألسنة الكهان في السر والإعلان ولم تزل أمه صلى الله عليه وسلم ترى وهي حامل به ما يدل على عظيم قدره مما تواترت الأخبار بنقله من الكرامات والآيات الباهرات إلى أن مرت تلك الشهور وأشرق الوجود بهذا النور ودخلت في الشهر التاسع وهو ربيع الأول من عام الفيل فابتهجت الأكوان لقدوم هذا النبي الجليل ونادى منادي العز والتبشير : ألا إن الله تعالى قد تمت كلمته ونفذت حكمته بظهور سيد الكونين ورسول الثقلين وصارت آمنة تزداد كل يوم حسناً وجمالاً وتبختر في أردية الكمال تيهاً وكمالاً ، ففي أول ليلة من الشهر التاسع وهو ربيع الأول حصل لآمنة السرور والهنا ، وفي الليلة الثانية بشرت بالمنى ، وفي الثالثة قيل لها : لقد حملت بمن يقوم بحمدنا وشكرنا ، وفي الليلة الرابعة سمعت تسبيح الملائكة في السماء معلنا ، وفي الليلة الخامسة رأت في منامها الخليل وهو يقول لها : أبشري يا آمنة بقدوم هذا النبي الجليل صاحب القدر والنور والسنا ، وفي الليلة السادسة كمل عندها السرور والفرح وما فتر ولا ونى ، وفي الليلة السابعة سطع نور الرضا وعم ذلك الدنا ، وفي الليلة الثامنة طافت الملائكة حول بيت آمنة لما قرب وضع المصطفى ودنا ، وفي الليلة التاسعة بدأ سعدها والهنا ، وفي الليلة العاشرة زال عنها التعب والعنا ، وفي الحادية عشرة ضجت الملائكة لخالقها بالحمد والشكر والثنا ، وفي الليلة الثانية عشرة قالوا : قد قرب ميلاده ودنا فأضاء الوجود بنور المصطفى وأشرق البيت وصفا وزال عنها الشك وانتفى وابتهجت المروة والصفا وراق العيش وصفا وزهق الباطل واختفى وظهر مصباح الإيمان وما انطفا وهب نسيم مولده في جميع الأقطار فاكتست من نوره عزاً وشرفاً وضجت الملائكة بالتسبيح والتكبير والتهليل وأشرق الكون بنور وجهه الجليل وأنشد لسان الحال يقول :

رأيت من فضله ما ليس ينحصر

يوحد الله جهراً ليس ينتظر

إلا ويسجد إجلالاً له الشجر

ما ليس يحصره سمع ولا بصر

ولا رأيت دماً أصلاً ولا ضرر

بنوره أشرق البلدان والزهر

وقد جلوا حسنه والليل معتكر

من بطن آمنة يعلو ويفتخر

وفي سنا كفه قد سبح الحجر

ما نالها قبله موسى ولا الخضر

والإنس والجن والعربان والحضر

على البرية وازدانت به السير

وخير من شرفت من أجله مضر

من الضلال الذي في طيه الخطر

خزائن الغيب منها الخير ينتظر

إلى السماء كما يروي لنا الخبر

في فضله حارت الأذهان والفكر

شمس وما خلفتها الأنجم الزهر

فلما حضرت ولادة آمنة قال الله تعالى لملائكته : افتحوا أبواب السماء كلها وافتحوا أبواب الجنان كلها وألبست الشمس يومئذ نوراً عظيماً فرحاً وسروراً بمولده صلى الله عليه وسلم ..

قالت آمنة : لما كانت ليلة ولادتي كانت داية تقبل نساء قريش يقال لها الشفاء فجيء بها وأصلحت ما يحتاج إليه النساء فلما كان وقت العشاء وإذا بسقف البيت قد فرج والملائكة قد نزلوا علي أفواجاً أفواجاً فجعلوا يتبركون ببطني ويكبرون الله حولي فقلت : يا داية صيحي لنا بأم العباس وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث سنين فصاحت بها ، فبينما هي داخلة والعباس معها والداية أمامها وإذا القمر نزل كأنه الجمل الهائج فجعل يتمرغ على بطني ويكبر الله في المنزل حولي فغمض العباس عينيه وقال : يا أماه أطلعت الشمس ؟! فقالت أمه : يا ولدي يا عباس هذا نور القادم الذي يقدم في هذه الليلة ثم قامت الداية وأم العباس فقلت لهما : لما لم تستقران عندي ؟! قالتا : ما نقدر نفتح أبصارنا من كثرة الأنوار التي حواليك يا آمنة ، قال في شرف الأنام : فلما اشتد بها طلق النفاس ولم يعلم بها أحد من الناس بسطت أكف شكواها إلى من يعلم سرها ونجواها فإذا هي بآسية إمرأة فرعون ومريم ابنة عمران وجماعة من الحور الحسان قد أضاء من جمالهن المكان فذهب عنها ما تجد من الأحزان ، قالت آمنة رضي الله عنها : وانشق القمر فوق رأسي وتدلت النجوم كالقناديل ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانت آمنة تحدث وتقول : لما أخذني ما يأخذ النساء من المخاض ولم يعلم بي أحد لا ذكر ولا أنثى وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه فسمعت وجبة عظيمة وأمراً عظيماً أهالني ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل وجع أجده ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء فتناولتها فأصابني نور عال حتى رأيت قصور بصرى من أقصى الشام ثم رأيت نسوة كالنخل طوالاً كأنهن من بنات عبد مناف يحدقن بي فبينا أنا أتعجب وأقول واغوثاه من أين علمن بي ؟ فقلن لي : نحن آسية إمرأة فرعون ومريم بنت عمران وهؤلاء من الحور العين ، واشتد بي الأمر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم ، فبينا أنا كذلك إذ بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض وإذا بقائل يقول : خذوه عن أعين الناس ، ورأيت رجالاً قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق من فضة نظرت فإذا أنا قطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من الياقوت ، فكشف الله عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات : علماً بالمشرق وعلماً بالمغرب وعلماً على ظهر الكعبة ، وفي رواية : ورأيت الباب قد فتح ودخل علي نساء كأنهن البدور الطوالع وبأيدبهن أطباق الورد والياسمين والريحان والنرجس والنسرين فنشرت ذلك حولي وفي حجري فقلت لهن : من أنتن أيتها النساء الزاهرات ؟ قلن : نحن من الحور العين جئنا وإذا باب قد فتح ودخل منه ملائكة فناولني أحدهم كوزاً من المسك الأذفر فلما شربت زال ما بي من الألم والوجع وهدأت نفسي وسكن روعي ونظرت فإذا أنا بملك متوشح بتاج من ذهب ومعه طبق من ذهب وإبريق من فضة وهو يقول : قرب ظهور محمد الرسول فلا تقربوه فإنه مقطوع السر محيط بالعلم والحلم ولا تكسوه من ثيابكم فإنه يكسى من الجنة ، قال ابن عباس : الذي جاءه بالطبق جبريل عليه السلام .

قال في شرف الأنام : فلما آن أوان مولده الكريم وحان مقدمه الشريف العظيم صاح صاحب الإشارة بالبشارة لأهل الأرض أجمعين فعند ذلك حفت بأمه آمنة الملائكة الأبرار تحجبها بأجنحتها من أعين الأغيار فوقف عن يمينها ميكائيل وبين يديها جبريل ولها زجل بالتسبيح والتقديس والتهليل للملك الجليل ، وأقبلت الحور العين إلى أمه آمنة الكريمة تبشرها بأنها من جميع المخاوف آمنة وتنوب عن القوابل البشرية بالسعادة الأبدية والعزة القمرية والطلعة المحمدية ، وأخذها المخاض واشتد بها الأمر فوضعت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم كأنه البدر في تمامه مكحل العيون مقطوع السرة مختوناً ساجداً للعلي الأعلى ثم أشار إلى السماء بأصبعه كالمتضرع المبتهل معتمداً على يديه جاثياً على ركبتيه شاخصاً إلى السماء بعينيه فحنت آسية عليه وبادرت مريم إليه وقبلت الحور قدميه وضجت الملائكة بالتكبير والتهليل وأشرق الكون بنور وجهه الجليل ونزل إلى المنزل جبريل وحف به ميكائيل وجاء إلى خدمته إسرافيل ، أخذته الملائكة الأبرار فأخفوه عن الأبصار وطافوا به جميع الأقطار وعرفوا به أهل السموات والأرض والبحار وغمسوه في الجنة في سائر الأنهار وكتبوا اسمه على أوراق الأشجار ثم رجعوا بالمفضل على الكونين إلى أمه آمنة في أسرع من طرفة عين ، أخذته آسية تكحله فوجدته مكحولاً بكحل الهدى ، أرادت مريم أن تقطع سرته فوجدته مقطوع السر وقد زال عنه الردى ، قدمت الحور العين أنواع الطيب طيبت به شمائل هذا الحبيب فسارعت إلى طلعته المباركة ثلاثة من الملائكة مع أحدهم طست من الذهب الأحمر ومع الثاني إبريق من الجوهر ومع الثالث منديل من السندس الأخضر فغسلوا وجه الحبيب بماء الإبريق وأخرجوا من المنديل خاتم النبوة والتصديق وله لمعان وبريق وختموا به ظهر هذا النبي الشفيق فتم بذلك سعده والتوفيق ، وقيل لأمه آمنة : لا تدعي أحداً من العالمين ينظر إلى محمد الصادق الأمين حتى تنقضي عنه زيارة الملائكة المقربين ، خفقت في الأكوان أكوان علومه دقت البشائر لقدومه ، جاء الهنا وزال العنا حصل الغنى نلنا المنى ، طابت القلوب غفرت الذنوب سترت العيوب كشفت الكروب ببركة سيدنا محمد الحبيب المحبوب ، حصل القصد والمراد وصفا القصد والوداد برؤيا محمد فرحت نفوس العباد ، رمقت آمنة محمداً بالبصر فإذا غرته كالصبح إذا أسفر وشعره كالليل إذا سجى واعتكر ووجهه أضوء من الشمس وأنور أما سمعت كيف انشق له القمر ؟ أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الأنف دقيق الشفتين كأنما يبتسم عند نضيد الدرر عنقه كأنه إبريق فضة وقد فاق على جيد الغزال وقده أرشق من الغصن الرطب إذا خطر بين كتفيه خاتم النبوة فيا فوز من عاينه ونظر ، فهذه قطعة من بعض أوصاف جماله وأما كل كماله فلا يحد لواصف ولا يحضر .

لنا بشهر ربيع الأول اشتهرا

وأصبح الكون من أنفاسه عطرا

وسره في قلوب العارفين سرى

مولود حسن سناه يخجل القمرا

كيما تمتع من أنواره النظرا

ليشهد الناس سراً كان مستترا

بفخره عز قدر البيت وافتخرا

ويطرب الصب معناه إذا ذكرا

من أجله تكرم الأيتام والفقرا

لم يخلق الخلق لا جناً ولا بشرا

نال الهنا والمنا والسؤل والوطرا

حمامة فوق غصن مائس سحرا

فلما أشرق نوره صلى الله عليه وسلم في الوجود أذعن لله بالسجود ولم يخلق مثله مولود ثم أومأ بإصبعه إلى العلا فولد مختوناً مكحلاً مدهوناً معطراً مكرماً ، وخرج من ثغره نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام وخرت لهيبته جميع الصلبان والأصنام وأصبح كل جبار بعد عزته قليلاً ومنعت الشياطين أن تسترق السمع فلم تجد بعد ذلك إلى السماء وصولا ، فلما مدت أنوار غرته البهية وأشرقت شمس طلعته العلوية أضاءت بمولده ظلم الحنادس وانشق إيوان كسرى وخمدت نار فارس وكسرت الصلبان تعظيماً لقدومه وتوقيراً ونادى المنادي في الأكوان تنبيهاً لأمته على كرامته وتذكيراً : " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا " .

فاختفت منه البدور

قط يا وجه السرور

أنت نور فوق نور

أنت مصباح الصدور

فسبحان من أبرز في شهر ربيع الأول طلعة قمر الوجود ، فما أجملها من طلعة وأبهاها وما أحسنها من محاسن وأحلاها ، حملت به آمنة فجاءها آدم وهناها ووقف نوح وناداها وأتاها الخليل يبشرها بما أتاها وقصد حلتها موسى الكليم وسلم عليها وحياها ، كل ذلك لأجل هذا المولود الذي تشرفت به الأرض وثراها ، وجاءت الطيور من أوكارها بشجاها وخرجت الحور العين وعليهن خلع السرور وحلاها وينادين : ما هذا النور الذي ملأ البقاع وكساها ، فقال جبريل : قد ولد من فاق البرية وما عداها وخرت لمولده الأصنام وهدمت صوامع الكهان وزال بناها ، وحمله جبريل على يديه وهو يقبل بين عينيه ويقول : أنت حم أنت يس أنت طه أنت ولي النفوس المؤمنة أنت مولاها .

من وجه من فاق كل البدو والحضر

في طلعة الحسن بين التيه والخفر

أكرم بمولد خير الخلق والبشر

جلوه في صورة فاقت على الصور

سعياً على الرآس بل سعياً على البصر

من بعد هذا الجفا يا ضيعة العمر

فالوجد للقلب والأجفان للسهر

حمائم الورق في الآصال والبكر

قالت آمنة رضي الله عنها : لما وضعت ولدي محمداً صلى الله عليه وسلم نظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع إصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل ، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت إلى السماء حتى غشيته فغيبته عني وسمعت منادياً ينادي : طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ويعلمون أنه يسمى فيها الماحي لا يبقى شيء من الشرك إلا محي في زمنه ، ثم انجلت عنه في أسرع وقت ، وعن الشفا : لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهل فسمعت قائلاً يقول : رحمك الله ، وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب ثم نظرت إلى بعض قصور الروم ، وعن فاطمة بنت عبد الله الثقفية : لما حضرت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت البيت حين وقع قد امتلأ نوراً والنجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع علي ، وعن آمنة : لقد رأيت ليلة وضعه عليه السلام نوراً أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها .

وعليه تيجان القبول تنضد

كلا ولا ذكر الحمى والمعهد

هذا مليح الكون هذا المفرد

هذا جميل الوجه هذا الأوحد

هذا حبيب الله هذا السيد

هذا هو الجاه العريض الأزيد

ورد كما في الشعر ليل أسود

ومدائح تعلو وذكر يوجد

يا ليت طول العمر عندي مولد

من بعده ولبعده لا أرقد

سحراً وما دام المحصب يقصد

وروى الخطيب البغدادي بسنده أن آمنة قالت : لما وضعته صلى الله عليه وسلم رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال حتى غشيته وغيبته عني وسمعت منادياً ينادي : طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم جميع الأرض واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش ، واعطوه خلق آدم ومعرفة شيث وشجاعة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل ورضى إسحاق وفصاحة صالح وحكمة لوط وبشرى يعقوب وشدة موسى وصبر أيوب وطاعة يونس وجهاد يوشع وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى وزهد عيسى واغمسوه في أخلاق النبيين ، ثم انجلت عنه فإذا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية طياً شديداً ينبع من تلك الحريرة ماء وإذا قائل يقول : بخ بخ قبض محمد على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعاً في قبضته ثم نظرت إليه فإذا به كالقمر ليلة البدر وريحه كالمسك الأذفر وإذا بثلاثة نفر في يد أحدهم إبريق من فضة وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء وفي يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتماً تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات ثم ختم به كتفيه ولفه في الحريرة ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ساعة ثم رده إلي .

لما بدا وجه الحبيب منيرا

بدراً يفوق مع الكمال بدورا

بقدوم أحمد للأنام نذيرا

ووفت بميلاد النبي نذورا

كل البقاع وقد نطقن شكورا

عند الظهور إلى السماء مشيرا

وغدا حزيناً في الأنام كسيرا

وتصاعد الكهان منه زفيرا

وغدا به صوب الغمام مطيرا

فزتم وحزتم جنة وحريرا

خير البرية بادياً وحضورا

ما دامت الدنيا وزاد كثيرا

ولما ولد صلى الله عليه وسلم وسقط اهتز العرش طرباً وزهى الكرسي عجباً ومنعت الجن والشياطين عن السماء وقالوا : لقد لقينا في طريقنا نصبا وضجت الملائكة بالتسبيح رغباً ورهبا ونشرت الرياح وأبدت سحبا وأمالت في الحدائق من الغضون قضبا ونادت الكائنات من جميع الجهات أهلاً وسهلاً ومرحبا .

قدمت فأقدمت السرور إلى الربا

ونشرك أضحى في الوجود مطيبا

ويصبح قلبي في حماه مقربا

نبي كريم للشفاعة مجتبى

له الله بالذكر المرفع قد حبا

ولا حن مشتاق لنجد ولا صبا

قيل إنه كان في بيت المقدس رجل أعمى قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول لأهله : إذا رأيتم نوراً ملأ الأكوان فاعلموا أنه قد ولد سيد ولد عدنان ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها الحبيب عم ذلك النور البعيد والقريب فقالوا له أهله : قد رأينا نوراً عظيماً فرفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي وسيدي ومولاي أسألك بجاه هذا النبي الحبيب الذي حار فيه فكري إلا ما رددت علي بصري ، قال : فما خرجت الكلمة من فيه حتى رأى الأبيض والأسود ببركة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : أرأيتم جاه هذا المحبوب ما أعظمه من عند علام الغيوب ثم لحظ بطرفه إلى السماء وقال : إلهي وسيدي ومولاي بجاه هذا النبي الصادق كما هديتني لأقوم الطرائق وفتحت بصري فرأيت نور الحقائق أسألك أن تميتني على دينه موتة عبد صادق ، فاستجاب دعاءه العظيم الخالق فاستلقى على ظهره ومات رحمه الله تعالى في جميع الأوقات ، ونادى بلسان الحال يقول شعراً :

وليس سواك في الدنيا نصيبي

فأنت وحق حبك لي طبيبي

منى قلبي لقد زادت كروبي

فليت أفوز بالعيش الخصيب

باب ما وقع ليلة مولده صلى الله عليه وسلم من الحوادث العظيمة والآيات الجسيمة

لما ولد صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى أنوشروان فسقطت منه أربع عشرة شرفة وانشق وبقي كذلك آية ، قال الشيخ الزرندي : من أعظم الحوادث عند مولد النبي صلى الله عليه وسلم انشقاق إيوان كسرى وبقاؤه كذلك سنة ست وأربعين وسبعمائة ثم الله أعلم إلى أي زمان يبقى ، فتطير كسرى لذلك فأحضر موبذان موابذته فأخبره بأمره فقال الموبذان : إني رأيت الليلة في المنام إبلاً تقود خيلاً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد الفرس وبينما هو كذلك إذ وافاه الخبر بخمود النيران وغيض البحيرة فجمع زعماء دينه وسألهم عما عندهم في ذلك فأجمع رأيهم على أن يكتب إلى النعمان بن المنذر يأمره أن يبعث إليه أعلم من في أرضه من العرب فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو بن ثعلبة الغساني فقال له كسرى : أعندك علم بما أريد ؟ قال : يخبرني الملك فإن كان عندي فيه علم أخبرته به ، قال : أريد أن تعلمه قبل أن أذكره لك ، فقال : هذا يعلمه خال لي يقال له سطيح فأمره أن يذهب إليه ويسأله عن ذلك فذهب إليه فوجده قد أشرف على الموت فرفع صوته يقول :

يا فاصل الخطة أعيت من ومن

فقال : جاء عبد المسيح على جمل مشيح بعثك ملك ساسان لارتجاج الإيوان وخمود النيران ورؤيا الموبذان أنه رأى إيلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد الفرس ، يا عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة وفاضت سماوة وغاضت بحيرة ساوة لم تكن بابل للفرس مقاماً ولا الشام لسطيح شاماً يهلك منهم ملوك وملكات بعدد الشرفات وكل ما هو آت آت ، فملك في عهد محمد صلى الله عليه وسلم عشرة في أربع سنين ، وملك الباقون في خلافة عمر وغاضت بحيرة طبرية بالشام وساوة بالفرس وفاض وادي سماوة وخمدت نار فارس وكان لها ألف عام لم تخمد وحرست السماء بالشهب وقطع رصد الشياطين وسجدت الكعبة نحو المقام وقالت : الله أكبر الله أكبر ولد محمد الأزهر الآن طهرني ربي من أنجاس المشركين ، وولد صلى الله عليه وسلم مطهراً متكلماً بكلام فصيح قائلاً : جلال ربي الرفيع الله أكبر الحمد لله رب العالمين لا إله إلا الله وأني رسول الله .

بأتم بدر في ربيع الأول

لما بدا نور الوجود الأكمل

متضرعاً كالذاكر المتهلل

متدهناً وجفونه بتكحل

أخفيه عن كل الورى لا تمهلي

حاشاكا عنه بينهم أن تغفلي

نودي له لم تستطع من مدخل

جاءت فغطت حجرتي ومنازلي

وإذا به في لحظة قد رد لي

والبيت يرعد ركنه كمزلزل

طرباً لطلعة نوره المتهلل

براً وبحراً كالعرائس تنجلي

حتى كأن لم أستطع من مقول

فأعدته فكأنه لم يفعل

هيا ارضعي خير الأنام الأفضل

سحراً وما ليل بصبح ينجلي

باب رضاعته وحضانته

لما ولد سيد العرب والعجم حصل لأمه آمنة على أثر النفاس ضعف وألم شغلها عن إرضاع هذا النبي الأعظم والتمس له الرضعاء ، فنادى منادي الرحمن في سماء الدنيا : معاشر الخلائق من يكفل هذه الدرة اليتيمة التي لا يوجد لها مثل ولا قيمة وهو محمد بن عبد الله سيد الأنبياء ، فطوبى لثدي أرضعه ، طوبى لعبد كفله ، فقالت الطيور : إلهنا نحن نحمله إلى أعشاشنا ونطعمه من طيبات الأرض ونكفله ونغنم خدمته العظيمة ، وقالت الوحوش : نحن أولى بذلك لننال شرفه وتعظيمه ، وقالت نساء الجن : ربنا دعنا نرضع صفوتك من خلقك وأكرم خلقك عليك لننال الفوز والغنيمة ، وقالت السحاب : إلهنا نحن نحمله إلى مشارق الأرض ومغاربها ونربيه تربية كريمة ، قالت الملائكة : ربنا أنت تعلم أننا نحبه فمرنا بتربيته لنتشرف بنور طلعته ونحظى ببركته العظيمة ، فنادى لسان القدرة أن يا جميع المخلوقات إن الله قادر على أن يربيه من غير رضاع ولا سبب ولكن سبقت كلمته وتمت حكمته وكتب على نفسه أنه إذا أعطى أحد شيئاً فلا يعود فيه وقد كتب الله من الأزل في سابق حكمته القديمة أن لا يرضع هذه الجوهرة اليتيمة والنفس الكريمة والدرة العظيمة غير أمتي حليمة الحكيمة ، وكانت حليمة في بلدها مقيمة ولسان القدر يناجيها في ناديها وقد حدا بسعدها حاديها .

هذا الذي في حسنه ما زال فردا

كلا ولا كان السرور إليه يهدى

وله قطعنا في السرى عنقاً وخدا

أيضاً ولا كان المحب يهيم وجدا

بالقرب لا تلقين بعد اليوم صدا

عن وجهه قمر الملاحة ما تعدى

ورأيت معنى من معاني الحسن فردا

نلقى به في كل ما تبغين قصدا

قال أهل الأخبار : وكان من عادة أهل مكة أن يخرجوا بالأطفال إلى المراضع ، قالت حليمة : فأصابتنا في بني سعد سنة لم يأت الغيث فيها ولم تنبت الأرض شيئاً فجئنا في أربعين إمرأة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء ليواسونا بالرفد والإفضال ، وقد هتف هاتف : يا بني آدم قد حلت البركات بمن بركته عمت الأرضين والسموات وهو مولود بمكة المشرفة فطوبى لثدي يرضعه ، قالت حليمة : وكنا أشد الناس فقراً وعسراً لا نملك إلا ناقة وأتاناً سمراء ولما عزم بنو سعد على السير إلى مكة يلتمسون الرضاع مع كل إمرأة منا بعلها وكل إنسان حمل زوجته على دابته فقدم لي زوجي الحارث الإتان وركبت عليها وولدي حمزة بين يدي وسرنا حتى وصلنا إلى مكة المشرفة وكنا لا ننام ليلنا أجمع من بكاء أطفالنا من الجوع ولا أجد في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه ، فلما دخلنا مكة شرفها الله سبقتني المرضعات وأخذت الأطفال وكان أهل مكة يأتون بأطفالهم عند الكعبة فوقف كل والد إلى جانب ابنه فتقدمت كل إمرأة فأخذت مولوداً وأخذت النساء كل رضيع بمكة وتأخرت أنا لضعفي وضعف أتاني وقلة سيرها وجئت أنا فلم أجد شيئاً من الرضعاء وسمعت آمنة تدنو منا فقالت لعبد المطلب : انظر لمولودك هذا مرضعة من بني سعد فقد تقدمت المرضعات السعديات ، انظر لمولودك هذا مرضعة من أشرف البريات ، فخرج عبد المطلب فبينما هو يمشي إذ سمع هاتفاً يقول : انظر إلى حليمة السعدية ترضع محمداً .

خير الأنام وصفوة الجبار

نعم النبي المصطفى المختار

أمر وحكم جاء من قهار

قالت حليمة السعدية : ثم إني مررت بعبد المطلب فسألته عن رضيع فقال لي : ما اسمك ؟ وما عربك ؟ فقلت : اسمي حليمة السعدية فتبسم ضاحكاً وتهلل وجهه فرحاً فقال : بخ بخ لك يا حليمة السعدية هل لك في إرضاع غلام تسعدين به إن شاء الله تعالى ، يا حليمة إن عندي غلاماً فتعالي حتى تنظريه فإن كان لك فيه نصيب تأخذينه .

خير الورى طراً بأعظم مقصد

فالسعد قارنها بطلعة أحمد

أمنت به من كل جهد مجهد

فرحاً وتيهاً بالرسول الأمجد

سرحت تجود لها بدر مزبد

والناس في محل وعيش أنكد

فهو الذي قد ساد كل مسود

قالت حليمة : فجئت إلى بيت أمه آمنة وهي إمرأة هلالية تزهر كالكوكب الدري فسألتها عنه فقالت : أنتم يا أهل البادية تطلبون من تجدون رفده وهذا طفل يتيم مات أبوه وكنت حاملاً به فكفله جده عبد المطلب ، قالت حليمة : فرجعت إلى بعلي لأشاوره في ذلك ، فلما قصصت عليه الخبر وقلت له : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع وإني أريد أن أنطلق إلى ذلك اليتيم آخذه ، فقال : يا حليمة إن قلبي يميل إليه فاذهبي إليه وخذيه ولا نرجع خائبين فلعل الله أن يجعل لنا فيه البركة ويرفعنا بأجره وثوابه ، وكان الأمر كذلك قالت حليمة : فرجعت إليه وأنا فرحانة به فأتيت إلى منزل آمنة وسلمت عليها فردت علي السلام فقلت لها : يا آمنة أين الغلام ؟ فقالت لي : ها هو ذا خذيه ، ثم أخذت بيدي وأدخلتني البيت الذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن يفوح منه رائحة المسك الأذفر ووجهه يضيء كالقمر ليلة البدر وتحته حرير خضراء وهو نائم على ظهره يغط فأشفقت وهبت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله فدنوت منه رويداً ووضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكاً وفتح عينيه لينظر إلي فخرج من عينيه نور ساطع وضاء لامع حتى دخل خلال السماء فحار عقلي وعقل بعلي فقال : ويحك يا حليمة هذا المولود هو كل المنى والمقصود ، قالت حليمة : فأخذته وإني لضعيفة على إثر نفاسي وليس في ثديي قطرة لبن من الضعف وولدي طول الليل يقلقني من شدة الجوع ، فلما حملت محمداً صلى الله عليه وسلم قوي ضعفي واشتدت قوتي ثم وضعت ثديي الأيمن في فيه فسال اللبن حتى فاض وتدفق فشرب حتى روي وسمعت قائلاً يقول : طوبى لك أيتها السعدية بالطلعة الهاشمية والغرة القمرية والهمة القرشية

ومن ألطاف معناه النسيم

فدل بأنه بشر كريم

وما في الحسن قط له قسيم

وليس سوى تواصله نعيم

لديه الخير أجمعه مقيم

رأيت النوق من طرب تهيم

قالت حليمة : لما أعطيته صلى الله عليه وسلم ثديي الأيمن أقبل عليه بما شاء من لبن وحولته إلى الأيسر فأبى وكانت حاله بعد ، فروي وروي أخوه ثم أخذته فما هو إلا أن جئت رحلي فأقبل على ثدياي بما شاء من اللبن فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي فقام زوجي إلى الناقة وحلبها فدرت باللبن وتشربنا من لبنها حتى روينا وبتنا بخير ليلتنا وكان لها خمس سنين ما طرقها جنين فقال صاحبي : يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه فلم يزل الله يزيدنا خيراً ، قالت حليمة : ودخلت به على الأصنام فنكس هبل رأسه وخرت الأصنام من أماكنها وجئت به إلى الحجر الأسود لأقبله فخرج الحجر الأسود من مكانه حتى التصق بوجهه وغرته صلى الله عليه وسلم فودعت النساء بعضهن بعضاً وودعت أنا أم النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت حليمة : فأخذناه وانصرفنا فما انصرف أحد كما انصرفنا ولا ظفر أحد كما ظفرنا ، ثم ركبت الدابة التي جئت عليها وكان للمراضع سبعون أتاناً لم يكن فيهن أضعف من أتاني وكانت ضعيفة لا تستطيع المشي فركبت الأتان ووضعت محمداً صلى الله عليه وسلم أمامي بين يدي فنظرت إلى الأتان وقد استقبلت بوجهها الكعبة وسجدت نحوها ثلاث سجدات ثم رفعت رأسها إلى السماء ثم مشت ونشطت وصارت تسبق دواب القافلة كلها فصار الناس يتعجبون مني وجعل النسوة يقلن لي وهن ورائي : أمسكي أتانك عنا يا حليمة أليس هذه أتانك التي كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك مرة وترفعك مرة فأقول لهن : بلى والله إنها هي فيتعجبن منها ويقلن إن لها شأناً عظيماً ، قالت : فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول : والله إن لي شأناً ثم شأناً ، شأني بعثني الله بعد موتي ورد لي سمعي بعد هزالي ، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة عظيمة وهل تدرين من على ظهري ، إنه خاتم الأنبياء وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين ، ولسان حالها يقول :

وقد زال العنا ومضت عكوسي

فيا فرحي بطلعة ذي العروس

ورؤيته دواء للنفوس

لكي ننجو به من كل بوس

قالت حليمة : وكنت لا أمر على شجر ولا على حجر ولا على مدر إلا يقول : السلام عليك يا خير المرسلين ، ثم يقول : بشراك يا حليمة ، وكنا لا ننزل تحت شجرة يابسة إلا اخضرت وأثمرت لوقتها ببركته صلى الله عليه وسلم وصرت أنا في عجب مما رأيت وقد أخذني الطرب ونور سيد الأنام قد أزال عني حندس الظلام فلم أزل أمشي في أنواره صلى الله عليه وسلم حتى وصلت إلى بيتي وقد أضاء ما حولي ، فلما نظر بنو سعد إلى تلك الأنوار قالوا : يا حليمة ما هذا النور الساطع ؟ قالت حليمة : وكنا إذا جعلناه في البيت المظلم أضاء وجهه كالمصباح حتى يغلب نوره نور السراج ، قالت حليمة : وكنت أسمع كلاماً حولي يخاطبني ويقول لي : هنيئاً لك يا حليمة ، وكانت الوحوش تأتي إليه وتسلم عليه أفواجاً أفواجاً ولسان الحال يقول :

وتمد خاضعة لك الأعناق

حتى أضاء بنورك الآفاق

أو غير طيفك في الكرى طواق

صب لقربك دائماً أشتاق

قرب الديار وطاب منه مذاق

فيكون مني في السماح سياق

وأقول ليس من الزمان شقاق

إلا الذي قد خاطبته عناق

هو للقلوب وسقمها ترياق

ومن له المجد الرفيع نطاق

وسرى به للمكرمات براق

إن حل بي كرب وضاق خناق

أبداً وجودك دائماً دفاق

نجد وأومض لمعها البراق

ولما بلغ صلى الله عليه وسلم من العمر ست سنين توفيت أمه بالأبواء وهي قرية بين مكة والمدينة وكفله جده عبد المطلب فلما كمل له من العمر ثمان سنين أتاه الله من الفخر والوقار وكان مات جده عبد المطلب وكفله عمه أبو طالب فلما كمل له عشر سنين صار إذا مشى تظلله غمامة بيضاء تقف معه إذا وقف وتسير معه إذا سار ولما كمل له من العمر أربعون سنة أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين فسبحان من أطلع كواكب سعوده في الأكوان فطلعت وألمع بوارق وجوده فلمعت وبث أنوار أقمار شهوده فتلألأت وسطعت وقطع آمال الكفار من مرادهم فانقطعت وأذل ملوكهم لعزته فذلت لهيبته وخضعت فالإنس بقدومه قد تأنست وارتفعت والجن من استراق السمع قد منعت والأملاك في الأفلاك قد سجدت وركعت وآمنة قد فازت بما حازت لجمال جلال هذا الحبيب .

ما فترت عنه لا ولا رجعت

من طيب أذكاره التي سمعت

ما ظهرت للعيون أو طلعت

ما نظرت قده له ركعت

جوامع الحسن فيه قد جمعت

أعناق أعدائه له خضعت

ومذ أمدت به فما انقطعت

فمذ أتانا أسواؤنا دفعت

ما حملت حامل ولا وضعت

أشرقت الأرض والسما سطعت

ومن سناه البروق قد لمعت

أنواع بشر في القلب قد زرعت

أوقات أنس بالخير قد رفعت

فإن أعداءنا بك انقمعت

فأدمعي من جنايتي همعت

من حر نار الجحيم قد لذعت

يا من به الكائنات قد نفعت

عين وما في منامها هجعت

تحب من أمة لك اتبعت