اشترك في: الأحد أكتوبر 21, 2007 6:35 pm مشاركات: 335 مكان: مصر المحروسه
|
ذكر فتوح البهنسا ونزول الصحابة قتل البطريق قال الراوي: ولما أصبح المسلمون صلوا صلاة الصبح ثم تبادروا إلى خيولهم فركبوها فلم يجدوا لأعداء الله خبرًا ولا أثرًا وتيقنوا أنهم انهزموا ومضوا إلى مدينتهم فسارت المسلمون إلى أن قربوا من البهنسا فلاحت لهم المضارب والخيام والسرادقات والأعلام. قال الراوي: حدثنا قيس بن منهال عن عامر بن هلال عن ابن زيد الخيل. قال: لما أشرفنا على مدينة البهنسا ورأينا تلك المضارب. قال عياض رضي الله عنه: اللهم اخذلهم وانصرنا عليهم. اللهم احصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا واخزهم {إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26]. وأمن المسلمون على دعائه. قال: فلما أقبلنا على مدينة البهنسا كبرنا وهللنا فخرجوا إلى ظاهر الخيام وبأيديهم السيوف والدرق والقسي والنبال ورأينا خلقًا كثيرة على الأبراج وأراد جماعة من العرب الحملة عليهم فمنعهم الأمير وبقية الأمراء من ذلك وقالوا: لا حملة إلا بعد إنذار ثم إنهم لم يأتوا إلينا ولا ناوشونا بقتال واستقلونا في أعينهم. قال الواقدي: ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الأصفر قريبًا من البياض الذي على المغارة نحو المدينة هنا ما جرى لهؤلاء وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل ومسلمة بن هاشم ومالك الأشتر وذو الكلاع الحميري فإنهم ساروا حتى نزلوا قريبًا من القوم وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا خرج أعداء الله للقائهم. فقال مالك الأشتر: يا قوم إن أعداء الله خرجوا للقائكم فأشغلوهم بالقتال وأرسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله فعندها خرج المرزبان ومعه ثلثمائة فارس حتى وصلوا إلى الجسر والحجارة تتساقط عليهم من أعلى السور حتى ملكوا الجسر وجعلوا في أماكن المخاضات حراسًا بسيوف محدودة واقتتل المسلمون وأعداء الله قتالًا شديدًا وثبتوا في القتال سبعة أيام وكلما أتوا إلى مكان المخاضة وجدوه مربوطًا بالرجال وصار كل ليلة تهرب منهم جماعة من الروم ويهيمون على وجوههم يريدون الصعيد فتلقاهم رافع بن عميرة الطائي ومعه سرية من أصحاب قيس بن الحرث عند البلد المعروف بادقار وكانوا حوالي البحر اليوسفي يشنون الغارات على تلك السواحل فبينما هم كذلك يسيرون إذ سمعوا دوي حوافر الخيل فظنوا أنهم مسلمون فكلموهم فلم يرد عليهم أحد فلحقوهم وحملوا عليهم وكانوا ستمائة فارس ففروا من بين أيديهم فقتلوا منهم نحو مائتين وهرب الباقون وقتل من المسلمين ثلاثة وهرب الروم نحو المخاضة فغرق منهم مائة وأسروا منهم مائتين وهرب الباقون وسألوهم عن سبب خروجهم فأخبروهم أنهم يرودون فعند ذلك أوثقوهم كتافًا وأتوا بهم مكتفين مع نفر من المسلمين إلى أن أوصلوهم إلى عياض بن غانم الأشعري فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا نحوهم ففرحوا بالأسارى ثم عرضوهم على الأمراء المتقدم ذكرهم فعرضوا عليهم الإسلام فأبوا فضربت أعناقهم والروم ينظرون إلى ذلك ثم زحفت عليهم الصلبان واقتتلوا قتالًا شديدًا وحمي الحرب وكثر الطعن والضرب من ارتفاع الشمس إلى وقت العصر وفشا القتل في الروم فلما رأوا ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وصعدوا على القلعة وغلقوا الأبواب واستعدوا للحصار ونصبوا آلات القتال. نقص صفحة 256 قال الواقدي: فعندها ترجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيولهم وأمسكوها لعبيدهم وأقبلوا يتبخترون في مشيهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الكفار وهم لا يهابونهم إلى أن وصلوا إلى سرير الملك فدخلوا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفرش والديباج والملك جالس على سريره ولما نظر المسلمون إلى ذلك عظموا الله تعالى وكبروه فارتج السرادق وتغيرت ألوان القوم وصاح بهم الحجاب: قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم. قال المغيرة: لا ينبغي السجود إلا للملك المعبود ولعمري كانت هذه تحيتنا قبل فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فلا يسجد بعضنا لبعض. قال: فسكتوا. قال: فأمر الملك بكراسي من ذهب وفضة فنصبت لهم فلم يجلسوا عليها وكانوا من حين دخلوا أمروا بعض عبيدهم أن يطووا البسط من تحت أرجلهم إلى أن وصلوا إلى فرش الديباج فشالوها على جنب فقالت لهم البطارقة: قد أسأتم الأدب معنا إذ لم تسجدوا للملك ولم تمشوا على فرشنا فقال المغيرة: إن الأدب مع الله تعالى أفضل من الأدب معكم والأرض أطهر من فرشكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) وقال الله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]. قال الواقدي: لم يكن بين البطليوس والصحابة ترجمان لأنه كان أعرف أهل زمانه بلسان العربية فعند ذلك أمرهم بالجلوس فقال المغيرة: إما أن تنزل عن سريرك وتكون معنا على الأرض أو تأذن لنا بالجلوس معك على السرير لأن الله تعالى شرفنا بالإسلام. قال فأشار لهم بالجلوس معه على السرير بعد أن أزالوا تلك الفرش وجلس المغيرة إلى جانبه فالتفت البطليوس لعنه الله إليهم وقال لهم: أيكم المتكلم عن أصحابه. فأشاروا إلى المغيرة رضي الله عنه والصحابة جلوس وأيديهم على مقابض سيوفهم فالتفت البطليوس إلى المغيرة وقال له: ما اسمك. فقال: عبد الله المغيرة فقال: يا مغيرة إني أكره أن أبدأك بالكلام فقال المغيرة: تكلم بما شئت فإن عندي لكل كلام جوابًا. ثم إن البطليوس أفصح في كلامه وقال: الحمد لله الذي جعل سيدنا المسيح أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك ونحن خير سادة فقطع عليه المغيرة فقالت الحجاب والنواب: لقد أسأت الأدب مع الملك يا أخا العرب فأبى المغيرة أن يسكت وقال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام وخصنا من بين الأمم بمبعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهدانا به من الضلالة وأنقذنا به من الجهالة وهدانا إلى الصراط المستقيم فنحن خير أمة أخرجت للناس نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء وجعل أميرنا الذي هو متولي علينا كأحدنا لو زعم أن ملك وجار عزلناه عنا فلسنا نرى له فضلًا علينا إلا بالتقوى وقد جعلنا الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونقر بالذنب ونستغفر منه ونعبد الله وحده لا شريك له ولو أذنب الرجل منا ذنوبًا تبلع مثل الجبال فتاب قبلت توبته وإن مات مسلمًا فله الجنة قال: فتغير لون البطليس. ثم سكت قليلًا وقال: الحمد لله الذي ابتلانا بأحسن البلاء وأغنانا من الفقر ونصرنا على الأمم الماضية ولقد كانت جماعة منكم قبل اليوم يأتون إلى بلادنا فيمتارون البر والشعير وغيره ونحسن إليهم وكانوا يشكرونا على ذلك وأنتم جئتمونا بخلاف ذلك تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون المال وتنهبون المدائن والحصون والقلاع وتريدون أن تخرجونا من بلادنا وديارنا وأنتم لم تكن أمة من الأمم أضعف حالًا منكم لأنكم أهل الشعير والدخن وجئتم بعد ذلك تطمعون في بلادنا وأموالنا وحولنا جنود كثيرة وشوكتنا شديدة وعصابتنا عظيمة ومدينتنا حصينة والذي جرأكم علينا أنكم ملكتم الشام والعراق واليمن والحجاز وارتحلتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وخربتم المدائن والقلاع ولبستم ثيابًا فاخرة وتعرضتم لبنات الملوك والبطارقة وجعلتموهن خدمًا لكم وأكلتم طعامًا طيبًا ما كنتم تعرفونه وملأتم أيديكم بالذهب والفضة والمتاع الفاخر واللآلئ والجواهر ومعكم متاعنا وأموالنا التي من قومنا وأهل ديننا ونحن نترك لكم ذلك جميعه ولا ننازعكم عليه ولا نؤاخذكم بما تقدم من فعلكم من قتل رجالنا ونهب أموالنا والآن فارحلوا عنا واخرجوا من بلادنا. فإن فعلتم فتحنا خزائن الأموال وأمرنا لكل رجل منكم بمائة دينار وثوب حرير وعمامة مطرزة بالذهب ولأميركم هذا ألف دينار وعشرة عمائم وعشرة ثياب ولكل أمير منكم كذلك وللخليفة عليكم عشرة آلاف دينار ومائة ثوب حرير ومائة عمامة بعد أن نستوثق منكم بالأيمان أنكم لا تعودون إلى الإغارة على بلادنا هذا كله والمغيرة ساكت فلما فرغ البطليوس من كلامه قال له المغيرة: قد سمعنا كلامك فاسمع كلامنا. ثم قال: الحمد لله الواحد القهار الفرد {الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 2 - 4]. فقال له البطليوس: نعم ما قلت يا بدوي فقال المغيرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى فقال له البطليوس لعنه الله: لا أدري أن محمدًا رسول الله ولعله كما يقال حبيب الرجل دينه ثم التفت إلى المغيرة وقال: يا عربي ما أفضل الساعات. فقال: ساعة لا يعصى الله فيها قال: صدقت يا أخا العرب لقد بان لي رجحان عقلك فهل في قومك من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك. قال: نعم في قومنا وعسكرنا أكثر من ألف رجل لا يستغنى عن رأيهم ومشورتهم وخلفنا أمثال ذلك وهم قادمون إلينا عن قريب. فقال البطليوس: ما كنا نظن ذلك منكم وإنما بلغنا عنكم أنكم جماعة جهال لا عقول لكم فقال المغيرة: كنا كذلك حتى بعث الله فينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فهدانا وأرشدنا. فقال البطليوس: لقد أعجبني كلامك فهل لك في صحبتي. فقال المغيرة: يسرني ذلك إذا فعلت ما أقول لك. قال: ما هو قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. قال البطليوس: لا سبيل إلى ذلك ولكن أردت أن أصلح الأمر بيني وبينكم. قال المغيرة رضي الله عنه: الأمر إلى الله وأما قولك لنا إنا أهل فقر وبؤس وضر فقد كنا كذلك وكنا أهل جاهلية لا يملك أحدنا غير فرسه وقوسه وإبله وكنا لا نعظم إلا الأشهر الحرم حتى بعث الله إلينا نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم نعرف أصله ونسبه صادقًا أمينًا نقيًا إمامًا رسولًا أظهر الإسلام وكسر الأصنام وختم به النبيين وعرفنا عبادة رب العالمين فنحن نعبد الله ولا نعبد غيره ولا نتخذ من دونه وليًا ولا نصيرًا ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا أن نجاهد من كفر بالله وأتخذ مع الله شريكًا جل ربنا وعلا وهو واحد لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان من إخواننا وله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى الإسلام فالجزية يؤديها عن يد وهو صاغر فمن أداها حقن الله دمه وماله ومن أبى الإسلام والجزية فالسيف حكم بيننا وبينه والله خير الحاكمين وهي على كل محتلم في العام دينار وليس على من يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته فقال البطليوس: لقد فهمت قولك عن الإسلام فما قولك عن الجزية عن يد وهو صاغر فإني لا أدري ما الصغار عندكم فقال المغيرة رضي الله عنه: وأنت قائم والسيف على رأسك. فلما سمع البطريق كلام المغيرة غضب غضبًا شديدًا ووثب قائمًا ووثب المغيرة من موضعه وانتضى سيفه من غمده وكذلك فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الراوي: حدثنا مسلم بن عبد الحميد عن طارق بن هلال عن عبد الله بن رافع. قال: كنا مع المغيرة وجذبنا السيوف ووثبنا على القوم وأخذتنا غيرة الإسلام وما في أعيننا من جيوش البطليوس شيء وعلمنا أن المحشر من ذلك الموضع فلما رأى البطليوس منا ذلك وتبين له الموت من شفار سيوفنا نادى: مهلًا يا مغيرة لا تعجل فنهلك وأنا أعلم أنك رسول والرسول لا يقتل وإنما تكلمت بما تكلمت لأختبركم وأنظر ما عندك والآن لا نؤاخذكم فاغمدوا سيوفكم. قال: فأغمدنا سيوفنا وتقدم المغيرة حتى صار في مكان البطليوس وزحزحه إلى آخر السرير وكان المغيرة رجلًا جسيمًا فاتكل عليه حتى كاد أن يخلع فخذه من موضعه. قال: ثم التفت إلى المغيرة وقال: ما قولكم في المسيح ابن مريم قال المغيرة: عبد الله ورسوله. قال: فمن أي شيء خلق. قال: خلقه الله من تراب ثم قال له كن فكان ودل على ذلك القرآن العظيم. قال عز وجل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 9]. قال: فما الدليل على أن الله واحد فقال المغيرة: القرآن العظيم قوله تعالى على لسان نبيه: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: ا - 4]. فقال له البطليوس: ما رأيت مثل حذقك وجوابك يا أعور وكان المغيرة رضي الله عنه أصيب في إحدى عينيه يوم اليرموك. فقال له المغيرة: إن ذلك لا يعيبني ولقد أصيبت عيني في الجهاد في سبيل الله من كلب مثلك وأخذت بثأري من الذي فعل بي ذلك فقتلته. قتلت جملة منهم والثواب من الله عز وجل أعظم من ذلك. فقال البطليوس: ما أحذق جوابك فهل في قومك مثلك. قال: قد قلت لك فينا أهل العلم والرأي ومن لا أساوي في علمهم شيئًا وأنا رجل بدوي فلو رأيت علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المختار مقاتل الكفار ومبيد الفخار والليث الكرار البطل المغوار. قال: أهو معكم في هذا الجيش فقد سمعت بشجاعته وبراعته وأريد أن أنظر إليه. فقال له المغيرة: قاتلك الله إن الإمام عليًا كرم الله وجهه أعظم قدرًا من أن يسير إلى مثلك. قال: فهل أحد غيره. قال: نعم مثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو خليفتنا وعثمان بن عفان وعبد الرحمن وسعيد وسعد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأمراء متفرقين في الحجاز واليمن والشام والعراق ومصر كل أمير يقوم بألف مثلك في الشجاعة والبراعة وغير ذلك وأما سيف الله الأمير خالد بن الوليد أمير هذا الجيش ومعه عصابة من الأمراء فكأنك به وقد أقبل علينا برجال ساعات شداد وأمراء أمجاد. فقال له عند ذلك: إني أريد أن أصلح الأمر بيني وبينكم وأريد قبل الحرب أن أنظر إلى جماعة ممن ذكرت. قال الراوي: وكان عدو الله أراد أن يغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم المغيرة منه ذلك. فقال: غداة غد آتيك منهم برجال تنظر إليهم. قال ففرح عدو الله وأضمر المكر لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الله كيده في نحره. قال الراوي: ثم وثب المغيرة وأصحابه وخرجوا من عند البطليوس وما صدقوا بالنجاة وركبوا خيولهم وأمر البطليوس حجابه ونوابه أن يسيروا معهم إلى قريب من عسكرهم. قال ووصل المغيرة وأصحابه إلى الأمير عياض بن غانم الأشعري وحدثه بما جرى له مع البطليوس. فقال عياض: وحق صاحب الروضة والمنبر ما ترككم إلا خوفًا من سيوفكم وهذا رجل حكيم إلا أن الشيطان قد غلب على عقله. قال الراوي: ولم يناموا تلك الليلة إلا وقد أخذوا أهبتهم للحرب واستعدوا فلما أصبح الصباح أذن المؤذنون في عسكر المسلمين فأسبغوا الوضوء وصلوا الصبح ثم ركبوا خيولهم وقد علموا أن العدو مصبحهم وقد عبوا صفوفهم وكانت الجواسيس من العرب يدخلون في عسكرهم وينقلون الأخبار ووصلت جواسيس عياض بن غانم إليه وأعلموه بذلك وأن الروم متأهبون للقتال فرتب جيشه ميمنة وميسرة فجعل في الميمنة الفضل بن العباس وجعل في الميسرة أبا أيوب الأنصاري وجعل في القلب القعقاع بن عمرو التميمي. قال: حدثنا قيس بن عبد الله. قال: حدثنا مالك بن رفاعة عن سعيد بن عمرو الغنوي قال: حضر أرض البهنسا عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سبعون بدريًا والأمراء وأصحاب الرايات نحو ألف وأربعمائة ودفن بأرض البهنسا من الصحابة والسادات نحو خمسة آلاف. وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. قال الراوي: وكان على الرجالة معاذ بن جبل وعلى الساقة والنسوان والصبيان سعد بن عبد القادر والضحاك بن قيس. قال: وصار الأمير عياض يتخلل الصفوف ويقول: الله الله الجنة تحت ظلال السيوف: يا أهل الإسلام اعلموا أن الصبر مقرون بالفرج وأن الله مع الصابرين والصابرون هم الغالبون وأن الفشل سبب من أسباب الخذلان فمن صبر على حد السيف فإذا قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه والله يحب الصابرين وصار يقول ذلك لأصحاب الرايات. قال: وما فرغ الأمير عياض من تعبية الصفوف إلا وعساكر البطليوس والروم قد أقبلت ومعهم النصارى والفلاحون والعرب المتنصرة وأمامهم صليب من الذهب الأحمر زنته خمسة أرطال وفي أربعة جوانبه أربع جواهر كالكواكب. قال: حدثني سنان بن الحرث الهمداني عن شداد بن أوس وكان ممن حضر الفتوح إلى آخرها قال وأقبلت الصلبان وأنا أعدها صليبًا بعد صليب حتى عددت ثمانين صليبًا تحت كل صليب ألف ومعهم القسوس والرهبان وهم يتلون الإنجيل وأكثر أعداء الله في عسكرهم من الرايات والأعلام فبينما الناس كذلك إذ أقبل بطريق وعليه درع مذهب ولامة حرب وهو يرطن بلغته وطلبا البراز فبرز إليه القعقاع وتعاركا وتجاولا ثم طعنه القعقاع في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فخرج علج آخر وقد غضب لقتل صاحبه وكان من أصحاب الجلوس على السرير مع الملك وطلب البراز فبرز إليه رجل من الأزد فمنعه الأمير عياض من ذلك وقال: اذهب فلست كفؤًا له. قال فبرز إليه المسيب بن نجيبة الفزاري وضربه فتلقاها العلج بحجفته فطار السيف من يده وضرب العلج المسيب فضيعها ونظر أن أحدًا يناوله سيفًا فلم يجد فأراد الرجوع وإذا بالقعقاع بن عمرو أقبل وبيده سيف فناوله إياه فكر راجعًا وضرب البطريق على عاتقه الأيمن فأطلع السنان من عاتقه الأيسر فانجدل صريعًا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأت الروم ذلك حملوا على المسلمين حملة واحدة واشتد القتال وعظم النزال وعدو الله البطليوس راكب على جواد أهداه له صاحب صقلية والبربر يساوي خمسمائة دينار وكان أيام الحصار يصعد به ويرمح على أسوار المدينة وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه وعلى بدنه درع مذهب وفي وسطه منطقة من الجوهر وعلى رأسه تاج تلمع جواهره كالكواكب والصلبان والأعلام مشتبكة على رأسه وقد حمل كردوس من الروم على ميمنة المسلمين فصبروا لهم صبر الكرام ثم حمل كردوس آخر فلله در الفضل بن العباس وأخيه عبيد الله وأولاد عقيل وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء حسنًا وتقدم الفضل إلى حامل الصليب وطعنه في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره وسقط الصليب منكسًا إلى الأرض فنظر إليه البطليوس فأيقن بالهلاك وهم أن يأخذه فلم يجد لذلك من سبيل. قال: فأحاط به المسلمون وصار الفضل وسادات بني هاشم يذبون ويرجعون الروم عن الصليب ولما رأى الفضل ازدحام النصارى والروم حمل عليهم حملة منكرة وأسعفه بنو عمه بالحملة والأمراء فقهروا الروم وقتلوا منهم جماعة وازدحم المسلمون على الصليب يريدون أخذه. فقال لهم الفضل: إنه لي دونكم ثم عطف عليه ومال في ركابه وأخذ الصليب وكر راجعًا إلى المسلمين وسلمه لعبد الله يسلمه لعبده مقبل وكان راكبًا مع المسلمين فأخذه ومضى إلى خيمته. قال وحمل الفضل بن العباس ثانيًا وحملت الأمراء واشتد القتال وعظم النزال وسالت الدماء وكثر العرق وازورت الحدق. قال ولما رأى عدو الله البطليوس ذلك حمل على المسلمين ومعه طائفة من البطارقة نحو خمسة آلاف وكانوا على جناح الميسرة فقتلوا من المسلمين جماعة وجرحوا جماعة وصبروا لهم صبر الكرام. هذا والفضل رضي الله عنه تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وحمل الأمراء جميعهم فلله در القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري والبراء بن عازب ومعاذ بن جبل وزيد الخيل لقد قاتلوا قتالًا شديدًا حتى بقي الدم على دروعهم كقطع أكباد الإبل وتوسط المسلمون كتيبة منهم فبرز بطريق عظيم الخلقة كأنه برج فحمل عليه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يضربه وسطا عليه وإذا بضربة أتته من خلفه فأردته عن جواده وسقط والرمح مشتبك في أضلاعه وخشخش الرمح في عظم ظهره ثم جذب الرمح وهو ملقى على الأرض ونزل جماعة وأخذوا سلبه. قال: فتأملنا من ضرب البطريق فإذا هو زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه. قال فلما رأى الروم ذلك حملوا حمله منكرة وقامت الحرب على ساق واحدة وضربوا الأعناق وشخصت الأحداق وتضاربوا بالصفاح وتطاعنوا بالرماح واشتد الكفاح ورطنت الروم بلغتهم ولم يزالوا في قتال ونزال حتى غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من قتل من المسلمين نحو مائتين وخمسين ختم الله لهم بالشهادة ونالوا درجة السعادة وبات الفريقان يتحارسون والمسلمون يقرؤون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان. قال وإن المسلمين أوقدوا النيران وأتوا إلى مكان المعركة وميزوا القتلى فلما رأى الأمراء ما حل بهم وبأولادهم بكوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الراوي: وقتل من المشركين نحو ألفين وخمسمائة وقتل من خيارهم وعظمائهم نحو عشرين من أرباب الدولة وحاشية الملك أصحاب السرير فلما رأى البطليوس ذلك صعب عليه وكبر لديه وجلس في سرادقه وحوله أكابر دولته من حجابه ونوابه وقدموا له الطعام والشراب فامتنع عن ذلك ثم التفت إلى حجابه وبطارقته ووبخهم توبيخًا عظيمًا وقال: مثلكم لا يصلح لخدمة الملوك فما هذا الخوف والفشل الذي دخل في قلوبكم وتريدون أن تصيروا معرة عند الملوك بفعالكم هذه. فقالوا: أيها الملك إن هذا اليوم ما أخذنا فيه أهبتنا وما كنا نظن أن العرب فيهم هذه الشجاعة. فقال: وما عندكم من الرأي أترضون بالعار والذل ولا سيما وقد أخذ الصليب من أيديكم وخذلتموه. فقالوا: أيها الملك سوف ترى منا ما يسرك في غد نكمن لهم كمينًا ونخرج لهم ونقاتلهم ويخرج عليهم الكمين ونأمر جماعة يسلسلون أنفسهم وهم الرماة كعادة الروم أن يفعلوا ونقاتلهم ولا نمكنهم من مدينتنا ولو قتلنا عن آخرنا فاستوثق الملك منهم بقولهم ثم كتب كتابًا وأرسله تحت الليل إلى بطريقي طنجة وقلعة الأبراج يسألهم النجدة وكانوا بطارقة شدادًا كل بطريق تحت يده عشرة آلاف بطريق من حملة السلاح فلما ورد عليهم الكتاب جهزوا النجدة والأهبة وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. قال الراوي: وأصبح المسلمون فصلوا صلاة الصبح وتبادروا إلى خيولهم فركبوها ثم صفوا صفوفهم ورتبوا مواقفهم كما ذكرنا أولًا وصار الأمير عياض يحرض الناس وقد جعل في مكانه المغيرة بن شعبة وعطفوا على أصحاب الرايات وقال لهم: أطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وإذا لقيتم العدو فاحملوا حملة واحدة ولا تخافوا ولا ترهبوا وركب الأمراء كاليوم الأول ولم يركبوا حتى دفنوا شهداءهم في ثيابهم وعمائم. قال فما شعرنا إلا والروم قد أقبلوا علينا ورطنوا بلغتهم علينا وابتدر منهم خمسة آلاف فنزلوا عن خيولهم وأرسلوها مع غلمانهم وحفروا لهم حفائر إلى أوساطهم ووضعوا غرائر النشاب - أي الصناديق بين أيديهم - وأقسموا بالمسيح لا قال الراوي: حدثنا سنان بن أبي عبيدة عن زياد عن الحرث عن عبد يغوث وكان من أصحاب الرايات. قال: بينما نحن نتأهب للحرب وللحملة إذا بالروم قد حملوا علينا حملة واحدة وحملت ميمنتنا واختلط القلب بالقلب ورمت المسلسلة بنشابها فكان يخرج منهم عشرة آلاف سهم كأنها تخرج من كبد قوس واحدة كالجراد المنتشر أو السيل المنحدر فجرحت رجالًا وقتلت أبطالًا وولت خيل العرب نافرة وصبرت جماعة من الأمراء وحمل الفضل بن العباس وأخوه وسادات بني هاشم وكذلك زياد بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري وجميع الأمراء واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا وفشا القتل في المسلمين وثبت القوم لقتال العرب وعدو الله البطليوس تارة يكر في الميمنة وتارة يكون في الميسرة وتارة في القلب وحوله كتائب المشركين.قال الراوي : فصبرنا صبر الكرام ووطنا أنفسنا على الموت والأمراء يحرضون على القتال وقد قتل من الفريقين طائفة إلا أن القتل لم يبن في المشركين لكثرتهم ولم نظن أن القوم لهم كمين إذ خرج للقوم كمين من خلفنا والمسلسلة من بين أيدينا وأحاطوا بنا وصرنا بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وقتل جماعة من السادة والأمراء وأخلاط الناس فلله در سادات بني هاشم وأبان بن عثمان بن عفان. فلقد قاتل أصحاب الرايات براياتها وقاتل عدو الله في القلب وأنكى في المسلمين وقتل رجالًا وجندل أبطالًا وكلما طلبه فارس من المسلمين لم يجده إلا وهو قد صار في وسط الروم. قال فعندها تقدم القعقاع والمسيب بن نجيبة الفزاري وقالا: قربوا الجمال في وجوه القوم يا وجوه العرب فاستاقوا الإبل وجعلوها بين أيديهم تلقى النشاب وحملوا على المسلسلة وداسوهم بالإبل وسنابك الخيل وأقبلت الرجال والرماة يقتلونهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة. هذا والروم على حالهم فلما رأى عدو الله ما حل بقومه من فعل المسلمين بهم ازدادوا طغيانًا ولم يزالوا كذلك حتى غابت الشمس ثم أنزل الله نصره على المسلمين فتظاهروا عليهم وتقدم جعفر بن عقيل إلى كتيبة من الروم وغاص في أوساطهم وطعن البطريق المقدم عليهم فقتله فتكاثرت الروم عليه فقتلوه وكذلك فعل أخوه علي فقتل منهم جماعة فقتلوه وكذلك زيد بن زياد فقتل منهم جماعة فقتلوه وعظم النزال واشتد القتال وألجؤوهم إلى ورائهم فلما رأت الأمراء والسادات وبنو هاشم ما حل بهم تواثبوا كالأسود الضارية وحملوا على الروم وألجؤوهم إلى الأبواب واقتتلوا قتالًا شديدًا عند باب الجبل والباب البحري. قال الراوي: وكانت ليلة لم تر الصحابة مثلها وقتل الصحابة رضي الله عنهما ألوفًا وقتل منهم جماعة بظاهر البلد نحو خمسمائة وأزيد وتظاهر المسلمون بعد ذلك عليهم وألجؤوهم إلى السور واقتتلوا قتالًا شديدًا وعظم البلاء وعدو الله يحمي أصحابه وهم في أشد القتال وكان شعار المسلمين تلك الليلة ينادون: يا محمد يا محمد يا نصر الله أنزل وقتل جماعة من المسلمين عند الأبواب وعظم النزال وكان يسمع ضرب السيوف على الدرق كالرعد وبريق السيوف كالبرق ولمعان الأسنة كالكواكب وأحدقت المسلمون بالروم وعدو الله يحمي قومه تارة يكون عند باب قندوس وتارة يكون عند باب توما في جماعة من قومه حتى دخل الروم جميعهم ولم يبق إلا من انقطع من قومه أو كبا به جواده ولم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فعلوا على الأسوار وضربوا بالنواقيس والبوقات والقرون وغلقوا الأبواب ورموا الأقفال فلما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وأتوا إلى موضع المعركة وتفقدوا من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وعشرون رجلًا من باب توما إلى باب قندوس ختم الله لهم بالشهادة. قال الراوي: ولما رأى المسلمون ذلك بكوا بكاء شديدًا وأعظم الناس حزنًا الأمير عياض لأجل من قتل تحت رايته وكان أكثر الشهداء الأعيان من قريش وبني هاشم وبني المطلب وبني نوفل وبني عبد شمس فلما رأى مسلم بن عقيل إخوته وما حل بهم ورأى الفضل بن العباس وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم ما حل ببني عمهم نزلوا عن خيولهم وعانقوا شهداءهم واسترجعوا في مصابهم فعند ذلك أنشد همام بن جرير يقول: يا عين ابكي لا تملي البكى سحي دموعًا مثل سكب الغمام نوحي على الليث ابن عم النبي هو جعفر المشكور ليث همام وأبكي على الشهداء لا تغفلي ما لاح برق أو تغنى حمام فلا لقي البطليوس خيرًا ولا أجناده أهل الصليب اللئام لنأخذن الثأر يا قومنا بطعن خطى وحد الحسام قال: ووارى المسلمون شهداءهم ثم إن الأمير عياضًا فوق الأمراء على الأبواب فنزل السادات من بني هاشم وغيرهم مثل زياد بن أبي سفيان والوليد وأخيه محمد وأسامة بن زيد وأبي أيوب الأنصاري وفضالة بن عبيد وأوس بن حذيفة وعمرو بن حصين ورافع بن خديج وأبي دجانة وجابر بن عبد الله وبقية الأمراء. قال ونزل القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وأمثالهم من الأمراء بألفي فارس على باب الجبل والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة والمهلب الطائي ونظراؤهم من الأمراء بألفي فارس عنده باب توما. قال وعبى القوم آلات الحصار ورتبوها على الأسوار وأقاموا مدة شهر لا يقاتل بعضهم بعضًا بل كل يوم يركب البطليوس لعنه الله جواده المتقدم ذكره ويلبس لامة حربه ويطلع بالجواد على أعلى السور وحوله المشاة من خلفه وقدامه وبأيديهم السيوف المحددة والدرق والدبابيس والأطيار المذهبة والقسي والنشاب وكان عرض السور يمشي عليه خيالان متكاتفان باللبس الكامل. قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد فإنه أرسل عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد الله بن عمر إلى الفيوم وجرى بينهم وقعات وحروب اختصرنا ذكرها خوف الإطالة فإن المقصود الذي عليه مدار هذا الكتاب هو فتح البهنسا وما وقع فيها والله أعلم ثم إنهم ساروا حتى اتصلوا إلى مدينة الفيوم وحاصروها أيامًا قلائل ثم فتحوها وفتحوا الفيوم في أقل من شهر وأخذوا الأموال والغنائم ورجعوا إلى خالد رضي الله عنه وكان مقيمًا بالنورية كما ذكرنا. قال: هذا ما جرى لهم وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي وذو الكلاع الحميري ومالك الأشتر النخعي فإنهم لما ضربوا رقاب القوم كما ذكرنا حاصروا القلعة نحو عشرين يومًا واقتتلوا قتالًا شديدًا. قال: حدثنا قيس بن مالك عن منصور بن رافع عن أبي المنهال وكان من أصحاب مالك الأشتر. قال بينما نحن نحاصر القلعة وقد تظاهروا علينا إذ نحن بغبرة وقت الفجر وكانت ليلة مقمرة فلاحت لنا خيل وقعقعة لجم فتبادرنا إلى خيولنا فركبناها واتضح النهار وبان وإذا عشرون صليبًا تحت كل صليب ألف فارس وكان السبب في ذلك بطريق طحا ذات الأعمدة وبطريق قلعة ذات الأبراج وما حولهم لما بلغهم كتاب البطليوس تجهزوا بأنفسهم وجمعوا ما حولهم من الروم والنصارى وخرجوا أول الليل خوفًا من العرب فما أصبحوا إلا على القلعة والنيل كان في أول زيادته والمسلمون قد أخذوا المعابر والقناطر التي على البحر اليوسفي فقطعوها وساروا حتى نزلوا على القلعة وكان بلغهم حصارها فلم تشعر المسلمون إلا وقد أقبلوا وهجموا عليهم وأتوا إلى نحو باب المدينة الشرقي فوجدوا الأمير زيادًا وأصحابه هناك. قال مالك الأشتر: يا وجوه العرب اجعلوا البحر خلف ظهوركم وقاتلوا أعداءكم واستعينوا بخالقكم هذا والروم صاحوا وطمطموا بلغتهم ورطنوا من أعلى السور وكذلك أهل القلعة دقوا الطبول وضربوا بالنواقيس فلم يزالوا على المسلمين متقابلين وجاءت كتيبة من الروم إلى جانب البحر كما ذكرنا نحو ثلاثة آلاف وكان الأمير زياد رضي الله عنه في نحو مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا عليه وصبروا لهم صبر الكرام وقتل الأمير زياد رحمه الله تعالى وقتل معه جماعة من المسلمين ختم الله لهم بالشهادة وركب بقية المسلمين وقاتلوا قتالًا شديدًا وصبروا لهم صبر الكرام. قال الواقدي: فسمع المسلمون وهم حول المدينة فأتوا إلى الجانب الشرقي فوجدوا السيوف مجذوبة والرايات مرفوعة وقد قتل جماعة من المسلمين على شاطئ البحر نحو أربعين رجلًا فصاحت: ما فعلوا بنا فعندها هجم القعقاع بفرسه البحر وقال: بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم إنك تعلم أننا أفضل من بني إسرائيل عندك وقد فرقت لهم البحر. فسار ولم تبتل قوائم فرسه وانحدر إلى جانب القلعة وكانت بقرب البحر فاقتحم البحر خلفه نحو من ألفي فارس إلى أن طلعوا إلى البر الشرقي واقتتلوا قتالًا شديدًا. قال: فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن ألف فارس يقدمهم رفاعة بن زهير المحاربي وهم من أصحاب قيس بن الحرث وكانوا في بلد تسمى بردوها وكانوا صالحوا أهلها فجاءهم رجل من المعاهدين وأخبرهم بمسير أهل طحا ذات الأعمدة وصاحب قلعة الأبراج لقتال المسلمين وعلموا أن البحر حاجز بينهم وبين أصحابهم فأتوا إلى الأمير قيس بن الحرث واستأذنوه حتى وصلوا وهم في القتال كما ذكرنا فلما رأوا القوم كبروا فأجابوهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير. ثم حملوا عليهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا وكان الفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان ومسلم بن عقيل في جملة من عبر إلى البر الشرقي فعندها وثب القعقاع بن عمرو التميمي على بطريق القلعة فقتله وكذلك الفضل بن العباس وثب على بطريق طحنا ذات الأعمدة فقتله وزياد بن أبي سفيان على بطريق عظيم فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وهرب منهم جماعة فألجؤوهم إلى البحر فغرق منهم جماعة وأسر منهم نحو من ثلاثة آلاف وأتوا بهم إلى نحو السور قريبًا منه وضربوا أعناقهم والبطليوس ينظر إليهم هو وأصحابه ودفن الأمير زياد إلى جانب البحر تحت جدران القلعة ورجعت المسلمون ونصبوا الجسر بالأخشاب والأحجار تتساقط عليهم وهم لا يفكرون حتى عبروا إلى الجانب الغربي بأجمعهم واشتد الحصار وأقام المسلمون محاصرين مدينة البهنسا تسعة أشهر. قال الواقدي: وإن المدينة كان لها باب سري تحت الأرض من تحت باب الجبل من عند تل هناك يظن من رآه أنه مغارة أو حفر في الجبل وكان يخرج منه عيونه ومن يأتيه بالطعام وغيره سرًا تحت ظلام الليل إلى ذلك المكان ويخرج الرجل وفرسه على يده إلى ظاهر السرب فلأجل هذا لا يعجزهم الحصار وكان إذا احتاج إلى أمر مهم يخرج من يثق به من ذلك المكان ويوقد الشمع والفوانيس ليلًا ويخرج من يختار من ذلك الباب وكان الملوك القدماء ما وضعوا ذلك الباب إلا لأجل الحصار وكانت عيونه تخرج وتأتيه بالأخبار وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه لما فتح الفيوم صارت الميرة والعلوفة والأرز والعسل وغير ذلك تأتي للصحابة من الفيوم ومن الوجه البحري تأتي إليهم الميرة. قال فأرسل الأمير عياض رضي الله عنه الأمير مياس بن حام وأرسل معه مائتين من المسلمين ومعهم جمال وبغال يأتونهم بما ذكرنا وكان خالد قد أرسل يعلمهم بذلك وأنهم يرسلون إلى الفيوم ويأخذون ما يحتاجون إليه قال وسار مياس حتى وصل الفيوم وكان عليهم متكلمًا من قبل خالد الأمير عجرفة. قال وسار مياس ومن معه حتى قدموا الفيوم وأوسقوا الجمال والبغال وأرادوا الرجوع إلى أرض البهنسا حتى وصلوا إلى دير هناك في الجبل. قال: هذا ما جرى لهؤلاء. وأما عيون البطليوس فأخبروه بذلك فاستدعى ببطريق من أصحاب السرير اسمه ميخائيل بن بطرس وكان معروفًا بالشدة والبراعة وأمره أن يأخذ معه ألفًا من الروم وينطلقوا إلى طريق الفيوم ويكمنوا لهم في الدير ثم يخرجوا عليهم فخرجوا من باب السرب واحدًا بعد واحد في ظلام الليل وساروا حتى وصلوا إلى دير وكمنوا هناك حتى رأوا المسلمين فخرجوا عليهم فالتقى الجمعان واصطدم الفريقان وقاتلت المسلمون قتالًا شديدًا. قال الراوي: حدثنا أبو محمد البدوي حدثنا أبو العلاء المحاربي قال شداد بن أوس وكان في خيل مياس: لما التقى الجمعان وأحاطت بنا أعداء الله وظننا أن المحشر من ذلك المكان ووطنا أنفسنا على الموت وقاتل الأمير مياس بعد أن سلم الراية لولده منيع فقاتل حتى قتل ثم قاتل من بعده مازلت حتى قتل ولم تكن غير ساعة حتى قتل من المسلمين نحو مائة فارس وأسروا الباقين. قال وكان في القوم عبد الله بن أنيس الجهني رضي الله عنه أحد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك خرج كالريح الهبوب وقام يجري وكان قد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمرو بن أمية الضمري بالقوة والبركة في المشي وكانا لا تدركهما الخيل العتاق ولا النجب السوابق فسار حتى أشرف على العسكر وصاح: النفير النفير اركبوا يا مسلمون. قال: فتواثبت الفرسان إليه وسألوه فقص عليهم القصة فتواثب المسلمون إلى خيولهم فركبوها وكل يقول أنا أمضي فعندها استدعى الأمير عياض بعبد الله بن جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب وضم إليه ألف فارس من الصحابة رضي الله عنه من أهل الشدة وساروا أول الليل ومعهم رجل من المعاهدين يدلهم إلى أن قربوا من قرية هناك بسفح الجبل فكمنوا هناك إلى أن جن الليل إذا سمعوا حوافر الخيل فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها وإذا بالروم أقبلوا عليهم والأسارى معهم موثقون بالحبال على ظهور خيولهم وكانت ليلة مقمرة فصاحت المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحمل القوم واقتتلوا قتالًا شديدًا فعندها صاح عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: يا قوم أيعجز أحدكم عن خصمه قال: فتواثب الأمراء والسادات رضي الله عنهم يقتلون ويأسرون وبادر عبد الله بن جعفر إلى مقدم الجيش لعنه الله وكان عليه درع مصفح فطعنه في صدره طعنة قرشية هاشمية فأطلع السنان يلمع من ظهره وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك انهزموا وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون فما أصبح الصباح حتى قتل منهم نحو خمسمائة وأسروا الباقين وخلصوا المسلمين من الأسر وغنموا سلاح الروم وأموالهم وخيولهم وترك عبد الله بن جعفر الأسارى وخمسمائة من المسلمين عند القرية وأمرهم أن لا يبرحوا حتى يأتيهم وأقر عليهم عبد الله بن معقل وساروا حتى أتوا إلى محل المعركة ووجدوا القتلى وعندهم نصارى من المعاهدين يبكون وحلفوا لهم أن لا علم لهم بذلك فنزلوا عن خيولهم وأخرجوا لهم زادًا فأكلوا وواروا شهدائهم وكر عبد الله راجعًا إلى أصحابه وحملوا رؤوس القتلى ورأس عدو الله ميخائيل أمامهم وجلبوا خيولهم وأخرجوا لهم زادًا فأكلوا وساقوا الأسارى حتى وصلوا إلى العسكر بالميرة والعلوفة ومعهم من العسل والسليط. قال: وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأجابتهم المسلمون إلى مثل ذلك وانقلب العسكر والروم على الأسوار ينظرون ما الخبر فرأوا تلك الرؤوس على رؤوس عدو الله ميخائيل أمامهم فصعب عليهم وكبر لديهم ولطموا على وجوههم وذهبوا إلى البطليوس وأعلموه بذلك فصعب عليه واستدعى بجواده فركبه وصعد على السور حتى أشرف على المسلمين فلما رأى ذلك عظم عليه وقال: ما هؤلاء إنس وإنما هم جن فلما رأى المسلمون البطليوس أتوا إلى الأمير فأعلموه بذلك فركب الأمراء معه حتى أتى إلى تل هناك عال مقابل باب قندوس واستدعى بالأسارى وعرض عليهم الإسلام فأبوا فضربوا رقابهم والروم ينظرون إلى ذلك فغضب عند ذلك البطليوس غضبًا شديدًا وحمل همًا عظيمًا. قال الراوي: ثم إن عدو الله استشار أصحابه فيما يفعل وأنه يريد الخروج بنفسه والكبسة عليهم. قال فنهض إليه بطريق اسمه كراكر وكان فارسًا شديدًا وقال: أنا أيها الملك أكفيك هذا المهم وأكبس عليهم لعلي أن أنال منهم منالًا وأريد معي جماعة شدادًا فقال الملك: خذ من شئت فانتدب معه عشرة بطارقة تحت يد كل بطريق ألف وجاؤوا إلى كنيستهم وفتحوا الإنجيل في وجوههم وساروا إلى أن وصلوا إلى الأبواب والبطليوس يحرضهم ويوصيهم بالهجمة عليهم ما داموا على غفلة. ثم أمر الحراس بفتح الباب لهم وهو باب قندوس وكانوا ألف فارس بوابين على الباب وكان للباب ثلاثة أبراج بين كل برجين باب وشراريف وخرجوا وهم مستعدون لذلك والمسلمون على غفلة مما دبر القوم لا يدرون ما يراد بهم وكان على حرس المسلمين تلك الليلة من جهة باب قندوس زائد بن ثابت وعبيد الله بن عباس وعبد الله بن معقل والبراء بن عازب ومالك الأشتر وذو الكلاع الحميري. قال الراوي: حدثنا عوف بن سعد عن سعيد بن طارق الثقفي عن أبي يزيد عن مالك الأشتر قال بينما نحن نسهر تلك الليلة والمسلمون قد هجعوا في مراقدهم من شدة البرد وكثرة السهر ووضعوا أسلحتهم ومنهم من له ورد يقرؤه ومنهم من يصلي إذ رأينا فتح الباب وخرجوا كالسلاهب وبأيديهم الفوانيس ومشاعل النار وحملوا على الجيش فتبادرنا إليهم وصحنا النفير دهينا يا مسلمون ثوروا فقد غدركم القوم فلما سمع المسلمون الصياح تبادروا وثاروا من مضاجعهم كالأسود الضارية هذا يأخذ سيفه وهذا يأخذ رمحه وهذا عاري الجسد لم يمهل حتى يلبس ثيابه وهذا يشد وسطه بمئزره وهذا عليه قميص واحد وثاروا في صدور الرجال هذا وعدو الله قد عطف على جماعة من المسلمين قبل أن ينتهوا ووضع السيف في عراضهم فما أفاق بعض القوم إلا والسيف قد أطاح رأس هذا وقطع زند هذا وطعن نحر هذا وهكذا وكثر الصياح وعظم البلاء وكثر القتال وعدو الله كراكر عليه ديباجة حمراء مقصبة بالذهب تلمع من فوق الدروع وعلى رأسه بيضة عليها جوهرة تضيء كالكواكب وهو يهدر كالجمل الهائج وهو يرطن بلغته وخلفه جماعة والذين على الأسوار يصيحون ويزعقون بشعارهم ويضربون بقرونهم وبوقاتهم وطبولهم وأوقدوا مشاعلهم من أعلى السور حتى بقي مثل النهار هذا وقد ثارت الأمراء أصحاب النجدة وذوو المروءات واعتقلوا بسيوفهم وركبوا خيولهم فمنهم من ركب جواده عريانًا ومنهم من ركب بسرج بغير لجام ومنهم من أسرع ماشيًا فلله در الفضل بن العباس وابن عمه الفضل بن أبي لهب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان والقعقاع بن عمرو والمسيب بن نجيبة الفزاري والمغيرة ومسلم وأبي ذر الغفاري وأبي دجانة وأبي أمامة وغفار بن عقبة وأبي زيد العقيلي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم لقد قاتلوا قتالًا شديدًا وأبلوا بلاء عظيمًا وطعن جماعة من المسلمين وجرح جماعة من المسلمين. وأما الذين هاجموهم في أول الوقعة فقتل منهم جماعة نحو المائتين وثمانين رجلًا واقتتل الناس قتالًا شديدًا وأقبل الفضل بن العباس إلى البطريق كراكر لعنه الله بالسيف على عاتقه الأيمن فأطلع السنان يلمع من عاتقه الأيسر فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وأتبعه بالجملة ابن عمه عبد الله بن جعفر فقتل بطريقًا آخر ولم تكن إلا ساعة وقد جاءتهم بقية الأمراء من على أبوابهم وتركوا مكانهم من يثقون به وساروا إلى أن وصلوا إليهم وحملوا عليهم حملة منكرة وقتلوا منهم مقتلة عظيمة نحوًا من ثلاثة آلاف من الروم والنصارى فلما رأى الروم ذلك فروا نحو الباب وتبعهم المسلمون إلى الباب فخرج كردوس عظيم من الروم وحملوا المنهزمين وأسر المسلمون من الروم نحو ألف ومائتين وخمسين وأتوا إلى مكان المعركة يتفقدون من قتل منهم. فإذا هم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلًا ختم الله لهم بالشهادة فلما رأى المسلمون ذلك شق عليهم وكبر لديهم وأسرعوا تحت الليل وجمعوا الشهداء ودفنوهم في ثيابهم ودمائهم مكان يعرف بالبطحى عند مجرى الحصى ومنقع السيل فدفنوهم هناك كل اثنين وكل ثلاثة وكل أربعة وكل خمسة في قبر وقدموا عليهم أهل السابقة وأصحاب القرآن وكان يعرف ذلك المكان بقبور الشهداء الأخيار والدعاء هناك مستجاب مجرب مرارًا وتحط هنا الأوزار لمن يكثر من الدعاء والتطوع والاستغفار.
|
|